المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول تعريف وبيان - عالم الجن والشياطين

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الفصل الأول تعريف وبيان

‌الفصل الأول تعريف وبيان

التعريف بعالم الجن والشياطين

الجن عالم مستقل:

الجن عالم غير عالم الإنسان وعالم الملائكة، بينهم وبين الإنسان قدر مشترك من حيث الاتصاف بصفة العقل والإدراك، ومن حيث القدرة على اختيار طريق الخير والشر، ويخالفون الإنسان في أمور أهمها أن أصل الجان مخالف لأصل الإنسان.

لماذا سمّوا جنّاً:

وسمو جنّاً لاجتنانهم، أي: استتارهم عن العيون، قال ابن عقيل:" إنما سمّي الجن جنّاً لاجتنانهم واستتارهم عن العيون، ومنه سمي الجنين جنيناً، وسمّي المجنّ مجناً لستره للمقاتل في الحرب "(1) .

وجاء في محكم التنزيل: (إنَّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم)[الأعراف: 27] .

أصلهم وخلقهم

المطلب الأول

أصلهم الذي منه خلقوا

أخبرنا الله - جلّ وعلا - أن الجنّ قد خُلقوا من النار في قوله: (وَالْجَآنَّ خلقناه من قبل من نّار السَّموم)[الحجر: 27]، وفي سورة الرحمن:(وخلق الجانَّ من مَّارجٍ من نَّارٍ)[الرحمن: 15] . وقد قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن وغير واحد في قوله:(مَّارجٍ من نَّارٍ) : طرف اللهب، وفي رواية: من خالصه وأحسنه (2) : وقال النووي في شرحه على مسلم: " المارج: اللهب المختلط بسواد النار "(3) .

وفي الحديث الذي أخرجه مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلقتْ الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)(4) .

المطلب الثاني

ابتداء خلقهم

لا شك أن خلق الجن متقدم على خلق الإنسان؛ لقوله تعالى: (ولقد خلقنا

(1) آكام المرجان في أحكام الجان: ص7.

(2)

البداية والنهاية: 1/59.

(3)

شرح النووي على مسلم: 18/123.

(4)

صحيح مسلم: 4/2294. ورقمه: 2996.

ص: 11

الإنسان من صلصالٍ من حَمَإٍ مَّسنونٍ - والجآنَّ خلقناه من قبل من نَّار السَّموم) [الحجر: 26-27] ، فقد نصّ في الآية أن الجان مخلوق قبل الإنسان. ويرى بعض السابقين أنهم خلقوا قبل الإنسان بألفي عام، وهذا لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة.

المطلب الثالث

صفة خلقة الجن

نحن لا نعرف من خلقتهم وصورهم وحواسهم إلا ما عرفنا الله منها، فنعلم أن لهم قلوباً قال تعالى:(ولقد ذرأنا لجهنَّم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلُّ)[الأعراف: 179] .

فقد صرح تبارك وتعالى بأن للجن قلوباً، وأعيناً وآذاناً، وللشيطان صوتاً، لقوله تعالى:(واستفزز من استطعت منهم بصوتك)[الإسراء: 64] . وثبت في الأحاديث أن للشيطان لساناً، وأن الجان يأكلون، ويشربون، ويضحكون، وغير ذلك مما تجده مبثوثاً في هذا الكتاب.

المطلب الرابع

أسماء الجن في لغة العرب وأصنافهم

قال ابن عبد البر: " الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان على مراتب:

1-

فإذا ذكروا الجن خالصاً قالوا: جنّي.

2-

فإذا أرادوا أنه مما يسكن مع الناس، قالوا: عامر، والجمع: عمّار.

3-

فإن كان مما يعرض للصبيان قالوا: أرواح.

4-

فإن خبث وتعرض، قالوا: شيطان.

5-

فإن زاد على ذلك، فهو مارد.

6-

فإن زاد على ذلك وقوي أمره، قالوا: عفريت، والجمع: عفاريت " (1) .

وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ (الجن ثلاثة أصناف: فصنف يطير في الهواء، وصنف حيّات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون) . رواه الطبراني، والحاكم، والبيهقي في الأسماء والصفات، بإسناد صحيح (2) .

إثبات وجود الجن

المطلب الأول

لا مجال للتكذيب بعالم الجن

أنكرت قلة من الناس وجود الجنّ إنكاراً كلياً، وزعم بعض المشركين: أن المراد بالجن أرواح الكواكب (3) .

وزعمت طائفة من الفلاسفة: أن المراد بالجن نوازع الشر في النفس الإنسانية وقواها الخبيثة، كما أن المراد بالملائكة نوازع الخير فيها (4) .

(1) آكام المرجان: 8.

(2)

صحيح الجامع: 3/85.

(3)

مجموع الفتاوى: 24/280.

(4)

مجموع الفتاوى: 4/346.

ص: 12

وزعم فريق من المحْدَثين (بفتح الدال المخففة) : أن الجن هم الجراثيم والميكروبات التي كشف عنها العلم الحديث.

وقد ذهب الدكتور محمد البهي إلى: أن المراد بالجن الملائكة، فالجن والملائكة عنده عالم واحد لا فرق بينهما، ومما استدل به: أن الملائكة مستترون عن الناس، إلا أنه أدخل في الجن من يتخفى من عالم الإنسان في إيمانه وكفره، وخيره وشره (1) .

عدم العلم ليس دليلاً:

وغاية ما عند هؤلاء المكذبين أنه لا علم عندهم بوجودهم، وعدم العلم ليس دليلاً (2) ، وقبيح بالعاقل أن ينفي الشيء لعدم علمه بوجوده، وهذا مما نعاه الله على الكفرة:(بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه)[يونس: 39] . وهذه المخترعات الحديثة التي لا يستطيع أحد أن يكابر فيها، أكان يجوز لإنسان عاش منذ مئات السنين أن ينكر إمكان حصولها لو أخبره صادق بذلك؟ وهل عدم سماعنا للأصوات التي يعج بها الكون في كل مكان دليل على عدم وجودها، حتى إذا اخترعنا (الراديو) ، واستطاع التقاط ما لا نسمع بآذاننا صدقنا بذلك؟!

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في ظلاله متحدثاً عن النفر من الجن الذين صرفهم الله إلى رسوله، فاستمعوا منه القرآن.

" إنَّ ذكر القرآن لحادث صَرْفِ نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، وحكاية ما قالوا وما فعلوا، هذا وحده كافٍ بذاته لتقرير وجود الجن، ولتقرير وقوع الحادث، ولتقرير أنّ الجن هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق، كما يلفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران، مستعدون للهدى وللضلال، وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة، فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها سبحانه ثبوتاً.

ولكنّا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني.

إنّ هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار، حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنهاً وصفةً وأثراً، ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار، نعرف منها القليل، ونجهل منها الكثير، وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار، وندرك بعض هذه القوى، ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق تارة بذواتها، وتارة بصفاتها، وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا.

ونحن ما نزال في أول الطريق، طريق المعرفة لهذا الكون، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا، ويعش أبناؤنا وأحفادنا، على ذرة من ذراته الصغيرة؛ هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئاً يذكر في حجم الكون أو وزنه!

