الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دَلِيلا من أَدِلَّة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة دون أَن يكون هُنَاكَ إِجْمَاع من عُلَمَاء الْأمة فاصطلاح غير مَقْبُول، كَمَا أَنه لَا يصدر إِلَّا عَن إِنْسَان مبالغ فِي تَعْظِيم الْمذَاهب الْفِقْهِيَّة والآراء البشرية إِلَى حد إحلالها مَحل النُّصُوص الشَّرْعِيَّة- عياذا بِاللَّه -.
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة:
وَقَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ وَفقه الله:
(وَلَعَلَّ مَذْهَب البُخَارِيّ حسب صَنِيعه هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور؛ لِأَنَّهُ أَتَى فِي نفس الْبَاب بعد حَدِيث شدّ الرّحال مُبَاشرَة بِحَدِيث: "صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا خير من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ"، مِمَّا يشْعر بِأَنَّهُ قصد بَيَان مُوجب شدّ الرّحال وَهُوَ فَضِيلَة الصَّلَاة - هَكَذَا فِي كتاب الشَّيْخ - فَيكون النَّهْي عَن شدّ الرّحال مُخْتَصًّا بالمساجد وَلأَجل الصَّلَاة إِلَّا فِي تِلْكَ الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة لاختصاصها بمضاعفة الصَّلَاة فِيهَا دون غَيرهَا من بَقِيَّة الْمَسَاجِد والأماكن الْأُخْرَى، ثمَّ نقل كلَاما لِابْنِ حجر مفاده أَن النَّهْي منصب على الْمَسَاجِد فَقَط دون غَيرهَا من الْأَغْرَاض وَالْبِقَاع والصلوات.
وَهَذَا الاستنباط الَّذِي توصل إِلَيْهِ فَضِيلَة الشَّيْخ، واستطاع بواسطته أَن يكتشف مَذْهَب الإِمَام البُخَارِيّ فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال - الَّتِي مَا حدث الْكَلَام فِيهَا إِلَّا بعد وَفَاة الإِمَام البُخَارِيّ رحمه الله بِمَا لَا يقل عَن مِائَتي سنة - غير سليم لما يَأْتِي:
أَولا: فِي زمن البُخَارِيّ وَقَبله لم يُوجد من عُلَمَاء الْمُسلمين من يَقُول بمشروعية وَلَا بِجَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقُبُور، حَتَّى نَنْظُر مَذْهَب البُخَارِيّ، هَل هُوَ مَعَ المانعين لشد الرّحال إِلَى الْقُبُور أَو جمع غَيرهم، وَالسَّبَب أَنه حَتَّى ذَلِك التَّارِيخ لم يحدث فِي الْأمة الإسلامية قبوريون.
ثَانِيًا: عدم صِحَة قَول من زعم أَن مَذْهَب الْجُمْهُور مَشْرُوعِيَّة أَو جَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقُبُور فِي يَوْم من الْأَيَّام حَتَّى يَوْمنَا هَذَا، إِلَّا أَن يُرَاد بالجمهور طغام الْعَوام وَمن على شاكلتهم من الْعلمَاء.
ثَالِثا: البُخَارِيّ فَقِيه ملهم؛ لذَلِك لَا نستبعد أَن يكون الله تَعَالَى قد ألْقى فِي روع ذَلِك الْفَقِيه الملهم أَن سيحدث بعْدك فِي أمة مُحَمَّد قبوريون لَهُم مزاعم فَاسِدَة، وَمن مزاعمهم أَن يدّعوا أَن الْحِكْمَة من اسْتثِْنَاء الْمَسْجِد النَّبَوِيّ من المسجدين الآخرين فِي حَدِيث النهى عَن شدّ الرّحال هِيَ من أجل زِيَارَة الْقَبْر النَّبَوِيّ الشريف - كَمَا زعم ذَلِك أَبُو زهرَة فِي كِتَابه (ابْن تَيْمِية)، وَمَا أَظُنهُ أول من قَالَ بذلك وَلَا آخر من يَقُول بِهِ - فَألْقى الله فِي روع ذَلِك الإِمَام بِأَن يتَقَدَّم بِالرَّدِّ عَلَيْهِم قبل وجودهم بِمَا يُقَارب مِائَتي سنة؛ فَيَقُول: إِن الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة استثنيت فِي حَدِيث لَا تشد الرّحال لما تميزت بِهِ من فضل على جَمِيع بقاع الأَرْض ترَتّب عَلَيْهِ مضاعفة ثَوَاب الصَّلَاة فِيهَا.
هَذَا هُوَ السَّبَب الَّذِي من أَجله أورد البُخَارِيّ حَدِيث فضل الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة بعد حَدِيث "لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد.."، أَي أَنه أَرَادَ أَن يبين حِكْمَة الِاسْتِثْنَاء وموجبه، وَأَنَّهَا لَوْلَا ذَلِك لكَانَتْ كَغَيْرِهَا من الْمَسَاجِد وَالْبِقَاع لَا تشد لَهَا الرّحال.
فالقضية - فِي نظر البُخَارِيّ وَأَمْثَاله - قَضِيَّة مَسَاجِد وصلوات، لَا قَضِيَّة أضرحة ومزارات.
وَبعد أَن كتب فَضِيلَة الشَّيْخ مَا تفلسف بِهِ حول صَنِيع البُخَارِيّ الَّذِي فَرغْنَا الْآن من الْكَلَام حوله، نقل كلَاما لِابْنِ حجر مفاده أَن النَّهْي الَّذِي تضمنه حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." خَاص بالمساجد والصلوات، دون غَيرهَا من الْبِقَاع والأغراض والعبادات.
وَنحن نناقش فضيلته فِيمَا هُوَ من ابتكاره، وَفِيمَا نَقله عَن غَيره؛ فنبين بحول الله وتوفيقه أَنَّهَا مزاعم مُجَرّدَة عَمَّا يسندها ويشد عضدها من لُغَة أَو شرع؛ فَنَقُول: أَنْتُم معترفون بِأَن حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." يَشْمَل الْمَسَاجِد شمولا أوليا مباشرا سوى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة المستثناة، بل تحاولون أَن تجعلوه خَاصّا مَقْصُورا عَلَيْهَا، فَهَل ترَوْنَ أَن الأضرحة أفضل عِنْد الله من الْمَسَاجِد؟.. أَلَيْسَ الحَدِيث الآخر قد نَص على أَن الْمَسَاجِد هِيَ أحب الْبِقَاع إِلَى الله؟.. وَفِي الْقُرْآن الْكَرِيم {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .. وَفِيه قَوْله تَعَالَى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ..
