المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث العداء بين الإنسان والشيطان - عالم الجن والشياطين

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الفصل الثالث العداء بين الإنسان والشيطان

‌الفصل الثالث العداء بين الإنسان والشيطان

المبحث الأول

أسباب العداء وتاريخه وشدة هذا العداء

العداء بين الإنسان والشيطان عداء بعيد الجذور، يعود تاريخه إلى اليوم الذي صور الله فيه آدم، قبل أن ينفخ فيه الروح، فأخذ الشيطان يطيف به، ففي صحيح مسلم عن أنس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما صوّر الله آدم في الجنة، تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يُطيف به، ينظر ما هو، فلما رآه أجوف، عرف أنه خلق خلقاً لا يتمالك)(1) .

فلما نفخ الله في آدم الروح، وأمر الملائكة بالسجود لآدم، وكان إبليس يتعبد الله مع ملائكة السماء، فشمله الأمر، ولكنه تعاظم في نفسه واستكبر، وأبى السجود لآدم:(قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نَّارٍ وخلقته من طينٍ)[الأعراف: 12] .

لقد فتح أبونا آدم عينيه، فإذا به يجد أعظم تكريم، يجد الملائكة ساجدين له، ولكنّه يجد عدواً رهيباً يتهدده وذريته بالهلاك والإضلال.

وطرد الله الشيطان من جنة الخلد بسبب استكباره، وحصل على وعد من الله بإبقائه حيّاً إلى يوم القيامة:(قال أنظرني إلى يوم يبعثون - قال إنَّك من المنظرين)[الأعراف: 14-15]، وقد قطع اللعين على نفسه عهداً بإضلال بني آدم:(قال فبما أغويتني لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم - ثُمَّ لآتِيَنَّهُم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شَمَآئِلِهِمْ ولا تجد أكثرهم شاكرين)[الأعراف: 16-17] .

وقوله هذا يصور مدى الجهد الذي يبذله لإضلال بني آدم، فهو يأتيه من كل طريق، عن اليمين وعن الشمال، ومن الأمام ومن الخلف؛ أي من جميع الجهات، قال الزمخشري

(1) رواه مسلم: 4/2016، ورقمه:2611.

ص: 53

في تفسير هذه الآية: " ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الغالب، وهذا مثل لوسوسته إليهم، وتسويله لهم ما أمكنه وقدر عليه كقوله:(واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك)[الإسراء: 64](1) .

تحذير الرحمن من الشياطين:

وقد أطال القرآن في تحذيرنا من الشيطان لعظم فتنته، ومهارته في الإضلال، ودأبه وحرصه على ذلك:(يا بني آدم لا يفتننَّكم الشَّيطان)[الأعراف: 27] .

وقال: (إنَّ الشَّيطان لكم عدٌّ فاتَّخذوه عدوّاً)[فاطر: 6]، وقال:(ومن يتَّخذ الشَّيطان وليّاً من دون الله فقد خسر خسراناً مُّبيناً)[النساء: 119] . وعداوة الشيطان لا تحول ولا تزول؛ لأنه يرى أن طرده ولعنه وإخراجه من الجنة كان بسبب أبينا آدم، فلا بدّ أن ينتقم من آدم وذريته من بعده:(قال أَرَأَيْتَكَ هذا الَّذي كرَّمت عَلَيَّ لئِن أخَّرتن إلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذريَّته إلَاّ قليلاً)[الإسراء: 62] .

وأرباب السلوك اعتنوا بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، ولكنهم قصّروا في التعرف على عدوهم اللدود.

(1) تفسير الكشاف: 2/71.

ص: 54

أهداف الشيطان

المطلب الأول

الهدف البعيد

هناك هدف وحيد يسعى الشيطان لتحقيقه في نهاية الأمر، هو أن يلقي الإنسان في الجحيم، ويحرمه من الجنّة، (إنَّما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السَّعير) [فاطر: 6] .

المطلب الثاني

الأهداف القريبة

ذلك هو هدف الشيطان البعيد، أما أهدافه القريبة فإنها كثيرة منها:

1-

إيقاع العباد في الشرك والكفر:

وذلك بدعوتهم إلى عبادة غير الله، والكفر بالله وبشريعته:(كمثل الشَّيطان إذ قال للإنس اكْفُرْ فلمَّا قال إني بريءٌ منك)[الحشر: 16] .

وروى مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم، فقال في خطبته:(يا أيها الناس، إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتهم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)(1) .

2-

إيقاعهم في الذنوب والمعاصي:

فإذا لم يستطع إيقاعهم في الشرك والكفر، فإنه لا ييأس، ويرضى بما دون ذلك من إيقاعهم في الذنوب والمعاصي، وغرس العداوة والبغضاء في صفوفهم، ففي سنن الترمذي: (ألا وإن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما

(1) رواه مسلم: 4/2197. ورقمه: 2865.

ص: 55

تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به) (1) .

وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)(2) ؛ أي بإيقاع العداوة والبغضاء بينهم، وإغراء بعضهم ببعض، كما قال تعالى:(إنَّما يريد الشَّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدَّكم عن ذكر الله وعن الصَّلاة فهل أنتم منتهون)[المائدة: 91] .

وهو يأمر بكل شر: (إنَّما يأمركم بالسُّوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)[البقرة: 169] .

وخلاصة الأمر: أن كل عبادة محبوبة لله بغيضة إلى الشيطان، وكل معصية مكروهة للرحمن محبوبة للشيطان.

3-

إيقاعهم في البدعة:

وهي أحب إلى الشيطان من الفسوق والمعاصي؛ لأن ضررها في الدين، قال سفيان الثوري:" البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها "(3) .

4-

صدّه العباد عن طاعة الله:

وهو لا يكتفي بدعوة الناس إلى الكفر والذنوب والمعاصي، بل يصدهم عن فعل الخير، فلا يترك سبيلاً من سبل الخير، يسلكه عبد من عباد الله إلا قعد فيه، يصدّهم ويميل بهم، فعن سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟! فعصاه، فأسلم.

ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول (4) . فعصاه، فهاجر.

ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟! فعصاه، فجاهد.

فمن فعل ذلك، كان حقّا على الله أن يدخله الجنّة، ومن قتل، كان حقّاًَ على الله أن يدخله الجنّة،

(1) صحيح سنن الترمذي: 2/230. ورقمه: 1753.

(2)

مشكاة المصابيح: 1/27. ورقمه: 10.

(3)

غرائب وعجائب الجن، للشبلي: ص 206.

(4)

الطول: الحبل الطويل، يشد أحد طرفيه في وتد أو غيره، والطرف الآخر في يد الفرس ليدور فيه، ويرعى ولا يذهب لوجهه.

ص: 56

وإن غرق، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته، كان حقّاً على الله أن يدخله الجنة) (1) .

ومصداق ذلك في كتاب الله ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال لرب العزة: (قال فبما أغويتني لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم - ثُمَّ لآتِيَنَّهُم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شَمَآئِلِهِمْ ولا تجد أكثرهم شاكرين)[الأعراف: 16-17] .

وقوله: (لأقعدنَّ لهم صراطك) أي: على صراطك، فهو منصوب بنزع الخافض، أو هو منصوب بفعل مضمر، أي: لألزمنّ صراطك، أو لأرصدَنّه، أو لأعوجنه.

وعبارات السف في تفسير الصراط متقاربة، فقد فسر ابن عباس: بأنه الدين الواضح، وابن مسعود: بأنه كتاب الله، وقال جابر: هو الإسلام، وقال مجاهد: هو الحق.

فالشيطان لا يدع سبيلاً من سبل الخير إلا قعد فيه يصد الناس عنه.

5-

إفساد الطاعات:

إذا لم يستطع الشيطان أن يصدهم عن الطاعات، فإنه يجتهد في إفساد العبادة والطاعة، كي يحرمهم الأجر والثواب، ومن ذلك أن الصحابي عثمان بن أبي العاص أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يَلبِسها عليّ ".

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك شيطان يقال له: خِنْزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً) . قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني " (2) .

فإذا دخل العبد صلاته أجلب عليه الشيطان يوسوس له، ويشغله عن

(1) صحيح سنن النسائي: 2/657. ورقمه: 2937.

(2)

رواه مسلم: 4/1728. ورقمه: 2203.

ص: 57

طاعة الله، ويذكِره بأمور الدنيا؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى)(1) .

