الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ
(37)
(أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) بيان للأسباب لأن الشيء إذا أبهم ثم فسر كان أوقع في النفوس، وأفخم للشأن، أو بدل منها، وأنشد الأخفش عند تفسير الآية بيت زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
…
ولو رام أسباب السماء بسلم
وقيل أسباب السموات الأمور التي يستمسك بها وكل ما أواك إلى شيء فهو سبب إليه كالرشاء ونحوه (فأطلع إلى إله موسى) أي انظر إليه، وأطلع على حاله، قرأ الأعرج السلمي وعيسى بن عمر وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله ابن لي، وهذا رأى البصريين. أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيدة وغيره وهذا رأى الكوفيين.
قال النحاس معنى النصب خلاف معنى الرفع لأن معنى النصب متى بلغت الأسباب اطلعت، وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على أبلغ فهو على هذا داخل في حيز الترجي، ومعناه لعلي أبلغ، ولعلي أطلع بعد ذلك، وقيل غير ذلك، وفي هذا دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جداً.
(وإني لأظنه) أي موسى (كاذباً) في ادعائه بأن له إلهاً غيري، مستوياً على العرش فوق السموات أو فيما يدعيه من الرسالة قيل: قال
فرعون ذلك تمويهاً وتلبيساً، وتخليطاً على قومه، وإلا فهو يعرف ويعتقد حقيقة الإله، وأنه ليس في جهة العلو، ولكنه أراد التلبيس على قومه توصلاً لبقائهم على الكفر، فكأنه يقول. لو كان إله موسى موجوداً لكان له محل، ومحله إما الأرض وإما السماء، ولم نره في الأرض فيبقى أن يكون في السماء، والسماء لا توصل إليها إلا بسلم قاله الحفناوي.
(وكذلك) التزيين (زين لفرعون سوء عمله) من الشرك والتكذيب فتمادى في الغي واستمر على الطغيان، والمزين هو الشيطان (وصد عن السبيل) أي سبيل الرشاد والهدى، قرأ الجمهور وصد بفتح الصاد والدال، أي صد فرعون الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون وصد بضم الصاد مبنياً للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم.
ولعل وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في زين، من البناء للمفعول والقراءتان سبعيتان وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة.
صد بكسر الصاد وضم الدال منوناً وقرأ ابن أبي إسحق وعبد الرحمن بن أبي بكر بفتح الصاد وضم الدال منوناً، وكل من هاتين القراءتين على أنه مصدر معطوف على:(سوء عمله)، أي زين له الشيطان سوء العمل والصد.
(وما كيد فرعون) في إبطال آيات موسى (إلا في تباب) أي خسار وهلاك، قال ابن عباس: التباب الخسران، ومنه (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير كما حكى عنه بقوله:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) بإثبات الياء وحذفها في الوصل والوقف، والقراءتان سبعيتان، وهذا بالنظر للفظ وأما في الرسم فهي محذوفة لا غير لأنها من ياآت الزوائد، أي اقتدوا بي في الدين، واعملوا بنصيحتي (أهدكم سبيل الرشاد) أي طريق الهدى والصواب، وهو الجنة، وهو ضد الغي، وفيه تعريض شبيه بالتصريح، أن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي، وقيل: هذا من قول موسى والأول أولى.
(يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع) يتمتع بها أياماً ثم تنقطع وتزول، لأن التنوين للتقليل، فالإخلاد إليها أصل الشر ومنبع الفتن، ورأس كل بلاء وآفة (وإن الآخرة هي دار القرار) أي الاستقرار والثبات، فلا انتقال ولا تحول عنها، لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرة لا تزول، والباقي خير من الفاني. قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهباً فانياً، والآخرة خزفاً باقياً لكانت الآخرة خيراً من الدنيا، فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق!
قال ابن عباس: " الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة "، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحياة الدنيا متاع وليس من متاعها شيء أفضل من
المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها ".
(من عمل سيئة) من كلام الرجل المؤمن، والمعنى من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت (فلا يجزى إلا مثلها) ولا يعذب إلا بقدرها والظاهر شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة، وقيل: هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك.
(ومن عمل) عملاً (صالحاً) قيل: هو لا إله إلا الله (من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) أي مع كونه مؤمناً بما جاءت به رسله (فأولئك) الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح (يدخلون الجنة) بفتح الياء وضم الخاء. وبالعكس سبعيتان (يرزقون فيها) رزقاً واسعاً (بغير حساب) أي بغير تقدير ومحاسبة قال مقاتل: يقول لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير ثم كرر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله.
صرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم، وأنه إنما تصدى لتذكيرهم كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى، كما يقول الرجل المحب لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه، فقال:
(و) ترك العطف في النداء الثاني لأنه تفصيل لإجمال الأول، وهنا عطف لأنه ليس بتلك المثابة لأنه كلام مباين للأول والثاني، فحسن إيراد الواو العاطفة فيه ونحوه.
قال الزمخشري: (يا قوم ما لي) تكرير النداء لزيادة التنبيه لهم، والإيقاظ عن سنة الغفلة، وفيه أنهم قومه وأنه من آل فرعون. والمعنى: أخبروني عنكم كيف هذه الحال؟ (أدعوكم إلى النجاة) من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله (وتدعونني إلى النار) بما تريدونه مني من الشرك، وقيل: المعنى ما لكم أدعوكم؟ كما تقول ما لي أراك حزيناً؟ أي مالك؟ ثم فسر الدعوتين فقال:
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي ما لا علم لي بكونه شريكاً لله، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم بدل من تدعونني الأولى على جهة البيان لها، وأتى بجملة فعلية لتدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وفي قوله (وأنا أدعوكم) بجملة اسمية لتدل على ثبوت دعوته وتقويتها (إلى العزيز) الغالب على أمره، وفي انتقامه ممن كفر (الغفار) لذنب من آمن به وتاب.
