المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الْمُقدمَة بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمد لله الَّذِي بعث سيدنَا مُحَمَّدًا إِلَى - عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد

[ولي الله الدهلوي]

الفصل: ‌ ‌الْمُقدمَة بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمد لله الَّذِي بعث سيدنَا مُحَمَّدًا إِلَى

‌الْمُقدمَة

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمد لله الَّذِي بعث سيدنَا مُحَمَّدًا إِلَى الْعَرَب والعجم ليستضيئوا بِهِ فِي الظُّلُمَات وينال بِسَبَبِهِ معالي المقامات من كَانَ أهل عوالي الهمم وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الَّذِي لَا نَبِي بعده صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَصَحبه وَبَارك وَسلم

وَبعد فَيَقُول العَبْد الضَّعِيف المفتقر إِلَى رَحْمَة ربه الْكَرِيم ولي الله بن عبد الرحيم صانه الله تَعَالَى عَمَّا شَأْنه وَأصْلح باله وحاله وشأنه

هَذِه رِسَالَة سميتها عقد الْجيد فِي أَحْكَام الإجتهاد والتقليد حَملَنِي على تحريرها سُؤال بعض الْأَصْحَاب عَن مسَائِل مهمة فِي ذَلِك الْبَاب صلى الله عليه وسلم َ - بَاب فِي بَيَان حَقِيقَة الإجتهاد وَشَرطه وأقسامه صلى الله عليه وسلم َ -

حَقِيقَة الإجتهاد على مَا يفهم من كَلَام الْعلمَاء استفراغ الْجهد فِي إِدْرَاك الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة كلياتها إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَيفهم من هَذَا أَنه أَعم من أَن يكون استفراغا فِي إِدْرَاك حكم مَا سبق التَّكَلُّم فِيهِ من الْعلمَاء السَّابِقين أَو لَا وافقهم فِي ذَلِك أَو خَالف وَمن أَن يكون ذَلِك بإعانة الْبَعْض فِي التَّنْبِيه على صور الْمسَائِل والتنبيه على مآخذ الْأَحْكَام من الْأَدِلَّة التفصيلية أَو بِغَيْر إِعَانَة مِنْهُ فَمَا يظنّ فِيمَن كَانَ مُوَافقا لشيخه فِي أَكثر الْمسَائِل لكنه يعرف لكل حكم دَلِيلا ويطمئن قلبه بذلك الدَّلِيل وَهُوَ على بَصِيرَة من أمره أَنه لَيْسَ بمجتهد ظن فَاسد وَكَذَلِكَ مَا يظنّ من أَن الْمُجْتَهد لَا يُوجد فِي هَذِه الْأَزْمِنَة اعْتِمَادًا على الظَّن الأول بِنَاء على فَاسد

وَشَرطه أَنه لَا بُد لَهُ أَن يعرف من الْكتاب وَالسّنة مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ ومواقع الْإِجْمَاع وشرائط الْقيَاس وَكَيْفِيَّة النّظر وَعلم الْعَرَبيَّة والناسخ والمنسوخ وَحَال الروَاة وَلَا حَاجَة إِلَى الْكَلَام وَالْفِقْه قَالَ الْغَزالِيّ إِنَّمَا يحصل الإجتهاد فِي

ص: 3

زَمَاننَا بممارسة الْفِقْه وَهِي طَرِيق تَحْصِيل الدِّرَايَة فِي هَذَا الزَّمَان وَلم يكن الطَّرِيق فِي زمن الصَّحَابَة رضي الله عنهم ذَلِك قلت هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن الإجتهاد الْمُطلق المنتسب لَا يتم إِلَّا بِمَعْرِِفَة نُصُوص الْمُجْتَهد المستقل وَكَذَلِكَ لَا بُد للمستقل من معرفَة كَلَام من مضى من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتبعهم فِي أَبْوَاب الْفِقْه وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من شَرط الإجتهاد مَبْسُوط فِي كتب الْأُصُول وَلَا بَأْس أَن نورد كَلَام الْبَغَوِيّ فِي هَذَا الْموضع قَالَ الْبَغَوِيّ والمجتهد من جمع خَمْسَة أَنْوَاع من الْعلم علم كتاب الله عز وجل وَعلم سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأقاويل عُلَمَاء السّلف من أجماعهم وَاخْتِلَافهمْ وَعلم اللُّغَة وَعلم الْقيَاس وَهُوَ طَرِيق استنباط الحكم من الْكتاب وَالسّنة إِذا لم يجده صَرِيحًا فِي نَص كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع فَيجب أَن يعلم من علم الْكتاب النَّاسِخ أَو الْمَنْسُوخ والمجمل والمفصل وَالْخَاص وَالْعَام والمحكم والمتشابه وَالْكَرَاهَة وَالتَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة وَالنَّدْب وَالْوُجُوب وَيعرف من السّنة هَذِه الْأَشْيَاء وَيعرف مِنْهَا الصَّحِيح والضعيف والمسند والمرسل وَيعرف تَرْتِيب السّنة على الْكتاب وترتيب الْكتاب على السّنة حَتَّى لَو وجد حَدِيثا لَا يُوَافق ظَاهره الْكتاب يَهْتَدِي إِلَى وَجه محمله فَإِن السّنة بَيَان الْكتاب وَلَا تخَالفه وَإِنَّمَا يجب معرفَة مَا ورد مِنْهَا فِي أَحْكَام الشَّرْع دون مَا عَداهَا من الْقَصَص وَالْأَخْبَار والمواعظ وَكَذَلِكَ يجب أَن يعرف من علم اللُّغَة مَا أَتَى فِي كتاب أَو سنة فِي أُمُور الْأَحْكَام دون الْإِحَاطَة بِجَمِيعِ لُغَات الْعَرَب وَيَنْبَغِي أَن يتحرج فِيهَا بِحَيْثُ يقف على مرامي كَلَام الْعَرَب فِيمَا يدل على المُرَاد من اخْتِلَاف الْمحَال وَالْأَحْوَال لِأَن الْخطاب ورد بِلِسَان الْعَرَب فَمن لم يعرفهُ لَا يقف على مُرَاد الشَّارِع وَيعرف أقاويل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي الْأَحْكَام ومعظم فتاوي فُقَهَاء الْأمة حَتَّى لَا يَقع حكمه مُخَالفا لأقوالهم فَيكون فِيهِ خرق الْإِجْمَاع وَإِذا عرف من كل من هَذِه الْأَنْوَاع معظمه فَهُوَ حِينَئِذٍ مُجْتَهد وَلَا يشْتَرط معرفَة جَمِيعهَا بِحَيْثُ لَا يشذ عَنهُ شَيْء مِنْهَا وَإِذا لم يعرف نوعا من هَذِه الْأَنْوَاع فسبيله التَّقْلِيد وَإِن كَانَ متبحرا فِي مَذْهَب وَاحِد من آحَاد أَئِمَّة السّلف فَلَا يجوز لَهُ تقلد الْقَضَاء وَلَا الترصد للفتيا وَإِذا جمع هَذِه الْعُلُوم وَكَانَ مجانبا للأهواء والبدع مدرعا بالورع محترزا عَن الكباتر غير مصر على الصَّغَائِر جَازَ لَهُ أَن يتقلد