دفع الشيطان الإنسان للمرور بين يدي المصلي:

عن أبي صالح السمّان قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم الجمعة يصلي إلى شيء يستُرهُ من الناس، فأراد شابٌّ من بني أبي مُعيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه، فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: مالك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستُرهُ من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى، فليقاتله، فإنما هو شيطان)(2) .

والمراد بقوله: (فإنما هو شيطان) ؛ أي فعله فعل شيطان كما يقول ابن حجر العسقلاني.

إلا أن ابن حجر ذكر احتمالاً آخر أصح من الأول، فإنه قال:(ويحتمل أن يكون المعنى: فإنما الحامل على ذلك الشيطان، وقد وقع في رواية الإسماعيلي: (فإن معه الشيطان)، ونحوه لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ:(فإن معه القرين)(3) .

كل مخالفة للرحمن فهي طاعة للشيطان:

يقول تعالى: (إن يدعون من دونه إلَاّ إناثاً وإن يدعون إلَاّ شَّيطاناً مَّريداً - لَّعنة الله وقال لأتَّخذنَّ من عبادك نصيباً مَّفروضاً)[النساء: 117-118] . فكل من عبد غير الله من صنم أو وثن، أو شمس وقمر، أو هوى، أو إنسان، أو مبدأ، فهو عابد للشيطان، رضي أم أبى؛ لأن الشيطان هو الآمر بذلك والمرغب فيه، ولذلك فإن عبّاد الملائكة يعبدون الشيطان في الحقيقة:(ويوم يحشرهم جميعاً ثمَّ يقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون - قالوا سبحانك أنت وليُّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنَّ أكثرهم بهم مُّؤمنون)[سبأ: 40-41] . يعني أن الملائكة لم تأمرهم بذلك، وإنما أمرتهم بذلك الجن، ليكونوا عابدين للشياطين الذين يتمثلون لهم، كما يكون للأصنام شياطين.

الخلاصة:

والشيء الذي نخلص إليه أن الشيطان يأمر بكل شرّ، ويحث عليه، وينهى عن كلّ خير، ويخوف منه؛ كي يرتكب الأول، ويترك الثاني.

كما قال تعالى: (الشَّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مَّغفرةً منه وفضلاً)[البقرة: 268] . وتخويفه إيانا الفقر بأن يقول:

(1) رواه البخاري: 2/84. ورقمه: 608. وانظر رقم: 1222، 1231، 1232. ورواه مسلم: 1/291. ورقمه: 389.

(2)

رواه البخاري: 1/582. ورقمه: 509.

(3)

فتح الباري: 1/584.

ص: 58

إن أنفقتم أموالكم افتقرتم، والفحشاء التي يأمرنا بها: هي كل فعلة فاحشة خبيثة من البخل والزنا وغير ذلك.

6-

الإيذاء البدني والنفسي:

كما يهدف الشيطان إلى إضلال الإنسان بالكفر والذنوب، فإنه يهدف إلى إيذاء المسلم في بدنه ونفسه، ونحن نسوق بعض ما نعرفه من هذا الإيذاء:

أ- مهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم:

ذكرنا في غير هذا الموضع الحديث الذي يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بمهاجمة الشيطان له، ومجيء الشيطان بشهاب من نار ليرميه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ب- الحلم من الشيطان:

للشيطان قدرة على أن يرى الإنسان في منامه أحلاماً تزعجه وتضايقه، بهدف إحزانه وإيلامه.

فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الرؤى التي يراها المرء في منامه ثلاثة أنواع، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الرؤيا ثلاث: فبشرى، من الرحمن، وحديث نفس، وتخويف من الشيطان) .

وفي رواية عن عوف بن مالك: (إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان؛ ليحزن بها ابن آدم)(1) .

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدّث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره)(2) .

ج- إحراق المنازل بالنار:

وذلك بوساطة بعض الحيوانات التي يغريها بذلك، ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(إذا نمتم فأطفئوا سُرُجكم، فإن الشيطان يدلّ مثل هذه (الفأرة) على هذا (السراج) فيحرقكم) (3) .

(1) رواهما ابن ماجة. انظر صحيح ابن ماجة: 1/340. ورقمهما: 3154-3155.

(2)

رواه البخاري: 12/369. ورقمه: 6958.

(3)

صحيح سنن أبي داود: 3/958. ورقمه: 4369.

ص: 59

د- تخبط الشيطان الإنسان عند الموت:

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ذلك فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من التردي، والهدم، والغرق، والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً)(1) .

هـ- إيذاؤه الوليد حين يولد:

في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلّ بني آدم يمسّه الشيطان يوم ولدته أمّه إلا مريم وابنها)(2) .

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن، فطعن الحجاب)(3) .

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان، غير مريم وابنها)(4) .

والسبب في حماية مريم وابنها من الشيطان استجابة الله دعاء أم مريم حين ولدتها: (وإنَّي أعيذها بك وذريتها من الشَّيطان الرَّجيم)[آل عمران: 36] . ولذا فإن أبا هريرة قرأ هذه الآية بعد روايته للحديث السابق (5) .

فلما كانت أم مريم عليها السلام صادقة في طلبها استجاب الله لها، فأجار مريم وابنها من الشيطان الرجيم.

وممن أجاره الله أيضاً عمار بن ياسر، ففي صحيح البخاري: أن أبا الدرداء سأل علقمة، وكان من أهل الكوفة، فقال:" أفيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؟ " قال المغيرة: " الذي أجاره الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم يعني عماراً "(6) .

و مرض الطاعون من الجن:

أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن (فناء أمته بالطعن والطاعون؛ وخز أعدائكم من الجنّ، وفي كلّ شهادة)(7) ،

(1) صحيح سنن النسائي: 3/1123. ورقمه: 5104.

(2)

رواه مسلم: 4/1838. ورقمه: 2366.

(3)

رواه البخاري: 6/337. ورقمه: 3286.

(4)

رواه البخاري: 6/469. ورقمه: 3431.

(5)

انظر صحيح البخاري: 6/469. ورقمه: 3431. وصحيح مسلم: 4/1838. ورقمه: 2366.

(6)

صحيح البخاري: 6/337. ورقمه: 3287. وانظر أيضاً: 7/90. ورقمه: 3742-3743.

(7)

صحيح الجامع الصغير: 4/90. وانظر إرواء الغليل: 6/70، ورقمه: 1367.

ص: 60

وفي مستدرك الحاكم: (الطاعون وخز أعدائكم من الجن، وهو لكم شهادة)(1) .

وما أصاب نبي الله أيوب كان بسبب الجن كما قال تعالى: (واذكر عبدنا أيُّوب إذ نادى ربه أنَّي مَسَّنِيَ الشَّيطان بنصبٍ وعذابٍ)[ص: 41] .

ز- بعض الأمراض الأخرى:

قال صلى الله عليه وسلم للمرأة المستحاضة، وهي حمنة بنت جحش:(إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان)(2) .

ح- مشاركته لبني آدم في طعامهم وشرابهم ومسكنهم:

ومن الأذى الذي يجلبه الشيطان للإنسان أن يعتدي على طعامه وشرابه فيشركه فيهما، ويشركه في المبيت في منزله، ويكون ذلك منه إذا خالف العبد هدي الرحمن، أو غفل عن ذكر الله، أمّا إذا كان ملتزماً بالهدى الذي هدانا الله إليه، لا يغفل عن ذكر الله، فإن الشيطان لا يجد سبيلاً إلى أموالنا وبيوتنا.

فالشيطان لا يستحل الطعام إلا إذا تناول منه أحد بدون أن يُسَمّي، فإذا ذكر اسم الله عليه، فإنّه يحرم على الشيطان، روى مسلم في صحيحه عن حذيفة، قال:" كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده، وإنّا حضرنا معه مرة طعاماً، فجاءَت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، فأخذ بيده ".

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحلّ بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحلّ به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيدي إن يده في يدي مع يدها)(3) .

وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نحفظ أموالنا من الشيطان وذلك بإغلاق

(1) راجع إرواء الغليل: 6/70.

(2)

صحيح سنن أبي داود: 1/56. ورقمه: 267، وصحيح سنن النسائي: 1/40، ورقمه: 110. ولفظ النسائي: (إنما هي ركضة من الشيطان) .

(3)

رواه مسلم: 3/1597. ورقمه: 217.

ص: 61

الأبواب، وتخمير الآنية، وذكر اسم الله؛ فإن ذلك حرز لها من الشيطان، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأوكوا قربكم، واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم، واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً، وأطفئوا مصابيحكم)(1) .