(لا جرم) قد تقدم تفسير هذا في سورة هود وجرم فعل ماض بمعنى حق، ولا الداخلة عليه لنفي ما ادعوه، ورد ما زعموه، وفاعل هذا الفعل هو قوله:(أن ما تدعونني إليه) أي حق ووجب بطلان دعوته، وما بمعنى الذي؛ فكان حقها أن تكتب مفصولة من النون كما هو القاعدة، لكنها رسمت في المصحف الإمام موصولة بالنون كما أشار له ابن الجزري (ليس له دعوة) قال الزجاج: معناه ليس له استجابة دعوة تنفع؛ وقيل: ليس له دعوة توجب الألوهية (في الدنيا ولا في الآخرة) وقال الكلبي ليس له شفاعة (وأن مردنا إلى الله) أي مرجعنا ومصيرنا إليه بالموت أولاً وبالبعث آخراً فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير
وشر.
(وأن المسرفين) أي المستكثرين من معاصي الله: قال قتادة وابن سيرين: يعني المشركين، وقال مجاهد والشعبي هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها؛ وبه قال ابن مسعود، وقال عكرمة الجبارون المتكبرون، وقيل: هم الذين تعدوا حدود الله، والمعنى حق أن المسرفين (هم أصحاب النار) أي أهل جهنم ولما بلغ ذلك المؤمن في باب النصيحة إلى هذا الكلام ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال
(فستذكرون ما أقول لكم) إذا نزل بكم العذاب وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم، وهو كلام مجمل مبهم، وفي هذا الإبهام والإجمال من التخويف والتهديد ما لا يخفى.
(وأفوض أمري إلى الله) مستأنف، أي أتوكل عليه وأسلم أمري إليه قيل: إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به، قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه وقيل: القائل هو موسى والأول أولى (إن الله بصير بالعباد) يعلم المحق من المبطل.
(فوقاه الله سيئات ما مكروا) أي ما أرادوا به من المكر السيء وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم، قال قتادة نجاه الله مع بني إسرائيل من الغرق (وحاق بآل فرعون) أي أحاط بهم ونزل عليهم (سوء العذاب) قال الكسائي: يقال حاق يحيق حيقاً وحيوقاً إذا نزل ولزم قال الكلبي غرقوا في البحر ودخلوا النار، والمراد بآل فرعون فرعون وقومه، وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره، لكونه أولى بذلك منهم، أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه، والأول أولى لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعاً بالغرق وسيعذبون في الآخرة بالنار، ثم بين سبحانه ما أجمله من سوء العذاب فقال:
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)
(النار يعرضون) أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة (عليها غدواً وعشياً) أي صباحاً ومساء، فارتفاع النار على أنها بدل من سوء العذاب وقيل: على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره يعرضون والأول أولى ورجحه الزجاج، وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر وقرىء بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون من حيث المعنى، أي يصلون النار يعرضون عليها أو على الاختصاص وأجاز الفراء الخفض على البدل من العذاب.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حين يبعثك الله إليه يوم القيامة " زاد ابن مردويه ثم قرأ (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً)، وعرضهم عليها إحراقهم بها، يقال عرض الإمام الأساري على السيف إذا قتلهم به، أي في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك إما أن يعذبوا بجنس آخر أو ينفس عنهم، ويجوز أن يكون غدواً وعشياً عبارة عن الدوام (1).
(1) البخاري 3/ 193/مسلم 4/ 2199.
واحتج بعض أهل العلم على إثبات عذاب القبر بهذه الآية أعاذنا الله تعالى منه بمنه وكرمه، وبه قال مجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب كلهم، قال القرطبي: إن أرواحهم في جوف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين، فذلك عرضها انتهى. وقد حققنا ذلك في كتابنا ثمار التنكيت في شرح أبيات التثبيت، بالفارسية فليعلم، ثم ذهب الجمهور إلى أن هذا العرض هو في البرزخ وقيل هو في الآخرة. قال الفراء: ويكون في الآية تقديم وتأخير، أي: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، ولا ملجىء إلى هذا التكلف فإن قوله:(ويوم تقوم الساعة) الخ يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في البرزخ.
(أدخلوا) أي يقال للملائكة: أدخلوا (آل فرعون أشد العذاب) هو عذاب النار فإنه أشد مما كانوا فيه، وقيل: أنواع من العذاب بعضها أشد من بعض غير التي كانوا يعذبون بها منذ أغرقوا، قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص: أدخلوا بقطع الهمزة وكسر الخاء، وهو على تقدير القول كما ذكر وقرأ الباقون ادخلوا بهمزة وصل من دخل يدخل أمرآ لآل فرعون بالدخول بتقدير حرف النداء أي ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال عذاباً دون العذاب، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) أخرجه البزار وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.
