الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدْخل
…
صَحِيح الْمقَال فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال
لفضيلة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الربيعان مدير المعهد الْمُتَوَسّط بالجامعة الإسلامية
الْحَمد لله وَصلَاته وَسَلَامه على رَسُوله ومصطفاه، وعَلى آله وصحابته والمهتدين بهداه..
أما بعد.. فَهَذَا هُوَ الْموضع الثَّانِي الَّذِي وعدت ببحثه ومناقشة فَضِيلَة الْأَخ الْكَرِيم الشَّيْخ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالم فِيهِ، وَالَّذِي قلت فِي مُقَدّمَة الْمَوْضُوع السَّابِق المنشور فِي مجلة الجامعة الْعدَد السَّابِق لهَذَا الْعدَد تَحت عنوان (الْبَحْث الْأمين فِي حَدِيث الْأَرْبَعين) .. قلت هُنَاكَ: إِن فَضِيلَة الشَّيْخ عطيه وَقع فِي أخطاء تقليدية يجب التَّنْبِيه عَلَيْهَا وَبَيَان الْحق فِيهَا، وَمعنى قولي تقليدية أعنى أَنَّهَا أخطاء قديمَة فِي مسَائِل قد بحثت وَظهر وَجه الْحق فِيهَا؛ فَلَا دَاعِي لإعادة بحثها وبلبلة الأفكار حولهَا؛ كَيفَ وعلماء بِلَادنَا لَا اخْتِلَاف بَينهم فِي حكمهَا، وَأَنه الْمَنْع وَالتَّحْرِيم؛ فَكيف سَاغَ لفضيلته أَن يضْرب بمذهبهم عرض الْحَائِط ويعلن من بَينهم مذهبا يعتبرونه بِدعَة، بل مَعْصِيّة الله وَرَسُوله؛ لمصادمتة الحَدِيث الصَّحِيح ومحالفته مَذْهَب السّلف الصَّالح وَمن تَبِعَهُمْ بِإِحْسَان.
وَهَذَا الْوَصْف الْأَخير أَعنِي بِهِ موضوعنا هَذَا، وموضوعا آخر تذبذب فِيهِ فَضِيلَة الشَّيْخ؛ فَلَا تكَاد تجزم بِرَأْيهِ الثَّابِت فِيهِ، وأعنى بذلك مَوْضُوع الاحتفال بالمولد النَّبَوِيّ، إِحْدَى الْبدع الَّتِي جارى فِيهَا المسمون النَّصَارَى؛ مصداق قَوْله عليه السلام:"لتتبعن سنَن من كَانَ قبلكُمْ.." الحَدِيث.
وَقد تعرض الشَّيْخ لهَذَا الْمَوْضُوع أثْنَاء كَلَامه على سُورَة الْإِنْسَان.. وَمن هُنَا ندخل فِي الْمَوْضُوع متوكلين على الله ومستعينين بحوله وقوته.
الْمَسْأَلَة الأولى
…
بَدَأَ الشَّيْخ فِي بَحثه فِي مَسْأَلَة حكم شدّ الرّحال لزيارة قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بترجمة هَذَا نَصهَا: "شدّ الرّحال إِلَى الْمَسْجِد النَّبَوِيّ للسلام على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم"، ثمَّ أتبع ذَلِك بقوله:"وَمِمَّا اخْتصَّ بِهِ الْمَسْجِد النَّبَوِيّ - بل من أهم خَصَائِصه بعد الصَّلَاة فِيهِ - السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من دَاخل هَذَا الْمَسْجِد قَدِيما وحديثا"..
مناقشة:
ونريد أَن نناقش فضيلته فِيمَا تقدم فَنَقُول:
هَذِه الخاصية الَّتِي أثبتها فضيلته لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ، وَجعلهَا من أهم خَصَائِصه مَا الدَّلِيل عَلَيْهَا؟.. وَمن الَّذِي قررها أصلا وَجعلهَا كَمَا ذكر فضيلته؟.. هَل قررها الْقُرْآن؟.. فليتكرم على الْمُسلمين بِذكر الْآيَة الَّتِي بيّنت ذَلِك أَو أشارت إِلَيْهِ، هَل قرر ذَلِك الرَّسُول؟.. فليتكرم بِذكر الحَدِيث الَّذِي أَفَادَ هَذَا الحكم؛ فإننا بأمس الْحَاجة إِلَى مَعْرفَته لأسباب لَا تخفى على من يهمه أَمر الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين.