ص: 4

الْقَضَاء ويتصرف فِي الشَّرْع بالإجتهاد وَالْفَتْوَى وَيجب على من لم يجمع هَذِه الشَّرَائِط تَقْلِيده فِيمَا يعن لَهُ من الْحَوَادِث انْتهى كَلَام البغوى

وَقد صرح الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا مِمَّن لَا يُحْصى كَثْرَة أَن الْمُجْتَهد الْمُطلق الَّذِي مر تَفْسِيره على قسمَيْنِ مُسْتَقل ومنتسب وَيظْهر من كَلَامهم أَن المستقل يمتاز عَن غَيره بِثَلَاث خِصَال إِحْدَاهَا التَّصَرُّف فِي الْأُصُول الَّتِي عَلَيْهَا بِنَاء مجتهداته وثانيتها تتبع الْآيَات وَالْأَحَادِيث والْآثَار لمعْرِفَة الْأَحْكَام الَّتِي سبق بِالْجَوَابِ فِيهَا وَاخْتِيَار بعض الْأَدِلَّة المتعارضة على بعض وَبَيَان الرَّاجِح من محتملاته والتنبيه لمآخذ الأ حكام من تِلْكَ الْأَدِلَّة وَالَّذِي نرى وَالله أعلم أَن ذَلِك ثلثا علم الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى وَالثَّالِثَة الْكَلَام فِي الْمسَائِل الَّتِي لم يسْبق بِالْجَوَابِ فِيهَا أخذا من تِلْكَ الْأَدِلَّة والمنتسب من سلم أصُول شَيْخه واستعان بِكَلَامِهِ كثيرا فِي تتبع الْأَدِلَّة والتنبيه للمأخذ وَهُوَ مَعَ ذَلِك مستيقن بِالْأَحْكَامِ من قبل أدلتها قَادر على استنباط الْمسَائِل مِنْهَا قل ذَلِك مِنْهُ أَو كثر وَإِنَّمَا تشْتَرط الْأُمُور الْمَذْكُورَة فِي الْمُجْتَهد الْمُطلق وَأما الَّذِي هُوَ دونه فِي الْمرتبَة فَهُوَ مُجْتَهد فِي الْمَذْهَب وَهُوَ مقلد لإمامه فِيمَا ظهر فِيهِ نَصه لكنه يعرف قَوَاعِد إِمَامه وَمَا بنى عَلَيْهِ مذْهبه فَإِذا وَقعت حَادِثَة لم يعرف لإمامه نصا فِيهَا اجْتهد على مذْهبه وخرجها من أَقْوَاله وعَلى منواله ودونه فِي الْمرتبَة مُجْتَهد الْفتيا وَهُوَ المتبحر فِي مَذْهَب إِمَامه المتمكن من تَرْجِيح قَول على آخر وَوجه من وُجُوه الْأَصْحَاب على آخر وَالله أعلم صلى الله عليه وسلم َ - بَاب فِي بَيَان اخْتِلَاف الْمُجْتَهدين صلى الله عليه وسلم َ -

اخْتلفُوا فِي تصويب الْمُجْتَهدين فِي الْمسَائِل الفرعية الَّتِي لَا قَاطع فِيهَا هَل كل مُجْتَهد فِيهَا مُصِيب أَو الْمُصِيب فِيهَا وَاحِد قَالَ بِالْأولِ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَالْقَاضِي أَبُو بكر وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن وَابْن شُرَيْح وَنقل عَن جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين من الأشاعرة والمعتزلة وَفِي كتاب الْخراج لأبي يُوسُف إشارات إِلَى ذَلِك تقَارب

ص: 5

التَّصْرِيح وَبِالثَّانِي قَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء وَنقل عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي القواطع إِنَّه ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي قَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي الْمِنْهَاج اخْتلف فِي صَوَاب المحتهدين بِنَاء على الْخلاف فِي أَن لكل صُورَة حكما معينا عَلَيْهِ دَلِيل قَطْعِيّ أَو ظَنِّي وَالْمُخْتَار مَا صَحَّ عَن الشَّافِعِي أَن فِي الْحَادِثَة حكما معينا عَلَيْهِ أَمارَة من وجدهَا أصَاب وَمن فقدها أَخطَأ وَلم يَأْثَم لِأَن الإجتهاد مَسْبُوق بالأدلة لِأَنَّهُ طلبَهَا وَالدّلَالَة مُتَأَخِّرَة عَن الحكم فَلَو تحقق الإجتهادان لإجتمع النقيضان وَلِأَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام من أصَاب فَلهُ اجران وَمن أَخطَأ فَلهُ أجر وَاحِد قيل لَو تعين الحكم فالمخالف لَهُ لم يحكم بِمَا أنزل الله فيفسق لقَوْله تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} قُلْنَا أَمر بالحكم بماظنه وَإِن أَخطَأ الحكم بِمَا أنزل الله قيل لَو لم يصوب الْجَمِيع لما جَازَ نصب الْمُخَالف وَقد نصب أَبُو بكر رضي الله عنه زيدا قُلْنَا لم يجز تَوْلِيَة الْمُبْطل والمخطىء لَيْسَ بمبطل انْتهى كَلَام الْبَيْضَاوِيّ

قَوْله لكل صُورَة حكم الخ قُلْنَا حكم على الْغَيْب بِلَا دَلِيل قَوْله مَا صَحَّ عَن الشَّافِعِي أَن فِي الْحَادِثَة الخ قُلْنَا مَعنا فِي كل حَادِثَة قَول هُوَ أوفق بالأصول وأقعد فِي طرق الإجتهاد وَعَلِيهِ أَمارَة ظَاهِرَة من دَلَائِل الإجتهاد من وجدهَا أصَاب وَمن فقدها فقد أَخطَأ وَلم يَأْثَم وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَص فِي أَوَائِل الْأُم بِأَن الْعَالم إِذا قَالَ للْعَالم أَخْطَأت فَمَعْنَاه أَخْطَأت المسلك السديد الَّذِي يَنْبَغِي للْعُلَمَاء أَن يسلكوه وَبسط ذَلِك وَمثله بأمثال كَثِيرَة أَو مَعْنَاهُ إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة خبر الْوَاحِد فقد أصَاب من وجده وَأَخْطَأ من فَقده وَهَذَا أَيْضا مَبْسُوط فِي الْأُم قَوْله لِأَن الإجتهاد مَسْبُوق الخ قُلْنَا تعبدنا الله تَعَالَى بِأَن نعمل مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ إجتهادنا فنطلب الَّذِي نعمله إِجْمَالا لنحيط بِهِ تَفْصِيلًا قَوْله لإجتمع النقيضان قُلْنَا هُوَ كخصال الْكَفَّارَة كل وَاحِد مِنْهَا وَاجِب وَلَيْسَ بِوَاجِب قَوْله من أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ قُلْنَا هَذَا عَلَيْكُم لَا لكم لِأَن الْخَطَأ الَّذِي يُوجب الْأجر لَا يكون مَعْصِيّة فَلَا بُد أَن يَكُونَا حكمين لله تَعَالَى أَحدهمَا أفضل من الآخر كالعزيمة والرخصة أَو هَذَا فِي الْقَضَاء وَلَا بُد أَن يتَحَقَّق فِي الْخَارِج إِمَّا قَول الْمُدعى أَو الْمُنكر قَوْله أَمر بالحكم بِمَا ظَنّه الخ قُلْنَا

