الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَتوا) (1). وذلك لأنهم طلب منهم ذلك في الدنيا فلم يعطوه كما في قوله: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} ، وقد تقدم هذا قوله:
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ • بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت: 3، 4] الآية وما بعدها، فقد أخبر) (2) أن الرسول دعاهم (ودعاه إياهم إلى ما دعاهم)(3)، وهو طلب منه (كذلك قال:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ • الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي لا يؤتونه ما طلب منهم) (4) فكان هذا اللفظ متضمناً قيام الحجة عليهم بالرسل وهو إنما يدعوهم لما تزكوا به أنفسهم.
ومما يبين: أن
الزكاة تستلزم الطهارة
؛ لأن معناها معنى الطهارة، قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 130](تطهرهم)(5) من الشر وتزكيهم بالخير (فتذهب عنهم السيئات فيصيرون طاهرين منها وتزكو أنفسهم حينئذ بالعمل الصالح مع زوال الذنوب)(6) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب
(1) ذكره ابن جرير في تفسيره (17/ 70).
(2)
سقط من المطبوع.
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
سقط من المطبوع.
(6)
سقط من المطبوع.
الأبيض من الدنس اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب» (1). وهذا كان يدعو به في الاستفتاح الصلاة وفي الاعتدال من الركوع. (وكذلك في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت فقال:«اللهم اغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس» ) (2)، والغسل بهذه الأمور توجب تبريد المغسول، والبرد يعطي قوة وصلابة وما يُسرّ يوصف بالبرد، (ويقال) (3): قرة العين ولهذا كان دمع السرور بارداً ودمع الحزن حاراً؛ لأن ما يسوء النفس يوجب حزنها وغمها (وذلك بسخن الباطن)(4)، وما يسرها يوجب فرحها وسرورها وذلك مما يبرّد الباطن، (ولهذا يقال: برد قلبي) (5). فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب.
(1) رواه البخاري (744) كتاب الصلاة باب ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598) كتاب المساجد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
سقط من المطبوع، والحديث رواه مسلم (963) كتاب الجنائز من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
سقط من المطبوع.
وقوله: «بالثلج والبرد والماء البارد» تمثيل بما هو من هذا الجنس وإلا فنفس الذنوب لا تغسل (بالثلج)(1)، ويقال: أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك. ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن بردت جلدته» (2).
ويقال: برد اليقين وحرارة الشك. ويقال: هذا (الأمر)(3) يثلج له الصدر إذا كان حقاً يعرفه القلب ويفرح به حتى يصير في مثل برد الثلج (يقال: هذا يثلج له الصدر)(4).
ومرض النفس: إما بشبهة وإما (هوى)(5) شهوة أو غضب والثلاثة توجب السخونة. ويقال لمن نال مطلوبه: برد قلبه (ولمن لم يحصل مطلوبه: ما في هذا ما يبرد قلبه)(6). فإن الطالب فيه حرارة (حركة)(7) الطلب، (وإذا وجد المطلوب سكن واطمأن
(1) في المطبوع: بذلك.
(2)
رواه البخاري (2289) كتاب الحوالات باب إن أحال دين الميت على رجل جاز، من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. ولفظ الحديث عند أحمد (22/ 406) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
زيادة من المطبوع.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
سقط من المطبوع.
(6)
سقط من المطبوع.
(7)
سقط من المطبوع.
وبرد قلبه) (1) وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 130] دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة، فإنه قال هذا بعد قوله:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] الآية وما بعدها.
فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} إلى قوله {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . فأمرهم جميعا بالتوبة في سياق ما ذكره (من الأمر بغض البصر وحفظ الفرج)(2)؛ لأنه لا يسلم أحد من ذنب من هذا الجنس. كما في الصحيح عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم (3): «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو يدرك (ذلك)(4) لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واللسان يزني وزناه النطق، واليدان تزني وزناهما
(1) سقط من المطبوع.
(2)
سقط من المطبوع.
