المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سورة حم السجدة - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ١٢

[صديق حسن خان]

الفصل: ‌سورة حم السجدة

بسم الله الرحمن الرحيم

‌سورة حم السجدة

تسمى سورة فصلت وسورة المصابيح وهي أربع وخمسون آية

وقيل: ثلاث وخمسون، قال القرطبي: وهي مكيّة في قول الجميع، قال ابن عباس: أنها نزلت بمكة، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: اجتمع قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا. وعاب ديننا فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: ائت يا أبا الوليد، فأتاه فقال يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما تنتظر إلا مثل صيحة الحبلي، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " فرغت "؟ قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بسم الله الرحمن الرحيم: (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) حتى بلغ: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ): فقال عتبة حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: " لا "، فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا فهل أجابك؟ قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.

ص: 221

قالوا ويلك، يكلمك الرجل بالعربية، وما تدري ما قال، قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة.

وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عمر قال: " لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم، على عتبة بن ربيعة حم أتى أصحابه فقال: يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاماً ما سمعت أذني قط كلاماً مثله: وما دريت ما أرد عليه، وفي هذا الباب روايات تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة، وتلاوته صلى الله عليه وسلم، أو هذه السورة عليه:

ص: 222

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)

(بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 223

حم) قد تقدم الكلام على إعرابه ومعناه في السورة التي قبل هذه السورة. فلا نعيده والله أعلم بمراده به، وكذلك تقدم الكلام على معنى قوله:

ص: 223

(تنزيل من الرحمن الرحيم) وإعرابه، وإنما خص هذين الوصفين بالذكر لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان أعظم النفع من الله على هذا العالم إنزال القرآن الناشىء عن رحمته ولطفه بخلقه.

ص: 223

(كتاب فصلت) أي بينت وميزت باعتبار اللفظ والمعنى، أو جعلت (آياته) أساليب وتفاصيل مختلفة، من أحكام وأمثال ومواعظ وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان، وتهذيب الأخلاق، ورياضة النفس وتواريخ الماضين، وصفات التنزيه والتقديس، وشرح غرائب الملكوت والملك، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق وغايته كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل ما في القرآن (فتبارك الله رب العالمين) وأحسن الخالقين.

ص: 223

قال قتادة: فصلت ببيان حلاله من حرامه، وطاعته من معصيته وقال الحسن بالوعد والوعيد، وقال سفيان: بالثواب والعقاب، ولا مانع من الحمل على الكل، وقرىء فصلت بالتخفيف أي فرقت بين الحق والباطل، والجملة في محل رفع صفة للكتاب.

وانتصاب: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) على الاختصاص أو على المدح قاله الأخفش أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت أو على الحال أي فصلت آياته حال كونه قرآناً وقيل على المصدرية أي يقرؤه قرآناً وقيل مفعول ثان لفصلت، وقيل: على إضمار فعل يدل عليه فصلت أي فصلناه قرآناً عربياً.

(لقوم يعلمون) معانيه ويفهمونها، وهم أهل اللسان العربي، وإنما خصوا بالذكر لأنهم يفهمونها بلا واسطة، لكون القرآن بلغتهم، وغيرهم لا يفهمها إلا بواسطتهم. قال الضحاك: أي يعلمون أن القرآن منزل من عند الله، وقال مجاهد أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل واللام متعلقة بمحذوف صفة أخرى لقرآناً، أو متعلقة بفصلت، والأول أولى، وكذلك:

ص: 224

(بشيراً ونذيراً) صفتان أخريان لقرآن، أو حالان من كتاب، والمعنى بشيراً لأولياء الله ونذيراً لأعدائه وقرئا بالرفع على أنهما صفة لكتاب أو خبر عن محذوف.

(فأعرض أكثرهم) أي الكفار عما اشتمل عليه من النذارة (فهم لا يسمعون) سماعاً ينتفعون به لإعراضهم عنه

ص: 224

(وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) الأكنة جمع كنان، وهو الغطاء أي في أغطية مثل الكنانة التي فيها السهام، فهي لا تفقه ما تقول من التوحيد، ولا يصل إليها قولك، قال مجاهد: الكنان للقلب كالجنة للنبل، وقد تقدم بيان هذا في البقرة (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) أي صمم، يمنع من استماع قولك، وأصل الوقر الثقل، قرىء بكسر الواو وقرىء بفتح الواو والقاف.

ص: 224

(ومن بيننا وبينك حجاب) أي ستر (ومن) لابتداء الغاية، والمعنى أن الحجاب ابتدىء منا وابتدىء منك، فالمسافة المتوسطة بين جهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب، لا فراغ فيها، ولو قيل: بيننا وبينك حجاب ولم تأت لفظة من لكان المعنى أن الحجاب حاصل وسط الجهتين، والمقصود المبالغة بالتباين المفرط، فلذلك جيء بمن وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وتقبله واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، ومج أسماعهم له كأن بها صمماً عنه، ولتباعد المذهبين والدينين، وامتناع المواصلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن بينهم وما هم عليه، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه حجاباً ساتراً، وحاجزاً منيعاً، من جبل أو نحوه. فلا تلاقي ولا ترائي.

(فاعمل) أي استمر على دينك وهو التوحيد (إننا عاملون) أي مستمرون على ديننا، وهو الإشراك، وقال الكلبي: اعمل في هلاكنا فإنا عاملون في هلاكك، وقال مقاتل: إعمل لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها، وقيل: فاعمل لآخرتك فإنا عاملون لدنيانا، أو فاعمل في إبطال أمرنا فإنا نعمل في إبطال أمرك، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال:

ص: 225

(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) أي إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي، ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه، وفي آذانكم وقر، ومن بيني وبينكم حجاب، ولم أدعكم إلى ما يخالف العقل، وإنما أدعوكم إلى التوحيد.

قرأ الجمهور يوحي مبنياً للمفعول وقرأ الأعمش والنخعي مبنياً للفاعل، أي يوحي الله إليّ، قيل: ومعنى الآية أني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسراً فإني بشر مثلكم، ولا امتياز لي عنكم إلا أني أوحي إلي التوحيد، والأمر به، فعلى البلاغ وحده، فإن قبلتم رشدتم؛ وإن أبيتم

ص: 225

هلكتم، وقيل؛ المعنى أني لست بملك لا يرى، وإنما أنا بشر مثلكم، وقد أوحي إلي دونكم فصرت بالوحي نبياً، ووجب عليكم اتباعي، وقال الحسن في معنى الآية إن الله سبحانه علم رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يتواضع.

(فاستقيموا إليه) عداه بإلى لتضمنه معنى: توجهوا والمعنى وجهوا استقامتكم إليه بالطاعة، ولا تميلوا عن سبيله (واستغفروه) لما فرط منكم من الذنوب والشرك، وما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل ثم هدد المشركين وتوعدهم فقال:

(وويل للمشركين) ثم وصفهم بقوله:

ص: 226

(الذين لا يؤتون الزكاة) أي يمنعونها ولا يخرجونها إلى الفقراء؛ وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بوجوبها، وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة وقيل معنى الآية لا يشهدون أن لا إله إلا الله لأنها زكاة الأنفس وتطهيرها، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم، وكان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك.

وقال الفراء: كان المشركون ينفقون النفقات ويسقون الحجيج ويطعمونهم فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فنزلت فيهم هذه الآية، وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب الشيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته، وثباته وصدق نيته، ونصوح طويته، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا ففرت عصبيتهم، ولانت شكيمتهم، وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بمنع الزكاة (1)، وتخويف شديد من منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين وقرن الكفر بالآخرة.

(وهم بالآخرة هم كافرون) معطوف على: لا يؤتون الزكاة، داخل معه في حيز الصلة؛ أي منكرون للآخرة جاحدون لها، والمجيء بضمير

(1) سقط من الأصل: فتعصبت لهم الحروب وجوهدوا، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة.

ص: 226

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)

الفصل لقصد الحصر.

ص: 227

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع عنهم، يقال: مننت الحبل إذا قطعته، وقيل: الممنون المنقوص قاله ابن عباس وقطرب، قال الجوهري: المن القطع، ويقال النقص ومنه قوله تعالى (لهم أجر غير ممنون) وقيل غير محسوب، وقيل معنى الآية لا يمن عليهم به لأنه إنما يمن بالتفضل، فأما الأجر فحق أداؤه، وقال السدي نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة، كتب لهم من الأجر مثل ما كانوا يعملون في الصحة.

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يوبخهم ويقرعهم فقال:

ص: 227

(قل أئنكم) قرأ الجمهور بهمزتين الثانية بين بين، وقرىء بهمزة بعدها ياء خفيفة، وإن واللام إما لتأكيد الإنكار، وقدمت الهمزة لاقتضائها الصدارة وإما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد.

(لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) والمعنى لتكفرون بمن شأنه هذا الشأن العظيم وقدرته هذه القدرة الباهرة، قيل: اليومان هما يوم الأحد ويوم الاثنين، وقيل: خلقهن في نوبتين كل نوبة أسرع مما يكون في يوم، وقيل: المراد مقدار يومين لأن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض والسماء ذكرهما تعليماً للأناة، ولو أراد أن يخلقهما في لحظة لفعل.

ص: 227

(وتجعلون له أنداداً) أي أضداد وشركاء والجملة معطوفة على تكفرون داخلة تحت الاستفهام، ذكر عنهم شيئين منكرين، أحدهما الكفر بالله، والثاني إثبات الشركاء له (ذلك) المتصف بما ذكر (رب العالمين) جمع عالم، وهو ما سوى الله وجمع لاختلاف أنواعه بالياء والنون تغليباً للعقلاء من جملة العالمين ما تجعلونها أنداداً لله، فكيف تجعلون بعض مخلوقاته شركاء له في عبادته؟

ص: 228

(وجعل فيها رواسي) أي جبالاً ثوابت، معطوف على خلق وقيل مستأنفة لوقوع الفصل بينهما بالأجنبي، والأول أولى، لأن الجملة الفاصلة هي مقررة لمضمون ما قبلها، فكانت بمنزلة التأكيد، ومعنى:(من فوقها) أنها مرتفعة عليها لأنها من أجزاء الأرض، وإنما خالفتها باعتبار الارتفاع فكانت من هذه الحيثية كالمغايرة لها وإنما اختار إرساءها فوق الأرض لتكون منافع الجبال ظاهرة لطالبيها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال كلها مفتقرة إلى ممسك، وهو الله العزيز المتعال، القادر المختار.

