المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عقد التأمين التعاوني - عقود التأمين حقيقتها وحكمها

[حمد بن حماد الحماد]

الفصل: ‌عقد التأمين التعاوني

التزام بمال وهذا الالتزام غير معلوم المقدار وفي الجعالة يشترط أن يكون معلوماً.. والالتزام في عقد التأمين لا يقابله عمل وإنما يقابله التزام بمال أيضاً وفي الجعالة يقابل الثمن المعلوم عمل معين فلا يمكن أن يقاس عقد التأمين على الجعالة للاختلاف الظاهر بينهما بوجود مثل هذه الفروق الجوهرية التي تمنع القياس.

وبهذا يتبين أنه ليس هنا مستند صحيح للقائلين بجواز عقود التأمين وقد أغفلت بعض أقوالهم مما لا وجه له ولا يستحق المناقشة.. وفي الحقيقة أن كل ما أثاروه لا قيمة له ولكنها وساوس وشبه أثيرت فلزم البيان.

وقد أصاب السنهوري عندما قال: "لا يجوز قياس عقد التأمين على عقود أو نظم معروفة في الفقه الإسلامي فهولا يشبه عقد المضاربة ولا هو كفالة ولا هو وديعة بأجر ولا هو عقد موالاة ولا يدخل في ضمان خطر الطريق ولا في الوعد الملزم ولا في نظام العواقل

وإنما التأمين عقد جديد له مقوماته وخصائصه وهو ليس بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي1.

وهكذا ننتهي إلى أن عقد التأمين لا يشبه أي عقد من عقود المعاوضة في الفقه الإسلامي وكل ما أثاروه من شبه تبين بطلان الاحتجاج بها وبهذا ننتهي إلى الجزم بتحريم عقود التأمين لتضمنها ما نهى الشرع عنه من الغرر والربا والقمار وبيع الدين بالدين..

1 الوسيط 7/ 1089.

ص: 92

‌عقد التأمين التعاوني

لقد انتهى أكثر الباحثين في التأمين إلى أن عقود التأمين عقود محرمة إلا أن بعضهم استظهر جواز عقد التأمين التعاوني وفرق بينه وبين التأمين التجاري معتمداً على بعض الشواهد والفروق وقالوا إنه يمكن إيجاد نظام تأمين تعاوني يتفق مع نصوص الشريعة وقواعدها2.

وقد استدلوا لذلك بالنصوص الآمرة والمرغبة بالتعاون على البر والتقوى والتواد والتراحم والتعاطف بين أفراد المسلمين.

2 من هؤلاء الشيخ محمد أبو زهره وبحثه في أصول الفقه الإسلامي ص 526 ومحمد الدسوقي في كتابه التأمين وموقف الشريعة منه ص 39 1 وما بعدها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة عام 387 اهـ. وحسين حامد حسان في كتابه حكم الشريعة في عقود التأمين ص 136 وما بعدها دار الاعتصام. وعباس حسنى في كتابه عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي ص 73 ومحمد بلتاجى في كتابه عقود التأمين ص200 وما بعدها.

ص: 92

كما ذكرت بعض الشواهد الواردة في هذا المجال وهى كالتالي:

ا- حديث جابر بن عبد الله أنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة وأنا فيهم فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد1 فأمر أبو عبيدة بازواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مِِزوَدَى تمر فكان يقوتناه كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة

"الحديث متفق عليه2.

وجمع الطعام في السفر يدخل في النهد والتناهد هو إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرفقة وقيده بعضهم بالسوية وبالسفر ولعل هذه أصله- خلط الزاد في السفر- لكن قد يتفق حصوله في الحضر3. وقيده ابن الأثير بسفر الغزو فقال: "ما تخرجه الرفقة عند المناهدة إلى العدو وهو أن يقسموا نفقتهم بينهم بالسوية حتى لا يتغابنوا ولا يكون لأحدهم على الآخر فضل ومنة"4.

2-

حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خفت أزواد القوم وأملقوا5 فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم فأذن لهم فلقيهم عمر فاخبروه فقال ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فدخل على النبي –صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم فبُسط لذلك نِطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه6 ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى7 الناس حتى فرغوا

" الحديث متفق عليه8.

3-

حديث أبى موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين إذا أرملوا9 في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم" متفق عليه10.

1 أي كاد يفنى.

