المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَفَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا؛ حَتَّى - صحيح المقال في مسألة شد الرحال

[عبد العزيز بن عمر الربيعان]

الفصل: وَفَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا؛ حَتَّى

وَفَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا؛ حَتَّى يتسنى لَهُ أَن يجْزم بِمَا جزم بِهِ وَيَدعِي مَا ادَّعَاهُ من أَمر لَا يدْرك إِلَّا بالحس والمشاهدة؟..

إِذا كَانَ هَذَا مستحيلا فتحقيق مَا ادَّعَاهُ الشَّيْخ مُسْتَحِيل أَيْضا، فَلَو أَن فضيلته قرر ذَلِك حكما شَرْعِيًّا لكَانَتْ المشكلة أخفّ، سَوَاء أصَاب أَو أَخطَأ؛ لِأَن الحكم الشَّرْعِيّ يدْرك بِالِاجْتِهَادِ فِي نُصُوص الشَّرْع، والمجتهد يُصِيب أَحْيَانًا ويخطئ أَحْيَانًا أُخْرَى، وَلَكِن مَا قَرَّرَهُ فضيلته دَعْوَى علم بِمَا جرى عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ مُنْذُ أَرْبَعَة عشر قرنا من الزَّمَان؛ فيا عجب العجاب! وَإِن كَانَ الشَّيْخ - وَفقه الله - بنى حكمه هَذَا على أساس اعتقادي بأنّ هَذَا هُوَ الْحق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة شرعا؛ لأننا نقُول لَهُ: حَتَّى وَإِن اسْتَطَعْت أَن تثبت أَن هَذَا هُوَ الْحق شرعا فَإنَّك لَا تَسْتَطِيع أَن تثبت أَن النَّاس جَمِيعًا التزموا بِهِ وحافظوا عَلَيْهِ، فهناك فَرَائض الْإِسْلَام وأركانه ولوازم التَّوْحِيد ومقتضياته قد أخلّ النَّاس بهَا وَلم يحافظ عَلَيْهَا ويؤديها - وفْق مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول عليه السلام إِلَّا بعض الْمُسلمين، وهى أُمُور ثَابِتَة بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع إِجْمَالا وتفصيلا؛ فَمَا بالك بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة الَّتِي وَقع الْخلاف فِي أَصْلهَا وفروعها، وَوَقع قوم مِنْهَا فِي مهالك مُنْذُ اخْتَلَط على الْكثير من الْمُسلمين الصَّوَاب بالْخَطَأ وَالْحق بِالْبَاطِلِ وَالْهدى بالضلال، علما بِأَن التخرص والتخمين وَقِيَاس الْمَاضِي بالحاضر وَالِاعْتِبَار بواقع النَّاس فِي عصر من العصور مَا كَانَت هَذِه الْأُمُور يَوْمًا من الْأَيَّام مصَادر علم تُقَام على أساسها الْأَحْكَام، خَاصَّة أُمُور الدّين الَّتِي لَا مصدر لَهَا سوى الْوَحْي السماوي والتنزيل الرباني والتشريع الرباني، وَلَو كَانَ الظَّن والتخرص مصدر علم يُوصل إِلَى حقائق الْأُمُور لصار الْعلم من أسهل الْأَشْيَاء تحصلا، ولاستطاع أَجْهَل النَّاس أَن يتَحَمَّل أَيَّة متاعب.

ص: 189

‌الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة:

قَالَ الشَّيْخ عَطِيَّة ص 577: "ولنتصور حَقِيقَة هَذِه الْمَسْأَلَة يَنْبَغِي أَن نعلم أَولا أَن الْبَحْث فِيهَا لَهُ ثَلَاث حالات:

الأولى: شدّ الرّحال إِلَى السجد النَّبَوِيّ للزيارة وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ.

الثَّانِيَة: زِيَارَة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم من قريب وَالسَّلَام عَلَيْهِ بِدُونِ شدّ الرّحال، وَهَذِه أَيْضا مجمع عَلَيْهَا.

الثَّالِثَة: شدّ الرّحال للزيارة فَقَط، وَهَذِه الْحَال هِيَ مَحل الْبَحْث ومثار النقاش السَّابِق.

مناقشة:

وَنحن نناقش ففضيلة الشَّيْخ هُنَا فِي فقرة وَاحِدَة من هَذَا الْكَلَام الَّذِي نَقَلْنَاهُ هُنَا من كِتَابه، وهى دَعْوَاهُ بِأَن مَا عبر عَنهُ هُوَ (بالحالة الثَّانِيَة) مجمع عَلَيْهِ، فنسأل فضيلته مَتى انْعَقَد هَذَا الْإِجْمَاع؟.. وَمن هم الَّذين أَجمعُوا على ذَلِك؟.. وَمَا دليلك على حُصُول هَذَا الْإِجْمَاع؟..

