الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: منهجه في كتاب التاريخ
…
منهجه في كتابة التاريخ:
فرَّق ابن أبي شيبة رحمه الله في كتابة التاريخ بين التاريخ بمعنى الأخبار والحوادث والأحوال، وبين التاريخ بمعنى التوقيت والتقويم، وأورد في كل منهما ما يناسبه، وقدم الأول وابتدأه بالحديث عن معركة اليمامة1 ثم ذكر بعده كثيراً من أخبار المعارك الإسلامية التالية مثل القادسية وتستر واليرموك.
وقد فَصَل ابن أبي شيبة بين أحداث المغازي، وبين أحداث التاريخ وعقد الحديث في الأولى عن الغزوات الإسلامية في عهد الرسول عليه السلام، بينما أورد أحداث المعارك في العهود التالية في كتاب التاريخ.
وقد يعود ذلك إلى أن مفهوم الفصل بين التاريخ والمغازي ظل قائماً حتى عصره.
ثم إنه لما كان مُحدثاً واتَّبع منهج أهل الحديث في كتابة التاريخ، فإن ترتيب موضوعات مصنفه اقتضى أن يقسم التاريخ إلى غزوات وأحداث عامة، وأن يجعل الغزوات تلي باب الجهاد مباشرة ثم يذكر بعدها حوادث تاريخ المسلمين ذات العلاقة كالمعارك والفتوح2.
كما أن هناك تشابهاً كبيراً في باب المغازي بين ابن أبي شيبة والإمام الصنعاني (ت 211 هـ) من أصحاب المصنفات، فهما يتحدثان فيه عن سيرة الرسول المبكرة مثل زواجه ونزول الوحي عليه، ثم يتحدثون فيه عن أوائل من أسلم من الصحابة، وقد توسع في ذلك ابن أبي شيبة أكثر من الصنعاني3.
وتبع هذا توسعه في المادة العلمية عن كل غزوة، بينما كان الإمام البخاري أكثر تحديداً وقصراً له على المغازي من الاثنين.
1 ابن أبي شيبة ج12 ص547.
2 ابن أبي شيبة ج13 ص5-30.
3 ابن أبي شيبة ج14 ص310-539.
وقد راعى ابن أبي شيبة التسلسل الموضوعي في ذكر الأحداث وأوضح أمثلته ما أورده منها في كتاب التاريخ، فقد شمل معركة اليمامة، وقدوم خالد بن الوليد الحيرة، ومعركة القادسية وجلولاء، ثم تحدث عن فتح بعض أقاليم فارس مثل الجبل ومعركة تستر، ثم أتبع ذلك بذكر مرويات معركة اليرموك وتوجه عمر- رضي الله عنه إلى بيت المقدس1.
أما ما ورد عنده بشأن تأخير بيعة العقبة في كتاب المغازي بعد أخبار خلافة علي بن أبي طالب2. فهو غير مألوف في منهجه زمنياً أو موضوعياً، ويظهر أنه من أخطاء أحد النساخ، وله نظائر عند الصنعاني، فقد جاءت غزوة الحديبية مقدمة في ذكر أخبارها مقدمة على غيرها من الغزوات بما فيها بدر3. للسبب نفسه فيما يبدو.
والملاحظ أن ابن أبي شيبة قصر تاريخه على ذكر أخبار المعارك والفتوح الإسلامية وما يتعلق بها ولم يعن بذكر أخبار الحكام والبلدان والحواضر التي تمثل طوراً مهماً من أطوار مفهوم التاريخ عند المسلمين ومراحل كتابته المبكرة.
أما كتبه التاريخية الأخرى مثل الجمل وصفين، فهي موضوعية تدور رواياتها حول موضوع كل كتاب، ويظهر أن المصنف لم يراع ترتيباً معيناً لها سوى سياق الموضوع وتسلسل أحداثه في بعض الأحيان، أما كتابه الفتوح، فهو مفقود ولم نظفر بوصف له.
ومن مظاهر الثقة في منهج ابن أبي شيبة في تدوين مروياته ومنها ما يخص الحوادث التاريخية في كتبه وأبوابها عنده، إن كثيراً من رواياته جاءت بنصها أو
1 يبلغ مجموع صفحات كتاب التاريخ 122 صفحة، وتقع في جزء 12 من ص547-805، وفي جزء 13 من ص5-94، ويعمل الباحث على تحقيق نصوصه.
2 ابن أبي شيبة ج14 ص597.
