المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس أسلحة المؤمن في حربه مع الشيطان - عالم الجن والشياطين

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الفصل الخامس أسلحة المؤمن في حربه مع الشيطان

‌الفصل الخامس أسلحة المؤمن في حربه مع الشيطان

أولاً: الحذر والحيطة:

هذا العدو الخبيث الماكر حريص على إضلال بني آدم، وقد علمنا أهدافه ووسائله في الإضلال، فبمقدار علمك بهذا العدو: أهدافه ووسائله والسبل التي يضلنا بها تكون نجاتنا منه، أما إذا كان الإنسان غافلاً عن هذه الأمور فإن عدوه يأسره ويوجهه الوجهة التي يريد.

وقد صور ابن الجوزي هذا الصراع بين الإنسان والشيطان تصويراً بديعاً حيث يقول: " واعلم أن القلب كالحصن، وعلى ذلك الحصن سور، وللسور أبواب وفيه ثلم (1) ، وساكنه العقل، والملائكة تتردد على ذلك الحصن، وإلى جانبه ربض (2) فيه الهوى، والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع، والحرب قائمة بين أهل الحصن وأهل الربض، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم.

فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه وجميع الثلم، وألا يفتر عن الحراسة لحظة، فإن العدو لا يفتر. قال رجل للحسن البصري: أينام إبليس؟ قال: لو نام لوجدنا راحة.

وهذا الحصن مستنير بالذكر مشرق بالإيمان، وفيه مرآة صقيلة يتراءى فيها صورة كل ما يمرّ به، فأول ما يفعل الشيطان في الربض إكثار الدخان، فتسودّ حيطان الحصن، وتصدأ المرآة، وكمال الفكر يرد الدخان، وصقل الذكر يجلو المرآة، وللعدو حملات، فتارة يحمل فيدخل الحصن، فيكر عليه الحارس فيخرج، وربما دخل فعاث، وربما أقام لغفلة الحراس، وربما

(1) الثلمة في السور: الموضع المتهدم منه.

(2)

الربض: المكان الذي يُؤوى إليه.

ص: 127

ركدت الريح الطاردة للدخان، فتسود حيطان الحصن، وتصدأ المرآة فيمر الشيطان ولا يدري به، وربما جرح الحارس لغفلته، وأسر واستخدم، وأقيم يستنبط الحيل في موافقة الهوى ومساعدته " (1) .

ثانياً: الالتزام بالكتاب والسنّة:

أعظم سبيل للحماية من الشيطان هو الالتزام بالكتاب والسنة علماً وعملاً، فالكتاب والسنة جاءا بالصراط المستقيم، والشيطان يجاهد كي يخرجنا عن هذا الصراط قال تعالى:(وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السُّبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لعلَّكم تتَّقون)[الأنعام: 153] .

وقد شرح الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية فعن عبد الله بن مسعود قال: " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثمّ قال:(هذا سبيل الله) ثمّ خط خطوطاً عن يمينه وشماله وقال: (هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) وقرأ: (وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه)[الأنعام: 153] . رواه الإمام أحمد والنسائي والدارمي (2) .

فاتباع ما جاءنا من عند الله من عقائد وأعمال وأقوال وعبادات وتشريعات، وترك كل ما نهى عنه، يجعل العبد في حرز من الشيطان، ولذلك قال سبحانه وتعالى:(يا أيَّها الَّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافَّةً ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه لكم عدوٌّ مُّبينٌ)[البقرة: 208] .

والسلم: هو الإسلام. وقيل طاعة الله، وفسره مقاتل بأنه العمل بجميع الأعمال ووجوه البر، وعلى ذلك فقد أمرهم بالعمل بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ما استطاعوا، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، فالذي يدخل في الإسلام مبتعد عن الشيطان وخطواته، والذي يترك شيئاً من الإسلام فقد اتبع بعض خطوات الشيطان، ولذلك كان تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، أو الأكل من المحرمات والخبائث،

(1) تلبيس إبليس: 49.

(2)

مشكاة المصابيح: 1/58. ورقمه: 166. وقال محقق المشكاة: وإسناده حسن.

ص: 128

كل ذلك من اتباع خطوات الشيطان التي نهينا عنها: (يا أيَّها النَّاس كلوا ممَّا في الأرض حلالاً طيباً ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه لكم عدوٌّ مُّبين)[البقرة: 168] .

إن الالتزام بالكتاب والسنة قولاً وعملاً يطرد الشيطان ويغيظه أعظم إغاظة، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابنُ آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله، (وفي رواية أبي كريب: يا ويلي) أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنّة وأُمرتُ بالسجود فأبيت، في النار) (1) .

ثالثاً: الالتجاء إلى الله والاحتماء به:

خير سبيل للاحتماء من الشيطان وجنده هو الالتجاء إلى الله والاحتماء بجنابه، والاستعاذة به من الشيطان، فإنه عليه قادر. فإذا أجار عبده فأنى يخلص الشيطان إليه، قال تعالى:(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين - وإمَّا ينزغنَّك من الشَّيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنَّه سميع عليم)[الأعراف: 199-200] .

وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من همزات الشياطين وحضورهم: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشَّياطين - وأعوذ بك رب أن يحضرون)[المؤمنون: 97-98] .

وهمزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم، فالله يأمرنا بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم، لشدة العداوة بينه وبين آدم.

يقول ابن كثير في تفسيره: " والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى، والالتصاق بجنابه من شرّ كل ذي شرّ

، ومعنى (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ؛ أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم، أن يضرني في ديني ودنياي،

(1) صحيح مسلم: 1/87. ورقمه: 81.

ص: 129

أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفّه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجنّ؛ لأنه لا يقبل رشوة، ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه " (1) .

وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستعاذة بربه من الشيطان بصيغ مختلفة، فكان يقول بعد دعاء الاستفتاح في الصلاة:(أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) ، روى ذلك أصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن أبي سعيد (2) .

مواضع الاستعاذة:

1-

الاستعاذة عند دخول الخلاء:

وكان إذا دخل الخلاء يستعيذ من الشياطين ذكورهم وإناثهم، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء، قال:(اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)(3) .

وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)(4) .

2-

الاستعاذة عند الغضب:

عن سليمان بن صُرَد قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً، قد احمرّ وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) . رواه البخاري ومسلم (5) .

وقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر إذا أصبح وإذا أمسى أن يقول: (اللهم فاطر السماوات

(1) تفسير ابن كثير: 1/28.

(2)

حديث صحيح، انظر تخريجه، وكلام الشيخ ناصر الدين الألباني عليه في إرواء الغليل: 2/51. ورقمه: 341.

(3)

رواه البخاري: 1/242. ورقمه: 142، ورواه مسلم: 1/283. ورقمه: 375.

(4)

صحيح سنن أبي داود: 1/4. ورقمه: 4.

(5)

مشكاة المصابيح: 1/743. ورقمه: 2418.

ص: 130

والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، ربّ كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شرّ الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً، أو أجره إلى مسلم) (1) . رواه الترمذي.

3-

الاستعاذة عند الجماع:

وحثنا على الاستعاذة حين يأتي الرجل أهله، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً) . متفق عليه (2) .

4-

الاستعاذة عند نزول وادٍ أو منزل:

وإذا نزل المرء وادياً أو منزلاً، فعليه أن يستعيذ بالله، لا كما كان يفعل أهل الجاهلية يستعيذون بالجن والشياطين، فيقول قائلهم: أعوذ بزعيم هذا الوادي من سفهاء قومه، فكانت العاقبة أن استكبرت الجن وآذتهم، كما حكى الله عنهم ذلك في سورة الجن:(وأنَّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجن فزادوهم رهقاً)[الجن: 6] ؛ أي الجن زادت الإنس رهقاً.

وقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نستعيذ بالله عندما ننزل منزلاً فعن خولة بنت حكيم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أحدكم إذا نزل منزلاً قال: أعوذ بكلمات الله التامة من شرّ ما خلق، لم يضره في ذلك المنزل شيء، حتى يرتحل منه) . رواه ابن ماجة بإسناد صحيح (3) .

5-

التعوذ بالله من الشيطان عند سماع نهيق الحمار:

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا نهق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم) . رواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد صحيح (4) ، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحمار إذا نهق فإنه يكون قد رأى شيطاناً (5) .

6-

التعوذ حين قراءَة القرآن:

قال تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم - إنَّه ليس له سلطان على الَّذين آمنوا وعلى ربهم يتوكَّلون)[النحل: 98-99] .

(1) صحيح سنن الترمذي: 3/172. ورقمه: 2798.

(2)

مشكاة المصابيح: 1/732. ورقمه: 3416.

(3)

صحيح سنن ابن ماجة: 2/273. ورقمه: 2857.

(4)

راجع صحيح الجامع: 1/286.

(5)

الحديث رواه البخاري ومسلم. انظر: مشكاة المصابيح: 1/743. ورقمه: 2419.

ص: 131

وقد بين ابن القيم الحكمة في الاستعاذة بالله من الشيطان حين قراءَة القرآن، فقال:

1-

" إن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمره الشيطان فيها، فأمر أن يطرد مادة الداء، ويخلي منه القلب، ليصادف الداء محلاً خالياً، فيتمكن منه، ويؤثر فيه، كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ××× فصادف قلباً خالياً فتمكنا

فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب، وقد خلا من مزاحم ومضاد له، فينجع فيه.

2-

ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أنّ الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولاً فأولاً، فكلما أحسّ بنبات الخير من القلب، سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه، لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها.

3-

ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن، وتستمع لقراءته، كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها المصابيح، فقال عليه الصلاة والسلام:(تلك الملائكة) ، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه، حتى يحضره خاص ملائكته، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.

4-

ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل

ص: 132

انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

5-

ومنها: أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه، والله أشد أذناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته، والشيطان إنما قراءَته الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى واستماع الربّ قراءَته.

6-

ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنّه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته

، فإذا كان هذا مع الرسل عليهم الصلاة والسلام فكيف بغيرهم. ولهذا يغلط الشيطان القارئ تارة، ويخلط عليه القراءَة، ويشوشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه، فإذا حضر عند القراءَة، لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعها له.

7-

ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير، أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ؛ ليقطعه عنه " (1) .

7-

تعويذ الأبناء والأهل:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) . ويقول: (إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق) . رواه البخاري (2) .

قال أبو بكر ابن الأنباري: " الهامة: واحد الهوام، ويقال: هي كل نسمة تهم بسوء، واللامة: الملمة، وإنما قال: لامة ليوافقه لفظ هامة، فيكون أخف على اللسان "(3) .

خير ما يتعوذ به المتعوذون:

وخير ما يتعوذ به المتعوذون سورتا الفلق والناس، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن خبيب أن يقرأ:(قل هو الله أحد) ، والمعوذتين حين يمسي، وحين يصبح، ثلاثاً. وقال له:(يكفيك الله كل شيء) .

وفي رواية أخرى أمره بقراءَة المعوذتين، ثم قال له:(ما تعوذ الناس بأفضل منهما) .

وفي بعض الروايات: أن هذه القصة كانت مع عقبة بن عامر. وفي رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لابن عابس الجهني: (إن أفضل ما تعوذ به المتعوذون المعوذتان) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث عقبة: (ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما)(4) .

(1) إغاثة اللهفان: 1/109.

(2)

مشكاة المصابيح: 1/488. ورقمه: 1535.

(3)

تلبيس إبليس: 47.

(4)

انظر هذه الأحاديث في صحيح سنن النسائي: 3/1104 -1107. وأرقامها: 5017-5029.

ص: 133

كيف تصنع بالشيطان إذ سوّل لك الخطايا؟

حكي عن أحد علماء السلف أنه قال لتلميذه: " ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده.

قال هذا يطول، أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها، أو منعك من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده جهدي وأرده. قال: هذا أمر يطول، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفّه عنك " (1) .

وهذا فقه عظيم من هذا العالم الجليل، فإن الاحتماء بالله، والالتجاء إليه، هو السبيل القوي الذي يطرد الشيطان ويبعده، وهذا ما فعلته أم مريم إذ قالت:(وإني أعيذها بك وذريتها من الشَّيطان الرَّجيم)[آل عمران: 36] .

لماذا لا يذهب الشيطان عندما يستعيذ منه الإنسان؟

يقول بعض الناس: إننا نستعيذ بالله، ومع ذلك فإننا نحس بالشيطان يوسوس لنا، ويحرضنا على الشر، ويشغلنا في صلاتنا.

والجواب: أن الاستعاذة كالسيف في يد المقاتل، فإن كانت يده قوية، أصاب من عدوه مقتلاً، وإلا فإنه قد لا يؤثر فيه، ولو كان السيف صقيلاً حديداً.

وكذلك الاستعاذة إذا كانت من تقيّ ورع كانت ناراً تحرق الشيطان، وإذا كانت من مخلط ضعيف الإيمان فلا تؤثر في العدو تأثيراً قوياً.

قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: " واعلم أن مثل إبليس مع المتقي والمخلط، كرجل جالس بين يديه طعام ولحم، فمرّ به كلب، فقال له: اخسأ، فذهب. فمرّ بآخر بين يديه طعام ولحم فكلّما أخسأه (طرده) لم يبرح. فالأول مثل المتقي يمر به الشيطان، فيكفيه في طرده الذكر، والثاني مثل المخلط لا يفارقه الشيطان لمكان تخليطه، نعوذ بالله من الشيطان "(2) .

فعلى المسلم الذي يريد النجاة من الشيطان وأحابيله أن يشتغل بتقوية إيمانه،

(1) تلبيس إبليس: 48.

(2)

تلبيس إبليس: 48.

ص: 134

والاحتماء بالله ربه، والالتجاء إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

رابعاً: الاشتغال بذكر الله:

ذكر الله من أعظم ما ينجي العبد من الشيطان، وفي الحديث: أن الله أمر نبي الله يحي أن يأمر بني إسرائيل بخمس خصال، ومن هذه:(وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدّو في أثره سراعاً، حتى إذا أتى إلى حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) .

يقول ابن القيم (1) : " فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجاً بذكره، فإنّه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده، فإذا غفل، وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى، انخنس عدو الله وتصاغر، وانقمع، حتى يكون كالوَصع [طائر أصغر من العصفور] ، وكالذباب، ولهذا سمي (الوسواس الخناس) ؛ لأنه يوسوس في صدور الناس، فإذا ذكر الله خنس، أي كف وانقبض. وقال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس ".

ويقول ابن القيم: " الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه، فما ظنك برجل قد احتوشه أعداؤه المحنقون عليه غيظاً، وأحاطوا به، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشرّ والأذى، ولا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله عز وجل ".

ثم ساق رحمه الله حديث عبد الرحمن بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، وكنا في صفّةٍ بالمدينة، فقام علينا وقال: (إنّي رأيت البارحة عجباً: رأيت رجلاً من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه برّه بوالديه، فرد ملك الموت عنه.

