المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الأول كالعنوان للكتاب، والثاني لبيان ما في الكتاب، أو المراد - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ١٢

[صديق حسن خان]

الفصل: الأول كالعنوان للكتاب، والثاني لبيان ما في الكتاب، أو المراد

الأول كالعنوان للكتاب، والثاني لبيان ما في الكتاب، أو المراد بالثاني هو الأول وإظهار لتعظيمه ومزيد الإعتناء بشأنه.

(فاعبد الله مخلصاً له الدين) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد، وتصفية السر. والإخلاص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه، والدين العبادة والطاعة، ورأسها توحيد الله، وأنه لا شريك له.

وفي الآية دليل على وجوب النية وإخلاصها عن الشوائب لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب وقد جاء في السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال والأفعال النية كما في حديث " إنما الأعمال بالنيات "(1) وحديث " لا قول ولا عمل إلا بالنية ".

(1) سبق ذكره.

ص: 78

(ألا لله الدين الخالص) مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإخلاص، أي إن الدين الخالص من شوائب الشرك وغيره هو لله وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص، الذي أمر به. قال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله.

وقد أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلاً قال " يا رسول الله إنا نعطي أموالنا إلتماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قال يا رسول الله إنما نعطي إلتماس الأجر والذكر فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له "(1) ثم تلا هذه الآية، وقال الحسن الدين الإسلام.

ولما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص، وأن الدين الخالص له لا لغيره، بين بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص فقال:

(1) رواه النسائي (2/ 59) وإسناده حسن كما قال الحافظ الواقي في تخريج الإحياء 4/‌

‌ 3

28.

ص: 78

(والذين اتخذوا من دونه أولياء) الموصول عبارة من المشركين، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله (إن الله يحكم بينهم) وجملة (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) في محل نصب على الحال بتقدير القول والاستثناء مفرغ من أعم العلل، والمعنى والذين لم يخلصوا العبادة لله بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تقريباً، فالزلفى اسم أقيم مقام المصدر، والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة وعيسى والأصنام، وهم المرادون بالأولياء، والمراد بالزلفى الشفاعة كما حكاه الواحدي عن المفسرين.

قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السموات والأرض؟ ومن أنزل من السماء ماء؟ قالوا الله. فيقال لهم: ما معنى عبادتكم للأصنام؟ قالوا (ليقربونا إلى الله زلفى) ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة).

(إن الله يحكم بينهم) أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كُلاًّ بما يستحقه، فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار وقيل بين المخلصين للدين وبين الذين لم يخلصوا وحذف الأول لدلالة الحال عليه، وقيل: بين المتنازعين من الفريقين (فيما هم فيه يختلفون) أي في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد والشرك، فإن كل طائفة تدّعي أن الحق معها.

(إن الله لا يهدي) أي لا يرشد لدينه ولا يوفق للاهتداء إلى الحق (من هو كاذب) في زعمه أن الآلهة تقربه إلى الله (كفار) أي كفر باتخاذها آلهة، وجعلها شركاء لله لأنه فاقد للبصيرة غير قابل للاهتداء، لتغييره الفطرة بالتمرن في الضلال، والتمادي في الغي، والجملة تعليل لما ذكر من حكمه، والكفار صيغة المبالغة تدل على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية، وقرأ الحسن والأعرج كذاب على صيغة المبالغة ككفار، ورويت هذه عن أنس.

ص: 79

لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

ص: 80

(لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى) هذا مقرر لما سبق من إبطال قول المشركين بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق، فلو أراد أن يتخذ ولداً لامتنع اتخاذ الولد حقيقة، ولم يتأت ذلك إلا بأن يصطفي (مما يخلق) أي يختار من جملة خلقه.

(ما يشاء) أن يصطفيه إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له ولا يصح أن يكون المخلوق ولداً للخالق لعدم المجانسة بينهما، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبداً، كما يفيده التعبير بالاصطفاء، مكان الاتخاذ، فمعنى الآية لو أراد أن يتخذ ولداً لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد، بل إنما هو الاصطفاء لبعض مخلوقاته، ولهذا نزه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد على الإطلاق فقال:(سبحانه) أي تنزيهاً له عن ذلك وجملة (هو الله الواحد) مبينة لتنزهه بحسب الصفات بعد تنزهه بحسب الذات، أي هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته فلا مماثل له.

(القهار) لكل مخلوقاته، ومن كان متصفاً بهذه الصفات استحال

ص: 80

وجود الولد في حقه، لأن الولد مماثل لوالده، ولا مماثل له سبحانه، ومثل هذه الآية قوله سبحانه (لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا) والآية إشارة إلى قياس استثنائي حذفت صغراه، ونتيجته تقريرهما، لكنه لم يصطف أي لم يتخذ ولداً، وهذا النفي باعترافهم شامل لسائر الخلائق، فلم يرد اتخاذ الولد، تأمل.