3 الصنعاني: المصنف ج5 ص330.
بمعناها في الصحيحين بعد ذلك، وهذا يدل على مدى الثقة والتحري الذي راعاه المصنف حتى أخذ الشيخان ببعض ما ذكره على الرغم من دقة تحريهما وشروطهما الدقيقة في صحة ما يثبتانه في الصحيحين.
كما أن ابن أبي شيبة يذكر روايات مباشرة عن الأحداث التاريخية، ولذا ورد كثيراً منها بلفظ (شهدت) و (رأيت)1. ومرويات شهود العيان بعد نقدها من أهم مقومات الدراسة التاريخية.
وكثيراً ما يذكر أن ما قام به هو من حفظه ومن ثم دَوَّنهُ في مصنفه حوله إحدى الغزوات وينص على ذلك بقوله (ما حفظت) في غزوة كذا 2.
ولكن من الملاحظ كثرة الروايات القصيرة في الأحداث التاريخية عند ابن أبي شيبة مقارنة بابن إسحاق قبله ومعاصره ابن سعد. وقد يعود هذا إلى اعتماده على الحفظ الذي أشار إليه كثيراً وهو مما لا يساعد في العادة إلى إيراد المطولات من الأحاديث والأخبار وتحتاج إلى الرجوع إلى المدون فيها، وعلى الرغم من ذلك لم تخل مدوناته التاريخية منها.
وقد اتبع ابن أبي شيبة أسلوب تكرار الرواية في الحدث التاريخي الواحد أحياناً وفقاً لتعدد طرقه أو مصادره، فهو المنهج الذي سار عليه بعض المؤرخين، كابن إسحاق والطبري.
وهو أسلوب يتيح للقارئ المقارنة والنقد إلا أن أبي شيبة لم يكثر منه، وربما يعود ذلك أنه استبعد منذ البداية بعض الروايات التي لم تثبت عنده.
ودرج على ذكر الروايات المختلفة حول الموضوع الواحد وأمثلته كثيرة منها ذكره لاختلاف الروايات حول مدة بقاء الرسول عليه السلام في مكة والمدينة 3.
1 ابن أبي شيبة ج13 ص34-35.
2 المصدر السابق ج14 ص424، 427، 512.
3 ابن أبي شيبة: المصنف ج14 ص291.
كما يأتي أحياناً بالروايات المتعارضة في الموضوع الواحد بين الإجازة والتحريم مثل روايات الاستعانة بالمشركين من عدمها.1
ومن ملامح منهجه أنه يأتي بالرواية الواحدة في أكثر من موضع حسب مناسبته له فقد جاء بأحاديث في كتاب الأمراء، وجاء بها في كتاب الفتن، إلا أنه لم يكثر من ذلك على غرار ما وضح عند الإِمام2مسلم عندما جاء بأحاديث غزوة تبوك في عشرة مواضع في صحيحه تبعاً لمناسبتها لها 3.
كما يبدو أنه تأثر بطريقة عروة بن الزبير في الجمع بين أسانيد عدة روايات في سبيل تأليف حادثة متكاملة وهو المنهج الذي اتبعه أيضاً ابن شهاب الزهري وابن إسحاق في بعض الحوادث4. ويظهر ذلك واضحاً في المقارنة بين مروياته وبعض مرويات عمر به شبة في مقتل عثمان رضي الله عنه.
أما الاقتصار على ذكر سند الرواية والتنويه بمشابهة سابقتها في المتن فكثير عنده5.
وقد اتسم أسلوبه بالرصانة ونصاعة العبارة في سرد الحوادث التاريخية، فهو أحد العلماء بخلاف أصحاب المرويات التاريخية من الإخباريين وغيرهم.
وأخيراً فإن تأليف ابن أبي شيبة في هذه الموضوعات كالجمل، قد يكون أحد أساليب النقد والرد على مؤلفات آخرين سبقوه، وبالذات المؤرخين الشيعة الذين غالوا وشوهوا حقائق تلك الأحداث من أمثال أبي مخنف صاحب
1 المصدر السابق ج12 ص394- 395.
2 المصدر السابق ج11 ص139.
3 سليمان العودة: السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق ص108.
4 محمد الأعظمي: مقدمة كتاب مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن الزبير ص68.
5 ابن أبي شيبة: المصنف ج12 ص136.
كتب الجمل وصفين ومقتل الحسين1. ونصر بن مزاحم صاحب كتاب صفين.