ص: 6

اعْتِرَاف بمقصودنا قَوْله والمخطىء لَيْسَ بمبطل قُلْنَا لما لم يكن مُبْطلًا لم يكن مُخَالفا للحق لِأَن كل مُخَالف للحق مُبْطل وماذا بعد الْحق إِلَّا الضلال وَالْحق أَن مَا نسب إِلَى الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة قَول مخرج من بعض تصريحاتهم وَلَيْسَ نصا مِنْهُم وَأَنه لَا خلاف للْأمة فِي تصويب الْمُجْتَهدين فِيمَا خبر فِيهِ نصا أَو إِجْمَاعًا كالقراءات السَّبع وصيغ الْأَدْعِيَة وَالْوتر بِسبع وتسع وَإِحْدَى عشرَة فَكَذَلِك لَا يَنْبَغِي أَن يخالفوا قيمًا خير فِيهِ دلَالَة

وَالْحق أَن الِاخْتِلَاف أَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا مَا تعين فِيهِ الْحق قطعا وَيجب أَن ينْقض خِلَافه لِأَنَّهُ بَاطِل يَقِينا وَثَانِيها مَا تعين فِيهِ الْحق بغالب الرَّأْي وخلافه بَاطِل ظنا وَثَالِثهَا مَا كَانَ كلا طرفِي الْخلاف مُخَيّرا فِي بِالْقطعِ وَرَابِعهَا مَا كَانَ كلا طرفِي الْخلاف مُخَيّرا فِيهِ بغالب الرَّأْي

تَفْصِيل ذَلِك أَنه إِن كَانَت الْمَسْأَلَة مِمَّا ينْقض فِيهَا قَضَاء القَاضِي بِأَن يكون فِيهَا نَص صَحِيح فِيهَا مَعْرُوف من النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَكل إجتهاد خِلَافه فَهُوَ بَاطِل نعم رُبمَا يعْذر بِجَهْل نَصه صلى الله عليه وسلم إِلَى أَن يبلغ وَتقوم الْحجَّة وَأَن كَانَ الِاجْتِهَاد فِي معرفَة وَاقعَة قد وَقعت ثمَّ اشْتبهَ الْحَال مثل موت زيد وحياته فَلَا جرم أَن الْحق وَاحِد نعم رُبمَا يعْذر المخطىء بإجتهاده وَإِن كَانَ الإجتهاد فِي أَمر فوض إِلَى تحري الْمُجْتَهد وَكَانَ المأخذان متقاربين وَلَيْسَ وَاحِد مِنْهُمَا بَعيدا عَن الأذهان جدا بِحَيْثُ يرى أَن صَاحبه مقصر قد خرج عَن عرف النَّاس وعادتهم فالمجتهدان مصيبان مثل رجلَيْنِ قيل لكل وَاحِد مِنْهُمَا أعْط كل فَقير وجدته درهما من مَالِي قَالَ كَيفَ أعرف أَنه فَقير قيل إِذا اجتهدت فِي تتبع قَرَائِن الْفقر ثمَّ أَتَاك الثَّلج أَنه فَقير فأعطه فاختلفا فِي رجل قَالَ احدهما هُوَ فَقير وَقَالَ الآخر لَا والمأخذان متقاربان يسوغ الْأَخْذ بهما فهما مصيبان لِأَنَّهُ مَا أدَار الحكم إِلَّا على من يَقع فِي تحريه أَنه فَقير وَقد وَقع فِي تحريه ذَلِك من غير تَقْصِير ظَاهر بِخِلَاف مَا إِذا أعْطى تَاجِرًا كَبِيرا لَهُ خدم وحشم فَإِن الْقَائِل بفقره يعد مقصرا وَلَا يسوغ الْأَخْذ بِالشُّبْهَةِ الَّتِي ذهب إِلَيْهَا فههنا مقامان أَحدهمَا أَنه فَقير فِي الْحَقِيقَة أم لَا وَلَا شُبْهَة أَن الْحق فِيهِ وَاحِد وَأَن النقيضين لَا يَجْتَمِعَانِ وَالثَّانِي

ص: 7

أَن من أعْطى غير الْفَقِير على ظن فقره هَل هُوَ مُطِيع أم لَا وَلَا شُبْهَة أَنه مُطِيع نعم من وَافق ظَنّه الْحَقِيقَة قد نَالَ حظا وافرا وَإِن كَانَ الإجتهاد فِي اخْتِيَار مَا خير فِيهِ كأحرف الْقُرْآن وصيغ الْأَدْعِيَة وَكَذَا مَا فعله النَّبِي صلى الله عليه وسلم على وُجُوه تسهيلا على النَّاس مَعَ كَونهَا كلهَا حاوية لأصل الْمصلحَة فالمجتهدان مصيبان فَهَذَا كُله بَين لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يتَوَقَّف فِيهِ ومواضع الِاخْتِلَاف بَين الْفُقَهَاء معظمها أُمُور أَحدهَا أَن يكون وَاحِد قد بلغه الحَدِيث وَالْآخر لم يبلغهُ والمصيب هَهُنَا معِين وَالثَّانِي أَن يكون عِنْد كل وَاحِد أَحَادِيث وآثار متخالفة وَقد اجْتهد فِي تطبيق بَعْضهَا بِبَعْض أَو تَرْجِيح بَعْضهَا على بعض فَأدى اجْتِهَاده إِلَى حكم فجَاء الإختلاف من هَذَا الْقَبِيل وَالثَّالِث أَن يَخْتَلِفُوا فِي تَفْسِير الْأَلْفَاظ المستعملة وحدودها الجامعة الْمَانِعَة أَو معرفَة أَرْكَان الشَّيْء وشروطه من قبيل السبر والحذف وَتَخْرِيج المناط وَصدق مَا وصف وَصفا عَاما على هَذِه الصُّورَة الْخَاصَّة أَو انطباق الْكُلية على جزئياتها وَنَحْو ذَلِك فَأدى اجْتِهَاد كل وَاحِد إِلَى مَذْهَب وَالرَّابِع أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْمسَائِل الْأُصُولِيَّة وَيتَفَرَّع عَلَيْهِ الإختلاف فِي الْفُرُوع والمجتهدان فِي هَذِه الْأَقْسَام مصيبان إِذا كَانَ مأخذاهما متقاربين بِالْمَعْنَى الَّذِي ذكرنَا