وما عرفنا اليوم - ونحن في أول الطريق - يُعدّ بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن، ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم، لظنه مجنوناً، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعاً!

ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية، المعدة للخلافة في هذه الأرض، ووفق مقتضيات هذه الخلافة، وفي دائرة ما سَخّرَه الله لنا؛ ليكشف لنا عن أسراره، وليكون لنا ذلولاً، كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض، ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها مهما امتد بنا الأجل - أي بالبشرية - ومهما سُخّر لنا من قوى الكون، وكُشِفَ لنا من أسراره - لا تتعدى تلك الدائرة؛ ما نحتاج إليه للخلافة في هذه الأرض، وفق حكمة الله وتقديره.

وسنكشف كثيراً، وسنعرف كثيراً، وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته، مِمّا قد تعدّ أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة، وفي حدود قول الله سبحانه:(وما أوتيتم من العلم إلَاّ قليلاً)[الإسراء: 85] قليلاً بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وَقَيّومه، وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود، ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله:(ولو أنَّما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمدُّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله)[لقمان: 27] .

فليس لنا والحالة هذه أن نجزم بوجود شيء أو نفيه، وبتصوره أو عدم تصوره، من عالم الغيب والمجهول، ومن أسرار هذا الوجود وقواه، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي، أو تجاربنا المشهودة، ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها، فضلاً عن إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا!

وقد تكون هنالك أسرار، ليست داخلة في برنامج ما يُكشَف لنا عنه أصلاً، وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يُكْشَف لنا عن كنهه، فلا يُكْشَف لنا إلا عن صفته أو أثره، أو مجرد وجوده؛ لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض.

فإذا كَشَفَ الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى، عن طريق كلامه - لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضاً - فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقّى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم، نتلقاها كما هي، فلا نزيد عليها، ولا ننقص منها؛ لأن المصدر الوحيد الذي نتلقّى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة، وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار! ".

والقول الحق أن الجن عالم ثالث غير الملائكة والبشر، وأنهم مخلوقات عاقلة واعية مدركة، ليسوا بأعراض ولا جراثيم، وأنهم مكلفون مأمورون منهيون.

(1) تفسير سورة الجن: ص 8.

(2)

ليس لهم أن يحتجوا بما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان ينكر مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم للجن وتكليمهم له، فإن إنكاره هنا للمشافهة لا للجن، ومع ذلك فغير ابن عباس كابن مسعود - يثبت مشافهة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

ص: 13

المطلب الثاني

الأدلة الدالة على وجود الجن

1-

وجودهم معلوم من الدين بالضرورة:

يقول ابن تيمية (1) : " لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن. أمّا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فهم مقرّون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك، كما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك

كالجهمية والمعتزلة، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرّين بذلك.

وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالضرورة، ومعلوم بالضرورة أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضاً قائمة بالإنسان أو غيره، كما يزعمه بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواتراً عن الأنبياء تواتراً تعرفه العامة والخاصة، فلا يمكن لطائفة من المنتسبين إلى الرسل الكرام أن تنكرهم ".

وقال أيضاً: " جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن، وكذلك جمهور الكفار كعامة أهل الكتاب، وكذلك عامة مشركي العرب وغيرهم من أولاد حام، وكذلك جمهور الكنعانيين واليونان من أولاد يافث، فجماهير الطوائف تقرّ بوجود الجن "(2) .

وذكر إمام الحرمين: " أن العلماء أجمعوا في عصر الصحابة والتابعين على وجود الجن والشياطين، والاستعاذة بالله تعالى من شرورهم، ولا يراغم هذا الاتفاق متدين متشبث بمسكة من الدين "(3) .

2-

النصوص القرآنية والحديثية:

جاءَت نصوص كثيرة تقرر وجودهم كقوله تعالى: (قل أوحي إليَّ أنَّه استمع نفرٌ من الجن)[الجن: 1]، وقوله:(وأنَّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجن فزادوهم رهقاً)[الجن: 6] . وهي نصوص كثيرة ذكرنا غالبها في ثنايا هذه الرسالة، وإن كانت كثرتها وشهرتها تغني عن ذكرها.

(1) مجموع الفتاوى: 19/10.

(2)

مجموع الفتاوى 19/13.

(3)

آكام المرجان: ص 4.

ص: 14

3-

المشاهدة والرؤية:

كثير من الناس في عصرنا وقبل عصرنا شاهد شيئاً من ذلك، وإن كان كثير من الذين يشاهدونهم ويسمعونهم لا يعرفون أنهم جنّ؛ إذ يزعمون أنّهم أرواح، أو رجال الغيب، أو رجال الفضاء

وأصدق ما يروى في هذا الموضع رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم للجن، وحديثه معهم، وحديثهم معه، وتعليمه إياهم، وتلاوته القرآن عليهم، وسيأتي ذكر ذلك في مواضعه.

ص: 15

رؤية الحمار والكلب للجن:

إذا كنا لا نرى الجن فإنّ بعض الأحياء يرونهم كالحمار والكلب، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطاناً)(1) .

وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم نباح الكلب ونهيق الحمار، فتعوذوا بالله، فإنهن يرون ما لا ترون)(2) .

ورؤية الحيوان لما لا نرى ليس غريباً، فقد تحقق العلماء من قدرة بعض الأحياء على رؤية ما لا نراه، فالنحل يرى الأشعة فوق البنفسجية، ولذلك فإنّه يرى الشمس حال الغيم، والبومة ترى الفأر في ظلمة الليل البهيم....

المطلب الثالث

الرد على الذين يزعمون أن الجن هم الملائكة

سبق أن ذكرنا الحديث الذي يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (أن الملائكة خلقوا من نور، وأن الجن خلقوا من نار) ، ففرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأصلين، وهذا يدل على أنهما عالمان لا عالماً واحداً.

ومن نظر في النصوص المتحدثة عن الملائكة والجن، أيقن بالفرق الكبير بينهما، فالملائكة لا يأكلون ولا يشربون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، والجن يكذبون ويأكلون ويشربون، ويعصون ربهم، ويخالفون أمره.

نعم هما عالمان محجوبان عنا، لا تدركهما أبصارنا، ولكنهما عالمان مختلفان في أصلهما وصفاتهما.

الشيطان والجان

المطلب الأول

التعريف بالشيطان

الشيطان الذي حدثنا الله عنه كثيراً في القرآن من عالم الجنّ، كان يعبد الله في بداية أمره، وسكن السماء مع الملائكة، ودخل الجنة، ثمّ عصى ربه عندما أمره أن يسجد لآدم، استكباراً وعلواً، فطرده الله من رحمته.