فَكيف سَاغَ لكم وَلمن قلدتموهم أَن تَقولُوا: الْمَمْنُوع زِيَارَة الْمَسَاجِد، دون زِيَارَة الْمشَاهد؟
بإمكانكم أَن تَقولُوا: لِأَن الْمَسَاجِد يعوض بَعْضهَا عَن بعض؛ فَلَا فرق بَين مَسْجِد وَآخر عدا الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة، أما الْقُبُور خَاصَّة قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلَا يعوض بَعْضهَا على بعض، كَمَا أَن الْمَسَاجِد أَيْضا لَا تعوض عَنْهَا لِأَنَّهَا لَيست من جِنْسهَا.
وجوابنا على ذَلِك أَن نقُول:-
إِن الله تَعَالَى جعل الْمَسَاجِد أَمَاكِن لِلْعِبَادَةِ؛ فَيتَوَجَّه الْمُسلم إِلَى مَسْجِد ليؤدى فِيهِ عِبَادَته لرَبه كَمَا أمره سبحانه وتعالى، فَكَانَ من السائغ عقلا أَن يكون السّفر إِلَيْهَا فَضِيلَة محمودة لمن يُرِيد أَن يَجْعَل لعدد كَبِير من بيُوت الله نَصِيبا من عِبَادَته، تِلْكَ الْبيُوت الَّتِي أذن الله أَن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه تبارك وتعالى، وَقد قرر الْفُقَهَاء أَن الْمَسْجِد الأقدم وَالْأَكْثَر جمَاعَة والأبعد من منزل الْإِنْسَان أفضل من عَكسه، وَهَذَا مَسْجِد قبَاء قد ثَبت فَضله شرعا، وَمَعَ ذَلِك لم يسْتَثْن مَعَ الْمَسَاجِد المستثناة، أما الْقُبُور فَلم يَجْعَلهَا الله وَرَسُوله أَمَاكِن لِلْعِبَادَةِ، بل على الْعَكْس فقد نهى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عَن الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، وَجعلهَا من المواقع الَّتِي لَا تصح الصَّلَاة فِيهَا، وَلعن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لاتخاذهم الْمَسَاجِد على الْقُبُور محذرا أمته من أَن تحذوا حذوهم، مكررا ومؤيدا حَتَّى آخر لَحْظَة من حَيَاته الشَّرِيفَة، وَلكنه مَعَ هَذَا قد أخبر عليه السلام أَن أمته ستحذو حَذْو الْيَهُود وَالنَّصَارَى وتتبع سُنَنهمْ؛ رغم تحذيره ومبالغته فِي النصح والتنبيه، وَمن أبرز سُنَنهمْ الَّتِي حذر الرَّسُول أمته من اتباعها - وَقد اتبعوها - اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد، وَهَذِه مبدؤها الغلو فِي الْقُبُور واتخاذها أعيادا بِكَثْرَة التَّرَدُّد عَلَيْهَا، ثمَّ التَّعَلُّق بِأَهْلِهَا وَتوجه الْقُلُوب إِلَيْهِم ثمَّ دعاؤهم من دون الله، ثمَّ.. ثمَّ.. ثمَّ.. ثمَّ.. الخ.
ثمَّ نقُول: إِن الْمَسَاجِد كَمَا يصدق عَلَيْهَا أَنَّهَا مَسَاجِد كَذَلِك يصدق عَلَيْهَا أَنَّهَا بقاع وَأَنَّهَا أَمَاكِن، والْحَدِيث لم يذكر فِيهِ الْمُسْتَثْنى؛ فَهُوَ مُبْهَم، والمبهم يَنْبَغِي أَن يقدر بأعم مدلولاته مَا لم يرد دَلِيل آخر يفسره؛ لِأَن الِاقْتِصَار على بعض المدلولات دون بَعْضهَا الآخر تحكم وَاتِّبَاع للهوى؛ فَمَا دَامَ أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ حديثنا هَذَا يجوز أَن يكون الْمَسَاجِد فَقَط وَيجوز أَن يكون الْبِقَاع والأماكن جَمِيعًا - والشارع لم يخصص - فَيجب علينا وَالْحَالة هَذِه أَن نعتبر الْأَعَمّ الأشمل، ونجري الحَدِيث على ظَاهره، وَلَا يكون لنا تدخل فِي نُصُوص الشَّرْع بِمُجَرَّد أهوائنا؛ لِأَن أحدا منا لَو سُئِلَ فَقيل لَهُ: لم قصرت هَذَا الْعَام على بعض أَفْرَاده بِلَا دَلِيل؟
…
فَإِنَّهُ لَا جَوَاب لَدَيْهِ يخرج بِهِ من طائلة العتاب، أما لَو سُئِلَ فَقيل لَهُ: جعلت هَذَا الْعَام على التَّخْصِيص، وَمن ثمَّ لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ عتاب.
إِذا فالتوجيه للْحَدِيث كَمَا يَلِي:
لَا تشد الرّحال لمَكَان فِي الأَرْض أَو بقْعَة من الْبِقَاع طَاعَة لله أَو لأَدَاء عبَادَة يَبْتَغِي بهَا وَجه الله إِلَّا الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة؛ لما لَهَا من الْفضل على سَائِر الْبِقَاع..
أما الْأَسْفَار الدُّنْيَوِيَّة كَالَّذي لتِجَارَة، آو زِيَارَة قريب أَو صديق، أَو لسياحة؛ فَلَا مدْخل لَهَا هُنَا؛ لِأَنَّهَا لَيست مِمَّا يمارسه العَبْد لله بنية أَنه مَشْرُوع يُثَاب عَلَيْهِ، بل هِيَ من الْأُمُور العادية الْمُبَاحَة؛ فإدخالها فِي مَوْضُوع شدّ الرّحال واتخاذها وَسِيلَة لتأويل الحَدِيث وَصَرفه عَن ظَاهره - موهما من فعل ذَلِك أَن إِجْرَاء الحَدِيث على ظَاهره يُفْضِي إِلَى منع شدّ الرّحال لهَذِهِ الْأُمُور العادية الدُّنْيَوِيَّة - فَهَذَا غير صَحِيح، بل خلط بَين أُمُور الدُّنْيَا وَأُمُور الدّين.
ثمَّ إِن هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ فِي معنى الحَدِيث هُوَ الَّذِي فهمه مِنْهُ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَرَضي عَنْهُم، وهم الَّذين سَمِعُوهُ مُبَاشرَة من مصدره الْأَصْلِيّ.
وبرهان ذَلِك كَمَا يَلِي: قَالَ أَبُو يعلى فِي مُسْنده:
1-
حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمنْهَال حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع
…
وسَاق الْإِسْنَاد إِلَى سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري قَالَ: لَقِي أَبُو بصرة جميل بن بصرة أَبَا هُرَيْرَة رضي الله عنهما وَهُوَ مقبل من الطّور، فَقَالَ: لَو لقيتك قبل أَن تَأتيه لم تأته، إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول:" إِنَّمَا تضرب أكباد الْمطِي إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: الْمَسْجِد الْحَرَام، ومسجدي هَذَا، وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى".
