الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: قتل عثمان "- ونُبَذٌ مِنْ أَخْبَارِهِ
-" (35 هـ/ 656 م) .
- قتل عثمان (1) يوم الجمعة 8 من ذي الحجة سنة 35 هـ.
قال ابن عديس لأصحابه: لا تتركوا أحداً يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده. وأصرَّ المصريون على قتله. وقصدوا الباب فمنعهم الحسن، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان، وسعيد بن العاص، ومن معهم من أبناء الصحابة. واجتلدوا (2)، فزجرهم عثمان وقال: أنتم في حلٍّ من نصرتي، فأبوا، ففتح الباب لمنعهم. فلما خرج ورآه المصريون رجعوا فركبهم هؤلاء، وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن، فدخلوا، فأغلق الباب دون المصريين.
فقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض وكان من الصحابة، فنادى عثمان، فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلب الكندي بسهم فقتله. فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتله لنقتله به. قال: لم أكن لأقتل رجلاً نصرني وأنتم تريدون قتلي. فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب، فلم يمنعهم أحد منه، والباب مغلق، لا يقدرون على الدخول منه، فجاءوا بنار، فأحرقوه. وثار أهل الدار وعثمان يصلي قد افتتح {طه} ، فما شغله ما سمع ما يخطئ وما يتتعتع حتى أتى عليها. فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه وقرأ:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] فقال لمن عنده بالدار: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد عهد إليَّ عهداً فأنا صابر عليه. ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه.
اقتحم الناس الدار من الدورة التي حولها حتى ملؤوها ولا يشعر الذين بالباب ممن وقفوا
⦗ص: 180⦘
للدفاع. وأقبلت القبائل على أبنائهم فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم وندبوا رجلاً لقتله، فانتدب له رجل فدخل عليه البيت فقال:"اخلعها وندعك".
فقال: "ويحك، واللَّه ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيتُ ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولست خالعاً قميصاً كسانيه اللَّه عز وجل، وأنا على مكاني حتى يُكرم اللَّه أهل السعادة ويُهين أهل الشقاء".
فخرج وقالوا: ما صنعت؟ فقال: عَلِقنا واللَّه، واللَّه ما ينجينا من الناس إلا قتله، وما يحل لنا قتله.
فأدخلوا عليه رجلاً من بني ليث. فقال: ممن الرجل؟ فقال: ليثي. فقال: لست بصاحبي. قال: وكيف؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي صلى الله عليه وسلم في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فلن تضيع، فرجع وفارق القوم.
فأدخلوا عليه رجلاً من قريش، فقال: يا عثمان إني قاتلك؟. قال: كلا يا فلان لا تقتلني. قال: وكيف؟ قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استغفر لك يوم كذا وكذا، فلن تقارف دماً حراماً. فاستغفر ورجع وفارق أصحابه.
فأقبل عبد اللَّه بن سلام (3) حتى قام على الباب ينهاهم عن قتله وقال:
"يا قوم، لا تسلّوا سيف اللَّه بينكم. فواللَّه إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرَّة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم إن مدينتكم محفوفة بملائكة اللَّه. واللَّه لئن قتلتموه لتتركنها"(4) .
فقالوا: يا ابن اليهودية، وما أنت وهذا فرجع عنهم.
وروي عن عبد اللَّه بن عمير عن ابن أخي عبد اللَّه بن سلام قال:
لما أُريد قتل عثمان رضي الله عنه جاء عبد اللَّه بن سلام فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرك. قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارج خير إليَّ منك داخل. فخرج عبد اللَّه إلى الناس فقال:
"أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلاناً، فسماني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه، ونزلت فيَّ
⦗ص: 181⦘
آيات من كتاب اللَّه عز وجل. ونزل فيَّ: {وَشَهدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى مِثلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] ونزل فيَّ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ} [الرعد: 43] . إن للَّه سيفاً مغموداً، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فاللَّه اللَّه في هذا الرجل إن تقتلوه لتطردن جيرانكم الملائكة، وليسلنّ سيف اللَّه المغمود فيكم، فلا يغمد إلى يوم القيامة، قالوا: اقتلوا اليهودي.
فانظر الفرق الشاسع بين عبد اللَّه بن سلام الذي تطوَّع للدفاع عن عثمان وبين عبد اللَّه بن سبأ الذي كان يحرَّض الناس على قتله. فإن كليهما كان يهودياً وأسلم.
وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي بكر. فقال له عثمان:
"ويلك على اللَّه تغضب؟ هل لي إليك جُرم إلا حق أخذته منك؟ ورجع.
فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان بن حُمران والغافقي لعنهم اللَّه فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله، فاستدار المصحف فاستقر بين يديه، وسالت عليه الدماء. وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبت عليه زوجة عثمان نائلة، واتقت السيف بيدها، فتغمدها ونفح أصابعها. فأطن أصابع يدها، فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجيزة. وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، وقد كان عثمان أعتق من كف منهم، فلما رأوا سودان قد ضربه أهوى له بعضهم، فضرب عنقه، فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت، وأخرجوا من فيه، ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى (5) .
فلما خرجوا إلى الدار وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل مُلاءة نائلة، والرجل يدعى كلثوم بن تجيب، فتنحَّت نائلة. فقال: وَيحَ أمك من عجيزة ما أتمك، وبصر به غلام لعثمان فقتله، وقُتل، وتنادى القوم أبصر رجل من صاحبه وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه، وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم، وليس فيه إلا غِرارتان. فقالوا: النجاء، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا، فهربوا، وأتوا بيت المال، فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالتانئ يسترجع ويبكي، والطارئ يفرح، وندم القوم.
وكان الزبير قد خرج من المدينة، فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله. فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو قال:
"إنا للَّه وإنا إليه راجعون، رحم اللَّه عثمان وانتصر له". وأتى الخبر طلحة فقال: "رحم اللَّه عثمان وانتصر له وللإسلام". وقيل له: إن القوم نادمون. فقال: تبَّاً لهم، وقرأ:{فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِم يَرْجِعُونَ} [يس: 50]
⦗ص: 182⦘
.
وأُتِيَ عليٌّ فقيل: قُتل عثمان فقال: "رحم اللَّه عثمان وخلف علينا بخير". وقيل: ندم القوم فقرأ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ....} [الحشر: 16] . الآية.
وطُلب سعد فإذا هو في حائطه وقد قال: لا أشهد قتله. فلما جاء قتله، قال: فررنا من المدينة فدنينا وقرأ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] ، اللَّهم أندمهم ثم خذهم (6) .
وفي رواية أخرى (7) :
إن محمد بن أبي بكر تسوَّر على عثمان من دار عمرو بن حزم، ومعه كنانة بن بشر بن عتّاب، وسودان بن حُمران، وعمرو بن الحمق، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة، وهو يقرأ في المصحف {سورة البقرة} فتقدمهم محمد بن أبي بكر، فأخذ بلحية عثمان فقال:
قد أخزاك اللَّه يا نَعْثَل (8) .
فقال عثمان: لستُ بنعثل، ولكن عبد اللَّه وأمير المؤمنين. فقال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان. فقال عثمان: يا ابن أخي دعْ عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه. فقال محمد: ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك. فقال عثمان: أستنصر اللَّه عليك وأستعين به. ثم طعن جبينه بمِشْقَص (9) في يده. ورفع كنانة بن بشر بن عتّاب مشاقص كانت في يده فَوَجَأَ بها (10) في أصل أذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حَلقه، ثم علاه بالسيف حتى قتله. وقيل: ضرب كنانة بن بشر جبينه ومُقَدم رأسه بعمود، فخرَّ لجنبه. وضربه سودان بن حُمران المرادي بعد ما خرَّ لجنبه فقتله. وأما عمرو ابن الحَمِق (11) فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال: أما ثلاث منهن فإني طعنتهن للَّه. وأما ست فإني طعنت إياهن لما كان في صدري عليه
⦗ص: 183⦘
.
وعن جدة الزبير بن عبد اللَّه قالت (12) :
لما ضربه المشاقص قال عثمان: "بسم اللَّه توكلت على اللَّه"، وإذا الدم يسيل على اللحية يقطر والمصحف بين يديه فاتكأ على شقه الأيسر وهو يقول:"سبحان اللَّه العظيم" وهو في ذلك يقرأ المصحف والدم يسيل على المصحف حتى وقف الدم عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] . وأطبق المصحف وضربوه جميعاً ضربة واحدة. فضربوه واللَّه بأبي وهو يحيي الليل في ركعة، ويصل الرحم، ويُطعم الملهوف، ويحمل الكَلَّ، فرحمه اللَّه".