والشيطان في لغة العرب يطلق على كل عاتٍ متمرد، وقد أطلق على هذا المخلوق لعتوّه وتمرده على ربّه (شيطان) . وأطلق عليه لفظ (الطاغوت) :(الَّذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والَّذين كفروا يقاتلون في سبيل الطَّاغوت فقاتلوا أولياء الشَّيطان إنَّ كيد الشَّيطان كان ضعيفاً)[النساء: 76] . وهذا الاسم معلوم عند غالبية أمم الأرض باللفظ نفسه، كما يذكر العقاد في كتابه (إبليس) ، وإنما سمي طاغوتاً لتجاوزه حده، وتمرده على ربه، وتنصيبه نفسه إلهاً يعبد.

وقد يئس هذا المخلوق من رحمة الله، ولذا أسماه الله (إبليس) . والَبَلَس في لغة العرب: من لا خير عنده، وأبلس: يئس وتحيّر.

(1) رواه البخاري: 6/350. ورقمه: 3303. ورواه مسلم: 4/2092. ورقمه: 2729. وأبو داود في سننه. انظر صحيح سنن أبي داود: 3/961. ورقمه: 4255.

(2)

صحي سنن أبي داود: 3/961. ورقمه: 4256.

ص: 16

والذي يطالع ما جاء في القرآن والحديث عن الشيطان يعلم أنه مخلوق يعقل ويدرك ويتحرك و....، وليس كما يقول بعض الذين لا يعلمون:" إنه روح الشّر متمثلة في غرائز الإنسان الحيوانية التي تصرفه - إذا تمكنت من قلبه - عن المثل الروحية العليا "(1) .

المطلب الثاني

أصل الشيطان

سبق القول أن الشيطان من الجن، وقد نازع في هذه المسألة بعض المتقدمين والمتأخرين، وحجتهم في ذلك قوله تعالى:(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلَاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)[البقرة: 34] . وهذه الآية وأمثالها يستثني الله فيها إبليس من الملائكة، والمستثنى لا يكون إلا من جنس المستثنى منه عادة.

وقد نقلت لنا كتب التفسير والتاريخ أقوال عدد من العلماء، يذكرون أن إبليس كان من الملائكة، وأنه كان خازناً للجنة، أو للسماء الدنيا، وأنه كان من أشرف الملائكة، وأكرمهم قبيلة.... إلى آخر تلك الأقوال.

قال ابن كثير: " وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها، ومنها ما يقطع بكذبه؛ لمخالفته للحقّ الذي بأيدينا.

وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفّاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالبين، وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة من الأئمة، والعلماء، والسادة، والأتقياء، والبررة، والنجباء من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث، وحرروا وبينوا صحيحه، من حسنه، من ضعيفه، من منكره، وموضوعه، ومتروكه، ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين، والكذابين، والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال.

(1) دائرة المعارف الحديثة: ص357.

ص: 17

كل ذلك صيانة للجناب النبوي، والمقام المحمدي خاتم الرسل، وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه كذب، أو يحدث عنه بما ليس فيه " (1) .

وما احتجوا به من أن الله استثنى إبليس من الملائكة

ليس دليلاً قاطعاً، لاحتمال أن يكون الاستثناء منقطعاً، بل هو كذلك حقا، للنصّ على أنّه من الجن في قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلَاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه

) [الكهف: 50] .

وقد ثبت لدينا بالنص الصحيح أن الجن غير الملائكة والإنس، فقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم:(أن الملائكة خلقوا من نور، وأن الجن خلقوا من مارج من نار، وأن آدم خلق من طين) . والحديث في صحيح مسلم.

قال الحسن البصري: " لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين "(2) . والذي حققه ابن تيمية: " أن الشيطان كان من الملائكة باعتبار صورته، وليس منهم باعتبار أصله، ولا باعتبار مثاله "(3) .

هل الشيطان أصل الجن أم واحد منهم؟

ليس لدينا نصوص صريحة تدلنا على أن الشيطان أصل الجن، أو واحد منهم، وإن كان هذا الأخير أظهر لقوله:(إلَاّ إبليس كان من الجن)[الكهف: 50] .

وابن تيمية رحمه الله يذهب إلى أن الشيطان أصل الجن، كما أنّ آدم أصل الإنس (4) .

المطلب الثالث

قبح صورة الشيطان

الشيطان قبيح الصورة، وهذا مستقر في الأذهان، وقد شبه الله ثمار شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم برؤوس الشياطين، لما علم من قبح صورهم وأشكالهم (إنَّها شجرةٌ تخرج في أصل الجحيم - طلعها كأنَّه رُؤُوسُ الشَّياطين) [الصافات: 64-65] .

وقد كان النصارى في القرون الوسطى يصورون الشيطان على هيئة رجل أسود ذي لحية مدببة، وحواجب مرفوعة، وفم ينفث لهباً، وقرون وأظلاف وذيل (5) .

المطلب الرابع

الشيطان له قرنان

في صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تَحَرّوا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإنّها تطلع بقرني شيطان)(6) .

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز الشمس، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب، ولا تَحَيُّنوا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإنّها تطلع بين قرني شيطان)(7) .

والمعنى أن طوائف المشركين كانوا يعبدون الشمس، ويسجدون لها عند طلوعها، وعند غروبها، فعند ذلك ينتصب الشيطان في الجهة التي تكون فيها الشمس، حتى تكون عبادتهم له.

وقد جاء هذا مصرحاً به في صحي مسلم، فقد سأل عمرو بن عبسة السلمي الرسول عن الصلاة. فقال صلى الله عليه وسلم:(صل صلاة الصبح، ثم أقصر الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار، ثمّ صلَّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة) .

ثم نهاه عن الصلاة بعد العصر (حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار)(8) .

وقد نهينا عن الصلاة في هذين الوقتين، والصحيح أن الصلاة في هذين الوقتين جائزة، إذا كان لها سبب كتحية المسجد، ولا تجوز بلا سبب كالنفل المطلق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تَحَيّنوا) ؛ أي لا تتقصدوا.

ومما ورد فيه ذكر قرن الشيطان حديث البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى المشرق، فقال:(ها إنَّ الفتنة هاهنا، إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان)(9) . والمراد بقوله: (حين يطلع الشيطان) ؛ أي جهة الشرق.

طعام الجن وشرابهم ونكاحهم

المطلب الأول

طعامهم وشرابهم

الجن - والشيطان منهم - يأكلون ويشربون، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صل الله عليه وسلم - أمره أن يأتيه بأحجار يستجمر

(1) تفسير ابن كثير: 4/397.

(2)

البداية والنهاية: 1/79.

(3)

مجموع الفتاوى: 4/346.

(4)

راجع مجموع الفتاوى: 4/235، 346.

(5)

دائرة المعارف الحديثة: 357.

(6)

صحيح مسلم: 1/567. ورقمه: 828.

(7)

رواه البخاري: 6/335. ورقمه: 3272، 3273. ورواه مسلم إلى قوله: (حتى تغيب) : 1/568. ورقمه: 829.

(8)

رواه مسلم: 1/569، ورقمه:832.

(9)

رواه البخاري: 6/336. ورقمه: 3279.

ص: 18

بها وقال له: (ولا تأتيني بعظم ولا روثة) ، ولما سأل أبو هريرة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن سرّ نهيه عن العظم والروثة، قال:(هما من طعام الجن، وإنّه أتاني وفد جن نصيبين - ونعم الجن - فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم: أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعماً)(1) .

وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام، فإنّه زاد إخوانكم من الجن)(2) .

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن)، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال:(لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علفٌ لدوابكم) . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم)(3) .

وكون الروث طعاماً للجن أو لدوابهم ليس العلة الوحيدة للنهي عن الاستنجاء بالروث، فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم علة أخرى، فقد صرح بأن الروث رجس (4) .

وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الشيطان يأكل بشماله، وأمرنا بمخالفته في ذلك، روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله)(5) .

وفي صحيح مسلم: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء)(6) . ففي هذه النصوص دلالة قاطعة على أن الشياطين تأكل وتشرب.

وكما أن الإنس منهيون عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من اللحوم،

(1) رواه البخاري: 7/171. ورقمه: 3860. والطعم: الطعام. قال ابن حجر (فتح الباري: 7/73) : " في رواية السرخسي: (إلا وجدوا عليها طعاماً) .

(2)

صحيح سنن الترمذي: 1/8. ورقمه: 17.

(3)

رواه مسلم: 1/332. ورقمه: 450. صحيح سنن الترمذي: 3/104. ورقمه: 2595. إذا كنّا نهينا عن إفساد طعام الجن فيحرم علينا من باب أولى إفساد طعام الإنس.

(4)

هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه: 1/256. ورقمه: 156.

(5)

رواه مسلم: 3/1598. ورقمه: 2020.

(6)

صحيح مسلم: 3/1598. ورقمه: 2018.

ص: 19

فكذلك الجن المؤمنون جعل لهم الرسول صلى الله عليه وسلم طعاماً كل عظم ذكر اسم الله عليه، فلم يبح لهم متروك التسمية، ويبقى متروك التسمية لشياطين كفرة الجن، فإن الشياطين يستحلون الطعام إذا لم يذكر عليه اسم الله، ولأجل ذلك ذهب بعض العلماء إلى أن الميتة طعام الشياطين؛ لأنه لم يذكر اسم الله عليها.

واستنتج ابن القيم من قوله تعالى: (إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشَّيطان)[المائدة: 90] أن المسكر شراب الشيطان، فهو يشرب من الشراب الذي عمله أولياؤه بأمره، وشاركهم في عمله، فيشاركهم في شربه، وإثمه وعقوبته.

ويدل على صحة استنتاج ابن القيم ما رواه النسائي عن عبد الله بن يزيد قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أما بعد: فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان؛ فإن له اثنين، ولكم واحد "(1) .

المطلب الثاني

تزاوج الجن وتكاثرهم

الذي يظهر أن الجن يقع منهم النكاح، وقد استدل بعض العلماء على ذلك بقوله تعالى في أزواج أهل الجنة:(لم يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ)[الرحمن: 56] . والطمث في لغة العرب: الجماع، وقيل هو الجماع الذي يكون معه تدمية تنتج عن الجماع.

وذكر السفاريني حديثاً يحتاج إلى نظر في إسناده، يقول:(إن الجن يتوالدون، كما يتوالد بنو آدم، وهم أكثر عدداً)(2) .

وسواء أصح هذا الحديث أم لم يصح، فإن الآية صريحة في أن الجن يتأتى منهم الطمث، وحسبنا هذا دليلاً.

وأخبرنا ربنا أن الشيطان له ذرية، قال تعالى مبكتاً عباده الذين يتولون الشيطان وذريته:(أفتتخذونه وذريَّته أولياء من دوني وهم لكم عدو)[الكهف: 50]، وقال قتادة:" أولاد الشيطان يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وهم أكثر عدداً "(3) .

المطلب الثالث

دعوى بعض أهل العلم أن الجن لا يأكلون

ولا يشربون ولا يتناكحون

وقد زعم قوم أن الجن لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتناكحون، وهذا القول تبطله الأدلة التي سقناها من الكتاب والسنة.

وذكر بعض العلماء أن الجن أنواع: منهم من يأكل ويشرب، ومنهم من ليس كذلك؛ يقول وهب بن منبه:" الجنّ أجناس، فأمّا خالص الجن فهم ريح لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يموتون، ولا يتوالدون، ومنهم أجناس يأكلون، ويشربون، ويتوالدون، ويتناكحون، ويموتون، قال: وهي هذه السعالي والغول وأشباه ذلك ". أخرجه ابن جرير (4) .

(1) صحيح سنن النسائي: 3/1154. ورقمه: 5275.

(2)

رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في: العظمة، عن قتادة.

(3)

لقط المرجان: ص51.

(4)

لوامع الأنوار: 2/222.

ص: 20

وهذا الذي ذكره وهب يحتاج إلى دليل، ولا دليل.

وقد حاول بعض العلماء الخوض في الكيفية التي يأكلون بها، هل هو مضغ وبلع، أو تشمم واسترواح، والبحث في ذلك خطأ لا يجوز؛ لأنّه لا علم لنا بالكيفية، ولم يخبرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها.

المطلب الرابع

زواج الإنس من الجن (1)

لا زلنا نسمع أن فلاناً من الناس تزوج جنية، أو أن امرأة من الإنس خطبها جني، وقد ذكر السيوطي آثاراً وأخباراً عن السلف والعلماء تدل على وقوع التناكح بين الإنس والجن (2) . يقول ابن تيمية (3) :" وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد، وهذا كثير معروف ".

وعلى فرض إمكان وقوعه فقد كرهه جمع من العلماء كالحسن وقتادة والحكم وإسحاق. والإمام مالك رحمه الله لا يجد دليلاً ينهى عن مناكحة الجن، غير أنّه لم يستحبه، وعلل ذلك بقوله:" ولكني أكره إذا وجدت امرأة حاملاً فقيل من زوجك؟ قالت: من الجن، فيكثر الفساد "(4) .

وذهب قوم إلى المنع من ذلك، واستدلوا على مذهبهم بأنّ الله امتنّ على عباده من الإنس بأنّه جعل لهم أزواجاً من جنسهم:(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مَّوَدَّةً ورحمة ً)[الروم: 21] .

فلو وقع فلا يمكن أن يحدث التآلف والانسجام بين الزوجين لاختلاف الجنس، فتصبح الحكمة من الزواج لاغية؛ إذ لا يتحقق السكن والمودة المشار إليهما في الآية الكريمة.

وعلى كلٍّ فهذه مسألة يزعم بعض الناس وقوعها في الحاضر والماضي، فإذا حدثت فهي شذوذ، قلما يسأل فاعلها عن حكم الشرع فيها، وقد يكون فاعلها مغلوباً على أمره لا يمكنه أن يتخلص من ذلك.

(1) إن شئت التوسع في هذه المسألة فارجع إلى آكام المرجان: ص66.

(2)

لقط المرجان: ص53.

(3)

مجموع الفتاوى: 19/39.

(4)

آكام المرجان: ص67.

ص: 21

ومما يدل على إمكان وقوع التناكح بين الإنس والجن قوله تعالى في حور الجنة: (لم يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ)[الرحمن: 56] ، فدلت الآية على صلاحيتهن للإنس والجن على حد سواء.