2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري 5/128 رقم 2483 ومسلم 3/1537 صيد رقم 21 واللفظ للبخاري.

3 انظر فتح الباري 5/129.

4 النهاية في غريب الحديث والأثر 5/135 تحقيق الطناحى طبعة عيسى الحلبي.

5 أملقوا: أي افتقروا.

6 برك: عليه: أي دعا بالبركة.

7 إحتثى: من الحثى وهو الأخذ بالكفين.

8 صحيح البخاري بشرح فتح الباري 5/128 رقم الحديث 2484 وصحيح مسلم 3/1354-1355القطة رقم الحديث 19 وروى نحوه عن أبى هريرة 1/55-56 كتاب الإيمان رقم الحديث 44.

9 أرملوا: أي فني زادهم وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة كما قيل في قوله تعالى: {ذَا مَتْرَبَةٍ} البلد/16.

10 صحيح البخاري بشرح فتح الباري 5/128-129 رقم 2486 ومسلم 3/944 ا-1945 فضائل الصحابة رقم 167

ص: 93

والأحاديث في هذا الباب تدل على أنه لا يتقيد بالتسوية إلا في القسمة1 وأما في الأكل فلا تسوية لاختلاف حال الآكلين ولأن الذي يوضع للأكل سبيله المكارمة لا التشاح

وقد اغتفر الربا في النهد لثبوت الدليل على جوازه2 وذلك أن الشخص قد يأكل أكثر أو أقل مما أخرج وكذلك في القسمة قد يكون ما يقسم للشخص أكثر أو أقل ما أخذ منه لكنه اغتفر هذا الفضل للدليل الدال على جوازه.

وما حصل فيما ذكر لم يتم عن طريق التعاقد والالتزام بين أطراف في هذا التعاقد بدفع شيء معين أو غير معين مقابل التزام آخر وإنما يتم عن طريق المواساة في أوقات الحاجة والمجاعة.

وكذلك ليس فيما ذكر إرادة المبايعة والبدل وإنما يفضل بعضهم بعضاً بطريق المواساة.. فما ذكر في هذه الأحاديث إنما هو خلط الزاد في السفر والإقامة من باب الإيثار والمواساة وطلب البركة3 فلا يصلح أن يستدل بها لإنشاء عقد تأمين بدعوى أنه تعاوني وليس تجاري.

والذي يظهر أن ما ورد في هذا إنما هو حالة استثنائية خاصة فيمكن أن يطبق حكمها على ما يماثلها فقط ولا يصح أن تجعل قاعدة عامة يبنى عليها تنظيم عام وهذا ما يدل عليه تقييد العلماء للنهد بما تقدم كما يدل عليه الحالات التي حصلت فيها الشواهد المذكورة.

ثم إنه لا عبرة بتسميته تأمين تعاوني وإنما العبرة بالكيفية التي يتم بها هذا الشيء فإن كان على سبيل التبرع والإحسان بحيث لا يلزم أحد بدفع أقساط معينة بل كل يدفع ما شاء متى شاء وكذلك لا يلتزم له بدفع تعويض عن خطر ما وإنما يواس ويجبر دون التزام له بذلك فإن كان بمثل هذه الكيفية فلا بأس به إن شاء الله و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ويغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في غيرها.

وأما إن كان عن طريق التعاقد بان يلتزم كل واحد بدفع أقساط معينة ويلتزم له

1 في حديث سلمة لم يذكر فيه التسوية في القسمة إلا أن يقال إن مثل هذا داخل في موضوع المعجزات فلا يستدل به لهذا الباب أصلا وهذا هو الظاهر.

2 انظر فتح الباري 5/ 129 وعمدة القاري شرح صحيح البخاري 13/ 40 و. 5 للعيني الناشر دار الفكر.

3 يدل لهذا ما رواه أبو عبيد في الغريب عن الحسن قال: "أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم " انظر فتح الباري 5/ 129وقال العيني: " وحكى عن عمرو بن عبيد عن الحسن فساقه وزاد "وأطيب لنفوسكم " عمدة القاري 13/ 40والله أعلم بالصواب.

ص: 94

بتعويض لما يصيبه فهذا لا يُخرِجه عن صورة العقد المحرم كونه يراد منه التعاون والتكافل وكذا لا يغير من الحقيقة شيئاً تسميته عقد تأمين تعاوني أو إسلامي أو غير ذلك فالعبرة بجوهره وحقيقته وهي هنا التزام بما لا يلزم ومشتمل على شبهة المحاذير السابقة.