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
زيادة من صحيح البخاري ومسلم.
اللمس، والرجلان تزني وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه» (1).
وكذلك في الصحيح إن قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء إلا الجماع ثم ندم (وجاء تائباً فأنزل الله تعالى هذه الآية)(2). ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف الله وينهى النفس عن الهوى (كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى • فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41])(3) ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه (وإنما يعاقب)(4) على اتباع ذلك (وفعله)(5)، فإذا كانت النفس تهوى (وتشتهي)(6) وهو ينهاها كان نهيه إياها عبادة لله تعالى وعملاً صالحاً (يثاب عليه)(7).
(1) رواه البخاري (6243) كتاب الاستئذان باب زنا الجوارح دون الفرج، ومسلم (2657) كتاب القدر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
سقط من المطبوع. والحديث رواه البخاري (526) كتاب الصلاة باب الصلاة كفارة، ومسلم (2763) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
في المطبوع: بل.
(5)
في المطبوع: والعمل به.
(6)
سقط من المطبوع.
(7)
سقط من المطبوع.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله» (1).
(فإذا كانت النفس تهوي المحرم وتدعوا إليه أُمر بنهيها ومجاهدتها)(2) كما يؤمر بجهاد من يأمر بمعاصي الله من الناس ويدعو إليها وهو إلى جهاد نفسه أحوج منه إلى ذلك، فإن هذا فرض عين عليه وذلك فرض على الكفاية، والصبر في هذا الجهاد من أفضل الأعمال فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد، فالصبر عليه صبر على ذلك الجهاد. كما قال:«والمهاجر من هجر السيئات» (3).
(ومن هجر ما نهى الله عنه ثم جاهد النفس)(4) لا يكون محموداً فيه إلا إذا غلب بخلاف (جهاد الكفار)(5) فإنه من
(1) رواه أحمد (39/ 375) والترمذي (1621) والنسائي في الكبرى (11794) وغيرهم من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في الصحيحة (549).
(2)
سقط من المطبوع.
(3)
رواه البخاري (10) كتاب الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأحمد (1671)، وابن حبان (196) واللفظ له، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
سقط من المطبوع.
يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف يؤتيه أجراً عظيماً. (وأما هذا فإذا غلب كان ملوماً مذموماً)(1) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (في الحديث الصحيح)(2): «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (3).
وذلك لأن الله أمر الإنسان أن ينهى نفسه عن الهوى وخوّف مقام ربه فجعل له من الإيمان ما يعينه على الجهاد فإذا غلب كان لضعف إيمانه فيكون مفرطاً بترك المأمور؛ بخلاف العدو الكافر فإن ذلك قد يكون بدنه أقوى (من بدن المؤمن فيغلبه فيستشهد المؤمن فيثيبه الله على مجاهدته، وإن قيل إذ لا ذنب له هناك)(4) فالذنوب إنما تقع إذا لم تكن النفس ممتثلة لما أمرت به ومع امتثال المأمور لا تفعل المحظور فإنهما ضدان، قال الله تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24](وقال الشيطان: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ • إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ})(5)[الحجر: 39، 40].
(1) سقط من المطبوع.
(2)
سقط من المطبوع.
(3)
رواه البخاري (6114) كتاب الأدب باب الحذر من الغضب، ومسلم (2609) كتاب البر والصلة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
سقط من المطبوع.
وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] الآية ونحوها. فعباد الله المخلصون لا يغويهم الشيطان، والغي خلاف الرشد وهو اتباع الهوى، فمن مالت نفسه إلى محرم فليأت بعبادة الله كما أمر الله تعالى مخلصا له الدين فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء.
