المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في العامي - عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد

[ولي الله الدهلوي]

الفصل: ‌فصل في العامي

وَكَأَنَّهُ أَرَادَ إِجْمَاع أَئِمَّة مذْهبه وَكَيف وَمُقْتَضى مَذْهَبنَا كَمَا قَالَه السُّبْكِيّ منع ذَلِك فِي الْقَضَاء والإفتاء دون الْعَمَل لنَفسِهِ وَبِه يجمع بَين القَوْل الْمَاوَرْدِيّ يجوز عندنَا وانتصر لَهُ الْغَزالِيّ كَمَا يجوز لمن أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى تَسَاوِي جِهَتَيْنِ أَن يُصَلِّي إِلَى أَيهمَا شَاءَ إِجْمَاعًا وَقَول الإِمَام يمْتَنع إِن كَانَا فِي حكمين متضادين كإيجاب وَتَحْرِيم بِخِلَاف نَحْو خِصَال الْكَفَّارَة وأجرى السُّبْكِيّ ذَلِك وتبعوه فِي الْعَمَل بِخِلَاف الْمذَاهب الْأَرْبَعَة أَي مِمَّا علمت نسبته لمن يجوز تَقْلِيده وَجَمِيع شُرُوطه عِنْده وَحمل على ذَلِك قَول ابْن الصّلاح لَا يجوز تَقْلِيد غير الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة أَي فِي قَضَاء وإفتاء وَمحل ذَلِك وَغَيره من صور التَّقْلِيد مَا لم يتتبع الرُّخص بِحَيْثُ تنْحَل ربقة التَّقْلِيد عَن عُنُقه وَإِلَّا أَثم بِهِ بل قيل فسق وَهُوَ وجيه قيل مَحل ضعفه أَن يتتبعها من الْمذَاهب الْمُدَوَّنَة وَإِلَّا فسق قطعا انْتهى

‌فصل فِي الْعَاميّ

اعْلَم أَن الْعَاميّ الصّرْف لَيْسَ لَهُ مَذْهَب وَإِنَّمَا مذْهبه فَتْوَى الْمُفْتِي فِي الْبَحْر الرَّائِق لَو احْتجم أَو اغتاب فَظن أَنه يفطره ثمَّ أكل إِن لم يستفت فَقِيها وَلَا بلغه الْخَبَر فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ مُجَرّد جهل وَأَنه لَيْسَ بِعُذْر فِي دَار الْإِسْلَام وَإِن استفتى فَقِيها فأفتاه لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَن الْعَاميّ يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد الْعَالم إِذا كَانَ يعْتَمد على فتواه فَكَانَ مَعْذُورًا فِيمَا صنع وَإِن كَانَ الْمُفْتِي مخطئا فِيمَا أفتى وَإِن لم يستفت وَلكنه بلغه الْخَبَر وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم أفطر الحاجم والمحجوم وَقَوله عليه الصلاة والسلام الْغَيْبَة تفطر الصَّائِم وَلم يعرف النّسخ وَلَا تَأْوِيله لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ عِنْدهمَا لِأَن ظَاهر الحَدِيث وَاجِب الْعَمَل بِهِ خلافًا لأبي يُوسُف لِأَنَّهُ لَيْسَ للعامي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ لعدم علمه بالناسخ والمنسوخ وَلَو لمس امْرَأَة أَو قبلهَا بِشَهْوَة أَو اكتحل فَظن أَن ذَلِك يفْطر ثمَّ أفطر عَلَيْهِ الْكَفَّارَة إِلَّا إِذا استفتى فَقِيها فأفتاه بِالْفطرِ أَو بلغه خبر فِيهِ وَلَو نوى الصَّوْم قبل الزَّوَال ثمَّ أفطر لم يلْزمه الْكَفَّارَة عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى خلافًا لَهما كَذَا فِي الْمُحِيط وَقد علم من هَذَا أَن مَذْهَب الْعَاميّ فَتْوَى مفتيه وَفِيه أَيْضا فِي بَاب قَضَاء الْفَوَائِت عِنْد قَوْله وَيسْقط لضيق الْوَقْت وَالنِّسْيَان إِن كَانَ عاميا لَيْسَ لَهُ مَذْهَب