2-
وَعَن قزعة قَالَ: سَأَلت عبد الله بن عمر: آتِي الطّور؟ قَالَ: دع الطّور لَا تأته، ثمَّ قَالَ:"لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد". رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة والأزرقي فِي أَخْبَار مَكَّة، وَإِسْنَاده صَحِيح.
انْظُر تخذير الساجد للألباني ص139.
أما السّفر لطلب الْعلم ولزيارة الْوَالِدين وَالصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاء الْأَحْيَاء؛ فَلَيْسَ المُرَاد من مثل ذَلِك السّفر
الْبقْعَة الَّتِي يحلونَ فِيهَا، إِنَّمَا المُرَاد زِيَارَة الْأَشْخَاص الْأَحْيَاء بِأَيّ مَكَان حَلّوا.
أما زِيَارَة الْقُبُور لتذكر الْآخِرَة وَدون شدّ رَحل؛ فجائزة، وَمن زارها لهَذَا الْغَرَض فليدعُ لأصحابها على الْعُمُوم اقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
فَهَؤُلَاءِ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الَّذين سمعُوا الحَدِيث مِنْهُ مُبَاشرَة - قد فَهموا مِنْهُ أَن النَّهْي فِي هَذَا الحَدِيث يعم جَمِيع الْبِقَاع وَلَا يخْتَص بالمساجد؛ فالطور الَّذِي أنكر أَبُو بصرة على أَنِّي هُرَيْرَة إِتْيَانه وَالسّفر إِلَيْهِ لَيْسَ بِمَسْجِد، وَلكنه مَكَان من الْأَمْكِنَة، وَأَبُو هُرَيْرَة يقره على إِنْكَاره وَلَا يرد عَلَيْهِ، وَفِي الْأَثر الثَّانِي يُفْتِي عبد الله بن عمر من استفتاه فِي السّفر إِلَى الطّور فَيَقُول:"دع الطّور لَا تأته"، وكل مِنْهُمَا يسْتَدلّ بِحَدِيث:"لَا تشد الرّحال.."، أفيقول أحد بعدهمْ إِنَّه أعلم باللغة أَو بِالشَّرْعِ من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟
أَو يظنّ بِأحد أَنه أعلم مِنْهُم؟.. وَحَتَّى لَو حاول أحد التشكيك فِي أَسَانِيد هَذِه الْأَخْبَار فَإِنَّهُ - أَولا - لَا سَبِيل لَهُ إِلَى ذَلِك، ثَانِيًا لَو فعل لطالبناه بِأَن يقدم لنا أَسَانِيد صَحِيحَة إِلَى من نسب عَنهُ، حَتَّى يعلم أَن طلب الْإِثْبَات منوطه إِلَيْهِ كَغَيْرِهِ، وَأَن مُجَرّد الدَّعَاوَى بِدُونِ بَيِّنَات لَا يُفِيد شَيْئا، وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى ذَلِك أَيْضا، بل مُجَرّد نقُول فِي الْكتب قل إِن تثبت إِلَى من نسبت إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا نقل من الإجماعات المزعومة.
الْخطر على عقيدة التَّوْحِيد فِي الْقُبُور لَا فِي الْمَسَاجِد:
السُّؤَال موجه إِلَى من يَقُول بِمَنْع زِيَارَة الْمَسَاجِد وَإِبَاحَة أَو مَشْرُوعِيَّة زِيَارَة الْقُبُور نقُول فِيهِ:
مَعْلُوم أَن أَحْكَام الشَّرْع لَا تَأتي إِلَّا لحكمة، وَهَذِه الْحِكْمَة قد تكون مَنْصُوصا عَلَيْهَا وَقد لَا ينص عَلَيْهَا، وَقد تدْرك بِالِاجْتِهَادِ وَقد لَا تدْرك، وَقد تدْرك جزما وَقد تدْرك ظنا، وعَلى كل حَال أَحْكَام الشَّرْع لَهَا حكم ووارده لعلل إِمَّا تَحْصِيل مصَالح وَإِمَّا دفع مفاسد.
فَهَل تتصورون أَن من الْحِكْمَة منع زِيَارَة الْمَسَاجِد بشد الرّحال وَإِبَاحَة أَو مَشْرُوعِيَّة زِيَارَة الْقُبُور وَلَو بشد الرّحال؟.. ألستم تعلمُونَ أَن فتْنَة بني آدم ووقوعهم فِي الشّرك بِاللَّه وَعبادَة المخلوقين كَانَ منشؤها الغلو فِي الْأَمْوَات من الصَّالِحين؟.. وَلَا يزَال الْأَمر كَذَلِك حَتَّى ساعتنا هَذِه؛ فَفِي بعض الْبِلَاد الإسلامية لَا تَجِد مَسْجِدا تصلي فِيهِ إِلَّا ومبني على قبر، وَقد يكون هَذَا الْقَبْر قد اتخذ وثنا يعبد من دون الله، كالضريح الْمَنْسُوب للحسين، والمنسوب للسيدة زَيْنَب والبدوي، و.. و.. وَإِلَى مَالا يُحْصى فِي مصر وَغَيرهَا من آلَاف الأضرحة والقباب المقامة على الْقُبُور وَعَلَيْهَا الْمَسَاجِد الَّتِي لعن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بناها، وأبطل صَلَاة من صلى فِيهَا، وَذَلِكَ على مسمع ومرأى من الْعلمَاء أَو المحسوبين على الْعلمَاء من أَصْحَاب الشَّهَادَات الْكَبِيرَة، بل إِن من هَؤُلَاءِ بعض المنتسبين إِلَى الْعلم قد يشاركون الْعَوام فِي عبَادَة الْأَمْوَات بِالْحَجِّ إِلَى قُبُورهم وَالطّواف، حول مقاصيرهم وَيطْلبُونَ مِنْهُم مَالا يملكهُ إِلَّا الله معتقدين أَنهم يملكُونَ النَّفْع والضر،
والسعادة والشقاوة، وَلذَلِك حذر الني صلى الله عليه وسلم أمته من الْوُقُوع فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَلَكنهُمْ وَقَعُوا إِلَّا من عصمه الله وَقَلِيل مَا هم.
ونخن فِي هَذِه الْبِلَاد - وَالْحَمْد لله - لَا نزال فِي آثَار الدعْوَة الْخيرَة الَّتِي قضى الله بهَا على مظَاهر الوثنية فِي بِلَادنَا؛ نسْأَل الله تَعَالَى أَن يديم علينا نعْمَة التَّوْحِيد الَّتِي هِيَ أعظم نعْمَة تمتّع بهَا إِنْسَان على وَجه الأَرْض، وَأَن يوفق وُلَاة أمورنا لمزيد من حماية هَذِه النِّعْمَة وَمَعْرِفَة قدرهَا والحرص عَلَيْهَا والاغتباط بهَا، إِنَّه سميع مُجيب.