وعن الزهري قال (13) :
قُتل عثمان عند صلاة العصر، وشدَّ عبدٌ لعثمان أسود على كنانة بن بشر فقتله. وشدَّ سودان على العبد فقتله. ودخلت الغوغاء دار عثمان فصاح إنسان منهم: أيحل دم عثمان ولا يحل ماله؟ فانتهبوا متاعه. فقامت نائلة فقالت: لصوص ورب الكعبة! يا أعداء اللَّه ما ركبتم من دم عثمان أعظم. أما واللَّه لقد قتلتموه صوَّاماً قوَّاماً يقرأ القرآن في ركعة. ثم خرج الناس من دار عثمان فأغلق بابه على ثلاثة قتلى:
-1- عثمان.
-2- وعبد عثمان الأسود.
-3- كنانة بن بشر.
وقد اختلف الرواة في حكاية محمد بن أبي بكر فذكر بعضهم أنه طعن جبين عثمان بمشقص كان في يده. وقيل: إن عثمان لما أمسك محمد لحيته قال له عثمان: أستنصر اللَّه عليك وأستعين به فتركه. وابن الأثير يرجح أنه تركه ولم يضربه.
وذكر ابن الأثير (14) أنهم أرادوا قطع رأسه فوقعت نائلة عليه وأم البنين، فصحن وضربن الوجوه. فقال ابن عديس: اتركوه. وأقبل عمير بن ضابئ فوثب عليه وكسر ضلعاً من أضلاعه وقال: سجنت أبي حتى مات في السجن.
وبلغ الخبر علياً وطلحة والزبير وسعداً فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر حتى دخلوا على عثمان فقال عليّ لابنيه: كيف يقتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب، ورفع يده فلطم الحسن، وضرب الحسين على صدره. وشتم محمد بن طلحة وعبد اللَّه بن الزبير، وخرج وهو غضبان
⦗ص: 184⦘
حتى أتى منزله فجاء الناس يهرعون إليه يريدون مبايعته فقال: "واللَّه إني لأستحي أن أبايع قوماً قتلوا عثمان، وإني لأستحي من اللَّه تعالى أن أبايع وعثمان لم يدفن". فافترقوا، وتمت البيعة له.
(1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64.
(2)
اجتلدوا: تضاربوا. [القاموس المحيط، مادة: جلد] .
(3)
هو عبد اللَّه بن سلام بن الحارث، الإسرائيلي، أبو يوسف، صحابي، قيل: إنه من نسل يوسف بن يعقوب المتوفى سنة 43 هـ، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كان اسمه "حصين" فسمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه وفيه نزلت الآية:{وشهد شاهد من بني إسرائيل} والآية: {ومن عنده علم الكتاب} وعندما قامت الفتنة بين علي ومعاوية اتخذ سيفاً من خشب واعتزلها. للاستزادة راجع: خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 124، الإصابة ج 3/ص 118، الاستيعاب ج 2/ص 311.
(4)
الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 668، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 64.
(5)
الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 676، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 68.
(6)
الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 676.
(7)
الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 677.
(8)
نَعْثَل: هو اسم رجل قبطي كان بالمدينة، عظيم اللحية يشبهون به عثمان لعظيم لحيته، ولم يكونوا يجدون فيه عيباً سوى هذا.
(9)
المشقص: سهم فيه نصل عريض. [القاموس المحيط، مادة: شقص] .
(10)
وَجَاءَ: أي ضرب.
(11)
أسلم بعد الحديبية، صحب النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ عنه أحاديث، ثم جاء مصر وانتقل منها إلى الكوفة. قيل: إنه سقى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللَّهم متعه شبابه، فمرت عليه ثمانون سنة لا ترى في لحيته شعرة بيضاء. قال ابن الأثير في أسد الغابة: وهو أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان الدار وصار بعد ذلك من شيعة عليّ. وقيل: أول رأس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق إلى معاوية.
(12)
الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 671
(13)
ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 68.
(14)
ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 67.
- مروان ودفاعه عن عثمان (1)
لما ألقى الناس النيران في أبواب دار عثمان فاحترق بعضها قال: ما احترق الباب إلا لما هو أعظم منه. لا يحركنَّ رجل منكم يده. فواللَّه لو كنت أقصاكم لتخطوكم حتى يقتلوني. ولو كنت أدناكم ما جاوزوني إلى غيري وإني لصابر كما عهد إليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصرعن مصرعي الذي كتب اللَّه عز وجل لي.