ويشرب الشيطان مع الإنسان إذا شرب واقفاً، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشرب قائماً، فقال له:(قِهْ)، قال: لمه؟ قال: (أيسرك أن يشرب معك الهر؟) قال: لا، قال:(فإنه قد شرب معك من هو شرّ منه الشيطان)(2) .

وكي تطرد الشياطين من المنزل لا تنس أن تذكر اسم الله عند دخول المنزل، وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك، حيث يقول:(إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإن دخل، فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإن لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء)(3) .

ط- مس الشيطان للإنسان (الصرع) :

يقول ابن تيمية (4) : " دخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى:(الَّذين يأكلون الرِّبَا لا يقومون إلَاّ كما يقوم الَّذي يتخبَّطه الشَّيطان من الْمَسِّ)[البقرة: 275]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)(5) .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: " قلت لأبي: إن أقواماً يقولون:

(1) رواه مسلم: 3/1594. ورقمه: 2012.

(2)

سلسلة الأحاديث الصحيحة: ج1، ورقم الحديث:175. وقال فيه الهيثمي: رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد ثقات. مجمع الزوائد: 3/79.

(3)

رواه مسلم: 3/1598. ورقمه: 2018.

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 24/276.

(5)

صحيح البخاري: 6/336. ورقمه: 3281. ورواه مسلم: 4/1712. ورقمه: 2175.

ص: 62

إن الجني لا يدخل في بدن المصروع، فقال: يا بني يكذبون، هذا يتكلم على لسانه ".

يقول ابن تيمية: " هذا الذي قاله مشهور، فإنّه يصرع الرجل، فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويُضْرب على بدنه ضرباً عظيماً، لو ضرب به جمل، لأثر به أثراً عظيماً، والمصروع مع هذا لا يحس الضرب، ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يُجَرّ المصروعُ، وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه، ويحول الآلات

ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علماً ضرورياً، بأن الناطق على لسان الإنس، والمحرك لهذه الأجسام، جنس آخر غير الإنسان ".

ويقول رحمه الله " وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك، وادعى أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك ".

وذكر أنّ ممن أنكر دخول الجن بدن المصروع طائفة من المعتزلة، كالجبائي وأبي بكر الرازي (1) .

وسنحاول أن نلقي مزيداً من الضوء على هذا الموضوع فيما بعد.

قائد المعركة في الصراع

الدائر بين عالم الشياطين وعالم البشر

إبليس هو الذي يخطط للمعركة مع بني الإنسان ويقودها، ومن قاعدته يرسل البعوث والسرايا في الاتجاهات المختلفة، ويعقد مجالس يناقش جنوده وجيوشه فيما صنعوه، ويثني على الذين أحسنوا وأجادوا في الإضلال وفتنة الناس.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول:

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/12.

ص: 63

فعلت كذا وكذا، فيقولُ: ما صنعت شيئاً. قال: ثمّ يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال: فيدنو منه، ويقول: نعم أنت) (1) .

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لابن صائد وقد لقيه في بعض طرق المدينة؛ (وكان يشك صلى الله عليه وسلم أنّه الدجال) : (ما ترى) ؟ قال: أرى عرشاً على الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ترى عرش إبليس على البحر)(2) .

والشيطان له خبرة طويلة مديدة في مجال الإضلال، ولذلك فإنّه يجيد وضع خططه، ونصب مصايده وأحابيله، فهو لم يزل حيّاً يضل الناس منذ وجد الإنسان إلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة:(قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون - قال فإنَّك من المنظرين - إلى يوم الوقت المعلوم)[الحجر: 36-38] .

وهو دؤوب على القيام بالشر الذي نذر نفسه له، لا يكل ولا يمل، ففي الحديث:(إن الشيطان قال: وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) . رواه أحمد والحاكم بإسناد حسن (3) .

جنود الشيطان من الجن والإنس:

والشيطان له فريقان من الجنود: فريق من الجان، وفريق من بني الإنسان.

وقد سبق ذكر حديث إرساله سراياه من الشياطين لإضلال الناس، وفي القرآن: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك

) [الإسراء: 64] فله جنود يهاجمون راكبين راجلين، يرسلهم على العباد، يحركونهم إلى الشر تحريكاً:(ألم تر أنَّا أرسلنا الشَّياطين على الكافرين توزُّهم أزّاً)[مريم: 83] .

(1) رواه مسلم: 4/2167. ورقمه: 2814.

(2)

صحيح مسلم: 4/2241. ورقمه: 2025.

(3)

صحيح الجامع الصغير: 2/72.

ص: 64

لكل إنسان قرين:

وكل إنسان له شيطان يلازمه لا يفارقه، كما في حديث عائشة عند مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه، فجاء، فرأى ما أصنع، فقال:(ما لك يا عائشة؟ أغرت؟) فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أقد جاءك شيطانك) . قالت: يا رسول الله، أو معي شيطان؟ قال:(نعم)، قلت: ومع كل إنسان؟ قال: (نعم)، قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: (نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)(1) .

وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وُكّلَ به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة)، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: (وإياي، إلا أنّ الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)(2) .

وفي القرآن: (ومن يعش عن ذكر الرَّحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرينٌ)[الزخرف: 36]، وفي الآية الأخرى:(وقيَّضنا لهم قرناء فزيَّنوا لهم مَّا بين أيديهم وما خلفهم)[فصلت: 25] .

وللشيطان أتباع من الإنس اتخذوه وليّاً، يسيرون على خطاه، ويرضون بفكره، مع أنه العدو الأول الذي يسعى في إهلاكهم، وقبيح بالإنسان العاقل أن يتخذ عدوه وليّاً:(أفتتخذونه وذريَّته أولياء من دوني وهم لكم عدوٌّ بئس للظَّالمين بدلاً)[الكهف: 50] .

ولقد خسروا باتخاذه ولياً خسراناً مبيناً: (ومن يتَّخذ الشَّيطان وليّاً من دون الله فقد خسر خسراناً مُّبيناً)[النساء: 119] . خسروا لأن الشيطان سيدسّي نفوسهم ويفسدها، ويحرمهم من نعمة الهداية، ويرمي بهم في الضلالات والشبهات: (والَّذين كفروا أولياؤهم الطَّاغوت يخرجونهم

(1) رواه مسلم: 4/2168. ورقمه: 2815.

(2)

رواه مسلم: 4/2168، ورقمه:2814.

ص: 65

من النُّور إلى الظُّلمات أولئك أصحاب النَّار هم فيها خالدون) [البقرة: 257]، وخسروا لأنه سيقودهم إلى النار:(إنَّما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السَّعير)[فاطر: 6] ، وهؤلاء أولياء الشيطان يتخذهم الشيطان مطية وجنوداً، ينفذ بهم مخططاته وأهدافه.

كيده وخذلانه لأوليائه:

يتولى كثير من الناس الشيطان، ولكنه يكيد لهم ويوردهم الموارد التي فيها هلاكهم وعطبهم، ويتخلى عنهم، ويسلمهم، ويقف يشمت بهم، ويضحك منهم، فيأمرهم بالقتل والسرقة والزنا، ويدلُّ عليهم، ويفضحهم، فعل ذلك بالمشركين في معركة بدر، عندما جاءَهم متمثلاً في صورة سراقة بن مالك، ووعدهم بالنصر والغلب:(وقال لا غالب لكم اليوم من النَّاس وإني جارٌ لَّكم)[الأنفال: 48] ، فلما رأى عدو الله الملائكة نزلت لنصرة المؤمنين، ولى هارباً وأسلمهم، كما قال حسان بن ثابت:

دلاهم بغُرُور ثمّ أسلمهم ××× إن الخبيث لمن والاه غرارُ

وكذلك فعل بالراهب الذي قتل المرأة وولدها، فإنه أمره بالزنا، ثمّ بقتلها، ثمّ دلّ أهلها عليه، وكشف أمره لهم، ثمّ أمره بالسجود له، فلما فعل فرّ عنه وتركه، كما سيأتي بيانه.

وفي يوم القيامة يقول لأوليائه بعد دخوله ودخولهم النار: (إِنِّي كفرت بما أشركتمون من قبل)[إبراهيم: 22] ، فأوردهم شرّ الموارد، ثمّ تبرأ منهم كل البراءةَ.