ورأيت رجلاً قد بسط عليه عذاب

(1) الوابل الصيب: ص60.

ص: 135

القبر، فجاءه وضوؤه، فاستنقذه من ذلك.

ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله عز وجل، فطرد الشياطين عنه.

ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته، فاستنقذته من أيديهم.

ورأيت رجلاً من أمتي يلتهب - وفي رواية: يلهث - عطشاً، كلما دنا من حوض منع وطرد، فجاءه صيام شهر رمضان، فأسقاه وأرواه.

ورأيت رجلاًَ من أمتي ورأيت النبيين جلوساً حِلَقاً حِلَقاً، كلما دنا إلى حلقة طرد، فجاءه غسلُهُ من الجنابة، فأخذ بيده، فأقعده إلى جنبي.

ورأيتُ رجلاً من أمتي، بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن يساره ظلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، وهو متحيّر فيها، فجاءه حجة وعمرته، فاستخرجاه من الظلمة، وأدخلاه في النور.

ورأيت رجلاً من أمتي يتقي بيده وهج النار وشرره، فجاءته صدقته، فصارت سترة بينه وبين النار، وظللت على رأسه.

ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءته صلته لرحمه فقالت: يا معشر المسلمين، إنه كان وصولاً لرحمه فكلموه، فكلمه المؤمنون، وصافحوه وصافحهم.

ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الزبانية، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فاستنقذه من أيديهم، وأدخله في ملائكة الرحمة.

ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه، وبينه وبين الله عز وجل حجاب، فجاءه حُسن خلقه، فأخذ بيده، فأدخله على الله عز وجل.

ورأيت رجلاً من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من الله عز وجل، فأخذ صحيفته، فوضعها في يمينه.

ورأيت رجلاً من أمتي خفّ ميزانه فجاء أفراطه (1) ، فثقلوا ميزانه.

ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه في الله عز وجل، فاستنقذه من ذلك ومضى.

ورأيت رجلاً من أمتي قد أقوى في النار، فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك.

ورأيت رجلاً من

(1) جمع فرط، والمراد به: من مات له من الأطفال.

ص: 136

أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السّعَفة في ريح عاصف، فجاءه حُسْنُ ظنهِ بالله عز وجل، فسَكن رعدَتَهُ ومضى.

ورأيت رجلاً من أمتي يزحفُ على الصراط، ويحبوا أحياناً، ويتعلق أحياناً، فجاءته صلاته، فأقامته على قدميه، وأنقذته.

ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة، فغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله، ففتحت له الأبواب، وأدخلته الجنة) .

رواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب (الترغيب في الخصال المنجية، والترهيب من الخلال المردية) ، وبنى كتابه عليه وجعله شرحاً له، وقال: هذا حديث حسن جداً، رواه عن سعيد بن المسيب: عمرو بن آزر، وعلي بن زيد بن جدعان، وهلال أبو جبلة. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، يعظم شأن هذا الحديث، وبلغني عنه أنه كان يقول: شواهد الصحة عليه.

والمقصود منه قوله صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله عز وجل، فطرد الشيطان عنه) فهذا مطابق لحديث الحارث الأشعري (1) .

وقوله فيه: (وآمركم بذكر الله عز وجل، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو، فانطلقوا في طلبه سِراعاً، وانطلق حتى أتى حصناً حَصيناً، فأحرز نفسه فيه) .

فكذلك الشيطان لا يحرز العباد أنفسهم منه إلا بذكر الله عز وجل، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج من بيته فقال: بسم الله، توكلتُ على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: هُدِيت وكفُيتَ ووُقِيتَ، فيتَنَحّى له الشيطان، ويقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدِي وكُفي ووُقي؟) . رواه أبو داود، وروى الترمذي إلى قوله:(له الشيطان)(2) .

وصح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت

(1) الوابل الصيب: ص144.

(2)

مشكاة المصابيح: 1/749. ورقمه: 1442.

ص: 137

له حرزاً من الشيطان يومه ذلك، حتى يمسي) . متفق عليه (1) .

وقال أبو خلاد المصري: من دخل في الإسلام، دخل في حصن، ومن دخل المسجد، فقد دخل في حصنين، ومن جلس في حلقة يذكر الله عز وجل فيها، فقد دخل في ثلاثة حصون.

وفي صحيح البخاري، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال:" ولاّني رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة رمضانَ أن احتفظ بها، فأتاني آتٍ، فجعل يَحْثُوا الطعام، فأخذته، فقال: دعني فإني لا أعود.... ". فذكر الحديث، وقال: فقال في الثالثة: " أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، إذا أويتَ إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح " فخلى سبيله، فأصبح، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، فقال:(صَدَقَكَ، وهو كذوب) .

وذكر الحافظ أبو موسى من حديث أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أوى الإنسانُ إلى فراشه، ابتدرهُ ملكٌ وشيطانٌ،

(1) مشكاة المصابيح: 1/708. ورقمه: 2302.

ص: 138

فيقول الملكُ: اختم بخير، ويقول الشيطان: اختم بشر، فإذا ذكر الله، ثم نام، بات الملك يكلؤه.

وإذا استيقظ، قال الملك: افتح بخير، وقال الشيطان: افتح بشر، فإن قال: الحمد لله الذي ردَّ علي نفسي، ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فإن وقع عن سريره فمات دخل الجنة) .

رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن الحجاج الشامي وهو ثقة " (1) .

وفي الصحيحين عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكُم إذا أراد أن يأتي أهلَهُ فقال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطانَ، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدّر بينهما ولد في ذلك لا يضرهُ شيطانٌ أبداً)(2) .

(1) مجمع الزوائد: 10/120. أقول: وصوابه السامي بالسين.

(2)

رواه البخاري: 13/379. ورقمه: 7396. ورواه مسلم: 2/1058. ورقمه: 1434.

ص: 139

وقد ثبت في ((الصحيح)) أن الشيطان يهرب من الأذان.

قال سهيل بن أبي صالح: " أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام - أو صاحب لنا - فناداه منادٍ من حائط باسمه قال: وأشرف الذي معي على الحائط، فلم ير شيئاً، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتاً فناد بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إنّ الشيطان إذا نودي بالصلاة، ولى وله حصاص)(1) .

(1) رواه مسلم: 1/290. ورقمه: 389.

ص: 141

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا قضي التثويب، أقبل حتى يخطر ببين المرء ونفسه....)(1) .

روى الإمام أحمد أن أبا تميمة سمع أحد الصحابة يحدث أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم حماره، فقلت: تعس الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تقل: تعس الشيطان، فإنك إذا قلت: تعس الشيطان تعاظم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: باسم الله تصاغر، حتى يصير مثل الذباب) . قال ابن كثير (2) : تفرد به أحمد، وإسناده جيد.

خامساً: لزوم جماعة المسلمين:

ومما يبعد المسلم عن الوقوع في أحابيل الشيطان أن يعيش في ديار الإسلام،

(1) رواه البخاري: 2/48. ورقمه: 806. وانظره أيضاً برقم: 1222، 1231، 1232، 3285. ورواه مسلم: 1/290. ورقمه: 389.

(2)

مسند الإمام أحمد: 5/59، البداية والنهاية: 1/65.

ص: 143

ويختار لنفسه الفئة الصالحة التي تعينه على الحق، وتحضّه عليه، وتذكره بالخيرات، فإن في الاتحاد والتجمع قوة وأي قوة، عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية، فقال: يا أيها الناس، إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فكان مما قال:(عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد..)(1) .

والجماعة جماعة المسلمين، وإمام المسلمين، ولا قيمة للجماعة في الإسلام ما لم تلتزم بالحق: الكتاب والسنة، فعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية)(2) .

