المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٥

[صديق حسن خان]

الفصل: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‌

(168)

(وقطعناهم في الأرض أمماً) أي فرقناهم في جوانبها أو شتتنا أمرهم فلم تجتمع لهم كلمة، قال ابن عباس: هم اليهود بسطهم الله في الأرض فليس فيها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة، وقيل المعنى وجعلنا كل فرقة منهم في قطر بحيث لا تخلو ناحية من الأرض منهم حتى لا تكون لهم شوكة، قاله أبو السعود فلا توجد بلدة كلها يهود، ولا لهم قلعة ولا سلطان بل هم متفرقون في كل الأماكن.

(منهم الصالحون) قيل: هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدل، قال الطبري: وصفهم بذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وكفرهم بربهم ويدل له قوله الآتي: فخلف من بعدهم خلف، وقيل: هم الذين سكنوا وراء الصين ولا يصح كما تقدم بيانه.

(ومنهم دون ذلك) أي دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح والتقدير: ومنهم أناس أو قوم دون ذلك والمراد بهؤلاء من لم يؤمن بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به.

(وبلوناهم بالحسنات والسيئات) أي امتحناهم جميعاً الصالح وغيره بالخير والشر، قال ابن عباس: الحسنات: الرخاء والعافية، والسيئات: البلاء والعقوبة أو الخصب والجدب (لعلهم يرجعون) أي رجاء أن يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي.

ص: 64

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

ص: 65

(فخلف من بعدهم خلف) المراد بهم أولاد الذين قطعهم الله في الأرض قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد والجمع سواء، والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غيره، وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح وبالسكون الطالح ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر والمعنى جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف والخلف القرن الذي يجيء بعد قرن كان قبله.

(ورثوا الكتاب) أي: التوراة من أسلافهم يقرأونها ولا يعملون بها، والمراد بإرثه: انتقاله إليهم ووقوعه في أيديهم (يأخذون عرض هذا الأدنى) أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم وقوة نهمتهم، والعرض بفتح الراء جميع متاع الدنيا كما يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير، والأدنى مأخوذ من الدنو وهو القرب أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشا وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة وكتمهم لما يكتمونه منها.

وقيل إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط أي أنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء الساقط التافه الخسيس الحقير، والمعنى متقارب لأن الدنيا بأسرها

ص: 65

حقيرة فانية والراغب فيها أحقر منها.

وعن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال: أقوام يقبلون على الدنيا فيأكلونها ويتبعون رخص القرآن ويقولون سيغفر لنا ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، وقال مجاهد: هم النصارى يأخذون عرض هذا الأدنى ما أشرف لهم شيء من الدنيا حلالاً أو حراماً يشتهونه أخذوه ويتمنون المغفرة، وإن يجدوا مثله يأخذوه كما سيأتي.

(ويقولون سيغفر لنا) أي ويعللون أنفسهم بالمغفرة مع تماديهم في الضلالة وعدم رجوعهم إلى الحق، ويتمنون على الله الأماني الباطلة الكاذبة والمراد بهذا الكلام التقريع والتوبيخ لهم، عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:" الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني "(1)، أخرجه الترمذي، وكان اليهود يقدمون على الذنوب ويقولون سيغفر لنا.

وهذا هو التمني بعينه والحال أنهم (إن يأتهم) كما يؤخذ من الكشاف، وقال السفاقسي أنه مستأنف (عرض مثله يأخذوه) أي مثل الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة ولا خائفين من التبعة، وقيل الضمير في يأتهم: ليهود المدينة أي: وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وآله وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم أخذوه كما أخذ أسلافهم.

(ألم يؤخذ عليهم) أي على هؤلاء المرتشين في أحكامهم، والاستفهام للتقريع والتوبيخ أو للتقرير، فالمعنى أخذ عليهم الميثاق لأن القصد منه إثبات ما بعد النفي (ميثاق الكتاب) أي التوراة (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون

(1) المستدرك كتاب الإيمان 1/ 57.

ص: 66

منها قاله ابن عباس.

(و) الحال أنهم قد (درسوا ما فيه) أي الكتاب وعلموه ولم يأتوه بجهالة فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل، وذلك أشد ذنباً وأعظم جرماً وقيل معناه: محوه بترك العمل به وإلْفهم له من قولهم درست الريح الآثار إذا محتها (والدار الآخرة خير) من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها وارتشوا في الأحكام (للذين يتقون) الله ويخافون عقابه ويجتنبون معاصيه (أفلا تعقلون) فتعلمون بهذا وتفهمونه، وفي هذا الالتفات من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره.