ثم لما ذكر سبحانه كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً قهاراً ذكر ما يدل على ذلك من صفاته فقال:

ص: 81

(خلق السموات والأرض بالحق) أي لم يخلقهما باطلاً لغير شيء ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد، ثم بين كيفية تصرفه في السموات والأرض فقال:

(يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض، يقال كور المتاع، إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمامة، فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه، ومعنى تكوير النهار على الليل تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو معنى قوله تعالى (يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً) هكذا قال قتادة وغيره قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول الأول.

وقيل معنى الآية أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو معنى قوله (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) ومنتهى النقصان تسع ساعات، ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة، وقيل: المعنى أن هذا يكر على هذا، وهذا يكر على هذا كروراً متتابعاً، قال الراغب تكوير الشيء إدارته، وضم بعضه على بعض، ككور العمامة أهـ.

وقيل التكوير اللف واللي، وقال ابن عباس: يكور يحمل، والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها، وانتقاص الليل والنهار، وازديادهما. قال الرازي: إن النور والظلمة عسكران عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا.

ص: 81

ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار وسلطان الليل وهما الشمس والقمر فقال: (وسخر الشمس والقمر) أي جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ثم بين كيفية هذا التسخير فقال: (كل يجري لأجل مسمى) أي يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وذلك يوم القيامة: وقد تقدم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة يس.

(ألا هو العزيز الغفار) ألا حرف تنبيه، وتصدير الجملة بها لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها. والمعنى تنبهوا أيها العباد فالله هو الغالب الساتر لذنوب خلقه بالمغفرة، ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته وبديع صنعته فقال:

ص: 82

(خلقكم من نفس واحدة) وهي نفس آدم (ثم جعل منها زوجها) جاء بثم للدلالة على ترتب خلق حواء على خلق آدم وتراخيه عنه لأنها خلقت منه، والعطف إما على مقدر وهو صفة لنفس قال الفراء والزجاج: التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة، ثم جعل منها زوجها، ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة. أي من نفس انفردت بالإيجاد ثم جعل الخ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة، دالة على كمال القدرة، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة (1) في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة لم يجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته الباهرة وأفعاله الدالة على ما ذكر فقال:(وأنزل لكم من الأنعام) عبر بالإنزال لما يروي أنه خلقها في الجنة، ثم أنزلها فيكون الإنزال حقيقة كما قيل في قوله (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) فإن آدم لما أهبط إلى الأرض أنزل معه

(1) إن خلق آدم لم يكن على عادة الله المستمرة في خلقه، لأنه خلق من تراب وعلى غير مثال سابق، فخلقه ربما يكون أدخل في كمال القدرة من خلق حواء.

أما بنوه فقد خلقوا على عادة الله المستمرة في خلقه، وهي التناسل. ولعل، هذا ما قصد إليه المؤلف من التعبير بكاف المخاطبين وميم الجمع في قوله تعالى:" خلقكم من نفس واحدة ".

ص: 82

الحديد، ويحتمل أن يكون مجازاً؛ لأنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء، والماء منزل من السماء، كانت الأنعام كأنها منزلة لأن سبب سببها منزل. وهذا يسمى التدريج، ومنه قوله تعالى (قد أنزلنا عليكم لباساً) وقيل: إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل، أو بمعنى أعطى، وقيل: جعل الخلق إنزالاً لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء.

(ثمانية أزواج) هي ما في قوله (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)، (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ويعني بالاثنين في الأربع المواضع الذكر والأنثى، والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه، ويحصل منهما النسل، فيطلق لفظ الزوج على المفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه، ويحصل منهما النسل، وكذا يطلق على الإثنين فهو مشترك، والمراد هنا الإطلاق الأول، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الأنعام، ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته البديعة فقال:

(يخلقكم في بطون أمهاتكم) قرأ حمزة بكسر الهمزة والميم وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم، وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم، وإنما قال (في بطون أمهاتكم) مع أن الإنسان والحيوان مشترك في هذا الخلق لتغليب من يعقل، ولشرف الإنسان على سائر الخلق (خلقاً) كائناً (من بعد خلق) الجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقاً مصدر مؤكد للفعل المذكور، ومن بعد خلق صفة له. قال قتادة والسدي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً. وقال ابن زيد خلقكم خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم.

(في ظلمات ثلاث) هي ظلمة البطن وظلمة الرحم؛ وظلمة المشيمة؛ قاله مجاهد وقتادة والضحاك، وقال سعيد بن جبير ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم وظلمة الليل وقال أبو عبيدة ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة؛ وظلمة الرحم والرحم داخل البدن والمشيمة داخل الرحم قال ابن الأعرابي يقال لما يكون فيه الولد المشيمة والكيس والغلاف؛ والجمع مشيم بحذف الهاء، ومشايم، ويقال لها من غيره السلى، والإشارة بقوله (ذلكم

ص: 83