وروى أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)(3) .

سادساً: كشف مخططات الشيطان ومصائده (4) :

على المسلم أن يتعرف على سبله ووسائله في الإضلال، ويكشف ذلك للناس، وقد فعل ذلك القرآن، وقام بهذه المهمة الرسول صلى الله عليه وسلم خير قيام، فالقرآن عرفنا الأسلوب الذي أغوى الشيطان به آدم. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف الصحابة كيف يسترق الشيطان السمع، ويلقي بالكلمة التي سمع في أذن الكاهن أو الساحر ومعها مائة كذبة، يبين ذلك لهم كي لا ينخدعوا بأمثال

(1) صحيح سنن الترمذي: 2/232. ورقمه: 1758.

(2)

صحيح سنن أبي داود: 1/109. ورقمه: 541.

(3)

صحيح سنن أبي داود: 3/869. ورقمه: 3842.

(4)

إذا رغبت في الوقوف على تفاصيل مخططات الشيطان ومكائده ومصائده، وكيف ألبس على الناس دينهم في العقائد والعبادات والمعاملات، وكيف تلاعب باليهود والنصارى والمجوس وعباد الأوثان - فلا غنى لك عن قراءة كتابين: الأول: تلبيس إبليس، لابن الجوزي، الثاني: إغاثة اللهفان، لابن القيم.

ص: 144

هؤلاء، وبين لهم كيف يوسوس لهم ويشغلهم في صلاتهم وعبادتهم، وكيف يحاول الشيطان أن يوهمهم بأن وضوءهم قد فسد، والأمر ليس كذلك، وكيف يفرق بين المرء وزوجه، وكيف يوسوس للمرء، فيقول له: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟

أسلحة المؤمن في حربه مع الشيطان

سابعاً: مخالفة الشيطان:

يأتي الشيطان في صورة ناصح يحرص على الإنسان كما سبق، فعلى المرء أن يخالف ما يأمر به، ويقول له: لو كنت ناصحاً أحداً لنصحت نفسك، فقد أوقعت نفسك في النار، وجلبت لها غضب الجبّار، فكيف ينصح غيره من لا ينصح نفسه.

يقول الحارث بن قيس: " إذا أتاك الشيطان وأنت تصلي، فقال: إنك ترائي فزدها طولاً "(1) . وهذا فقه جيد منه، رحمه الله.

وإذا علمنا أنّ أمراً ما يحبّه الشيطان، ويتصف به، فعلينا أن نخالفه، فمثلاً الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويأخذ بشماله، لذا وجبت علينا مخالفته. روى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليأكل أحدكم بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويعطي بشماله، ويأخذ بشماله)(2) .

والشيطان يشاركنا في الشرب إذا شربنا، ونحن وقوف، ولذا أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشرب ونحن جلوس.

ورغّبنا الرسول صلى الله عليه وسلم في القيلولة، معلّلاً ذلك بأن الشياطين لا تقيل، (قيلوا، فإنّ الشياطين لا تقيل) . رواه أبو نعيم في الطبّ، بإسناد حسن (3) .

وحذرنا القرآن من الإسراف، وقد عدّ المبذرين إخوان الشياطين، وما ذلك إلا لأن الشياطين تحب إضاعة المال وإنفاقه في غير وجهه.

ومن الإسراف الإكثار من الأثاث والفراش الذي لا لزوم له،

(1) تلبيس إبليس: 38.

(2)

صحيح سنن ابن ماجة: 1/225. ورقمه: 2643.

(3)

صحيح الجامع: 4/147.

ص: 145

روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الفرش فقال: (فراش للرجل، وفراش لامرأته، وفراش للضيف، والرابع للشيطان)(1) .

ومن هذا المنطلق أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نميط الأذى عن اللقمة التي تسقط من أحدنا، ولا نتركها للشيطان، عن جابر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت اللقمة، فليمط ما كان بها من أذى، ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة)(2) .

مراكب الشيطان:

هذه الخيول والدواب التي يقامر عليها ويراهن عليها تعدّ من مراكب الشياطين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الخيل ثلاثة: ففرس للرحمن، وفرس للشيطان، وفرس للإنسان، فأما فرس الرحمن؛ فالذي يربط في سبيل الله، فعلفه، وروثه، وبوله في ميزانه، وأمّا فرس الشيطان، فالذي يقامر أو

(1) صحيح مسلم: 3/1651. ورقمه: 2084. وصحيح سنن أبي داود: 2/780. ورقمه: 3489.

(2)

صحيح مسلم: 3/1607. ورقمه: 2033.

ص: 146

يراهن عليه، وأما فرس الإنسان، فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها، فهي ستر من الفقر) . رواه أحمد بإسناد صحيح (1) .

العجلة من الشيطان:

من الصفات التي يحبها الشيطان العجلة؛ لأنها توقع الإنسان في كثير من الأخطاء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان) . رواه البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن (2) . فعلينا أن نخالف الشيطان في ذلك، ونتبع ما يرضي الرحمن، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس:(إن فيك لخصلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة)(3) .

التثاؤب:

ومما يحبه الشيطان من الإنسان التثاؤب؛ ولذا أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بكظمه ما استطعنا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءَب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك منه الشيطان)(4) . وذلك لأن التثاؤب علامة الكسل، والشيطان يعجبه ويفرحه من الإنسان كسله وفتوره؛ إذ بذلك يقل عمله وبذله الذي يرفعه عند ربه.

ثامناً: التوبة والاستغفار:

ومما يواجه به العبد كيد الشيطان أن يسارع بالتوبة والأوبة إلى الله إذا أغواه الشيطان، وهذا دأب عباد الله الصالحين، قال تعالى:(إنَّ الَّذين اتَّقوا إذا مسَّهم طائفٌ من الشَّيطان تذكَّروا فإذا هم مُّبصرون)[الأعراف: 201] .

وقد فسر الطائف بالهمّ بالذنب، أو إصابة الذنب، وقوله:(تذكَّروا) أي عقاب الله وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فتابوا، وأنابوا، واستعاذوا بالله، ورجعوا إليه من قريب. (فإذا هم مُّبصرون) أي قد استقاموا وصحوا

(1) صحيح الجامع: 3/137.

(2)

صحيح الجامع: 3/57.

(3)

رواه مسلم في صحيحه: 1/48-49. ورقمه: (17) ، (18) .

(4)

رواه البخاري: 6/338. ورقمه: 3289. ورواه مسلم: 4/2293. ورقمه: 2994. واللفظ للبخاري. ورواه الترمذي. انظر صحيح سنن الترمذي: 2/355. ورقمه: 2206.

ص: 147

مما كانوا فيه. وهذا يدل على أن الشيطان يكاد يجعل الإنسان في عماية لا يرى الحق ولا يبصره بما يلقيه عليه من غشاوة، وما يغشي به القلب من الشبهات والشكوك.

وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشيطان قال لرب العزة: (وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الربّ: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) . رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه (1) .

هذه حال عباد الله: الرجوع من قريب، والتوبة والإنابة إلى الله، ولهم في ذلك أسوة بأبيهم آدم، فإنه لما أكل من الشجرة، تلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وتوجه آدم وزوجه إلى الله قائلين:(ربَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لَّم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين)[الأعراف: 23] .

أما أولياء الشيطان فهم كما قال الله فيهم: (وإخوانهم يمدُّونهم في الْغَيِّ ثمَّ لا يقصرون)[الأعراف: 202] .

