الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: العلمانية
(1)
وصلتها بالانحراف في مفهوم القدر
إن العقيدة (يوم كانت سليمة، والإيمان قوياً فياضاً، والتمسك بما أمر الله به من حيطة وحذر وإعداد للقوة والتمكن قائماً، لم يكن يمكن بأي حال من الأحوال أن يجد الغزو الفكري منفذاً ينفذ منه، وإن وجد منفذاً فلن يجد مكاناً يؤثر فيه، وإن وجد مكاناً ففي أندر الأحوال يقع ذلك، ولكن سرعان ما يقاوم ويعالج. هذا كله يحدث في حال يقظة الأمة ووعيها، وفي حال هيمنة العقيدة ونبضها، ويوم كانت الأمة كذلك لم تؤثر فيها تيارات الغزو الفكري، ولم تجد للنفوذ إليها سبيلاً.
أما بعد أن غشت الانحرافات على حياة الأمة، وأصاب الضعف عقيدتها، فكان أمراً متوقعاً أن تصبح هدفاً لحملات الغزو الفكري، وأن تسقط فريسة لها من أول وهلة تصطدم بها)
(2)
.
ومن هذه (الانحرافات الخطيرة التي ظهرت في تاريخ الأمة والتي ما تزال إلى وقتنا هذا، ما يسمى بالصوفية
(3)
، هذه الطائفة التي ابتلي الإسلام والمسلمون بها، والتي صارت مع الزمن طرقاً ومذاهب كثيرة ومذاهب عديدة. والصوفية من اعظم الرزايا التي رزئ بها الإسلام على طول تاريخه، والتي ألحقت بالمسلمين ما لا يعلمه إلا الله، من الضعف والخور والخنوع والخضوع للواقع المؤلم دون محاولة لتغيره)
(4)
.
(1)
العلمانية: لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة (Secularism) في الإنجليزية أو (Secularite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ العلم ومشتقاته على الإطلاق.
والترجمة الصحيحة للكلمة هي "اللادينية" أو "الدنيوية"، لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص هو ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد.
وهي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها.
إذاً فالتعبير الصحيح للعلمانية هو " إقامة الحياة على غير دين " سواء بالنسبة للأمة أو الفرد.
(2)
الانحرافات العقدية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة، ص (2/ 246 - 247)، علي الزهراني، الطبعة الثانية، دار طيبة، مكة، 1418 هـ.
(3)
الصوفية: نسبة إلى لبس الصوف، ويرى بعض الباحثين أن بداية التصوف هو الزهد في الدنيا، والتمسك بالأخلاق، ثم بعد ذلك تعددت فرق الصوفية، وازدادت بعض الفرق بعداً عن الحق وغلواً حتى قال بعضهم بالحلول والاتحاد، وقالوا بترك الواجبات وعمل المحرمات تعبداً. انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 161، ومجموع الفتاوى (11/ 6 - 18)، نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها لعرفان عبد الحميد ص 115 - 124، المذاهب الصوفية ومدارسها لعبد الحكيم قاسم، معجم ألفاظ العقيدة ص 248.
(4)
الانحرافات العقدية والعلمية ص (1/ 70).
ولقد استغلت العلمانية الانحراف في التصورات الإسلامية لدى الصوفية - ومنها الانحراف في مفهوم القدر والتوكل - كإحدى مظاهر الغزو الفكري لتقول للناس أن الدين لا علاقة له بالحياة ولا بالسلوك العملي، وإنما هو رابطة قلبية بين العبد وربه يستحق بها النجاة والفوز في العالم الأخروي.