ص: 67

(والذين يمسكون بالكتاب) قرأ الجمهور بالتشديد من مسَّك بالشيء وتمسك به أي استمسكوا بالكتاب وهو التوراة وقرئ بالتخفيف من أمسك مسك، والمعنى أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب ولا يعملون بما فيه مع كونهم قد درسوه وعرفوه وهم من تقدم ذكرهم، وطائفة يتمسكون بالكتاب أي التوراة ويعملون بما فيه ويرجعون إليه في أمر دينهم فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله وقال عطاء: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

(وأقاموا الصلاة) أي داموا على إقامتها في مواقيتها، قال الحسن: هي لأهل الإيمان منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وقال مجاهدة، هي لليهود والنصارى وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة لأنها رأس العبادات وأعظمها وعماد الدين وناهية عن الفحشاء والمنكر وكان ذلك وجهاً لتخصيصها بالذكر، وقيل لأنها تقام في أوقات مخصوصة والتمسك بالكتاب مستمر فذكرت لهذا وفيه نظر، فإن كل عبادة في الغالب تختص بوقت معين (إنا لا نضيع أجر المصلحين) الجملة خبر الذين وفيه وضع الظاهر موضع المضمر.

ص: 67

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)

ص: 68

(وإذ) أي اسألهم إذ والغرض من هذا إلزام اليهود والرد عليهم في قولهم: إن بني إسرائيل لم يصدر منهم مخالفة في الحق (نتقنا) النتق اختلفت فيه عبارات أهل اللغة فقال أبو عبيدة: هو قلع الشيء من موضعه والرمي به ومنه نتق ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه، وامرأة ناتق ومنتاق إذا كانت كثيرة الولادة، وفي الحديث:" عليكم بزواج الأبكار فإنهن أنتق أرحاماً وأطيب أفواهاً، وأرضى باليسير "(1)، وقيل النتق الجذب بشدة ومنه نتقت السقاء إذا جذبته بشدة لتقلع الزبدة من فمه، وقال الفراء: هو الرفع، وقال ابن قتيبة هو الزعزعة وبه فسر مجاهد.

وكل هذه معان متقاربة أي رفعنا (الجبل) من أصله وهو الطور الذي سمع موسى عليه كلام ربه وأعطي الألواح وقيل هو جبل من جبال فلسطين وقيل هو الجبل عند بيت المقدس وكان ارتفاعه على قدر قامتهم، فكان محاذياً لرؤوسهم كالسقيفة (فوقهم كأنه) لارتفاعه (ظلة) أي سحابة تظلهم وهي اسم لكل ما أظل، وقال البيضاوي: كأنه سقيفة وهي كل ما أظلك وقرىء طلة بالطاء من أطل عليه إذا أشرف.

(وظنوا) قيل الظن هنا بمعنى العلم وقيل هو على بابه (أنه) أي الجبل (واقع بهم) أي ساقط عليهم (خذوا) أي قلنا لهم خذوا (ما آتيناكم بقوة) هي الجد والعزيمة أي أخذاً كائناً بقوة واجتهاد، قال ابن عباس: أي خذوا ما

(1) صحيح الجامع الصغير 3932.

ص: 68

آتيناكم وإلا أرسلته عليكم ورفعته الملائكة فوق رؤسهم فكانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا سمعنا وعصينا.

وعنه قال: إني لأعلم لم يسجد اليهود إلا على حرف قال الله وإذ نتقنا الجبل قال لتأخذن أمري أو لأرمينكم به فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم وكانت سجدة رضيها الله سبحانه فاتخذوها سنة، وقال قتادة في الآية انتزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم فسجد كل واحد منهم على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفاً أن يسقط عليه، ولذلك لا تسجد اليهود إلا على شق وجوههم الأيسر.

(واذكروا ما فيه) من الأحكام التي شرعها الله لكم ولا تنسوها (لعلكم تتقون) أي رجاء أن تتقوا ما نهيتم عنه وتعملوا بما أمرتم به، وقد تقدم تفسير ما هنا في البقرة مستوفى فلا نعيده.

ص: 69

(وإذ أخذ ربك من بني آدم) وكذا من آدم فالأخذ منه لازم للأخذ منهم لأن الأخذ منهم بعد الأخذ منه، ففي الآية الاكتفاء باللازم عن الملزوم (من ظهورهم) بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار، قاله الكواشي، والذي في الكشاف أنه بدل بعض من كل، قال الحلبي: وهو الظاهر وإيثار الأخذ على الإخراج للاعتناء بشأن المأخوذ لما فيه من الإنباء عن اختيار الاصطفاء وهو السبي في إسناده إلى الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي وإضافته إلى ضميره عليه السلام للتشريف.

(ذريتهم) هي تقع على الواحد والجمع، واستدل بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا هم ذرية بني آدم أخرجهم الله من أصلابهم نسلاً بعد نسل على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء فلذلك قال من ظهورهم ولم يقل من ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنو آدم، وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين وقالوا معنى (وأشهدهم على أنفسهم) دلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد فتكون هذه الآية من باب التمثيل كما في قوله تعالى فقال لها

ص: 69

وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين وبه قال الشيخ أبو منصور والزجاج والزمخشري.