والمراد بإخوانهم هنا: إخوان الشياطين من الإنس كقوله: (إنَّ المبذرين كانوا إخوان الشَّياطين)[الإسراء: 27] ، وهم أتباعهم والمستمعون لهم، القابلون لأوامرهم يمدونهم في الغيّ: أي بالتزيين والتحسين للذنوب والمعاصي، بلا كلل ولا ملل. كقوله:(ألم تر أنَّا أرسلنا الشَّياطين على الكافرين تؤزُّهم أزّاً)[مريم: 83] .

تاسعاً: أزل اللبس والغموض الذي يدخل الشيطان منه إلى النفوس:

لا تقف مواقف الشبهة، وإذا حدث ذلك فَوَضّحْ للناس حالك، حتى لا تدع للشيطان فرصة الوسوسة في صدور المسلمين، ولك أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته

(1) صحيح الجامع: 2/72.

ص: 148

أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليَقْلبني (1) ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمرّ رجلان من الأنصار، فلمّا رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(على رسلكما، إنها صفية بنت حيي)، فقالا: سبحان الله، يا رسول الله!! قال:(إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً)، أو قال:(شيئاً)(2) .

قال الخطابي: " في هذا الحديث من العلم استحباب أن يحذر الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون، ويخطر بالقلوب، وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءَة من الريب ".

ويحكى في هذا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: " خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلوبهما شيء من أمره فيكفرا، وإنما قاله صلى الله عليه وسلم شفقة منه عليهما لا على نفسه "(3) .

ومما أرشدنا الله إليه القول الحسن مع الآخرين حتى لا يدخل الشيطان بيننا وبين إخواننا، فيوقع العداوة بيننا والبغضاء، قال تعالى:(وقل لعبادي يقولوا الَّتي هي أحسن إنَّ الشَّيطان ينزغ بينهم)[الإسراء: 53] .

وهذا أمر تساهل فيه بعض الناس، فتراهم يقولون الكلام الموهم الذي يحتمل وجوهاً عدة بعضها سيِّء، وقد يرمي أحدهم أخاه بألفاظ يكرهها، ويناديه بألقاب يمقتها، فيكون ذلك مدخلاً للشيطان، فيفرق بينهما، ويحل العداء محل الوفاق والألفة.

النفس البشرية في معترك الصراع:

في ختام هذا الفصل أحب أن أثبت مبحثاً مهماً من كلام ابن القيم صوّر فيه رحمه الله حقيقة الصراع وطبيعته، يقول ابن القيم ما ملخصه:" اختار الله الإنسان من بين خلقه فكرمه واصطفاه، وجعله محلاً للإيمان والتوحيد والإخلاص والمحبة والرجاء، وابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس، لا يفتر عنه "(4) .

ثم يقول ابن القيم ما نصه: " فهو (أي الشيطان) يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه، فتميل نفسه معه؛ لأنه يدخل عليها بما تحب، فيتفق هو ونفسه وهواه على العبد: ثلاثة مسلطون آمرون، فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم، والجوارح آلة منقادة، فلا يمكنها إلا الانبعاث، فهذا شأن هذه الثلاثة، وشأن الجوارح، فلا تزال الجوارح في طاعتهم كيف أمروا وأين يمموا.

هذا مقتضى حال العبد، فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم به أن أعانه بجند آخر، وأمدّه بمدد آخر، يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه، فأرسل إليه رسوله، وأنزل عليه كتابه، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، فإذا أمره الشيطان بأمر، أمره الملك بأمر ربّه، وبين له ما في طاعة العدو من الهلاك، فهذا يلم به مرة، وهذا مرة، والمنصور من نصره الله عز وجل، والمحفوظ من حفظه الله تعالى.

وجعل الله له مقابل نفسه الأمارة نفساً مطمئنة، إذا أمرته النفس الأمارة بالسوء، نهته عنه النفس المطمئنة، وإذا نهته الأمارة عن الخير، أمرته به النفس المطمئنة، فهو يطيع هذه مرة، وهذه مرة، وهو الغالب عليه منهما، وربما انقهرت إحداهما بالكلية قهراً لا تقوم معه أبداً.

وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نوراً وبصيرة، وعقلاً يرده عن الذهاب مع الهوى، فكلما أراد أن يذهب مع الهوى، ناداه العقل والبصيرة والنور: الحذر الحذر، فإن المهالك والمتالف بين يديك، وأنت صيد الحرامية، وقطّاع الطريق، إن سرت خلف هذا الدليل.

فهو يطيع الناصح مرة، فيبين له رشده ونصحه، ويمشي خلف دليل الهوى مرة، فيقطع عليه الطريق، ويؤخذ ماله، وتسلب ثيابه، فيقول: ترى من أين أتيت؟

والعجب أنه يعلم من أين أُتي، ويعرف الطريق التي قطعت عليه، وأخذ فيها، ويأبى إلا سلوكها، لأنّ دليله تمكن منه، وتحكم فيه، وقوي عليه، ولو أضعفه بالمخالفة له، وزجره إذا دعاه، ومحاربته إذا أراد أخذه، لم يتمكن منه، ولكن هو مكنه من نفسه، وهو أعطاه يده.

فهو بمنزلة الرجل يضع يده في يد عدوه، فيباشره ثم يسومه سوء العذاب، فهو يستغيث فلا يغاث، فهكذا يستأسر للشيطان والهوى ولنفسه الأمارة، ثم يطلب الخلاص، فيعجز عنه.

فلما أن بُلي العبد بما بُلي به، أعين بالعساكر والعدد والحصون، وقيل: قاتل عدوك وجاهده، فهذه الجنود خذ منها ما شئت، وهذه الحصون تحصن بأي حصن شئت منها، ورابط إلى الموت، فالأمر قريب، ومدة المرابطة يسيرة جداً، فكأنك بالملك الأعظم وقد أرسل إليك رسله، فنقلوك إلى داره، واسترحت من هذا الجهاد، وفرق بينك وبين عدوك، وأطلقت في دار الكرامة تتقلب فيها كيف شئت، وسجن عدوك في أصعب الحبوس وأنت تراه.

فالسجن الذي كان يريد أن يودعك فيه قد أدخله وأغلقت عليه أبوابه، وأيس من الروح والفرج، وأنت فيما اشتهت نفسك، وقرّت عينك، جزاءً على صبرك في تلك المدة اليسيرة، ولزومك الثغر للرباط، وما كانت إلا ساعة ثمّ انقضت، وكأن الشدة لم تكن.

فإن ضعفت النفس عن ملاحظة قصر الوقت وسرعة انقضائه، فليتدبر قوله عز وجل:(كأنَّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلَاّ ساعةً من نَّهار)[الأحقاف: 35] وقوله عز وجل: (كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلَاّ عشيَّةً أو ضُحَاهَا)[النازعات: 46]، وقوله عز وجل:(قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين - قالوا لبثنا يوماً أو بعض يومٍ فَاسْأَل العادين - قال إن لبثتم إلَاّ قليلاً لو أنَّكم كنتم تعلمون)[المؤمنون: 112-114]، وقوله تعالى:(يوم ينفخ في الصُّور ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً - يتخافتون بينهم إن لبثتم إلَاّ عشراً - نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقةً إن لبثتم إلَاّ يوماً)[طه: 102-104] .

وخطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً، فلما كانت الشمس على رؤوس الجبال، وذلك عند الغروب قال:(إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه) . رواه أحمد في المسند، والترمذي في سننه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

فليتأمل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث، وليعلم أي شيء حصل له من هذا الوقت الذي قد بقي من الدنيا بأسرها، ليعلم أنه في غرور وأضغاث أحلام، وأنه قد باع سعادة الأبد والنعيم المقيم بحظ خسيس لا يساوي شيئاً، ولو طلب الله تعالى والدار الآخرة لأعطاه ذلك الحظ هنيئاً موفوراً وأكمل منه، كما في بعض الآثار:" ابن آدم، بع الدنيا بالآخرة تربحهما جميعاً، ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرهما جميعاً ".