ص: 30

معِين فمذهبه فَتْوَى مفتيه كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَإِن أفتى حَنَفِيّ أعَاد الْعَصْر وَالْمغْرب وَإِن أفتاه شَافِعِيّ فَلَا يعيدهما وَلَا عِبْرَة بِرَأْيهِ وَإِن لم يستفت أحدا وصادف الصِّحَّة على مَذْهَب مُجْتَهد أَجزَأَهُ وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ انْتهى وَفِي شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ لِابْنِ إِمَام الكاملية فَإِذا وَقعت لعامي حَادِثَة فاستفتى فِيهَا مُجْتَهدا وَعمل فِيهَا بفتوى ذَلِك الْمُجْتَهد فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوع عَنهُ إِلَى فَتْوَى غَيره فِي تِلْكَ الْحَادِثَة بِعَينهَا بِالْإِجْمَاع كَمَا نَقله ابْن الْحَاجِب وَغَيره وَفِي جمع الْجَوَامِع الْخلاف فِيهِ وَإِن كَانَ قبل الْعَمَل فَقَالَ النَّوَوِيّ الْمُخْتَار مَا نَقله الْخَطِيب وَغَيره أَنه إِن لم يكن هُنَالك مفت آخر لزمَه بِمُجَرَّد فتواه إِن لم تسكن نَفسه وَإِن كَانَ هُنَاكَ آخر لم يلْزمه بِمُجَرَّد إفتائه إِذْ لَهُ أَن يسْأَل غَيره وَحِينَئِذٍ فقد يُخَالِفهُ فَيَجِيء فِيهِ الْخلاف فِي اخْتِلَاف الْمُفْتِينَ أما إِذا وَقعت لَهُ حَادِثَة غير ذَلِك فَالْأَصَحّ أَنه يجوز لَهُ أَن يستفتي فِيهَا غير من استفتاه فِي الْحَادِثَة السَّابِقَة وَقطع الكيا الهراسي بِأَنَّهُ يجب على الْعَاميّ أَن يلْزم مذهبا معينا وَاخْتَارَ فِي جمع الْجَوَامِع أَنه يجب ذَلِك وَلَا يَفْعَله لمُجَرّد التشهي بل يخْتَار مذهبا يقلده فِي كل شَيْء يَعْتَقِدهُ أرجح أَو مُسَاوِيا لغيره لَا مرجوحا وَقَالَ النَّوَوِيّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيل أَنه لَا يلْزمه التمذهب بِمذهب بل يستفتي من شَاءَ لَكِن من غير تلقط للرخص وَلَعَلَّ من مَنعه لم يَثِق بِعَدَمِ تلقطه وَإِذا الْتزم مذهبا معينا فَيجوز لَهُ الْخُرُوج عَنهُ على الْأَصَح وَفِي كتاب الزّبد لِابْنِ رسْلَان

وَالشَّافِعِيّ وَمَالك والنعمان

وَأحمد بن حَنْبَل وسُفْيَان

وَغَيرهم من سَائِر الْأَئِمَّة

على هدى والإختلاف رَحمَه

وَفِي شَرحه غَايَة الْبَيَان لَو اخْتلف جَوَاب مجتهدين متساويين فَالْأَصَحّ أَن للمقلد أَن يتَخَيَّر بقول من شَاءَ مِنْهُمَا وَقد مر مَا فِي التُّحْفَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة صلى الله عليه وسلم َ - بَاب صلى الله عليه وسلم َ -

وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من الْأَمريْنِ هُوَ الَّذِي مَشى عَلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء من الآخذين بالمذاهب الْأَرْبَعَة ووصى بِهِ أَئِمَّة الْمذَاهب أَصْحَابهم قَالَ الشَّيْخ عبد الوهاب الشعراني