وَالْحق أَن الْمسَائِل الْمَذْكُورَة فِي كتب أصُول الْفِقْه على قسمَيْنِ قسم هُوَ من بَاب تتبع لُغَة الْعَرَب كالخاص وَالْعَام وَالنَّص وَالظَّاهِر وَمثله كَمثل قَول اللّغَوِيّ هَذَا علم وَذَلِكَ اسْم جنس وَالْفَاعِل مَرْفُوع وَالْمَفْعُول مَنْصُوب وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقسم كثير اخْتِلَاف وَقسم هُوَ من بَاب تقريب الذِّهْن إِلَى مَا يَفْعَله الْعَاقِل بسليقته تَفْصِيله أَنَّك إِذا ألقيت إِلَى عَاقل كتابا عتيقا قد تغير بعض حُرُوفه وأمرته بقرَاءَته لَا بُد إِذا اشْتبهَ عَلَيْهِ شَيْء يتتبع الْقَرَائِن ويتحرى الصَّوَاب وَرُبمَا يخْتَلف عاقلان فِي مثل ذَلِك وَإِذا عَن للعاقل طَرِيقَانِ كَيفَ يتتبع الدَّلَائِل ويتفحص عَن الْمصَالح ويختار الْأَرْجَح والأقل شرا فَكَذَلِك الْأَوَائِل لما ورد عَلَيْهِم أَحَادِيث مُخْتَلفَة أجالوا قداح نظرهم فِي ذَلِك فأفضى اجتهادهم إِلَى الحكم على بَعْضهَا بالنسخ وتطبيق بَعْضهَا بِبَعْض وترجيح بَعْضهَا على بعض وَكَذَلِكَ لما ورد عَلَيْهِم مسَائِل لم يكن السّلف تكلمُوا فِيهَا أخذُوا النظير بالنظير

ص: 8

واستنبطوا الْعِلَل وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَت لَهُم صنائع انْدَفَعُوا إِلَيْهَا بسليقتهم المخلوقة فيهم كَمَا ينْدَفع الْعَاقِل فِي أَمر يعن لَهُ فَأَرَادَ قوم أَن يسردوا صنائعهم الَّتِي ذكروها مفصلة فِي كتبهمْ أَو أشاروا إِلَيْهَا فِي ضمن كَلَامهم أَو خرجت من مسائلهم وَإِن لم يذكروها وتلقت عقول الْخلف أَكثر صنائعهم بِالْقبُولِ لما جبلوا عَلَيْهِ من السليقة فِي مثل ذَلِك ثمَّ صَارَت أمورا مسلمة فِيمَا بَينهم وعَلى قِيَاس ذَلِك لما أفرغوا جهدهمْ فِي رِوَايَة الحَدِيث وَمَعْرِفَة الصَّحِيح من السقيم والمستفيض من الْغَرِيب وَمَعْرِفَة أَحْوَال الروَاة جرحا وتعديلا وَكِتَابَة كتب الحَدِيث وتصحيحها جروا فِي تِلْكَ الميادين بسليقتهم المخلوقة فِي عُقُولهمْ ثمَّ جَاءَ قوم آخَرُونَ وَجعلُوا صنائعهم تِلْكَ كليات مدونة وَهَاهُنَا فَائِدَة جليلة هِيَ أَن من شَرط الْعَمَل بِمثل هَذِه الْمُقدمَات الْكُلية أَن لَا تكون الصُّورَة الْجُزْئِيَّة الَّتِي يَقع فِيهَا الْكَلَام مِمَّا سبق للعقلاء فِيهَا ضد حكم الكليات لِأَنَّهُ كثيرا مَا يكون هُنَاكَ قَرَائِن خَاصَّة تفِيد غير حكم الكليات وأصل الجدل هُوَ اتِّبَاع الكليات وَإِثْبَات حكم قد قضى الْعقل الصراح بِخِلَافِهِ لخُصُوص الْمقَام كَمَا إِذا رَأَيْت حجرا وأيقنت أَنه حجر فجَاء الجدلي فَقَالَ الشَّيْء إِنَّمَا يعرف باللون والشكل وَنَحْوهمَا وَهَذِه الصُّورَة قد تشابه الْأَشْيَاء فِيهَا فنقض ذَلِك الْيَقِين بِأَمْر كلي وَلَا يعلم الْمِسْكِين أَن الْيَقِين الْحَاصِل فِي هَذِه الصُّورَة الْخَاصَّة أكبر من اتِّبَاع الكليات فإياك أَن تغرك أَقْوَالهم عَن صَرِيح السّنة وَالِاخْتِلَاف فِي هَذَا الْقسم رَاجع إِلَى التَّحَرِّي وَسُكُون الْقلب وَبِالْجُمْلَةِ الإختلاف فِي أَكثر أصُول الْفِقْه رَاجع إِلَى التَّحَرِّي واطمئنان الْقلب بمشاهدة الْقَرَائِن وَقد أَشَارَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى أَن التَّكْلِيف رَاجع إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ التَّحَرِّي فِي مَوَاضِع من كَلَامه مِنْهَا قَوْله صلى الله عليه وسلم فطركم يَوْم تفطرون وأضحاكم يَوْم تضحون قَالَ الْخطابِيّ معنى الحَدِيث أَن الْخَطَأ مَوْضُوع عَن النَّاس فِيمَا كَانَ سَبيله الإجتهاد فَلَو أَن قوما اجتهدوا فَلم يرَوا الْهلَال إِلَّا بعد ثَلَاثِينَ فَلم يفطروا حَتَّى استوفوا الْعدَد ثمَّ ثَبت عِنْدهم أَن الشَّهْر كَانَ تسعا وَعشْرين فَإِن صومهم وفطرهم مَاض وَلَا شَيْء عَلَيْهِم من وزر أَو عتب وَكَذَلِكَ فِي الْحَج إِذا أخطأوا يَوْم عَرَفَة فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِم إِعَادَته ويجزئهم أضحاهم ذَلِك وَإِنَّمَا هَذَا تَخْفيف من الله سُبْحَانَهُ ورفق بعباده وَمِنْهَا قَوْله الْحَاكِم إِذا اجْتهد فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وكل