هَل أجمع على ذَلِك أَصْحَاب رَسُول الله وَعمِلُوا بِهِ؟ أم ذهب إِلَيْهِ جمهورهم أَو كَثْرَة مِنْهُم أَو حَتَّى وَلَو بضعَة من كبارهم وفقهائهم؟.. إِن كَانَ كَذَلِك فعلى الرَّأْس وَالْعين، وَلَكِن نُرِيد من فضيلته أَن يرشدنا إِلَى الْمصدر الَّذِي ذكر ذَلِك من المصادر الْمُعْتَبرَة عِنْد عُلَمَاء الْإِسْلَام، ونعنى بعلماء الْإِسْلَام أَئِمَّة السّلف خَاصَّة، ونعى بالسلف الْقُرُون الثَّلَاثَة الأولى من هَذِه الْأمة؛ لشهادة الْمُصْطَفى عليه السلام بفضلهم، وَلما عرف لَهُم من أَحْوَال فِي الْعلم وَالدّين تخْتَلف عَنْهَا أَحْوَال من جَاءُوا بعدهمْ، وَلِأَن فبمَا بعدهمْ كثرت الْأَهْوَاء والابتداع فِي الدّين وَلم يسلم من ذَلِك إِلَّا الْقَلِيل، وَمن ثمَّ فإننا لَا نطمئن إِلَى نقل كثير من الْمُتَأَخِّرين وَلَا بآرائهم مَا لم يكن الْمصدر الَّذِي نقلوا عَنهُ مَوْجُودا بَين أَيْدِينَا، خَاصَّة فِي الْأُمُور الَّتِي فِيهَا خلاف جوهري يمس العقيدة، أَو يخْشَى أَن يَمَسهَا، أَو لَهُ صلَة ببدعة فتن بهَا كثير من الْمُسلمين كمسألتنا هَذِه.
كَمَا نذكِّر مسبقا بأننا لَا نعتبر عمل الصَّحَابِيّ الْوَاحِد حجَّة فِي الدّين إِذا انْفَرد بِهِ دون غَيره من الصَّحَابَة، وَلم يرد أَنهم وافقوه قولا وَلَا عملا وَمَا لم نعلم لَهُ مُسْتَندا من الْكتاب أَو السّنة؛ ذَلِك لِأَن التشريع من حق الله وَرَسُوله فَقَط وَلَا نصيب لأحد بعد الله وَرَسُوله فِيهِ، أما المجتهدون من الْعلمَاء فهم معرّضون لِأَن يُصِيبُوا وَلِأَن يخطئوا، وصوابهم أَن يوافقوا حكم الله وَرَسُوله بفهم مُقْتَضى نَص شَرْعِي، وخطؤهم أَن لَا يوافقوا حكم الله وَرَسُوله بِأَن لَا يوفّقوا لفهم النَّص الشَّرْعِيّ الَّذِي يُرِيدُونَ فهمه.
أما التخرص والاعتماد على وَاقع النَّاس، وَالِاسْتِدْلَال بِمَا تَفْعَلهُ الجماهير فَلَيْسَ حجَّة فِي الدّين عِنْد أحد يعرف أَن الْإِسْلَام هُوَ دين الله الَّذِي أنزلهُ على رَسُوله ورضيه لَهُم منهجا فِي الْعِبَادَات والمعاملات والأخلاق والآداب والسلوك؛ فأكمله وَأتم بِهِ النِّعْمَة على الْمُسلمين وبيّنه رَسُوله صلى الله عله وَسلم لأمته أتم بَيَان، كَانَ ذَلِك قبل أَن يقبض الله رَسُوله صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، فَمَا من خير إِلَّا دلّ عَلَيْهِ أمته وَمَا من شَرّ إِلَّا نَهَانَا عَنهُ وحذرها من الْوُقُوع فِيهِ، خَاصَّة مَا يتَعَلَّق بتوحيد الله وحمايته من شوائب الشّرك وسد الذرائع الَّتِي يخْشَى أَن تتدرج بأمته إِلَى الْوُقُوع فِيمَا وَقعت فِيهِ الْأُمَم السَّابِقَة، فجزاه الله عَنَّا خير مَا جزى نَبيا عَن أمته.
أما زعم الشَّيْخ أَن السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد قَدِيما وحديثا؛
فتعبيره بقديم وَحَدِيث يدل على أَنه يسْتَدلّ بالواقع، ويؤكد ذَلِك كَون فضيلته لم يُورد أَي دَلِيل شَرْعِي على صِحَة مَا ذهب إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا اسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا ظن أَنه عمل النَّاس، ثمَّ إِن زَعمه ذَلِك قَول بِلَا علم، وَدَعوى بِلَا بَيِّنَة؛ إِذْ إِن فضيلته لم يُوجد إِلَّا مُنْذُ خمسين سنة تَقْرِيبًا، فَكيف علم مَا عَلَيْهِ النَّاس فِي هَذَا الْأَمر مُنْذُ ألف سنة؟.. لَا يعلم ذَلِك، من عَاشَ هَذِه الْقُرُون كلهَا.