(وإخلاص الدين له يتضمن)(1) خشيته ومحبته والعبادة له وحده وهذا يكون مانعاً للسيئات من الوقوع إذا كان تاماً. فإن كان ناقصاً فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحياً لها بعد الوقوع فهو كالترياق الذي يدفع أثر السم ويرفعه بعد حصوله (فهو دافع للسيئات ورافع لها)(2) كالغذاء من الطعام والشراب (الذي يمنع حصول العطش ويرفع الجوع والعطش بعد حصوله)(3) وكالاستمتاع بالحلال الذي يمنع النفس عن طلب الحرام، فإذا حصل فيها طلب ذلك منعه وأزاله، وكالعلم الذي يمنع النفس أن تشك وترتاب ويرفع الشك والإرتياب بعد وقوعه، وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع المرض (والصحة يحفظ بالمثل والمرض يدفع بالضد)(4)، وكذلك ما في القلب
(1) سقط من المطبوع.
(2)
سقط من المطبوع.
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
سقط من المطبوع.
من الإيمان (وعبادة الله عز وجل وأشباهه بما يقوي الإيمان والعبادة)(1). وإذا حصل (في القلب)(2) مرض من الشبهات والشهوات أزيل (ذلك بضده)(3)، ولا يحصل المرض إلا لنقص أسباب الصحة، كذلك القلب لا يمرض (بالشهوات والشبهات)(4) إلا لنقص إيمانه (وعبادته لربه)(5).
وكذلك الإيمان والكفر والبر والفجور هما متضادان فكل ضدين: فأحدهما يمنع الآخر تارة ويرفعه أخرى كالسواد والبياض (فالسواد يمنع البياض أن)(6) يحصل موضعه ويدفعه إذا كان حاصلاً، كذلك الحسنات تمنع السيئات (أن تحصل وتدفعها بعد الحصول، وكذلك بالعكس فالكفر يمنع الإيمان وقد يرفعه بعد حصوله، والسيئات قد تمنع الحسنات وقد ترفعها بعد الحصول)(7). والإحباط (الذي ينكره سلف الأمة
(1) اضطراب وسقط في المطبوع.
(2)
سقط من المطبوع.
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
سقط من المطبوع.
(6)
سقط من المطبوع.
(7)
سقط من المطبوع.
وأهل السنة ليس هو ما تقوله الخوارج) (1) والمعتزلة من أن (السيئة الواحدة)(2) الكبيرة تحبط (جميع)(3) الحسنات حتى الإيمان، وإن من مات (مصراً على كبيرة لم يكن معه من الإيمان شيء أصلاً بل هو مخلد في النار ولا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها. وقال كثير منهم) (4) الجبائي وابنه بالموازنة (بين الحسنات والسيئات) (5). لكن قالوا: من ترجحت سيئاته خُلّد في النار، وأما الموازنة بلا تخليد (في النار فهو قول عامة السلف وأكثر أهل السنة)(6).
ومن الإحباط ما اتفق المسلون عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر (فهذا مما اتفق عليه الناس أن الردة التي يموت صاحبها عليها تحبط الأعمال، كلها لأن الكافر ليس له حسنة يدخل بها الجنة)(7) قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
(1) سقط من المطبوع.
(2)
سقط من المطبوع.
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
سقط من المطبوع.
(6)
سقط من المطبوع.
(7)
سقط من المطبوع.
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]. وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
(فهذا الإحباط متفق عليه، وذاك الإحباط مخالف لأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الدين)(1) فإن الله سبحانه ذكر في القرآن حد الزاني (والسارق والقاذف)(2) ولم يجعلهم كفارا (مرتدين)(3) حابطي الأعمال ولا أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين، (ومعلوم أن كل من أظهر الردة يجب قتله)(4)، والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم (فلو كان القذف والسرقة والزنا كفراً لوجب قتل صاحبه إذا لم يتب، والقرآن لم يأمر إلا بالجلد أو القطع)(5). والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالصلاة على الغال وعلى قاتل نفسه، ولو كانوا كفاراً أو منافقين لم تجز الصلاة
(1) سقط من المطبوع.
(2)
سقط من المطبوع.
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
سقط من المطبوع.
عليهم. فعُلم أنهم لم تحبط إيمانهم كله.
(وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن كان مدمن الخمر، وكلما أتي به إليه حدّه فلعنه رجل)(1) فقال: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» (2). (وحب الله ورسوله)(3) من أعظم شعب الإيمان. فعلم أن إدمان (شرب الخمر)(4) لا يذهب (جميع الإيمان وإن أذهب بعضها)(5). وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة: «أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (6). ولو (كان إيمانهم كله قد)(7) حبط لم يكن في قلوبهم شيء منه (ولم يخرجوا)(8).
وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32].
(1) سقط من المطبوع.
(2)
رواه البخاري (6780) كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وإنه ليس بخارج من الملة، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
في المطبوع: الشعب كلها.
(6)
رواه البخاري (44) كتاب الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه، ومسلم (193) كتاب الإيمان من حديث أنس رضي الله عنه.
(7)
سقط من المطبوع.
(8)
سقط من المطبوع.
فجعلهم من المصطفين (مع ظلمهم لأنفسهم، فلو كان الذنب يحبط جميع الإيمان لم يكن منهم ظالم لنفسه بل كان من غيرهم من الكفار. والمعتزلة يدّعون أنهم العدلية، فأي عدل في أن تكون سيئة واحدة تحبط حسنات كثيرة أعظم منها قدراً ووصفاً، وقد ثبت في الصحاح حديث أبي ذر: «وإن زنا وإن سرق» (1). فلو كان الزنا والسرقة كفراً محبطاً لجميع الإيمان لكان التقدير: وإن كفر) (2).
فإذا كانت (السيئات)(3) لا تحبط جميع الحسنات، فهل تحبط بقدرها (من الحسنات)(4)؟
وهل تحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر؟
هذا فيه قولان للمنتسبين إلى السنة: منهم من ينكر (الإحباط مطلقاً فيقول: ما ثَم إحباط، لا في الجميع ولا في البعض)(5)، ومنهم من يقول بذلك (في البعض)(6) كما دلت عليه
(1) رواه البخاري (1237) كتاب الجنائز باب ما جاء في الجنائز، ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، ومسلم (94) كتاب الإيمان من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(2)
سقط من المطبوع.
(3)
زيادة من المطبوع.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
سقط من المطبوع.
(6)
سقط من المطبوع.
النصوص. مثل قوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} الآية. فدل ذلك على أن هذه السيئة تبطل الصدقة، وقد ضرب مثله (بالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله ولا باليوم [الآخر] (1) وجعل مثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً) (2) وقالت عائشة: أخبري زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب (3).
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2)
سقط من المطبوع وبدلها: بالمرائي.
(3)
رواه عبد الرزاق (8/ 184) وابن المنذر في الأوسط (10/ 365) والبيهقي (5/ 330) من طريق أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية، ورواه الدارقطني (3/ 477) من طريق يونس بن أبي إسحاق ، عن أمه العالية ، قالت: خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة
…
. وقال الشافعي كما في السنن الكبرى للبيهقي (5/ 331): وجملة هذا أنا لا نثبت مثله على عائشة. قال الدارقطني: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما.
قال ابن عبد البر في الاستذكار (19/ 25): وهو خبر لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولا هو مما يحتج به عندهم. وامرأة أبي إسحاق، وامرأة أبي السفر، وأم ولد زيد بن أرقم كلهن غير معروفات بحمل العلم ..... والحديث منكر اللفظ لا أصل له؛ لأن الأعمال الصالحة لا يحبطها الاجتهاد، وإنما يحبطها الارتداد، ومحال أن تلزم عائشة زيدًا التوبة برأيها، ويكفره اجتهادها، فهذا ما لا ينبغي أن يظن به ولا يقبل عليها
…
وذهب ابن القيم الى تقوية أثر عائشة كما في إعلام الموقعين (3/ 132)، وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (4/ 69) عن الإسناد الذي أسنده الإمام أحمد قال: حدَّثنا محمَّد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق السَّبيعيِّ عن امرأته: هذا إسنادٌ جيدٌ. اهـ وذكره السخاوي في الفتاوى الحديثية (ص 228) أن الإمام أحمد رواه في المسند. ولم أجده في المسند.