أعمار الجن وموتهم

لا شك أن الجن - ومنهم الشياطين - يموتون؛ إذ هم داخلون في قوله تعالى: (كلٌّ من عليها فانٍ - ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام - فَبِأَيِّ آلاء ربكما تكذبان)[الرحمن: 26-28] .

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أعوذ بعزتك، الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)(1) .

أما مقدار أعمارهم فلا نعلمها، إلا ما أخبرنا الله عن إبليس اللعين، أنه سيبقى حيّاً إلى أن تقوم الساعة:(قال أنظرني إلى يوم يبعثون - قال إنَّك من المنظرين)[الأعراف: 14-15] .

أما غيره فلا ندري مقدار أعمارهم، إلا أنهم أطول أعماراً من الإنس.

ومما يدّل على أنهم يموتون أن خالد بن الوليد قتل شيطانة العزى، (الشجرة التي كانت تعبدها العرب) ، وأن صحابياً قتل الجني الذي تمثل بأفعى، كما سيأتي بيانه.

مساكن الجن ومجالسهم وأماكنهم

الجن يسكنون هذه الأرض التي نعيش فوقها، ويكثر تجمعهم في الخراب والفلوات، ومواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل والمقابر، ولذلك - كما يقول ابن تيمية - يأوي إلى كثير من هذه الأماكن، التي هي مأوى الشياطين: الشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين. وقد جاءت الأحاديث ناهية عن الصلاة في الحمام؛ لأجل ما فيها من نجاسة، ولأنها

(1) رواه مسلم في صحيحه: 4/1906. ورقمه: 2451.

ص: 22

مأوى الشياطين، وفي المقبرة؛ لأنها ذريعة إلى الشرك.

ويكثر تجمعهم في الأماكن التي يستطيعون أن يفسدوا فيها كالأسواق، فقد أوصى سلمان أصحابه قائلاً:" لا تكونن، إن استطعت، أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشياطين، وبها ينصب رايته "(1) .

والشياطين تبيت في البيوت التي يسكنها الناس، وتطردها التسمية، وذكر الله، وقراءة القرآن، خاصة سورة البقرة، وآية الكرسي منها، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشياطين تنتشر، وتكثر بحلول الظلام، ولذا أمرنا أن نكف صبياننا في هذه الفترة، وهو حديث متفق عليه.

والشياطين تهرب من الأذان، وفي رمضان تُصَفّد الشياطين.

والشياطين تحب الجلوس بين الظل والشمس؛ ولذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجلوس بينهما، وهو حديث صحيح مروي في السنن وغيرها.

دواب الجن ومراكبهم

في حديث ابن مسعود في صحيح مسلم: أنَّ الجن سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم الزاد، فقال:(لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم)(2) .

فأخبر أن لهم دوابّ، وأن علف دوابهم بعر دواب الإنس.

وأخبرنا ربنا أن للشيطان خيلاً يجلب بها على أعدائه من بني آدم قال تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك)[الإسراء: 64] .

حيوانات تصاحبها الشياطين:

من هذه الحيوانات الإبل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الإبل خلقت

(1) رواه مسلم في صحيحه: 4/1906. ورقمه: 2451.

(2)

رواه مسلم: 3/332. ورقمه: 450.

ص: 23

من الشياطين، وإن وراء كل بعير شيطاناً) . رواه سعيد بن منصور في سننه بإسنادٍ مرسل حسن (1) . ومن أجل ذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل، فعن البراء بن عازب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين، وصلوا في مرابض الغنم، فإنها بركة)(2) .

وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين)(3) .

وهذه الأحاديث ترد على من قال: إنّ علة النهي عن الصلاة في مبارك الإبل نجاسة أبوالها وروثها، فالصحيح أن روث وبول ما يؤكل لحمه غير نجس.

وقد تساءَل أبو الوفاء ابن عقيل عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الكلب الأسود شيطان) ، ومعلوم أنه مولود من كلب، و (أن الإبل خلقت من الشياطين) مع كونها مولودة من الإبل.

وأجاب: أنّ هذا على طريق التشبيه لها بالشياطين، لأن الكلب الأسود أشرّ الكلاب وأقلعها نفعاً، والإبل تشبه الجن في صعوبتها وصولتها، كما يقال: فلان شيطان؛ إذا كان صعباً شريراً (4) .

ويدل لصحة قول ابن عقيل أن الأحياء في عالمنا الأرضي مخلوقة من الماء، كما قال تعالى:(وجعلنا من الماء كُلَّ شيٍ حَيٍّ)[الأنبياء: 30] ، والشياطين مخلوقة من النار.

(1) صحيح الجامع: 2/52.

(2)

رواه أبو داود. انظر صحيح سنن أبي داود: 1/37. ورقمه: 169.

(3)

صحيح سنن ابن ماجة: 1/128. ورقمه: 623.

(4)

آكام المرجان: ص22. لقط المرجان: ص42.

ص: 24

قدرات الجن وعجزهم

المطلب الأول

ما أعطاه الله للجن من قدرات

أعطى الله الجنّ قدرة لم يعطها للبشر، وقد حدثنا الله عن بعض قدراتهم، فمن ذلك:

أولاً: سرعة الحركة والانتقال:

فقد تعهد عفريت من الجن لنبي الله سليمان بإحضار عرش ملكة اليمن إلى بيت المقدس في مدة لا تتجاوز قيام الرجل من جلوسه، فقال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك: (قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وَإِنِّي عليه لقويٌّ أمينٌ - قال الَّذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلمَّا رآه مستقرّاً عنده قال هذا من فضل ربي

) [النمل: 39-40] .

ثانياً: سبقهم الإنسان في مجالات الفضاء:

ومنذ القدم كانوا يصعدون إلى أماكن متقدمة في السماء، فيسترقون أخبار السماء، ليعلموا بالحَدَث قبل أن يكون، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم

ص: 25

زيدت الحراسة في السماء: (وأنَّا لمسنا السَّماء فوجدناها مُلِئَتْ حرساً شديداً وشهباً - وأنَّا كنَّا نقعد منها مقاعد للسَّمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَّصداً)[الجن: 8-9] .

وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية استراقهم السمع، فعن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير.

فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سمع من السماء) (1) .

خرافة جاهلية:

ومعرفة السبب الذي من أجله يرمي بشهب السماء قضى على خرافة كان يتناقلها أهل الجاهلية، فعن عبد الله بن عباس قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار: أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا) ؟

قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم، ومات رجل عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته؛ ولكنّ ربنا تبارك وتعالى اسمه - إذا قضى أمراً

(1) رواه البخاري في صحيحه: 8/538. ورقمه: 4800.

ص: 26

سبّح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثمّ قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال، قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً؛ حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا، فتخطف الجنّ السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يَقْرِفون فيه ويزيدون) (1) .

وقد يكون استراقهم السمع بطريق أهون عليهم من الطريق الأولى، وذلك بأن تستمع الشياطين إلى الملائكة الذين يهبطون إلى العنان بما يكون من أحداث قدرها الله، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الملائكة تتحدث في العنان - والعنان الغمام - بالأمر يكون في الأرض، فتستمع الشياطين الكلمة، فتقرها في أذن الكاهن كما تقرّ القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة)(2) .