وستأتي قصة ذلك يدّعي أنّه عالم روحاني، وكيف تخلت عنه الشياطين بعد أن بلغ مبلغاً كبيراً من الشهرة، فأصبح حائراً لا يدري ما يفعل.

ص: 66

الشيطان يجند أولياءَه لخدمته ومحاربة المؤمنين:

الناس فريقان: أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان. وأولياء الشيطان هم الكَفَرَة على اختلاف مللهم ونحلهم:(إنَّا جعلنا الشَّياطين أولياء للَّذين لا يؤمنون)[الأعراف: 27] .

والشيطان يسخّر هؤلاء لتضليل المؤمنين بما يلقونه من الشبه: (وإنَّ الشَّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون)[الأنعام: 121] .

وما هذه الشبهات التي يقوم بها المستشرقون والصليبيون واليهود والملحدون إلا من هذا القبيل.

ويدفع الشيطان أولياءَه لإيذاء نفوس المؤمنين: (إنَّما النَّجوى من الشَّيطان ليحزن الَّذين آمنوا)[المجادلة: 10] . فقد كان يدفع المشركين للتناجي حين وجود المسلمين على مقربة منهم، فيظن المسلم أنه يتآمرون عليه

بل يدفعهم إلى حرب المسلمين وقتالهم: (الَّذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والَّذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشَّيطان إنَّ كيد الشَّيطان كان ضعيفاً)[النساء: 76] .

وهو دائماً يخوف المؤمنين أولياءَه: (إنَّما ذلكم الشَّيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مُّؤمنين)[آل عمران: 175]، وأولياؤه جمع كبير:(ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه فاتَّبعوه إلَاّ فريقاً من المؤمنين)[سبأ: 20] .

أساليب الشيطان في إضلال الإنسان (الجزء الأول)

لا يأتي الشيطان إلى الإنسان ويقول له: اترك هذه الأمور الخيرة، وافعل هذه الأمور السيئة؛ كي تشقى في دنياك وأخراك؛ لأنه لو فعل ذلك

ص: 67

فلن يطيعه أحد، ولكنه يسلك سبلاً كثيرة، يغرر بها بعباد الله.

1-

تزيين الباطل:

هذا هو السبيل الذي كان الشيطان، ولا يزال، يسلكه لإضلال العباد، فهو يظهر الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، ولا يزال بالإنسان يحسن له الباطل، ويكرهه بالحق، حتى يندفع إلى فعل المنكرات، ويعرض عن الحق، كما قال اللعين لربّ العزة:(قال رب بما أغويتني لأزيننَّ لهم في الأرض ولأغوينَّهم أجمعين - إلَاّ عبادك منهم المخلصين)[الحجر: 39-40] .

يقول ابن القيم في هذا الصدد: " ومن مكايده أنه يسحر العقل دائماً حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزين له الفعل الذي يضره، حتى يخيل إليه أنّه أنفع الأشياء، وينفره من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له، حتى يخيل له أنّه يضره، فلا إله إلا الله، كم فتن بهذا السحر من إنسان! وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان! وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة، وشنع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة! وكم بهرج من الزيوف على الناقدين، وكم روج من الزغل على العارفين!

فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة، وسلك بهم من سبل الضلال كل مسلك، وألقاهم من المهالك في مهلك بعد مهلك، وزين لهم عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ووأد البنات، ونكاح الأمهات، ووعدهم بالفوز بالجنات، مع الكفر بصفات الرب تعالى وعلوه وتكلمه بكتبه ووضعهم ذلك في قالب التنزيه، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس، وحسن الخلق معهم، والعمل بقوله:(عليكم أنفسكم)[المائدة: 105] ، والإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في قالب التقليد، والاكتفاء بقول من هو أعلم منهم، والنفاق والإدهان في دين الله في قالب

ص: 68

العقل المعيشي الذي يندرج به العبد بني الناس " (1) .

وبهذا السبيل كاد إبليس اللعين آدم عليه السلام؛ إذ زين له الأكل من الشجرة التي حرمها الله عليه، فما زال به يزعم له أن هذه هي شجرة الخلد، وأن الأكل منها يجعله خالداً في الجنة، أو ملكاً من الملائكة، حتى أطاعه، فخرج من الجنة.

وانظر إلى أولياء الشيطان اليوم كيف يستخدمون هذا السبيل في إضلال العباد.

فهذه الدعوات إلى الشيوعية والاشتراكية....، يزعمون أنها هي المذاهب التي تخلص البشرية من الحيرة والقلق والضياع والجوع،

وهذه الدعوات التي تدعو إلى خروج المرأة كاسية عارية باسم الحرية، وتدعو إلى هذا التمثيل السخيف الذي تداس فيه الأعراض والأخلاق، وتنتهك فيه الحرمات باسم الفن.

وتلك الأفكار المسمومة التي تدعو إلى إيداع المال في البنوك بالربا؛ لتحقيق الأرباح باسم التنمية والربح الوفير.

وتلك الدعوات التي تزعم أن التمسك بالدين رجعية وجمود وتأخر، والتي تسم دعاة الإسلام بالجنون والعمالة لدول الشرق والغرب

إلخ.

كل ذلك امتداد لسبيل الشيطان الذي كاد به آدم منذ عهد بعيد، وهو تزيين الباطل وتحسينه، وتقبيح الحق وتكريه الناس به:(تالله لقد أرسلنا إلى أممٍ من قبلك فزيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم)[النحل: 63] .

وهو - والله - سبيل خطر؛ لأن الإنسان إذا زين له الباطل فرآه اندفع بكل قواه؛ لتحقيق ما يراه حقاً، وإن كان فيه هلاكه:(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً - الَّذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدُّنيا وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعاً)[الكهف: 103-104] .

وهؤلاء يندفعون لصدّ الناس عن دين الله ومحاربة أولياء الله، وهم

(1) إغاثة اللهفان: 1/130.

ص: 69

يظنون أنفسهم على الحقّ والهدى، (وإنَّهم ليصدٌّونهم عن السَّبيل ويحسبون أنَّهم مهتدون) [الزخرف: 37] .

وهذا هو السبب الذي من أجله آثر الكفار الدنيا، وأعرضوا عن الآخرة، كما قال تعالى:(وقيَّضنا لهم قرناء فزيَّنوا لهم مَّا بين أيديهم وما خلفهم)[فصلت: 25] . فالقرناء هم الشياطين، زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروها، ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة، وزينوا لهم ذلك حتى أنكروا البعث والحساب والجنّة والنار.

تسمية الأمور المحرمة بأسماء محببة:

ومن تغرير الشيطان بالإنسان وتزيينه الباطل أن يسمّي الأمور المحرمة، التي هي معصية لله، بأسماء محببة للنفوس خداعاً للإنسان وتزويراً للحقيقة، كما سمّى الشجرة المحرمة بشجرة الخلد، كي يزين لآدم الأكل منها:(قال يا آدم هل أدلُّك على شجرةٍ الخلد ومُلكٍ لا يَبْلَى)[طه: 120] .

يقول ابن القيم: " ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها، فسموا الخمر: أم الأفراح، وسموا أخاها بلقمة الراحة، وسموا الربا بالمعاملة، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية

".

واليوم يسمون الربا الفائدة، والرقص والغناء والتمثيل وصناعة التماثيل فناً.

2-

الإفراط والتفريط:

يقول ابن القيم في هذه المسألة: " وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلوّ، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنّه يأتي إلى قلب العبد فيشامّه، فإن وجد فيه فتوراً وتوانياً وترخيصاً أخذه من هذه الخطة، فثبطه وأقعده، وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى

ص: 70

ربما ترك العبد المأمورَ جملة.

وإن وجد عنده حذراً وجِدّاً، وتمشيراً ونهضة، وأيس أن يأخذه من هذا الباب، أمره بالاجتهاد الزائد، وسوّل له أن هذا لا يكفيك، وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، وأن لا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تفتر إذا فتروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات، فاغسل أنت سبعاً، وإذا توضأ للصلاة، فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدي، فيحمله على الغلو والمجاوزة، وتعدي الصراط المستقيم، كما يَحْمِلُ الأول على التقصير دونه وألا يقربه.

ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم: هذا بألا يقربه ولا يدنو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه، وقد فتن بهذا أكثر الخلق، ولا يُنْجي من ذلك إلا علم راسخ، وإيمان وقوة على محاربته، ولزوم الوسط. والله المستعان " (1) .