(وإذ يتحاجون في النار) أي اذكر لقومك وقت تخاصمهم في النار، ثم بين سبحانه هذا التخاصم فقال: (فيقول الضعفاء للذين
استكبروا) عن الانقياد للأنبياء والأتباع لهم، وهم رؤساء الكفر (إنا كنا لكم تبعاً) فتكبرتم على الناس بنا، والتبع جمع تابع كخدم وخادم أو مصدر واقع موقع اسم الفاعل، أي تابعين أو ذوي تبع، قال البصريون التبع يكون واحداً ويكون جمعاً، وقال الكوفيون هو جمع لا واحد له.
(فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار) أي هل تدفعون عنا نصيباً منها؟ أو تحملونه معنا، وجملة
(قال الذين استكبروا إنا كل فيها) مستأنفة جواب سؤال مقدر قرأ الجمهور (كل) بالرفع على الابتداء، وخبره (فيها) والجملة خبر إن قاله الأخفش، وقرأ ابن السميفع وعيسى ابن عمر (كُلاًّ) بالنصب، قال الكسائي والفراء على التأكيد لاسم إن بمعنى كلنا، وتنوينه عوض عن المضاف إليه؛ وقيل على الحال، ورجحه ابن مالك، والمعنى إنا نحن وأنتم جميعاً في جهنم، فكيف نغني عنكم؟ ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا.
(إن الله قد حكم بين العباد) أي قضى بينهم بأن فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير، فلا يغني أحد عن أحد شيئاً فعند ذلك يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين، فيرجعون كلهم إلى خزنة جهنم يسألونهم، كما قال:
(وقال الذين في النار) من الأمم الكافرة، مستكبرهم وضعيفهم جميعاً (لخزنة جهنم) جمع خازن، وهم القوام بتعذيب أهل النار، وإنما لم يقل لخزنتها لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً، أو لبيان محلهم فيها فإن جهنم هي أبعد النار قعراً من قولهم بئر جهنام، بعيدة القعر. وفيه أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين لعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله، فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم.
(ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب) أي شيئاًً منه مقدار يوم من أيام الدنيا لأنه ليس في الآخرة ليل ولا نهار.
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
(قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) مستأنفة جواب سؤال مقدر والاستفهام للتقريع والتوبيخ (قالوا بلى) أي أتونا بها فكذبناهم، ولم نؤمن بهم، ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة، فلما اعترفوا (قالوا) أي قال لهم الملائكة الذين هم خزنة جهنم تهكماً بهم:(فادعوا) أي إذا كان الأمر كذلك، فادعوا أنتم فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة، ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئاًً فقالوا:
(وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) أي في ضياع وبطلان، وخسار وتبار وانعدام، وفيه إقناط لهم عن الإجابة، وقيل: هو من قول الله تعالى إخباراً لنبيه وهو أنسب بما بعده وعليه جرى المحلي والشهاب:
ْ
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) مستأنفة من جهة الله سبحانه، أي نجعلهم الغالبين لأعدائهم، القاهرين لهم، والموصول في محل نصب عطفاً على رسلنا أي لننصر رسلنا وننصر الذين آمنوا معهم (في الحياة الدنيا) بما عودهم الله من الانتقام لهم بالقتل والسلب والأسر، وقيل بالغلبة والقهر، وقيل بالحجة، وقيل بالانتقام لهم من الأعداء بالاستئصال، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحاناً من الله عز
وجل، والعاقبة لهم، كما نصر يحيى ابن زكريا لما قتل، فإنه قتل به سبعين ألفاً، وكما نصر الحسين بن علي الشهيد فإنه قتل به سبعين ألفاً أيضاًً.
أخرج أحمد والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ردّ
…
عن عرض أخيه رد الله عن وجهه نار جهنم يوم القيامة "، ثم تلا (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله.
(ويوم يقوم الأشهاد) هو يوم القيامة قال زيد بن أسلم الأشهاد هم الملائكة والنبيون والمؤمنون. وقال مجاهد والسدي الأشهاد الملائكة، يشهدون للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب. وقيل الحفظة يشهدون على بني آدم بما عملوا من الأعمال، وكذا الجوارح تشهد عليهم بما فعلوا، قال الزجاج الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب، قال النحاس ليس لباب فاعل أن يجمع على أفعال، ولا يقاس عليه ولكن ما جاء منه مسموعاً أدى على ما سمع فهو على هذا جمع شهيد، مثل شريف وأشراف، ومعنى نصرهم يوم القيامة أن الله يجازيهم بأعمالهم فيدخلهم الجنة، ويكرمهم بكراماته، ويجازي الكفار بأعمالهم، فيلعنهم ويدخلهم النار وهو معنى قوله:
(يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) قرأ نافع والكوفيون بالتحتية وقرأ الجمهور تنفع بالفوقية، والكل جائز في اللغة، وإنما لم تنفعهم المعذرة لأنها معذرة باطلة، وعلة داحضة. وشبهة زائغة (ولهم اللعنة) أي البعد عن الرحمة (ولهم سوء الدار) أي النار.
