الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} سورة آل عمران الآية 102.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب الآيتان 70 - 71.
[أما بعد فإن أولى ما يتنافس به المتنافسون، وأحرى ما يتسابق في حلبة سباقه المتسابقون، ما كان بسعادة العبد في معاشه ومعاده كفيلاً، وعلى طريق هذه السعادة دليلاً، وذلك العلم النافع والعمل الصالح اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما، ولا نجاة له إلا بالتعلق بسببهما، فمن رزقهما فقد فاز وغنم، ومن حرمهما فالخير كله حرم، وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم، وبهما يتميز البار من الفاجر والتقي من الغوي، والظالم من المظلوم، ولما كان العلم للعمل قريناً وشافعاً، وشرفه لشرف معلومه تابعاً، كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد، وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد، ولا سبيل إلى اقتباس هذين النورين، وتلقي هذين العلمين، إلا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته، وصرحت الكتب السماوية بوجوب طاعته ومتابعته، وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى; {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4].
ولما كان التلقي عنه صلى الله عليه وآله وسلم على نوعين: نوع بواسطة، ونوع بغير واسطة، وكان التلقي
بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمد، فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذباً صافياً زلالاً، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً، فتحوا القلوب بعدلهم بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً، وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن رب العالمين سنداً صحيحاً عالياً، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا وقد
عهدنا إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} [الواقعة: 13، 14].
ثم جاءت الأئمة من بعدهم، فسلكوا على آثارهم اقتصاصاً، واقتبسوا هذا الأمر من مشكاتهم اقتباساً، وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم، وأعظم في نفوسهم، من أن يقدموا عليه رأياً أو معقولاً أو تقليداً أو قياساً، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بِأُخْذَتِه طاروا إليه زرافات ووحداناً، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عما قال برهاناً، ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضوها
برأي أو قياس
…
] اقتباس من مقدمة إعلام الموقعين للعلامة ابن القيم رحمة الله عليه بتصرف يسير.
قلت هكذا كان الأئمة الأعلام يقتدون في العلم بمن سلف، ويبنون على ما ورثوه من السلف، فإن العلم ميراث كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم وهو حديث صحيح، صححه
العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب. فالعالم الحق هو من يبني على ما ورثه من العلم، فيزيد لبنة في بناء العلم، والجاهل من يهدم ما بناه أهل العلم زاعماً أنه من أهل التجديد، فيأتي بالغرائب والعجائب، ويشغل العامة بأقوال شاذة وأفكار غربية، ليس لها زمام ولا خطام، ولا يُبنى عليها عمل، العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر، وشُغله الشاغل الطعن في ميراث العلماء، والوقيعةُ في سلف الأمة، ورميهم بالجهل تارةً، وبعدم الفهم والسذاجة تارةً أخرى، وكل هذا باسم حرية التفكير، وبحجة كم ترك الأول للآخر، وبحجج أخرى هي أوهى من بيت العنكبوت، ولا شك أن هذا من علامات أهل البدع والضلال، وهؤلاء ينبغي أن يصنفوا مع قطاع الطريق، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وأما منهج الصالحين من العلماء فهو ما قرره العلامة ابن القيم رحمة الله عليه، فهو المنهج الذي يُقتدى به {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، وما أحسن ما قاله الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمة الله عليه: [أما فقهاء أهلِ الحديث العاملون به؛ فإن معظم همهم البحثُ عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنن الصحيحة
…
ثم التفقه فيها وفهمها
…
ومسائل الحلال والحرام وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك
…
وفي معرفة هذا شُغلٌ شاغلٌ عن التشاغُل بما أُحدث من الرأي ما لا يُنَتَفع به وما لا يقع؛ وإنما يورث لتجادلُ فيه الخصومات والجدالَ وكثرَة القيل والقال!] جامع العلوم والحكَم ص 124.
وقد رغبت أن أقدم بهذه المقدمة، لما رأيت من شذاذ الآفاق، من المتسورين على العلم الشرعي في بلادنا، الذين لا يرقبون في عالم من علمائنا إلاً ولا ذمة، فلم يُبقوا أحداً من سلفنا إلا طعنوه، ولا كتاباً من تراثنا إلا غمزوه، ولا قولاً مقبولاً ومسلَّماً عند سلفناً إلا نقضوه، وواجبنا أن نحذر الناس منهم، وأن نكشف ضلالاتهم وانحرافاتهم وترهاتهم، ونبين للناس (أن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)، كما قال محمد بن سيرين، من أئمة التابعين، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن قال فيهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وختاماً فهذا هو الجزء الحادي عشر من كتابي يسألونك وأصله حلقات تنشر صباح كل يوم جمعة في جريدة القدس المقدسية، وقد سلكت فيه المنهج الذي سلكته في الأجزاء السابقة، من اعتماد على كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى فهم سلف هذه الأمة، فإن أصبت فذلك الفضل من الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأختم بما قاله القاضي البيساني رحمه الله:[إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه، إلا قال في غده لو غُير هذا لكان أحسن، ولو زِيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر].
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
أبوديس/ القدس المحتلة
صباح يوم الخميس الرابع عشر من شعبان 1427 هـ
وفق السابع من أيلول 2006 م.