3-

تثبيطه العباد عن العمل ورميهم بالتسويف والكسل:

وله في ذلك أساليب وطرق، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم (القافية: مؤخر الرأس) ، إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة، عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله، انحلت عقدة، فإن توضأ، انحلت عقدة، فإن صلى، انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) (2) .

وفي البخاري ومسلم: (إذا استقظ أحدكم من منامه فتوضأ، فليستثر ثلاثاً، فإن الشيطان يبيت على خيشومه)(3) .

وفي صحيح البخاري: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر عنده رجل نام ليلة حتى أصبح، فقال:(ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)(4) .

(1) الوابل الصيب: ص19.

(2)

رواه البخاري: 3/24. ورقمه: 1143.

(3)

صحيح البخاري: 6/339. ورقمه: 3295. ورواه مسلم: 1/213. ورقمه: 238، واللفظ للبخاري.

(4)

رواه البخاري: 3/28. ورقمه: 1144.

ص: 71

وهذا الذي ذكرناه تكسيل وتثبيط من الشيطان بفعله، وقد يثبط الإنسان بالوسوسة، وسبيله في ذلك أن يحبب للإنسان الكسل، ويسوّف العمل، ويسند الأمر إلى طول الأمل، يقول ابن الجوزي في هذا: (كم قد خطر على قلب يهودي ونصراني حبّ الإسلام، فلا يزال إبليس يثبطه، ويقول: لا تعجل وتمهل النظر، فيسوفه حتى يموت على كفره، وكذلك يسوف العاصي بالتوبة، فيعجل له غرضه من الشهوات، ويمنيه الإنابة، كما قال الشاعر:

لا تعجل الذنب لما تشتهي ××× وتأمل التوبة من قابل

وكم من عازم على الجدّ سوفه! وكم ساع إلى مقام فضيلة ثَبّطه! فلربما عزم الفقيه على إعادة درسه، فقال: استرح ساعة، أو انتبه العابد في الليل يصلي، فقال له: عليك وقت، ولا يزال يحبب الكسل، ويسوف العمل، ويسند الأمر إلى طول الأمل.

فينبغي للحازم أن يعمل على الحزم، والحزم تدارك الوقت، وترك التسويف، والإعراض عن الأمل، فإنّ المخوف لا يؤمن، والفوات لا يبعث، وسبب كل تقصير، أو ميل إلى شرّ طول الأمل، فإن الإنسان لا يزال يحدّث نفسه بالنزوع عن الشر، والإقبال على الخير، إلا أنه يَعِدُ نفسه بذلك، ولا ريب أنه من أمّل أن يمشي بالنهار سار سيراً فاتراً. ومن أمل أن يصبح عمل في الليل عملاً ضعيفاً، ومن صوّر الموت عاجلاً جدّ

وقال بعض السلف: أنذركم (سوف) ، فإنها أكبر جنود إبليس، ومثل العامل على الحزم والساكن لطول الأمل، كمثل قوم في سفر، فدخلوا قرية، فمضى الحازم، فاشترى ما يصلح لتمام سفره، وجلس متأهباً للرحيل، وقال المفرط: سأتأهب فربما أقمنا شهراً، فضرب بوق الرحيل في الحال، فاغتبط المحترز (المتوقي الحازم) ، وتحير الأَسِفُ المفرط.

فهذا مثل الناس في الدنيا، منهم المستعد المستيقظ، فإذا جاء ملك الموت لم يندم، ومنهم المغرور المسوّف يتجرع مرير الندم وقت الرحلة. فإذا كان في الطبع حب التواني

ص: 72

وطول الأمل، ثم جاء إبليس يحث على العمل بمقتضى ما في الطبع، صعبت المجاهدة، إلا أنه من انتبه لنفسه علم أنه في صف حرب، وأن عدوّه لا يفتر عنه، فإن فتر في الظاهر، بطّن له مكيدة، وأقام له كميناً " (1) .

4-

الوعد والتمنية:

وهو يعد الناس بالمواعيد الكاذبة، ويعللهم بالأماني المعسولة؛ كي يوقعهم في وهدة الضلال:(يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشَّيطان إلَاّ غروراً)[النساء: 120] .

يعد الكفرة في قتالهم المؤمنين بالنصر والتمكين والعزة والغلبة، ثم يتخلى عنهم، ويولي هاربا:(وإذ زيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من النَّاس وَإِنِّي جارٌ لكم فلمَّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إِنِّي برئٌ منكم)[الأنفال: 48] .

ويعد الأغنياء الكفرة بالثروة والمال في الآخرة بعد الدنيا، فيقول قائلهم:(ولئِن رُّددتُّ إلى رَبِّي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً)[الكهف: 36] ، فيدمر الله جنته في الدنيا، فيعلم أنّه كان مغروراً مخدوعاً.

ويشغل الإنسان بالأماني المعسولة، التي لا وجود لها في واقع الحياة، فيصده عن العمل الجاد المثمر، ويرضى بالتخيل والتمني، وهو لا يفعل شيئاً.

5-

إظهار النصح للإنسان:

يدعو الشيطان المرء إلى المعصية، يزعم أنه ينصح له ويريد خيره، وقد أقسم لأبينا على أنه ناصح له:(وقاسمهما إِنِّي لكما لمن النَّاصحين)[الأعراف: 21] .

(1) تلبيس إبليس: 458.

ص: 73

وقد روى وهب بن منبه هذه القصة الطريفة عن أهل الكتاب (1) ، نسوقها لنعلم أسلوباً من أساليب الشيطان في إضلاله العباد، وكي نحذر نصحه، ونخالفه فيما يدعونا إليه.

يقول وهب: " إن عابداً كان في بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة، لهم أخت، وكانت بكراً، ليس لهم أخت غيرها، فخرج البعث على ثلاثتهم، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم، ولا من يأمنونه عليها، ولا عند من يضعونها.

قال: فأجمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم، فأتوه فسألوه عن أن يخلفوها عنده، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يرجعوا من غزاتهم، فأبى ذلك عليهم، وتعوذ بالله منهم ومن أختهم، قال: فلم يزالوا به حتى أطاعهم. فقال: أنزلوها في بيت حذاء صومعتي. فأنزلوها في ذلك البيت، ثم انطلقوا وتركوها.

فمكثت في جوار ذلك العابد زمناً ينزل إليها بالطعام من صومعته، فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد إلى الصومعة، ثم يأمرها فتخرج من بيتها، فتأخذ ما وضع لها من الطعام، قال: فتلطف له الشيطان، فلم يزل يرغبه في الخير، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهاراً، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها، فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها كان أعظم أجراً. قال: فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها، ووضعه على باب بيتها، ولم يكلمها.

قال: فلبث على هذه الحال زماناً، ثم جاءَه إبليس فرغّبه في الخير والأجر وحضه عليه، وقال: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك، فلم يزل به حتى مشى إليها بالطعام، ثم وضعه في بيتها، فلبث على ذلك زماناً.

(1) هذه القصة وأمثالها من الإسرائليات لا تصدق ولا تكذب، ويجوز التحديث بها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) .

ص: 74

ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وحضّه عليه، فقال: لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة، فلم يزل به حتى حدثها زماناً يطّلع إليها من فوق صومعته.

ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فقال: لو كنت تتنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها، وتقعد هي على باب بيتها، فتحدثك كان آنس لها. فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها وتحدثه، وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها، فلبثا زماناً يتحدثان.

ثم جاءَه إبليس فرغبه في الأجر والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك، ثم جلست قريباً من بيتها، فحدثتها كان آنس لها، فلم يزل به حتى فعل. فلبثا زمناً على ذلك.

ثم جاءه إبليس، فقال: لو دخلت البيت معها فحدثتها، ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك، فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدثها، نهارها كله، فإذا مضى النهار صعد صومعته.

ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها، فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه، ويسول له حتى وقع عليها، فأحبلها فولدت له غلاماً، فجاء إبليس فقال: أرأيت إن جاء إخوة الجارية، وقد ولدت منك فكيف تصنع؟ لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك، فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها، ففعل.

فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها، خذها واذبحها، وادفنها مع ابنها، فلم يزل به حتى ذبحها، وألقاها في الحفرة مع ابنها، وأطبق عليهما صخرة عظيمة، وسوّى عليهما، وصعد إلى صومعته يتعبد فيها، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، حتى أقبل إخوتها من الغزو، فجاؤوا فسألوه عنها، فنعاها لهم، وترحم عليها وبكاها. وقال: كانت خير امرأة، وهذا قبرها، فانظروا إليه. فأتى إخوتها القبر فبكوا أختهم، وترحموا

ص: 75

عليها، فأقاموا على قبرها أياماً، ثمّ انصرفوا إلى أهاليهم.