إلا أن روايات الجميع في التاريخ ينبغي أن تخضع لمنهج الجرح والتعديل سنداً ومتناً لتحديد ما يثبت منها وما يمكن التساهل في قبوله ورد ما عدا ذلك.
موارده:
لم يذكر ابن أبي شيبة في بداية مصنفه أسماء مصادره التي اعتمد عليه، لاسيما أنه لم يضمن مصنفه مقدمة يمكن أن يشير فيها إلى ذلك وابتدأ مباشرة بأحد الموضوعات الفقهية أو هكذا وصلنا مصنفه. ولكن من خلال تتبع رواياته التاريخية يمكن حصر عدد كبير من الرواة الذين نقل أو سمع منهم، فهو ينص عليهم في بداية كل رواية بقوله: حدثنا، أو قال فلان، ويذكر اسمه.
وعلى العموم فقد غلب على موارده الاعتماد على ثقاة الرواة وأهل الاختصاص في الوقت نفسه مثل ابن عباس2 وابن شهاب الزهري3 وعروة بن الزبير4. فقد كانوا من حيث الثقة من رواة الصحيحين، وكانوا ذوي اهتمام وتأليف في أحداث السيرة بالذات، فإن ابن عباس روى الكثير منها وقد يكون له كتاب فيها5، وعروة أبن الزبير هو أول من صنف كتاباً في المغازي6، وابن شهاب الزهري معروف كتابه القيم في السيرة، وإذا عرفنا أن الزهريَ وعروة كانا
1 النديم: الفهرست ص105.
وأبو مخنف لوط بن يحيى إخباري تالف وشيعي محترق، أما نصر ابن مزاحم المنقري فهو رافضي جلد متروك. انظر على الترتيب الذهبي: ميزان الاعتدال ج4 ص253؛ ج3 ص417-418.
2 ابن أبي شيبة: المصنف ج14 ص376.
3 المصدر السابق ج14 ص391، 405، 440، 455، 470.
4 المصدر السابق ج14 ص312، 377، 404، 416، 417، 424، 428، 429.
5 محمد الأعظمي: مقدمة كتاب مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن الزبير ص23.
6 ابن كثير: البداية والنهاية ج، ص101.
من أكثر رواة الأحداث التاريخية عند البخاري، أدركنا القيمة الكبيرة لمرويات ابن أبي شيبة عنهما.
كما تلقى كثيراً من الروايات عن عدد كبير من الثقاة في عصره وبعضها كان عن شيوخه. فقد أكثر من الأخذ عن حماد بن سلمة (ت 167هـ) أحد أئمة الحديث والثقاة الأعلام في عصره. وقد أخذ عنه في المغازي.1.
كما أخذ عن عبد الله بن إدريس (ت 197هـ) وهو أحد العلماء الذين رشحهم الرشيد للقضاء فلم يقبل، ووصفه الإمام أحمد بن حنبل بأنه نسيج وحده، تتلمذ عليه ابن أبي شيبة وكان جاراً له2، فأكثر من الرواية عنه في أحداث المغازي والجمل وكتاب التاريخ.
وممن أخذ عنه يحيى بن آدم (ت 202 هـ) وهو أحد الثقاة فقد وثقه يحي بن معين3، ووصفه ابن حبان بالإتقان 4.
وله كتاب في الخراج مشهور وقد حدث عنه ابن أبي شيبة في أخبار الجمل وصفين، ونقل عنه عدة مرويات فيهما لا توجد في كتابه الخراج وهي إما مأخوذة عنه بالسماع أو منقولة من أحد كتبه الأخرى التي لم تصل إلينا. كما أكثر من الرواية في التاريخ والمغازي عن أبي أسامة واسمه حماد بن أسامة5 وعلي بن مسهر6 وعفان بن مسلم الصفار7 وكلهم ثقاة. وإذا كان ابن أبي شيبة أكثر عن هؤلاء فإنه أخذ عن كثير غيرهم.
1 الذهبي: ميزان الاعتدال ج1 ص590-593.
2 الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج9 ص417 –418- 420.
3 عثمان بن سعيد الدارمي تاريخه ص227.
4 ابن حجر: تهذيب التهذيب ج11 ص517.
5 عثمان به سعيد الدارمي: تاريخه ص92، المقدمي: كتاب التاريخ ص131.
6 عثمان بن سعيد الدارمي: تاريخه ص70.
7 الذهبي: ميزان الاعتدال ج3 ص81-82.