ثالثاً: علمهم بالإعمار والتصنيع:

أخبرنا الله أنه سخر لنبيّه سليمان، فكانوا يقومون له بأعمال كثيرة تحتاج إلى قدرات، وذكاء، ومهارات:(ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السَّعير - يعملون له ما يشاء من مَّحاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدورٍ رَّاسِيَاتٍ)[سبأ: 12-13] .

ولعلهم قد توصلوا منذ القدم إلى اكتشاف مثل (الراديو والتلفزيون)، فقد ذكر ابن تيمية أن بعض الشيوخ الذين كان لهم اتصال بالجن أخبره وقال له:" إن الجن يرونه شيئاً براقاً مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه ما يطلب منه من الأخبار به، قال فأخبر الناس به، ويوصلون إليّ كلام من استغاث بي من أصحابي، فأجيبه، فيوصلون جوابي إليه "(3) .

رابعاً: قدرتهم على التشكل:

للجن قدرة على التشكل بأشكال الإنسان والحيوان، فقد جاء الشيطان المشركين يوم بدر في صورة سراقة بن مالك، ووعد المشركين بالنصر، وفيه أنزل:(وإذ زيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من النَّاس وَإِنِّي جارٌ لكم)[الأنفال: 48] .

ولكن عندما التقى الجيشان، وعاين الملائكة تتنزل من السماء، ولى هارباً:

(1) رواه مسلم: 4/1750. ورقمه: 2229. ومعنى يقرفون فيه أي الصدق بالكذب: يقذفون.

(2)

رواه البخاري: 6/338. ورقمه: 3288.

(3)

مجموع الفتاوى: 11/309.

ص: 27

(فلمَّا تَرَاءتِ الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريءٌ منكم إِنِّي أرى ما لا ترون إني أخاف الله)[الأنفال: 48] .

وقد جرى مع أبي هريرة قصة طريفة رواها البخاري وغيره؛ قال أبو هريرة: (وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، (ما فعل أسيرك البارحة؟)

قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته، فخليت سبيله، قال:(أما إنه كذبك وسيعود)، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، فرصدته، فجاءَ يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: دعني فإني محتاج، وعليّ عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك؟) قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته، فخليت سبيله.

قال: (أما إنه كذبك وسيعود) ، فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود، ثمّ تعود! قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قال: قلت: ما هنّ؟

قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي (الله لا إله إلَاّ هو الحيُّ القيُّوم) [البقرة: 255] حتى تختم الآية؛ فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنّك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما فعل أسيرك البارحة؟) قلت: يا رسول الله زعم أنّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية (الله لا إله إلَاّ هو الحيُّ القيُّوم)[البقرة: 255] وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير.

قال النبي: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟) قال: لا، قال:(ذاك شيطان)(1) .

فقد تشكل هذا الشيطان في صورة إنسان.

(1) صحيح البخاري: 4/486. ورقمه: 2311. ويرى بعض العلماء أن الحديث منقطع؛ لأنه لم يصرح بالسماع من شيخه عثمان بن الهيثم، والحديث وصله النسائي وغيره. انظر: فتح الباري: 4/488.

ص: 28

وقد يتشكل في صورة حيوان: جمل، أو حمار، أو بقرة، أو كلب، أو قط، وأكثر ما تتشكل بالأسود من الكلاب والقطط. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة، وعلل ذلك بأن (الكلب الأسود شيطان) (1) . يقول ابن تيمية:" الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيراً، وكذلك بصورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة ".

جنان البيوت:

تتشكل الجان بشكل الحيات وتظهر للناس، ولذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيات البيوت، خشية أن يكون هذا المقتول جنياً قد أسلم، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ بالمدينة جنّاً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان)(2) .

وقد قتل أحد الصحابة حيّة من حيات البيوت، فكان في ذلك هلاكه، روى مسلم في صحيحه: أن أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، فوجده يصلي، قال: (فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكاً في عراجين في ناحية البيت، فالتفت، فإذا حيّة، فوثبت لأقتلها فأشار إليّ؛ أن اجلس، فجلست.

فما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم. قال: كان فيه فتى منّا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار، فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة) .

فأخذ الرجل سلاحه، ثمّ رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها

(1) رواه مسلم: 1/365. ورقمه: 510.

(2)

رواه مسلم: 4/1756. ورقمه: 2236.

ص: 29

الرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني.

فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج، فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتاً: الحية أم الفتى!

قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه لنا فقال: (استغفروا لصاحبكم)، ثم قال:(إنّ بالمدينة جنّاً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنّما هو شيطان)(1) .

تنبيهات مهمة حول قتل حيات البيوت:

1-

هذا الحكم، وهو النهي عن قتل الحيوانات خاص بالحيات دون غيرها.

2-

وليس كل الحيات؛ بل الحيات التي نراها في البيوت دون غيرها، أمّا التي نشاهدها خارج البيوت فنحن مأمورون بقتلها.

3-

إذا رأينا حيات البيوت فنؤذنها؛ أي نأمرها بالخروج، كأن نقول: أقسم عليك بالله أن تخرجي من هذا المنزل، وأن تبعدي عنّا شرّك وإلا قتلناك. فإن رؤيت بعد ثلاثة أيام قتلت.

4-

والسبب في قتلها بعد ثلاثة أيام أننا تأكدنا أنها ليست جنّاً مسلماً، لأنها لو كانت كذلك، لغادرت المنزل، فإن كانت أفعى حقيقية فهي تستحق القتل، وإن كانت جنّاً كافراً متمرداً فهو يستحق القتل؛ لأذاه وإخافته لأهل المنزل.

5-

يستثنى من جنان البيوت نوع يقتل بدون استئذان، ففي صحيح البخاري عن أبي لبابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(لا تقتلوا الجِنَّان، إلا كلّ أبتر ذي طُفْيَتَيْن؛ فإنه يسقط الولد، ويذهب البصر، فاقتلوه)(2) .

(1) رواه مسلم: 4/1756. ورقمه: 2236.

(2)

رواه البخاري: 6/351. ورقمه: 3311.

ص: 30

وهل كل الحيات من الجنّ أم بعضها؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحيّات مسخ الجنّ صورة، كما مسخت القردة والخنازير من بني إسرائيل)(1) .

خامساً: الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق:

في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)(2)، وفي الصحيحين عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثمّ قمت فانقلبت، فقام معي ليقبلني (يردني) وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمرّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(على رسلكما، إنها صفية بنت حيي)، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!! قال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءاً)، أو قال:(شيئاً)(3) .

المطلب الثاني

جوانب ضعف الجن وعجزهم

الجن والشياطين كالإنس فيهم جوانب قوة، وجوانب ضعف، قال تعالى:(إنَّ كيد الشَّيطان كان ضعيفاً)[النساء: 76] ، وسنعرض لبعض هذه الجوانب التي عرفنا الله ورسوله بها.