ص: 9

من استقرى نُصُوص الشَّارِع وفتاواه يحصل عِنْده قَاعِدَة كُلية وَهِي أَن الشَّارِع قد ضبط أَنْوَاع الْبر من الْوضُوء وَالْغسْل وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَغَيرهَا مِمَّا إجمعت الْملَل عَلَيْهِ بأنحاء الضَّبْط فشرع لَهَا أركانا وشروطا وآدابا وَوضع لَهَا مكروهات ومفسدات وجوائز وَأَشْبع القَوْل فِي هَذَا حق الإشباع ثمَّ لم يبْحَث عَن تِلْكَ الْأَركان وَغَيرهَا بحدود جَامِعَة مَانِعَة كثير بحث وَكلما سُئِلَ عَن أَحْكَام جزئية تتَعَلَّق بِتِلْكَ الْأَركان والشروط وَغَيرهَا أحالها على مَا يفهمون فِي نُفُوسهم من الْأَلْفَاظ المستعلمة وأرشدهم إِلَى رد الجزئيات نَحْو الكليات وَلم يزدْ على ذَلِك اللَّهُمَّ إِلَّا فِي مسَائِل قَليلَة لأسباب طارئة من لجاج الْقَوْم وَنَحْوه فشرع غسل الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة فِي الْوضُوء ثمَّ لم يحد الْغسْل بِحَدّ جَامع مَانع يعرف بِهِ أَن الدَّلْك دَاخل فِي حَقِيقَته أم لَا وَأَن إسالة المَاء دَاخِلَة فِيهَا أم لَا وَلم يقسم المَاء إِلَى مُطلق ومقيد وَلم يبين أَحْكَام الْبِئْر والغدير وَنَحْوهمَا وَهَذِه الْمسَائِل كلهَا كَثِيرَة الْوُقُوع لَا يتَصَوَّر عدم وُقُوعهَا فِي زَمَانه صلى الله عليه وسلم وَلما سَأَلَهُ السَّائِل فِي قصَّة بِئْر بضَاعَة وَحَدِيث الْقلَّتَيْنِ لم يزدْ على الرَّد إِلَى مَا يفهمونه من اللَّفْظ ويعتادونه فِيمَا بَينهم وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ مَا وجدنَا فِي أَمر المَاء إِلَّا سَعَة وَلما سَأَلته امْرَأَة عَن الثَّوْب يُصِيبهُ دم الْحَيْضَة لم يزدْ على أَن قَالَ حتيه ثمَّ اقرصيه ثمَّ انضحيه ثمَّ صلي فِيهِ فَلم يَأْتِ بِأَكْثَرَ مِمَّا عِنْدهم وَأمر بإستقبال الْقبْلَة وَلم يعلمنَا طَرِيق معرفَة الْقبْلَة وَقد كَانَت الصَّحَابَة يسافرون ويجتهدون فِي أَمر الْقبْلَة وَكَانَت لَهُم حَاجَة شَدِيد إِلَى معرفَة طَرِيق الإجتهاد فَهَذَا كُله لتفويضه مثل ذَلِك إِلَى رَأْيهمْ وَهَكَذَا أَكثر فَتَاوَاهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا لَا يخفى على منصف لَبِيب

وَقد فهمنا من تتبع أَحْكَامه أَنه رَاعى فِي ترك التعمق وَعدم الْإِكْثَار من وُجُوه الضَّبْط مصلحَة عَظِيمَة وَهِي أَن هَذِه الْمسَائِل ترجع إِلَى حقائق تسْتَعْمل فِي الْعرف على إجمالها وَلَا يعرف حَدهَا الْجَامِع الْمَانِع إِلَّا بعسر وَرُبمَا يحْتَاج عِنْد إِقَامَة الْحَد إِلَى التَّمْيِيز بَين المشكلين بِأَحْكَام وضوابط يحرجون بإقامتها ثمَّ إِن ضبطت وفسرت لَا يُمكن تَفْسِيرهَا إِلَّا بحقائق مثلهَا وهلم جرا فيتسلسل الْأَمر أَو يقف فِي بعض مَا هُنَالك إِلَى التَّفْوِيض إِلَى رَأْي الْمُبْتَلى بِهِ والحقائق الْأُخْرَى لَيست بِأَحَق من الأولى فِي التَّفْوِيض إِلَى المبتلين فلأجل هَذِه الْمصلحَة فوض الْحَقَائِق أول مرّة

ص: 10

إِلَى رَأْيهمْ وَلم يشدد قيمًا يَخْتَلِفُونَ حِين كَانَ الإختلاف فِي أَمر فوض إِلَيْهِم وَله فِي ذَلِك مساغ فَلم يعنف على عَمْرو بن الْعَاصِ فِيمَا فهم من قَوْله تَعَالَى {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} من جَوَاز التَّيَمُّم للْجنب إِذا خَافَ على نَفسه من الْبرد وَلم يعنف على عمر بن الْخطاب فِيمَا فهم من تَأْوِيل {أَو لامستم النِّسَاء} أَنه فِي لمس الْمَرْأَة لَا الْجَنَابَة فَبَقيت مَسْأَلَة الْجنب غير مَذْكُورَة فَيَنْبَغِي أَن لَا يتَيَمَّم الْجنب أصلا أخرج النَّسَائِيّ عَن طَارق أَن رجلا أجنب فَلم يصل فَأتى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَذكر ذَلِك لَهُ فَقَالَ أصبت فأجنب رجل فَتَيَمم وَصلى فَأَتَاهُ فَقَالَ نَحْو مَا قَالَ للْآخر أصبت انْتهى وَلم يعنف على أحد مِمَّن أخر صَلَاة الْعَصْر أَو أَدَّاهَا فِي وَقتهَا حِين كَانُوا جَمِيعًا على تَأْوِيل من قَوْله لَا تصلوا الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة وَبِالْجُمْلَةِ فَمن أحَاط بجوانب الْكَلَام علم أَنه صلى الله عليه وسلم فوض الْأَمر فِي تِلْكَ الْحَقَائِق المستعملة فِي الْعرف على إجمالها وَكَذَا فِي تطبيق بَعْضهَا بِبَعْض إِلَى إفهامهم وَنَظِيره تَفْوِيض الْفُقَهَاء كثيرا من الْأَحْكَام إِلَى تحري الْمُبْتَلى وعادته فَلَا عنف على اُحْدُ من الْمُخْتَلِفين عِنْدهم وَنَظِيره أَيْضا مَا أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة من الإجتهاد فِي الْقبْلَة عِنْد الْغَيْم وَترك العنف على وَاحِد فِيمَا أدّى تحريه إِلَيْهِ

