الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نماذج من حياة الذَّاكرين
أخي المسلم: إنَّ لله عبادًا شغلهم ذكره عن كلِّ مذكور؛ فهم في رياض ذكره يتقلَّبون، وفي نعيم قُدسه يمرحون!
اغتنموا الساعات في ادِّخار البضاعة الباقية، وسارعوا في الاستزادة من الرصيد الباقي .. إذا انشغل الناس بالقيل والقال رأيتهم منشغلين بذكر مولاهم تبارك وتعالى .. وإذا انشغل الناس بالدينار والدرهم رأيتهم مشغولين بجمع الباقيات الصالحات!
وهذا باقةٌ من حياة هؤلاء القوم؛ تقف بك على الحياة السعيدة حقًا، وعلى تلك الرياض الناضرة!
لقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم سيد الذاكرين وقدوة المتبتلين .. تصف لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حاله؛ فتقول: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كلِّ أحيانه» (1).
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى حتى انتفخت قدماه» . فقيل له: أتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ! فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (2).
وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه لَمَّا حضرته الوفاة، قال: «اخنق خنقك، فوعزَّتك إني أحبك، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه البخاري ومسلم.
لكري الأنهار ولا غراس الأشجار، وإنما لمكابدة الساعات وظمأ الهواجر ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذِّكر! ».
وهذا تميم الداري رضي الله عنه .. قال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، صلَّى ليلةً حتى أصبح أو كاد، يقرأ آية يردِّدها ويبكي {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يسبح في كلِّ يوم اثنى عشر ألف تسبيحة؛ ويقول: «أسبح بقدر ديتي» !
وكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في سبع، فإذا جاء رمضان ختم في كلِّ ثلاث، فإذا جاء العشر ختم في كلِّ ليلة!
ولَمَّا حضرت الوفاة أبا بكر بن عياش رحمه الله بكت أخته، فقال لها:«ما يُبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية، فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة! » .
وهذا هو الإمام الحجَّة مسعر بن كدام رحمه الله، يحكي ابنه محمد بن مسعر، قال:«كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن» !
وهذا إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله يحكي عنه ابنه عبد الله قال: «كان أبي يصلي في كلِّ يوم وليلة ثلاثمائة ركعة .. فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة، وكان قرب الثمانين! » .
وهذا سيد الزهاد بشر الحافي رحمه الله قال عنه ابن المديني: «ما رأيت أخوف لله منه، كان يصلي كل يوم خمسمائة ركعة» .
وهذا إمام العارفين الجنيد رحمه الله يقول عنه أبو بكر العطوي: كنت عند الجنيد حين مات؛ فختم القرآن ثم ابتدأ من البقرة، فقرأ سبعين آية ثم مات! رحمه الله تعالى.
وهذا أبو بكر الكتاني رحمه الله يقول عنه الذهبي: «يقال: ختم الكتاني في الطرف اثني عشرة ألف ختمة! وكان من الأولياء» .
وهذا الحافظ ابن عساكر رحمه الله يقول ابنه القاسم: «كان أبي مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كلَّ يوم، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على لحظةٍ تذهب في غير طاعة» .
وقال عبد العزيز بن أبي داود رحمه الله: كان رجل بالبادية قد اتخذ مسجدًا، فجعل في قلبه سبعة أحجار، كان إذا قضى صلاته قال: يا أحجار، أُشهِدكم أنه لا إله إلَاّ الله .. قال فمرض الرجل، فعُرج برُوحه .. قال: فرأيت في منامي أنه أُمر بي إلى النار، قال: فرأيتُ حجرًا من تلك الأحجار أعرفه، قد عظم فسدَّ عني بابًا من أبواب جهنم، ثم أُتي إلى الباب الآخر، وإذا حجرٌ من تلك الأحجار أعرفه، قد عظم فسد عني بابًا من أبواب جهنم، حتى سُدَّت عني بقية الأحجار أبواب جهنم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نموذجًا فريدًا للذاكرين.
قال تلميذه ابن القيم: «حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة
صلَّى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريبٍ من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ الغداء سقطت قوتي! أو كلامًا قريبًا من هذا».
وقال ابن القيم أيضًا: «وقال لي مرة: لا أترك الذِّكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعدَّ بتلك الراحة لذِكرٍ آخر، أو كلامًا هذا معناه.» .
وقال: «وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربِّه تعالى! والمأسور من أسره هواه! » .
أخي المسلم:
لقد كانت تلك رحلةٌ قصيرةٌ في رياض الذاكرين، تفهم منها ما كان عليه الصالحون من سلف هذه الأمَّة من صدق العبادة والجدِّ في القصد، حتى غدوا أريجًا يملأ الأكوان شذى وعرفًا، فلا يفوتنك ركب الذاكرين، وأقبل على ربِّك تعالى؛ وقف ببابه للخدمة، وعفر الوجه؛ عسى أن تفوز بالزلفى ورفعة الدرجات، فإن ذكر الله تعالى أغلى بضاعة تفوز بها في الدنيا، وأنفع زاد تقدم به يوم القيامة! فبادر إلى طريق الذاكرين، واطرد الغفلة وطول الأمل، واسأل الله تعالى أن يعينك على ذِكره وشُكره وحُسن عبادته.
والحمد لله تعالى، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.