وقيل المعنى أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد وأنه جعل فيها من المعرفة ما فهمت به خطابه سبحانه، وقيل المراد ببني آدم هنا نفسه كما وقع في غير هذا الموضع، والمعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد وهؤلاء هم عالم الذر وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفاً على غير واحد من الصحابة ولا ملجئ للمصير إلى المجاز، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.

وقد ذكر البيضاوي والنسفي القولين وكذا الرازي وأبو السعود وغيرهما من المفسرين الذين مستهم الفلسفة، والحق ما ذكرناه وإليه ذهب جمهور المفسرين.

وقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في المسند وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات والضياء في المختارة عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عنها فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال

ص: 70

أهل النار فيدخله النار " (1).

ومسلم بن يسار (2) لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر بن الخطاب رجلاً قال البغوي: قلت ذكر الطبري في بعض طرق هذا الحديث الرجل فقال عن مسلم بن يسار عن يعمر بن ربيعة عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وفي الباب عن أبي هريرة يرفعه عند الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وفيه قصة إعطاء آدم ابنه داود أربعين سنة من عمره.

واختلف الناس في كيفية الاستخراج على أقوال لا مستند لها والحق وجوب اعتقاد إخراجها من ظهر آدم كما شاء الله تعالى كما ورد في الصحيح، قال المقبلي في الأبحاث المسددة ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات الواردة في ذلك، وقال بعضهم الظاهر أنه استخرجهم أحياء لأنه سماهم ذرية والذرية هم الأحياء لقوله:(أنا حملنا ذريتهم في الفلك) قال ابن عباس: إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدهناء أرض الهند فمسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى يوم القيامة ثم أخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد كل واحد منهم.

(ألست بربكم) أي قائلاً هذا فهو على إرادة القول، وفي هذه الآية رد على أهل المعاني في قولهم: إن الإغراق غير مقبول ما لم يقارن كاد، ونحو هذا مما شهد به الذوق السليم وزكّى شهادته الطبع المستقيم.

قال الشهاب في الريحانة: وهذا وإن سلمه علماء المعاني والبيان إلا أنه محتاج إلى الإيضاح والبيان فإنه يعترض عليه بما يعارضه ويكدره ورود ما يناقضه كقوله عز وجل هذا. فإنه بمعناه إذ إخراج الذرية من الظهور قبل الخلق والظهور وأخذ المواثيق والعهود مما يقتضي الترغيب والترهيب، وهذا على سبيل

(1) ضعيف الجامع الصغير 1602.

(2)

راوي الحديث عن عمر.

ص: 71

التحقيق دون التخييل والتقدير.

وقد ذكر هذا في حديث الصحيحين المعلوم عند علماء الحديث ولهم فيه طريقان مشهوران وهو مما خفي على كثير من العلماء ولهم فيه كلام محتاج للإيضاح فأقول لعلماء التفسير فيه طريقان.

(الأول) إنه من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وعلى هذا لا يبقى فيه إشكال، ولا للبحث عنه مجال.

(الثاني) إن له معنى جليلاً قام عليه أقوى برهان ودليل، فمنهم من ذهب إلى أنه استعارة وتمثيل نزّل فيه وضوح الأدلة القائمة على توحيده تعالى وصحة أحكام الشريعة المركوزة في الفطرة السليمة منزلة بروزهم في الخارج، وأخذ العهود منزلة اتباع ما ذكر وتسليمه والعمل بمقتضاه، فلا يرد عليه شيء مما ذكر.

ونحن نقول: إن الأمر الذي وقع فيه المبالغة لا يخلو إما أن يقع بعد زمان بعيد كالساعة أو لا يقع، وهو إما محال متعذر الوقوع له نظائر ومشابه أو لا، الأول مقبول لتنزيل المتحقق الوقوع منزلة الواقع، وكذا الثاني لإمكان أن يراد مجاز أو كناية والأخير هو محل الكلام، والذي عليه أهل المعاني أنه مردود ما لم يقترن به مسوغ مثل كاد ونحوها، والآية ليست من هذا القبيل لإسنادها لله الذي أبرز المعدومات من أرحام العدم، ولا يقتضي قدرته شيء في القدم، فما علينا إلا الإيمان بذلك، وما لم تصل له أفهامنا نكله إليه ونسأله أن يهدينا للوقوف عليه، وكفى هذا الاحتمال في مثل هذه الحال، وما بعد الهدى إلا الضلال انتهى.

(قالوا بلى شهدنا) أي على أنفسنا بأنك ربنا، واختلفوا في الإجابة هذه كيف كانت هل كانوا أحياء فأجابوا بلسان المقال، أو أجابوه بلسان الحال

ص: 72

والظاهر الأول ونكل علم كيفيتها إلى الله سبحانه، وكان هذا القول على وفق السؤال لأنه تعالى سألهم عن تربيتهم ولم يسألهم عن إلههم فقالوا بلى فلما انتهوا إلى زمان التكليف وظهر ما قضى الله في سابق علمه لكل أحد منهم من وافق ومنهم من خالف قاله أبو طاهر القزويني.

