المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٥

[صديق حسن خان]

الفصل: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‌

(190)

(فلما آتاهما صالحاً) أي ما طلباه من الولد الصالح وأجاب دعاءهما (جعلا له شركاء فيما آتاهما) قرأ سائر أهل الكوفة بالجمع وقرأ أهل المدينة شركاً على التوحيد، وأنكره الأخفش، وأجيب عنه بأنها صحت على حذف المضاف أي جعلا له ذا شرك أو ذوي شرك، وقال أبو عبيدة: معناه حظاً ونصيباً.

قال كثير من المفسرين: أنه جاء إبليس إلى حواء " قال لها: إن ولدت ولداً فسميه باسمي فقالت: وما اسمك؟ قال: الحرث ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحرث فكان هذا شركاً في التسمية ولم يكن شركاً في العبادة، ولكن قصدت بتسميتها الولد بعبد الحرث أن الحرث سبب لنجاة الولد، فمعاتبتها على ذلك من حيث إنها نظرت إلى السبب دون المسبب.

وقد روي هذا بطرق وألفاظ عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، ويدل له حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته عبد الحرث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره، أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه (1).

وفيه دليل على أن الجاعل شركاً فيما آتاهما هو حواء دون آدم وقوله جعلا له شركاء بصيغة التثنية لا ينافي ذلك لأنه قد يسند فعل الواحد إلى اثنين بل

(1) ابن كثير 2/ 274.

ص: 99

إلى جماعة وهو شائع في كلام العرب، وفي الكتاب العزيز من ذلك الكثير الطيب.

قال تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) ثم قال في هذه السورة (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) وقال: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) والمراد به الزوج فقط قاله الفراء، وإنما ذكرهما جميعاً لاقترانهما وقال تعالى:(نسيا حوتهما) وإنما الناسي يوشع دون موسى، وقال تعالى:(يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من أحدهما وهو المالح، وقال تعالى:(يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) وإنما الرسل من الإنس دون الجن لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح هذا التركيب وقال تعالى: (ألقيا في جهنم) والخطاب لواحد دون اثنين وفي الحديث المرفوع: " إذا سافرتما فأذنا "(1) والمراد أحدهما وقال امرؤ القيس.

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وقد أكثر الشعراء من قولهم خليليّ والمراد بهما الواحد دون الاثنين.

وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة جعل أحدهما له شركاء وهو حواء.

وإذا عرفت هذا علمت أن المصير إلى هذا التأويل الذي ذكرناه متعين وقد عاضده الكتاب والسنة وكلام العرب والحديث المتقدم ليس فيه إلا ذكر حواء.

وقد استشكل هذه الآية جمع من أهل العلم لأن ظاهرها صريح في وقوع الإشراك من آدم عليه السلام، والأنبياء معصومون عن الشرك ثم اضطروا إلى التفصي منِ هذا الإشكال فذهب كلٌّ إلى مذهب واختلفت أقوالهم في تأويلها اختلافاً كثيراً حتى أنكر هذه القصة جماعة من المفسرين منهم الرازي

(1) صحيح الجامع الصغير 602.

ص: 100

وأبو السعود وغيرهما، وقال السدي: هذا فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب وعن أبي مالك نحوه.

وقال الحسن: هذا في الكفار يدعون الله فإذا آتاهما صالحا هوّدا ونصرا وقال ابن كيسان: هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد الشمس وعبد الدار ونحو ذلك، وقيل هم اليهود والنصارى خاصة.

قال الحسن: كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم، وقيل هذا خطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم آل قصي وحسنه الزمخشري، وقال هذا تفسير حسن لا إشكال فيه، وقيل معناها على حذف المضاف أي جعل أولادهما شركاء ويدل له ضمير الجمع في قوله الآتي:(عما يشركون) وإياه ذكر النسفي والقفال وارتضاه الرازي وقال: هذا جواب في غاية الصحة والسداد وبه قال جماعة من المفسرين.

وقيل: خطاب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم وجعل من جنسه زوجة، قال البغوي: وهذا قول حسن لولا قول السلف بخلافه، وقيل إن هذه القصة لم تصح وإنما عمى من كان في ظهر آدم من ذريته وكان آدم أنموذج التقدير فظهرت ورئيت خطايا بني آدم في ذاته كما ترى الصورة في المرآة لأن ظهره كان كالسفينة لسائر أولاده.

وقيل معنى من نفس واحدة من هيئة واحدة وشكل واحد فجعل منها أي من جنسها زوجها فلما تغشاها يعني جنس الذكر جنس الأنثى وعلى هذا لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين، وقيل إن فاعل تغشاها ضمير راجع إلى أحدهم، والمعنى خلق الله الناس من آدم وكان بدء خلقهم أن خلق من آدم زوجته ليسكن إليها فحصل منهما النسل، ثم رجع إلى أول الكلام وهو أن الله خلقهم فلم يشكروا له ولم يؤدوا حقه، وذلك أن أحدهم لما تغشى امرأته فحملت حملاً خفيفاً فحصل بسبب ذلك

ص: 101

الاختصار غموض في الآية وأصل الكلام عام وكانت حواء من جملة ذلك، فلا يجب صدق جميع خصوصيات الآيات عليها وإنما يجب وجود أصل القصة.

وقد يؤخذ هذا الوجه من قوله تعالى في موضع آخر (الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) وبهذا قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي رحمه الله.

وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى متخالفة في المبنى، ولا يخلو كل واحد منها من بعد وضعف وتكلف بوجوه.