(ولقد آتينا موسى الهدى) هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريباً من نصره لرسله، أي آتيناه التوراة والنبوة، كما في قوله سبحانه (إنا
أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) قال مقاتل: الهدى من الضلالة يعني التوراة (وأورثنا بني إسرائيل) أي بعد ما كانوا فيه من الذل (الكتاب) أي التوراة والمعنى أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم وتوارثوها خلفاً عن سلف وقيل المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى
(هدى وذكرى) أي لأجلهما أو هادياً ومذكراً ومرشداً (لأولي الألباب) أي لأهل العقول السليمة.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى فقال:
(فاصبر) أي اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل، قال الكلبي: فنسخت آية القتال آية الصبر (إن وعد الله) الذي وعد رسله به (حق) لا خلف فيه، ولا شك في وقوعه، كما في قوله (إنا لننصر رسلنا) وقوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) ثم أمره الله سبحانه يالاستغفار لذنبه فقال:
(واستغفر لذنبك) قيل: المراد ذنب أمتك فهو على حذف مضاف وقيل المراد الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء، وقيل: هو مجرد تعبد له صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لزيادة الثواب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
(وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) أي دم على تنزيه الله متلبساً بحمده وقيل المراد الصلوات الخمس، والعشي هو من بعد الزوال، وفيه أربع صلوات، والإبكار من الفجر إلى الزوال، وفيه صلاة واحدة.
وقيل: المراد صل في الوقتين صلاة العصر وصلاة الفجر، قاله الحسن وقتادة، وقيل هما صلاتان: ركعتان غدوة، وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس.
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
(إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ) عام في كل مجادل وإن نزل في مشركي مكة، قاله أبو السعود (في آيات الله) أي القرآن (بغير سلطان أتاهم) أي بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه تقييداً لمجادلة بذلك مع استحالة إتيانه للإيذان بأن المتكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى سلطان مبين.
(إن في صدورهم إلا كبر) أي ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق يحملهم على تكذيبك (ما هم ببالغيه) صفة لكبر: قال الزجاج: بالغي إرادتهم فيه فجعله على حذف المضاف، وقال غيره بالغي كبرهم. وقال ابن قتيبة: كبر أي تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم وطمع أن يبلغوه وما هم ببالغي ذلك، وقيل: المراد بالكبر الأمر الكبير، أي يطلبون النبوة ويطلبون أمراً كبيراً يصلون به إليك من القتل ونحوه، ولا يبلغون ذلك. وقال مجاهد معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها، والمراد بهذه الآية المشركون، وقيل اليهود.
عن أبي العالية قال: " إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الدجال يكون منا في آخر الزمان، ويكون من أمره فعظموا
أمره، وقالوا يصنع كذا ويصنع كذا، فأنزل الله هذه الآية. قال: لا يبلغ الذي يقول، فاستعذ بالله، فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال، لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الدجال، أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، قال السيوطي: بسند صحيح، وعن كعب الأحبار قال: هم اليهود نزلت فيهم، فيما ينتظرونه من أمر الدجال. وقال مجاهد (إلا كبر) أي عظمة قريش، ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم فقال:
(فاستعذ بالله) أي فالتجىء إليه من شرهم، وكيدهم، وبغيهم عليك (إنه هو السميع) لأقوالهم (البصير) بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية ثم بين سبحانه عظيم قدرته فقال
(لخلق السموات والأرض) ابتداء من غير سبق مادة (أكبر من خلق الناس) أي أعظم في النفوس، وأجل في الصدور، لعظم إجرامهما واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، وأشق بحسب عادة الناس في مزاولة الأفعال من أن علاج الشيء الكبير أشق من علاج الصغير، وإن كان بالنسبة إلى الله لا تفاوت بين الصغير والكبير، فكيف ينكرون البعث وإحياء ما هو دونهما من كل وجه؟ كما في قوله.
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) قال أبو العالية المعنى لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود، وقال يحيى بن سلام هو احتجاج على منكري البعث أي هما أكبر من إعادة خلق الناس.
(ولكن أكثر الناس) أي كفار مكة (لا يعلمون) بعظم قدرة الله، وأنه لا يعجزه شيء فهم كالأعمى، ومن يعلمه كالبصير وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذكر الدجال وصفته، وإنذار الرسل منه لأمتهم وخروجه في آخر الزمان، وما يقع منه، ومن يتبعه من اليهود، كما
حققناه في حجج الكرامة في آثار القيامة، وليس هذا موضع ذكرها وبسطها، وإليه ذهب جميع أهل السنة والمحدثين والفقهاء خلافاً لمن أنكره، وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافاً للجبائي وموافقيه في أنه صحيح الوجود: ولكن الأشياء التي يأتي بها زعموا أنها مخاريف وخيالات لا حقائق لها والأخبار الصحيحة المتواترة تدفعه وترده رداً مشبعاً.
ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالاً للباطل والحق، وأنهما لا يستويان فقال:
(وما يستوي الأعمى والبصير) أي الذي يجادل بالباطل الذي يجادل بالحق، أو الغافل والمستبصر (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي ولا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح.
(ولا المسيء) بالكفر والمعاصي، وزيادة (لا) للتأكيد، والتقابل يجيء على ثلاث طرق إحداها أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية، والثانية أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)، والثالثة أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر، كقوله تعالى (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ) وكل ذلك تفنن في البلاغة، وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله (ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
(قليلاً ما يتذكرون) بالتحتية على الغيبة لأن قبلها وبعدها على الغيبة لا على الخطاب، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم، وبالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفاف وفائدته في مقام التوبيخ هي إظهار العنف الشديد، والإنكار البليغ أفاده الكرخي.