أما الْمَسَاجِد فَمَا كَانَت يَوْمًا من أَيَّام الدُّنْيَا مصدر فتْنَة وخطر على عقائد أهل التوحيدي وإتباع الرُّسُل، فلماذا يتَصَوَّر الْبَعْض أَن المشرع يَعْنِي بالقبور أَكثر من عنايته بالمساجد، فيبيح شدّ الرّحال لَهَا فِي الْوَقْت الَّذِي يمْنَع فِيهِ من شدّ الرّحال للمساجد؟.
اللَّهُمَّ وفقنا لاتباع رَسُولك والرضى بسنته، وَأَن لَا نبتدع فِي دينه، اللَّهُمَّ حبب إِلَيْنَا الْمَسَاجِد واجعلنا من أَهلهَا وعمارها، وَلَا تفتنا بالقبور وأحداثها
المشرع الْحَكِيم يُبِيح زِيَارَة الْمَقَابِر بعد مَنعه مِنْهَا مُبينًا الْحِكْمَة فِي ذَلِك:
كَانَ الني صلى الله عليه وسلم نهى عَن زِيَارَة الْقُبُور؛ لما يُعلمهُ عليه السلام من خطر فتنتها على من لم يتَمَكَّن من معرفَة الله على بَصِيرَة، ويتشبع من معرفَة التَّوْحِيد الَّذِي خلق الْجِنّ وَالْإِنْس من أَجله.
فَلَمَّا انْتَشَر الْإِسْلَام حسياً ومعنوياً، وتمكنت الْمعرفَة بِاللَّه وتوحيده فِي نفوس الْمُؤمنِينَ، وانتشر نور هدى الله فِي الأَرْض أَبَاحَ لَهُم زِيَارَة الْقُبُور مُعَللا ذَلِك بِأَنَّهَا تذكر الْآخِرَة، فَقَالَ عليه السلام:"كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها فأهما تذكر الْآخِرَة ".
هَذِه إِحْدَى حكمتين أَو علتين من أجلهَا رخص الرَّسُول عليه السلام بزيارة الْقُبُور بعد أَن كَانَ ناهياً عَنْهَا مَانِعا مِنْهَا.
أما الْعلَّة الثَّانِيَة فَهِيَ الْإِحْسَان إِلَى الْمَوْتَى بِالدُّعَاءِ لَهُم من الزائر، وَهَذِه الْعلَّة أَو الْحِكْمَة أخذت من عمل الرَّسُول وتعليمه لمن سَأَلَهُ مَاذَا يَقُول إِن هُوَ زار الْمَقَابِر، وَلَيْسَ هُنَاكَ حِكْمَة ثَالِثَة أَو عِلّة ثَالِثَة من أجلهَا تزار الْمَقَابِر، بل الْعلَّة الأولى هِيَ الأَصْل والأساس، أَعنِي تذكرة الْآخِرَة، بِدَلِيل أَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ذكرهَا لما أذن فِي زِيَارَة الْقُبُور وَلم يذكر الْأُخْرَى.
فيا ترى من زار قبر الرَّسُول، وَشد الرّحال لهَذِهِ الزِّيَارَة من أقْصَى الأَرْض أَو أدناها؛ أَي العلتين قصد؟ أيريد أَن يتَذَكَّر الْآخِرَة؟ فَعنده فِي بِلَاده، وَفِي كل بلد من الْمَقَابِر والأجداث الهامدة مَا يسيل دُمُوعه ويحرك قلبه ويذكره بِالْمَوْتِ وَمَا بعده؛ فَلَا دَاعِي لقطع القفار وجوب الديار لقبر أَو قبرين أَو ثَلَاثَة فِي أقْصَى الأَرْض وَأَدْنَاهَا، وَمَعَ ذَلِك هَذِه الْقُبُور الثَّلَاثَة - مَعَ أَن الْمَقْصُود مِنْهَا وَاحِد فَقَط - وَهِي محاطة بالجدران المنيعة والأستار الجميلة والزخارف البديعة وشباك الْحَدِيد.. الخ.
تمنع ذَلِك الزائر من الْوُصُول إِلَى الْقَبْر أَو الْقُبُور الثَّلَاثَة وتذكر الْآخِرَة بهَا، بل إِن أرضية تِلْكَ الْقُبُور وَمَا حولهَا مبلطة مستوية، وَلَا يعلم أحد على وَجه الأَرْض كَيْفيَّة تِلْكَ الْقُبُور الْكَرِيمَة بِالنِّسْبَةِ لبعضها.
(انْظُر وَفَاء الْوَفَاء بأخبار دَار الْمُصْطَفى للسمنهودي) .
فَهَذِهِ الْأَشْيَاء فِي نَظرنَا تمنع من تحقق الْحِكْمَة الْمَقْصُودَة شرعا من زِيَارَة الْقُبُور.
أم أَن ذَلِك الزائر يُرِيد الْحِكْمَة الثَّانِيَة، وَهِي الدُّعَاء للأموات
…
أيريد أَن يَدْعُو لرَسُول الله وعَلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمغفرة وَالْعِتْق من النَّار؟.. الرَّسُول عليه السلام لَيْسَ بحاجة إِلَى الدُّعَاء من أحد؛ إِذْ قد غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر، وَقد تحققت لَهُ السَّعَادَة بِجَمِيعِ مَعَانِيهَا وأنواعها صلى الله عليه وسلم. صَحِيح أَنه رغّب إِلَى أمته فِي أَن يسْأَلُوا الله لَهُ الْوَسِيلَة، وَكَذَلِكَ قد أَمر بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَام عَلَيْهِ، وَلَكِن ذَلِك لمصلحتنا نَحن لَا لمصلحته هُوَ، وَإِلَّا فدعاؤه لنَفسِهِ وَلغيره أَحْرَى بالإجابة من دُعَاء جَمِيع النَّاس لَهُ، وَهَذَا الدُّعَاء الَّذِي هُوَ سُؤال الْوَسِيلَة لَهُ عليه الصلاة والسلام، وَكَذَلِكَ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَيْهِ لَيْسَ مَكَانَهُ عِنْد الْقَبْر، بل لَيْسَ لَهُ مَكَان مَخْصُوص غير أَن سُؤال الْوَسِيلَة مُقَيّد بِسَمَاع الْأَذَان وَإجَابَة الْمُؤَذّن لحكمة لَا نعلمها.
فَإِن قَالُوا: قبر الرَّسُول عليه السلام لَهُ خَصَائِص؛ فَلَا يماثل بِقَبْر غَيره، وَلذَلِك يزار من قريب وَمن بعيد وتشد لَهُ الرّحال، وَلَيْسَ من ذَلِك تذكر الْآخِرَة الَّذِي يحصل بالمقابر الْأُخْرَى أَكثر، وَلَا الدُّعَاء لصَاحب الْقَبْر، بل لحقوق الرَّسُول صلى الله عليه وسلم على أمته وعظيم قدره..