الأول إن الحديث المرفوع المتقدم يدفعه وليس في واحد من تلك الأقوال قول مرفوع حتى يعتمد عليه ويصار إليه، بل هي تفاسير بالآراء المنهى عنها المتوعد عليها.

الثاني أن فيه انخرام نظم الكلام سياقاً وسباقاً (الثالث) أن الحديث صرح بأن صاحبة القصة هي حواء وقوله جعل منها زوجها إنما هو لحواء دون غيرها فالقصة ثابتة ولا وجه لإنكارها بالرأي المحض (الرابع) أن الحديث ليس فيه إلا ذكر حواء وكان هذا شركاً منها في التسمية ولم يكن شركاً في العبادة، وقيل والشرك في التسمية أهون.

قلت: وفيه بعد ظاهر لأن الله تعالى ساق آيات التشنيع عليها وهو شرك وإن لم يكن في العبادة وما قيل إنهما إنما قصدت أن الحرث كان سبب نجاة الولد كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه فهو خطأ لأن الأعلام كما يقصد بها المعاني العلمية كذلك قد يلاحظ معها المعاني الأصلية بالتبعية كما صرح به أهل المعاني، وكان اسم أبي بكر الصديق في الجاهلية عبد الكعبة، واسم أبي هريرة عبد الشمس فغيرهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسماهما صديقاً وعبد الرحمن.

ص: 102

وما قيل أنها سمته بعبد الحرث بإذن من آدم فهذا يحتاج إلى دليل يدل عليه ويصح وأنى له الدليل ولعلها سمته بغير إذن منه ثم تابت من ذلك.

والحاصل أن ما وقع إنما وقع من حواء لا من آدم عليه السلام ولم يشرك آدم قط، وعلى هذا فليس في الآية اشكال، والذهاب إلى ما ذكرناه متعين تبعاً للكتاب والحديث وصوناً لجانب النبوة عن الشرك بالله تعالى، والذي ذكروه في تأويل هذه الآية الكريمة يرده كله ظاهر الكتاب والسنة كما تقدم، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل والله أعلم.

وما ذكرنا من صحة إطلاق المثنى على المفرد هو شائع في كلام العرب ولكنهم لم يذهبوا إليه في هذه الآية، ولم يخطر ذلك ببالهم مع كونه ظاهر الأمر وواضحه ومع أنهم ذكروه وذهبوا إليه في غير هذا الموضع في غير واحد من مواضع في القرآن والحديث وغيرهما، وهذا عجيب منهم غاية العجب.

(فتعالى الله عما يشركون) هذا ابتداء كلام مستأنف أراد به إشراك أهل مكة وقيل معطوف على (خلقكم) وما بينهما اعتراض، وقيل أراد به حواء لأنه يجوز إطلاق الجمع على الواحد، وقيل يعود على آدم وحواء وإبليس والأول أولى وبه قال السمين، وليس لها تعلق بقصة آدم وحواء أصلاً ولو كانت القصة واحدة لقال عما يشركان.

قال ابن الجزري في كتابه النفيس: قد يأتي العرب بكلمة إلى جانب كلمة كأنها معها وفي القرآن يريد أن يخرجكم من أرضكم، هذا قول الملأ قال فرعون: فماذا تأمرون، انتهى. فالضمير في يشركون يعود على الكفار، والكلام قد تم قبله.

ص: 103

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)

ص: 104

(أيشركون ما لا يخلق شيئاً) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي كيف يجعل أهل مكة لله شريكاً لا يخلق شيئاً ولا يقدر على نفع لهم ولا دفع ضر عنهم (وهم يخلقون) الضمير راجع إلى الشركاء أي وهؤلاء الذي جعلوهم شركاء من الأصنام والشياطين مخلوقون وجمعهم جمع العقلاء لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك.

ص: 104

(ولا يستطيعون لهم) أي لمن جعلهم شركاء (نصراً) إن طلبوه منهم (ولا أنفسهم ينصرون) إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم ومن عجز عن نصر نفسه فهو عن نصر غيره أعجز.

ص: 104

(وإن تدعوهم إلى الهدى) هذا خطاب للمشركين بطريق الالتفات المنبئ عن مزيد الاعتناء بأمر التوبيخ والتبكيت، وبيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر، وهو مجرد الدلالة على المطلوب من غير تحصيله للطالب أي وأن تدعوا هؤلاء الشركاء إلى الهدى والرشاد بأن تطلبوا منهم أن يهدوكم ويرشدوكم (لا يتبعوكم) ولا يجيبوكم إلى ذلك وهو دون ما تطلبونه منهم من جلب النفع ودفع الضر والنصر على الأعداء.

قال الأخفش: معناه وإن تدعوهم أي الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم

ص: 104

وقيل يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين والضمير المنصوب للمشركين ممن سبق في علم الله أنه لا يؤمن، والمعنى وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين لا يتبعوكم وقرئ لا يتبعوكم مشدداً ومخففاً وهما لغتان وقال بعض أهل اللغة: اتبعه مخففاً إذا مضى خلفه ولم يدركه واتبعه مشدداً إذا مضى خلفه فأدركه.

(سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها أي دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء لا فرق بينهما لأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون ولا يجيبون، وقال (أم أنتم صامتون) مكان أو صمتم لما في الجملة الاسمية من المبالغة في عدم إفادة الدعاء ببيان مساواته للسكوت الدائم المستمر، وقال محمد بن يحيى: إنما جاء بالاسمية لكونها رأس آية يعني لمطابقة ولا أنفسهم ينصرون وما قبله.