أولاً: لا سلطان لهم على عباد الله الصالحين:

لم يعط الرَّب - سبحانه - الشيطان القدرة على إجبار الناس، وإكراههم على الضلال والكفر: (إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ وكفى بربك

(1) رواه الطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، بإسناد صحيح، راجع الأحاديث الصحيحة:104.

(2)

صحيح البخاري: 13/159. ورقمه: 7171. ورواه مسلم: 4/1712. ورقمه: 2175.

(3)

رواه البخاري: 6/336. ورقمه: 3281.

ص: 31

وكيلاً) [الإسراء: 65] . (وما كان له عليهم من سلطانٍ إلَاّ لنعلم من يؤمن بالآخرة ممَّن هو منها في شكٍ)[سبأ: 21] .

ومعنى ذلك أن الشيطان ليس له طريق يتسلط بها عليهم، لا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة، والشيطان يدرك هذه الحقيقة:(قال رب بما أغويتني لأزيننَّ لهم في الأرض ولأغوينَّهم أجمعين - إلَاّ عبادك منهم المخلصين)[الحجر: 39-40] .

وإنما يتسلط على العباد الذين يرضون بفكره، ويتابعونه عن رضا وطواعية:(إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلَاّ من اتبَّعك من الغاوين)[الحجر: 42] . وفي يوم القيامة يقول الشيطان لأتباعه الذين أضلهم وأهلكهم: (وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلَاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي)[إبراهيم: 22] .

وفي آية أخرى: (إنَّما سلطانه على الَّذين يتولَّونه والَّذين هم به مشركون)[النحل: 100] .

والسلطان الذي أعطيه الشيطان هو تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال، وتمكنه منهم، بحيث يؤزهم على الكفر والشرك ويزعجهم إليه، ولا يدعهم يتركونه، كما قال تعالى:(ألم تر أنَّا أرسلنا الشَّياطين على الكافرين تؤزُّهم أزاً)[مريم: 83]، ومعنى تؤزهم: تحركهم وتهيجهم.

وسلطان الشيطان على أوليائه ليس لهم فيه حجّة وبرهان، وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم، لما وافقت أهواءَهم وأغراضهم، فهم الذين أعانوا على أنفسهم، ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته، فلما أعطوا بأيديهم، واستأسروا له، سُلّط عليهم عقوبةً لهم. فالله لا يجعل للشيطان على العبد سلطاناً، حتى يجعل له العبد سبيلاً بطاعته والشرك به، فجعل الله حينئذٍ له عليه تسلطاً وقهراً.

ص: 32

تسليطه على المؤمنين بسبب ذنوبهم:

ففي الحديث: (إن الله - تعالى - مع القاضي لم يَجُر، فإذا جار تبرأ منه، وألزمه الشيطان) . رواه الحاكم، والبيهقي بإسناد حسن (1) .

ويروي لنا أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله عن الحسن البصري رحمه الله قصة طريفة، وبغض النظر عن مدى صحتها فهي تصور قدرة الإنسان على قهر الشيطان إذا أخلصه دينه لله، وكيف يصرع الشيطان الإنسان إذا ضلّ وزاغ.

يقول الحسن: كانت شجرة تعبد من دون الله، فجاء إليها رجل، فقال: لأقطعن هذه الشجرة، فجاء ليقطعها غضباً لله، فلقيه إبليس في صورة إنسان، فقال: ما تريد؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله، قال: إذا أنت لم تعبدها فما يضرك من عبدها؟ قال: لأقطعنها.

فقال له الشيطان: هل لك فيما هو خير لك؟ لا تقطعها، ولك ديناران كل يوم إذا أصبحت عند وسادتك. قال: فمن أين لي ذلك؟ قال: أنا لك. فرجع، فأصبح فوجد دينارين عند وسادته، ثمّ أصبح بعد ذلك، فلم يجد شيئاً. فقام غضباً ليقطعها، فتمثل له الشيطان في صورته، وقال: ما تريد؟ قال: أريد قطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله تعالى، قال: كذبت ما لك إلى ذلك من سبيل.

فذهب ليقطعها، فضرب به الأرض، وخنقه حتى كاد يقتله، قال: أتدري من أنا؟ أنا الشيطان، جئت أول مرة غضباً لله، فلم يكن لي عليك سبيل، فخدعتك بالدينارين، فتركتها، فلما جئت غضباً للدينارين سلطت عليك (2) .

وقد حدثنا الله في كتابه عن شخص آتاه الله آياته، فعلمها، وعرفها، ثمّ إنه ترك ذلك كله، فسلط الله عليه الشيطان، فأغواه، وأضله، وأصبح عبرة تروى، وقصة تتناقل: (واتلُ عليهم نبأ الَّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشَّيطان فكان من الغاوين - ولو شئنا لرفعناه بها ولكنَّه أخلد إلى

(1) انظر صحيح الجامع: 2/130.

(2)

تلبيس إبليس: 43.

ص: 33

الأرض واتَّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الَّذين كذَّبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلَّهم يتفكَّرون) [الأعراف: 175-176] . وواضح أن هذا مثل لمن عرف الحق وكفر به كاليهود الذين يعلمون أن محمداً مرسل من ربه، ثم هم يكفرون به.

أما هذا الذي عناه الله هنا، فقال بعضهم: هو بلعام بن باعورا، كان صالحاً ثم كفر، وقيل: هو أمية بن أبي الصلت من المتألهين في الجاهلية، أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن به حسداً، وكان يرجو أن يكون هو النبي المبعوث، وليس عندنا نص صحيح يعرفنا بالمراد من الآية على وجه التحديد.

وهذا الصنف (الذي يؤتى الآيات ثم يكفر) صنف خطر، به شَبَه من الشيطان؛ لأنّ الشيطان كفر بعد معرفته الحق، ولقد تخوف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النوع على أمته، روى الحافظ أبو يعلى عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أتخوف عليكم رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه، وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك) . قال: قلت: يا رسول الله: أيهما أولى بالسيف: الرامي أم المرمي؟ قال: (بل الرامي)، قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد (1) .

ثانياً: خوف الشيطان من بعض عباد الله وهربه منهم:

إذا تمكن العبد في الإسلام، ورسخ الإيمان في قلبه، وكان وقّافاً عند حدود الله، فإنّ الشيطان يفرق منه، ويفرّ منه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب:(إن الشيطان ليخاف منك يا عمر)(2)، وقال فيه أيضاً:(إني لأنظر إلى شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا من عمر)(3)، وفي صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب:(والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلى سلك فجاً غير فجك)(4) .

(1) انظر تفسير ابن كثير: 3/252.

(2)

صحيح سنن الترمذي: 3/206. ورقمه: 2913.

(3)

صحيح سنن الترمذي: 3/206. ورقمه: 2914.

(4)

رواه البخاري: 6/339. ورقمه: 3294.