إِذا كَيفَ علم فضيلته أَن السَّلَام على رَسُول الله مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد؟
أَظن كل هَذَا من أجل محاولة الرَّبْط الوثيق بَين الْقَبْر وَالْمَسْجِد، كَمَا سَيَأْتِي تصريحه بذلك وَالِاسْتِدْلَال العجيب عَلَيْهِ بِحَدِيث:"مَا بَين بَيْتِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة".. وَنسي - سامحه الله - أَن الْمَسَاجِد تخْتَلف عَن الأضرحة، وَلَيْسَ بَينهمَا وَجه شبه وَلَا جَامع مُشْتَرك.
وَقَالَ الشَّيْخ: كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح: "مَا من أحد يسلّم عَليّ إِلَّا رد الله عَليّ روحي فأرد عليه السلام"، ثمَّ قَالَ: ومجمعون على أَن ذَلِك يحصل لمن سلم عَلَيْهِ من قريب، ثمَّ أكد مَا ادّعاه أَولا بقوله: وَمَا كَانَ هَذَا السَّلَام يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، سَوَاء قبل وَبعد إِدْخَال الْحُجْرَة بِالْمَسْجِدِ.
مناقشة:
وَهنا نناقش الشَّيْخ من نواح حول مَا نقلنا من كَلَامه:
1-
مَا مُرَاده بِالصَّحِيحِ؟.. أيعني البُخَارِيّ وَمُسلم أَو أَحدهمَا كَمَا هُوَ اصْطِلَاح الْعلمَاء غَالِبا، وكما يُشِير إِلَيْهِ اكتفاءه هُوَ بِكَلِمَة الصَّحِيح دون كلمة الحَدِيث؛ إِذْ حسب فهمي أَنه لَو كَانَ مُرَاده غير الصَّحِيحَيْنِ لقَالَ: كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح، وَلَكِن - كَمَا يَقُولُونَ - (لَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح) لَو كَانَ الحَدِيث الْمشَار إِلَيْهِ صَحِيحا، وَلَكِن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَيْسَ واردا بِسَنَد صَحِيح؛ فَأَيا مَا كَانَ قصد الشَّيْخ بِهَذَا الْوَصْف فَهُوَ خطأ؛ لِأَن الحَدِيث فِي أبي دَاوُد وَبَعض الْكتب الْأُخْرَى غير البُخَارِيّ وَمُسلم بِسَنَد حسن فَقَط؛ إِذْ إِن فِي سَنَده أَبَا صَخْر حميد بن يزِيد قَالَ فِيهِ ابْن حجر فِي التَّقْرِيب:(صَدُوق يهم) .
2-
فِي الحَدِيث الَّذِي نَحن بصدده قَوْله عليه السلام: "مَا من أحد يسلم عَليّ"، وَكلمَة (أحد) نكرَة مسبوقة بِنَفْي وَلم تُوصَف بِمَا يميزها وَلم تقيد بِمَا يخصصها؛ فَمن ثمَّ تكون عَامَّة تَشْمَل جَمِيع من يصدقها عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أحد، فَإذْ كَانَ الْأَمر كَذَلِك من أَيْن تكون الْفَضِيلَة الْخَاصَّة الَّتِي يدندنون حولهَا محاولين تَأْوِيل النُّصُوص من أجلهَا؟
…
وَقد ذهب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية إِلَى أَنه لَا فَضِيلَة هُنَا للمردود عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْفَضِيلَة للراد صلى الله عليه وسلم؛ لِأَن ذَلِك من بَاب الْمُكَافَأَة على الْإِحْسَان ورد الْجَمِيل بِمثلِهِ.
ثمَّ إِن الشَّيْخ وفقنا الله وإياه! يمِيل بِقُوَّة - حسب فهمي من كَلَامه - إِلَى أَن رد السَّلَام مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام
الْمشَار إِلَيْهِ فِي الحَدِيث إِنَّمَا يصل لمن سلم من قريب دون من سلم من بعيد، وَدَلِيل ذَلِك كَونه حكى الْإِجْمَاع على أَن ردّ السَّلَام يحصل لمن سلم من قريب وَسكت عَن رَأْي من يرى أَنه لَا فرق بَين الْبعيد والقريب، مِمَّا يُشِير إِلَى أَنه غير مُعْتَد بذلك الْمَذْهَب وَلَا ملتفت إِلَيْهِ.