ص: 31

فِي اليواقيت والجواهر روى عَن أبي حنيفَة أَنه كَانَ يَقُول لَا يَنْبَغِي لمن لم يعرف دليلي أَن يُفْتِي بكلامي وَكَانَ إِذا أفتى يَقُول هَذَا رَأْي النُّعْمَان بن ثَابت يَعْنِي نَفسه وَهُوَ أحسن مَا قَدرنَا عَلَيْهِ فَمن جَاءَ بِأَحْسَن مِنْهُ فَهُوَ أولى بِالصَّوَابِ وَكَانَ الإِمَام مَالك يَقُول مَا من أحد إِلَّا ومأخوذ من كَلَامه ومردود عَلَيْهِ إِلَّا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وروى الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه كَانَ يَقُول إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي وَفِي رِوَايَة إِذا رَأَيْتُمْ كَلَامي يُخَالف الحَدِيث فأعملوا بِالْحَدِيثِ واضربوا بكلامي الْحَائِط وَقَالَ يَوْمًا للمزني يَا إِبْرَاهِيم لَا تقلدني فِي كل مَا أَقُول وَانْظُر فِي ذَلِك لنَفسك فَإِنَّهُ دين وَكَانَ رَحْمَة الله عَلَيْهِ يَقُول لَا حجَّة فِي قَول أحد دون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَإِن كَثُرُوا وَلَا فِي قِيَاس وَلَا فِي شَيْء وَمَا ثمَّ إِلَّا طَاعَة الله وَرَسُوله بِالتَّسْلِيمِ وَكَانَ الإِمَام أَحْمد يَقُول لَيْسَ لأحد مَعَ الله وَرَسُوله كَلَام وَقَالَ أَيْضا لرجل لَا تقلدني وَلَا تقلدن مَالِكًا وَلَا الْأَوْزَاعِيّ وَلَا النَّخعِيّ وَلَا غَيرهم وَخذ الْأَحْكَام من حَيْثُ أخذُوا من الْكتاب وَالسّنة انْتهى ثمَّ نقل عَن جمَاعَة عَظِيمَة من عُلَمَاء الْمذَاهب أَنهم كَانُوا يعْملُونَ ويفتون بالمذاهب من غير الْتِزَام مَذْهَب معِين من زمن أَصْحَاب الْمذَاهب إِلَى زَمَانه على وَجه يَقْتَضِي كَلَامه أَن ذَلِك أَمر لم يزل الْعلمَاء عَلَيْهِ قَدِيما وحديثا حَتَّى صَار بِمَنْزِلَة الْمُتَّفق عَلَيْهِ فَصَارَ سَبِيل الْمُسلمين الَّذِي لَا يَصح خِلَافه وَلَا حَاجَة بِنَا بعد مَا ذكره وَبسطه إِلَى نقل الْأَقَاوِيل وَلَكِن لَا بَأْس أَن نذْكر بعض مَا نَحْفَظهُ فِي هَذِه السَّاعَة قَالَ الْبَغَوِيّ فِي مفتتح شرح السّنة وَإِنِّي فِي أَكثر مَا أوردته بل فِي عامته مُتبع إِلَّا الْقَلِيل الَّذِي لَاحَ لي بِنَوْع من الدَّلِيل فِي تَأْوِيل كَلَام مُحْتَمل أَو إِيضَاح مُشكل أَو تَرْجِيح قَول على آخر وَقَالَ فِي بَاب الدُّعَاء الَّذِي يستفتح بِهِ الصَّلَاة بعد مَا ذكر التَّوْجِيه وسبحانك اللَّهُمَّ وَقد روى غير هَذَا من الذّكر فِي افْتِتَاح الصَّلَاة فَهُوَ من الإختلاف الْمُبَاح فبأيها استفتح جَازَ وَقَالَ فِي بَاب الْمَرْأَة لَا تخرج إِلَّا مَعَ محرم وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن الْمَرْأَة لَا يلْزمهَا الْحَج إِذا لم تَجِد رجلا ذَا محرم يخرج مَعهَا وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي وَذهب قوم إِلَى أَنه يلْزمهَا الْخُرُوج مَعَ جمَاعَة النِّسَاء وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأول أولى لظَاهِر الحَدِيث قَالَ الْبَغَوِيّ فِي حَدِيث بروع بنت واشق قَالَ الشَّافِعِي