فلما جنّ عليهم الليل، وأخذوا مضاجعهم، جاءَهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر، فبدأ بأكبرهم، فسأله عن أختهم، فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها فأكذبه الشيطان. وقال: لم يصدقكم أمر أختكم إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاماً، فذبحه وذبحها معه فزعاً منكم، وألقاهما في حفيرة احتفرها خلف باب البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله، فإنكم ستجدونها كما أخبرتكم هناك جميعاً. وأتى الأوسط في منامه، فقال له مثل ذلك. ثم أتى أصغرهم، فقال له مثل ذلك.

فلما استيقظ القوم، أصبحوا متعجبين مما رأى كل واحد منهم، فأقبل بعضهم على بعض يقول كل واحد منهم: لقد رأيت الليلة عجباً، فأخبر بعضهم بعضاً بما رأى.

فقال كبيرهم: هذا حلم ليس بشيء، فامضوا بنا ودعوا هذا عنكم، قال أصغرهم: والله لا أمضي حتى آتي هذا المكان، فأنظر فيه. قال: فانطلقوا حتى أتوا البيت الذي كانت فيه أختهم، ففتحوا الباب، وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة، كما قيل لهم، فسألوا عنها العابد فصدّق قول إبليس فيما صنع بهما، فاستَعْدَوْا عليه ملكهم، فأنزل من صومعته، وقدّم ليصلب.

فلما أوثقوه على الخشبة، أتاه الشيطان، فقال له: قد علمت أني أنا صاحبك الذي فتنتك بالمرأة، حتى أحبلتها، وذبحتها وابنها، فإن أنت أطعتني اليوم، وكفرت بالله الذي خلقك وصوّرك، خلصتك مما أنت فيه، فكفر العابد، فلما كفر بالله تعالى، خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه " (1) .

وهذه القصة يذكرها المفسرون عند قوله تعالى: (كمثل الشَّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمَّا كفر قال إنَّي بريءٌ منك)[الحشر: 16] ،

(1) تلبيس إبليس: ص 39.

ص: 76

ويذكرون أن المعنيّ بالإنسان هذا العابد وأمثاله. والله أعلم.

6-

التدرج في الإضلال:

ومن القصة السابقة نعلم أسلوباً من أساليب الشيطان في الإضلال، وهو أن يسير بالإنسان خطوة خطوة، لا يكل ولا يملّ، كلما روّضه على معصية ما، قاده إلى معصية أكبر منها، حتى يوصله إلى المعصية الكبرى، فيوبقه ويهلكه، وتلك سنة الله في عباده، أنهم إذا زاغوا سلط عليم الشيطان، وأزاغ قلوبهم:(فلمَّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم)[الصف: 5] .

7-

إنساؤه العبد ما فيه خيره وصلاحه:

ومن ذلك ما فعله بآدم، فما زال يوسوس له حتى أنساه ما أمره به ربّه:(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فَنَسِيَ ولم نجد له عزماً)[طه: 115]، وقال صاحب موسى لموسى:(فإني نسيت الحوت وما أَنسَانِيهُ إلَاّ الشَّيطان أن أذكره)[الكهف: 63] .

ونهى الله رسوله أن يجلس هو أو واحد من أصحابه في المجالس التي يستهزأ فيها بآيات الله، ولكن الشيطان قد ينسي الإنسان أمر ربه، فيجالس هؤلاء المستهزئين:(وإذا رأيت الَّذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتَّى يخوضوا في حديثٍ غيره وإمَّا ينسينَّك الشَّيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظَّالمين)[الأنعام: 68] .

وطلب نبي الله يوسف إلى السجين الذي ظنّ بأنه سينجو من القتل، ويعود لخدمة الملك أن يذكره عند مليكه، فأنسى الشيطان هذا الإنسان أن يذكر لملكه نبي الله يوسف، فمكث يوسف في السجن بضع سنين:(وقال للَّذي ظنَّ أنَّه ناجٍ منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشَّيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين)[يوسف: 42] .

ص: 77

وإذا تمكن الشيطان من الإنسان تمكناً كلياً، فإنه ينسيه الله بالكلية:(استحوذ عليهم الشَّيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشَّيطان ألا إنَّ حزب الشَّيطان هم الخاسرون)[المجادلة: 19] . وهؤلاء هم المنافقون، كما دلت عليه الآية السابقة لهذه الآية. وسبيل التذكر هو ذكر الله؛ لأنه يطرد الشيطان:(واذكر ربَّك إذا نسيت)[الكهف: 24] .

8-

تخويف المؤمنين أولياءَه:

ومن وسائله أن يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا سبحانه عن هذا فقال:(إنَّما ذلكم الشَّيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مُّؤمنين)[آل عمران: 175] .

والمعنى: يخوفكم بأوليائه، قال قتادة:" يعظمهم في صدوركم، ولهذا قال: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مُّؤمنين) ، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم ".

9-

دخوله إلى النفس من الباب الذي تحبه وتهواه:

يقول ابن القيم في هذا الموضوع: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، حتى يصادف نفسه ويخالطها، ويسألها عمّا تحبه وتؤثره، فإذا عرفه استعان بها على العبد، ودخل عليه من هذا الباب، وكذلك عَلّم إخوانه وأولياءَه من الإنس، إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضاً أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوونه، فإنّه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه، ومن رام الدخول من غيره، فالباب عليه مسدود، وهو عن طريق مقصده مصدود "(1) .

(1) إغاثة اللهفان: 1/132.

ص: 78

ومن هاهنا دخل الشيطان على آدم وحواء كما قال تعالى: (وقال ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشَّجرة إلَاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)[الأعراف: 20] . يقول ابن القيم: " فشام عدو الله الأبوين، فأحس منهما إيناساً وركوناً إلى الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم، فعلم أنّه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب، فقاسمهما بالله إنّه لهما لمن الناصحين، وقال: (ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشَّجرة إلَاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) [الأعراف: 20] ".

10-

لقاء الشبهات:

ومن أساليبه في إضلال العباد زعزعة العقيدة بما يلقيه من شكوك وشبهات، وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض هذه الشبهات التي يلقيها، ففي حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله وليْنتهِ)(1) .

ولم يسلم الصحابة - رضوان الله عليهم - من شبهاته وشكوكه، وجاء بعضهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكون ما يعانونه من شكوكه ووساوسه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به! قال: (أو قد وجدتموه؟) قالوا: نعم. قال: (ذلك صريح الإيمان)(2) .

وصريح الإيمان دفعهم وسوسة الشيطان وكراهيتهم واستعظامهم لها، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال:(تلك محض الإيمان)(3) .

وانظر إلى شدّة ما كان يعانيه الصحابة من شكوكه، روى أبو داود في سننه عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه - يعرض بالشيء - لأن يكون حممة أحبّ إليه من أن يتكلم به، فقال:(الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)(4) .

ومن جملة ما يلقيه في النفوس مشككاً ما حدثنا الله عنه في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نَبِيٍّ إلَاّ تمنَّى ألقى

(1) رواه البخاري: 6/336. ورقمه: 3277. ورواه مسلم: 1/120. ورقمه: 134.

(2)

رواه مسلم: 1/119. ورقمه: 132.

(3)

رواه مسلم: 1/119. ورقمه: 133.

(4)

صحيح سنن أبي داود: 3/964. ورقمه: 4271.

ص: 79

الشَّيطان في أمنيَّته فينسخ الله ما يلقي الشَّيطان ثمَّ يحكم الله آياته والله عليم حكيم - ليجعل ما يلقي الشَّيطان فتنةً للَّذين في قلوبهم مرضٌ والقاسية قلوبهم وإنَّ الظَّالمين لفي شقاق بعيدٍ - وليعلم الَّذين أوتوا العلم أنَّه الحقُّ من ربك فيؤمنوا به فَتُخْبِتَ له قلوبهم وإنَّ الله لهاد الَّذين آمنوا إلى صراطٍ مستقيمٍ) [الحج: 52-54] .