ص: 105

(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) أخبرهم سبحانه بأن هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة هم عباداً لله كما أنتم عباد له مع أنكم أكمل منهم لأنكم أحياء تنطقون وتمشون وتسمعون وتبصرون، وهذه الأصنام ليست كذلك ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله مسخرة لأمره، وهذا تقريع لهم بالغ وتوبيخ لهم عظيم، قال مقاتل: إنها الملائكة والخطاب مع قوم كانوا يعبدونها، والأول أولى وإنما وصفها بأنها عباد مع أنها جماد تنزيلاً لها منزلة العقلاء على وفق معتقدهم ولذلك قال:

(فادعوهم فليستجيبوا لكم) مقررة لمضمون ما قبلها من أنهم إن دعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم وأنهم لا يستطيعون شيئاً أي ادعوا هؤلاء الشركاء فإن كانوا كما تزعمون فليستجيبوا لكم، وإنما ورد هذا اللفظ في معرض الاستهزاء بالمشركين (إن كنتم صادقين) فيما تدعونه لهم من قدرتهم على النفع والضرر وأنها آلهة.

ص: 105

ثم بين غاية عجزهم وفضل عابديهم عليهم فقال:

ص: 106

(ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم فضلاً عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم فإنهم كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها ليست لهم أرجل يمشون بها في نفع أنفسهم، فضلاً عن أن يمشوا في نفعكم، وليس لهم أيد يبطشون بها كما يبطش غيرهم من الأحياء، وليس لهم أعين يبصرون بها كما تبصرون. وليس لهم آذان يسمعون بها كما تسمعون، فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات وبهذه المنزلة من العجز.

وأم في هذه المواضع هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة كما ذكره أئمة النحو والإضراب المفاد ببل انتقال من توبيخ إلى توبيخ آخر، والبطش هو الأخذ بقوة وعنف.

ثم لما بين لهم حال هذه الأصنام وتعاور وجوه العجز والنقص لها من كل باب أمره الله بأن يقول لهم (قل ادعوا شركاءكم) الذين تزعمون أن لهم قدوة على النفع والضرر واستعينوا بهم في عداوتي حتى يتبين عجزها (ثم كيدون) أنتم وهم جميعاً بما شئتم من وجوه الكيد (فلا تنظرون) أي فلا تمهلوني ولا تؤخروا إنزال الضرر بي من جهتها والكيد المكر، وليس بعد هذا التحدي لهم والتعجيز لأصنامهم شيء.

ص: 106

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

ثم قال: قل لهم

ص: 107

(إن ولييَ الله الذي نزل الكتاب) أي كيف أخاف هذه الأصنام التي هذه صفتها ولي وليّ ألجأ إليه وأستنصر به وهو الله عز وجل، وهذه الجملة تعليل لعدم المبالاة بها وولي الشيء هو الذي يحفظه ويقوم بنصرته وممنع منه الضرر والكتاب هو القرآن أي أوحى إلي وأعزني برسالته (وهو) الذي (يتولى الصالحين) أي يحفظهم وينصرهم ويحول بينهم وبين أعدائهم والصالحون هم الذين لا يعدلون بالله شيئاً ولا يعصونه وفي هذا مدح للصلحاء وأن من سنته نصرهم.

ص: 107

(والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) كرر سبحانه هذا لمزيد التأكيد والتقرير ولما في تكرار التوبيخ والتقريع، من الإهانة للمشركين والتنقص بهم وإظهار سخف عقولهم، وركاكة أحلامهم وقيل الأولى على جهة التقريع والتوبيخ، والأخرى على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين هذه الأصنام وبالجملة هو من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم المفهوم من السوق فهماً جلياً.

ص: 107

(وإن تدعوهم) أي المشركين قاله الحسن وقيل أي الأصنام (إلى الهدى لا يسمعوا) دعاءكم لأن آذانهم قد صمت عن سماع الحق فضلاً عن المساعدة والإمداد، وهذا أبلغ من نفي الاتباع (وتراهم) الرؤية بصرية (ينظرون إليك) أي يقابلونك كالناظر.

ص: 107

(وهم) أي حال كونهم (لا يبصرون) جملة مبتدأة لبيان عجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع وبه يتم التعليل فلا تكرار أصلاً أو جملة حالية والمراد الأصنام أي أنهم يشبهون الناظرين ولا أعين لهم يبصرون بها قيل كانوا يجعلون للأصنام أعيناً من جواهر مصنوعة فكانوا بذلك في هيئة الناظرين ولا يبصرون.

وقيل المراد بذلك المشركون أخبر الله عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم وإن أبصروا بها غير ما فيه نفعهم.

ص: 108

(خذ العفو) لما عدد الله سبحانه من أحوال المشركين ما عدده وتسفيه رأيهم وضلال سعيهم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأخذ العفو من أخلاقهم، يقال أخذت حقي عفواً أي سهلاً. وهذا نوع من التيسير الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول:" يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا "(1)، والمراد بالعفو هنا ضد الجهد وقيل الفضل وما جاء بلا كلفة والعفو التساهل في كل شيء وقيل المراد خذ العفو من صدقاتهم ولا تشدد عليهم فيها وتأخذ ما يشق عليهم وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة، عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت هذه الآية إلا في أخلاق الناس، رواه البخاري قال مجاهد: خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسيس.

(وأمر بالعرف) أي بالمعروف وقرئ بالعرف بضمتين وهما لغتان والعرف والمعروف والعارفة كل خصلة حسنة ترتضيهما العقول وتطمئن إليها النفوس وكل ما يعرفه الشارع، وقال عطاء: وأمر بقول لا إله إلا الله والعموم أولى.