وقال بعض السلف: " ابن آدم، أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الدنيا، أضعت نصيبك من الآخرة، وكنت من نصيب الدنيا على خطر، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة، فزت بنصيبك من الدنيا فانتظمته انتظاماً ".

وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في خطبته: " أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السماوات والأرض.

وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى واتقى، وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباقٍ، وشقاوة بسعادة، ألا ترون أنكم في أصلاب الهالكين، وسيخلفه بعدكم الباقون؟ ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غادياً رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسّد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب؟ ".

والمقصود أن الله عز وجل قد أمد العبد في هذه المدة اليسيرة بالجنود، والعدد، والأمداد، وبين له بماذا يحرز نفسه من عدوه، وبماذا يَفتَكّ نفسه إذا أسر.

وقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه والترمذي، من حديث الحارث الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إنّ الله سبحانه وتعالى أمر يحي ابن زكريا صلى الله عليه وسلم بخمس كلماتٍ: أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كادَ أن يُبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله - تعالى - أمركَ بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم، وإما أن آمرَهُم، فقال يحي: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب، فجمع يحي الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشرف، فقال: إن الله تبارك وتعالى أمرني بخمس كلمات أن أَعمَلَهُنّ، وآمركُم أن تعملُوا بهن) .

وخامس هذه الخمسة التي أمرهم بها الذكر، (وآمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً، حتى أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ومما أمرهم به في الحديث الصلاة: (آمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت) . والالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان؛ أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى. والثاني: التفات البصر. وكلاهما منهي عنه. ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره، أعرض الله تعالى عنه. وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال:(هو اختلاسٌ يَخْتلِسُهُ الشيطانُ من صلاة العبد)(5) .

وفي أثر: يقول الله تعالى: (إلى خير مني، إلى خير مني؟) . ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثلُ رجل قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يميناً وشمالاً، وقد انصرف قلبه عن السلطان، فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضراً معه، فما ظنّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟ أفليس أقل المراتب في حقّه أن ينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً قد سقط من عينيه؟ .

فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحيى من ربه تعالى أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه. وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل، والآخر ساهٍ غافل. فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله، وبينه وبينه حجاب، لم يكن إقبالاً ولا تقريباً، فما الظن بالخالق عز وجل؟

وإذا أقبل على الخالق عز وجل، وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس، والنفس مشغوفة بها، ملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب؟

والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام، وأقربه وأغيظه للشيطان، وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنّيه وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهوّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها.

فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بنيه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة، ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة، وأيس منها، فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله عز وجل، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل بقلبه في صلاته؛ فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لم تخف عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه.

فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطاً وراحة وروحاً، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرة عينيه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجنٍ وضيقٍ حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم:(يا بلالُ أرِحنا بالصلاةِ)، ولم يقل: أرحنا منها، وقال صلى الله عليه وسلم:(جُعِلت قُرة عيني في الصلاةِ) . فمن جعلت قرة عينه في الصلاة، كيف تقر عينه صلى الله عليه وسلم بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟

وقد روي أن العبد إذا قام يصلي، قال الله عز وجل:" ارفعوا الحجب، فإذا التفت، قال: أرخوها "، وقد فُسِّر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عز وجل إلى غيره، فإذا التفت إلى غيره، أرخى الحجاب بينه وبين العبد، فدخل الشيطان، وعرض عليه أمور الدنيا، وأراه إياها في صورة المرآة، وإذا أقبل بقلبه على الله ولم يلتفت، لم يقدر الشيطان على أن يتوسط بين الله - تعالى - وبين ذلك القلب، وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب، فإن فر إلى الله تعالى، وأحضر قلبه فر الشيطان، فإن التفت حضر الشيطان، فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة.

كيف يجعل المصلي قلبه حاضراً في الصلاة؟

وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه عز وجل، إذا قهر شهوته وهواه، وإلا فقلب قد قهرته الشهوة، وأسره الهوى، ووجد الشيطان فيه مقعداً تمكن فيه، كيف يخلص من الوساوس والأفكار؟ !

والقلوب ثلاثة: قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتاً ووطناً، وتحكم فيه بما يريد، وتمكن منه غاية التمكن.

القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان، وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية، فللشيطان هناك إقبال وإدبار، ومجالات ومطامع، فالحرب دول وسجال.

وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم مَنْ أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم مَنْ أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم من هو تارة وتارة.

القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس لاحترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان يتخطاها لرجم فاحترق، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء، والسماء متعبد الملائكة، ومستقرّ الوحي، وفيها أنوار الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة، والمعرفة والإيمان، وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو، فلا ينال منه شيئاً إلا خطفة.

وقد مثّل ذلك بمثال حسن، وهو ثلاثة بيوت:

بيت الملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره.

وبيت للعبد فيه كنوز العبد، وذخائره، وجواهره، وليس جواهر الملك وذخائره.

وبيت خال صفر لا شيء فيه، فجاء اللص يسرق من أحد البيوت، فمن أيها يسرق؟

فإن قلت: من البيت الخالي، كان محالاً؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يسرق، ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟

وإن قلت: يسرق من بيت الملك، كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس واليزَك (6) ما لا يستطيع اللص الدنو منه، كيف وحارسه الملك بنفسه، وكيف يستطيع اللص الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث، فهو الذي يشن عليه الغارات.

فيلتأمل اللبيب هذا المثال، ولينزله على القلوب، فإنها على منواله.

فقلب خلا من الخير كله، وهو قلب الكافر والمنافق، فذلك بيت الشيطان، قد أحرزه لنفسه واستوطنه، واتخذه سكناً ومستقراً، فأي شيء يسرق منه، وفيه خزائنه وذخائره وشكوكه وخيالاته ووساوسه؟

وقلب قد امتلأ من جلال الله عز وجل وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه، فأي شيطان يجترئ على هذا القلب؟ وإن أراد سرقة شيء منه، فماذا يسرق؟ وغايته أن يظفر في الأحايين منه بخطفة ونهب يحصل له على غرة من العبد وغفلة لا بد له منها، إذ هو بشر، وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو والذهول وغلبة الطبع.

وقلب فيه توحيد الله تعالى، ومعرفته، ومحبته، والإيمان به، والتصديق بوعده، وفيه شهوات النفس وأخلاقها، ودواعي الهوى والطبع.

وقلب بين هذين الداعيين؛ فمرة يميل بقلبه داعي الإيمان والمعرفة والمحبة لله تعالى وإرادته وحده، ومرة يميل بقلبه داعي الشيطان والهوى والطباع، فهذا القلب للشيطان فيه مطمع، وله منه منازلات ووقائع، ويعطي الله النصر من يشاء:(وما النَّصر إلَاّ من عند الله العزيز الحكيم)[آل عمران: 126] . وهذا لا يتمكن الشيطان منه إلا بما عنده من سلاحه، فيدخل إليه الشيطان، فيجد سلاحه عنده، فيأخذه ويقاتل به، فإن أسلحته هي الشهوات والشبهات والخيالات والأماني الكاذبة، وهي في القلب، فيدخل الشيطان فيجدها عتيدة، فيأخذها ويصول بها على القلب، فإن كان عند العبد عدة عتيدة، من الإيمان تقاوم تلك العدة وتزيد عليها، انتصف من الشيطان، وإلا فالدولة لعدوه عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فإذا أذن العبد لعدوه، وفتح له باب بيته، وأدخله عليه، ومكنه من السلاح يقاتله به، فهو الملوم.