وأما قوله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} وحديث صلاة العصر ففيه نزاع. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] قال الحسن: بالمعاصي والكبائر. وعن عطاء: بالشرك والنفاق. وعن ابن السائب: بالرياء والسمعة وعن مقاتل: بالمن (1).
وذلك أن قوما (من الأعراب قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أتينا طائعين، فلنا عليك حق. فنزلت هذه الآية ونزل قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا})(2).
فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر تحبط (بعض)(3) الأعمال. فإن قيل: لم يرد بذلك إلا إبطالها بالكفر. قيل: الكفر منهي عنه في نفسه وموجب للخلود الدائم،
(1) انظر الأقوال في زاد المسير (4/ 122) وتفسير البغوي (7/ 290).
(2)
سقط من المطبوع، وبدلها في المطبوع: منوا بإسلامهم. وذكر خبر النزول ابن الجوزي في زاد المسير، وقد جاء نحوه فيما رواه النسائي في الكبرى (11455) ومن طريقه الضياء في المختارة (10/ 346) وإسناده صحيح. ورواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 531) بإسناد صحيح مرسل عن قتادة.
(3)
سقط من المطبوع.
فالنهي عنه لا يُعبر عنه (بمجرد لا تبطلوا أعمالكم)(1) بل يذكر على وجه التغليظ. كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية ونحوها.
والله سبحانه في هذه الآية وفي آية المن سماها إبطالا لم يسمه إحباطا؛ ولهذا ذكر بعدها الكفر بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد: 34].
فإن قيل: المراد بذلك إذا دخلتم فيها فأتموها، وبهذا احتج من قال: التطوع يلزم بالشروع. قيل: لو قدر أن الآية تدل على أنه منهي عن إبطال بعض العمل فالنهي عن إبطاله كله أولى بدخوله فيها، فكيف وذلك قبل فراغه قد لا يسمى صلاة ولا صوما (وإنما يسمى بذلك بعد كماله)(2).
ثم يقال: الإبطال بالضد يؤثر قبل الفراغ وبعده، وأما ما ذكروه فهو أمر بالإتمام والإبطال هو إبطال الثواب، ولا نسلم أن من لم يتم الصوم والصلاة يبطل جميع ثوابه، بل قد يقال: إنه يثاب على ما فعل من ذلك. وقد ثبت في الحديث الصحيح
(1) سقط من المطبوع.
(2)
سقط من المطبوع.
حديث المفلس «الذي يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال (1)، وقد قتل هذا، وأخذ مال هذا، وانتهك عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته» (2). الحديث.
لكن هذا في حقوق العباد يدل على أن الحسنات تؤخذ في المظالم فإذا لم تبق حسنة أخذ من سيئات المظلوم فجعلت على الظالم. وقال: «من كانت لأخيه عنده مظلمة في دم أو مال أو عرض فليأته فليتحلل منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار إلا الحسنات والسيئات» (3). وهذا يبين أن المقتول ظلما يأخذ من حسنات قاتله أو يأخذ القاتل من سيئاته فتُجعل عليه.
وقد قال أحد ابني آدم: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} ، وفيه قولان مشهوران: أحدهما: تبوء بإثم قتلي وإثمك الذي في عنقك. هذا مأثور عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. والثاني: تبوء بإثمي في خطاياي وإثمك في قتلك لي. وهو مروي عن مجاهد. قال ابن جرير: والصحيح عن مجاهد هو القول الأول (4).
(1) هنا انتهى ما في المطبوع (10/ 640). وتبدأ تكملتها من المخطوط.
(2)
رواه مسلم (2581) كتاب البر والصلة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (2449) كتاب المظالم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
انظر الأقوال في تفسير ابن جرير الطبري (8/ 330).