وفي بيان انحراف الصوفية في القدر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(وأما "الطائفة الثانية" -يعني من فرق الضلال الخائضون في القدر- فهم شر منهم - يعني القدرية - وهم طوائف من آهل السلوك والإرادة والتأله والتصوف والفقر ونحوهم، يشهدون هذه الحقيقة، ورأوا أن الله خالق المخلوقات كلها، فهو خالق أفعال العباد ومريد جميع الكائنات، ولم يميزوا بعد ذلك بين إيمان وكفر، ولا عرفان ولا نكر، ولا حق ولا باطل، ولا مهتدى ولا ضال، ولا راشد ولا غوي، ولا نبي ولا متنبئ ولا ولي لله ولا عدو، ولا مرضي ولا مسخوط ولا محبوب ولا ممقوت، ولا بين العدل والظلم، ولا بين البر والعقوق ولا بين أعمال الجنة وأعمال أهل النار، ولا بين الأبرار والفجار حيث شهدوا ما تجتمع فيه الكائنات من القضاء السابق والمشيئة النافذة والقدرة الشاملة والخلق العام، فشهدوا المشترك بين المخلوقات وعموا عن الفارق بينهما، وصاروا ممن يخاطب بقوله تعالى: {(34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36])
(1)
.
وقال أيضاً: (والفرقة الثانية: - يعني من فرق الضلال الخائضون في القدر- المشركية- الذين أقروا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35].
فهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي، مع الاعتراف بالربوبية العامة لكل مخلوق، وانه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وهو الذي يبتلى به كثيراً - إما اعتقاداً، وإما حالاً - طوائف من الصوفية والفقراء، حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرمات، وإسقاط الواجبات، ورفع العقوبات)
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 59 - 60).
(2)
المرجع السابق (3/ 111)، (8/ 256).
ثم كان نتيجة لهذا الفهم الخاطئ لعقيدة القدر أن (تطرف المتصوفة في مفهوم التوكل على الله، وفهموه فهماً خاطئاً فقطعوا الأخذ بالأسباب، وتركوا التحرز والاحيتاط، وفسروا التوكل بغير معناه الشرعي، وخالفوا بذلك الكتاب والسنة.
فالتوكل عند المتصوفة صار يفسر تفسيراً عجيباً، وطبق في حياة القوم تطبيقاً غريباً.
وها هو أحد كبار الصوفية يشرح معنى التوكل عندهم فيكتب (قال الحسن أخو سنان: حججت أربع عشرة حجة حافياً متوكلاً، وكان يدخل في رجلي الشوك، فلا أخرجه، لئلا ينقص توكلي)(وقيل من أدعى التوكل ثم شبع فقد حمل زاداً).
إن هذا النوع من التوكل كاف لهدم المجتمعات، ونشر الفقر بينها وقد يؤدي إلى هلاك أهلها، وهو مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
إن (التوكل ثمرة الإيمان بالقضاء والقدر ونتيجته، ولذلك فهو عقيدة تقترن بالعمل .. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [يونس: 49]. وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159].
فمن ترك العمل إطلاقاً، فإنه لم يفهم التوكل على وجهه الصحيح وذلك من التواكل المذموم، الذي يوجد البطالة، وينتج المتسكعين في الشوارع، أو التكايا والزوايا)
(2)
.
(إلا أن الصوفية يرون أن التوكل يتعارض مع العمل فهو درجة يلتزم بها من يستطيعها منهم، بالطريقة السلبية عندهم)
(3)
.
لقد أفسد التواكل كثيراً من عقيدة القضاء والقدر، وحولها من عقيدة إيجابية دافعة إلى عقيدة سلبية مخذلة، وإلى الرضا السلبي بالواقع، وعدم محاولة التغيير.
وقد استغل نابليون بونابرت تلك الفكرة المنحرفة عن القضاء والقدر لما احتلت جيوشه الصليبية أرض مصر، فكان يصدر منشوراته بتذكير المسلمين بأن ما وقع لهم من الاحتلال والأسر كان بقدر من الله، فمن حاول الاعتراض على ما وقع فكأنه يعترض على القضاء والقدر
(4)
.
(1)
محمد الناصر، بدع الاعتقاد وأخطارها على المجتمعات المعاصرة، ص 302، الطبعة الأولى، مكتبة السوادي، جدة، 1416 هـ ..