(وبارك فيها) أي جعلها مباركة كثيرة الخير بما خلق فيها من المنافع للعباد قال السدي: أنبت فيها شجرها (وقدر فيها أقواتها) قال الحسن وعكرمة والضحاك: قدر فيها أرزاق أهلها، وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع، جعل في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد وقيل قدر البُر لأهل قطر من الأرض والتمر لأهل قطر آخر، وكذلك سائر الأقوات.

قيل: إن الزرع أكثر الحرف بركة لأن الله وضع الأوقات في الأرض، وقال ابن عباس أي شق الأنهار، وغرس الأشجار، ووضع الجبال، وأجرى البحار، وجعل في هذه ما ليس في هذه وفي هذه ما ليس في هذه، وقال قتادة ومجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها.

(في) تتمة (أربعة أيام) أي في يوم الثلاثاء والأربعاء باليومين

ص: 228

المتقدمين، قاله الزجاج وغيره، قال ابن الأنباري: ومثاله قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً، أي في تتمة خمسة عشر يوماً، فيكون المعنى: إن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وما بعدها في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان ولولا هذا التقدير لكانت الأيام ثمانية يومان في الأول وهو قوله (خلق الأرض في يومين) ويومان في الأخير وهو قوله الآتي: (فقضاهن سبع سموات في يومين) وأربعة في الوسط.

وقال أبو البقاء: ولعل زيادة مدة الأرض على مدة السماء جرياً على ما يتعارف من أن بناء السقف أخف من بناء البيت، وقيل: للتنبيه على أن الأرض هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين وكثرة المنافع، وقيل: لما فيها من الابتلاء بالمعاصي، والمجاهدات والمجادلات والمعالجات.

عن ابن عباس أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال " خلق الله الأرض في يومين الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والحجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة أيام فقال تعالى: قل أئنكم لتكفرون إلى قوله للسائلين، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم، والشمس والقمر والملائكة إلى ثلات ساعات بقين منه، فخلق من أول ساعة من هذه الثلاث الآجال حين يموت من مات، وفي الثانية ألقى فيها من كل شي مما ينتفع به، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة قالت اليهود ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا قد أصبت لو أتممت. قالوا ثم استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، غضباً شديداً فنزل:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) أخرجه ابن جرير والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ في العظمة

ص: 229

والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.

ولكن في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيدي فقال:" خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء وخلق الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة في آخر الخلق فيما بين العصر إلى الليل ". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أيضاًً قال: " إن الله خلق يوماً فسماه الأحد ثم خلق ثانياً فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثاً فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعاً فسماه الأربعاء ثم خلق خامساً فسماه الخميس، وذكر نحو ما تقدم ". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" إن الله فرغ من خلقه في ستة أيام " وذكر نحو ما تقدم.

وانتصاب (سواء) على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف هو صفة للأيام، أي استوت الأربعة سواء، بمعنى استواء، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من الأرض أو من الضمائر الراجعة إليها قرأ الجمهور بنصب سواء، وقرأ زيد بن علي والحسن وغيرهما بخفضه على أنه صفة للأيام وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، قال الحسن: المعنى في أربعة أيام مستوية تامة لا تزيد ولا تنقص، وقوله:

(للسائلين) متعلق بسواء أي مستويان للسائلين أو بمحذوف كأنه قيل هذا الحصر للسائلين في كم يوم خلقت الأرض وما فيها؟ أو متعلق بقدر أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين المحتاجين إليها قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين في أربعة أيام، واختار هذا ابن جرير.

ثم لما ذكر سبحانه خلق الأرض وما فيها ذكر كيفية خلقه للسموات فقال

ص: 230

(ثم استوى إلى السماء) أي عمد وقصد نحوها قصداً سوياً، وتعلقت إرادته

ص: 230

بخلقها، قال الرازي: هو من قولهم، استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم: استقام إليه، ومنه قوله تعالى:(فاستقيموا إليه) والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السموات بعد خلق الأرض وما فيها قال الحسن: المعنى صعد أمره إلى السماء، ويفهم من هذه الآية أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض وبه قال ابن عباس، وقوله:(والأرض بعد ذلك دحاها) مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء.

والجواب أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين فقط، بل هو عبارة عن التقدير أيضاًً، فالمعنى قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء وعلى هذا يزول الاشكال، وقال الشوكاني بعد ذكر هذا الاستشكال.

إن ثم ليست للتراخي الزماني (1) فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء، ودحوها بمعنى بسطها هو أمر زائد على مجرد خلقها، فهي متقدمة خلقاً متأخرة دحواً، وهذا ظاهر انتهى.

ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله: (والأرض بعد ذلك دحاها) زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله تعالى، وقد تقدم هذا الجمع في سورة البقرة ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد دحوها فالإشكال باق، وعلى هذا لا يتفضى عن الإشكال إلا بما ذكر في ثم؛ أو أن بعد بمعنى قبل أو بمعنى مع.

(وَهِيَ دُخَانٌ) هو ما ارتفع من لهب النار ويستعار لما يرى من بخار الأرض، قال المفسرون هذا الدخان هو بخار الماء، وقياس جمعه في القلة أدخنة، وفي الكثرة دخيان، وهي من باب التشبيه الصوري لأن صورتها صورة الدخان في رأى العين، وخص سبحانه الاستواء إلى السماء مع كون الخطاب المترتب على ذلك متوجهاً إليها وإلى الأرض، كما يفيده قوله: (فَقَالَ لَهَا

(1) سقط من الأصل: بل للتراخي الرتبى فيندفع الإشكال من أصله، وعلى تقدير ينها للتراخي الزماني.

ص: 231

وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) استغناء بما تقدم من ذكر تقديرها وتقدير ما فيها، ومعنى ائتيا إفعلا ما آمركما به، وجيئا به، كما يقال: ائت ما هو الأحسن أي افعله، وقيل: المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، ائتي يا أرض مدحورة قراراً ومهاداً لأهلك، وائتي يا سماء مقببة سقفاً لهم.

قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله سبحانه قال: أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأما أنت يا أرض فشققي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك، قاله ابن عباس، قرأ الجمهور ائتيا أمراً من الإتيان وقرىء آتيا قالتا آتينا، بالمد فيهما، وهو من المؤاتاة وهي الموافقة أي لتوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها، وإليه ذهب الرازي والزمخشري، أو من الإيتاء وهو الإِعطاء قاله ابن عباس، فوزنه على الأول فاعلا كقاتلا، وعلى الثاني أفعلا كأكرما، وطوعاً وكرهاً مصدران في موضع الحال، أي طائعتين أو مكرهتين، وقرىء كرهاً بالضم.

قال الزجاج: أطيعا طاعة أو تكرهان كرهاً، قيل: ومعنى هذا الأمر لهما التسخير والحصول والوقوع أي كونا فكانتا، كما قال تعالى:(إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) فالكلام من باب التمثيل لتأثير قدرته واستحالة امتناعهما أو من باب الاستعارة التخييلية.

(قالتا أتينا طائعين) أي أتينا أمرك منقادين وجمعهما جمع من يعقل لخطابهما بما يخاطب به العقلاء، وجمع الأمر لهما في الإخبار عنه لا يدل على جمعه في الزمان، بل قد يكون القول لهما متعاقباً، قال القرطبي: قال أكثر أهل العلم إن الله سبحانه خلق فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد سبحانه، وقيل هو تمثيل لظهور الطاعة منهما وتأثير القدرة الربانية فيهما، والأول أولى، قال أبو نصر السكسي فنطق من الأرض موضع الكعبة، ونطق من السماء بحيالها، فوضع الله فيه حرمة.

ص: 232

فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)

ص: 233

(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) تفسير وتفصيل لتكوين السماء المجمل، المعبر عنه بالأمر، وجوابه، لا أنه فعل مرتب على تكوينهما أي خلقهن خلقاً إبداعياً وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة، وأتمهن وفرغ منهن، والضمير إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سبع سموات، أو مبهم مفسر بسبع سموات، وانتصاب سبع على التفسير أو على البدل من الضمير، وقيل على أنه مفعول ثان لقضاهن لأنه مضمن معنى صيرهن، وقيل على الحال أي قضاهن حال كونهن معدودات بسبع، ويكون قضى بمعنى صنع، وقيل على التمييز.

(في يومين) الخميس والجمعة، وفرغ منها في آخر ساعة منه، وفيها خلق آدم. قال المحلي ولذلك لم يقل هنا سواء، ووافق ما هنا آيات خلق السموات والأرض في ستة أيام، والمعنى أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدراً بيومين، والمشهور أن الأيام الستة بقدر أيام الدنيا، وقيل بقدر ستة آلاف سنة حكاه القرطبي، قال مجاهد ويوم من الستة الأيام (كألف سنة مما تعدون).

(وأوحى في كل سماء أمرها) قال قتادة والسدي أي خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها، وما فيها من الملائكة والبحار والبرد والثلج. وقيل المعنى أوحى فيها ما أراده وما أمر به، والإيحاء قد يكون بمعنى الأمر كما في قوله (بأن ربك أوحى لها) وقوله (وإذ أوحيت إلى الحواريين) أي أمرتهم، وهو أمر تكوين، قال ابن عباس " ولله على كل سماء بيت نحج إليه

ص: 233

وتطوف به الملائكة بحذاء الكعبة، والذي في السماء الدنيا هو البيت المعمور.

(وزينا السماء الدنيا) أي التي تلي الأرض (بمصابيح) أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح، وفيه التفات إلى نون العظمة لإِبراز مزيد العناية بالتزيين المذكور.

(وحفظاً) أي وحفظناها حفظاً أو خلقنا المصابيح زينة وحفظاً والأول أولى. قال أبو حيان في الوجه الثاني هو تكلف عدول عن السهل البين، والمراد بالحفظ حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع (ذلك) أي ما وقع وتقدم ذكره (تقدير العزيز العليم) أي البليغ القدرة الكثير العلم.

ص: 234

(فإن أعرضوا) عن التدبر والتفكر في هذه المخلوقات، وعن الإيمان بعد هذا البيان -وفيه التفات من خطابهم بقوله أئنكم إلى الغيبة لفعلهم الإِعراض- فأعرض عن خطابهم، وهو تناسب حسن.