فعلى الأول لفظ الإثم مضاف في الثاني إلى الفاعل، وفي الأول مضاف إلى المفعول، وعلى الثاني هو مضاف فيهما إلى الفاعل. وبعض الناس يقول: ما ترك القاتل على المقتول من ذنب. وليس المراد أن القاتل يحمل جميع سيئاته، بل قد روي أن القتل كفارة للمقتول.
وعن علي بن الحسين بن علي أنه بلغه قتل ابن زياد وهو يطوف فساءه ذلك، قال: فقيل له وما تكره من ذلك؟ قال: لأن القتل كفارة المقتول (1).
والذي عليه الحديث أنه إن كانت له حسنات أخذت منه، وإلا جعلت من سيئات المظلوم عليه، ولهذا يبوء بإثم المظلوم لكن ليس فيه أنه يحمل جميع سيئات المظلوم، وقد يكون المقتول ظلماً عليه أوزار كبيرة وقد قتل نفوساً، فلا يكون إثم قتله بقدر الإثم من قتلهم كلهم، لكن قد يقال في القصة المعنية لم يكن على المقتول من السيئات أعظم من سيئة قتله، فإن قتله أعظم الذنوب بعد الكفر، وهو أول مقتول قُتل على وجه الأرض، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن
(1) لم أجد من خرّجه.
آدم الأول كفل من دمها» (1). لأنه أول من سن القتل.
فهذا الإثم الذي حصل بقتل المظلوم عظيم جداً لم تكن على المظلوم سيئات مثله. وحينئذ فالقاتل يبوء بالسيئات التي كانت على المقتول مع سيئات نفسه، وكان مثل هذا القاتل ما ترك على المقتول المظلوم من ذنب، وكذلك لو كانت لهذا القاتل حسنات لأخذ المقتول المظلوم منها حقه، وهذا لأنه إذا كان كافراً لم تكن له حسنة. وقد اختلف الناس في القاتل قابيل: هل كان كافراً أو فاسقاً غير كافر؟ على قولين.
وقد قال سبحانه: {فَأَصْبَحَ} قال ابن عباس: من الخاسرين في الدنيا والآخرة، فخسرانه الدنيا أنه أسخط والديه وبقي بلا أخ، وخسرانه في الآخرة أنه أسخط ربه وصار إلى النار. قال الزجاج: أصبح من الحسنات خاسراً. وقال أبو يعلى: من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إيّاها، والخاسر الذي خسر ما كان له وهذا يدل على ذهاب حسناته إما بالكفر وإما بالقصاص (2).
(1) رواه البخاري (3335) كتاب أحاديث الأنبياء باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، ومسلم (1677) كتاب القسامة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
انظر زاد المسير (1/ 538).
وقد ذكر الله سبحانه وزن الحسنات والسيئات في عدة آيات، فقال تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] الآية ونحوها مثل الآية التي في آخر المؤمنين، والتي في سورة الأنبياء، والتي في سورة القارعة.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم» (1). وفي حديث البطاقة الذي رواه الترمذي وغيره: «فتوضع البطاقة في كفة والسجلاّت في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلاّت» (2).
والموزون سواء كانت هي الصحائف أو الأعمال تجعل أجساماً كما يجيء ثواب البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف (3)، ويجيء ثواب القرآن في
(1) رواه البخاري (6406) كتاب الدعوات باب فضل التسبيح، ومسلم (2694) كتاب الذكر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (6994) والترمذي (2639) وابن ماجه (4300) والحاكم (1/ 46) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. حسنه الترمذي وصححه الحاكم والألباني في الصحيحة (135).
(3)
رواه مسلم (804) كتاب الصلاة من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
صورة الرجل الشاحب، فيقول:«أنا الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك» (1). وكما في حديث القبر أنه يأتيه عمله الصالح في صورة شاب حسن الوجه، وعمله السيء في صورة قبيحة (2). وكذلك إتيان الموت يوم القيامة في صورة كبش أملح (3) وغير ذلك.