والمراد بالتمني هنا حديث النفس، والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة، فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون، أو يتمنى إيمان الناس جميعاً.... فينسخ الله ما يلقيه الشيطان بوسواسه في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بتنبيهه إلى الحق، وتوجيهه إلى مراد الله

، وما قيل من أن مراد الآية أن الشيطان يدخل في القرآن ما ليس منه ففيه بعد، ويرده أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم في التبليغ.

يقول شقيق، مبيناً بعض الشبهات التي قذفها الشيطان في نفس الإنسان: ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ:(وإني لغفَّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمَّ اهتدى)[طه: 82] ، وإما من خلفي فيخوفني الضيعة على من أخلفه، فأقرأ:(وما من دابَّةٍ في الأرض إلَاّ على الله رزقها)[هود: 6] ، ومن قبل يميني، يأتيني من قبل النساء، فأقرأ:(والعاقبة للمتَّقين)[الأعراف: 128] ، ومن قبل شمالي، فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ:(وحيل بينهم وبين ما يشتهون)[سبأ: 54] .

ص: 80

أساليب الشيطان في إضلال الإنسان (الجزء الثاني)

11-

14- الخمر والميسر والأنصاب والأزلام:

قال تعالى: (إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشَّيطان فاجتنبوه لعلَّكم تفلحون - إنَّما يريد الشَّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدَّكم عن ذكر الله وعن الصَّلاة فهل أنتم مُّنتهون)[المائدة: 90-91] .

والخمر: كل ما يسكر، والميسر: القمار، والأنصاب: كل ما نصب كي يعبد من دون الله، من حجر، أو شجر، أو وثن، أو قبر، أو علم. والأزلام: القداح كانوا يستقسمون بها الأمور؛ أي: يطلبون بها علم ما قسم لهم.

وهذه قد تكون أقداحاً أو سهاماً أو حُصَيّات أو غير ذلك، يكون مكتوباً على واحد منها أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، فإذا شاء أحدهم زواجاً أو سفراً أو نحو ذلك، أدخل يده في الشيء الذي فيه هذه القداح أو السهام، فإن خرج الذي فيه الأمر بالفعل فعل، وإن خرج الآخر ترك.

فالشيطان يحض الناس على هذه الأربع؛ لأنها ضلال في نفسها، وتؤدي إلى نتائج وخيمة، وآثار سيئة، فالخمر تفقد شاربها عقله، فإذا فقد عقله فعل الموبقات، وارتكب المحرمات، وترك الطاعات، وآذى عباد الله.

ذكر ابن كثير في تفسيره عن عثمان بن عفان قال: " اجتنبوا الخمر، فإنها أمّ الخبائث، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فعلقته امرأة غويّة، فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة، فدخل معها، فطفقت كلما دخل باباً تغلقه دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام، وباطية خمر.

فقالت: إني والله ما دعوتك لشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تقتل هذا الغلام، أو تشرب هذا الخمر، فسقته كأساً، فقال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه " (1) .

(1) رواه البيهقي، وصحح ابن كثير إسناده.

ص: 81

وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والنحاس في ناسخه عن سعد بن أبي وقاص: أن رجلاً من الأنصار صنع طعاماً لبعض الصحابة، ثمّ سقاهم خمراً قبل أن ينزل تحريمها، فلما سكروا تفاخروا، فتعاركوا، وأصاب سعد بن أبي وقاقص من هذا العراك أذى، فقد ضربه أحدهم بلحي بعير، فأصاب أنفه، فأثر فيه أثراً صاحبه طيلة حياته (1) .

وتقدم أحدُ الصحابة يصلي بالناس وهو سكران، قبل نزول تحريم الخمر فقرأ:(قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون) فأنزل الله: (لا تقربوا الصَّلاة وأنت سكارى حتَّى تعلموا ما تقولون)[النساء: 43](2) .

وقد رأينا الرجل الذي بلغ من الكبر عِتّياً عندما يشرب الخمر يتصرف تصرفات المجانين، ويضحك منه الكبار والصغار، ويفترش الطريق تدوسه الناس بأقدامها.

والميسر مرض خطير كالخمر، إذا تأصل في نفس الإنسان صعب الشفاء منه، وهو سبيل لضياع الوقت والمال، والميسر ينشئ الأحقاد، ويدفع الحرام.

والشيطان يدعو إلى إقامة النصب كي تتخذ بعد ذلك آلهة تُعبد من دون الله، وقد انتشرت عبادة الأنصاب قديماً وحديثاً، والشياطين تلازم هذه الأصنام، وتخاطب عبادها في بعض الأحيان، وتريهم بعض الأمور التي تجعل عابديها يثقون بها، فيقصدونها بالحاجات، ويدعونها في الكربات، ويستنصرون بها في الحروب، ويقدمون لها الذبائح والهدايا، ويرقصون حولها ويطربون، ويقيمون لها الأعياد والاحتفالات، وقد أضلّ بهذا الكثير، كما قال إبراهيم داعياً ربه:(واجنبني وبني أن نَّعبد الأصنام - رب إنهنَّ أضللن كثيراً من النَّاس)[إبراهيم: 35-36] .

ولا تزال عبادة القبور منتشرة بين المسلمين، يقصدونها بالدعاء والألطاف والذبائح

وانتشرت بدعة جديدة اليوم - يضحك بها الشيطان على بني الإنسان - تلك هي نصب الجندي المجهول، يزعمون أنه رمز الجندي المقاتل، ويكرمونه بالهدايا

(1) راجع: الدر المنثور، للسيوطي: 3/158.

(2)

راجع روايات الحديث في الدر المنثور: 7/545.

ص: 82

والورود والتعظيم، وكلما زار البلاد التي فيها مثل هذه النصب زعيم، جاء هذا النصب وقدم له هدية، وكل هذا من عبادة الأنصاب، التي هي من عمل الشيطان.

الاستقسام بالأزلام:

الأمور المستقبلية من مكنون علم الله، ولذلك شرع لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الاستخارة، إذا أردنا سفراً أو زواجاً أو غير ذلك، نرجو من الله أن يختار لنا خير الأمور.

وأبطل الاستقسام بالأزلام، فإن السهام والقداح لا تعلم أين الخير ولا تدريه، فاستشارتها خلل في العقل، وقصور في العلم.

ومثل ذلك زجر الطير: كان من يريد سفراً، إذا خرج من بيته، ومرّ بطائر زجره، فإن تيامن، كان سفراً ميموناً، وإن مرّ عن شماله، كان سفراً مشؤوماً

، وكل ذلك من الضلال.

15-

السحر (1) :

ومما يضل به الشيطان أبناء آدم السحر، فهم يعلمونهم هذا العلم، الذي يضر ولا ينفع، ويكون هذا العلم سبيلاً للتفريق بين المرء وزوجه، والتفريق بين الزوجين: يعدّه الشيطان من أعظم الأعمال التي يقوم بها جنوده كما سبق أن ذكرنا.

قال تعالى: (وما كفر سليمان ولكنَّ الشَّياطين كفروا يعلمون النَّاس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحدٍ حتَّى يقولا إنَّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلَّمون منهما ما يفرقُون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرّين به من أحدٍ إلَاّ بإذن الله ويتعلَّمون ما يضرُّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)[البقرة: 102] .

هل للسحر حقيقة؟

اختلف العلماء في ذلك فمن قائل: إنّه تخييل لا حقيقة له: (فإذا حبالهم

(1) بسط القول في السحر في مؤلف مستقل أ. د. عمر الأشقر عنون له بعنوان: عالم السحر والشعوذة.

ص: 83

وعصيُّهم يخيَّل إليه من سحرهم أنَّها تسعى) [طه: 66]، ومن قائل: إن له حقيقة كما دلت عليه آية البقرة، والصحيح أنّه نوعان: نوع هو تخييل، يعتمد على الحيل العلمية وخفة الحركة، ونوع له حقيقة، يفرق به بين المرء وزوجه، ويؤذى به

سحر اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم:

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:

" سَحَر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني زُريَق له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُخيّل إليه أنه يفعل الشي وما فعله.

حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة - وهو عندي، لكنه دعا ودعا، ثم قال:(يا عائشة، أشعرتِ أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه (1) ؟ أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ.

فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب (2) . قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مُشط ومُشاطة (3) وجُفّ طلع نخلة ذكر (4) .

(1) أي أجابني فيما طلبته.

(2)

أي مسحور.

(3)

المشاطة: شعر سقط من الرأس بعد تسريحه.

(4)

جف طلع نخلة، أي: غشاء الطلع.