فقال مروان: واللَّه لا تقتل وأنا أسمع الصوت. ثم خرج بالسيف على الباب يتمثل بهذا الشعر:
قد علمتْ ذات القرون الميل
…
والكف والأنامل الطفول
أبي أروع أول الرعيل
…
بغارة مثل قَطا الشليل
ثم صاح: من يبارز وقد رفع أسفل درعه فجعله في منطقته، فوثب إليه ابن النباع، فضربه على رقبته من خلفه، فأثبته حتى سقط، فما ينبض منه عرق، فأدخل بيت فاطمة ابنة أوْس جدة إبراهيم بن العديّ وكانت أرضعت مروان، وأرضعت له. وفي رواية أن فاطمة وثبت على عبيد بن رفاع الذي أراد أن يجهز عليه بعد ضربة ابن النباع وقالت: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح. فكفَّ عنه. فما زالوا يشكرونها لها فاستعملوا ابنها إبراهيم بعد.
(1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 659، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 66.
- فظاعة الجرم!!
لم يتوقع أحد من الصحابة أن يُقتل عثمان. أما الحسن والحسين ومن معهما فقد كانوا يحرسون بابه، ولكن القتلة تسوَّروا عليه من دار مجاورة لداره. لقد قتلوه قتلة شنيعة ترتعد منها الفرائص، ومثلوا به وهو يتلو القرآن، وكانت تلاوة القرآن نوعاً من العبادة، فضربه بعضهم بحديدة، وبعضهم ضربه بمشقص، وطعنه آخر بتسع طعنات، وكسر الآخر ضلعاً من أضلاعه. ولم يكتفوا بذلك بل تعدوا على امرأته المخلصة بالسيف وببذيء الكلام، وأرادوا قطع رأسه بعد أن فارق الحياة، ونهبوا أمتعة المنزل وما في بيت المال، ومنعوا عنه الماء أثناء الحصار حتى
⦗ص: 185⦘
غضب عليّ وهالته قسوتهم، فقال لهم:"أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي".
لا أحد يبرز قتل عثمان والتمثيل به. ولم يجترئ عليه أحد من كبار الصحابة حتى المخالفين له في الرأي، لأنهم كانوا يجلُّونه، ويوقرونه، لمكانه من رسول اللَّه، وأياديه البيضاء في سبيل الإسلام، وحسن أخلاقه، وعواطفه، وسائر فضائله التي لا ينكرها أحد.
لا شك أن هؤلاء القتلة مجرمون، غلاظ الأكباد، قساة القلوب. فلم يراعوا حرمة صحبته للرسول، وصهره، ومنزلته في الإسلام، وخدماته الجليلة، وبذل الأموال الطائلة لنصرته ورفعته، ولم يخجلوا من التهجم على رجل فاضل قال عنه رسول اللَّه:"إن الملائكة تستحي منه"(1) . رجل سهل، لين، كريم، كفَّ يده، ونهى عن سفك دم المسلمين، وهو محاصر أشد الحصار، مهدد بالقتل، وكان مثال الصالحين، والقراء للقرآن، وعاش محبباً للناس لا يميل إلى الشدة والعنف، لقد فتكوا به وهو قابع في بيته، يتعبد بتلاوة القرآن، ونهى أصحابه حتى عن الدفاع عنه. فأيِّ قلب لا يتفطر، وأيِّ دمع لا ينهمر، وأيِّ فؤاد لا يذوب كمداً وأسى على قتل الخليفة الصالح من غير أن يرتكب إثماً يوجب القتل.
إن الذي جنى على عثمان وبغَّضه في الناس هم كما قلنا وقال غيرنا من كبار المؤرخين المحققين أقاربه الذين كان يحسن إليهم، فإنهم كانوا مستشاري سوء، ولم يكن لهم رأي صائب ونظر بعيد، وكانوا مع ذلك يصرفونه حسب أغراضهم وأهوائهم لا حسب ما تقضي به مصلحة المسلمين عامة. وقد ظل عثمان كما قبل ست سنوات في بدء حكمه وهو أحب الناس إلى الناس. فلو أنه ترك وشأنه يدبر الأمور بطبيعته الخيّرة الهادئة التي لا تميل إلى الشدة والقسوة والتعدي، وبلطفه وأدبه وإحسانه وبما اشتهر عنه أيام الرسول لما شكا منه شاك، بل لكان عهده عهد خير وسلام. لكن أقاربه قد تمكَّن منهم حب الذات والجشع، فانتهزوا فرصة خلافته، واستغلوا صفة حميدة فيه ألا وهي صلة الرحم، فكانوا يأتونه من هذه الجهة لينالوا مأربهم من ولاية وثراء واستئثار بالحكم، وقد تحكَّموا فيه زمن شيخوخته فلم يقوَّ على مقاومتهم وخلافهم. فكان ما كان من سفك دمه وبث بذور الفتن والشقاق.