(فقل أنذرتكم) أي خوفتكم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر به (صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) أي عذاباً مثل عذابهم، والمراد بالصاعقة العذاب المهلك من كل شيء، قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان، والصاعقة في الأصل هي الصيحة التي يحصل بها الهلاك أو قطعة نار تنزل من السماء معها رعد شديد، والمراد بها هنا مطلق العذاب. لكن بالنظر إلى الصاعقة الأولى، وأما الثانية فالمراد بها حقيقتها، قرأ الجمهور صاعقة بالألف في الموضعين، وقرىء صعقة فيهما، وقد تقدم بيان معنى الصاعقة والصعقة في البقرة.

ص: 234

(إذ جاءتهم) أي إلى عاد وثمود، وإنما خص هاتين القبيلتين لأن قريشاً كانوا يمرون على بلادهم (الرسل) أي هود وصالح ومن قبلهما وكان هود وصالح بين نوح وإبراهيم، وليس بينهما غيرهما من الرسل، وأن الذين تقدموا عليهما من الرسل أربعة: نوح وإدريس وشيث وآدم.

(من بين أيديهم ومن خلفهم) أي أتوهم من كل جانب، وعملوا

ص: 234

فيهم كل حيلة. فلم يروا منهم إلا الإعراض، وعن الحسن أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة والظرف متعلق بأنذرتكم أو بالصاعقة لأنها بمعنى العذاب أو حال من صاعقة عاد، وهذا أولى من الوجهين الأولين لأن الإِنذار لم يقع وقت مجيء الرسل فلا يصح أن يكون ظرفاً له، وكذلك الصاعقة لا يصح أن يكون الوقت ظرفاً لها، ومن في الموضعين متعلقة بجاءتهم أي من جميع جوانبهم أو من جهة الزمان الماضي بالإنذار عما جرى على الكفار أو من جهة المستقبل بالتحذير عما سيحيق بهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

وقيل: المعنى جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم، فكأن الرسل قد جاؤوهم وخاطبوهم بقولهم:

(ألا تعبدوا إلا الله) أي بأن لا تعبدوا على أنها مصدرية أو تفسيرية أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به الرسل فقال:(قالوا) أي عاد وثمود مخاطبين لهود وصالح: (لو شاء ربنا لأنزل) أي لأرسل إلينا (ملائكة) ولم يرسل إلينا بشراً من جنسنا، ثم صرحوا بالكفر ولم يتلعثموا فقالوا:(فإنا بما أرسلتم به كافرون) أي كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، فكيف اختصكم برسالته دوننا.

وقد تقدم دفع هذه الشبهة الدحضة التي جاؤوا بها في غير موضع، وفيه تغليب المخاطب على الغائب، فغلبوا هوداً وصالحاً على من قبلهما من الرسل، فكأنهم قالوا: فإنا كافرون بكما وَبِمَنْ دعوتمونا إلى الإيمان به ممن قبلكما من الرسل.

ولما ذكر عاد وثمود إجمالاً ذكر ما يختص بكل طائفة من الطائفتين تفصيلاً فقال:

ص: 235

فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)

ص: 236

(فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق) أي بغير استحقاق ذلك الذي وقع منهم من التكبر والتجبر، ثم ذكر سبحانه بعض ما صدر عنهم من الأقوال الدالة على الاستكبار فقال:(وقالوا من أشد منا قوة) وكانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم وقوة شديدة، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هود بالعذاب، ومرادهم بهذا القول أنهم قادرون على دفع ما نزل بهم من العذاب، وبلغ من قوتهم أن الرجل كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده، ويجعلها حيث يشاء، فرد الله عليهم بقوله:

(أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) الاستفهام للاستنكار عليهم والتوبيخ، أي أولم يعلموا بأن الله أشد منهم قدرة وأوسع منهم قوة؟ فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء، يقول كن فيكون، وقال (خلقهم)، ولم يقل خلق السموات، والأرض، لأن هذا أبلغ في تكذيبهم في ادعاء انفرادهم بالقوة، فإنهم حيث كانوا مخلوقين فبالضرورة أن خالقهم أشد قوة منهم.

ص: 236

(وكانوا بآياتنا) أي بمعجزات الرسل التي خصهم الله بها وجعلها دليلاً على نبوتهم، أو بآياتنا التي أنزلناها على رسلنا أو بآياتنا التكوينية التي نصبناها لهم وجعلناها حجة عليهم، أو بجميع ذلك (يجحدون) ثم ذكر الله سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال:

ص: 237

(فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً) الصرصر الريح الشديدة الصوت من الصرة وهي الصيحة، قال أبو عبيدة: معنى صرصر شديدة عاصفة، وقال الفراء: هي الباردة تحرق كما تحرق النار، وقال عكرمة وسعيد بن جبير وقتادة: هي الباردة، وقال مجاهد: هي الشديدة السموم، والأولى تفسيرها بالبرد لأن الصر في كلام العرب البرد، قال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصر وهو البرد، ومن صرصر الباب، ومن الصرة وهي الصيحة، ومنه (وأقبلت امرأته في صرة).

ثم بين سبحانه وقت نزول ذلك العذاب عليهم فقال:

(فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) أي نكدات مشئومات ذوات نحوس عليهم، قال مجاهد وقتادة: كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء، وذلك (سبع ليال وثمانية أيام حسوماً) قيل: وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء، وقيل: نحسات باردات، حكاه الثعلبي، وقيل: متتابعات، وقيل: شداد، وقيل: ذوات غبار وتراب ثائر، لا يكاد يبصر فيه. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو نحسات بإسكان الحاء على أنه جمع نحس، وقرأ الباقون بكسرها، واختار أبو حاتم الأولى لقوله (في يوم نحس مستمر)، واختار أبو عبيد الثاني (لنذيقهم) أي لكي نذيقهم.

(عذاب الخزي في الحياة الدنيا) والخزي هو الذل والهوان بسبب ذلك الاستكبار، وهو في الأصل صفة المعذب، وإنما وصف به العذاب على الإِسناد المجازي للمبالغة، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الخزي، ولهذا جاء:

ص: 237

(ولعذاب الآخرة أخزى) أي أشد إهانة وذلاً، فلو لم يكن من إضافة الموصوف إلى صفته لم يأت بلفظ أخزى الذي يقتضي المشاركة (وهم لا ينصرون) أي لا يمنعون من العذاب النازل بهم ولا يدفعه عنهم دافع، ثم ذكر حال الطائفة الأخرى فقال:

ص: 238

(وأما ثمود فهديناهم) أي بينا لهم سبيل النجاة، ودللناهم على طريق الحق بإرسال الرسل إليهم، ونصب الدلالات لهم من مخلوقات الله، وإنزال الآيات التشريعية، فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله ويصدق رسله.

قال الفراء معنى الآية دللناهم على مذهب الخير بإرسال الرسل. قال الشيخ أبو منصور يحتمل ما ذكر من الهداية التبيين، وخلق الاهتداء فيهم، فصاروا مهتدين، ثم كفروا بعد ذلك وعقروا الناقة لأن الهدي المضاف إلى الخلق يكون بمعنى البيان والتوفيق، وخلق فعل الاهتداء، فأما الهدي المضاف إلى الخلق فيكون بمعنى البيان لا غير.

وقال صاحب الكشاف فيه فإن قلت أليس معنى قولك هديته جعلت فيه الهدي؟ والدليل عليه قولك هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها، كما تقول ردعته فارتدع فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت للدلالة على أنه مكنهم فأزاح عللهم، ولم يبق لهم عذر فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها اهـ وإنما تمحل بهذا لأنه لا يتمكن من أن يفسره بخلق الاهتداء لأنه يخالف مذهبه الفاسد.

قرأ الجمهور ثمود بالرفع، ومنع الصرف، وقرىء بالرفع والصرف، وقرىء بالنصب والصرف، وقرىء بالنصب والمنع، فأما الرفع فعلى الابتداء وهو الفصيح وأما النصب فعلى الاشتغال، وأما الصرف فعلى تفسير الاسم بالأب أو الحي، وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة.

(فاستحبوا العمى على الهدى) أي اختاروا الكفر على الإيمان قال أبو العالية اختاروا العمى على البيان، وقال السدي اختاروا المعصية على الطاعة

ص: 238

(فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ) قد تقدم أن الصاعقة اسم للشيء المهلك لأي شيء كان، والهون الهوان والإهانة، فكأنه قال أصابهم مهلك العذاب ذي الهوان أو الإِهانة، ويقال عذاب هون أي مهين كقوله (ما لبثوا في العذاب المهين)(بما كانوا يكسبون) الباء للسببية أي بسبب الذي كانوا يكسبونه، أو بسبب كسبهم وهو شركهم وتكذيبهم صالحاً.

ص: 239

(ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) وهم صالح ومن معه من المؤمنين فإن الله نجاهم من ذلك العذاب وكانوا أربعة آلاف. ثم لما ذكر سبحانه ما عاقبهم به في الدنيا ذكر ما عاقبهم به في الآخرة فقال:

ص: 239

(ويوم يحشر أعداء الله إلى النار) وصفهم بكونهم أعداء الله مبالغة في ذمهم، وقيل المراد بهم الكفار مطلقاً الأولين والآخرين، أي أذكر لقريش المعاندين لك حال الكفار يوم القيامة، لعلهم يرتدعوا وينزجروا، ومعنى حشرهم إلى النار سوقهم إليها أو إلى موقف الحساب، لأنه يتبين عنده فريق الجنة وفريق النار، قرأ الجمهور يحشر بالتحتية مضمومة ورفع أعداء على النيابة، وقرأ نافع بالنون ونصب أعداء.

(فهم يوزعون) أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا، كذا قال قتادة والسدي وغيرهما، وبه قال ابن عباس أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار، وأصله من وزعته أي كففته، وقد سبق تحقيق معناه في سورة النمل مستوفى، وعن ابن عباس قال: يدفعون، وقيل يساقون.

ص: 239

(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا) أي النار التي حشروا إليها وصاروا بحضرتها أو موقف الحساب و (ما) مزيدة للتوكيد (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) في الدنيا من المعاصي، وفي كيفية هذه الشهادة ثلاثة أقوال، أولها أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه، ثانيها أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات

ص: 239

والحروف الدالة على تلك المعاني، ثالثها أن يظهر في تلك الأعضاء أحوال تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان، وتلك الأمارات تسمى شهادات، كما يقال: العالم يشهد بتغيرات أحواله على حدوثه.

وقال الكرخي: ينطقها الله تعالى كإنطاق اللسان فتشهد. وليس نطقها بأغرب من نطق اللسان عقلاً، وإيضاحه أن البنية ليست شرطاً للحياة والعلم والقدرة فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء.