(وأعرض عن الجاهلين) أي إذا أقمت الحجه عليهم في أمرهم بالمعروف فلم يفعلوا فأعرض عنهم ولا تمارهم ولا تسافههم مكافأة لما يصدر

(1) صحيح الجامع الصغير 7942.

ص: 108

منهم من المراء والسفاهة، وقيل وهذه الآية هي من جملة ما نسخ بآية السيف قاله عطاء وابن زيد.

وقيل هي محكمة قاله مجاهد وقتادة وقيل أول هذه الآية وآخرها منسوخ وأوسطها محكم، قال الشعبي: لما أنزل الله هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل قال: لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما (1)، وعن قيس بن سعد بن عبادة قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال: والله لأمثلن بسبعين منهم فجاءه جبريل بهذه الآية أخرجه ابن مردويه.

(1) ابن كثير 2/ 277.

ص: 109

(وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) النزغ الوسوسة وكذا الغز والنخس والنسغ، قال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون ومن الشيطان أدنى وسوسة، وأصل النزغ الفساد يقال نزغ بيتاً أي أفسد، وقيل النزغ الإغواء والمعنى متقارب، أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أدرك شيئاً من وسوسة الشيطان أن يستعيذ بالله ويلجأ إليه في دفعه عنه، وقيل: إنه لما نزل قوله خذ العفو قال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يا رب بالغضب (1)، فنزلت هذه الآية وفي الآية استعارة تبعية حيث شبه الإغراء على المعاصي بالنزغ واستعير النزغ للإغراء ثم اشتق منه ينزغنك.

وجملة (إنه سميع عليم) علة لأمره بالاستعاذة أي استعذ به والتجىء إليه فإنه يسمع ذلك منك ويعلم به، وقيل الخطاب لكل أحد والأول أولى، والكلام خرج مخرج التقدير والفرض فلا يقال: لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً لم يكن للشيطان عليه سبيل حتى ينزغ في قلبه ويحتاج إلى الاستعاذة.

(1) ابن كثير 2/ 278.

ص: 109

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)

ص: 110

(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) مقررة لمضمون ما قبلها أي: إن شأن الذين يتقون الله وحالهم هو التذكر لما أمر الله به من الاستعاذة والالتجاء إليه عند أن يمسهم طائف من الشيطان وإن كان يسيراً وقرئ طيف مخففاً ومشدداً قال النحاس: كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف، وقال الكسائي هو مخفف مثل ميت وميت.

قال النحاس: ومعناه في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم وكذا معنى طائف وقيل معنيان مختلفان فالأول التخيل، والثاني الشيطان نفسه فالأول من طاف الخيال يطوف طيفاً، ولم يقولوا من هذا طائف، قال السهيلي: لأنه تخيل لا حقيقة له وأما قوله (فطاف عليهم طائف من ربك) فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة.

قال الزجاج: طفت عليهم أطوف وطاف الخيال يطيف، وسميت الوسوسة والجنون والغضب طيفاً لأنها لمة من الشيطان تشبه لمة الخيال.

وذكر في الآية الأولى النزغ وهو أخف من الطيف لأن حالة الشيطان مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أضعف من حاله مع غيرهم، وقال ابن عباس: الطيف الغضب، وقرأ سعيد بن جبير تذكروا بتشديد الذال قال النحاس: ولا وجه له في العربية، وقال السدي: تذكروا أي إذا زلوا تابوا، وقيل معناه عرفوا ما حصل لهم من وسوسة الشيطان وكيده، وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب فيذكر الله فيكظم، وقال مجاهد: هو الرجل يلم بالذنب فيذكر الله فيقوم ويدعه.

(فإذا هم) بسبب التذكر (مبصرون) أي منتهون عن المعصية آخذون

ص: 110

بأمر الله عاصون للشيطان، قاله ابن عباس وقيل على بصيرة، وقيل: إنهم يبصرون مواقع الخطأ بالتذكر والتفكير وقيل مبصرون الحق من غيره فيرجعون.

ص: 111

(وإخوانهم يمدونهم) قيل المعنى وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلّال الإنس، على أن الضمير في إخوانهم يعود إلى الشيطان المذكور سابقاً والمراد به الجنس فجاز إرجاع ضمير الجمع إليه، والمعنى تمدهم الشياطين (في الغي) وتكون مدداً لهم، وهذا التأويل هو قول الجمهور وعليه عامة المفسرين، قال الزمخشري: هو أوجه لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا.

وقيل المعنى الشياطين الذين هم إخوان الجاهلين أو غير المتقين يمدون الجاهلين، أو غير المتقين في الغي، وهذا تفسير قتادة، وقيل المعنى وإخوان الشياطين في الغي وهو الجهل بخلاف الأخوة في الله تعالى يمدونهم أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم.

قال ابن عباس في الآية: هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الإنس، وسميت الفجار من الإنس إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم ويقتدون بهم، وقال الزجاج: المعنى والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصراً ولا أنفسهم ينصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي لأن الكفار إخوان الشياطين.

وعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير، قال الكلبي: لكل كافر أخ من الشياطين يطيل له في الإغواء حتى يستمر عليه، وقيل يزيدونهم من الضلالة يقال مد وأمد وهما لغتان قال مكي ومد أكثر، وقال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة: إنه يقال إذا كثّر شيء شيئاً بنفسه مده وإذا كثره بغيره قيل أمده نحو يمددكم ربكم، وقيل يقال مددت في الشر، وأمددت في الخير.

(ثم لا يقصرون) الإقصار الانتهاء عن الشيء وقال ابن عباس: لا يسأمون والمعنى: لا يقصر الشياطين في مدّ الكفار في الغي ولا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها والكافر لا يتذكر ولا يرعوي، وقال ابن عباس: لا الإنس يمسكون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين تمسك عنهم، وعلى هذا يحمل قوله لا يقصرون على فعل الإنس والشياطين جميعاً.