إِن قَالُوا ذَلِك أجبناهم بِأَن نقُول: أَولا أَصْحَابه رضي الله عنهم أعلم مِنْكُم بحقوقه وَأكْثر مِنْكُم تَعْظِيمًا لَهُ، وَمَا رَأَوْا أَن ذَلِك يسْتَلْزم زِيَارَة قبر لَا بشد وَلَا بِدُونِهِ، وَكَذَلِكَ التابعون لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْمنَا هَذَا، بل إِن الَّذين يزورون الْقَبْر الشريف من أهل السّنة بِدُونِ شدّ رَحل يدْخلُونَ زيارته تَحت الْأَمر الشَّرْعِيّ إِن كَانَ أمرا أَو إِبَاحَة، أما حُقُوقه عليه السلام فمعلومة لديهم وعظيمة فِي نُفُوسهم وَقُلُوبهمْ واعتقادهم، وَلَيْسَ مِنْهَا شدّ الرحل لزيارة قَبره؛ إِذْ لَو كَانَ مِنْهَا لأمر بِهِ وحث عَلَيْهِ؛ فَمَا من جزئية وَلَا كُلية تعود على أمته بِالْخَيرِ وَالْمَنْفَعَة فِي أُمُور دينهم إِلَّا بَينهَا أتم بَيَان ودعا إِلَيْهَا وَرغب فِيهَا، فَمَا باله - يهمل هَذِه الْمَسْأَلَة؟ أنسياناً
…
أم تقصيراً؟
…
حاشاه من كل ذَلِك.
وَأَنا وَالله أعجب كثيرا لفضيلة الشَّيْخ عَطِيَّة عِنْدَمَا أمرّ بِبَعْض الْمَوَاضِع فِي بَحثه لهَذِهِ الْمَسْأَلَة، وعندما ألاحظ بعض الْعبارَات وَبَعض التَّصَرُّفَات، من ذَلِك أَنه لم ينْقل فِي هَذَا الْبَحْث عَن غير ابْن حجر، وَكَأن أحدا من عُلَمَاء الْمُسلمين لم يُوجد، أَو لم يتَعَرَّض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة من أَي جَانب من جوانبها؛ فَلَا أَدْرِي أكلّ ذَلِك ثِقَة مُطلقَة بِابْن حجر دون غَيره، أم ذَلِك نتيجة لكسل حالَ بَينه وَبَين بحث الْقَضِيَّة فِي كتب فحول الْعلمَاء وأئمة الْإِسْلَام، مثل كتب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية، وَكَذَا كتب شمس الدّين ابْن الْقيم، وَكَذَا الصارم
المنكي لِابْنِ عبد الْهَادِي الَّذِي خصصه لبحث هَذِه الْمَسْأَلَة، وَقد استقصى رحمه الله الْبَحْث فِيهَا ووفى الْمَوْضُوع حَقه.
أَلَيْسَ من الْإِنْصَاف، بل وَمن حق الْبَحْث العلمي، بل وَمن لَازم الِاحْتِيَاط للدّين وللعلم ولتجنب نقد الآخرين أَن ينظر الباحث فِيمَا قدمه الطرفان من بحوث واستدلال وتعليل؛ حَتَّى يكون على بَصِيرَة من أمره؛ فيبدي رَأْيه وَيقدم نتيجة اجْتِهَاده بعد تَأمل وَنظر عميق؟
…
أعتقد مَا فِيهِ أحد يخالفني فِيمَا قلت هُنَا..
إِذا فَمَا الَّذِي حَال بَين الشَّيْخ وَبَين النّظر والتعمق فِي التَّحْقِيق؟.. هَل خفيت عَلَيْهِ تِلْكَ المراجع الْعَظِيمَة والمباحث الهامة النفيسة؟.. لَا أعتقد ذَلِك، فَالْجَوَاب عِنْد فضيلته.
وَمن ذَلِك أَيْضا أَنه سطّر أَكثر من صفحة من كِتَابه فِي إِثْبَات جَوَاز شدّ الرّحال للتِّجَارَة وللسياحة ولزيارة الْأَقَارِب والأصدقاء الْأَحْيَاء، ولطلب الْعلم، وَرَاح فضيلته ينقب عَن الْأَدِلَّة الَّتِي تثبت جَوَاز السّفر لهَذِهِ الْأُمُور، كَأَن أحدا من خلق الله زعم أَن السّفر لهَذِهِ الْأَشْيَاء غير جَائِز، وَقصد فضيلته - حسب ظَنِّي، وَعَسَى أَن لَا يكون هَذَا الظَّن صَوَابا - إِرَادَة التهويل أَمَام السذج؛ لِأَنَّهُ قَالَ بعد كَلَامه الْمُتَعَلّق بِإِثْبَات جَوَاز السّفر لهَذِهِ الْأُمُور: فَيكون السّفر لزيارة الرَّسُول من ضمنهَا، وَلِأَنَّهُ رتَّب ذَلِك على قَوْله - بِالْمَعْنَى لَا بِالنَّصِّ -: إننا لَو أَخذنَا بِظَاهِر الحَدِيث - على مَا فهم ابْن تَيْمِية - لَأَدَّى بِنَا ذَلِك إِلَى تَعْطِيل مصَالح النَّاس وَالْحجر عَلَيْهِم بِتَحْرِيم مَا أحله الله من الْأَسْفَار للأمور الْمشَار إِلَيْهَا.
وَقد سبق أَن قُلْنَا لفضيلته: إِنَّه لَا يَصح الْخَلْط بَين أُمُور الدّين الَّتِي أَمر الشَّرْع بهَا أَو نهى، وَبَين أُمُور الدُّنْيَا الْمُبَاحَة، وَلَا الْخَلْط بَين مَا نهى عَنهُ الرَّسُول عليه السلام وَبَين مَا بَقِي على الأَصْل والبراءة، وَلَا الْخَلْط بَين أَمر يتَعَلَّق بالأماكن والعبادات، وَبَين أُمُور تتَعَلَّق بالأغراض الدُّنْيَوِيَّة والمقاصد العادية.
ونسأل الشَّيْخ فَنَقُول: هَل مَشْرُوعِيَّة أَو جَوَاز شدّ الرّحال خَاص بِقَبْر الرَّسُول عليه السلام أم عَام لقبور الصَّالِحين وَالْعُلَمَاء مثلا؟.. أم عَام لجَمِيع مَقَابِر الْمُسلمين؟.
إِن قُلْتُمْ: خَاص بِقَبْر النَّبِي صلى الله عليه وسلم دون غَيره، قُلْنَا: هَل عَرَفْتُمْ ذَلِك بِدَلِيل أم بتعليل؟.. إِن قُلْتُمْ: بِدَلِيل، قُلْنَا: تكرموا علينا وعَلى عَامَّة الْمُسلمين فبينوا هَذَا الدَّلِيل؛ لِأَنَّهُ خَفِي علينا، وكتمان الْعلم حرَام، وَإِن قُلْتُمْ: عرفنَا ذَلِك بتعليل، قُلْنَا: الْعلَّة الَّتِي بَينهَا الْمُصْطَفى عليه السلام لزيارة الْقُبُور هِيَ تذكر الْآخِرَة فَقَط، فَهَل عثرتم على عِلّة أُخْرَى؟.. أفيدونا مَأْجُورِينَ.