ص: 84

قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان.

فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال:(يا عائشة، كأن ماءها نقاعة الحناء، وكأنّ رؤوس نخلها رؤوس الشياطين) .

قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجته؟ قال:(قد عافاني الله، فكرهت أن أثير على الناس فيه شراً، فأمر بها فدُفنت)(1) .

ولا يقال: إن سحر الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب له لبساً في النبوة والرسالة؛ لأن أثر السحر لم يتجاوز ظاهر الجسم الشريف، فلم يصل إلى القلب والعقل. فهو كسائر الأمراض التي قد تعرض له، والتشريع محفوظ بحفظ الله تعالى، قال الله تعالى:(إنَّا نحن نزَّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون)[الحجر: 9] .

16-

ضعف الإنسان:

في الإنسان نقاط ضعف كثيرة، هي في الحقيقة أمراض، والشيطان يعمق هذه الأمراض في نفس الإنسان، بل تصبح مداخله إلى النفس الإنسانية، ومن هذه الأمراض: الضعف، واليأس، والقنوط، والبطر، والفرح، والعجب، والفخر، والظلم، والبغي، والجحود، والكنود، والعجلة، والطيش، والسفه، والبخل، والشح، والحرص، والجدل، والمراء، والشك، والريبة، والجهل، والغفلة، واللدد في الخصومة، والغرور، والادعاء الكاذب، والهلع، والجزع، والمنع، والتمرد، والطغيان،

(1) صحيح البخاري: 10/221. ورقمه: 5763.

ص: 85

وتجاوز الحدود، وحب المال، والافتتان بالدنيا.

فالإسلام يدعو إلى إصلاح النفس، والتخلص من أمراضها، وهذا يحتاج إلى جهد يبذل، كما يحتاج إلى صبر على مشقّات الطريق.

أمّا اتباع الهوى، وما تميله النفس الأمارة بالسوء، فإنه سهل ميسور، فالأول مثله مثل من يصعد بصخرة إلى أعلى الجبل، ومثل الثاني كمن يهوي من أعلى الجبل إلى أسفله، ولذلك كانت الاستجابة للشيطان كثيرة، وَوَجد دعاة الحق صعوبة، وأي صعوبة في الدعوة إلى الله تعالى.

ونحن نسوق إليك بعض كلام السلف؛ لنوضح كيف يستغل الشيطان نقاط الضعف في الإنسان.

حكى المعتمر بن سليمان عن أبيه أنه قال: " ذكر لي أن الشيطان الوسواس ينبعث في قلب ابن آدم عند الحزن والفرح، فإذا ذكر الله خنس"(1) .

وقال وهب بن منبه: " قال راهب للشيطان وقد بدا له: أي أخلاق ابن آدم أعون لك عليهم؟ قال: الحدّة (صفة تعتري الإنسان كالغضب) ، إن العبد إذا كان حديداً، قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة "(2) .

ويذكر ابن الجوزي أيضاً عن ابن عمر: " أن نوحاً سأل الشيطان عن الخصال التي يهلك بها الناس، فقال: الحسد والحرص ".

وليس بعيداً عنّا ما فعله الشيطان بيوسف وإخوته، وكيف أوغر صدور الإخوة على أخيهم، وقد قال يوسف:(وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نَّزغ الشَّيطان بيني وبين إخوتي)[يوسف: 100] .

17-

النساء وحب الدنيا:

وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما ترك بعده فتنة أشد على الرجال من النساء، ولذلك أمرت المرأة بستر جسدها كله إلا الوجه والكفين، وأمر

(1) تفسير ابن كثير: 17/423.

(2)

تلبيس إبليس: 42.

ص: 86

الرجال بغض أبصارهم، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالمرأة، وأخبر أنّه ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما. وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح:(المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)(1) .

ونحن اليوم نشاهد عظم فتنة خروج النساء كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم كاسيات عاريات، قامت مؤسسات في الشرق والغرب تستخدم جيوشاً من النساء والرجال لترويج الفاحشة بالصورة المرئية، والقصة الخليعة، والأفلام التي تحكي الفاحشة وتدعو لها!

أما حبّ الدنيا فهو رأس كل خطيئة، وما سفكت الدماء، وهتكت الأعراض، وغصبت الأموال، وقطعت الأرحام،

إلا لأجل حيازة الدنيا، والصراع على حطامها الفاني، وحرصاً على متعها الزائدة.

18-

الغناء والموسيقى:

الغناء والموسيقى طريقان يفسد الشيطان بهما القلوب، ويخرب النفوس، يقول ابن القيم:" ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب بها عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً وغروراً، وأوحى لها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً.... "(2) .

ومن عجب أن بعض الناس، الذين يدّعون التعبد، يتخذون الغناء والرقص والتمايل طريقاً للتعبد، يتركون السماع الرحماني، ويذهبون إلى السماع الشيطاني، وقد عدّ ابن القيم (3) لهذا السماع بضعة عشر اسماً: اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنى، وقرآن

(1) صحيح سنن الترمذي: 1/343. ورقمه: 936. وقوله: استشرفها، أي: زينها في نظر الرجال.

(2)

إغاثة اللهفان: 1/242.

(3)

إغاثة اللهفان: 1/256.

ص: 87

الشياطين، ومنبت النفاق في القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود.

وأطال النفس في بيان تحريمه، وما فيه من زور وبهتان، فراجعه إن شئت.

الجرس مزامير الشيطان:

أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن: (الجرس مزامير الشيطان) . رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة (1) . ولذا فإن الملائكة (لا تصحب رفقة فيها كلب ولا جرس) . رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة (2) .

19-

تهاون المسلمين في تحقيق ما أمروا به:

إذا التزم المسلم بإسلامه فإن الشيطان لا يجد سبيلاً لإضلاله والعبث به، فإذا تهاون وتكاسل في بعض الأمور، فإن الشيطان يجد فرصة، قال تعالى:(يا أيَّها الَّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافَّةً ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه لكم عدوٌ مُّبينٌ)[البقرة: 208] .

فالدخول في الإسلام في كل الأمور هو الذي يخلص من الشيطان، فمثلاً إذا كانت صفوف المصلين مرصوصة، فإن الشياطين لا تستطيع أن تتخلل المصلين، فإذا تُركت فُرجٌ بين الصفوف، فإن الشياطين تتراقص بين صفوف المصلين؛ ففي الحديث:(أقيموا صفوفكم، لا تتخللكم الشياطين كأنّها أولاد الحَذَف) . قيل يا رسول الله: وما أولاد الحذف؟ قال: (سود جُرد بأرض اليمن) . رواه أحمد والحاكم بإسناد صحيح (3) .

وفي الحديث الآخر: (أقيموا صفوفكم، وتراصوا، فوالذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان بين صفوفكم كأنها غنم عُفْر) . رواه أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح (4) .

كيف يصل الشيطان بوسوسته إلى نفس الإنسان

المطلب الأول

الوسوسة

الشيطان يستطيع أن يصل إلى فكر الإنسان وقلبه بطريقة لا ندركها، ولا نعرفها، يساعده على ذلك طبيعته التي خلق عليها، وهذا هو الذي نسميه بالوسوسة، وقد أخبرنا الله بذلك إذ سماه:(الوسواس الخنَّاس - الَّذي يوسوس في صدور النَّاس)[الناس: 4-5] . قال ابن كثير في تفسيره:

(1) صحيح مسلم: 3/1672. ورقمه: 2114.

(2)

صحيح مسلم: 3/1672. ورقمه: 2113.

(3)

صحيح الجامع: 1/384. وأولاد الحَذف: الغنم الصغار، والمراد الشياطين، فإنها تدخل في أوساط الصفوف كأولاد الحذف. جُرد، أي: ليس على جلدها شعر.

(4)

صحيح الجامع: 1/384.

ص: 88

(الوسواس الخنَّاس) : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس.

وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)(1) .

وبهذه الوسوسة أضل آدم وأغواه بالأكل من الشجرة: (فوسوس إليه الشَّيطان قال يا آدم هل أدلُّك على شجرةٍ الخلد وملكٍ لا يبلى)[طه: 120] .

وقد تتمثل الشياطين في صورة بشر، وقد يحدّثون الإنسان، ويُسمِعونه، ويأمرونه، وينهونه، بمرادهم

كما سيأتي بيانه.

(1) مشكاة المصابيح: 1/26. ورقمه: 68.

ص: 89