ص: 34

وليس ذلك خاصاً بعمر، فإن مَن قوي إيمانه يقهر شيطانه، ويذله، كما في الحديث:(إن المؤمن لينصي شيطانه كما ينصي أحدكم بعيره في السفر) . رواه أحمد. قال ابن كثير (1) : بعد أن ساق هذا الحديث: " ومعنى لينصي شيطانه: ليأخذ بناصيته، فيغلبه، ويقهره، كما يفعل بالعبير إذا شرد ثم غلبه ".

وقد يصل الأمر أن يؤثر المسلم في قرينه الملازم له فيسلم، أخرج مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وُكّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: (وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)(2) .

ثالثاً: تسخير الجن لنبي الله سليمان:

سخر الله لنبيه سليمان - في جملة ما سخر - الجن والشياطين، يعملون له ما يشاء، ويعذب ويسجن العصاة منهم:(فسخَّرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب - والشَّياطين كل بنَّاءٍ وغوَّاصٍ - وآخرين مقرَّنين في الأصفاد)[ص: 36-38] .

وقال في سورة سبأ: (ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السَّعير - يعملون له ما يشاء من مَّحاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدورٍ رَّاسياتٍ)[سبأ: 12-13] .

وهذا التسخير على هذا النحو استجابة من الله لعبده سليمان حين دعاه

(1) البداية والنهاية: 1/73، وفي رواية أخرى:(لينضي شيطانه) أي يهزله ويجعله نضواً أي مهزولاً لكثرة إذلاله له وجعله أسيراً تحت قهره وتصرفه.

(2)

رواه مسلم: 4/2167. ورقمه: 2814.

ص: 35

وقال: (وهب لي مُلكاً لَاّ ينبغي لأحدٍ من بعدي)[ص: 35] . وهذه الدعوة هي التي منعت نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من ربط الجني الذي جاء بشهاب من نار، يريد أن يرميه في وجهه، ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعناه يقول:(أعوذ بالله منك) ثم قال: (ألعنك بلعنة الله ثلاثاً) ، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً.

فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله لقد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً، لم نسمعك تقوله من قبل، ورأيناك بسطت يدك، فقال:(إن عدوّ الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم اْردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة)(1) .

وقد تكرر هذا أكثر من مرة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(إن عفريتاً من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع عليّ الصلاة، وإن الله أمكنني منه، فَذَعَتُّهُ، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون، (أو كلكم)، ثمّ ذكرت قول أخي سليمان:(رب اغفر لي وهب لي مُلكاً لَاّ ينبغي لأحدٍ من بعدي)، فرده الله خاسئاً) (2) . ومعنى يفتك: الفتك: الأخذ غفلة. وقوله: (ذعته)، أي: خنقته.

كذب اليهود على نبي الله سليمان:

يزعم اليهود وأتباعهم الذين يستخدمون الجن بوساطة السحر أن نبي الله سليمان كان يستخدم الجنّ به، وقد ذكر غير واحد من علماء السلف أنَّ سليمان لما مات كتبت الشياطين كتب السحر والكفر، وجعلتها تحت كرسيه، وقالوا: كان سليمان يستخدم الجن بهذه، فقال بعضهم: لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان، فأنزل الله قوله:(ولمَّا جاءهم رسولٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الَّذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون)[البقرة: 101] ، ثم بين أنهم اتبعوا ما كانت تتلوه الشياطين

(1) رواه مسلم: 1/385. ورقمه: 542.

(2)

رواه البخاري: 6/547. ورقمه: 3423. ورواه مسلم: 1/384. ورقمه: 541.

ص: 36

على عهد ملك سليمان، وبرأ سليمان من السحر والكفر:(واتَّبعوا ما تتلوا الشَّياطين على مُلكِ سليمان وما كفر سليمان ولكنَّ الشَّياطين كفروا)[البقرة: 102] .

رابعاً: عجزهم عن الإتيان بالمعجزات:

لا تستطيع الجن الإتيان بمثل المعجزات التي جاءت بها الرسل تدليلاً على صدق ما جاءت به.

فعندما زعم بعض الكفرة أن القرآن من صنع الشياطين قال تعالى: (وما تنزَّلت به الشَّياطين - وما ينبغي لهم وما يستطيعون - إنَّهم عن السَّمع لمعزولون)[الشعراء: 210-212] .

وتحدى الله بالقرآن الإنس والجن: (قل لئِن اجتمعت الإنس والجنُّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً)[الإسراء: 88] .

خامساً: لا يتمثلون بالرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا:

والشياطين تعجز عن التمثل في صورة الرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا:

ففي الحديث الذي يرويه الترمذي عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رآني فإني أنا هو، فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي)(1) .

وفي الصحيحين عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي) . رواه مسلم من رواية أبي هريرة. وفي صحيح البخاري: (وإن الشيطان لا يتراءَى بي) .

وفيه من رواية أبي سعيد: (من رآني فقد رأى الحقّ، فإن الشيطان لا يتكونني) .

وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة: (ولا يتمثل الشيطان بي) .

وفي صحيح مسلم من حديث جابر: (من رآني في المنام فقد رآني، إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي) . وفي رواية أخرى عن جابر: (فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي)(2) .

والظاهر من الأحاديث أن الشيطان لا يتزيّا بصورة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقية، ولا يمنعه هذا من التمثل في غير صورة الرسول صلى الله عليه وسلم والزعم بأنّه رسول الله، وهذا ما فقهه ابن سيرين رحمه الله، فيما نقله عنه البخاري (3) .

ولذلك فلا يجوز أن يحتج بهذا الحديث على أن كل من رأى الرسول

(1) صحيح سنن الترمذي: 2/260. ورقمه: 1859.

(2)

انظر أحاديث عدم قدرة الشيطان على التمثل بالرسول صلى الله عليه وسلم في البخاري: 12/383. وأرقامها: 6993-6997. وفي صحيح مسلم: 4/1775. وأرقامها: 2266-2268.

(3)

صحيح البخاري: 12/383.

ص: 37

صلى الله عليه وسلم في المنام أنّه رآه حقّاً، إلا إذا كانت صفته هي الصفة التي روتها لنا كتب الحديث. وإلا فكثير من الناس يزعم أنّه رآه على صورة مخالفة للصورة المروية في كتب الثقات.

سادساً: لا يستطيع الجن أن يتجاوزوا حدودهم في أجواز الفضاء:

قال تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السَّماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلَاّ بسلطانٍ) - فَبِأَيِّ آلاء ربكما تكذبان - يرسل عليكما شواظٌ من نَّارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران) [الرحمن: 33-35] .

فمع قدراتهم وسرعة حركتهم لهم حدود لا يستطيعون أن يتعدوها، وإلا فإنهم هالكون.

سابعاً: لا يستطيعون فتح باب أغلق وذكر اسم الله عليه:

روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل - أو أمسيتم - فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ، فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوهم، وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباًَ مغلقاً)(1) .

وفي لفظ لمسلم عن جابر: (غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحلّ سقاءً، ولا يفتح باباً، ولا يكشف إناء)(2) .

(1) صحيح البخاري: 6/350، 10/88. ورقمها: 3304، 5623. ورواه مسلم: 3/1595. ورقمه: 2012.

(2)

صحيح مسلم: 3/1594. ورقمه: 2012.

ص: 38