ص: 111

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

ص: 112

(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ) أى أهل مكة (بِآيَةٍ) مما اقترحوا (قَالُوا لَوْلَا) هلا (اجتبيتها) يقال اجتبى الشئ جباه لنفسه أى جمعه أي هلا جمعتها افتعالاً لها من عند نفسك، وقيل لولا أحدثتها لولا تلقيتها فأنشأتها، قاله ابن عباس، وقيل المعنى اختلقتها يقال اجتبيت الكلام انتحلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك، كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تراخى الوحي هذه المقالة فأمره الله بأن يجيب عليهم بقوله.

(قل) لست ممن يأتي بالآيات من قبل نفسه ويقترح المعجزات كما تزعمون بل (إنما أتبع ما يوحي إليّ من ربي) فما أوحاه إليّ وأنزله عليّ أبلغته إليكم.

(هذا) أي القرآن المنزل علي هو (بصائر من ربكم) يتبصر بها من قبلها جمع بصيرة وقيل البصائر الحجج والبراهين، وقال الزجاج الطرق ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول، أطلق عليه اسم البصائر فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب والبصيرة الحجة، والاستبصار في الشيء، قال الأخفش: جعله هو البصيرة كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك.

(وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) أي هو بصائر وهدى يهتدي به المؤمنون ورحمة لهم، وذلك أن الناس متفاوتون في درجات العلوم فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد، وهم أصحاب عين اليقين، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر وهم أصحاب علم اليقين، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين وأصحاب حق اليقين.

ص: 112

فالقرآن للأولين بصائر وللمستدلين هدى ولعامة المؤمنين رحمة، وقال أبو السعود كون القرآن بمنزلة البصائر للقلوب متحقق بالنسبة إلى الكل، وبه تقوم الحجة على الجميع، وأما كونه هدى ورحمة فمختص بالمؤمنين به إذ هم المقتبسون من أنواره والمغتنمون بآثاره والجملة من تمام القول المأمور به انتهى.

ص: 113

(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) يحتمل أنه من عند الله مستأنف ويحتمل أنه من جملة المقول المأمور به، أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح وقال أبو البقاء: الضمير لله بمعنى لأجله وفيه بعد.

قيل هذا الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام ولا يخفاك أن اللفظ أوسع من هذا والعام لا يقتصر على سببه فيكون الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل حالة وعلى أي صفة مما يجب على السامع، وقيل هذا خاص بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن دون غيره ولا وجه لذلك، وظاهر الأمر الوجوب، وهو قول الحسن وأهل الظاهر وقيل الندب والاستحباب.

قال أبو هريرة: نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وفي لفظ عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت، وإليه ذهب جمهور المفسرين كما في المعالم والكشاف وأنوار التنزيل وحاشية الكمالين وغيرها، وقال ابن عباس: يعني في الصلاة المفروضة وعن محمد بن كعب القرظي ومجاهد وعبد الله بن مغفل وابن مسعود نحوه.

وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف، وصرحوا بأن هذه الآية نزلت في قراءة الصلاة من الإمام، وعن الحسن قال: عند الصلاة المكتوبة وعند الذكر، وعن ابن عباس في الصلاة وحين ينزل الوحي، وقيل نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة، وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء واختاره جماعة وفيه بعد، لأن الآية مكية، والجمعة إنما وجبت بالمدينة والأول أولى، وقال ابن عباس في الجمعة والعيدين.

ص: 113

وقال الرازي: إنه خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في معرض الاحتجاج بكونه معجزاً على صدق نبوته، وعند هذا يسقط احتجاج الخصوم بهذه الآية من كل الوجوه، ثم ذكر ما يقوى أن حمل الآية على ما ذكر أولى بوجوه.

وقال لو حملنا الآية على منع المأموم من القراءة خلف الإمام فسد النظم واختل الترتيب فثبت أن حمله على ما ذكرناه أولى، وهذه الآية لا دلالة فيها على هذه الحالة انتهى.

وأشار القاضي إلى أن احتجاجهم بهذه الآية ضعيف، وقال بعض محشيه: أي مردود بخبر الصحيحين لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب انتهى.

أقول: رواه الجماعة عن عبادة بن الصامت وفي لفظ: " لا تجزى صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، "(1) رواه الدارقطني وقال إسناده صحيح وصححه ابن القطان ولها شاهد من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ مرفوعاً، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، ولأحمد بلفظ:" لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " وفي الباب عن أنس عند مسلم والترمذي وعن أبي قتادة عند أبي داود والنسائي وعن ابن عمر وجابر عند ابن ماجة، وعن علي عند البيهقي وعن عائشة وأبي هريرة.

والحديث يدل على تعيين فاتحة الكتاب في الصلاة وأنه لا يجزي غيرها، وإليه ذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب العترة لأن النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات إن أمكن انتفاؤها وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة لا الكمال لأن الصحة أقرب المجازين، والكمال أبعدهما والحمل على أقرب المجازين واجب وتوجُّه النفي إلى الذات ههنا ممكن كما قال الحافظ في الفتح لأن المراد بالصلاة معناها

(1) الدارقطني كتاب الصلاة 1/ 322.

ص: 114

الشرعي لا اللغوي لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات.

ولو سلم أن المراد هنا الصلاة اللغوية لكان المتعين توجه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال لأنها أقرب المجازين، ولأن الرواية المتقدمة مصرحة بالإجزاء فيتعين تقديره.