قال جيبون في كتاب سقوط الإمبراطورية الرومانية: "إن عثمان اختار فخُدع، ووثق فغُدر، وصار من كان موضع ثقته عديم الفائدة وعدواً لحكومته، وانقلب إحسانه جوراً وتذمراً".
(1) رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: 26، وأحمد في (م 6/ص 155) .
- قتلة عثمان وخاذلوه:
⦗ص: 186⦘
أجمع أهل السنة على أن عثمان كان إماماً على شرط الاستقامة إلى أن قُتل. وأجمعوا على أن قاتليه قتلوه ظلماً، فإن كان فيهم من استحل دمه فقد كفر. ومن تعمد قتله من غير استحلال كان فاسقاً غير كافر. والذين هجموا عليه واشتركوا في دمه معروفون بقطع بفسقهم، منهم محمد بن أبي بكر، ورفاعة بن رافع، والحجاج بن غزنة، وعبد الرحمن بن خصل الجمحي، وكنانة بن بشر النخعي، وسندان بن حمران المرادي، وبسرة بن رهم، ومحمد بن أبي حذيفة، وابن عتيبة، وعمرو بن الحمق الخزاعي.
وأما الذين قعدوا عن نصرة عثمان فهم فريقان: فريق كانوا معه في الدار فدفعوا عنه كالحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عمر، والمغيرة بن الأخنس، وسعيد بن العاص، وسائر من كان في الدار من موالي عثمان، إلى أن أقسم عليهم بترك القتال وقال لغلمانه:"من وضع السلاح فهو حر". فهؤلاء أهل طاعة وبر وإحسان. والفريق الثاني من القعدة عن نصرته فريقان: فريق أرادوا نصرة عثمان فنهاهم عثمان عنها، كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد اللَّه بن سلام. فهؤلاء معذورون لأنهم قعدوا عنه بأمره. والفريق الثاني: قوم من السوقة أعانوا الهاجمين فشاركوهم في الفسق واللَّه حسبهم.
ودليلنا على براءة عثمان مما قذف به ورود الروايات الصحيحة بشهادة الرسول له صلى الله عليه وسلم بالجنة عند تجهيز جيش العسرة، وما روي من أنه يدخل الجنة بلا حساب، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد جبل حراء، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقال:"اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد"(1) . وفي هذا دليل على أن عثمان قُتل شهيداً، ودليل صحة إمامته إجماع الأمة بعد عمر أن الإمامة لواحد من أهل الشورى وكانوا ستة، فاجتمع خمسة عليه فحصل إجماع الأمة على إمامته (2) .
(1) رواه الدارقطني في (ج 4/ص 198) .
(2)
أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي. أصول الدين (م 1/ص 287 289) ، ط 1، استنابول سنة 1346 هـ 1928 م.
- كتاب نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية:
كتبت نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان رضي الله عنه إلى معاوية كتاباً مع النعمان بن بشير وبعثت إليه بقميص عثمان مخضباً بالدماء. وهذا هو نص كتابها:
من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان
⦗ص: 187⦘
.
"أما بعد، فإني أدعوكم إلى اللَّه الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة. وأنقذكم من الكفر. ونصركم على العدو. وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة. وأنشدكم اللَّه وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم اللَّه عليكم فإنه قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فإن أمير المؤمنين بُغي عليه، ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حق الولاية لحق على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره، فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام، وحسن بلائه، وأنه أجاب اللَّه وصدق كتابه، واتبع رسوله، واللَّه أعلم به، إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة! وإني أقص عليكم خبره. إني شاهدة أمره كله. إن أهل المدينة حصروه في داره، وحرسوه ليلهم ونهارهم، قياماً على أبوابه بالسلاح يمنعونه من كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء، فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وطلحة والزبير فأمروهم بقتله. وكان معهم من القبائل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل وطوائف من جهينة ومزينة وأنباط يثرب. فهؤلاء كانوا أشد الناس عليه. ثم إنه حصر، فرشق بالنبل، فجرح ممن كان في الدار ثلاثة نفر. فأتاه الناس يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال فنهاهم وأمرهم أن يردوا إليهم نبلهم فردوها عليهم. فما زادهم ذلك في القتل إلا جرأة وفي الأمر إلا إغراقاً فحرقوا باب الدار. ثم جاء نفر من أصحابه فقالوا: إن ناساً يريدون أن يأخذوا من الناس بالعدل فاخرج إلى المسجد يأتوك فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية. فقال: ما أرى اليوم أحداً يعدل. فدخل الدار وكان معهم نفر ليس على عامتهم سلاح. فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست اليوم درعي. فوثب عليه القوم فكلَّمهم ابن الزبير وأخذ عليهم ميثاقاً في صحيفة بعث بها إلى عثمان. عليكم عهد اللَّه وميثاقه أن لا تقربوه بسوء حتى تكلّموه وتخرجوا. فوضع السلاح، ودخل عليه القوم يقدمهم محمد بن أبي بكر. فأخذ بلحيته ودعوا باللقب. فقال: أنا عبد اللَّه وخليفته عثمان فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات وضربوه على مقدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم، فسقطت عليه، قد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به فأتتني ابنة شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي فوطئنا وطئاً شديداً عُرِّينا من حلينا وحرمة أمير المؤمنين أعظم. فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهوراً على فراشه. وقد أرسلت إليكم بثوبه عليه دمه فإنه واللَّه إن كان أثم من قتله فما سلم من خذله. فانظروا أين أنتم من اللَّه، وأنا أشتكي كل ما مسنا إلى اللَّه عز وجل وأستصرخ بصالحي عباده. فرحم اللَّه عثمان ولعن قتلته وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة وشفى منهم الصدور".