والذي يظهر من كلام المجوزين للتأمين التعاوني أنهم يريدون إنشاء تعاقد في هذا المجال يدل على هذا تسميته عقداً حيث يوحي بأنه التزام كما يدل عليه أيضاً وصفهم له بأنه تبادلي. يقول: الدكتور محمد بلتاجي: "لابد أن يكون تعاونياً

وتبادلياً لأن لكل من المشتركين فيه أصلاً نفس الحقوق والواجبات "1 فوصفه بأنه تبادلي يقتضي أنه عقد معاوضة لأن البيع هكذا أصله مبادلة مال بمال2.

ومن ذلك أيضاً ما يرد في كلامهم عن التأمين التعاوني من قولهم:"أطراف التعاقد". "نظاماً تعاقدياً". "ومن ثم يتفقون فيما بينهم على قسط الإسهام ونوع الخطر المُؤَمن منه ومبلغ التأمين"3.

يقول محمد بلتاجي: "يصبح الاتجاه إلى تكون التعاونيات الإسلامية أمراً مطلوباً ليس لأنه بديل عن الزكاة والصدقات والتزام بيت المال بل هو يؤازرها بتعاقدات ااختيارية "4.

ويقول: "فهل هناك مانع من قيام نظم تعاقدية اختيارية تؤازر هذا النظام؟ إن ذلك فيما نرى أمر مطلوب

"5.

فكل هذه التعبيرات وغيرها تدل على أنهم يعنون بالتأمين التعاوني ما يتم عن طريق التعاقد الذي يلتزم فيه المستأمن بدفع أقساط معينة ويلتزم له بدفع تعويض عن آثار خطر ما وهو بهذه الكيفية لا يخرج عن صورة عقد التأمين الممنوع ولا يفيد كونه يراد منه التعاون أو يسمى تعاونياً كما لا يفيد أيضاً وصفه بأنه اختياري فما يسمون عقد تأمين تجاري يكون اختيارياً وهم لا يجوزنه فكذلك ما يسمونه تعاونياً بل إن عقد الربا يكون اختيارياً بين أصحابه ولا يحله ذلك وبهذا يتبين أن مثل قولهم "تعاقدات اختيارية" لا معنى منه.

1عقود التأمين ص 215.

2 انظر المصباح المنير 1/77 طبعة مصطفى الحلبي.

3 عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي ص 233.

4 المصدر السابق ص 236.

5 المصدر السابق ص 241.

ص: 95

وأما دعوى قيام الحاجة إلى مثل هذا العقد1 فهي في ظل الإسلام لا تعد أن تكون خرافة لا أساس لها فعند التطبيق الكامل للإسلام لن يكون هناك حاجة إليها أبداً والذين يدعونها ينطلقون فبتقديراتهم من واقع مجتمعات لا تطبق الإسلام في الأموال فلو طبق لما قامت الحاجة المدعاة كما لم تقم هذه الحاجة في الماضي عندما كان يطبق نظام الإسلام كاملا.

هذا ما انتهيت إليه فيما يسمى التأمين التعاوني مع التسليم بأن التبرعات يغتفر فيها ما لا يغتفر في المعاوضات إلا أن التبرعات تتم من طرف واحد دون التزام من الطرف الآخر وكذا ما يتم بطريق المواساة في أوقات المجاعة كما في الأحاديث المتقدمة وما لم ير فيه المسلمون بأساً من النهد لأن ما يقدم للأكل مبني على المكارمة لا التشاح فكل ذلك يدل على جواز ما يتم من طريق التبرع والإحسان والمواساة والمكارمة- وخلط الإزواد في السفر لأجل ذلك وطلباً للبركة- لكن لا يدل هذا على جواز إنشاء عقود تبادلية فيها التزامات من أطراف العقد ولو كان القصد منها التعاون لأن جوهرها في الحقيقة معاوضة مادامت مبنية على تعاقد والتزام من أطراف التعاقد وهو التزام بما لا يلزم وترد عليه شبهة المحاذير السابق بيانها

والله سبحانه وتعالى أعلم و صلى الله وسلم - وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وآخر دعوانا أن الحمد لله..

1 انظر المصدر السابق 232.

ص: 96