وإذا تقرر هذا فالحديث صالح للاحتجاج به على أن الفاتحة من شروط صحة الصلاة لا من واجباتها فقط لأن عدمها يستلزم عدم الصلاة وهذا شأن الشرط، وذهبت الحنفية وطائفة قليلة إلى أنها لا تجب بل الواجب آية من القرآن، قاله النووي: والصواب ما قاله الحافظ أن الحنفية يقولون بوجوب قراءتها لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطاً في صحة الصلاة لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة والذي لا يتم الصلاة إلا به فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن وقد قال تعالى:(فاقرأوا ما تيسر من القرآن) فالفرض قراءة ما تيسر، وتعين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجباً يأثم من يتركه وتجزى الصلاة بدونه.

وهذا تأويل على رأي فاسد حاصله رد كثير من السنة المطهرة بلا برهان ولا حجة نيرة فكم موطن من المواطن يقول فيه الشارع لا يجزى كذا ولا يقبل كذا ولا يصح كذا ويقول المتمسكون بهذا الرأي يجزى ويقبل ويصح، ولمثل هذا حذر السلف من أهل الرأي والكلام في ذلك تعقباً ورداً يطول جداً وقد قضى الوطر منه الشوكاني في نيل الأوطار فراجعه.

ومن أدلتهم حديث أبي سعيد بلفظ: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها (1)، قال ابن سيد الناس لا ندري بهذا اللفظ من أين جاء، وقد صح

(1) صحيح الجامع الصغير 7389.

ص: 115

عن أبي سعيد عند أبي داود أنه قال: أمرنا أن نقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر، ورواته ثقات، وقال ابن سيد الناس إسناده صحيح ورجاله ثقات وصححه الحافظ أيضاً.

ومن أدلتهم حديث أبي هريرة عند أبي داود بلفظ: لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب ويجاب بأنه من رواية جعفر بن ميمون وليس بثقة كما قاله النسائي، وقال أحمد ليس بقوي في الحديث، وقال ابن عدي يكتب حديثه في الضعفاء.

وأيضاً قد روى أبو داود هذا الحديث من طريقه عن أبي هريرة بلفظ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة الفاتحة فما زاد، ورواه أحمد وليست الرواية الأولى بأولى من هذه.

وأيضاً أين تقع هذه الرواية على فرض صحتها بجنب الأحاديث المصرحة بفرضية فاتحة الكتاب وعدم إجزاء الصلاة بدونها.

وقد نسب القول بوجوب الفاتحة في كل ركعة النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح إلى الجمهور، ورواه ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن علي وجابر وعن ابن عون والأوزاعي وأبي ثور، قال وإليه ذهب أحمد وداود، وبه قال مالك إلا في الناسي.

واستدلوا أيضاً على ذلك بما وقع عند الجماعة واللفظ للبخاري من قوله صلى الله عليه وآله وسلم للمسيء: ثم افعل ذلك في صلاتك كلها، بعد أن أمره بالقراءة وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته أنه قال في آخره: ثم افعل ذلك في كل ركعة. وهذا الدليل إذا ضممته إلى قوله في حديث المسيء ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم حملته على الفاتحة لما تقدم انتهض ذلك للاستدلال به على وجوب الفاتحة في كل ركعة وكان قرينة لحمل قوله في حديث المسيء " ثم كذلك في كل صلاتك فافعل " على المجاز

ص: 116

وهو الركعة وكذلك حمل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب عليه (1).

ويؤيد وجوب الفاتحة في كل ركعة حديث أبي سعيد عند ابن ماجه بلفظ لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها، قال الحافظ وإسناده ضعيف (2)، وحديث أبي سعيد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، رواه إسمعيل بن سعيد الشاكنجي صاحب الإمام أحمد.

وظاهر هذه الأدلة وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من غير فرق بين الإمام والمأموم وبين سر الإمام وجهره.

ومن جملة المؤيدات لذلك ما أخرجه مالك في الموطأ والترمذي وصححه عن جابر موقوفاً قال: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام، وما أخرجه أحمد وابن ماجة عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (3)، ومثله عن أبي هريرة عند ابن ماجة من طريق محمد بن إسحق وفيه مقال مشهور، ولكنه يشهد لصحته حديث أبي هريرة عند الجماعة إلا البخاري بلفظ: من صلى صلاة لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج (4)، ولا يقال إن الخداج معناه النقص. وهو لا يستلزم البطلان لأن الأصل أن الصلاة الناقصة لا تسمى صلاة حقيقة.

وأما حديث أبي هريرة مرفوعاً: وإذا قرأ فأنصتوا، رواه الخمسة إلا الترمذي وقال مسلم هو صحيح فهو عام لا يحتج به على خاص.

وأما حديث عبد الله بن شداد مرفوعاً: من كان له إمام فقراءة الإمام له

(1) مسلم 397 - البخاري 461.

(2)

ضعيف الجامع الصغير 6313.

(3)

صحيح الجامع الصغير 6224.

(4)

مسلم 395.

ص: 117

قراءة رواه الدارقطني (1)، فقال في المنتقى وقد روي مسنداً من طرق كلها ضعاف والصحيح أنه مرسل انتهى، قال الدارقطني وهو الصواب، وقال الحافظ هو مشهور من حديث جابر وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة، وقال في الفتح إنه ضعيف عند جميع الحفاظ وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني، وهو عام أيضاً لأن القراءة مصدر مضاف وهو من صيغ العموم وحديث عبادة في هذا الباب خاص فلا معارضة، وقال في شرح المنتقى هو حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به انتهى.