ص: 32

رَحْمَة الله عَلَيْهِ فَإِن كَانَ يثبت حَدِيث بروع بنت واشق فَلَا حجَّة فِي قَول أحد دون النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مرّة عَن معقل بن يسَار وَمرَّة عَن معقل بن سِنَان وَمرَّة عَن بعض أَشْجَع وَإِن لم يثبت فَلَا مهر لَهَا وَلها إِرْث انْتهى قَول الْبَغَوِيّ وَقَالَ الْحَاكِم بعد حِكَايَة قَول الشَّافِعِي إِن صَحَّ حَدِيث بروع بنت واشق قلت بِهِ إِن بعض مشايخه قَالَ لَو حضرت الشَّافِعِي لقمت على رُءُوس أَصْحَابه وَقلت قد صَحَّ الحَدِيث فَقل بِهِ انْتهى قَول الْحَاكِم وَهَكَذَا توقف الشَّافِعِي فِي حَدِيث بُرَيْدَة الْأَسْلَمِيّ فِي أَوْقَات الصَّلَاة وَصَحَّ الحَدِيث عِنْد مُسلم فَرجع إِلَيْهِ جماعات من الْمُحدثين وَهَكَذَا فِي المعصفر استدرك الْبَيْهَقِيّ على الشَّافِعِي بِحَدِيث عبد الله بن عمر واستدرك الْغَزالِيّ على الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة نَجَاسَة المَاء إِذا كَانَ دون الْقلَّتَيْنِ فِي كَلَام كثير مَذْكُور فِي الْأَحْيَاء وللنووي وَجه أَن بيع المعاطاة جَائِز على خلاف نَص الشَّافِعِي واستدرك الزَّمَخْشَرِيّ على أبي حنيفَة فِي بعض الْمسَائِل مِنْهَا مَا قَالَ فِي آيَة التَّيَمُّم من سُورَة الْمَائِدَة قَالَ الزّجاج الصَّعِيد وَجه الأَرْض تُرَابا كَانَ أَو غَيره وَإِن كَانَ صخرا لَا تُرَاب عَلَيْهِ فَلَو ضرب الْمُتَيَمم يَده عَلَيْهِ وَمسح لَكَانَ ذَلِك طهروه وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة فَإِن قلت فَمَا تصنع بقوله تَعَالَى فِي سُورَة الْمَائِدَة {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} أَي بعضه وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي الصخر الَّذِي لَا تُرَاب عَلَيْهِ قلت قَالُوا إِن من لابتداء الْغَايَة فَإِن قلت قَوْلهم إِنَّهَا لإبتداء الْغَايَة قَول متعسف وَلَا يفهم من قَول الْعَرَب مسحت برأسي من الدّهن وَمن التُّرَاب وَمن المَاء إِلَّا معنى التَّبْعِيض قلت هُوَ كَمَا تَقول والإذعان للحق أَحَق من المراء انْتهى كَلَام الزَّمَخْشَرِيّ وَهَذَا الْجِنْس من مؤاخذات الْعلمَاء على أئمتهم لَا سِيمَا مؤاخذات الْمُحدثين أَكثر من أَن تحصى وَقد حكى لي شَيْخي الشَّيْخ أَبُو طَاهِر الشَّافِعِي عَن شَيْخه الشَّيْخ حسن العجمي الْحَنَفِيّ أَنه كَانَ يَأْمُرنَا أَن لَا نشدد على نسائنا فِي النَّجَاسَة القليلة لمَكَان الْحَرج الشَّديد وَمَا أمرنَا أَن نَأْخُذ فِي ذَلِك بِمذهب أبي حنيفَة فِي الْعَفو عَمَّا دون الدِّرْهَم وَكَانَ شَيخنَا أَبُو طَاهِر يرتضي هَذَا القَوْل وَيَقُول بِهِ فِي الْأَنْوَار وَإِنَّمَا يحصل أَهْلِيَّة الِاجْتِهَاد بِأَن يعلم أمورا الأول كتاب الله تَعَالَى وَلَا يشْتَرط الْعلم بِجَمِيعِهِ بل بِمَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَلَا يشْتَرط حفظه بِظهْر الْقلب الثَّانِي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا يتَعَلَّق مِنْهَا بِالْأَحْكَامِ لَا جَمِيعًا وَيشْتَرط أَن يعرف مِنْهُمَا