فحلف رجال من أهل الشام أن لا يمسوا غسلاً حتى يقتلوا عليّاً أو تفنى أرواحهم.
وهذا كتاب طويل ذكرت فيه زوجة عثمان تفاصيل قتله بعد أن فجعت بفقده، لكنها لم
⦗ص: 188⦘
تذكر أسماء من باشروا القتل. وقد كانت نائلة من أخلص المخلصين لزوجها، ودافعت عنه بقدر طاقتها، وعرضت نفسها للقتل. وهكذا فليكن الوفاء والإخلاص. وقد حرضت معاوية والمسلمين بهذا الكتاب على الأخذ بالثأر.
- موقف علي رضي الله عنه إزاء قتل عثمان:
كان علي رضي الله عنه أحد الستة الذين رشَّحهم عمر بن الخطاب للخلافة بعده. وقد بايع عبد الرحمن بن عوف عثمان بناء على ما اجتمع إليه من رأي أصحاب رسول اللَّه وأمراء الأجناد وأشراف الناس.
فقال عمار: إن أردت ألَاّ يختلف المسلمون فبايع علياً. فقال المقداد ابن الأسود: صدق عمار، إن بايعت علياً قلنا سمعنا وأطعنا. وقال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد اللَّه بن أبي ربيعة: صدق، إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح وقال: ومتى كنت تنصح المسلمين.
وأخيراً بايع عثمان فاستاء عليّ وقال: حبوته حبو دهر. ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا يعني بني أمية فصبر جميل واللَّه المستعان على ما تصفون. واللَّه ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك. واللَّه كل يوم هو في شأن.
فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك سبيلاً فإني نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
بايع عبد الرحمن عثمان لأنه كما قال نظر وشاور وهو مع ذلك صهر عثمان، وكان لعلي رجال يؤيدونه، لكنه سكت بعد ذلك وأطاع. وكان عثمان يعرف قدره ويقدر رأيه غير أنه تركه ولم يقلده ولاية ما، فلما اشتدت الفتنة لجأ إليه يستشيره ويستنجد به ليرد عنه عادية الأعداء فبذل له من النصح أخلصه فلم يعمل بنصحه لتسلط حاشيته ومستشاريه عليه وقد كانوا يبغضونه في علي خشية أن يطيعه فيفسد عليهم سياستهم وتدابيرهم.
لم يكن عليّ يتحامل على عثمان بل كان يجلّه لقد قال له وهو يحدثه في أمر الفتنة:
"واللَّه ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمر دونك. وقد رأيت وسمعت صحبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونلت صهره الخ".
ثم أظهر له علي موضع ضعفه وسبب شكوى الناس فقال:
"ضعفت، ورفقت على أقربائك". وقال: "إن معاوية يقطع الأمور دونك، وأنت تعلمها فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تغيّر على معاوية"
⦗ص: 189⦘
.
ولما ذهب عثمان إلى عليّ في بيته يسأله أن يرد المصريين عنه قال له: "قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك تخرج وتقول، ثم ترجع عنه وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد اللَّه بن سعد. فإنك أطعتهم وعصيتني". فقال عثمان: فأنا أعصيهم وأطيعك. فركب عليّ وردَّ عنه المصريين.
ولما خطب عثمان وتاب، ثم خرج مروان وشتم الناس وأفسد عليه توبته غضب علي وحق له أن يغضب نصحته زوجته نائلة أن يستصلحه.