والناس لهم قولان في قلب الأعراض أجساماً، منهم من يُجوّز ذلك فيكون نفس العمل قُلب عيناً قائمة بنفسها، ومنهم من لا يُجوّزه فيقول جُعل منه. ومن هذا الباب صعود الأعمال إلى الله سبحانه فإنه تصعد الصحف، وكذلك جاءت الآثار بصعود صور الأعمال كما في الحديث: «إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله دويّا حول العرش يذكرن
(1) رواه أحمد (38/ 41) وابن ماجه (3781) والدارمي (3434) وغيرهم، من حديث بريدة رضي الله عنه. فيه بشير بن مهاجر، قال أحمد: منكر الحديث قد اعتبرت أحاديثه فإذا هو يجيئ بالعجب. وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه. انظر تهذيب التهذيب (1/ 468)، وضعفه الألباني في الجامع الصغير (6316).
(2)
رواه أحمد (30/ 499) وابن أبي شيبة (12059) والحاكم (1/ 93) والبيهقي في شعب الإيمان (390) وغيرهم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. وصححه الحاكم والبيهقي والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3558).
(3)
رواه البخاري (4730) كتاب تفسير القرآن باب قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ، ومسلم (2849) كتاب الجنة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
بصاحبهن» (1). وهو في السنن.
وكذلك قوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، وكذلك قوله:{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف: 49]، وقوله:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ • وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]. ويدل عليه الحديث الذي في الصحيحين: ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا مُثّل له يوم القيامة شجاع أقرع» (2). الحديث.
وهو تأويل قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] وقوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] الآية. لكن هذه أجسام، وقد قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ • وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 12، 13]
(1) رواه أحمد (30/ 312) وابن أبي شيبة (29415) وابن ماجه (3809) والحاكم (1/ 682) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. صححه الحاكم والألباني في الصحيحة (3358)
(2)
رواه البخاري (1403) كتاب الزكاة باب إثم مانع الزكاة، ومسلم (988) كتاب الزكاة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الآية. وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] الآية، وقال تعالى:{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31]، قال السدي وعمرو بن قيس الملائي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله قد طيّب ريحك وحسّن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم، وقرأ:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]، أي ركباناً، وأن الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله قد قبّح صورتك ونتّن ريحك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا فأنا عملك السيء طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم (1).
وكذلك قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] الآية. وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] وقال تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ} [الحديد: 12]، وفي الآية الأخرى:{يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم: 8]
(1) رواه ابن جرير في تفسيره (9/ 216) وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1281).
الآية. قال ابن مسعود: منهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نوراً نوره على قدر إبهامه، يطفئ مرة ويَقِد أخرى. وفي لفظ عنه: يُعطون نوراً على قدر أعمالهم فمنهم من يُعطى نوراً كالنخلة وكالرجل القائم وأدناهم على إبهامه فيُطفئ مرة ويَقِد أخرى (1). وقال قتادة: ذُكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن وصنعاء فدون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه (2).
ومعلوم أن النور الذي يسعى بين أيديهم أعيان قائمة بنفسها ليست أعراضاً قائمة بهم، والنور الذي يضيء لا بد أن يكون عيناً قائمة بنفسها ليست أعراضاً وضوؤه ينتشر. ولهذا من قال: الموزون في الميزان جواهر مضيئة وهي الحسنات وجواهر مظلمة وهي السيئات. وفيها قول ثالث: إن الله يجعل في كل من
(1) رواه ابن أبي شيبة (34558) والحاكم وصححه (2/ 520) من طريق قيس بن السكن عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو أثر صحيح، ورواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (278) والحاكم وصححه من طريق مسروق عن ابن مسعود (2/ 408)، وجاء مرفوعاً عند الطبراني (9/ 357) والحاكم (4/ 632) وصححه، ورجّح الدارقطني رفعه كما في العلل (5/ 244)، وصححه أيضاً الألباني في الترغيب (3591).