ص: 33

الْخَاص وَالْعَام وَالْمُطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ وَمن السّنة الْمُتَوَاتر والآحاد والمرسل والمسند والمتصل والمنقطع وَحَال الروَاة جرحا وتعديلا الثَّالِث أقاويل عُلَمَاء الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ إِجْمَاعًا واختلافا الرَّابِع الْقيَاس جليه وخفيه وتمييز الصَّحِيح من الْفَاسِد الْخَامِس لِسَان الْعَرَب لُغَة وإعرابا وَلَا يشْتَرط التبحر فِي هَذِه الْعُلُوم بل يَكْفِي معرفَة جمل مِنْهَا وَلَا حَاجَة أَن يتتبع الْأَحَادِيث على تفرقها بل يَكْفِي أَن يكون لَهُ أصل مصحح يجمع أَحَادِيث الْأَحْكَام كسنن التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا كَأبي دَاوُد وَلَا يشْتَرط ضبط جَمِيع مَوَاضِع الْإِجْمَاع أَو الإختلاف بل يَكْفِي أَن يعرف فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي يقْضِي فِيهَا أَن قَوْله لَا يُخَالف الْإِجْمَاع بِأَن يعلم أَنه وَافق بعض الْمُتَقَدِّمين أَو يغلب على ظَنّه أَنه لم يتَكَلَّم الْأَولونَ فِيهَا بل تولدت فِي عصره وَكَذَا معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ وكل حَدِيث أجمع السّلف على قبُوله أَو تَوَاتَرَتْ أَهْلِيَّة رُوَاته فَلَا حَاجَة إِلَى الْبَحْث عَن عَدَالَة رُوَاته وَمَا عدا ذَلِك يبْحَث عَن عَدَالَة رُوَاته واجتماع هَذِه الْعُلُوم إِنَّمَا اشْترط فِي الْمُجْتَهد الْمُطلق الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيع أَبْوَاب الشَّرْع وَيجوز أَنِّي كَون مُجْتَهدا فِي بَاب دون بَاب وَمن شَرط الإجتهاد معرفَة أصُول الإعتقاد قَالَ الْغَزالِيّ وَلَا يشْتَرط مَعْرفَته على طرق الْمُتَكَلِّمين بأداتها الَّتِي يحررونها وَمن لَا تقبل شَهَادَته من المبتدعة لَا يَصح تَقْلِيده الْقَضَاء وَكَذَا تَقْلِيد من لَا يَقُول بِالْإِجْمَاع كالخوارج أَو بأخبار الْآحَاد كالقدرية أَو بِالْقِيَاسِ كالشيعة وَفِي الْأَنْوَار أَيْضا وَلَا يشْتَرط أَن يكون للمجتهد مَذْهَب مدون وَإِذا دونت الْمذَاهب جَازَ للمقلد أَن ينْتَقل من مَذْهَب إِلَى مَذْهَب وَعند الْأُصُولِيِّينَ إِن عمل بِهِ فِي حَادِثَة فَلَا يجوز فِيهَا وَيجوز فِي غَيرهَا وَإِن لم يعْمل جَازَ فِيهَا وَفِي غَيرهَا وَلَو قلد مُجْتَهدا فِي مسَائِل وَآخر مسَائِل جَازَ وَعند الْأُصُولِيِّينَ لَا يجوز وَلَو اخْتَار من كل مَذْهَب الأهون قَالَ أَبُو إِسْحَاق يفسق وَقَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة لَا وَرجحه فِي بعض الشُّرُوح

وَفِي الْأَنْوَار أَيْضا المنتسبون إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد رحمهم الله أَصْنَاف أَحدهَا الْعَوام وتقليدهم للشَّافِعِيّ متفرع على تَقْلِيد الْمَيِّت الثَّانِي البالغون إِلَى رُتْبَة الإجتهاد والمجتهد لَا يُقَلّد مُجْتَهدا وَإِنَّمَا ينتسبون إِلَيْهِ لجريهم على