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا) أي لا شك في مجيئها وحصولها وقيامها لوضوح شواهدها، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها، ولأنه لا بد من جزاء لئلا يكون خلق الخلق للفناء خاصة (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) بتلك ولا يصدقونه لقصور أفهامهم، وضعف عقولهم، عن إدراك الحجة، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث، ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق وليس بمرتاب فيها. ولا شبهة في مجيئها، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو:
(وقال ربكم ادعوني استجب لكم) قال أكثر المفسرين: المعنى وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم، وأغفر لكم، وأجبكم وأثبكم. وقيل: هذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة، أي استجب لكم إن شئت، كقوله (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء الله) وقيل: المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر، قيل: الأول أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة.
قلت: بل الثاني أولى، لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعاً هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة، بل مخ العبادة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده
الحق، وما يبدل القول لديه، ولا يخلف الميعاد.
وعن ابن عباس قال: وحدوني أغفر لكم، وقال جرير بن عبد الله اعبدوني، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدعاء الاستغفار " أخرجه ابن مردويه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يدع الله يغضب عليه، أخرجه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة. وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء "، أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدعاء مخ العبادة "(1) أخرجه الترمذي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وعن ابن عباس قال أفضل العبادة الدعاء، وقرأ هذه الآية، وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم " أي العبادة أفضل؟ فقال دعاء المرء لنفسه ". ثم صرح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب هو من عبادته فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ) قرأ الجمهور بفتح الياء وضم الخاء وقرىء بالعكس مبينا للمفعول (دَاخِرِينَ) أي ذليلين صاغرين، وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم، وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التعويل عليه، وكفل لكم الإجابة باعطاء الطلبة فهو الكريم المطلق، الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا
(1) الدعاء وهو العبادة أخرجه أحمد 4/ 271 وغيره.
والدين.
وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ: وقال ربكم أدعوني إلى قوله داخرين، أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، والبخاري في الأدب، وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب، وأحمد وابن أبي شيبه وعبد بن حميد وسعيد بن منصور والطبراني.
ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده فقال:
(الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلماً بارداً تناسبه الراحة الظاهرية، بالسكون والنوم الذي هو الموت الأصغر، والراحة الحقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة (والنهار مبصراً) أي مضيئاً لتبصروا فيه حوائجكم، وتنصرفوا في طلب معايشكم، وهو من الإسناد المجازي، أي مبصراً فيه لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار.
(إن الله لذو فضل على الناس) يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى، ولِم يقل لمفضل أو لمتفضل لأن المراد تنكير الفضل، وأن يجعل فضلاً لا يوازيه فضل، وذلك إنما يكون بالإضافة (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) النعم ولا يعترفون بها إما لجحودهم لها ولكفرهم بها، كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهم للنظر وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم وهم الجاهلون، ولم يقل: ولكن أكثرهم حتى لا يتكرر ذكر الناس، لأن في هذا التكرير تخصيصاً لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه كقوله (إن الإنسان لكفور) وقوله:(إن الإنسان لظلوم كفار).
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
(ذلكم) أي الفاعل المخصوص بالأفعال المقتضبة للألوهية والربوبية (الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو) بيّن سبحانه في هذا كمال قدرته، المقتضية لوجوب توحيده (فأنى تؤفكون) أي فكيف تنقلبون عن عبادته وتنصرفون عن توحيده؟ وتصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان.
(كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون) أي مثل ذلك الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله، المنكرون لتوحيده، ثم ذكر لهم سبحانه نوعاً آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم، مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته، وتفرده بالإلهية فقال:
(الله الذي جعل لكم الأرض قراراً) أي موضع قرار مع كونها في غاية الثقل ولا ممسك لها سوى قدرة الله وفيها تحيون وفيها تموتون (والسماء بناء) أي سقفاً قائماً ثابتاً مع كونها أفلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة ينشأ عنها الليل والنهار، والإظلام والإضاءة، ثم بين بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد فقال:
(وصوركم فأحسن صوركم) أي خلقكم في أحسن صورة لم
يخلق حيواناً أحسن منكم، وقيل: لم يخلقكم منكوسين كالبهائم قيل خلق ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده، وغيره يتناول بفيه، وقال الزجاج خلقكم أحسن الحيوان كله، قرأ الجمهور صوركم بضم الصاد، وقرأ الأعمش وأبو رزين بكسرها قال الجوهري: والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها (ورزقكم من الطيبات) أي المستلذات من المأكل والمشرب من غير رزق الدواب.
(ذلكم) المنعوت بهذه المنعوت الجليلة (الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) أي كثر خيره وبركته
(هو الحي لا إله إلا هو) أي الباقي الذي لا يفنى، المتفرد بالألوهية، وهذا التركيب يفيد الحصر، وفيه إشارة إلى العلم التام والقدرة التامة الكاملة (فادعوه) أي اعبدوه (مخلصين له الدين) أي الطاعة والعبادة من الشرك.