مَعَ أَن مَا أعرض عَنهُ فضيلته هُوَ الصَّحِيح للأدلة الْآتِيَة:
أ- دَعْوَى الِاخْتِصَاص لَا دَلِيل عَلَيْهَا، لَا من النَّقْل وَلَا من الْعقل، وكل دَعْوَى لَا تؤيدها الْأَدِلَّة مآلها للرَّدّ والبطلان.
ب- الحَدِيث مُطلق من الْقُيُود، وَمَا أطلقهُ المشرع لَا يجوز تَقْيِيده بِدَلِيل سوى الظَّن؛ فقد وصف الله الظَّن بِأَنَّهُ لَا يغنى من الْحق شَيْئا.
ج- فِي هَذَا التَّخْصِيص قِيَاس لحَال مَا بعد الْمَوْت على حَال الْحَيَاة، وَهُوَ قِيَاس فَاسد؛ لبعد الْفَارِق بَين الْحَالين؛ إِذْ حَال الْحَيَاة محسوس مشهود، وَحَال مَا بعد الْوَفَاة غيب لَا يعلم حَقِيقَته إِلَّا الله، وَالَّذِي يظْهر أَنه لَا فرق هُنَا بَين الْبعيد والقريب.
ثمَّ إِن الله تَعَالَى مكّن رَسُوله عليه الصلاة والسلام من رد السَّلَام على من سلم عَلَيْهِ من قريب وَهُوَ فِي حَال وَفَاة ومفارقة للحياة الدُّنْيَا، لَا يعجز أَن يُمكنهُ من ذَلِك بِالنِّسْبَةِ للبعيد أَيْضا؛ إِذْ إِن الْقَضِيَّة غيب وقدرة إلهية خارقة - وَالله أعلم -.
ثمَّ لَو كَانَ الْأَمر كَمَا ظن الْبَعْض وَهُوَ أَن الردّ لَا يحصل إِلَّا من قريب لَكَانَ المسلّم يحْتَاج من أجل الْحُصُول على ذَلِك إِلَى أَن يدْخل الْحُجْرَة وَيقف على شَفير الْقَبْر، أما وَهُوَ دَاخل الْمَسْجِد فَقَط فَذَلِك بعيد وَلَيْسَ بقريب، وَالشَّيْخ جعل الْفَارِق بَين الْبعيد والقريب هُوَ الْمَسْجِد؛ فَمن سلم من دَاخل الْمَسْجِد فَهُوَ فِي نظره قريب، وَمن سلم من خَارجه فَهُوَ بعيد، وَلم يخصص مَكَانا من الْمَسْجِد دون مَكَان، وَنحن نتساءل: كَيفَ يكون من سلم وَهُوَ فِي غربي الْمَسْجِد - خَاصَّة بعد الزِّيَادَات الْأَخِيرَة، وَبَينه وَبَين الْقَبْر مئات الأمتار - يكون قَرِيبا، وَمن سلم من خَارج الْمَسْجِد من النَّاحِيَة الشرقية أَو الْقبلية - وَبَينه وَبَين الْقَبْر أمتار محدودة قد لَا تبلغ الْخَمْسَة عشر أَو الْعشْرين مترا - يكون بَعيدا، مَعَ أَن الْمُعْتَمد فِي ذَلِك والأساس الَّذِي بنى عَلَيْهِ فضيلته هَذَا الحكم هُوَ الِاجْتِهَاد الْمُجَرّد من الدَّلِيل؟.. أما أَنا فَلَا أجد جَوَابا لهَذَا التساؤل سوى مَا ذكرت قبل، وَهُوَ حرصه على أَن يرْبط بَين الْمَسْجِد والقبر.
4-
قد ورد حَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بطرق مُتعَدِّدَة وشواهد كَثِيرَة يَرْوِيهَا أَئِمَّة أهل الْبَيْت النَّبَوِيّ الطَّاهِر وَغَيرهم؛ يُفِيد هَذَا الحَدِيث بِطرقِهِ وشواهده أَن لَا فرق بَين الْقَرِيب والبعيد بِالنِّسْبَةِ للسلام على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا يُفِيد أَيْضا أَن النَّبِي عليه السلام نهى عَن اتِّخَاذ قَبره عيدا، وَقد فهم رُوَاة هَذَا الحَدِيث من آل الْبَيْت النَّبَوِيّ أَن من اتِّخَاذ قَبره عليه السلام عيدا
التَّرَدُّد على الْقَبْر؛ فقد أنكر كل من عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين وَابْن عَمه الْحسن بن الْحسن على من يتَرَدَّد على الْقَبْر مستدلين عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْمشَار إِلَيْهِ، وَالَّذِي يرويانه بإسناديهما إِلَى جدهما سيد الْخلق صلى الله عليه وسلم كَمَا أخبرا أَنه لَا فرق فِي السَّلَام عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بَين أَن يكون من قريب أَو من بعيد.