وَنَظِير هَذِه الْمصلحَة مَا ذكره أهل المناظرة من الإصطلاح على ترك الْبَحْث عَن مُقَدمَات الدَّلَائِل لِئَلَّا يلْزم انتشار الْبَحْث فَمن عرف هَذِه الْمَسْأَلَة كَمَا هِيَ علم أَن أَكثر صور الِاجْتِهَاد يكون الْحق فِيهَا دائرا فِي جَانِبي الإختلاف وَأَن فِي الْأَمر سَعَة وَأَن اليبس على شَيْء وَاحِد والجزم بِنَفْي الْمُخَالف لَيْسَ بِشَيْء وَأَن استنباط حُدُودهَا إِن كَانَ من بَاب تقريب الذَّهَب إِلَى مَا يفهمهُ كل أحد من أهل اللِّسَان فإعانة على الْعلم وَإِن كَانَ بَعيدا من الأذهان وتميزا للمشكل بمقدمات مخترعة فَعَسَى أَن يكون شرعا جَدِيدا وَأَن الصَّحِيح مَا قَالَه الإِمَام عزالدين بن عبد السلام وَلَقَد أَفْلح من قَامَ بِمَا أَجمعُوا على وُجُوبه واجتنب مَا أَجمعُوا على تَحْرِيمه واستباح مَا أَجمعُوا على إِبَاحَته وَفعل مَا أَجمعُوا على اسْتِحْبَابه واجتنب مَا أَجمعُوا على كَرَاهَته وَمن أَخذ بِمَا اخْتلفُوا فِيهِ فَلهُ حالان إِحْدَاهمَا أَن يكون الْمُخْتَلف فِيهِ مِمَّا ينْقض الحكم بِهِ فَهَذَا لَا سَبِيل إِلَى التَّقْلِيد فِيهِ لِأَنَّهُ خطأ مَحْض وَمَا حكم فِيهِ بِالنَّقْضِ إِلَّا لكَونه خطأ بَعيدا من نفس

ص: 11

الشَّرْع ومأخذه ورعاية حكمه الثَّانِيَة أَن يكون مِمَّا لَا ينْقض الحكم بِهِ فَلَا بَأْس بِفِعْلِهِ وَلَا بِتَرْكِهِ إِذا قلد فِيهِ بعض الْعلمَاء لِأَن النَّاس لم يزَالُوا على ذَلِك يسْأَلُون من اتّفق من الْعلمَاء من غير تَقْيِيد بِمذهب وَلَا إِنْكَار على أحد من السَّائِلين إِلَى ان ظَهرت هَذِه الْمذَاهب ومتعصوبها من المقلدين فَإِن أحدهم يتبع إِمَامه مَعَ بعد مذْهبه عَن الْأَدِلَّة مُقَلدًا لَهَا فِيمَا قَالَ فَكَأَنَّهُ نَبِي أرسل إِلَيْهِ وَهَذَا نأي عَن الْحق وَبعد عَن الصَّوَاب لَا يرضى بِهِ أحد من أولي الْأَلْبَاب انْتهى وَقَالَ من قلد إِمَامًا من الْأَئِمَّة ثمَّ أَرَادَ تَقْلِيد غَيره فَهَل لَهُ ذَلِك فِيهِ خلاف وَالْمُخْتَار التَّفْصِيل فَإِن كَانَ الْمَذْهَب الَّذِي أَرَادَ الِانْتِقَال إِلَيْهِ مِمَّا ينْقض فِيهِ الحكم فَلَيْسَ لَهُ الِانْتِقَال إِلَى حكم يجب نقضه فَإِنَّهُ لم يجب نقضه إِلَّا لبطلانه وَإِن كَانَ المأخذان متقاربين جَازَ التَّقْلِيد والانتقال لِأَن النَّاس لم يزَالُوا من زمن الصَّحَابَة رضي الله عنهم إِلَى أَن ظَهرت الْمذَاهب الْأَرْبَعَة يقلدون من اتّفق من الْعلمَاء من غير نَكِير من أحد يعْتَبر إِنْكَاره وَلَو كَانَ ذَلِك بَاطِلا لأنكروه وَالله أعلم بِالصَّوَابِ انْتهى

وَإِذا تحقق عنْدك مَا بَيناهُ علمت أَن كل حكم يتَكَلَّم فِيهِ الْمُجْتَهد بإجتهاد مَنْسُوب إِلَى صَاحب الشَّرْع عَلَيْهِ الصَّلَاة والتسليمات إِمَّا إِلَى لَفظه أَو إِلَى عِلّة مَأْخُوذَة من لَفظه وَإِذا كَانَ الْأَمر على ذَلِك فَفِي كل اجْتِهَاد مقامان أَحدهمَا أَن صَاحب الشَّرْع هَل أَرَادَ بِكَلَامِهِ هَذَا الْمَعْنى أَو غَيره وَهل نصب هَذِه الْعلَّة مدارا فِي نَفسه حِين مَا تكلم بالحكم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ أَو لَا فَإِن كَانَ التصويب بِالنّظرِ إِلَى هَذَا الْمقَام فأحد الْمُجْتَهدين لَا لعَينه مُصِيب دون الآخر وَثَانِيهمَا أَن من جملَة أَحْكَام الشَّرْع أَنه صلى الله عليه وسلم عهد إِلَى أمته صَرِيحًا أَو دلَالَة أَنه مَتى اخْتلف عَلَيْهِم نصوصه أَو اخْتلف عَلَيْهِم مَعَاني نَص من نصوصه فهم مأمورون بالإجتهاد واستفراغ الطَّاقَة فِي معرفَة مَا هُوَ الْحق من ذَلِك فَإِذا تعين عِنْد مُجْتَهد شَيْء من ذَلِك وَجب عَلَيْهِ اتِّبَاعه كَمَا عهد إِلَيْهِم أَنه مَتى اشْتبهَ عَلَيْهِم الْقبْلَة فِي اللَّيْلَة الظلماء يجب عَلَيْهِم أَن يتحروا ويصلوا إِلَى جِهَة وَقع تحريهم عَلَيْهَا فَهَذَا حكم علقه الشَّرْع بِوُجُود التَّحَرِّي كَمَا علق وجوب الصَّلَاة بِالْوَقْتِ وكما علق تَكْلِيف الصَّبِي بِبُلُوغِهِ فَإِن كَانَ الْبَحْث بِالنّظرِ إِلَى هَذَا الْمقَام نظر فَإِن كَانَت الْمَسْأَلَة مِمَّا ينْقض فِيهِ اجْتِهَاد الْمُجْتَهد فإجتهاده بَاطِل قطعا وَإِن كَانَ فِيهَا حَدِيث صَحِيح وَقد حكم بِخِلَافِهِ فإجتهاده بَاطِل ظنا

ص: 12

وَإِن كَانَ المجتهدان جَمِيعًا قد سلكا مَا يَنْبَغِي لَهما أَن يسلكاه وَلم يخالفا حَدِيثا صَحِيحا وَلَا أمرا ينْقض اجْتِهَاد القَاضِي والمفتي فِي خِلَافه فهما جَمِيعًا على الْحق هَذَا وَالله أعلم صلى الله عليه وسلم َ - بَاب تَأْكِيد الْأَخْذ بِهَذِهِ الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، التَّشْدِيد فِي تَركهَا وَالْخُرُوج عَنْهَا صلى الله عليه وسلم َ -

اعْلَم أَن فِي الْأَخْذ بِهَذِهِ الْمذَاهب الْأَرْبَعَة مصلحَة عَظِيمَة وَفِي الْإِعْرَاض عَنْهَا كلهَا مفْسدَة كَبِيرَة وَنحن نبين ذَلِك بِوُجُوه