ثم طلب عثمان المهلة ثلاثة أيام وأكد لعليّ أنه يعطيهم الحق من نفسه ومن غيره. فخرج فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتاباً أجله فيه ثلاثاً على أن يرد كل مظلمة ويعزل كل عامل كرهوه. فكف المسلمون عنه، ورجعوا، إلا أنه كان قد طلب الأجل انتظاراً للمدد من الأمصار حتى إذا قدموا وأنس القوة حاربهم، كما أوحى إليه مروان بن الحكم. وما كان عليّ يدري شيئاً من ذلك بل كان يحسب أنه إنما طلب الأجل ليتسنى له إجابتهم إلى ما يريدون في هذه المدة، لأنه قال له:"اضرب بيني وبينهم أجلاً يكون فيه مهلة فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد". ومضت الأيام الثلاثة ولم يغيّر شيئاً. وعدا ذلك أمر عليّ ابنه وأبناء الصحابة أن يحرسوا باب عثمان، فماذا يصنع عليّ بعد ذلك؟. وماذا كان في طاقته؟.
وعن شداد بن أوس قال: لما اشتد الحصار بعثمان يوم الدار أشرف على الناس فقال: يا عباد اللَّه. قال: فرأيت عليّ بن أبي طالب خارجاً من منزله معتماً بعمامة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متقلداً سيفه. أمامه الحسن وعبد اللَّه بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار حتى حملوا على الناس وفرَّقوهم، ثم دخلوا على عثمان فقال له عليّ: السلام عليك يا أمير المؤمنين إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر وإني لا أرى القوم إلا قاتليك فمرنا فلنقاتل. فقال عثمان: أنشد اللَّه رجلاً رأى للَّه حقاً وأقرَّ أن لي عليه حقاً أن يهريق في سببي ملء محجمة من دم أو يهريق دمه فيَّ. فأعاد عليّ عليه القول، فأجابه بمثل ما أجابه، ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة فقالوا: يا أبا الحسن تقدَّم فصلِّ بالناس فقال: لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي، فصلَّى وحده وانصرف إلى منزله الخ.
وأخذ علي يبحث عن قتلة عثمان فسأل امرأته فقالت: لا أدري، إلا أن دخل عليه محمد بن أبي بكر ومعه رجلان لا أعرفهما فدعا محمداً وسأله، قال واللَّه لم تكذب دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكر لي أبي فقمت عنه وأنا تائب للَّه.
وجميع الروايات تثبت براءة عليّ رضي الله عنه من دم عثمان.
- رؤيا عثمان (1) :
⦗ص: 190⦘
عن عبد اللَّه بن سلام أنه قال:
أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال: مرحباً بأخي مرحباً بأخي. أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقال: بلى. قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذه الخَوْخة (2) وإذا خوخة في البيت. فقال: أحصروك؟ فقلت: نعم. فقال: عطشوك؟ فقلت: نعم. فأدلى لي دلواً من ماء فشربت حتى رويت فإني لأجد برداً بين كتفيَّ وبين بدني. إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا. قال: فاخترت أن أفطر عندهم. قال: فقتل عثمان في ذلك اليوم.
وعن مسلم عن أبي سعيد مولى عثمان، أن عثمان أعتق عشرين مملوكاً، ودعا بسراويل، فشدَّها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام. قال: إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم البارحة وأبا بكر وعمر فقالوا لي: صبراً، فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه.
عن ابن عمر أن عثمان أصبح يحدث الناس. قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام. قال: يا عثمان أفطر عندنا غداً فأصبح صائماً وقتل من يومه. واختلاف الروايات محمول على تكرار الرؤيا فكانت مرة نهاراً ومرة ليلاً.
(1) ابن كثير، البداية والنهاية ج 7/ص 195.
(2)
الخوخة: كوَّة يدخل منها الضوء إلى البيت.
- وصيته:
عن العلاء بن الفضل عن أمه. قال: لما قُتل عثمان فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقاً مقفلاً ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوباً فيها:
"هذه وصية عثمان: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن اللَّه يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه. إن اللَّه لا يخلف الميعاد. عليها يُحيى وعليها يموت. وعليها يُبعث إن شاء اللَّه".
- آخر خطبة لعثمان رضي الله عنه (1) :
ذكر الطبري آخر خطبة خطبها عثمان رضي الله عنه في جماعة:
"إن اللَّه عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها. إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى. فلا تُبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على
⦗ص: 191⦘
ما يفنى. فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى اللَّه. اتقوا اللَّه عز وجل فإن تقواه جُنة من بأسه ووسيلة عنده.