وَهَذَا نَص الحَدِيث: قَالَ أَبُو يعلى فِي سَنَده: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة.. ثمَّ سَاق السَّنَد إِلَى عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين أَنه رأى رجلا يَجِيء إِلَى فُرْجَة كَانَت عِنْد قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم؛ فَيدْخل فِيهَا، فَنَهَاهُ ثمَّ قَالَ: أَلا أحدثكُم حَدِيثا سمعته من أبي عَن جدي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسم.. قَالَ: " لَا تَتَّخِذُوا قبرى عيدا، وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتكُمْ قبورا؛ فَإِن تسليمكم يصلني أَيْنَمَا كُنْتُم". وَفِي بعض الرِّوَايَات: "وصلوا عَليّ؛ فَإِن صَلَاتكُمْ تبلغني حَيْثُ كُنْتُم! ".. وَفِي رِوَايَة: "فَإِن صَلَاتكُمْ وتسليمكم ".
وَفِي مُسْند سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد أَخْبرنِي سُهَيْل بن أَنِّي سُهَيْل قَالَ: رَآنِي الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أَنا طَالب رضى الله عَنْهُم عِنْد الْقَبْر؛ فناداني وَهُوَ فِي بَيت فَاطِمَة يتعشى فَقَالَ: هلمّ إِلَى الْعشَاء! قلت: لَا أريده، فَقَالَ: رَأَيْتُك عِنْد الْقَبْر؟.. قلت: سلمت عَليّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِذا دخلت الْمَسْجِد فَسلم، ثمَّ قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا قبرى.. وَفِي رِوَايَة: بَيْتِي عيدا، وَلَا بُيُوتكُمْ قبورا؛ لعن الله الْيَهُود اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد، وصلوا عَليّ فَإِن صَلَاتكُمْ تبلغني حَيْثُمَا كُنْتُم"، ثمَّ قَالَ الْحسن بعد رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث:" مَا أَنْتُم وَمن بالأندلس إِلَّا سَوَاء".
قَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية: "وَرَوَاهُ القَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق فِي فضل الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عليه وسلم".
وَفِي سنَن أبي دَاوُد نَص الحَدِيث الْمُتَقَدّم - لفظا بِلَفْظ - عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام فِي كتاب الرَّد على الاخنائي: "هَذَا حَدِيث حسن رُوَاته ثِقَات مثساهير، لَكِن عبد الله بن نَافِع الصَّائِغ فِيهِ لين لَا يمْنَع الِاحْتِجَاج بِهِ، خَاصَّة وَأَن لهَذَا الحَدِيث شَوَاهِد مُتعَدِّدَة"، ثمَّ ذكر وَاحِدًا من شواهده فِي سنَن سعيد بن مَنْصُور.
قلت: وَسَيَأْتِي إِن يَشَاء الله نقل احتجاج الْعَلامَة مُحَمَّد بشير السهسواني بِهَذَا الحَدِيث بِرِوَايَاتِهِ فِي رده على زيني دحلان.
مَاذَا نستفيد من هَذَا الحَدِيث؟
ونستفيد من هَذَا الحَدِيث مَا يَلِي:
1-
الرَّد على من زعم أَن السَّلَام على رَسُول الله بعد وَفَاته عليه السلام مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، وَأَن السَّلَام من قريب أفضل وأنفع مِمَّا إِذا كَانَ من بعيد.
2-
أَن عَليّ بن الْحُسَيْن وَالْحسن بن الْحسن اعتبرا التَّرَدُّد على الْقَبْر دَاخِلا فِي اتِّخَاذه عيدا نُهِىَ عَنهُ فِي الحَدِيث، وَأَن ذَلِك التَّرَدُّد يتعارض مَعَ مُقْتَضى ذَلِك النَّهْي الصَّادِر عَن الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم.