أَحدهَا أَن الْأمة اجْتمعت على أَن يعتمدوا على السّلف فِي معرفَة الشَّرِيعَة فالتابعون اعتمدوا فِي ذَلِك على الصَّحَابَة وَتبع التَّابِعين اعتمدوا على التَّابِعين وَهَكَذَا فِي كل طبقَة اعْتمد الْعلمَاء على من قبلهم وَالْعقل يدل على حسن ذَلِك لِأَن الشَّرِيعَة لَا تعرف إِلَّا بِالنَّقْلِ والإستنباط وَالنَّقْل لَا يَسْتَقِيم إِلَّا بِأَن تَأْخُذ كل طبقَة عَمَّن قبلهَا بالإتصال وَلَا بُد فِي الإستنباط أَن تعرف مَذَاهِب الْمُتَقَدِّمين لِئَلَّا يخرج عَن أَقْوَالهم فيخرق الْإِجْمَاع وَيَبْنِي عَلَيْهَا ويستعين فِي ذَلِك كل بِمن سبقه لِأَن جَمِيع الصناعات كالصرف والنحو والطب وَالشعر والحدادة والنجارة والصياغة لم تتيسر لأحد إِلَّا بملازمة أَهلهَا وَغير ذَلِك نَادِر بعيد لم يَقع وَإِن كَانَ جَائِزا فِي الْعقل وَإِذا تعين الإعتماد على أقاويل السّلف فَلَا بُد من أَن تكون أَقْوَالهم الَّتِي يعْتَمد عَلَيْهَا مروية بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح أَو مدونة فِي كتب مَشْهُورَة وَأَن تكون مخدومة بِأَن يبين الرَّاجِح من محتملاتها ويخصص عمومها فِي بعض الْمَوَاضِع ويقيد مُطلقهَا فِي بعض الْمَوَاضِع وَيجمع الْمُخْتَلف مِنْهَا وَيبين علل أَحْكَامهَا وَإِلَّا لم يَصح الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا وَلَيْسَ مَذْهَب فِي هَذِه الْأَزْمِنَة الْمُتَأَخِّرَة بِهَذِهِ الصّفة إِلَّا هَذِه الْمذَاهب الْأَرْبَعَة اللَّهُمَّ إِلَّا مَذْهَب الإمامية والزيدية وهم أهل الْبِدْعَة لَا يجوز الِاعْتِمَاد على أقاويلهم

وَثَانِيها قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اتبعُوا السوَاد الْأَعْظَم وَلما اندرست الْمذَاهب الحقة إِلَّا هَذِه الْأَرْبَعَة كَانَ اتباعها اتبَاعا للسواد الْأَعْظَم وَالْخُرُوج عَنْهَا خُرُوجًا عَن السوَاد الْأَعْظَم

ص: 13

وَثَالِثهَا أَن الزَّمَان لما طَال وَبعد الْعَهْد وضيعت الْأَمَانَات لم يجز أَن يعْتَمد على أَقْوَال عُلَمَاء السوء من الْقُضَاة الجورة والمفتين التَّابِعين لأهوائهم حَتَّى ينسبوا مَا يَقُولُونَ إِلَى بعض من اشْتهر من السّلف بِالصّدقِ والديانة وَالْأَمَانَة إِمَّا صَرِيحًا أَو دلَالَة وَحفظ قَوْله ذَلِك وَلَا على قَول من لَا نَدْرِي هَل جمع شُرُوط الإجتهاد أَو لَا فَإِذا رَأينَا الْعلمَاء الْمُحَقِّقين فِي مَذَاهِب السّلف عَسى أَن يصدقُوا فِي تخريجاتهم على أَقْوَالهم واستنباطهم من الْكتاب وَالسّنة وَأما إِذا لم نر مِنْهُم ذَلِك فهيهات وَهَذَا الْمَعْنى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ يهدم الْإِسْلَام جِدَال الْمُنَافِق بِالْكتاب وَابْن مَسْعُود حَيْثُ قَالَ من كَانَ مُتبعا فَليتبعْ من مضى فَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن حزم حَيْثُ قَالَ التَّقْلِيد حرَام وَلَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ قَول أحد غير رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِلَا برهَان لقَوْله تَعَالَى {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} وَقَوله تَعَالَى {وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} وَقَالَ تَعَالَى مادحا لمن لم يُقَلّد {فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم أولُوا الْأَلْبَاب} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَلم يبح الله تَعَالَى الرَّد عِنْد التَّنَازُع إِلَى اُحْدُ دون الْقُرْآن وَالسّنة وَحرم بذلك الرَّد عِنْد التَّنَازُع إِلَى قَول قَائِل لِأَنَّهُ غير الْقُرْآن وَالسّنة وَقد صَحَّ إِجْمَاع الصَّحَابَة كلهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وَإِجْمَاع التَّابِعين أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وَإِجْمَاع تبع التَّابِعين أَوَّلهمْ عَن آخِرهم على الإمتناع وَالْمَنْع من أَن يقْصد أحد إِلَى قَول إِنْسَان مِنْهُم أَو مِمَّن قبلهم فَيَأْخذهُ كُله فَليعلم من أَخذ بِجَمِيعِ أَقْوَال أبي حنيفَة أَو جَمِيع أَقْوَال مَالك أَو جَمِيع أَقْوَال الشَّافِعِي أَو جَمِيع أَقْوَال أَحْمد رحمهم الله وَلَا يتْرك قَول من اتبع مِنْهُم أَو من غَيرهم إِلَى قَول غَيره وَلم يعْتَمد على مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن وَالسّنة غير صَارف ذَلِك إِلَى قَول إِنْسَان بِعَيْنِه أَنه قد خَالف إِجْمَاع الْأمة كلهَا أَولهَا عَن آخرهَا بِيَقِين لَا إِشْكَال فِيهِ وَأَنه لَا يجد لنَفسِهِ سلفا وَلَا إِمَامًا فِي جَمِيع الْأَعْصَار المحمودة الثَّلَاثَة فقد اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نَعُوذ بِاللَّه من هَذِه الْمنزلَة وَأَيْضًا فَإِن هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء كلهم قد نهوا عَن تقليدهم وتقليد غَيرهم فقد خالفهم من قلدهم وَأَيْضًا فَمَا الَّذِي جعل رجلا من هَؤُلَاءِ أَو من غَيرهم أولى بِأَن يُقَلّد من عمر بن الْخطاب