أما مَسْأَلَة الدُّعَاء للأموات الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا أخذت من فعل الرَّسُول عليه السلام وأجابته لمن سَأَلَهُ مَاذَا يَقُول إِن هُوَ زار الْقُبُور فقد قُلْنَا: لَا تنطبق فِي حق الرَّسُول صلى الله عليه وسلم؛ لاستغنائه عَن دُعَاء غَيره إِلَّا فِيمَا بيّنه، وَلم يقل عِنْد قَبْرِي بل قَالَ:"إِذا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذّن "، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لسؤال الْوَسِيلَة، وبالنسبة للصَّلَاة وَالتَّسْلِيم عَلَيْهِ فهما فِي الصَّلَاة
الْمَفْرُوضَة والمستحبة، وَعند دُخُول الْمَسْجِد، وَعند ذكره عليه الصلاة والسلام، وَفِي كل مُنَاسبَة وكل زمَان وَمَكَان.
بل قد قَالَ عليه الصلاة والسلام: " وصلوا عَليّ؛ فَإِن صَلَاتكُمْ وتسليمكم يبلغنِي حَيْثُمَا كُنْتُم"، قَالَ ذَلِك فِي الْوَقْت الَّذِي نهى فِيهِ عَن اتِّخَاذ قَبره عيدا، فَالله الْمُسْتَعَان..
وَإِن قُلْتُمْ عَام لقبور الصَّالِحين وَالْعُلَمَاء والأقارب، أَو لجَمِيع الْمُسلمين وَمَا إِلَى ذَلِك.. قُلْنَا: ولِمَ لَا تذكرُونَ الصَّالِحين أبدا؟.. بل كلامكم خَاص بِقَبْر الرَّسُول عليه الصلاة والسلام، ومقصور عَلَيْهِ مِمَّا أوهم الْعَامَّة أَن هُنَاكَ نصوصاً وَإِرَادَة بِالْأَمر بزيارة قَبره صلى الله عليه وسلم على الْخُصُوص1.
وَقَالَ الشَّيْخ - وَهُوَ يروي لنا تَأْوِيل ابْن حجر لحَدِيث النَّهْي عَن شدّ الرّحال -: وبتأمل كَلَام ابْن حجر نجده يتَضَمَّن إِجْرَاء معادلة على نَص الحَدِيث بِأَن لَهُ حالتين فَقَط:
الأولى: أَن يكون النهى منصباً على شدّ الرّحال لأي مَكَان سوى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة من أجل الصَّلَاة، وماعدا الْمَسَاجِد وَالصَّلَاة خَارج عَن النَّهْي، وعَلى هَذَا تخرج زِيَارَة الْقُبُور مَعَ غَيرهَا من الْأُمُور الْأُخْرَى عَن دَائِرَة النَّهْي.
وَالثَّانيَِة: أَن يكون النَّهْي عَاما لجَمِيع الْأَمَاكِن ماعدا الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة وبلدانها، وَلَكِن لَا لخُصُوص الصَّلَاة، بل لكل شَيْء مَشْرُوع بِأَصْلِهِ..
إِلَى أَن قَالَ: وَمن هَذَا كُله السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَا مُعَارضَة على حَالَة من الْحَالَتَيْنِ، وَلَا يتعارض مَعَ مَا مَعَهُمَا الحَدِيث. انْتهى كَلَام فضيلته بِاخْتِصَار وَتصرف فِي بعض الْكَلِمَات مَعَ الِالْتِزَام بِالْمَعْنَى.
وَنحن نناقش هَذَا الْكَلَام من نواح:
النَّاحِيَة الأولى: نحمد الله حَيْثُ إِن أَحَادِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي غَايَة من الْبَيَان والوضوح؛ فَلَا نحتاج لفهمها إِلَى إِجْرَاء معادلات وَلَا اسْتِخْدَام فلسفات.
النَّاحِيَة الثَّانِيَة: لِمَ هَذَا التعويل على آراء ابْن حجر دون غَيره من عُلَمَاء الْأمة الإسلامية، خَاصَّة السّلف الصَّالح من لدن الصَّحَابَة إِلَى آخر الْقُرُون الثَّلَاثَة2؟ هَل لم يتَعَرَّض لمعْرِفَة وَبَيَان معنى هَذَا الحَدِيث أحد من أَئِمَّة الْإِسْلَام قبل ابْن حجر؟.. بل لقد تعرضوا وفهموا وبينوا وَعمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ قبل ابْن حجر، وَقبل أَن يستنبط فَضِيلَة الشَّيْخ معادلته الفلسفية من كَلَام الْحَافِظ ابْن حجر هَذِه.
النَّاحِيَة الثَّالِثَة: من أَيْن أتيتم ببلدان الْمَسَاجِد الثّلاثة وأدخلتم فِي الْمَوْضُوع مَا لَيْسَ مِنْهُ؛ محاولين أَن تجْعَلُوا
1 ولماذا أَمر عمر رضى الله عَنهُ بإخفاء قبر (دانيال) عليه السلام حِين وجد جثمانه فِي بِلَاد فَارس؟ أَلَيْسَ نَبيا كنبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؟ لِمَ لَمْ يتْرك قَبره مَعْلُوما للْمُسلمين ليزوروه ويفعلوا عِنْده كَالَّذي يفعل النَّاس الْيَوْم عِنْد قبر نَبينَا عليه السلام؟ أيريد عمر أَن يحرم الْمُسلمين من هذأ الْخَيْر الْعَظِيم؟.
2 بل الْأَرْبَعَة.
شدّ الرحل لزيارة قبر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مَشْرُوعَة أَو مُبَاحَة؟.. وَمَا الدَّافِع وَالْحَامِل على هدا اللف والدوران يَا فَضِيلَة الشَّيْخ؟.. هَل الْأمة وَاقعَة فِي مشكلة صعبة تحاول أَنْت إِيجَاد حل لَهَا وسبيل لخروجها من هَذِه المشكلة؟..
لَا دَاعِي لهَذَا يَا فَضِيلَة الشَّيْخ، أُمُور الدّين وَاضِحَة جلية، وَسنة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم قد تَركهَا بَيْضَاء نقية، لَا تشتبه على من قصد الْحق بتجرد وإخلاص، وَلَا تَلْتَبِس لَا فِي كلياتها وَلَا فِي جزئياتها على من ولى وَجهه شطر كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا الَّذِي يحدث المشاكل ويسبب البلبلة هَذِه الفلسفات وَتلك التأويلات والتحريفات لنصوص الْكتاب وَالسّنة لتوافق مَذْهَب فلَان وتؤيد رأى عَلان، وَإِلَّا كَيفَ يتَصَوَّر أَن عَالما من عُلَمَاء الْأمة الإسلامية يَدعِي مَشْرُوعِيَّة شئ من غير دَلِيل من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس صَحِيح؟.. مَا الَّذِي يحملهُ على ذَلِك؟.. هَل يشْعر بِأَن فِي دين مُحَمَّد عليه السلام نقصا يُرِيد أَن يكمله؟..