3-
يدل نهيهما وإنكارهما على من تردد إِلَى الْقَبْر أنّ عمل جُمْهُور الْمُسلمين فِي زمانهما - وخاصة الْعلمَاء - عدم التَّرَدُّد إِلَى الْقَبْر؛ إِذْ لَو كَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ لما استنكر كل وَاحِد مِنْهُمَا تردد من أَتَى إِلَى الْقَبْر، وَلما نَهَاهُ عَن أَمر يَفْعَله سَائِر الْمُسلمين وَلَا يُنكر بَعضهم على بعض، ولاحتج الْمنْهِي بِأَن مَا فعله يَفْعَله سَائِر النَّاس وَلَا يُنكر عَلَيْهِم من قبل الْعلمَاء، علما بِأَن مَا أنكرهُ هَذَانِ الإمامان لم ينفردا بإنكاره بل نقل عَن جُمْهُور عُلَمَاء السّلف وأئمتهم، كَالْإِمَامِ مَالك؛ إِذْ ثَبت عَنهُ أَنه يكره قَول الرجل: زرت قبر النَّبِي أَو سلمت على النَّبِي صلى الله عليه وسلم.. يعْنى عِنْد قَبره.
وَلم يكن مَعْرُوفا عَن أحد من الصَّحَابَة رضي الله عنهم أَنهم كَانُوا يَتَرَدَّدُونَ على الْقَبْر، إِلَّا مَا عرف عَن عبد الله بن عمر من أَنه إِذا أَرَادَ سفرا أَو قدم من سفر جَاءَ إِلَى الْقُبُور الثَّلَاثَة بعد مَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد رَكْعَتَيْنِ؛ فَيَقُول:"السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا خَليفَة رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا أبتاه"، وَلَا يزِيد على هَذَا؛ فَمَاذَا يَقُول من يزْعم أَن السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أخص خَصَائِص الْمَسْجِد النَّبَوِيّ؟.. وَأَن السَّلَام على رَسُول الله مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد.. وماذا يَقُول من يرى وجوب أَو اسْتِحْبَاب أَو إِبَاحَة شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر الشريف، مُعَارضا بذلك نَهْيه عليه السلام، ومحاولا تَأْوِيل ذَلِك النهى، غير ملتفت لعمل السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
…
بل حاول أَن ينْسب إِلَيْهِم مَا لم يَقُولُوا أَو يَفْعَلُوا.
لَا أعلم لَهُم جَوَابا إِلَّا أَن يدعوا إِحْدَى ثَلَاث دعاوى:
الأولى: أَن يدعوا ضعف الحَدِيث الَّذِي أَفَادَ النَّهْي عَن اتِّخَاذ قَبره عليه السلام عيدا، وَأفَاد أَن لَا فرق فِي السَّلَام عَلَيْهِ عليه السلام بَين أَن يكون من قريب بعيد، وَهَذِه الدَّعْوَى لَو لجأوا إِلَيْهَا لقلنا لَهُم: إِن طَرِيقا وَاحِدَة من طرق هَذَا الحَدِيث تساوى طرق حَدِيث "مَا من أحد يسلم عَليّ.." الخ. وَتبقى بَقِيَّة الطّرق لَا مُقَابل لَهَا بِالنِّسْبَةِ لذَلِك الحَدِيث.. علما بِأَن حَدِيث "لَا تَتَّخِذُوا.." قد اسْتدلَّ بِهِ فِي الْمَوْضُوع أَئِمَّة الْإِسْلَام قَدِيما وحديثا كَمَا تقدم، وكما تَجدهُ فِي أَي كتاب تعرض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة، والْحَدِيث إِذا ارْتَفع عَن دَرَجَة الضعْف فَهُوَ أولى بِالْقبُولِ من آراء الرِّجَال.
الثَّانِيَة: أَن يتهموا إمامي أهل الْبَيْت -وَغَيرهم مِمَّن اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على عدم جَوَاز التَّرَدُّد على الْقَبْر - بِسوء الْفَهم، وَأَنَّهُمْ نزلُوا الحَدِيث فِي غير منزله، ووضعوه فِي غير مَوْضِعه.
وَالْجَوَاب على هَذِه الدَّعْوَى أَن نقُول: لَا يشك من لَهُ أدنى إِلْمَام بعلوم الشَّرِيعَة وتاريخ الْإِسْلَام أَن السّلف أعلم بنصوص الشَّرِيعَة ومقاصدها وأهدافها من الْخلف مَرَّات متكررة، وخاصة رَاوِي الحَدِيث،
وَمن شَاهد التطبيق العملي لمقتضاه من جِهَة سلف الْأمة والقرون المفضلة أَحْرَى وأجدر بِمَعْرِِفَة مُرَاد الله وَرَسُوله مِمَّن جَاءَ بعدهمْ، كَيفَ وَفِيمَا بعدهمْ تدخلت الْأَهْوَاء وتأثر كثير من النَّاس بِمَا حدث من بدع وَنحل وأفكار دخيلة على الْإِسْلَام؟..