واحذروا من اللَّه الغِيرَ والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزاباً {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103] .
(1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 672.
- دفن عثمان رضي الله عنه (1) :
قيل: بقي عثمان ثلاثة أيام لم يدفن، ثم إن حكيم بن حزام وجبير بن مطعم، كلَّما علياً في أن يأذن في دفنه، فقعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وغيرهم، وفيهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطاً من حيطان المدينة يسمى حَش كوكب (2) . وهو خارج البقيع فصلَّى عليه جبير بن مطعم، وخلفه حكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه، ثم تركوهم خوفاً من الفتنة.
وعن الربيع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه قال: كنت أحد حملة عثمان بن عفان حين توفي حملناه على باب، وإن رأسه يقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمراً عظيماً، حتى واريناه في قبره في حش كوكب.
وأرسل عليّ إلى من أراد أن يرجم سريره ممن جلس على الطريق لما سمع بهم فمنعهم عنه.
ونزل في قبره، بيان وأبو جهم وحبيب، وقيل: شهد جنازته علي وطلحة وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وعامة من أصحابه.
وعن الحسن قال: شهدت عثمان بن عفان دفن في ثيابه بدمائه، وفي البخاري أنه لم يغسل.
(1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 687، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 69.
(2)
الحش: البستان. وحَش كوكب: موقع إلى جانب بقيع الغرقد بالمدينة.
- مدة حياته (1) :
كانت مدة حياة عثمان على المشهور 82 سنة. قال الواقدي: لا خلاف عندنا أنه قُتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وهو قول أبي اليقظان.
(1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 689.
- خطبة علي عليه السلام عند بيعته بعد مقتل عثمان رضي الله عنه (1) :
⦗ص: 192⦘
"أيها الناس، كتاب اللَّه وسنة نبيكم، لا يدَّع مدعٍ إلا على نفسه. شُغِلَ الجنةُ والنارُ أمامه. ساعٍ نجا. وطالبٌ يرجو. ومقصرٌ في النار، ثلاثة واثنان: ملَك طار بجناحيه، ونبي أخذ اللَّه بيديه، لا سادسَ. هلك من اقتحم. وردِيَ من هوى. واليمين والشمال مضلَة، الوسطى الجادَّةُ: منهج عليه باقٍ: الكتاب وآثار النبوة. إن اللَّه أدَّب هذه الأمة بأدبين: السوطِ والسيفِ، فلا هوادة فيهما عند الإمام. فاستتروا ببيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم من أبدى صفحته للحق هلك. قد كانت أمور ملتم علي فيها مَيلة لم تكونوا عندي محمودين ولا مصيبين. واللَّه أن لو أشاء أن أقول لقلت. عفا اللَّه عما سلف. انظروا، فإن أنكرتم فأنكروا وإن عَرَفتم فاروُوا. حق وباطل ولكل أهل، واللَّه لئن أمِّر الباطل لقديماً فعل. ولئن أمر الحق لَرُبَّ ولعل. ما أدبر شيء فأقبل".
(1) ابن قتيبة، عيون الأخبار (م 2/ص 236) .
- عمال عثمان سنة وفاته (1) :
قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وعماله على الأمصار كما يلي:
-1- عبد اللَّه بن الحضرمي على مكة.
-2- القاسم بن ربيعة الثقفي على الطائف.
-3- يعلى بن منية على صنعاء.
-4- عبد اللَّه بن ربيعة على الجند.
-5- عبد اللَّه بن عامر على البصرة، خرج منها ولو يول عليها عثمان.
-6- سعيد بن العاص على الكوفة.
-7- عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح على مصر.
-8- معاوية بن أبي سفيان على الشام.
-9- عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على حمص.
-10- حبيب بن مسلمة على قنسرين.
-11- أبو الأعور بن سفيان على الأردن.
-12- علقمة بن حكيم الكناني على فلسطين.
-13- عبد اللَّه بن قيس الفزاري على البحرين.
-14- أبو الدرداء على القضاء
⦗ص: 193⦘
.
-15- جرير بن عبد اللَّه على قرقيسياء.
-16- الأشعث بن قيس على أذربيجان.
-17- عتيبة بن النهاس على حُلوان.
-18- مالك بن حبيب على ماه.
-19- النسَير على همذان.
-20- سعيد بن قيس على الرَّيِّ.
-21- السائب بن الأقرع على أصبهان.
-22- حبيش على ماسبذان.
-23- عقبة بن عمرو على بيت المال.
-24- زيد بن ثابت على قضاء عثمان.
(1) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 75.