(الحمد لله رب العالمين) قال الفراء هو خبر وفيه إضمار أمر، أي أحمدوه عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل إثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله (فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين) وعلى هذا هو من كلام المأمورين بالعبادة، ويجوز أن يكون من كلامه تعالى على أنه استئناف لحمد ذاته بذاته.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن الله نهاه عن عبادة غيره، وأمره بالتوحيد فقال:
(قل) لهم رداً عليهم فيما طلبوه منك وهو عبادة آلهتهم: (إني نهيت) نهياً عاماً ببراهين العقول ونهياً خاصاً بأدلة النقول (أن أعبد الذين تدعون) أي تعبدون (من دون الله) وهي الأصنام ثم بين وجه النهي فقال (لما جاءني البينات من ربي) وهي الأدلة العقلية والنقلية فإنها توجب التوحيد (وأمرت أن أسلم لرب العالمين) أي استسلم له بالانقياد والخضوع، أو الإخلاص ثم أردف هذا بذكر دليل من الأدلة الدالة على التوحيد فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
(هو الذي خلقكم) أي خلق أباكم الأول وهو آدم، وخلقه (من تراب) يستلزم خلق ذريته منه (ثم من نطفة ثم من علقة) قد تقدم تفسير هذا في غير موضع (ثم يخرجكم طفلاً) أي أطفالاً، وأفرده لكونه اسم جنس، أو على معنى: ثم يخرج كل واحد منكم طفلاً.
(ثم لتبلغوا أشدكم) وهي الحالة التي تجتمع فيها القوة والعقل من الثلاثين سنة إلى الأربعين، وقد سبق بيان الأشد مستوفي في الأنعام والتقدير لتكبروا شيئاًً فشيئاًً ثم لتبلغوا غاية الكمال (ثم) يبقيكم.
(لتكونوا شيوخاً) بضم الشين وبكسرها سبعيتان وقرىء شيخاً على الإفراد كقوله طفلاً والشيخ من جاوز أربعين سنة، يعني أن مراتب الإنسان بعد خروجه من بطن أمه ثلاث: الطفولية، وهي حالة النمو والزيادة إلى أن يبلغ كمال الأشد من غير ضعف، ثم يتناقص بعد ذلك وهي الشيخوخة.
(ومنكم من يتوفى من قبل) أي من قبل الأشد، ومن قبل الشيخوخة (ولتبلغوا) جميعاً (أجلاً مسمى) أي وقت الموت أو يوم القيامة، واللام هي لام التعليل أو العاقبة (ولعلكم تعقلون) أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة إلى الأجل المذكور.
(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يقدر على الإحياء والإماتة (فإذا قضى أمراً) من الأمور التي يريدها (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من غير توقف على شيء من الأشياء أصلاً وهذا تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها، وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه، من غير أن يكون هناك آمر ومأمور، والفاء الأولى للدلالة على أن ما بعدها من نتائج ما قبلها من اختصاص الإحياء والإماتة به سبحانه وتعالى، قاله أبو السعود وقد تقدم تحقيق معناه في البقرة وفيما بعدها.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن، وبسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك، كما أن ما سبق من قوله تعالى (إن الذين يجادلون في آيات الله) إلخ بيان لابتناء جدالهم على مبنى فاسد لا يكاد يدخل تحت الوجود هو الأمنية الفارغة، فلا تكرار فيه أي انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة، الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها؟ وانتفاء الصوارف عنها بالكلية، وقيام الأدلة الدالة على صحتها، وأنها في أنفسها موجبة للتوحيد قاله أبو السعود.
وقال النسفي ذكر الجدال في هذه السورة في ثلاثة مواضع، فجاز أن يكون في ثلاثة أقوام، أو ثلاثة أصناف، وللتأكيد انتهى. قال ابن زيد هم المشركون بدليل قوله الآتي
(الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا) قال القرطبي، وقال أكثر المفسرين نزلت في القدرية، قال ابن سيرين إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت، ويجاب عن هذا بأن الله سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدل على غير ما قالوه فقال:
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
(الذين كذبوا بالكتاب) وهذا وصف لا يصح أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام، والمراد بالكتاب إما القرآن، أو جنس الكتب المنزلة من عند الله، والموصول إما في محل جر على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم.
(وبما أرسلنا به رسلنا) معطوف على قوله (بالكتاب) ويراد به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس، أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب القرآن.
(فسوف يعلمون) عاقبة أمرهم، ووبال كفرهم، وفي هذا وعيد شديد والظرف في قوله
(إذ الأغلال في أعناقهم) متعلق بـ (يعلمون) أي فسوف يعلمون. وقت كون الأغلال في أعناقهم، أو اذكر لهم وقت الأغلال ليخافوا وينزجروا (والسلاسل) جمع سلسلة معروفة قال الراغب تسلسل الشيء اضطرب، كأنه تصور منه تسلسل متردد فتردد لفظه، تنبيه على تردد معناه، وماء سلسل متردد في مقره، معطوف على الأغلال، والتقدير إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم.
ويجوز أن يرتفع السلاسل على أنه مبتدأ، وخبره محذوف لدلالة في أعناقهم عليه، ويجوز أن يكون خبره (يسحبون
في الحميم) بحذف العائد أي يسحبون بها في الحميم، وهذا على قراءة الجمهور برفع السلاسل، وقرىء بنصبها، وقرأوا يسحبون بفتح الياء مبنياً للفاعل، فتكون السلاسل مفعولاً مقدماً، وقرىء بجر السلاسل، قال الفراء وهذه القراءة محمولة على المعنى، إذ المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل وقال الزجاج المعنى على هذه القراءة وفي السلاسل يسحبون، واعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية والسحب الجر بعنف، والسحاب من ذلك لأن الريح تجره أو لأنه يجر الماء، والحميم هو المتناهى في الحر، وقيل الصديد، وقيل جهنم. وقيل الماء الحار الذي يكسب الوجوه سواداً والأعراض عاراً، والأرواح عذاباً، والأجسام ناراً، وقد تقدم تفسيره قال ابن عباس يسحبون في الحميم فينسلخ كل شيء عليهم، من جلد ولحم وعرق، حتى يصير في عقبه، حتى إن لحمه قدر طوله، وطوله ستون ذراعاً، ثم يكسى جلداً آخر ثم يسجر في الحميم.