الثَّالِثَة: أَن يَقُولُوا: إِذا كَانَ من السّلف من لَا يرى مَشْرُوعِيَّة السَّلَام عِنْد الْقَبْر، أَو يرى ذَلِك مَكْرُوها فقد وجد فيهم من يرى اسْتِحْبَاب ذَلِك وَأَنه من الْأَعْمَال الصَّالِحَة، أَو أَنه مُبَاح على الْأَقَل، وَلَيْسَ من يرى ذَلِك أولى بِاعْتِبَار رَأْيه من الْفَرِيق الثَّانِي.
وَالْجَوَاب على ذَلِك أَن نقُول: إِذا كَانَ من يرى عدم مَشْرُوعِيَّة السَّلَام عِنْد الْقَبْر بِالنِّسْبَةِ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم قد وجد من يُعَارضهُ من معاصريه وأقرانه؛ فَإِن الله قد أمرنَا أَن نرد مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُوله صلى الله عليه وسلم؛ فعلينا أَن نطبق هَذَا الأَصْل الْعَظِيم وَأَن نسلك هَذَا السَّبِيل القويم؛ فَنَنْظُر من يكون الدَّلِيل بجانبه فنعلم أَنه هُوَ الْمُصِيب وَأَن مخالفه على خطأ وَقد حرم الصَّوَاب، وَلَكِن إِن كَانَت الْمَسْأَلَة فِي فروع الشَّرِيعَة، وَهَذَا الْمُخطئ قد بذل وَسعه فِي تحرى الصَّوَاب والتماس الْحق؛ فَلَا لوم عَلَيْهِ وَلَا إِثْم بِشَرْط أَن يكون أَهلا للِاجْتِهَاد وَمن الحائزين على مؤهلاته، أما إِن كَانَت الْقَضِيَّة قَضِيَّة عقيدة فَالَّذِي نعتقده وَالَّذِي فهمناه عَن عُلَمَاء أهل السّنة أَن الْخَطَأ فِي أُمُور العقيدة غير مَعْذُور فِيهِ إِذا كَانَ الْمُسلم يعِيش فِي بِلَاد الْإِسْلَام الَّتِي يُوجد فِيهَا من يبين العقيدة الصَّحِيحَة؛ إِذْ إِن الْإِنْسَان إِمَّا أَن يكون عَالما قَادِرًا على فهم نُصُوص الْوَحْي؛ فسيكون مؤاخذا على الْخَطَأ؛ لِأَن أُمُور العقيدة وَاضِحَة جلية، وَلذَلِك لم يخْتَلف السّلف فِي أُمُور العقيدة مَعَ أَنهم اخْتلفُوا فِي بعض مسَائِل الْفُرُوع، وَإِمَّا أَن يكون جَاهِلا؛ فَعَلَيهِ أَن يسْأَل أهل الذّكر من عُلَمَاء السّنة الَّذين إِذا ذكرُوا حكما ذكرُوا دَلِيله من الْكتاب أَو السّنة.
وَرُبمَا قَالُوا: صَحِيح أَن هَذَا الحَدِيث يُفِيد أَن السَّلَام يبلغهُ عليه السلام من الْبعيد كَالصَّلَاةِ، وَلَكِن لَا يرد إِلَّا على من سلم من قريب!
فَنَقُول لَهُم حِينَئِذٍ: مَا الدَّلِيل على مَا زعمتم؟.. هَذَا مُجَرّد ظن وَتدْخل فِي أُمُور الْغَيْب الَّتِي هِيَ من اخْتِصَاص الله وَحده، وَلَا سَبِيل إِلَى علمهَا من غير طَرِيق الْوَحْي.
النَّاحِيَة الثَّانِيَة: مَاذَا يَعْنِي فَضِيلَة الشَّيْخ حِين يَقُول: وَمَا كَانَ هَذَا السَّلَام يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد سَوَاء قبل أَو بعد إِدْخَال الْحُجْرَة؟.. إِن كَانَ يَعْنِي هَذَا النَّوْع المبتدع الَّذِي تمارسه الْعَامَّة والدهماء، وَهَذَا الضجيج والأصوات الْعَالِيَة بَين مُنَاد وداع ومتوسل ومستجير وطالب للشفاعة من غير مَالِكهَا.. إِن كَانَ هَذَا هُوَ الَّذِي يقْصد الشَّيْخ فَلْيقل فِيهِ فضيلته مَا شَاءَ، وَلَيْسَ لدينا أَي اعْتِرَاض أَو مناقشة؛ لأننا لَا نعترف بِهَذَا النَّوْع من السَّلَام أصلا وَلَا نعتبره من الدّين الَّذِي أنزلهُ الله على رَسُوله صلى الله عليه وسلم، وَلكنه من مخلفات عصور الانحطاط الَّذِي نتج عَنهُ قيام الوثنية فِي أغلب بلدان الْمُسلمين إِلَّا مَا طهره الله - كأرض المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - من هَذِه الوثنية، بفضله تَعَالَى ثمَّ ببركة الدعْوَة الصَّالِحَة وَالْحَرَكَة الناجحة
الَّتِي قَامَ بهَا شيخ الْإِسْلَام ومجدده مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب، وَقَامَ بنصره وحمايته أُمَرَاء آل سعود رحم الله أسلافهم وَبَارك فِي أخلافهم ووفقهم لحماية دين الْإِسْلَام من عَبث العابثين وَكيد الكائدين.