والْخُلَاصَة:
أننا نقُول ونعتقد جازمين مائَة على مائَة أَن كل شئ ينفعنا عِنْد الله إِذا التزمنا بِهِ وعملنا بِمُقْتَضَاهُ قد بَينه لنا صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل بَيَان، فَلَا مَكَان فِي الدّين لزِيَادَة، وَلَا مجَال فِيهِ لفلسفة أَو معادلة يُرَاد من وَرَائِهَا استنباط شرعيات قد خفيت على سلف الْأمة وأئمتها.
أما الْمَعْنى الصَّحِيح للْحَدِيث فَهُوَ الَّذِي فهمه أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَرَضي الله عَنْهُم - بِدُونِ إِجْرَاء معادلة وَبِدُون تكلفة وتمحل، وَهُوَ الَّذِي بَيناهُ فِيمَا سبق من هَذَا الْبَحْث؛ فَلَا نعيده.
وَقَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ بعد سِيَاقه الْكَلَام الَّذِي تقدم:
(وجهة نظر)، ثمَّ قَالَ تَحت هَذَا العنوان:"وبالتحقيق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وإثارة النزاع فِيهَا يظْهر أَن النزاع والجدال فِيهَا أَكثر مِمَّا كَانَت تحْتَمل، وَهُوَ إِلَى الشكلي أقرب مِنْهُ إِلَى الْحَقِيقِيّ، وَلَا وجود لَهُ عملياً".
ونناقش فَضِيلَة الشَّيْخ فَنَقُول:
1-
هَذَا اتهام صَرِيح للْعُلَمَاء إِمَّا فِي عُقُولهمْ وأفهامهم، وَإِمَّا فِي مقاصدهم وأغراضهم؛ إِذْ مادام أَن الْجِدَال شكلي كَمَا تَقولُونَ، وَالْخلاف فِيهَا صوري لَا وجود لَهُ فِي الْوَاقِع؛ فَمَا الَّذِي حملهمْ على هَذَا النزاع الطَّوِيل العريض؟ ثمَّ من الْمُتَّهم يَا فَضِيلَة الشَّيْخ بإثارة الْجِدَال وتطوير النزاع الَّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ من الْحَقِيقَة شَيْء؟.. نَحن وجدناك فِي بحثك تميل إِلَى الرَّأْي الْمُخَالف لما ذهب إِلَيْهِ ابْن تَيْمِية فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَهَل هُوَ الْمُتَّهم فِي نظركم؟..
2-
مادام أَن الْجِدَال فِي هَذِه الْقَضِيَّة صوري لَا حَقِيقَة لَهُ، فَمَا الَّذِي دعَاك إِلَى أَن تكْتب صفحات عديدة، وتنفق وقتك وجهدك فِي الْبَحْث وَالتَّحْقِيق والتدليل وَالتَّعْلِيل، وَالتَّرْجِيح والمقارنة وإجراء المعادلات وَنقل الإجماعات الْخَاصَّة والعامة؟.. لِمَ لمْ توفر على نَفسك هَذِه الجهود وَهَذَا الْوَقْت الثمين، وتبدي وجهة نظرك هَذِه مسبقاً فتستريح وتريح؟..
3-
مَا الَّذِي اشْتَمَلت عَلَيْهِ الرسائل الَّتِي ألفت من الطَّرفَيْنِ، كَمَا يَقُول الْكرْمَانِي، وينقل عَنهُ ابْن حجر، وفضيلتكم عَن بني حجر؟.. هَل هُوَ هذيان فارغ وسفسطة لَيْسَ لما معَان؟..
إِن كَانَ كَذَلِك فَهَل هَذَا ناتج عَن سوء فهمهم أم عَن سوء مقاصدهم؟..
4-
ألستم بنفسكم - يَا فَضِيلَة الشَّيْخ - تَقولُونَ: وَلَعَلَّ مَذْهَب البُخَارِيّ حسب صَنِيعه هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور فِي هَذِه الْمَسْأَلَة؟.. أَلَيْسَ معنى هَذَا أَنكُمْ قد فهمتم أَن فِي الْمَسْأَلَة مذهبين، أَحدهمَا لِلْجُمْهُورِ وَالثَّانِي لغير الْجُمْهُور، وَالْأول تبناه السُّبْكِيّ وَالثَّانِي تبناه ابْن تَيْمِية- حسب تقريركم؟ أَلَيْسَ ابْن حجر يَقُول - حسب نقلكم -:" أجمع الْجُمْهُور كَانَ جَوَاز شدّ الرّحال..؟ "، أَلَيْسَ إِذا قيل: مَذْهَب الْجُمْهُور كَذَا؛ فَمَعْنَاه أَن فِي الْمَسْأَلَة مذهبين؟
فَكيف بعد ذَلِك ظهر لفضيلتكم أَن لَا شَيْء من هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَة مَذْهَب وَاحِد؟.. وَأي المذهبين يَا فَضِيلَة الشَّيْخ بدا لكم أَنه لَا وجود لَهُ؟.. هَل هُوَ مَذْهَب ابْن تَيْمِية وَمن وَافقه الَّذِي فِي سَابق تقريركم ومناقشتكم أَنه مَذْهَب شَاذ حَادث بعد مُضِيّ سَبْعَة قُرُون من تَارِيخ الْإِسْلَام؟.. أم مَذْهَب السُّبْكِيّ وَمن وَافقه الَّذِي قررتم فِيمَا تقدم من بحثكم أَنه مَذْهَب الْجُمْهُور.؟.
ثمَّ أَخذ فضيلته يشْرَح وجهة نظره تِلْكَ فَقَالَ:
وَتَحْقِيق ذَلِك كالآتي وَهُوَ: ماداموا متفقين على شدّ الرّحال لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ للسلام على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ومتفقون على السَّلَام على رَسُول الله بِدُونِ شدّ الرّحال، فَلَنْ يَتَأَتَّى لإِنْسَان أَن يشد الرّحال للسلام دون الْمَسْجِد، وَلَا يخْطر ذَلِك على بَال إِنْسَان، وَكَذَلِكَ شدّ الرحل للصَّلَاة فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ دون أَن يسلم على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لن يخْطر على بَال إِنْسَان، وَعَلِيهِ فَلَا انكفاك لأَحَدهمَا عَن الآخر؛ لِأَن الْمَسْجِد النَّبَوِيّ مَا هُوَ إِلَّا بَيت، وَهل بَيته صلى الله عليه وسلم إِلَّا جُزْء من الْمَسْجِد، كَمَا فِي حَدِيث الرَّوْضَة.