وقيل تجلى للكفار بالهيبة وللمؤمنين بالرحمة، فقال كلهم بلى، قيل وكان ذلك قبل دخول آدم الجنة بين مكة والطائف قاله الكلبي، وقيل بعد الهبوط منها، وقال علي في الجنة وقيل بسرانديب من أرض الهند، وهو الموضع الذي هبط آدم فيه من الجنة، وكل ذلك محتمل، ولا يضرنا الجهل بالمكان بعد صحة الاعتقاد بأخذ العهد والله أعلم.

أخرج أحمد والنسائي وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه كالذر، ثم كلمهم فقال: ألست بربكم إلى قوله .. المبطلون "، وإسناده لا مطعن فيه (1).

وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي والطبراني وأبو الشيخ عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال يا أصحاب اليمين فاستجابوا له، فقالوا لبيك ربنا وسعديك قال ألست بربكم قالوا بلى، الحديث ".

والأحاديث في هذا الباب كثيرة بعضها مقيد بتفسير هذه الآية وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره وأخذ العهد عليهم كما في

(1) صحيح الجامع الصغير 1697.

ص: 73

حديث أنس مرفوعاً في الصحيحين وغيرهما، وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذر وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة جداً، وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره، وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل.

وقال أهل الكلام والنظر قولهم: بلى شهدنا على المجاز لا على الحقيقة، وهو خلاف مذهب جمهور المفسرين من السلف، قال ابن الأنباري: مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم صور كالذر وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم، وأنهم مصنوعه، فاعترفوا بذلك وقبلوه وذلك بعد أن ركب فيهم عقولاً عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبال عقولاً حتى خوطبوا بقوله:(يا جبال أوّبي معه) وكما جعل للبعير عقلاً حتى سجد للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الشجرة حتى سمعت لأمره وانقادت.

وقولهم: شهدنا إقرار له بالربوبية وكلام مستأنف وقيل شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار وليس في الآية ما يدل على بطلان ما ورد في الأحاديث، وقد ورد الحديث بثبوت ذلك وصحته فوجب المصير إليه والأخذ به جميعاً بينهما، وحكى الواحدي عن صاحب النظم أنه قال ليس بين قوله صلى الله عليه وسلم إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وبين الآية اختلاف بحمد الله تعالى لأنه تعالى إذا أخرجهم من ظهر آدم فقد أخرجهم من ظهور ذريته، لأن ذرية آدم كذرية بعضهم من بعض.

فإن قيل إذا سبق لنا عهد وميثاق مثل هذا فلأي شيء لا نذكره اليوم، والجواب على ما ذكره سليمان الجمل إننا لم نتذكر هذا العهد لأن تلك البنية قد انقضت وتغيرت أحوالها بمرور الدهور عليها في أصلاب الأباء وأرحام

ص: 74

الأمهات وتطور الأطوار الواردة عليها من العلقة والمضغة واللحم والعظم، وهذا كله مما يوجب النسيان.

وكان علي بن أبي طالب يقول إني لأذكر العهد الذي عهد إليّ ربي، وكذا كان سهل بن عبد الله التستري يقول اهـ.

قلت: وكذا روي عن الشيخ نظام الدين الدهلوي المعروف بسلطان الأولياء ثم ابتدأهم بالخطاب على ألسنة الرسل وأصحاب الشرائع فقام ذلك مقام الذكر، ولو لم ينسوه لانتفت المحنة والتكليف، ولم يبلغنا في كون تلك الذرات مصورة بصورة الإنسان دليل، والأقرب للعقول عدم الاحتياج إلى كونها بصورة الإنسان إذ السمع والنطق لا يفتقران إلى الصورة بل يقتضيان محلا حياً لا غير، ويحتمل أن يكونوا مصورين بصورة الإنسان لقوله تعالى:(من ظهورهم ذرياتهم) ولم يقل ذراتهم ولفظ الذرية يقع على المصورين.

والحكمة في أخذ الميثاق منهم إقامة الحجة على من لم يوف بذلك العهد، والظاهر أنه لما ردهم إلى ظهره قبض أرواحهم، وأما أن الأرواح أين رجعت بعد رد الذرات إلى ظهره فهذه مسألة غامضة لا يتطرق إليها النظر العقلي بأكثر من أن يقال رجعت لما كانت عليه قبل حلولها في الذرات.

وورد أن كتاب العهد والميثاق مودع في باطن الحجر الأسود، ذكره الشعراني في رسالته [القواعد الكشفية في الصفات الإلهية] وذكر فيها على هذه الآية اثني عشر سؤالاً وأجاب عنها، والحق عندي إن كل ما لم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة فإطواؤه على غرة أولى وترك الخوض فيه أحرى.