(2)
انظر الأحوال الدينية عند المسلمين (ص 283 - 285) على بن بخيت الزهراني. نقلاً عن بدع الاعتقاد ص 305.
(3)
موقف الإمام ابن تيمية من الصوفية: د أحمد البنانى ص 125 - 126 .. نقلاً عن بدع الاعتقاد ص 304.
(4)
عجائب الآثار في التراجم والأخبار: الشيخ عبدالرحمن الجبرتي: (2/ 239) دار الفارس، بيروت، نقلاً عن بدع الاعتقاد ص 306.
وبذلك يحاول المتصوفة مخالفة واقع هذا الدين، ومصادمة نصوصه الواضحة في انحرافات كثيرة، ساهمت في تخلف هذه المجتمعات، وأن تترك قيادة ركب الحضارة لغيرها من الأمم الضالة، بعد أن كانت خيراً وبناء وإعماراً للبشرية كلها، يوم أن كانت تسير على هدي هذا الدين، وتستنير بنوره الوهاج)
(1)
.
ولقد انصرف الصوفية إلى الصلاة أو الصيام والذكر، وقالوا: هذه هي الأعمال المطلوبة للآخرة، أما أمور الدنيا فلا حاجة لنا إلى الخوض فيها، لأنها فتنة توقع في حبائل لشيطان.
(وتم عزل العبادة عن بقية الإسلام حتى كأن الإسلام منحصر فيها دون بقية الأجزاء كالجهاد مثلاً، وأحكام المعاملات أو العلاقات الدولية. ومع أن أكثر الناس إن لم نقل كلهم يعلمون أن الإسلام ليس هو العبادات المفروضة فحسب، فإنهم أهملوا الجوانب الأخرى، وغضوا النظر عنها وأنزلوا مرتبتها. ودعا فريق من المرشدين إلى الإعراض عما سوى العبادات. فالجهاد وإنكار المنكر ورد الطغيان والاستعمار ومقاومة الظلم والعمل في جميع ما ينفع المسلمين من الأمور العامة، كل ذلك في نظر هذا الفريق من الناس وما أكثرهم في عصور الانحطاط - فضول يشغل عن الله وعبادته
…
وبينما كانت مقاييس التقوى والصلاح في الإسلام شاملة لجميع الواجبات التي أوجبها الإسلام من عبادات خاصة، وجهاد وعلم وعدل وعمل نافع للناس، واستقامة في المعاملة وإحسان، كل ذلك مقروناً بتوحيد الله والإخلاص له أصبحت مقاييس التقوى محصورة في العبادات)
(2)
.
وكانت النتيجة بسبب هذا الفكر السلبي إضافة إلى الفكر الإرجائي الذي شجع على التفلت من التكاليف أن وصل العالم الإسلامي إلى حالته الراهنة من الفقر والجهل والمرض
(إن التربية الصوفية على الدعة في التكايا والزوايا، مع سماع الأناشيد والأشعار وفهم مغلوط - عند كثير منهم - لمفهوم القدر، وأن إرادة الله نافذة ولا مجال لدفع العدو بالجهاد .. كل ذلك أبعد المتصوفة عن الجهاد، بل جعل أكثرهم يوالي الأعداء أو ينزوي بعيداً عن أحداث الأمة ونكباتها)
(3)
.
(وقد طغت الصوفية على العالم الإسلامي، وجعلته ينام في سبات عميق، وتخدره إلى حد لا يفيق منه، فانشغل المسلمون بالأضرحة والقبور، والشفاعة عندها، ولازموا الزوايا والتكايا ورددوا أوراد المشايخ عاطلين عن العمل وحتى العلم الشرعي، وغسل المشايخ أدمغة أتباعهم فصدقوا كل مستحيل، وآمنوا بما يقول الشيخ العتيد، فكانت تربيتهم للأتباع تربية ذليلة في الغالب، وقد يخرج المجاذيب إلى الشوارع يدعون على الكافر المارق ذي المدافع والدبابات.