فنفْسك لُم ولا تَلُم المطايا ××× ومُت كمداً فليس لك اعتذارُ "

علاج الصرع

تحدثنا في ما مضى أن الشيطان قد يصيب الإنسان، وهو ما نسميه الصرع أو مس الجن، وسنحاول أن نبين أسباب الصرع وعلاجه:

أسباب الصرع:

بيّن ابن تيمية (7) : " أن الصرع للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق، كما يتفق للإنس مع الإنس

، وقد يكون - وهو

(1) ليردني إلى منزلي.

(2)

صحيح البخاري: 6/336. ورواه مسلم: 4/1712. ورقمه: 2175. واللفظ لمسلم.

(3)

تلبيس إبليس: 46.

(4)

الوابل الصيب: ص21.

(5)

رواه البخاري: 2/234. ورقمه: 751.

(6)

يزك ويسك (بالتركية) : بمعنى المنع والحظر والزجر.

(7)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/39.

ص: 149

الأكثر - عن بغض ومجازاة، مثل أن يؤذيهم بعض الإنس، أو يظنوا أنهم يتعمدون أذاهم إما ببول على بعضهم، وإمّا بصب ماء حار، وإما بقتل بعضهم، وإن كان الإنس لا يعرف ذلك، وفي الجن جهل وظلم، فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه، وقد يكون عن عبث منهم وشرّ بمثل سفهاء الإنس ".

واجبنا تجاه هؤلاء:

ذكرنا أن الجن عباد مأمورون متعبدون بالشريعة، فإذا استطاع المسلم أن يصل إلى مخاطبتهم، كما يحدث مع الجني الذي يصرع الإنسان، وجب القيام بذلك.

فإذا كان صرع الجني للإنسي من الباب الأول (عن شهوة وهوى) ، فهو من الفواحش التي حرمها الله تعلى على الإنس والجن، ولو كانت برضا الطرف الآخر، فكيف مع كراهته، فإنّه فاحشة وظلم. فيخاطب الجن بذلك، ويعرفون أن هذا فاحشة محرمة، أو فاحشة وعدوان؛ لتقوم الحجة عليهم بذلك، ويعلموا أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله الذي أرسله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن.

وما كان من الثاني (إيذاء بعض الإنس لهم) ، فإن كان الإنسي لم يَعْلَمْ، فيخاطبون بأن هذا لم يعلم، ومن لم يتعمد الأذى لا يستحق العقوبة، وإن كان قد فعل ذلك في داره وملكه عرفوا بأنها ملكه، فله أن يتصرف فيها بما يجوز، وأنتم ليس لكم أن تمكثوا في ملك الإنس بغير إذنهم، بل لكم ما ليس من مساكن الإنس كالخراب والفلوات

ويقول ابن تيمية (1) : " والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس، أخبروا بحكم الله ورسوله، وأقيمت عليهم الحجة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، كما يفعل بالإنس؛ لأن الله يقول:(وما كنَّا معذبين حتَّى نبعث رسولاً)[الإسراء: 15]، وقال:

(1) مجموع الفتاوى: 19/42.

ص: 150

(يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصُّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا)[الأنعام: 130] ؟

النهي عن قتل حيَّات البيوت:

يقول ابن تيمية: " ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل حيّات البيوت حتى تؤذن ثلاثاً "، وقد سبق ذكر النصوص المبينة لذلك، وقد ساق ابن تيمية تلك النصوص، ثمّ بين السبب الذي من أجله نهى عن قتل جنان البيوت فقال: " وذلك أن قتل الجن بغير حق لا يجوز، كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق، والظلم محرم في كل حال، فلا يحلّ لأحد أن يظلم أحداً، ولو كان كافراً، بل قال تعالى:(ولا يجر منَّكم شَنَآنُ قومٍ على ألَاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتَّقوى)[المائدة: 8] .

فإذا كانت حيات البيوت قد تكون جنّاً فتؤذن ثلاثاً، فإن ذهبت وإلا قتلت، فإنها إن كانت حية قتلت، وإن كانت جنية، فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حيّة تفزعهم بذلك، والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلاً، وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك، فلا يجوز ".

سب الجان وضربهم:

وذكر ابن تيمية أن واجب المؤمن نصرة أخيه المظلوم، وهذا المصروع مظلوم، ولكن النصرة يكون بالعدل كما أمر الله، فإذا لم يرتدع الجني بالأمر والنهي والبيان، فإنّه يجوز نهره وسبه وتهديده ولعنه، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الشيطان عندما جاء بشهاب ليرميه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام:(أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله ثلاثاً) .

وذكر أنه قد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجني عنه إلى الضرب، فيضرب ضرباً كثيراً جدّاً، والضرب إنما يقع على الجني، ولا يحسه المصروع، حتى يفيق المصروع، ويخبره أنه لم يحس شيئاً من ذلك، ولا يؤثر في بدنه،

ص: 151

ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة أو أكثر أو أقل، بحيث لو كان على الإنسي لقتله، وإنما هو على الجني، والجني يصيح ويصرخ، ويحدث الحاضرين بأمور متعددة، ويذكر ابن تيمية أنه فعل هذا وجربه مرات كثيرة، يطول وصفها.

أقول: وقد يستغل الضرب فيمن يظن أن فيه صرع وهو ليس كذلك، فيكون فيه هلاك المضروب، ولذلك ينبغي تجنبِه.

الاستعانة على الجان بالذكر وقراءَة القرآن:

وخير ما يستعان به على الجني الذي يصرع الإنسان ذكر الله وقراءَة القرآن، ومن أعظم ذلك قراءَة آية الكرسي، (فإن من قرأها لا يزال عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . كما صح الحديث بذلك.

يقول ابن تيمية (1) : " ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته، فإن لها تأثيراً عظيماً في دفع الشياطين عن نفس الإنسان وعن المصروع، وعمن تعينه الشياطين، مثل أهل الظلم والغضب، وأهل الشهوة والطرب، وأرباب سماع المكاء والتصدية، إذا قرئت عليهم بصدق، دفعت الشياطين، إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين ".

طرد الرسول صلى الله عليه وسلم للجن من بدن المصروع:

فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، فعن أم أبان بنت الوازع بن زارع ابن عامر العبدي، عن أبيها، أن جدها الزارع انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق معه بابن له مجنون، أو ابن أخت له.

قال جدي: فلما قدمنا على رسول الله قلت: إن

(1) مجموع الفتاوى: 19/55.

ص: 152

معي ابناً لي، أو ابن أخت لي مجنون، أتيتك به فتدعو الله له، قال:(ائتني به) فانطلقت إليه، وهو في الركاب، فأطلقت عنه، وألقيت عنه ثياب السفر، وألبسته ثوبين حسنين، وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: (أدنه مني، واجعل ظهره مما يليني) . قال: فأخذ بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله، فجعل يضرب ظهره، حتى رأيت بياض إبطيه، ويقول:(اخرج عدو الله، اخرج عدو الله) .

فأقبل ينظر نظر الصحيح، ليس بنظره الأول. ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، فدعا له، فمسح وجهه، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه. رواه الطبراني (1) .

وفي المسند أيضاً عن يعلى بن مرّة قال: " لقد رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ما رآها أحد قبلي، ولا يراها أحد بعدي.