أما إِن كَانَ مُرَاد الشَّيْخ السَّلَام على النَّبِي صلى الله عليه وسلم الَّذِي أَمر الله بِهِ الْمُسلمين بقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ، وَالَّذِي يعنيه الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم حِين يَقُول:"من صلى عليَّ مرّة وَاحِدَة صلى الله عَلَيْهِ بهَا عشرا"، وَالَّذِي يردده الْمُسلم فِي كل صَلَاة مَفْرُوضَة أَو راتبة أَو نَافِلَة ضمن التَّشَهُّد الْمَفْرُوض؛ فَيَقُول:"السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته"، وَالَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُسلم كلما دخل مَسْجِدا من الْمَسَاجِد أَو خرج مِنْهُ؛ فَيَقُول:"بِسم الله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُول الله"، وَكَذَلِكَ كلما ذكر الْمُسلم نبيه أَو سمع ذكره قَالَ:"صلى الله عليه وسلم"
…
إِن هَذَا النَّوْع من السَّلَام هُوَ الَّذِي يعنيه فَضِيلَة الشَّيْخ فَلَيْسَ صَحِيحا أَن هَذَا السَّلَام مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، بل إِن هَذَا السَّلَام يمارسه الْمُسلم فِي كل مَكَان وَفِي كل مُنَاسبَة، وَلم يكن يَوْمًا من الْأَيَّام مَقْصُورا على مَكَان من الْأَمْكِنَة.
وَإِن كَانَ فضيلته يرى أَن هُنَاكَ نَوْعَيْنِ من السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: أَحدهمَا عَام فِي كل مَكَان؛ فِي الصَّلَاة، وَعند دُخُول الْمَسَاجِد، وَعند ذكره عليه السلام، وَالْآخر خَاص بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ، وَأَنه هُوَ الَّذِي يعنيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "مَا من أحد يسلم عَليّ
…
" الحَدِيث؛ فليقدم لنا دَلِيله على ذَلِك، وَله منا الشُّكْر، وليعلم فضيلته من جَدِيد أننا لَا نقبل من أحد أَن يَقُول على الله وَرَسُوله وَدينه بِلَا علم وَلَا برهَان؛ إِذْ يَقُول تَعَالَى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} ، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} ، وَيَقُول النَّبِي عليه الصلاة والسلام: " من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد"، وَيَقُول: "من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد "، وَيَقُول عليه السلام: "عَلَيْكُم بِسنتي.." إِلَى قَوْله: " وكل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة وكل ضَلَالَة فِي النَّار".
النَّاحِيَة الثَّالِثَة: وَكَيف علم الشَّيْخ أَن السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الَّذِي يُشِير إِلَيْهِ قَوْله عليه السلام: "مَا من أحد يسلم عَليّ إِلَّا رد الله عَليّ روحي فأرد عليه السلام" - كَيفَ علم الشَّيْخ - وَفقه الله - أَن هَذَا السَّلَام مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد قبل وَبعد إِدْخَال الْحُجْرَة فِيهِ؟.. وَمن أَيْن علم فضيلته أَن الْمُسلمين مُنْذُ ألف وَأَرْبَعمِائَة سنة إِلَى يَوْمنَا هَذَا نزَّلوا هَذَا الحَدِيث على السَّلَام عِنْد الْقَبْر فِي دون غَيره؟.. وَأَنَّهُمْ مجمعون على ذَلِك وَلم يُخَالف مِنْهُم أحد؟.. وماذا يَقُول عَن الصَّحَابَة الَّذين لم يرد أَن أحدا مِنْهُم يسلم على النَّبِي عِنْد الْقَبْر مَا عدا عبد الله بن عمر؟.
ثمَّ هَل عَاشَ فضيلته ألف وَأَرْبَعمِائَة سنة حَتَّى يرى مَاذَا فعل كل مُسلم عَاشَ على وَجه الأَرْض مُنْذُ