ص: 34

طَرِيقَته فِي الإجتهاد وَاسْتِعْمَال الْأَدِلَّة وترتيب بَعْضهَا على بعض الثَّالِث المتوسطون وهم الَّذين لم يبلغُوا رُتْبَة الإجتهاد لكِنهمْ وقفُوا على أصُول الإِمَام وتمكنوا من قِيَاس مَا لم يجدوه مَنْصُوصا على مَا نَص عَلَيْهِ وَهَؤُلَاء مقلدون لَهُ وَكَذَا من يَأْخُذ بقَوْلهمْ من الْعَوام وَالْمَشْهُور أَنهم لَا يقلدون فِي أنفسهم لأَنهم مقلدون وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْهَرَوِيّ وَهُوَ من تلامذة الإِمَام مَذْهَب عَامَّة الْأَصْحَاب فِي الْأُصُول أَن الْعَاميّ لَا مَذْهَب لَهُ فَإِن وجد مُجْتَهدا قَلّدهُ وَإِن لم يجده وَوجد متبحرا فِي مَذْهَب قَلّدهُ فَإِنَّهُ يفتيه على مَذْهَب نَفسه وَهَذَا تَصْرِيح بِأَنَّهُ يُقَلّد المتبحر فِي نَفسه والمرجح عِنْد الْفُقَهَاء أَن الْعَاميّ المنتسب إِلَى مَذْهَب لَهُ مَذْهَب وَلَا يجوز لَهُ مُخَالفَته وَلَو لم يكن منتسبا إِلَى مَذْهَب فَهَل يجوز أَن يتَخَيَّر ويتقلد أَي مَذْهَب شَاءَ فِيهِ خلاف مَبْنِيّ على أَنه هَل يلْزمه التَّقْلِيد لمَذْهَب معِين أم لَا فِيهِ وَجْهَان قَالَ النَّوَوِيّ وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيل أَنه لَا يلْزم بل يستفتي من شَاءَ وَمن اتّفق لَكِن من غير تلقط للرخص فِي كتاب آدَاب القَاضِي من فتح الْقَدِير وَاعْلَم ان مَا ذكر المُصَنّف فِي القَاضِي ذكر فِي الْمُفْتِي فَلَا يُفْتِي إِلَّا المجتهدون وَقد اسْتَقر رَأْي الْأُصُولِيِّينَ على أَن الْمُفْتِي هُوَ الْمُجْتَهد فَأَما غير الْمُجْتَهد مِمَّن يحفظ أَقْوَال الْمُجْتَهد فَلَيْسَ بمفت وَالْوَاجِب عَلَيْهِ إِذا سُئِلَ أَن يذكر قَول الْمُجْتَهد على طَرِيق الْحِكَايَة كَأبي حنيفَة على جِهَة الْحِكَايَة فَعرف أَن مَا يكون فِي زَمَاننَا من فَتْوَى الْمَوْجُودين لَيْسَ بفتوى بل هُوَ نقل كَلَام الْمُفْتِي ليَأْخُذ بِهِ المستفتي وَطَرِيق نَقله كَذَلِك عَن الْمُجْتَهد أحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون لَهُ سَنَد فِيهِ إِلَيْهِ أَو يَأْخُذ من كتاب معرف تداولته الْأَيْدِي نَحْو كتب مُحَمَّد بن الْحسن وَنَحْوهَا من التصانيف الْمَشْهُورَة للمجتهدين لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْخَبَر الْمُتَوَاتر عَنْهُم أَو الْمَشْهُور هَكَذَا ذكر الرَّازِيّ فعلى هَذَا لَو وجد بعض نسخ النَّوَادِر فِي زَمَاننَا لَا يحل رفع مَا فِيهَا إِلَى مُحَمَّد وَلَا إِلَى أبي يُوسُف لِأَنَّهَا لم تشتهر فِي عصرنا فِي دِيَارنَا وَلم تتداولها الْأَيْدِي نعم إِذا وجد النَّقْل عَن النَّوَادِر مثلا فِي كتاب مَشْهُور مَعْرُوف كالهداية والمبسوط كَانَ ذَلِك تعويلا على ذَلِك الْكتاب فَلَو كَانَ حَافِظًا للأقاويل الْمُخْتَلفَة للمجتهدين وَلَا يعرف الْحجَّة وَلَا قدرَة لَهُ على الإجتهاد للترجيح لَا يقطع يَقُول مِنْهَا وَلَا يُفْتِي بِهِ بل يحكيها للمستفتي فيختار المستفتي مَا يَقع فِي قلبه أَنه الأصوب ذكره فِي بعض الْجَوَامِع