قال مقاتل تنطق جوارحهم بما كتمت ألسنهم من عملهم بالشرك.

والمراد بالجلود هي جلودهم المعروفة في قول أكثر المفسرين. وقيل: المراد بها الجوارح مطلقاً، فالعطف من قبيل عطف العام على الخاص. وقال السدي وعبيد الله بن أبي جعفر والفراء: أراد بالجلود الفروج وهو من باب الكنايات كما قال تعالى: (لا تواعدوهن سراً) أراد النكاح، وقال تعالى:(أو جاء أحد منكم من الغائط) والمراد قضاء الحاجة، وفي الحديث:" أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه "، وعلى هذا التقدير تكون الآية وعيداً شديداً في إتيان الزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ والأول أولى.

ووجه تخصيص الثلاثة بالشهادة دون غيرها مع أن الحواس خمسة، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وآلة اللمس هي الجلد، ما ذكره الرازي أن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الأنف مماسة لجرم المشموم فكانا داخلين في حس اللمس انتهى.

وإذا عرفت من كلامه هذا وجه تخصيص الثلاثة بالذكر عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال كما قال:

ص: 240

وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

ص: 241

(وقالوا لجلودهم) لأنها قد اشتملت على ثلاث حواس فكان تأتي المعصية من جهتها أكثر، وأما على قول من قال بالفروج فوجه تخصيصها بالسؤال ظاهر، لأن ما يشهد به الفرج من الزنا أعظم قبحاً وأجلب للخزي والعقوبة، قيل: والمراد بالجلود هنا المعنى الأعم، فليس في سؤالهم ترك سؤال السمع والبصر، بل هما داخلان في الجلود بالمعنى الذي علمته (لم شهدتم علينا) سؤال توبيخ وتعجب من هذا الأمر الغريب لكونها ليست مما ينطق ولكونها كانت في الدنيا مساعدة لهم على المعاصي فكيف تشهد الآن عليهم فلذلك استغربوا شهادتها وخاطبوها بصيغة خطاب العقلاء، لصدور ما يصدر من العقلاء عنها وهو الشهادة.

(قالوا) مجيبين لهم معتذرين: (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) مما ينطق من مخلوقاته، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، وقيل: المعنى ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله والأول أولى، والمعنى أن نطقنا ليس بعجيب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان.

(وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) قيل: هذا من تمام كلام الجلود، وقيل إنه من كلام الملائكة، وقيل: مستأنف من كلام الله، والمعنى أن من قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ورجعكم إليه، ولعل صيغة المضارع مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجوع لما أن

ص: 241

المراد بالرجوع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه ويعم ما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند المخاطبة، فغلب المتوقع على الواقع.

ص: 242

(وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) هذا تقريع لهم، وتوبيخ من جهة الله سبحانه أو من كلام الجلود، أي ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة وارتكاب الفواحش بالحيطان والحجب، حذراً من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً وهو قول أكثر العلماء. ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية، وقيل: معنى الاستتار الاتقاء أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة، فتتركوا المعاصي خوفاً من هذه الشهادة، ومعنى أن تشهد لأجل أن تشهد، أو مخافة أن تشهد، وقيل إن الاستتار مضمن معنى الظن، أي وما كنتم تظنون أن تشهد وهو بعيد.

وأخرج عبد الرزاق وأحمد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن معاوية ابن حيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحشرون ههنا وأوما بيده إلى الشام مشاة وركباناً وعلى وجوهكم، وتعرضون على الله وعلى أفواهكم الفدام وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكفه وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كنتم تستترون " الخ.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: " كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان، كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إن لنا آنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإنا إذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر إنه إن سمع منه شيئاًً سمعه كله، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: وما كنتم تستترون أن

ص: 242

يشهد عليكم سمعكم إلى قوله من الخاسرين ".

(ولكن ظننتم) عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم (أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون) من المعاصي فاجترأتم على فعلها قيل: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسر، قال قتادة: الظن هنا بمعنى العلم، وقيل: أريد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي، وما هو فوقه من العلم.

ص: 243

(وذلكم) أي ما ذكر من ظنكم مبتدأ (ظنكم) بدل منه (الذي ظننتم بربكم) نعت والخبر (أرداكم) أي أهلككم وطرحكم في النار، وقيل: ظنكم الخبر والموصول بدل أو بيان، وأرداكم حال، وقد مقدرة أو غير مقدرة، أي ذلكم ظنكم مردياً إياكم.

(فأصبحتم من الخاسرين) أي الكاملين في الخسران، قال المحققون الظن قسمان أحدهما حسن والآخر قبيح، فالحسن أن يظن بالله عز وجل: الرحمة والفضل والإحسان، قال صلى الله عليه وسلم، حكاية عن الله عز وجل:" أنا عند ظن عبدي بي "(1).

وأخرج أحمد وأبو داود والطيالسي وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله وذلكم ظنكم "(2) الآية، والظن القبيح أن يظن أنه تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأفعال، وقال قتادة الظن نوعان مرد ومنج، فالمنجي قوله:(إني ظننت أني ملاق حسابيه)، وقوله:(الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم)، والمردي هو قوله:(وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) ثم أخبر عن حالهم فقال:

(1) البخاري 8/ 431 - أحمد 3614/ 3875 والترمذي 2/ 152 والطبري 24/ 109.

(2)

مسلم 4/ 2206.

ص: 243

فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)

ص: 244

(فإن يصبروا) على النار (فالنار مثوى لهم) أي محل استقرارهم وإقامتهم، لا خلاص ولا خروج لهم منها، صبروا أو لم يصبروا على كل حال؛ وقيل: المعنى فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مثوى لهم (وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) يقال أعتبني فلان أي أرضاني بعد إسخاطه إياي واستعتبته طلبت منه أن يرضى.

والمعنى أنهم إن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون لم يرجع لأنهم لا يستحقون ذلك قال الخليل تقول استعتبته فاعتبني أي استرضيته فأرضاني ومعنى الآية إن يطلبوا الرضا لم يقع الرضا عنهم بل لا بد لهم من النار قرأ الجمهور يستعتبوا بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية الثانية مبنياً للفاعل ومن المعتبين بفتح الفوقية اسم مفعول وقرىء يُستعتبوا مبنياً للمفعول وقرىء من المعتبين اسم فاعل أي أنهم إن أقالهم الله وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه).

ص: 244

(وقيضنا) أصل التقييض التيسير والتهيئة أي هيأنا (لهم) أي لكفار قريش وغيرهم (قرناء) من الشياطين بمنزلة الإخلاء لهم جمع قرين بمعنى نظير كقوله (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) وقال

ص: 244

الزجاج سببنا لهم قرناء حتى أضلوهم وقيل سلطنا عليهم قرناء وقيل قدرنا والمعاني متقاربة أي يلازمونهم ويستولون عليهم استيلاء القيض على البيض والقيض قشر البيض الأعلى وقيل إن الله قيض لهم قرناء في النار والأولى أن ذلك في الدنيا لقوله:

(فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) فإن المعنى زينوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها وحملوهم على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة فقالوا لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار وقال الزجاج ما بين أيديهم ما عملوه وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه وروي عنه أيضاًً أنه قال ما بين أيديهم من أمر الآخرة وما خلفهم من أمر الدنيا بأن الدنيا قديمة ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك.

(وحق عليهم القول) أي وجب وثبت عليهم العذاب وتحقق مقتضاه وهو قوله سبحانه (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين)(في أمم) أي كائنين في جملة أمم وقيل في بمعنى مع أي مع أمم من الأمم الكافرة ولا حاجة إلى بدل حرف من حرف مع إمكان بقائه على بابه والمعنى الأمم التي (قد خلت) ومضت (من قبلهم من الجن والإنس) على الكفر (إنهم كانوا خاسرين) تعليل لاستحقاقهم العذاب قاله الكرخي.

ص: 245

(وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن) أي قال بعضهم لبعض لا تسمعوه ولا تنصتوا له وقيل المعنى لا تطيعوا يقال سمعت لك أي أطعتك (وَالْغَوْا فِيهِ) أي عارضوه باللغو والباطل أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارىء له وقال مجاهد الغوا فيه بالمكاء والتصدية والتصفيق والتخليط في الكلام حتى يصير لغواً وقال الضحاك أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول وقال أبو العالية قعوا فيه وعيبوه قرأ الجمهور ألغوا بفتح الغين من لغا إذا تكلم باللغو وهو ما لا فائدة فيه أو من لغى بالفتح يلغي بالفتح أيضاًً كما حكاه الأخفش وكان قياسه الضم كغزا يغزو ولكنه فتح لأجل حرف الحلق أو من لغا بكذا إذا رمى به فتكون في بمعنى الباء أي ارموا به وقرىء بضم الغين من لغا بالفتح يلغو كدعا

ص: 245

يدعو وفي الحديث " فقد لغوت " وهذا موافق لقراءة غير الجمهور.

وقد تقدم الكلام في اللغو في سورة البقرة (لعلكم تغلبون) أي لكي تغلبوا فيسكتوا، عن ابن عباس قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) وكان إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن فأنزل الله (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) " أخرجه ابن أبي حاتم.

ثم توعدهم سبحانه على ذلك فقال:

ص: 246

(فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً) هذا وعيد لجميع الكفار ويدخل فيهم الذين السياق معهم دخولاً أولياً (ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون) أي ولنجزينهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا قال مقاتل وهو الشرك وقيل المعنى أنه يجازيهم بمساوىء أعمالهم لا بمحاسنها كما يقع منهم من صلة الأرحام وإكرام الضيف لأن ذلك باطل لا أجر له مع كفرهم.

وفي هذا تعريض بمن لا يكون عند كلام الله المجيد خاضعاً خاشعاً متفكرا متدبراً وتهديد ووعيد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارىء ويخلط عليه القراءة فانظر إلى عظمة القرآن وتأمل في هذا التغليظ والتشديد وأشهد لمن عظمه وأجل قدره وألقى إليه السمع وهو شهيد بالفوز العظيم والأجر الكبير.

ص: 246

(ذلك) أي العذاب الشديد وأسوأ الجزاء (جزاء أعداء الله النار) بدل أو عطف بيان للجزاء المخبر به عن ذلك أو خبر مبتدأ مضمر أو مبتدأ خيره (لهم فيها دار الخلد) أي دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها ولا انتقال عنها (جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون) أي يجزون جزاء بسبب جحدهم بآيات الله.