وأما قوله تعالى: (فاستمعوا له وأنصتوا) فقد مر الجواب عنه وهو أيضاً عام وحديث عبادة خاص، ويؤيد ذلك الأحاديث المتقدمة والآتية القاضية بوجوب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من غير فرق بين الإمام والمؤتم لأن البراءة عن عهدتها إنما تحصل بناقل صحيح لا بمثل هذه العمومات التي اقترنت بما يجب تقديمه عليها.

وعن عبادة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: إني أراكم تقرأون وراء إمامكم قال قلنا يا رسول الله أي والله قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن فأنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها رواه أبو داود والترمذي، وفي لفظ فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن (2)، رواه أبو داود والنسائي والدارقطني، وقال رجاله كلهم ثقات.

وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقرأن أحد منكم شيئاً من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن (3)، رواه الدارقطني، وقال رجاله كلهم ثقات، وأخرجه أيضاً أحمد والبخاري في جزء القراءة وصححه وابن حبان والحاكم والبيهقي من

(1) الدارقطني كتاب الصلاة 1/ 403.

(2)

الدارقطني كتاب الصلاة 1/ 319.

(3)

الدارقطني كتاب الصلاة 1/ 320.

ص: 118

طريق ابن إسحق قال حدثني مكحول عن محمود بن ربيعة عن عبادة، وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول.

ومن شواهد ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمد ابن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلكم تقرأون والإمام يقرأ قالوا إنا لنفعل، قال: لا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب، قال الحافظ: إسناده حسن ورواه ابن حبان من طريق أيوب بن أبي قلابة عن أنس، وليست بمحفوظة ومحمد ابن إسحق قد صرح بالتحديث فذهبت مظنة تدليسه، وتابعه من تقدم.

قال الشوكاني: والحديث استدل به من قال بوجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام وهو الحق وظاهر الحديث الإذن بقراءة الفاتحة جهراً لأنه استثنى من النهي عن الجهر خلفه، ولكنه أخرج ابن حبان من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتقرأون في صلاتكم خلف الإمام والإمام يقرأ فلا تفعلوا وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط والبيهقي وأخرجه عبد الرزاق عن أبي قلابة مرسلاً.

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ معي أحد منكم آنفاً فقال رجل نعم يا رسول الله، فقال إني أقول ما لي أنازع القرآن (1) قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن، وأخرجه أيضاً مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وابن ماجة وابن حبان.

(1) صحيح الجامع الصغير 6913.

ص: 119

وقوله: " فانتهى الناس عن القراءة " مدرج في الخبر كما بينه الخطيب، واتفق عليه البخاري في التاريخ وأبو داود ويعقوب ابن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم.

قال النووي: وهذا مما لا خلاف فيه بينهم والاستدلال به على عدم قراءة المؤتم خلف الإمام خارج عن محل النزاع، لأن الكلام في قراءة المؤتم خلف الإمام سراً والمنازعة إنما تكون مع جهر المؤتم لا مع إسراره، وأيضاً لو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان هذا الاستفهام الذي للإنكار عاماً لجميع القرآن أو مطلقاً في جميعه وحديث عبادة خاص أو مقيد.

وقد أجاب المهدي في البحر عن حديث عبادة بأنه معارض بهذا الحديث وهي من معارضة العام بالخاص وهو لا يعارضه، أما على قول من قال من أهل الأصول إنه يبنى العام على الخاص مطلقاً وهو الحق فظاهر، وأما على قول من قال إن العام المتأخر عن الخاص ناسخ له وإنما يخصص المقارن والمتأخر بمدة لا يتسع فكذلك أيضاً لأن عبادة روى العام والخاص في حديثه، فهو من التخصيص بالمقارن فلا يعارض بالمقام على جميع الأقوال.

وأما الاحتجاج بحديث جابر فلم يصل إلا وراء الإمام فهو مع كونه غير مرفوع: مفهوم لا يعارض بمثله منطوق حديث عبادة.

وإذا تقرر لك هذا فقد عرفت مما سبق وجوب الفاتحة على كل إمام ومأموم في كل ركعة وعرفناك أن تلك الأدلة صالحة للاحتجاج بها على أن قراءة الفاتحة من شروط صحة الصلاة وأدلة أهل الخلاف عمومات، وحديث عبادة خاص وبناء الخاص على العام واجب كما تقرر في الأصول، وهذا لا محيص عنه.

والآية الكريمة وما على نحوها من القرآن والحديث لا دلالة فيها على المقصود فمن زعم أنها تصح صلاة من الصلوات أو ركعة من الركعات بدون فاتحة الكتاب فهو محتاج إلى إقامة برهان يخصص تلك الأدلة، ومن هنا يتبين

ص: 120

لك أيضاً ضعف ما ذهب إليه الجمهور من أن من أدرك الإمام راكعاً دخل معه واعتد تلك الركعة وإن لم يدرك شيئاً من القراءة.

وحاصل الكلام أنه لا محيد عن تحتم المصير إلى القول بالفرضية بل القول بالشرطية.

وقد اختلف أهل العلم في قراءتها هل تكون عند سكتات الإمام أو عند قراءته، وظاهر الأحاديث أنها تقرأ عند قراءة الإمام وفعلها حال سكوت الإمام إن أمكن أحوط لأنه يجوز عند أهل الخلاف فيكون فاعل ذلك آخذاً بالإجماع وأما اعتياد قراءتها حال قراءة الإمام للفاتحة فقط أو حال قراءته للسورة فقط فليس عليه دليل بل الكل جائز وسنة.