(أن تقولوا) أي كراهة أن أو لئلا تقولوا (يوم القيامة إنا كنا عن هذا) أي عن كون الله ربنا وحده لا شريك له (غافلين).

ص: 75

أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)

ص: 76

(أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا) أي فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم وأو لمنع الخلو دون الجمع فقد يعتذرون بمجموع الأمرين (من قبل) أي قبل زماننا (وكنا ذرية من بعدهم) أي أتباعاً لهم فاقتدينا بهم في الشرك لا نهتدي إلى الحق ولا نعرف الصواب (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) من آبائنا ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر واقتفائنا آثار سلفنا.

بيَن الله سبحانه في هذه الآية الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة ويعتلوا بهذه العلة الباطلة ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة ففي هذه الآية قطع لعذر الكفار فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل ذلك.

وقال أهل النظر: المراد منه مجرد نصب الدلائل وإظهارها للعقول، والحق هو الأول والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد والتذكير له على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس.

ص: 76

(وكذلك) أي مثل ذلك التفصيل البليغ (نفصل الآيات) لهم ليتدبروها (ولعلهم يرجعون) إلى الحق ويتركون ما هم عليه من الباطل وقيل يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه والمآل واحد.

ص: 76

(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) وهي علوم الكتب القديمة والتصرف بالاسم الأعظم فكان يدعو به حيث شاء فيجاب بعين ما طلب في

ص: 76

الحال، وإيراد هذه القصة منه سبحانه وتذكير أهل الكتاب بها لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة.

وقد اختلف في هذا الذي أوتي الآيات فقيل هو بلعم بن باعوراء، قاله ابن عباس، وفي لفظ بلعام بن باعر الذي أوتي الإسم الأعظم، كان في بني إسرائيل وبه قال مجاهد، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة.

وقيل كان قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الأيمان فأعطوه الأعطية الواسعة فاتبع دينهم وترك ما بعث به فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى فقام ليدعو عليه فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه فقيل له في ذلك فقال لا أقدر على أكثر مما تسمعون، واندلع لسانه على صدره فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة وسأمكر لكم وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنا فإن وقعوا فيه هلكوا فوقع بنو إسرائيل في الزنا فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفاً.

وقيل إن هذا الرجل اسمه باعم وهو من بني إسرائيل، وقيل من الكنعانيين من بلد الجبارين وقال مقاتل: هو من مدينة البلقاء وقال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن آبن، والقصة ذكرها جماعة من المفسرين وفيها أن موسى دعا على بلعام بأن ينزع عنه الإسم الأعظم والإيمان.

ولا يصح ذلك من غير نظر فيه ولا بحث.

وقيل المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك فلما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده

ص: 77

وكفر به، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وقيل: هو أبو عامر بن صيفي، وكان يلبس المسوح في الجاهلية فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وكانت الأنصار تقول هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق، وقيل: نزلت في البسوس رجل من بني إسرائيل قاله ابن عباس وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب قاله الحسن وابن كيسان وقيل نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكفروا بها، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكفروا به.

وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى ولم يقبله، قيل والمراد بالآيات اسم الله الأكبر قاله ابن عباس، وقال ابن زيد: كان لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه قال السدي: كان يعلم اسم الله الأعظم، وقيل إنه أوتي كتاباً وقيل إن الله آتاه حجة وأدلة (1).

(فانسلخ منها) كما تنسلخ الحية والشاة عن جلدها فلم يبق له بها اتصال، وقال ابن عباس: نزع منه العلم والإنسلاخ التعري من الشيء، وليس في الآية قلب إذ لا ضرورة تدعو إليه وإن زعمه بعضهم وأن أصله فانسلخت منه.

(فأتبعه الشيطان) عند انسلاخه عن الآيات أي لحقه فأدركه وصار قريناً له أو فأتبعه خطواته وصيره تابعاً لنفسه وقيل أتبعه بمعنى استتبعه (فكان من الغاوين) أي المتمكنين في الغواية وهم الكفار.

(1) راجع فقه اسم الله الأعظم في زاد المسير 3/ 288.

ص: 78

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

ص: 79

(ولو شئنا) رفعه بما آتيناه من الآيات (لرفعناه بها) أي بسببها إلى منازل العلماء ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها وتركه للعمل بها، وقيل: المعنى لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها أي بالعمل بها قاله ابن عباس وقال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات.

(ولكنه أخلد) أصل الإخلاد اللزوم يقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه، والمعنى هنا أنه مال وسكن إلى الدنيا ورغب فيها ورضي بها واطمأن وآثرها على الآخرة (إلى الأرض) هي هنا عبارة عن الدنيا لأن بها المفاوز والقفار والمدن والضياع والمعادن والنبات، ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا فالدنيا كلها هي الأرض.