ص: 14

أَو عَليّ بن أبي طَالب أَو ابْن مَسْعُود أَو ابْن عمر أَو ابْن عَبَّاس رضي الله عنهم أَو عَائِشَة رضي الله عنها أم الْمُؤمنِينَ فَلَو سَاغَ التَّقْلِيد لَكَانَ كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ أَحَق بِأَن يتبع من غَيره انْتهى إِنَّمَا يتم فِيمَن لَهُ ضرب من الِاجْتِهَاد وَلَو فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة وفيمن ظهر عَلَيْهِ ظهورا بَينا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَمر بِكَذَا أَو نهى عَن كَذَا وَأَنه لَيْسَ بمنسوخ إِمَّا بِأَن يتتبع الْأَحَادِيث وأقوال الْمُخَالف والموافق فِي الْمَسْأَلَة فَلَا يجد لَهَا نسخا أَو بِأَن يرى جما غفيرا من المتبحرين فِي الْعلم يذهبون إِلَيْهِ وَيرى الْمُخَالف لَهُ لَا يحْتَج إِلَّا بِقِيَاس أَو استنباط أَو نَحْو ذَلِك فَحِينَئِذٍ لَا سَبَب لمُخَالفَة حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا نفاق خَفِي أَو حمق جلي وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام حَيْثُ قَالَ وَمن الْعجب العجيب أَن الْفُقَهَاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مَأْخَذ إِمَامه بِحَيْثُ لَا يجد لضَعْفه مدفعا وَهُوَ مَعَ ذَلِك يقلده فِيهِ وَيتْرك من شهد الْكتاب وَالسّنة والأقيسة الصَّحِيحَة لمذهبهم جمودا على تَقْلِيد إِمَامه بل يتحيل لدفع ظَاهر الْكتاب وَالسّنة ويتأولها بالتأويلات الْبَعِيدَة الْبَاطِلَة نضالا عَن مقلده وَقَالَ لم يزل النَّاس يسْأَلُون من اتّفق من الْعلمَاء من غير تَقْيِيد بِمذهب وَلَا إِنْكَار على أحد من السَّائِلين إِلَى أَن ظَهرت هَذِه الْمذَاهب ومتعصبوها من المقلدين فَإِن أحدهم يتبع إِمَامه مَعَ بعد مذْهبه عَن الْأَدِلَّة مُقَلدًا لَهُ فِيمَا قَالَ كَأَنَّهُ نَبِي أرسل وَهَذَا نأي عَن الْحق وَبعد عَن الصَّوَاب لَا يرضى بِهِ أحد من أولي الْأَلْبَاب وَقَالَ الإِمَام أَبُو شامة يَنْبَغِي لمن اشْتغل بالفقه أَن لَا يقْتَصر على مَذْهَب إِمَام ويعتقد فِي كل مَسْأَلَة صِحَة مَا كَانَ أقرب إِلَى دلَالَة الْكتاب وَالسّنة المحكمة وَذَلِكَ سهل عَلَيْهِ إِذا كَانَ أتقن مُعظم الْعُلُوم الْمُتَقَدّمَة وليجتنب التعصب وَالنَّظَر فِي طرائق الْخلاف فَإِنَّهَا مضيعة للزمان ولصفوه مكدرة فقد صَحَّ عَن الشَّافِعِي أَنه نهى عَن تَقْلِيده وَغَيره قَالَ صَاحبه الْمُزنِيّ فِي أول مُخْتَصره اختصرت هَذَا من علم الشَّافِعِي رحمه الله وَمن معنى قَوْله لأقربه على من أَرَادَ مَعَ إعلاميه نَهْيه عَن تَقْلِيده وتقليد غَيره لينْظر فِيهِ لدينِهِ ويحتاط لنَفسِهِ أَي مَعَ إعلامي من أَرَادَ علم الشَّافِعِي نهى الشَّافِعِي عَن تَقْلِيده وتقليد غَيره انْتهى وفيمن يكون عاميا ويقلد رجلا من

ص: 15

الْفُقَهَاء بِعَيْنِه يرى أَنه يمْتَنع من مثله الْخَطَأ وَأَن مَا قَالَه هُوَ الصَّوَاب الْبَتَّةَ وأضمر فِي قلبه أَن لَا يتْرك تَقْلِيده وَإِن ظهر الدَّلِيل على خِلَافه وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن عدي بن حَاتِم أَنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقْرَأ {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله} قَالَ إِنَّهُم لم يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكنهُمْ كَانُوا إِذا أحلُّوا لَهُم شَيْئا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذا حرمُوا عَلَيْهِم شَيْئا حرمُوهُ وفيمن لَا يجوز أَن يستفتي الْحَنَفِيّ مثلا فَقِيها شافعيا وَبِالْعَكْسِ وَلَا يجوز أَن يَقْتَدِي الْحَنَفِيّ بِإِمَام شَافِعِيّ مثلا فَإِن هَذَا قد خَالف إِجْمَاع الْقُرُون الأولى وناقض الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَيْسَ مَحَله فِيمَن لَا يدين إِلَّا بقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا يعْتَقد حَلَالا إِلَّا مَا أحله الله وَرَسُوله وَلَا حَرَامًا إِلَّا مَا حرمه الله وَرَسُوله لَكِن لما لم يكن لَهُ علم بِمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا بطرِيق الْجمع بَين المختلفات من كَلَامه وَلَا بطرِيق الإستنباط من كَلَامه اتبع عَالما راشدا على أَنه مُصِيب فِيمَا يَقُول ويفتي ظَاهرا مُتبع سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِن ظهر خلاف مَا يَظُنّهُ أقلع من سَاعَته من غير جِدَال وَلَا إِصْرَار فَهَذَا كَيفَ يُنكره أحد مَعَ أَن الإستفتاء لم يزل بَين الْمُسلمين من عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا فرق بَين أَن يستفتي هَذَا دَائِما أَو يستفتي هَذَا حينا بعد أَن يكون مجمعا على مَا ذَكرْنَاهُ كَيفَ لَا وَلم نؤمن بفقيه أيا كَانَ أَنه أوحى الله إِلَيْهِ الْفِقْه وَفرض علينا طَاعَته وَأَنه مَعْصُوم فَإِن اقتدينا بِوَاحِد مِنْهُم فَذَلِك لعلمنا أَنه عَالم بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله فَلَا يَخْلُو قَوْله إِمَّا أَن يكون من صَرِيح الْكتاب وَالسّنة أَو مستنبطا مِنْهُمَا بِنَحْوِ من الإستنباط أَو عرف بالقرائن أَن الحكم فِي صُورَة مَا مَنُوط بعلة كَذَا وَاطْمَأَنَّ قلبه بِتِلْكَ الْمعرفَة فقاس غير الْمَنْصُوص على الْمَنْصُوص فَكَأَنَّهُ يَقُول ظَنَنْت أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ كلما وجدت هَذِه الْعلَّة فَالْحكم ثمَّة هَكَذَا والمقيس مندرج فِي هَذَا الْعُمُوم فَهَذَا أَيْضا معزو إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَكِن فِي طَرِيقه ظنون وَلَوْلَا ذَلِك لما قلد مُؤمن لمجتهد فَإِن بلغنَا حَدِيث من الرَّسُول الْمَعْصُوم الَّذِي فرض الله علينا طَاعَته بِسَنَد صَالح يدل على خلاف مذْهبه وَتَركنَا حَدِيثه وَاتَّبَعنَا ذَلِك التخمين فَمن أظلم منا وَمَا عذرنا يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين

ص: 16