(2)
رواه ابن جرير في تفسيره (22/ 397) وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/ 52).
الكفتين علامة على قدر الثقل والخفة.
وقد ضرب الله مثل الإيمان بنور في مشكاة، ومثل الكفر بظلمات بعضها فوق بعض، فالدلائل الكثيرة تدل على أن الأعمال التي هي أعراض تُصور صور قائمة تُحمل أو تَحمل أصحابها وتوزن وتمشي أمام أصحابها وتخاطب أصحابها وتؤنسهم، ولبسط هذا موضع آخر.
فإن المقصود أنه إذا نطق الكتاب والسنة وأقوال السلف بوزن الحسنات والسيئات دل على قول من قال بذهاب بعض الحسنات بالسيئات كما يذهب بعض السيئات بالحسنات.
وعن ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان، فأما المؤمن فيُؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان وهو الحق فتثقل حسناته على سيئاته فيوضع عمله في الجنة فيعرفها بعمله فذلك قوله:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الناجون وهم أعرف بمنازلهم في الجنة إذا انصرفوا إليها من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم، وأما الكفار فيؤتي بأعمالهم في أقبح صورة فتوضع في كفة الميزان وهي الباطل فيخف وزنه حتى يقع في النار ثم
يقال له إلْحَقْ بعملك (1).
وهو سبحانه ذكر من ثقلت موازينه فدخل الجنة ومن خفت موازينه فدخل [النار](2) على طريقة القرآن في ذكر أهل الوعد المحض وأهل الوعيد المحض، كما قال أبو بكر الصديق: إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقلة عليهم، وحُق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفة عليهم، وحُق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً (3).
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (1/ 447) وإسناده ضعيف.
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
(3)
رواه ابن أبي شيبة (37056) وأبو داود في الزهد (28) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد بن الحارث عن أبي بكر، وهو مرسل صحيح. وله طريق آخر رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 36) بسند صحيح مرسل عن فطر بن خليفة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط، وتابعه سعيد بن المرزبان عن عبدالرحمن وسعيد ضعيف، رواه سعيد بن منصور في التفسير (5/ 133). وله طريق آخر بسند مرسل ضعيف رواه الطبري في تفسيره (21/ 142) من طريق ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد عن أبي بكر. وبمجموع هذه الطرق يدل على ثبوت هذا الخبر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وأما من كان داخلا في الوعد والوعيد فمذهب الصحابة والتابعين وأهل السنة والجماعة أنه يستحق الثواب والعقاب جميعاً، فإذا عذّبه الله بذنوبه ما شاء أن يعذبه أخرج بعد ذلك من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
ومذهب الخوارج والمعتزلة ما ثمَّ إلا مستحق للوعد فقط مُنَعّم لا يعذب أو مستحق للوعيد فقط مُعذب لا يُنعّم، وقد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع، ولهذا قالوا بالإحباط المطلق الذي لا يبقى معه حسنة.
وإذا كانت النصوص وإجماع السلف دلّ على أن من الناس من ينُعّم ويُعذب، وأن فيه بعض الإيمان، فهذا إذا كانت له حسنات كثيرة وسيئات كثيرة يكون سيئاته أبطلت بقدرها من حسناته، وإذا ترجحت سيئاته دخل النار، ولا يلزم من رجحان السيئات أن تكون الحسنات قد بطلت حتى يصير لا حسنة له بحال كالكفار، فإن الموزون هي الأعمال المصورة وصحفها تدل على أن له حسنات وسيئات، وأما من لا حسنة له بحال فذاك ميزانه خفيفة خفة مطلقة ليس فيها شيء من الحسنات التي تثقل بها، فإن الخفة والثقل إنما هو في الحسنات والتي يُفلح صاحبها إذا ثقلت كفتها ويخسر إذا خفت، فإذا قدر حسنات محضة ليس بإزائها سيئات فهذه في غاية الثقل،