لقد خرجت معه في سفر، حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامراة جالسة معها صبي لها، فقالت يا رسول الله: هذا الصبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة، قال:(ناولينيه) ، فرفعته إليه، فجعلته بينه وبين واسطة الرحل، ثم فغر (فاه) ، فنفث فيه ثلاثاً، وقال (بسم الله، أنا عبد الله، اخسأ عدو الله) ، ثم ناولها إياه، فقال:(القينا في الرجعة في هذا المكان، فأخبرينا ما فعل) قال: فذهبنا، ورجعنا، فوجدناها في ذلك المكان، معها ثلاث شياه، فقال:(ما فعل صبيك؟)، فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئاً حتى الساعة، فاجترر هذه الغنم، قال:(انزل خذ منها واحدة، ورد البقية)(2) .

وعن عثمان بن أبي العاص؛ قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، جعل يعرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أُصلي، فلما رأيت ذلك، رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:

(ابْنُ أَبِي العاصِ؟) قلت: نعم: يا رسول الله! قال: (ما جاء بك؟)، قلت: يا رسول الله! عرض لي شيء في صلواتي، حتى ما أدري ما أصلي. قال:(ذلك الشيطانُ. فادْنُهْ) فدنوت منه. فجلست على صدور قدمي. قال، فضرب صدري بيده، وتفل في فمي، وقال:(اخرُجْ. عَدُوّ الله!) ففعل ذلك ثلاث مرات. ثم قال: (الحق بعَمَلكَ)(3) .

وإذا ابتلي المصروع، ولم يجد علاجاً فصبر على بلواه، فإن له عند الله أجراً عظيماً، ففي صحيح البخاري عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي عطاء بن أبي رباح: (قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك) . فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها ".

حدثنا محمدٌ أخبرنا مخلدٌ عن ابن جريج أخبرني عطاء: أنه رأى أم زفر، تلك المرأة الطويلة السوداء، على ستر الكعبة (4) . وذكر ابن حجر أن هذه المرأة قالت:" إني أخاف الخبيث أن يجردني "(5) .

فالرسول صلى الله عليه وسلم أخرج الجني بالأمر والنهر واللعن، ولكن هذه لا تكفي وحدها، فإنّ لقوة الإيمان وثبات اليقين وحسن الصلة بالله أثراً كبيراً في هذا، يدلك على ذلك ما سنورده في الواقعة التالية.

الإمام أحمد يأمر الجني بالخروج فيستجيب:

روي أنّ الإمام أحمد كان جالساً في مسجده، إذ جاءَه صاحب له من

(1) مجمع الزوائد: 9/2. وقال الهيثمي فيه: وأم أبان لم يرو عنها غير مطر. وذكر الهيثمي الحديث من رواية أحمد في مسنده بأخصر مما ذكره الطبراني. وقال: فيه هند بنت الوازع لم أعرفها، وبقية رجاله ثقات.

(2)

رواه أحمد في مسنده: 4/170، وروى الدارمي، (1/15. ورقمه: 17) هذه القصة بلفظ مقارب عن جابر رضي الله عنه.

(3)

صحيح سنن ابن ماجة: 2/273. ورقمه: 2858.

(4)

صحيح البخاري: 10/114. ورقمه: 5652.

(5)

فتح الباري: 10/115.

ص: 153

قبل الخليفة المتوكل، فقال:

إن في بيت أمير المؤمنين جارية بها صرع، وقد أرسلني إليك، لتدعو الله لها بالعافية.

فأعطاه الإمام نعلين من الخشب، وقال:

اذهب إلى دار أمير المؤمنين، واجلس عند رأس الجارية، وقل للجني: قال لك أحمد: أيما أحب إليك: تخرج من هذه الجارية، أو تصفع بهذا النعل سبعين؟

فذهب الرجل ومعه النعل إلى الجارية، وجلس عند رأسها، وقال كما قال له الإمام أحمد.

فقال المارد على لسان الجارية: السمع والطاعة لأحمد، لو أمرنا أن نخرج من العراق لخرجنا منه، إنه أطاع الله، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء، ثم خرج من الجارية، فهدأت، ورزقت أولاداً.

فلما مات الإمام، عاد لها المارد، فاستدعى لها الأمير صاحباً من أصحاب أحمد، فحضر، ومعه ذلك النعل، وقال للمارد: أخرج وإلا ضربتك بهذا النعل.

فقال المارد: لا أطيعك ولا أخرج، أما أحمد بن حنبل، فقد أطاع الله فأمرنا بطاعته.

ما ينبغي أن يكون عليه المعالج:

وينبغي للمعالج أن يكون قوي الإيمان بالله معتمداً عليه، واثقاً بتأثير الذكر وقراءَة القرآن، وكلما قوي إيمانه وتوكله قوي تأثيره، فربما كان أقوى من الجني فأخرجه، وربما كان الجني أقوى فلا يخرج، وربما كان

ص: 154

المخرج للجني ضعيفاً، فتتقصد الجن إيذاءَه، فعليه بكثرة الدعاء والاستعانة عليهم بالله، وقراءَة القرآن، خاصة آية الكرسي.

الرقى والتعاويذ:

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى (1) : " وأما معالجة الموضوع بالرقى، والتعويذات فهذا من وجهين:

فإن كانت الرقى والتعاويذ مما يعرف معناها، ومما يجوز في دين الإسلام أن يتكلم به الرجل، داعياً الله، ذاكراً له، ومخاطباً لخلقه، ونحو ذلك، فإنه يجوز أن يرقي بها المصروع، ويعوذه، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى: ما لم يكن فيه شرك)(2)، وقال:(من استطاع منكم أن ينفع أخيه فلينفعه)(3) .

وإن كان في ذلك كلمات محرمة، مثل أن يكون فيها شرك، أو كانت مجهولة المعنى، يحتمل أن يكون فيها كفر، فليس لأحد أن يرقي بها ولا يعزم، ولا يقسم، وإن كان الجني قد ينصرف عن المصروع بها، فإنّ ما حرمه الله ورسوله ضرره أكثر من نفعه.

وذكر في موضع آخر (4) : " أن أرباب العزائم الشركية كثيراً ما يعجزون عن دفع الجني، وكثيراً ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنس أو حبسه، فيخيلوا إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه، ويكون ذلك تخييلاً وكذباًً.

استرضاء الجن:

وبعض الناس يحاولون استرضاء الجني الذي يصرع الإنسان بالذبح له، وهذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وروي أنه نهى عن ذبائح الجن.

وقد يزعم بعض الناس أن هذا من باب التداوي بالحرام، وهذا خطأ

(1) مجموع الفتاوى: 24/277.

(2)

صحيح مسلم: 4/1727. ورقمه: 2200.

(3)

صحيح مسلم: 4/1727. ورقمه: 2199.

(4)

مجموع الفتاوى: 19/46.

ص: 155

كبير، فالصواب أن الله لم يجعل الشفاء في شيء من المحرمات، وعلى القول بجواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخمر، فلا يجوز أن يستدل بذلك على الذبح للجني؛ لأن التداوي بالمحرمات فيه نزاع لبعض العلماء، أمّا التداوي بالشرك والكفر، فلا خلاف بين العلماء في تحريمه، ولا يجوز التداوي به باتفاق.

وفي الختام أحب أن أنبه أن ليس كل صرع فهو من الجان، فمنه ما هو أمراض عارضة لها أسبابها التي قد يعلمها الأطباء، وقد لا يعلمونها، وهذا لا ينفي معالجة أمثال هؤلاء بالقرآن والرقى، فالقرآن والرقى لها أثر في الشفاء من جميع الأدواء.

ص: 156