…
.. إن هذا السبات العميق، والجهل الشديد، كان نتيجة طبيعية للآثار السلبية التي تركها المتصوفة تنخر في جسم الأمة، إضافة إلى أمراض أخرى)
(4)
(1)
بدع الاعتقاد ص 306.
(2)
المجتمع الإسلامي المعاصر، محمد المبارك، ص 66 - 67، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى، 1391 هـ. نقلا عن الانحرافات العقدية والعلمية ص (1/ 99 - 100).
(3)
بدع الاعتقاد ص 307.
(4)
بدع الاعتقاد ص 272.
لقد كتب أحد المستشرقين الألمان وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصوره الأخيرة يقول: طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله والرضا بقضائه وقدره والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار. وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحرب إذ حققت نصراً متواصلاً لأنها دفعت في الجندي روح الفداء، وفي العصور الأخيرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي فقذف به إلى الانحدار وعزله وطواه عن تيارات الأحداث العالمية، إن هذا الرجل وهو كافر أدرك هذه الحقيقة: حقيقة الفرق بين الإيمان بالقدر كما فهمه السلف وبين الإيمان الذين ابتدعه الخلف متأثرين بالمتصوفة.
ولاشك أن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان وهزائم معنوية وحسية كان بقدر الله الذي لا يقع في كونه إلا ما يريد ولا يخفى عليه شيء بل سيان في علمه ما كان وما سيكون، لكن المسلمين في العصور الأخيرة حرفوا هذا المفهوم فاتخذوا من الإيمان بالقدر مبرراً واهياً لعجزهم وانهيارهم متناسين أن أقدار الله إنما تجري عليهم وفق سننه الثابتة التي أوضحها لهم لكنهم غفلوا عنها وأهملوها، فالمسؤولية مسؤوليتهم وحدهم ولا يظلم ربك أحدا.
لقد انقلب التوكل الذي كان الباعث القوي لحركة الجهاد والانطلاق في الأرض بأسباب الحياة إلى تواكل رخيص مذموم سماه المتصوفة "يقيناً" وسماه الآخرون "قناعة" واحتسبه الكل عند الله.
واستسلم المسلمون لنوم طويل - محتجين بالقدر - فلم يوقظهم إلا هدير الحضارة الغربية وهي تدك معاقلهم وتقتحم حصونهم، وكانت المفاجأة المذهلة التي زعزعت إيمان الأمة بدينها، وهو الإيمان الذي كان خامدا بارداً لا حراك له، وفي لحظة الانبهار والإنذهال هذه، قال المستشرقون والمبشرون وأذنابهم: أن الدين - وعقيدة القدر خاصة - هو سبب التأخر والجمود في العالم الإسلامي، وصدقهم المغفلون الذين كانوا لا يعرفون من شعائر الدين إلا ما رسمه لهم مشايخ الطرق من صلوات وأوراد، ولا من قواعده إلا أن من الإيمان أن يرضى المرء بما كتب له - على المفهوم الخاطئ لها -، وباسم الزهد في الدنيا، والاستسلام الخانع للذل والفقر - تحت ستار الإيمان بالقدر-، وهما ما تطوعت به الطرق الصوفية وشجعته البيئة الجاهلة المنحطة- تقهقرت الحضارة الإسلامية وذبلت حتى لفظت أنفاسها على يد الغزو العسكري والحضاري القادم من الغرب.
(وأصبحت الصوفية جبرية مرجئة تربّت على أكتاف النائمين، فيستولي اليأس والقنوط على الحياة .. هذه النظرة السلبية كانت خير عون للمستعمر .. الذي غذى الصوفية وأنفق على مشاهدها وزواياها الكثير من أجل قتل الحيوية ونفسية الجهاد عند المسلمين)
(1)
.
(1)
بدع الاعتقاد ص 307.