قال مقاتل يعني القرآن يجحدون أنه من عند الله وعلى هذا يكون التعبير عن اللغو بالجحود لكونه سبباً له إقامة للسبب مقام المسبب.

ص: 246

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

ص: 247

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قالوا هذا وهم في النار وذكره بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه والمراد أنهم طلبوا من الله سبحانه أن يريهم من أضلهم من فريقي الجن والإنس من الرؤساء الذين كانوا يزينون لهم الكفر ومن الشياطين الذين كانوا يسولون لهم ويحملونهم على المعاصي لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي.

قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن) وقال (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه - هو ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس أي لأنهما سنا المعصية لبني آدم، قرأ الجمهور: أرنا بكسر الراء وقرىء: بسكونها وهما لغتان بمعنى واحد.

وقال الخليل إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه وبالسكون أعطنيه (نجعلهما تحت أقدامنا) في النار أي ندوسهما بأقدامنا لنشتفي منهما وليكونا وقاية بيننا وبينها فتخف عنا حرارتها نوع خفة و (ليكونا من الأسفلين) فيها مكاناً أو ليكونا من الأذلين المهانين وقيل ليكونا أشد عذاباً منا قال الزجاج ليكونا في الدرك الأسفل وممن هو دوننا ثم لما ذكر سوء عقاب الكافرين وما أعده لهم ذكر حسن حال المؤمنين وما أنعم به عليهم فقال:

ص: 247

(إن الذين قالوا ربنا الله) وحده لا شريك له.

(ثم استقاموا) أي داموا وثبتوا على التوحيد ولم يلتفتوا إلى إله غير الله وثم للتراخي في الزمان من حيث أن الاستقامة أمر يمتد زمانه أفاده أبو السعود وقال الخطيب ثم لتراخي الرتبة في الفضيلة فإن الثبات على التوحيد ومصححاته إلى الممات في علو رتبته أمر لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام قال جماعة من الصحابة والتابعين معنى الاستقامة إخلاص العمل لله تعالى.

وقال قتادة وابن زيد ثم استقاموا على طاعة الله وقال الحسن استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا وقال الثوري عملوا على وفاق ما قالوا وقال الربيع أعرضوا عما سوى الله وقال الفضيل بن عياض زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية.

عن أنس قال: " قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قال: قد قالها ناس من الناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حين يموت فهو ممن استقام عليها " أخرجه الترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وغيرهم وقال أبو بكر الصديق الاستقامة أن لا يشركوا بالله شيئاً وعنه قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان قال أبو حيان قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وعن بعض الصحابة قال ثم استقاموا على فرائض الله.

وعن عمر بن الخطاب قال: استقاموا بطاعة الله لم يروغوا روغان الثعلب وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي والبخاري في تاريخه ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن سفيان بن عبد الله الثقفي أن رجلاً قال: " يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل

ص: 248

آمنت بالله ثم استقم. قلت: فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه (1) " قال الترمذي: حسن صحيح.

(تتنزل عليهم الملائكة) من عند الله بالبشرى التي يريدونها من جلب نفع أو دفع ضر أو رفع حزن قال ابن زيد ومجاهد تتنزل عليهم عند الموت وقال مقاتل وقتادة إذا قاموا من قبورهم للبعث وقال وكيع البشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث قال البيضاوي أو في حياتهم فيما يعرض لهم من الأحوال تأتيهم بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن.

(أن لا تخافوا ولا تحزنوا) أن هي المخففة أو المفسرة أو الناصبة ولا على الوجهين الأولين ناهية وعلى الثالث نافية والمعنى لا تخافون مما تقدمون عليه من أمور الآخرة ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل وولد ومال.

قال مجاهد لا تخافوا الموت ولا تحزنوا على أولادكم فإن الله خليفتكم عليهم وقال عطاء لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم والظاهر عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم بوقت معين وعدم تقييد نفي الخوف والحزن بحالة مخصوصة كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع والخوف غم يلحق النفس لتوقع مكروه في المستقبل والحزن غم يلحقها لفوات نفع في الماضي.

(وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) بها على ألسنة الرسل في الدنيا فإنكم واصلون إليها مستقرون بها خالدون في نعيمها ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من ذلك كله فقال

(1) مسلم 1/ 65 - السيوطي في الدر 5/ 363.

ص: 249

(نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) أي نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ومن كان الله وليه فاز بكل مطلب ونجا من كل مخافة وقيل إن هذا من قول الملائكة.

ص: 249

قال مجاهد يقولون لهم نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قالوا لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة.

وقال السدي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأنصاركم وأحباؤكم وأولياؤكم في الآخرة وقيل أنهم يشفعون لهم في الآخرة ويتلقونهم بالكرامة وقال النسفي رحمه الله كما أن الشياطين قرناء العصاة والكافرين فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) من صنوف الكرامات واللذات وأنواع النعم (ولكم فيها ما تدعون) أي تتمنون افتعال من الدعاء بمعنى الطلب.

وقد تقدم بيان معنى هذا في قوله (ولهم ما يدعون) مستوفى، والفرق بين الجملتين أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه، أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أولاً، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى، كالفضائل العلمية، وإن كان الأول أعم أيضاً من وجه بحسب حال الدنيا فالمريض لا يريد ما يشتهيه ويضر مرضه إلا أن يقال التمني أعم من الإرادة، وقال الرازي: الأقرب عندي أن قوله: (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله (دعواهم فيها سبحانك اللهم) الآية.

وانتصاب

ص: 250

(نزلاً من غفور رحيم) على الحال من الموصول، أو من عائده أو من فاعل تدعون أو هو مصدر مؤكد لفعل محذوف أي أنزلنا نزلاً والنزل ما يعد لهم حال نزولهم من الرزق والضيافة، قال النسفي: هو رزق النزيل وهو الضيف، وقد تقدم تحقيقه في سورة آل عمران قال أهل المعاني كل هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية جارية مجرى النزل، والكريم إذا أعطى هذا النزل، فما ظنك بما بعده من الألطاف والكرامة.

ص: 250

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)

ص: 251

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) أي إلى توحيده وطاعته قال الحسن هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من طاعته (وعمل صالحاً) في إجابته (وقال إنني من المسلمين) لربي، وليس الغرض منه القول فقط بل يضم إليه إعتقاد القلب فيعتقد بقلبه دين الإسلام مع التلفظ، أي قال ذلك ابتهاجاً بالإسلام وفرحاً به واتخاذاً له ديناً ومذهباً وتفاخراً به، قال ابن سيرين والسدي وابن زيد: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي هذا أيضاًً عن الحسن.

وقال عكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذنين قالت عائشة الداعي إلى الله المؤذن والعمل الصالح ركعتان فيما بين الأذان والإقامة وعنها قالت: ما أرى هذه الآية نزلت إلا في المؤذنين، ويجاب عن هذا بأن الآية مكية والأذان إنما شرع بالمدينة والأولى حمل الآية على العموم كما يقتضيه اللفظ، ويدخل فيها من كان سبباً لنزولها دخولاً أولياً، فكل من جمع بين دعاء العباد إلى ما شرعه الله وعمل عملاً صالحاً، وهو تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه.

وكان من المسلمين ديناً لا من غيرهم، فلا شيء أحسن منه ولا أوضح من طريقته، ولا أكثر ثواباً من عمله، قيل: وللدعوة إلى الله مراتب الأولى

ص: 251

دعوة الأنبياء إلى الله بالمعجزات، وبالحجج والبراهين، وبالسيف، وهذه المرتبة لم تتفق لغير الأنبياء. المرتبة الثانية: دعوة العلماء إلى الله بالحجج والبراهين فقط، والعلماء أقسام علماء بالله وعلماء بصفات الله وعلماء بأحكام الله. المرتبة الثالثة دعوة المجاهدين إلى الله بالسيف والسنان، فهم يجاهدون الكفار حتى يدخلوا في دين الله وطاعته. المرتبة الرابعة دعوة المؤذنين إلى الصلاة فهم أيضاًً دعاة إلى الله وإلى طاعته.

ثم بين سبحانه الفرق بين محاسن الأعمال ومساويها فقال:

ص: 252

(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) أي لا تستوي الحسنة التي يرضى بها الله ويثيب عليها، ولا السيئة التي كرهها الله ويعاقب عليها، ولا وجه لتخصيص الحسنة بنوع من أنواع الطاعات وتخصيص السيئة بنوع من أنواع المعاصي، فإن اللفظ أوسع من ذلك، وقيل الحسنة التوحيد والسيئة الشرك وقيل الحسنة المدارة، والسيئة الغلظة وقيل الحسنة العفو والسيئة الانتصار وقيل الحسنة العلم، والسيئة الفحش، وقيل غير ذلك. قال الفراء (لا) في (ولا السيئة) زائدة، والجملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد، إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب، ترغيباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصبر على أذية المشركين، ومقابلة إساءتهم بالإحسان.

(ادفع بالتي هي أحسن) استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة، أي ادفع السيئة إذا جاءتك من المسيء بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، ومنه مقابلة الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، والاحتمال للمكروهات، قال ابن عباس أمر المسلمين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل: والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم وقال ابن عباس القه بالسلام وقال مجاهد وعطاء: بالتي هي أحسن يعني بالسلام إذا لقي من

ص: 252

يعاديه، وقيل بالمصافحة عند التلاقي.

والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك، كما لو أساء إليك رجل إساءة فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمك فتمدحه، أو يقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه، ووضع التي هي أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة، لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها.

(فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن، والمعنى أنك إذا فعلت ذلك الدفع صار العدو كالصديق، والبعيد عنك كالقريب منك، وقال مقاتل: نزلت في أبي سفيان ابن حرب كان معادياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له ولياً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبينه، ثم أسلم فصار ولياً في الإسلام، حميماً بالمصهارة، وقيل غير ذلك، والأولى حمل الآية على العموم.

ص: 253

(وما يلقاها) قال الزجاج: أي ما يلقى هذه الفعلة وهذه الحالة وهي دفع السيئة بالحسنة (إلا الذين صبروا) على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، وتجرع الشدائد، وترك الانتقام. وقال أنس: الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت صادقاً غفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.

(وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) في الثواب والخير، أو من الخلق الحسن وكمال النسب، وهذا أنسب. وقال قتادة: الحظ العظيم الجنة أي ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة، وقيل الضمير في يلقاها عائد إلى الجنة، وقيل راجعة إلى كلمة التوحيد، قرأ الجمهور، يلقاها من التلقية، وقرىء تلاقاها من الملاقاة ثم أمر سبحانه بالاستعاذة من الشيطان فقال:

ص: 253

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)

ص: 254

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) النزغ شبيه النخس، شبه به الوسوسة لأنها تبعث على الشر، وجعل النزغ نازغاً على سبيل المجاز العقلي، كقولهم جد جده، أو أريد: وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر، أو لتسويله، والمعنى: وإن صرفك الشيطان عن شيء مما شرعه الله لك أو عن الدفع بالتي هي أحسن (فاستعذ بالله) من شره وامض على حلمك ولا تطعه.

وجملة: (إنه هو السميع العليم) تعليل لما قبلها، أي السميع لكل ما يسمع، ومنه استعاذتك، والعليم بكل ما يعلم ومنه فعلك وأحوالك، ومن كان كذلك فهو يعيذ من استعاذ به، وقال هنا بزيادة هو وأل، وفي الأعراف بدونهما، لأن ما هنا متصل بمؤكد بالتكرار وبالحصر، فناسب التأكيد بما ذكر، وما في الأعراف خلي عن ذلك، فجرى على القياس من كون المسند إليه معرفة والمسند نكرة.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سليمان بن صرد قال: استب

ص: 254

رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال الرجل: أمجنون تراني فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) ".

ثم شرع سبحانه في بيان بعض آياته البديعة، الدالة على كمال قدرته وقوة تصرفه للاستدلال بها على توحيده فقال:

ص: 255

(ومن آياته الليل والنهار) في تعاقبهما على حد معلوم، وتناوبهما على قدر مقسوم (والشمس والقمر) في اختصاصهما بسير مقدر ونور مقرر، هذا رد على قوم عبدوا الشمس والقمر، وإنما تعرض للأربعة مع أنهم لم يعبدوا الليل والنهار للإيذان بكمال سقوط الشمس والقمر عن رتبة السجودية لهما، بنظمهما في المخلوقية في سلك الأعراض التي لا قيام لها بذاتها، وهذا هو السر في نظم الكل في سلك آياته، ثم لما بين أن ذلك من آياته نهاهم عن عبادة الشمس والقمر، وأمرهم أن يسجدوا لله عز وجل فقال:(لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) لأنهما مخلوقان من مخلوقاته وإن كثرت منافعهما فلا يصح أن يكونا شريكين له في ربوبيته.

(واسجدوا لله الذي خلقهن) أي هذه الأربعة المذكورة، لأن جمع ما لا يعقل حكمه حكم جمع الإناث، أو الآيات، أو الشمس والقمر، لأن الاثنين جمع عند جماعة من الأئمة. قال السمين: وإنما عبر عن الأربع بضمير الإناث مع أن فيها ثلاثة مذكرة والعادة تغليب المذكر على المؤنث، لأنه لما قال: ومن آياته فنظم الأربعة في سلك الآيات صار كل واحد منها آية فعبر عنها بضمير الإناث في قوله: خلقهن.

(إن كنتم إياه تعبدون) قيل: كان ناس يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن ذلك، فهذا وجه تخصيص ذكر السجود بالنهي عنه،

ص: 255

وقيل: وجه تخصيصه أنه أقصى مراتب العبادة.

وهذه الآية من آيات السجود بلا خلاف، وإنما اختلفوا في موضع السجدة فقيل: موضعها عند قوله (إن كنتم إياه تعبدون)، لأنه متصل بالأمر، وقيل عند قوله (وهم لا يسأمون) لأنه تمام الكلام، وعن ابن عباس أنه كان يسجد بآخر الآيتين من حم السجدة، وكان ابن مسعود يسجد بالأولى منهما، وعن ابن عمر أنه كان يسجد بالأولى ويسجد بالآية الأخيرة.

ص: 256

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) أي إن استكبر هؤلاء عن الامتثال فدعهم وشأنهم، فإن لله عباداً يعبدونه كالملائكة يديمون التسبيح لله سبحانه بالليل والنهار، أو يصلون له وهم لا يملون ولا يفترون، يعني أن الله لا يعدم عابداً أبداً، بل من خلقه من يعبده على الدوام، والعندية عندية مكانة وتشريف، وفي الحديث " أنا عند ظن عبدي بي " و " أنا عند المنكسرة قلوبهم ".

ص: 256

(ومن آياته) الدالة على قدرته ووحدانيته (أنك) الخطاب لكل من يصلح له، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم (ترى الأرض) أي بعضها بحاسة البصر، وبعضها بعين البصيرة، قياساً على ما أبصرت (خاشعة) يابسة لا نبات فيها، متطامنة، وهي أنسب بلفظ خاشعة، والخاشعة اليابسة الجدبة الجامدة، وقيل: الغبراء التي لا تنبت، قال الأزهري. إذا يبست الأرض ولم تمطر، قيل: قد خشعت والخشوع التذلل والتقاصر، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها، كما وصفها بالهمود في قوله تعالى (وترى الأرض هامدة) وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو كما قال:(فإذا أنزلنا عليها الماء) أي ماء المطر أو غيره (اهتزت) تحركت بالنبات حركة عظيمة كثيرة سريعة فكان كمن يعالج ذلك بنفسه، يقال اهتز الإنسان إذا تحرك.

(وربت) انتفخت وعلت قبل أن تنبت، قاله مجاهد وغيره أي تصدعت عن النبات بعد موتها، وعلى هذا ففي الكلام تقديم وتأخير

ص: 256

وتقديره: ربت واهتزت وقيل: الاهتزاز والربو قد يكونان قبل خروج النبات من الأرض وقد يكونان بعده، ومعنى الربو لغة الارتفاع. كما يقال للموضع المرتفع: ربوة ورابية فالنبات يتحرك للبروز ثم يزداد في جسمه بالكبر طولاً وعرضاً.

وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الحج، وقيل اهتزت استبشرت بالمطر وربت انتفخت بالنبات، وقيل تشققت فارتفع ترابها. وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها، وتشعبت عروقه وغلظت سوقه، فصار يمنع سلوكها على ما كانت فيه من السهولة، وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه. لما كانت قبل ذلك كالذليل، وقرأ أبو جعفر وخالد ربأت (إن الذي أحياها لمحيي الموتى) بالبعث والنشور (إنه على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء كائناً ما كان.

ص: 257

(إن الذين يلحدون في آياتنا) أي يمليون عن الحق والاستقامة في آياتنا بالطعن والتحريف، والتأويل الباطل، واللغو فيها، والإلحاد الميل والعدول ومنه اللحد في القبر، لأنه أميل إلى ناحية منه، يقال: الحد في دين الله أي مال عنه وعدل، ويقال لحد وهو لغة فيه، وقد تقدم تفسير الإلحاد، ويقال: ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق، فاستعير لحال الأرض إذا كانت ملحودة، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة، قال مجاهد: معنى الآية يميلون عن الإيمان بالقرآن، وقال أيضاًً: يميلون عند تلاوة القرآن بالمكاء والتصدية، واللغو والغناء، وقال قتادة يكذبون في آياتنا، وقال السدي: يعاندون ويشاقون، وقال ابن زيد: يشركون، والمعاني متقاربة، وقال ابن عباس في الآية؛ هو أن يضع الكلام في غير موضعه.

(لا يخفون علينا) بل نحن نعلمهم فنجازيهم بما يعملون، قيل: نزلت في أبي جهل، ثم بين كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر فقال:(أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الاستفهام

ص: 257

للتقرير، والغرض منه التنبيه على أن الملحدين في الآيات يلقون في النار، وأن المؤمنين بها يأتون آمنين يوم القيامة.

وظاهر الآية العموم اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهو تمثيل للكافر والمؤمن، وقيل: المراد بمن يلقى في النار أبو جهل، ومن يأتي آمناً النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل حمزة وقيل عمر بن الخطاب وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسود المخزومي، وقال ابن عباس: أبو جهل ابن هشام ومن يأتي آمناً يوم القيامة أبو بكر الصديق. وعن بشير بن تميم قال: نزلت في أبي جهل وعمار بن ياسر، وعن عكرمة مثله، وكان الظاهر أن يقال أم من يدخل الجنة؟ وعدل عنه للتصريح بأمنهم، وانتفاء الخوف عنهم، قاله الكرخي. وترسم (أم) مفصولة من (من) اتباعاً للمصحف الإمام.

(اعملوا) هذا أمر تهديد، أي اعملوا من أعمالكم التي تلقيكم في النار (ما شئتم) فهو مجازيكم على كل ما تعملون، قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد، وقال ابن عباس: هذا لأهل بدر خاصة (إنه بما تعملون بصير) لا تخفى عليه منه خافية فيجازيكم عليه.

ص: 258

(إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وخبر إن محذوف أي إن الذين كفروا بالقرآن لما جاءهم يجازون بكفرهم، أو هالكون. أو يعذبون. وقيل هو قوله:(ينادون من مكان بعيد) وهذا بعيد وإن رجحه أبو عمرو بن العلاء، وذكر السمين في خبر إن أعاريب ووجوهاً لا نطول بذكرها (وإنه) أي القرآن الذي كانوا يلحدون فيه (لكتاب عزيز) عن أن يعارض أو يطعن فيه الطاعنون منيع عن كل عيب محمي بحماية الله وقيل: عديم نظيره، وذلك أن الخلق عجزوا عن معارضته، وقيل: أعزه الله بمعنى منعه أي ممتنع عن قبول الإبطال والتحريف.

ثم وصفه بأنه حق لا سبيل للباطل إليه بوجه من الوجوه فقال:

ص: 258

لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)

ص: 259

(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) قال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. وبه قال قتادة والسدي ومعنى الباطل على هذه الزيادة والنقصان، وقال مقاتل لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يجيء من بعده كتاب فيبطله، وبه قال الكلبي وسعيد بن جبير، وقيل: الباطل هو الشيطان أي لا يستطيع أن يزيد فيه ولا ينقص منه. وقيل: لا يزاد فيه ولا ينقص منه، لا من جبريل ولا من محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل لا يأتيه التبديل والتناقض بوجه من الوجوه، وقيل: لا يأتيه الباطل عما أخبر فيما تقدم من الزمان، ولا فيما تأخر، وقيل: إن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات، حتى يصل إليه والمعنى كل ما فيه حق وصدق، ليس فيه ما لا يطابق الواقع، والعموم أولى.