(ثم في النار يسجرون) يقال سجرت التنور، أي أوقدته، وسجرته ملأته بالوقود، ومنه (البحر المسجور) أي المملوء، فالمعنى توقد بهم النار أو تملأ بهم، والمراد أنهم يعذبون بألوان العذاب، وينقلون من باب إلى باب قال مجاهد ومقاتل: توقد بهم النار فصاروا وقودها، عن عبد الله بن عمرو قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذ الأغلال إلى قوله: يسجرون، فقال: لو أن رصاصة مثل هذه -وأشار إلى جمجمة- أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن يبلغ أصلها. أو قال:
قعرها "، أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور.
(ثم قيل لهم) أي يقال لهم، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق (أين ما كنتم تشركون) من دون الله هذا توبيخ وتقريع لهم، أي أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله؟ وهي الأصنام وغيرها، وترسم أين مفصولة من ما كما أشار إليه ابن الجزري
(قالوا ضلوا عنا) أي يقولون: ذهبوا وغابوا، وفقدناهم فلا نراهم، ثم أضربوا عن ذلك وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم، وأنه لا وجود لهم فقالوا:
(بل لم نكن ندعو من قبل شيئاًً) أي لم نكن نعبد شيئاًً، قالوا هذا بعد ما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة، وأنهم كانوا يعبدون ما لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وليس هذا إنكاراً منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها، بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة، كقولك: حسبته شيئاًً فلم يكن كذلك، وقال المحلي: أنكروا عبادتهم إياها انتهى. وهذا المعنى بعيد في مقام الحساب والعرض على رب العالمين (كذلك) الضلال الفظيع (يضل الله الكافرين) حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار.
(ذلكم) أي ذلك الإضلال المدلول عليه بالفعل أو العذاب (بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق) أي تظهرون في الدنيا. من الفرح بمعاصي الله، والسرور بمخالفة رسله وكتبه، وقيل: بما كنتم تفرحون به من المال والأتباع والصحة، وقيل: من إنكار البعث والعذاب، وقيل: المراد بالفرح هنا البطر والتكبر (وبما كنتم تمرحون) المراد بالمرح الزيادة في البطر، وقال مجاهد وغيره: تبطرون وتأشرون، وقال الضحاك: الفرح السرور. والمرح العدوان وقال مقاتل: المرح البطر والخيلاء وقيل المرح أشد من الفرح.
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
(ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) السبعة المقسومة لكم، قال تعالى: لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، حال كونكم (خالدين فيها) أي مقدرين الخلود فيها (فبئس مثوى) أي مأوى (المتكبرين) عن قبول الحق جهنم وكان الظاهر أن يقال: مدخل، وعبر عنه بالمثوى لكون دخولهم بطريق الخلود قاله أبو السعود، وقال السمين لم يقل مدخل لأن الدخول لا يدوم، وإنما يدوم الثواء فلذلك خصه بالذم، وإن كان الدخول أيضاًً مذموماً، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر تسلية له فقال:
(فاصبر إن وعد الله) أي وعده بالانتقام منهم (حق) كائن لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا قال:(فإما نرينك بعض الذي نعدهم) من العذاب في الدنيا، بالقتل والأسر والقهر، وما زائدة عند المبرد والزجاج، والأصل نرك، ولحقت بالفعل نون التأكيد (أو نتوفينك) معطوف على نرينك أي قبل إنزال العذاب بهم (فإلينا
يرجعون) يوم القيامة فنعذبهم أشد العذاب.
(ولقد أرسلنا رسلاً) وأنبياء (من قبلك) إلى أممهم (منهم من قصصنا عليك) أي أنبأناك بأخبارهم في القرآن، وما لقوه من قومهم، وهم خمسة وعشرون (ومنهم من لم نقصص عليك) فيه خبره ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينه وبين قومه، وعن علي بن أبي طالب في الآية قال: بعث الله عبداً حبشياً فهو ممن لم يقصص على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن أبي ذر قال: قلت: " يا رسول الله كم عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً "، أخرجه أحمد، وعبر عنه في الكشاف بقيل.
(وما كان) أي ما صح وما استقام (لرسول) منهم (أن يأتي بآية) أي معجزة دالة على نبوته (إلا بإذن الله) لا من قبل نفسه، فإن المعجزات عطايا قسمها الله تعالى بينهم، على ما اقتضته حكمته، كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها، والاستبداد بإتيان المقترح بها لأنهم عبيد مربوبون (فإذا جاء أمر الله) أي الوقت المعين لعذابهم في الدنيا وفي الآخرة (قضى بالحق) فيما بين الرسل ومكذبيها، فينجي الله بقضائه الحق عباده المحقين.