(واتبع هواه) أي ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله وهو حطام الدنيا وقيل كان هواه مع الكفار وقيل: اتبع رضاء زوجته وكانت هي التي حملته على الإنسلاخ من آيات الله، وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا وشهوات النفس ويتبعون الهوى.

(فمثله كمثل الكلب) أي وصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطاً إلى أسفل رتبة مشابهاً لأخس الحيوانات في الدناءة مماثلاً له في أقبح أوصافه (إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) أي في كلتا حالتي قصد

ص: 79

الإنسان له وتركه هو لاهث سواء زجر أو ترك، طرد أو لم يطرد، شد عليه أو لم يشد، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء.

والمعنى مثله كمثل الكلب حال كونه متصفاً بهذه الصفة أي: إن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ وذكره المذكر وزجره الزاجر أو لم يقع شيء من ذلك، قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته فقال إن وعظته ضل وإن تركته ضل فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث كقوله تعالى: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون).

واللهث: إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك قاله الجوهري قيل معنى الآية إنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هارباً وإن تركته شد عليك ونبح فيتعب نفسه مقبلاً عليك ومدبراً عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان، يقال لهث الكلب يلهث إذا أدلع لسانه.

(ذلك) أي التمثيل بتلك الحالة الخسيسة (مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) من اليهود بعد أن علموا بها وعرفوها فحرفوا وبدلوا وكتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذبوا بها، وقيل عم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها وهو الحق لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (فاقصص القصص) الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات عليهم فإن مثل المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذين نقص عليهم (لعلهم يتفكرون) في ذلك ويعملون فيه إفهامهم فينزجرون عن الضلال ويقبلون على الصواب، وقيل هذا المثل لكفار مكة ولا وجه لتخصيصه بفرد دون فرد والأولى هو العموم.

ص: 80

(ساء مثلاً) هذه الجملة متضمنة لبيان حال هؤلاء القوم البالغة في القبح إلى الغاية يقال ساء الشيء قبح فهو لازم وساءه يسوءه مساءة فهو متعد وهو من أفعال الذم كبئس والمخصوص بالذم (القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) أي ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها، وقيل المعنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم وهذا أفيد.

ص: 81

(من يهدي الله) أي يرشده إلى دينه أو يتول هدايته (فهو المهتدي) لما أمر به وشرعه لعباده (ومن يضلل) أي يتول ضلالته (فأولئك هم الخاسرون) الكاملون في الخسران من هداه فلا مضل له ومن أضله فلا هادي له ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وابن مردوية والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم يقول بعثت أنا والساعة كهاتين (1).

فلو كان الهدى من الله البيان كما قالت المعتزلة لاستوى الكافر والمؤمن إذ البيان ثابت في حقهما فدل أنه من الله التوفيق والعصمة والمعونة ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن.

(1) مسلم/867.

ص: 81

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)

ص: 82

(ولقد ذرأنا لجهنم) أي خلقنا للتعذيب بها خلقاً (كثيراً من) طائفتي (الجن والإنس) جعلهم سبحانه للنار بعدله وبعمل أهلها يعملون وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن النجار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (1)، أخرجه مسلم.

(لهم قلوب لا يفقهون بها) شيئاً من أمور الآخرة، جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم ورشادهم غير فاقهة مطلقاً، وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم والفقه في اللغة الفهم والعلم بالشيء يقال فقه الرجل فهو فقيه إذا فهم، وهكذا معنى (ولهم أعين لا يبصرون بها) طريق الهدى والحق (ولهم آذان لا يسمعون بها) الحق فإن الذي انتفى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار وإن كانت مبصرة في غير ذلك، والذي انتفى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة وما جاءت به رسل الله عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا يسمعون غير ذلك.

(1) مسلم/2662.

ص: 82

(أولئك) المتصفون بهذه الأوصاف (كالأنعام) أي البهائم في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر مع وجودها فيهم، والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له ثم جعلهم شراً من الأنعام فقال:(بل هم أضل) أي حكم عليهم بأنهم أضل منها لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرها فتنتفع بما ينفع وتجتنب ما يضر وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضر باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به بل يقدمون على النار معاندة (أولئك هم الغافلون) حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هم عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع.

ص: 83

(ولله الأسماء) ذكر ذلك في أربع سور في القرآن: أولها هذه السورة، وثانيها في آخر بني إسرائيل، وثالثها في أول طه، ورابعها في آخر الحشر، وهذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بما له من الأسماء على الجملة دون التفصيل، و (الحسنى) تأنيث الأحسن أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول، وقيل الحسنى مصدر وصف به كالرجعى وأفرده كما أفرد وصف ما لا يعقل.

وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأبو عوانة وابن جبير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مسنده وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة أنه وتر يحب الوتر (1)، وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم من دعا بها استجاب الله دعاءه، وزاد الترمذي في سننه بعد قوله يحب الوتر هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، إلى قوله الصبور، وهي معروفة، هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن أبي هريرة مرفوعة وقال هذا حديث غريب، وقد روي من غير وجه

(1) مسلم/2677.

ص: 83

عن أبي هريرة ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.

قال ابن كثير في تفسيره والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء مدرج في هذا الحديث وأنهم جمعوها من القرآن، ثم قال: ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين بدليل ما رواه أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، الحديث .. ] وقد أخرجه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه بمثله انتهى (1).

وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات قال النووي: اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما المقصود أن من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء انتهى.

قال ابن حزم جاءت في إحصائها يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلاً وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكراه ولا أدري كيف إسناده.

وعن أبي جعفر محمد بن الصادق قال: هي في القرآن ثم سردها سورة فسورة.

(1) ابن كثير 2/ 269.

ص: 84

وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنّه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررها منه تسعة وتسعين ثم سردها ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن.

وقد أطال أهل العلم الكلام على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم، ومعنى أحصاها حفظها، قاله البخاري وبه قال أكثر المحققين ويعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة، وقيل العدد أي عدها في الدعاء بها وقيل المعنى من أطاقها وأحسن المراعاة لها وقيل أحضر بباله عند ذكرها معناها وتفكر في مدلولها والأول أولى، وقد ذكر الرازي في هذا المقام بحثاً في أن الإسم عين المسمى أو غيره وهو مما لم يكلف الله به عباده.

وفي قوله: (فادعوه بها) دليل على أن أسماء الله سبحانه توقيفية لا اصطلاحية والمعنى سموه به وأجروها عليه واستعملوها فيه دعاء ونداء وغير ذلك فلا تسموه بغيرها مما لم يرد إطلاقه عليه تعالى، أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة.

(وذروا الذين يلحدون) الإلحاد الميل والانحراف وترك القصد، يقال لحد الرجل في الدين وألحد إذا مال، ومنه اللحد في القبر لأنه في ناحيته قال ابن عباس: الإلحاد التكذيب، وقال عطاء: هو المضاهاة، وقال الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها وقال قتادة: يشركون.

والإلحاد (في أسمائه) سبحانه يكون على ثلاثة أوجه.

إما بالتغيير كما فعله المشركون فإنهم أخذوا اسم اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان قاله ابن عباس ومجاهد.

ص: 85

أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها قال أهل المعاني: هو تسميته بما لم يسم به نفسه ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة، لأن أسماءه كلها توقيفية فلا يجوز فيها غير ما ورد في الشرع بل يدعوه بأسمائه التي وردت في الكتاب والسنة على وجه التعظيم (1).

أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض ولا يسميه باسم لا يعرف معناه ولا باسم فيه من الغرابة والمعنى أتركوهم لا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم. وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً) وقوله: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) وهذا أولى لقوله: (سيجزون ما كانوا يعملون) فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم.

وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول: في صلاته يا رحمن يا رحيم فقال رجل من المشركين: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين حكى ذلك القرطبي (2).

(1) قال ابن العربي: " فحذار منها، ولا يدعون أحدكم إلا بما في كتاب الله والكتب الخمسة، وهي البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. فهذه الكتب التي يدور الإسلام عليها، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف، وذروا ما سواها، ولا يقولن أحدكم اختار دعاء كذا وكذا، فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك إلى الخلق رسوله صلى الله عليه وسلم. (ذكره القرطبي في 7/ 321).

(2)

وقد روى مقاتل: أن رجلاً دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يداعونني فنزلت الآية.

ص: 86

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)

ص: 87

(وممن خلقنا) أي من جملة من خلقه الله (أمة) وعصابة وجماعة (يهدون) الناس متلبسين (بالحق) أو يهدونهم بما عرفوه من الحق (وبه) أي بالحق (يعدلون) بينهم قيل هم من هذه الأمة وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان قاله ابن عباس.

وعن الكلبي هم من آمن من أهل الكتاب وقيل هم العلماء والدعاة إلى الدين وقيل إنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين كما ورد في الحديث الصحيح عن معاوية قال وهو يخطب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك (1) أخرجه البخاري ومسلم.

وعن ابن جريج قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: هذه أمتي يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون، وعن قتادة قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا قرأها: هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة الآية (2).

وعن الربيع في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى نزل أخرجه ابن أبي حاتم.

(1) مسلم/1037 البخاري/62.

(2)

ابن كثير 1/ 269.

ص: 87

وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه قيل وفيه دلالة على أن إجماع كل عصر حجه، والبحث في ذلك مفصل في الأصول.

ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال:

ص: 88

(والذين كذبوا بآياتنا) يريد به جميع المكذبين بآيات الله وهم الكفار وقيل المراد بهم أهل مكة والأول أولى، لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) الاستدراج هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة والدرج كف الشيء يقال أدرجته ودرجته ومنه إدراج الميت في أكفانه وقيل هو من الدرجة فالاستدراج أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم مات بعضهم في إثر بعض.

والمعنى سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها فينهمكون في الغواية ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلهْ والزلفة.

قال الأزهري: سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون، وقال السدي سنأخذهم من حيث لا يعلمون، قال عذاب بدر: وعن يحيى بن المنى قال كلما أحدثوا ذنباً جددنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار، وبه قال الضحاك وقال سفيان: نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها، وعن ثابت البناني أنه سئل عن الاستدراج فقال: ذلك مكر الله بالعباد المضيعين، قال الكلبى: نزين أعمالهم ثم نهلكهم بها روي أن عمر بن الخطاب لما حمل إليه كنوز كسرى، قال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول سنستدرجهم من حيث لا يعلمون.

ص: 88

وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

ص: 89

(وأملي) الإملاء الإمهال والتطويل أي أطيل (لهم) المدة وأمهلهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي وأؤخر عنهم العقوبة (إن كيدي متين) جملة مقررة لما قبلها من الاستدراج والإملاء ومؤكدة له والكيد المكر والمتين الشديد القوي وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب لأنه أقوى ما في الحيوان وقد متن بالضم يمتن متانة أي قوي.

والمعنى أن أخذي أو مكري شديد لا يطاق قال ابن عباس: كيد الله العذاب والنقمة قال في الكشاف سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان، وفي الآية دليل على مسألة القضاء والقدر، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

ص: 89

(أو لم يتفكروا) الإستفهام للإنكار عليهم حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيما جاء به (ما بصاحبهم من جنة) ما للاستفهام الإنكاري والجنة مصدر أي وقع منهم التكذيب ولم يتفكروا أي شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون؟ فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلاً وقولهم زوراً وبهتاناً.

وقيل أي ليس بصاحبهم شيء مما يدعونه من الجنون فيكون هذا رداً لقولهم: [يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون] ويكون الكلام قد تم عند قوله (أو لم يتفكروا) والوقف عليه من الأوقاف الحسنة.

ص: 89

عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على الصفا فدعا قريشاً فخذاً فخذاً يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائل: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت حتى أصبح فأنزل الله هذه الآية (1).

وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه لأنه صلى الله عليه وآله وسلم خالفهم في الأقوال والأفعال لأنه كان معرضاً عن الدنيا ولذاتها مقبلاً على الآخرة ونعيمها مشتغلاً بالدعاء إلى الله وإنذار بأسه ونقمته ليلاً ونهاراً من غير ملال ولا ضجر فعند ذلك نسبوه إلى جنون فبرأه الله من الجنون وقال (إن هو إلا نذير مبين) أي بين الإنذار والجملة مقررة لمضمون ما قبلها ومبينة لحقيقة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) رواه الطبري 13/ 289 وابن كثير 2/ 270.

ص: 90

(أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض) الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع ولقصد التعجب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية.

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

والملكوت من أبنية المبالغة ومعناه الملك العظيم، وقد تقدم بيانه، والمعنى أن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به بل هم متبادرون في ضلالتهم خائضون في غوايتهم لا يعملون فكراً، ولا يمعنون نظراً.

(وما خلق الله) أي ولم ينظروا فيما خلق (من شيء) من الأشياء كائناً ما كان فإن في جميع مخلوقاته عبرة للمعتبرين وهو عظة للمتفكرين سواء كانت

ص: 90

من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض أو من دقائقها من سائر مخلوقاته (وأن) أي أولم ينظروا في أن الشأن والحديث (عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) فيموتون عن قريب، والمعنى أنهم إذا كانوا يجوزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به، وافتعل هنا بمعنى الفعل المجرد أي قرب وقت أجلهم (1).

(فبأي حديث بعده) الضمير للقرآن وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل للأجل المذكور قبله وقيل الضمير يرجع إلى ما تقدم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة أي بأي حديث بعد هذا المتقدم بيانه (يؤمنون) وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره، والجملة الاستفهامية سيقت للتعجب أي إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يؤمنون بغيره.

وجملة

(1) قلت: هذا هو الصحيح في الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ". وترجم ابن المنذر في كتاب الأشراف (ذكر صفة كمال الإيمان) اجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام -وهو بالغ صحيح العقل- أنه مسلم. (ذكره القرطبي 7/ 331).

ص: 91

(من يضلل الله فلا هادي له) مقررة لما قبلها أي هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله ومن يضلله فلا يوجد له من يهديه إلى الحق وينزعه عن الضلالة البتة (ويذرهم في طغيانهم يعمهون) أي يتحيرون وقيل يترددون ولا يهتدون سبيلاً.

ص: 91