(تنزيل من حكيم حميد) خبر مبتدأ محذوف، أو صفة أخرى لكتاب ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عما كان يتأثر له من أذية الكفار فقال

ص: 259

(ما يقال لك) من هؤلاء الكفار من وصفك بالسحر والكذب والجنون (إلا) مثل (ما قد قيل للرسل من قبلك) فإن قومهم كانوا يقولون لهم مثل

ص: 259

ما يقول لك هؤلاء، وقيل: المعنى ما يقال لك من التوحيد وإخلاص العبادة لله إلا ما قد قيل للرسل من قبلك. فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك وقيل هو استفهام أي أيُّ شيء يقال لك.

(إن ربك لذو مغفرة) لمن يستحق مغفرته من الموحدين الذين تابعوك وتابعوا من قبلك من الأنبياء (وذو عقاب أليم) للكفار المكذبين المعادين لرسل الله، وقيل: لذو مغفرة للأنبياء وذو عقاب لأعدائهم.

ص: 260

(ولو جعلناه قرآناً أعجمياً) أي لو جعلنا هذا القرآن الذي تقرأه على الناس بغير لغة العرب، ولا حجة فيه لأبي حنيفة رحمه الله في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية كما زعمه النسفي وغيره لأن التركيب خارج مخرج الفرض والتقدير دون الوقوع والتحقيق (لقالوا لولا فصلت آياته) أي بينت بلغتنا فإننا عرب لا نفهم لغة العجم والاستفهام في قوله (أأعجمي وعربي) للإنكار وهو من جملة قول المشركين، أي لقالوا: كلام أعجمي ورسول عربي، والأعجمي الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم، والياء للمبالغة في الوصف كأحمري، وليس النسب فيه حقيقياً.

وقال الرازي في لوامحه. هي كياء كرسي ويختي، وفرق بينهما الشيخ، والأعجم ضد الفصيح وهو الذي لا يبين كلامه، ويقال للحيوان غير الناطق أعجم، وقيل المراد هلا فصلت آياته فجعل أعجمياً لإفهام العجم وبعضها عربياً لإفهام العرب، قال ابن عباس: يقول لو جعلنا القرآن أعجمياً ولسانك يا محمد عربي لقالوا أعجمي وعربي تأتينا به مختلفاً أو مختلطاً هَلَاّ بينت آياته فكان القرآن مثل اللسان يقول، فلم نفعل لئلا يقولوا فكانت حجة عليهم قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي أأعجمي بهمزتين مخففتين وقرىء بهمزة واحدة وقرىء بتسهيل الثانية بين بين:

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم فقال:

(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) أي يهتدون به إلى الحق ويستشفون

ص: 260

به من كل شك وشبهة، ومن الأسقام والآلام، قال الشهاب: رد عليهم بأنه هاد لهم، شاف لما في صدورهم، كاف في دفع الشبهة فلذا ورد بلسانهم معجزاً بيناً في نفسه مبيناً لغيره.

(والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) أي صمم عن سماعه، وفهم معانيه ولهذا تواصوا باللغو فيه والموصول مبتدأ خبره في آذانهم وقر، والموصول الثاني عطف على الأول، ووقر عطف على هدى، عند من جوز العطف على معمولي عاملين مختلفين والتقدير هو للأولين هدى وشفاء وللآخرين وقر في آذانهم.

(وهو عليهم عمى) وذلك لتصامهم عن سماعه، وتعاميهم عما يريهم من الآيات، قال قتادة: عموا عن القرآن وصموا عنه. وقال السدي عميت قلوبهم عنه والمعنى وهم عليه ذو عمى، ووصف بالمصدر للمبالغة، وقيل: المعنى والوقر عليهم عمى، أي ظلمة وشبهة، قرأ الجمهور عمى بفتح الميم منونة على أنه مصدر.

وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعمرو بن العاص وابن عمر بكسر الميم منونة على أنه إسم منقوص على أنه وصف به مجازاً. وقرىء بكسر الميم وفتح الياء على أنه فعل ماض، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى.

(أولئك) أي الذين لا يؤمنون (ينادون من مكان بعيد) مثل حالهم باعتبار عدم فهمهم للقرآن بحال من ينادي من مسافة بعيدة لا يسمع من يناديه منها، قال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك أنت تنادي من مكان بعيد، ففيه استعارة تمثيلية، وقال الضحاك ينادون يوم القيامة بأقبح أسمائهم من مكان بعيد وقال مجاهد من مكان بعيد من قلوبهم.

ص: 261

(ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) كلام مستأنف يتضمن تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يحصل له من الاغتمام بكفر قومه

ص: 261

وطعنهم في القرآن فأخبره أن هذه عادة قديمة في أمم الرسل، غير مختصة بقومك، فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة إليهم، والمراد بالكتاب التوراة وضمير فيه راجع إليه وقيل يرجع إلى موسى والأول أولى، يعني قال بعضهم هو حق، وقال بعضهم هو باطل، كما اختلف قومك في كتابك فمصدق به ومكذب.

(ولولا كلمة سبقت من ربك) في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن من أمتك وإمهالهم كما في قوله: (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى)(لقضى بينهم) بتعجيل العذاب لمن كذب منهم قال قتادة أي سبق لهم من الله حين وأجل هم بالغوه.

(وإنهم لفي شك منه مريب) أي من كتابك المنزل عليك وهو القرآن ومعنى الشك المريب الموقع في الريبة والشديد الريبة، وقيل: إن المراد اليهود، وأنهم في شك من التوراة مريب، والأولى أولى.

ص: 262

(من عمل صالحاً فلنفسه) أي من أطاع الله وآمن برسله ولم يكذبهم فثواب ذلك راجع إليه، ونفعه خاص به (ومن أساء فعليها) أي عقاب إساءته عليه لا على غيره (وما ربك بظلام للعبيد) فلا يعذب أحداً إلا بذنبه، ولا يقع منه الظلم لأحد، كما في قوله سبحانه (إن الله لا يظلم الناس شيئاًً) وظلام صيغة نسب كتمّار، وبقال، وخباز، لا صيغة مبالغة، وهذا التقرير أحسن من غيره.

وقال الكرخي: ليس بذي ظلم أشار به إلى أن ظلام ليس على بابه، وقد تقدم الكلام على معنى هذه الآية في سورة آل عمران عند قوله:(وأن الله ليس بظلام للعبيد) وفي سورة الأنفال أيضاًً ثم أخبر سبحانه أن علم القيامة ووقت قيامها لا يعلمه غيره فقال:

ص: 262

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

ص: 263

(إليه يرد علم الساعة) أي علم سؤال الساعة، أي السؤال عنها أي علم جواب هذا السؤال، فإذا وقع السؤال عنها وجب على المسؤول أن يرد علمها إليه لا إلى غيره، وأخذ الحصر من تقديم المعمول، وقد روي أن المشركين قالوا: يا محمد إن كنت نبياً فخبرنا متى تقوم الساعة، فنزلت هذه الآية (وما تخرج من ثمرات من أكمامها) ما نافية ومن الأولى للاستغراق؛ والثانية لابتداء الغاية وقيل ما موصولة في محل جر عطفاً على الساعة أي علم الساعة وعلم التي تخرج، والأولى أولى.

والأكمام جمع كم بكسر الكاف، وهو روي الثمرة، ويطلق على كل ظرف لمال أو غيره، قال أبو عبيدة أكمامها أوعيتها، وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها: كم وكمة، قال الراغب: الكم ما يغطي اليد من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه أكمام، وهذا يدل على أن الكم بضم الكاف لأنه جعله مشتركاً بين كم القميص وكم الثمرة، ولا خلاف في كم القميص أنه بالضم، ويمكن أن يقال: إن في الكم الذي هو وعاء الثمر لغتين، قرأ الجمهور من ثمرة بالإفراد على إرادة الجنس، وقرىء بالجمع للاختلاف في أنواع الثمار، قاد قتادة من أكمامها حين تطلع.

(وما تحمل من أنثى) حملاً في بطثها (ولا تضع) ذلك الحمل (إلا بعلمه) أي علم الله سبحانه والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي ما

ص: 263

يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع في حال من الأحوال ملابساً لشيء من الأشياء إلا كائناً بعلم الله، فإليه يرد علم الساعة كما يرد إليه علم هذه الأمور الحادثة، وفيه دليل على أن أصحاب الكشف والكهان وأهل النجوم لا يمكنهم القطع والجزم في شيء مما يقولونه البتة، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف، أو وهم خفيف، قد لا يصيب، وعلم الله هو العلم اليقين المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد.

(ويوم يناديهم) أي ينادي الله سبحانه المشركين، وذلك يوم القيامة فيقول لهم:(أين شركائي) الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في الدنيا، من الأصنام وغيرها، فادعوهم الآن فليشفعوا لكم، أو يدفعوا عنكم العذاب وهذا على طريقة التهكم بهم والتقريع لهم، وأضافهم إلى نفسه على زعمهم الباطل، والعامل في يوم محذوف أي اذكر.

(قالوا) أي يقولون، فالماضي بمعنى المضارع (آذناك) أي اعلمناك قال ابن عباس يقال: آذن يؤذن إذا أعلم أي أعلمناك وقيل: أخبرناك، قال النسفي: وهو الأظهر إذ الله تعالى كان عالماً بذلك، وإعلام العالم محال إنما الإخبار للعالم بالشيء يتحقق بما علم به إلا أن يكون المعنى إنك علمت من قلوبنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه انتهى.

(ما منا من شهيد) يشهد بأن لك شريكاً، وذلك أنهم لما عاينوا القيامة تبرأوا من الشركاء، وتبرأت منهم تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها، وقيل: لهم بأنهم كانوا محقين، والأول أولى.

ص: 264

(وضل عنهم) أي غاب وزال وبطل في الآخرة (ما كانوا يدعون من قبل) في الدنيا من الأصنام ونحوها (وظنوا ما لهم من محيص) أي أيقنوا وعلموا أنه لا مهرب لهم من العذاب، يقال: حاص يحيص حيصاً إذا هرب وقيل، الظن على معناه الحقيقي لأنه بقي لهم في تلك الحال ظن ورجاء، والأول أولى، ثم ذكر سبحانه بعض أحوال الإنسان فقال:

ص: 264

لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

ص: 265

(لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل من دعاء الخير لنفسه وجلبه إليه، ولا يزال يسأل ربه المال والخير هنا المال والصحة والسلطان والرفعة. قال السدي: والإِنسان هنا يراد به الكافر، وقيل الوليد بن المغيرة، وقيل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف والأولى حمل الآية على العموم باعتبار الغالب، فلا ينافيه خروج خلص العباد، وقرأ ابن مسعود من دعاء المال.