ص: 189

وَهل انْعَقَد هَذَا الْإِجْمَاع زمن الصَّحَابَة؟.. أم زمن التَّابِعين؟.. أم مَتى كَانَ ذَلِك؟..وَمن الَّذين أَجمعُوا على هَذَا الْأَمر؟.. هَل هم أهل الِاجْتِهَاد من أمة مُحَمَّد عليه السلام أم غَيرهم؟.. وَمن نقل إِجْمَاعهم؟.. هَل علم بِهَذَا الْإِجْمَاع الإِمَام مَالك- رحمه الله وَمَعَ ذَلِك يكره أَن يَقُول الْإِنْسَان: زرت قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم؟.. وَهل علم بِهِ عَليّ بن الْحُسَيْن وَالْحسن بن الْحسن إِمَامًا أهل الْبَيْت النَّبَوِيّ فِي زمانهما؟

وَمَعَ ذَلِك ينهيان عَن التَّرَدُّد على الْقَبْر الشريف.. وَهل علم بِهَذَا الْإِجْمَاع قاضى الْمَدِينَة سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَهُوَ أحد أَئِمَّة التَّابِعين وَأحد قُضَاة الْمَدِينَة وَأحد فقهائها وسكانها، وَكَذَلِكَ من ذكرُوا قبله نشأوا فِي بلد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعايشوا وتلقوا الْعلم فِيهَا بجوار قَبره الشريف وشاهدوا بأعينهم عمل الْأَئِمَّة من التَّابِعين وتابعيهم مِمَّن يُقِيمُونَ بِالْمَدِينَةِ، وَمن الوافدين إِلَيْهَا من أقطار الأَرْض، وماذا كَانُوا يعْملُونَ.

فعلى كل حَال هم أعلم مِمَّن يدعى الْإِجْمَاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من غير أَن يقدم دَلِيلا يثبت صِحَة دَعْوَاهُ.

فإمَّا أَن يَقُول الشَّيْخ: إِن الْإِجْمَاع انْعَقَد قبل هَؤُلَاءِ وهم خالفوه، وَإِمَّا أَن يَقُول: انْعَقَد الْإِجْمَاع فِي زمنهم وَلَا عِبْرَة بخلافهم، وَإِمَّا أَن يَقُول: إِن الْإِجْمَاع انْعَقَد بعدهمْ.

فَالْأول فِي غَايَة البشاعة، وَالثَّانيَِة مثلهَا، وَالثَّالِثَة يحْتَاج لإثباتها إِلَى دَلِيل مَقْبُول عِنْد من يُخَالِفهُ فِي هَذِه الدَّعْوَى، وَلَا أَظُنهُ يثبت وجود إِجْمَاع بعد خلاف؛ إِذْ إِن النَّاس كلما كَثُرُوا وَكلما طَال الأمد بَينهم وَبَين عصر النُّبُوَّة كثر خلافهم وتشعبت آراؤهم وَكَثُرت أهواؤهم؛ فَكيف يتَصَوَّر أَن يتفقوا بَعْدَمَا اخْتلف من فِي قبلهم فِي حكم من الْأَحْكَام أَو مَسْأَلَة من الْمسَائِل؟..

من أجل ذَلِك نكرر الرَّجَاء إِلَى فضيلته ليدلنا على الْمصدر الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْهُ فضيلته خبر هَذَا الْإِجْمَاع الَّذِي خَفِي على جهابذة الْعلمَاء قَدِيما وحديثا، ولكننا نشرط مسبقا بأننا سَوف لَا نكتفي بِأَن يَقُول لنا فضيلته ذكر هَذَا الْإِجْمَاع فلَان أَو عَلان فِي كتاب كَذَا، حَتَّى نعلم الْمصدر الأساسي الَّذِي اعْتمد عَلَيْهِ فلَان أَو عَلان فِيمَا نقل من هَذَا الْإِجْمَاع؛ لِأَن مُجَرّد كَلَام مدون فِي كتاب لأحد الْعلمَاء يدعى مُؤَلفه أَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد على كَذَا وَكَذَا - دون أَن يبين مُسْتَند - لَا يكفى لإِثْبَات وَقبُول مَا ادَّعَاهُ، وَمَا الْفرق بَين نِسْبَة الْإِجْمَاع إِلَى الْأمة وَبَين نِسْبَة الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم، ألم تَرَ أَن الحَدِيث الْمَنْسُوب إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم لَا يقبل وَلَا يعْتَبر حَدِيثا لمُجَرّد وجوده فِي كتاب من الْكتب مهما علت منزلَة صَاحب ذَلِك الْكتاب رُتْبَة فِي الْعلم وَالتَّقوى؛ حَتَّى يقدم السَّنَد الَّذِي عَنهُ تلقى ذَلِك الحَدِيث؛ فَينْظر أهل الْعلم وطلاب الْحق فِي هَذَا السَّنَد، هَل هُوَ مِمَّن يقبل خَبره أم لَيْسَ كَذَلِك؟.. أَلَيْسَ مِمَّا يُؤْخَذ على طَالب الْعلم أَن يتَكَلَّم فِي موعظة أَو خطْبَة أَو كتاب؛ فينسب إِلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم حَدِيثا أَو أَكثر وَهُوَ غير متأكد من صِحَّته سندا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟..

إِذا مَا بَال الْإِجْمَاع أمره خَفِيف عِنْد بعض الْمَشَايِخ فيسهل عَلَيْهِ أَن يَقُول: هَذَا مجمع عَلَيْهِ، أَو ثَبت

ص: 190