(وخسر هنالك) أي في ذلك الوقت (المبطلون) الذين يتبعون الباطل ويعملون به، وهم خاسرون في كل وقت قبل ذلك، وختمه بقوله:(المبطلون)، وختم السورة بقوله:(الكافرون)، لأن الأول متصل بقوله: قضى بالحق، ونقيض الحق هو الباطل، والثاني متصل بإيمان غير نافع ونقيض الإيمان الكفر أفاده الكرخي، ثم امتن الله سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى فقال:
(الله الذي جعل لكم الأنعام) أي خلقها لأجلكم، قال الزجاج: الأنعام هنا الإبل خاصة، وقيل: الأزواج الثمانية، والأول هو الظاهر لأنها
هي التي توجد فيها المنافع الآتية كلها، وقوله:(لتركبوا منها) تفصيل لهذا الإجمال، ومن للتبعيض، وكذلك في قوله:
(ومنها تأكلون) أو لابتداء الغاية في الموضعين ومعناها ابتداء الركوب، وابتداء الأكل، والأول أولى. والمعنى لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها.
(ولكم فيها منافع) أخر غير الركوب والأكل من الوبر والصوف والشعر، والزبد والسمن والجبن، والدر والنسل، وغير ذلك (ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم) قال مجاهد ومقاتل وقتادة: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وقد تقدم بيان هذا مستوفى في سورة النحل:
(وعليها وعلى الفلك تحملون) أي على الإبل في البر، وعلى السفن في البحر، وقيل: المراد بالحمل على الأنعام هنا حمل الولدان والنساء في الهوادج، وهو السر في فصله عن الركوب، وفي الجمع بينهما من المناسبة التامة حتى سميت سفائن البر، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة النحل (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع) الآية، لكن هذه أجمع منها.
(ويريكم آياته) أي دلالاته الدالة على كمال قدرته ووحدانيته (فأي) آية من (آيات الله تنكرون) فإنها كلها من الظهور، وعدم الخفاء، بحيث لا ينكرها منكر، ولا يجحدها جاحد، وفيه تقريع لهم وتوبيخ عظيم وتذكير أي أشهر من تأنيثه، فلذلك لم يقل فأية آيات الله لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء الجامدة نحو حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لابهامها، ونصب أي بـ (تنكرون) وإنما قدم على العامل فيه لأن له صدر الكلام، ثم أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار والتفكر في آيات الله فقال:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
(أفلم يسيروا في الأرض) أي في أطرافها ونواحيها (فينظروا) بأبصارهم وبصائرهم (كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) من الأمم التي عصت الله وكذبت رسلها، فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدل على ما نزل بهم من العقوبة، وما صاروا إليه من سوء العاقبة، ثم بين سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوة فقال:
(كانوا أكثر منهم) عدداً (وأشد قوة) أي أقوى منهم أجساداً وأوسع منهم أموالاً (و) أظهر منهم (آثاراً في الأرض) بالعمائر والمصانع والحصون والصهاريج والحرث (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) يجوز أن تكون (ما) الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به، أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم.
(فلما جاءتهم رسلهم بالبينات) أي بالحجج الواضحات، والمعجزات الظاهرات (فرحوا بما عندهم من العلم) أي أظهر الكفار الفرح بما عندهم مما يدعون أنه من العلم، من الشبه الداحضة، والدعاوى الزائغة، والفنون الفاسدة، والعلوم الكاسدة، وسماه علماً تهكماً بهم، أو
على ما يعتقدونه، وقال مجاهد: قالوا نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث، وقيل المراد من العلم علم أحوال الدنيا لا الدين كما في قوله:
(يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) قال النسفي: أو علم الفلاسفة والدهريين، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم، وعن سقراط أنه سمع بموسى وقيل له لو هاجرت إليه؟ فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا، أو المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء به، كأنه قال: استهزأوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي، فرحين مرحين، انتهى: وقيل: الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم الرسل، وذلك أنهم لما كذبهم قومهم وأعلمهم الله بأنه مهلك الكافرين ومنجى المؤمنين، ففرحوا بذلك.
(وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي أحاط بهم جزاء استهزائهم
(فلما رأوا باسنا) أي عاينوا عذابنا النازل بهم في الدنيا (قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها.
(فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) أي عند معاينة عذابنا لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه، فإنه إنما ينفع الإِيمان الاختياري لا الإِيمان الاضطراري، والفاآت من قوله: فما أغنى إلى هنا أربع: الأولى لبيان عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم، أي أن عاقبتها خلاف وضد ما كانوا يؤملونه منها، وهو نفعها، فلم يترتب عليها، بل ترتب عدمه، كقولك: وعظته فلم يتعظ، والثانية تشير لتفصيل ما أبهم وأجمل من عدم الإغناء، والثالثة لمجرد التعقيب، وجعل ما بعدها تابعاً لما قبلها واقعاً عقيبه، لأن مضمون قوله: فلما جاءتهم الخ أنهم كفروا فكأنه قيل فكفروا ثم لما رأوا بأسنا آمنوا والرابعة للعطف على آمنوا، كأنه قيل: فآمنوا فلم ينفعهم، لأن النافع هو الإيمان الاختياري (1).
(سنة الله التي قد خلت) أي مضت (في عباده) المعنى أن الله
(1) زاد المسير/238.
سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، وقد مضى بيان هذا مستوفى في سورة النساء وسورة التوبة، وانتصاب سنة على أنها مصدر مؤكد لفعل محذوف بمنزلة وعد الله، وما أشبهه من المصادر المؤكدة، وقيل منصوب على التحذير أي احذروا يأهل مكة سنة الله في الأمم الماضية، والأول أولى.
(و) قد (خسر هنالك الكافرون) أي وقت رؤيتهم بأس الله، ومعاينتهم لعذابه على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفا قاله أبو السعود وقال السمين: لا يحتاج لهذا، بل يصح إبقاؤه على أصله، قال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.