(وإن مسه الشر) أي البلاء والشدة والفقر والمرض (فيئوس) من روح الله (قنوط) من رحمته، واليأس من صفة القلب وهو قطع الرجاء، والقنوط إظهار آثاره على ظاهر البدن، والحال المحلي يقتضي ترادفهما، وبه قال بعضهم فالجمع بينهما للتأكيد، وقيل يؤوس من إجابة دعائه قنوط بسوء الظن بربه، وقيل يؤوس من زوال ما به من المكروه، قنوط بما يحصل له من ظن دوامه وهما صيغتا مبالغة تدلان على أنه شديد اليأس، عظيم القنوط وبولغ فيه من طريقين من طريق بناء فعول كما أشرنا ومن طريق التكرير مع ما في القنوط

ص: 265

من ظهور أثر اليأس لأن القنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر أي يقطع الرجاء من فضل الله وروحه، وهذا صفة الكافر بدليل قوله تعالى (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون).

ص: 266

(ولئن) لام قسم (أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته) أي ولئن آتيناه خيراً وعافية وغنى من بعد شدة ومرض وفقر (ليقولن) جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده (هذا لي) أي هذا شيء أستحقه على الله لرضاه بعملي، فظن أن تلك النعمة التي صار فيها وصلت إليه باستحقاقه لها، ولم يعلم أن الله يبتلي عباده بالخير والشر ليتبين له الشاكر من الجاحد، والصابر من الجزع.

قال مجاهد: معناه هذا بعملي وأنا محقوق به، أو هذا لي دائماً لا يزول (وما أظن الساعة قائمة) أي ما أظنها تقوم كما يخبرنا بها الأنبياء أو لست على يقين من البعث، وهذا خاص بالكافرين والمنافقين، فيكون المراد بالإنسان المذكور في صدر الآية الجنس باعتبار غالب أفراده، لأن اليأس من رحمة الله والقنوط من خيره والشك في البعث لا يكون إلا من الكافرين أو المتزلزلين في الدين المتظهرين بالإسلام المبطنين للكفر.

(ولئن) لام قسم (رجعت إلى ربي) على تقدير صدق ما يخبرنا به الأنبياء من قيام الساعة وحصول البعث والنشور (إن لي عنده للحسنى) جواب القسم لسبقه الشرط، أي للحالة الحسنى من النعمة والكرامة، فظن أنه استحق خير الدنيا بما فيه من الخير واستحق خير الآخرة بذلك الذي اعتقده في نفسه، وأثبته لها، وهو اعتقاد باطل، وظن فاسد، وقد تضمن الكلام مبالغات حيث أكد بالقسم، وإن، وتقديم الظرفين، والعدول إلى صيغة التفضيل إذ الحسنى تأنيث الأحسن.

(فلننبئن الذين كفروا بما عملوا) أي لنخبرنهم به يوم القيامة وهذا جواب لقول الكافر ولئن رجعت إلى آخره، أي ليس الأمر كما يزعم وإنما له

ص: 266

العقاب الشديد كما قال (ولنذيقنهم من عذاب غليظ) بسبب ذنوبهم، واللام هذه والتي قبلها هي الموطئة للقسم.

ص: 267

(وإذا أنعمنا على الإنسان) أي على هذا الجنس من حيث هو، باعتبار غالب أفراده (أعرض) عن الشكر (ونأى بجانبه) أي ترفع عن الانقياد للحق، وتكبر وتجبر، وثنى عطفه متبختراً، كناية عن الإعراض. وقيل: انحرف عنه أو ذهب بنفسه وتباعد عنه بكليته تكبراً والجانب هنا مجاز عن النفس، ونأى بمعنى بعد، يقال: نأيت وتناءيت أي بعدت وتباعدت والمنتأى الموضع البعيد، وقرىء ناء بالألف قبل الهمزة.

(وإذا مسه الشر) أي البلاء والجهد والفقر والمرض (فذو) أي فهو ذو (دعاء عريض) أي كثير، والعرب تستعمل العرض والطول في الكثرة مجازاً يقال: أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر، فهو مستعار مما له عرض متسع، للإشعار بكثرته، فإن العريض يكون ذا أجزاء كثيرة، والاستعارة تخييلية، شبه الدعاء بأمر يوصف بالامتداد، ثم ثبت له العرض قاله الكرخي والطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله، أفاده أبو السعود.

والمعنى أنه إذا مسه الشر تضرع إلى الله واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به، واستكثر من ذلك فذكره في الشدة ونسيه في الرخاء، واستغاث به عند نزول النقمة، وتركه عند حصول النعمة وهذا صنيع الكافرين، ومن كان غير ثابت القدم من المسلمين قال الشهاب فإن قلت: كونه يدعو دعاء طويلاً عريضاً ينافي وصفه قبل هذا بأنه يؤوس قنوط، لأن الدعاء فرع الطمع والرجاء، وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس، فظهور ما يدل على الرجاء يأباه، قلت: يمكن دفع المنافاة بحمله على عدم اتحاد الأوقات والأحوال انتهى، أو لعل هذا شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط، أو شأن الكل في بعض الأوقات، ذكره أبو السعود.

ص: 267

ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة الكفار ومحاجتهم فقال:

ص: 268

(قل أرأيتم) أي أخبروني عن حالتكم العجيبة، واستعمال أرأيتم بمعنى الإخبار مجاز، ووجه المجاز أنه لما كان العلم بالشيء سبباً للإخبار عنه أو الإبصار به طريقاً إلى الإحاطة به علماً، وإلى صحة الإخبار عنه استعملت الصيغة التي لطلب العلم أو لطلب الإبصار في طلب الخير لاشتراكهما في الطلب، ففيه مجازان: استعمال رأى التي بمعنى علم أو أبصر في الإخبار، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار قاله الشهاب.

(إن كان) القرآن (من عند الله) كما قلت (ثم كفرتم به) أي كذبتم به، ولم تقبلوه ولا عملتم بما فيه (من أضل ممن هو في شقاق) خلاف (بعيد) عن الحق أي لا أحد أضل منكم لفرط شقاوتكم، وشدة عداوتكم والأصل أي شيء أضل منكم فوضع من هو في شقاق موضع الضمير لبيان حالهم في المشاقة، وأنها السبب الأعظم في ضلالهم.

ص: 268

(سنريهم آياتنا) أي دلالات صدق القرآن وعلامات كونه من عند الله (في الآفاق) جمع أفق بضم الهمزة والفاء، كذا قال أهل اللغة، كأعناق وعنق، وهو الناحية، ونقل الراغب أنه يقال: أفق بفتحهما كجبل وأجبال، والمعنى سنريهم آياتنا في النواحي على ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية، وما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجه خارق للعادة، وقال القرطبي أي علامات وحدانيتنا وقدرتنا في الآفاق، يعني خراب منازل الأمم الماضية وربوع القرون الخالية.

(وفي أنفسهم) قال ابن زيد: في الآفاق آيات السماء وفي أنفسهم حوادث الأرض وقال مجاهد في الآفاق فتح القرى التي يسر الله فتحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده وأنصار دينه في آفاق الدنيا، وبلاد المشرق والمغرب عموماً، وفي ناحية المغرب خصوصاً من الفتوح التي لم

ص: 268

يتيسر مثلها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم، أو من الظهور على الجبابرة والأكاسرة وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعفائهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أموراً خارجة عن المعهود، خارقة للعادات، وفي أنفسهم فتح مكة ورجح هذا ابن جرير، واختاره المنهال بن عمرو والسدي.

وقال قتادة والضحاك في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات والأشجار والجبال والبحار وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، حتى في سبيل الغائط والبول فإن الرجل يأكل ويشرب من مكان واحد، ويتميز ذلك خارجاً من مكانين، وحتى في عينيه اللتين ينظر بهما من الأرض إلى السماء مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة وغير ذلك من بديع حكمة الله تعالى فيه.

فإن قيل: قوله سنريهم الخ يقتضي أنه إلى الآن ما أطلعهم على تلك الآيات وسيطلعهم عليها بعد ذلك، مع أن الآيات المذكورة قد اطلعوا عليها وهي منهم نصب العين، والجواب أن المراد على هذا سنريهم أسرار آياتنا الخ فالآيات وإن اطلعوا عليها بالفعل لكن سرها وحكمها لم يطلعوا عليه قاله الكرخي.

وعن ابن جريج في الآية قال أمسك المطر عن الأرض كلها. وفي أنفسهم قال البلايا التي تكون في أجسامهم وقال ابن عباس كانوا يسافرون فيرون آثار عاد وثمود فيقولون والله لقد صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وما أراهم في أنفسهم قال الأمراض وقيل في كونهم نطفاً إلى غير ذلك من انتقال أحوالهم، كما تقدم في سورة المؤمنين بيانه.

(حتى يتبين لهم أنه الحق) الضمير راجع إلى القرآن وقيل إلى الإسلام الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إلى ما يريهم الله

ص: 269

ويفعل من ذلك وقيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم أنه الرسول الحق من عند الله، والأول أولى.

وقد حرف الوجودية هذه الآية الكريمة بحملها على اتحاد الخلق والخالق تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) الجملة مستأنفة لتوبيخهم وتقريعهم على ترددهم في شأن القرآن، وعنادهم المحوج إلى إيراد وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى، والمعنى أولم يغنهم، ولم يكفهم عن الآيات الموعودة، المبينة لحقية القرآن أنه سبحانه شهيد على جميع الأشياء وقيل المعنى أولم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار، والباء زائدة، وهذا هو الراجح وقيل: أولم يكف بربك شاهداً على أن القرآن منزل من عنده؟ والشهيد بمعنى العالم أو هو بمعنى الشهادة التي هي الحضور، قال الزجاج: ومعنى الكفاية ههنا أن الله عز وجل قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة والمعنى أولم يكف ربك أنه على كل شيء شهيد شاهد للأشياء لا يغيب عنه شيء ما.

ص: 270

(ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) أي في شك من البعث والحساب والثواب والعقاب (ألا إنه) تعالى (بكل شيء محيط) أحاط علمه بجميع المعلومات وأحاطت قدرته بجميع المقدورات يقال أحاط يحيط إحاطة وحيطة، وفي هذا وعيد شديد، لأن من أحاط بكل شيء لا يخفى عليه شيء جازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (1).

(1) زاد المسير 269.

ص: 270