نعم قراءتها حال قراءة الإمام للفاتحة مناسب من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الاستعاذة عن محلها الذي هو بعد التوجه، وتمام الكلام على هذا المرام في كتابنا هداية السائل إلى أدلة المسائل وغيره فراجعه.

قال الشوكاني: واختلف في القراءة خلف الإمام سراً وجهراً وقد وردت السنة المطهرة بقراءة سورة الفاتحة خلفه مخرجة في الصحيحين وغيرهما فالآية في غير الفاتحة وقد جاءنا بها من جاء بالقرآن، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (1).

(لعلكم ترحمون) أي تنالون الرحمة وتفوزون بها بامتثال أمر الله سبحانه.

(1) ذكر السيوطي في الدر 3/ 155.

عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة. فقرأ أصحابه وراءه رافعين صوتهم فنزلت هذه الآية.

ص: 121

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

ص: 122

(واذكر ربك في نفسك) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من أمته لأنه عام لسائر المكلفين قيل المراد بالذكر هنا ما هو أعم من القرآن وغيره من الأذكار التي يذكر الله بها وقال النحاس: لم يختلف في معنى هذا الذكر أنه الدعاء وقيل هو خاص بالقرآن أي اقرأ القرآن بتأمل وتدبر أمره.

أن يذكره في نفسه سراً فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر وأدعى للقبول.

(تضرعاً وخيفة) أي متضرعاً وخائفاً أو متضرعين وخائفين أو ذوي تضرع وخيفة والخيفة الخوف قاله الجوهري وحكى الفراء أنه يقال في جمع خيفة خيف (ودون الجهر) أي دون المجهور به يعني متضرعاً وخائفاً ومتكلماًً بكلام هو دون الجهر (من القول) وفوق السر يعني قصداً بينهما (بالغدو والآصال) أي أوقات الغدوات وأوقات الأصائل، والغدو جمع غدوة بضم الغين وسكون الدال وهي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والآصال جمع أصيل قاله الزجاج والأخفش مثل يمين وأيمان.

وقيل الأصال جمع أصل والأصل جمع أصيل، فهو على هذا جمع الجمع قاله الفراء وليس للقلة وليس جمعاً لأصيل لأن فعيلاً لا يجمع على أفعال، وقيل إنه جمع لأصل مفرداً كعنق، قال الجوهري: الأصيل الوقت من بعد العصر إلى المغرب وجمعه أصل وآصال وأصائل كأنه جمع أصيلة ويجمع أيضاً على أصلان مثل بعير وبعران.

وقرأ أبو مجلز واسمه لاحق بن حميد السدوسي البصري وهي شاذة

ص: 122

والإيصال وهو مصدر آصل إذا دخل في الأصيل وهو مطابق للغدو في الإفراد والمصدرية، قال قتادة: الغدو صلاة الصبح والآصال الصلاة بالعشي وعن أبي صخر قال الآصال ما بين الظهر والعصر، وقال ابن زيد: بالبكر والعشي وقال مجاهد: الغدو آخر الفجر صلاة الصبح والآصال آخر العشي صلاة العصر.

وخص هذين الوقتين لشرفهما ولأن الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو أخو الموت فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم بالذكر ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل، وأما وقت الآصال وهو أخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب له أن يشغله بالذكر لأنها حالة تشبه الموت ولعله لا يقوم من تلك النومة فيكون موته على ذكر الله عز وجل.

وقيل إن أعمال العباد تصعد أول النهار وآخره فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر، ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى الغروب، فاستحب له الذكر في هذين الوقتين ليكون ابتداء عمله بالذكر واختتامه به، وقيل غير ذلك والمراد دوام الذكر لله.

(ولا تكن من الغافلين) عن ذكر الله وعما يقربك إلى الله.

ص: 123

(إن الذين عند ربك) المراد بهم الملائكة قال القرطبي: بالإجماع قال الزجاج: وقال عند ربك والله عز وجل بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته وكل قريب من رحمة الله عز وجل فهو عنده فالمراد بالعندية القرب من الله بالزلفى والرضا لا المكانية أو المراد عند عرش ربك قاله الشهاب، والمراد بقوله والله بكل مكان أي علمه وقدرته وهو بائن من خلقه مستوي على عرشه كما وصف به نفسه في غير موضع من الكتاب العزيز.

وقال القرطبي: يعني أنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله وقيل إنهم

ص: 123

رسل الله كما يقال عند الخليفة جيش كبير، وقيل هذا على جهة التشريف والتكريم لهم وأنهم بالمكان المكرم وهو عبارة عن قربهم في الكرامة لا في المسافة.

(لا يستكبرون عن عبادته) أي لا يتعظمون عنها لأنهم عبيده ومعنى (ويسبحونه) يعظمونه وينزهونه عن كل شين (وله يسجدون) أي يخصونه بعبادة السجود التي هي أشرف عباده، وقيل المراد بالسجود الخضوع والذلة، وفي ذكر الملأ الأعلى تعريض لبني آدم، وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن والأحاديث والآثار عن الصحابة في سجود التلاوة وعدد المواضع التي يسجد فيها وكيفية السجود وما يقال فيه مستوفاة في كتب الحديث والفقه فلا نطول بإيراد ذلك هنا (1).

(1) وقيل: سبب نزول هذه الآية أن كفار مكة قالوا: أنسجد لما تأمرنا؟ فنزلت هذه الآية تخبر أن الملائكة وهم أكبر شأناً منكم، لا يتكبرون عن عبادة الله. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، أُمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرتُ بالسجود فعصيت فلي النار ".

رواه مسلم 1/ 87، وابن ماجة 1/ 334 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأورده السيوطي في " الدر " 3/ 158 وزاد نسبته للبيهقي.

ص: 124