ومناقشتنا لفضيلة الشَّيْخ هُنَا فِي نقاط، علما بأنني وَالله لَا أرى هَذَا الْكَلَام يسْتَحق المناقشة:
1-
لماذا (متفقين.. متفقون) ، أليست الثَّانِيَة معطوفة على الأولى بِالْوَاو؟.. أَلَيْسَ التعاطف يَقْتَضِي الِاشْتِرَاك فِي الْإِعْرَاب؟..
2-
تَقولُونَ يَا صَاحب الْفَضِيلَة: إِنَّهُم متفقون على شدّ الرّحال لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ للسلام على رَسُول الله.. أرجوكم إِعَادَة النّظر من الْآن فِي هَذَا الْكَلَام للطبعة القادمة إِن شَاءَ الله؛ لِأَن الْوَاقِع الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْبَحْث من أَوله إِلَى آخِره هِيَ هَذِه النقطة، فَلَو كَانُوا متفقين عَلَيْهَا لم يجر شَيْء من هَذَا الْخلاف أبدا، وَلَا ألّفت مؤلفات من الْجَانِبَيْنِ، وَلَا صَار هُنَاكَ مَذْهَب لِلْجُمْهُورِ وَمذهب لغير الْجُمْهُور كَمَا قررتم، وَلَا سجن شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية، وَلَا قَامَ الْعلمَاء فِي بَغْدَاد وَغَيره للانتصار لَهُ وَالشَّهَادَة بِأَنَّهُ على الْحق، كَمَا قدمنَا نقل ذَلِك من مصادره.
بل الصَّحِيح أَيهَا الشَّيْخ أَنهم متفقون على زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا أمكن ذَلِك بِدُونِ شدّ رَحل، ومتفقون على مَشْرُوعِيَّة شدّ الرّحال لزيارة الْمَسْجِد النَّبَوِيّ للصَّلَاة فِيهِ، لَا لزيارة الْقَبْر.
أما شدّ الرّحال لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ للسلام فموضع خلاف وافتراق لَا مَوضِع اجْتِمَاع واتفاق.
نقُول لفضيلته: مَا معنى قَوْلكُم (فَلَنْ يَتَأَتَّى) ؟ هَل معنى ذَلِك أَنه مُسْتَحِيل؟.. فَمَا وَجه استحالته؟..
أَنا نَفسِي مستعد أَن أثبت لَك أَنه مُمكن بِكُل سهولة وَيسر؛ فأنني لَا أجد أَي مَانع أَو مشكلة لِأَن آتِي عِنْد الْقَبْر الشريف وَأسلم وأنصرف دون أَن أُصَلِّي، وَدون أَن أَجْلِس؛ حَتَّى لَا تلزمني تَحِيَّة الْمَسْجِد وَدخُول الْمَسْجِد ثمَّ الْخُرُوج مِنْهُ بِدُونِ صَلَاة لَا فَائِدَة مِنْهُ، فوجوده وَعَدَمه سَوَاء، وَإِنَّمَا أفعل ذَلِك من أَجلك، حَتَّى إِنَّه يَتَأَتَّى وَغير مُسْتَحِيل كَمَا تصورت، وَكَذَلِكَ باستطاعتي أَن أَقف خَارج الْمَسْجِد، وَأسلم على رَسُول الله ثمَّ أنصرف دون أَن أَدخل الْمَسْجِد.
فَإِن قُلْتُمْ: بذلك لَا تكون قد زرت وَلَا تعْتَبر قد سلمت لِأَنَّك بعيد، أجبتكم بِأَن قلت: أَرَأَيْتُم لَو أَن حَائِط الْحُجْرَة الْمَوْجُود حاليا ألصق بجدار الْمَسْجِد الشرفي وبجداره القبلي، هَل تتوقفون عَن زيارته عليه السلام وَالسَّلَام عَلَيْهِ لِأَن الْقَبْر صَار بَعيدا؟.. إِن قُلْتُمْ نعم، قُلْنَا: موقفكم الْآن للسلام بعيد؛ لِأَن بَيْنكُم وَبَين الْقَبْر مَسَافَة لَيست بقليلة، بل إِن فضيلتكم قررتم أَن رد السَّلَام مِنْهُ عليه السلام يحصل لمن سلم دَاخل الْمَسْجِد، وَلم تحددوا مَكَانا معينا محدودا من الْمَسْجِد، وَالْمَكَان الَّذِي قلت إِنَّنِي أَقف فِيهِ خَارج الْمَسْجِد وَأسلم على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أقرب إِلَى الْقَبْر الشريف من أَكثر نواحي الْمَسْجِد.
تمّ يَقُول فضيلته: وَلَا يخْطر ذَلِك على بَال إِنْسَان.
من الَّذِي يعلم يَا فَضِيلَة الشَّيْخ مَاذَا يخْطر فِي قُلُوب النَّاس، وعَلى بَال كل وَاحِد من بني آدم سوى خالقهم تبارك وتعالى؟ فعلى أَي أساس بنيت هَذَا الْجُزْء الْمُؤَكّد؟.. حَتَّى وَلَو كَانَ ذَلِك كفرا يخرج من الْملَّة الإسلامية فقد خطر الْكفْر على بَال مئات الملايين من الْبشر؛ أَلَسْت ترى أَن أَكثر أَبنَاء الْمُسلمين، وَأَن الملايين من المنتسبين لِلْإِسْلَامِ قد ضيعوا الصَّلَاة، وَمنعُوا الزَّكَاة، وارتكبوا الْفَوَاحِش والمنكرات؟.. أَلَيْسَ كل وَاحِد مِنْهُم يُسمى إنْسَانا؟.. فلماذا مسألتك هَذِه لَا تخطر وَلنْ تخطر على بَال إِنْسَان؟.. أَرَأَيْت لَو علتم أَن شخصا وصل الْمَسْجِد النَّبَوِيّ قادما من مصر أَو الشَّام أَو أَي قطر من أقطار الأَرْض، وَصلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ أَو أَكثر، ثمَّ سَافر وَلم يَأْتِ عِنْد قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا سلم عليه السلام الْخَاص الَّذِي يُقَال عِنْد الْقَبْر، وَلكنه يُصَلِّي وَيسلم على نبيه فِي صلَاته وَعند دُخُول الْمَسْجِد وَعند الْخُرُوج مِنْهُ وَعند ذكره وَفِي كل مُنَاسبَة؛ فبماذا تحكمون عَلَيْهِ يَا فَضِيلَة الشَّيْخ؟.. أتقولون: إِن ذَلِك لن يَتَأَتَّى، نقُول لكم: قد تأتى وَوَقع فعلا، أتقولون إِن ذَلِك لن يخْطر على بَال إِنْسَان.. نقُول لكم: خطر على باله وَوَقع مِنْهُ، أتقولون إِنَّه كفر بذلك؟.. نقُول لكم: لم يكفر، وَلم يرتكب كَبِيرَة من الْكَبَائِر وَلَا صَغِيرَة من الصَّغَائِر؛ فَمن زعم غير ذَلِك فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَدون ذَلِك الدَّلِيل خرط القتاد.