ص: 35

وَعِنْدِي أَنه لَا يجب عَلَيْهِ حِكَايَة كلهَا بل يَكْفِيهِ أَن يَحْكِي قولا مِنْهَا فَإِن الْمُقَلّد لَهُ أَن يُقَلّد أَي مُجْتَهد شَاءَ فَإِذا ذكر أَحدهَا فقلده حصل الْمَقْصُود نعم لَا يقطع عَلَيْهِ فَيَقُول جَوَاب مسألتك كَذَا بل يَقُول قَالَ أَبُو حنيفَة حكم هَذَا كَذَا نعم لَو حكى الْكل فالأخذ بِمَا يَقع فِي قلبه أَنه أصوب وَأولى والعامي لَا عِبْرَة بِمَا يَقع فِي قلبه من صَوَاب الحكم وخطئه وعَلى هَذَا إِذا استفتى فقيهين أَعنِي مجتهدين فاختلفا عَلَيْهِ الأولى أَن يَأْخُذ بِمَا يمِيل إِلَيْهِ قلبه مِنْهُمَا وَعِنْدِي أَنه لَو أَخذ بقول الَّذِي لَا يمِيل إِلَيْهِ جَازَ لِأَن ميله وَعَدَمه سَوَاء وَالْوَاجِب عَلَيْهِ تَقْلِيد مُجْتَهد وَقد فعل أصَاب ذَلِك الْمُجْتَهد أَو أَخطَأ وَقَالُوا الْمُنْتَقل من مَذْهَب إِلَى مَذْهَب بإجتهاد وبرهان آثم يسْتَوْجب التَّعْزِير فَقبل اجْتِهَاد وبرهان أولى وَلَا بُد أَن يُرَاد بِهَذَا الإجتهاد معنى التَّحَرِّي وتحكيم الْقلب لِأَن الْعَاميّ لَيْسَ لَهُ اجْتِهَاد ثمَّ حَقِيقَة الإنتقال إِنَّمَا تتَحَقَّق فِي حكم مَسْأَلَة خَاصَّة قلد فِيهِ وَعمل بِهِ وَإِلَّا فَقَوله قلدت أَبَا حنيفَة فِيمَا أفتى بِهِ من الْمسَائِل مثلا والتزمت الْعَمَل بِهِ على الْإِجْمَال وَهُوَ لَا يعرف صورها لَيْسَ حَقِيقَة التَّقْلِيد بل هَذَا حَقِيقَة تَعْلِيق التَّقْلِيد أَو وعد بِهِ كَأَنَّهُ الْتزم أَن يعْمل بقول أبي حنيفَة فِيمَا يَقع لَهُ من الْمسَائِل الَّتِي تتَعَيَّن فِي الوقائع فَإِن أَرَادوا هَذَا الِالْتِزَام فَلَا دَلِيل على وجوب اتِّبَاع الْمُجْتَهد الْمعِين بإلزامه نَفسه ذَلِك قولا أَو نِيَّة شرعا بل بِالدَّلِيلِ واقتضاء الْعَمَل بقول الْمُجْتَهد فِيمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَالسُّؤَال إِنَّمَا يتَحَقَّق عِنْد طلب حكم الْحَادِثَة الْمعينَة وَحِينَئِذٍ إِذا ثَبت عِنْده قَول الْمُجْتَهد وَجب عمله بِهِ وَالْغَالِب أَن مثل هَذِه إلزامات مِنْهُم لكف النَّاس عَن تتبع الرُّخص وَإِلَّا أَخذ الْعَاميّ فِي كل مَسْأَلَة بقول مُجْتَهد اخف عَلَيْهِ وَأَنا لَا أَدْرِي مَا يمْنَع هَذَا من النَّقْل وَالْعقل فكون الْإِنْسَان متتبعا مَا هُوَ أخف على نَفسه من قَول مُجْتَهد يسوغ لَهُ الإجتهاد مَا علمت من الشَّرْع مذمة عَلَيْهِ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يحب مَا خفف عَن أمته وَالله سُبْحَانَهُ أعلم بِالصَّوَابِ انْتهى

وَهَذَا آخر مَا أردنَا إِيرَاده فِي هَذِه الرسَالَة وَالْحَمْد لله أَولا وآخرا

ص: 36