الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا قدر سيئات محضة ليس بإزائها حسنات فهذه في غاية الخفة.
وقال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهم: واعلم أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقل ذلك عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلا، وأنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل، وخفة ذلك عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً (1).
و
الوزن على وجهين:
أحدهما: أن يوضع بإزاء الحسنات والسيئات ما يُعرف مقدارها ثقلها وخفتها كما توزن الأموال، ثم يُنظر بعد هذا في مقادير الموزونات وتعادلها وتفاضلها.
والثاني: أن يوزن أحدهما بالآخر كما يوزن دراهم زيد بدراهم عمرو، وإذا بيع أحدهما بالآخر مثلاً بمثل فهذا الوزن الذي يدل عليه حديث البطاقة حيث قيل فيه: فيوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات (2).
(1) سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
ووصف الميزان بالثقل والخفة مطلقاً من غير وصف الثقل بأنه الحسنات ولا وصف رجحان هذا الموزون على هذا الموزون دل على أن الحسنات لها ثقل، وأما السيئات فلا ثقل لها أصلاً، فإذا لم يوضع في الميزان إلا السيئات لم يكن لها ثقل بل تكون خفيفة خفة مطلقة، وإنما يكون ثقل إذا كان فيها حسنات، والحسنات نور مصور والسيئات ظلمة، ولهذا قال الصدّيق: وحُق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً.
فالكافر الذي ليس له إلا سيئات يكون ميزانه خفيفاً خفة مطلقة، وأما المسلم الذي له حسنات وسيئات وسيئاته أكثر فيخف ميزانه لما يوزن فيه من السيئات الزائدة، وهذا هو الذي يُعذب ثم يخرج من النار.
والميزان يوصف تارة بالثقل والخفة وتارة برجحان أحد الجانبين على الآخر، وهذا إنما يكون فيما إذا اشترك المتقابلان في الثقل واختص أحدهما بمزيد ثقل كالموزونات بميزان الكفتين فإنه يكون في أحدهما ما له ثقل وفي الأخرى ما له ثقل، فإما أن يتساويا أو يرجح أحدهما على الآخر، وهذا كما في الحديث: «رأيت كأني جُعلت في كفة والأمة في كفة فرجحت بالأمة، ثم جعل أبو بكر في كفة والأمة في كفة فرجح أبو
بكر» (1)، ثم ذكر مثل ذلك في عمر.
فإذا وزن حسنات شخصين قيل حسنات أحدهما أرجح، وكذلك لو وزن ثواب عملين قيل ثواب هذا العمل أرجح، والله تعالى لم يوصف الموازين بالرجحان، وإنما وصفها بالخفة والثقل، فالحسنات لها ثقل وأما السيئات فلا ثقل لها أصلاً، فإذا وزنت الحسنات بالسيئات لم يمكن أن يثقل جانب السيئات على ما في الميزان لأنه كأن يكون الثقيل مذموماً، والقرآن لم يجعل الثقل إلا محموداً، ولم يقل في القرآن: فمن رجحت حسناته، ومن رجحت سيئاته، بل قال: فمن ثقلت موازينه ومن خفت موازينه. يدل ذلك على أن من لا حسنة له لا يقام له وزن، قال الله تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا • الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104] إلى قوله {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]، فهؤلاء أحبط الله أعمالهم مطلقاً فلم يُبق لهم حسنة فلا يقيم لهم يوم القيامة وزناً. وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس يوم القيامة بأعمال هي
(1) رواه الطبراني في الكبير (20/ 86) وابن عدي في الكامل (7/ 549) في ترجمة عمرو بن واقد، وابن عساكر في تاريخ دمشق (39/ 114) وعمرو بن واقد ضعيف جداً، وضعّفه الألباني في الضعيفة (7009). وروى أحمد نحوه (9/ 338) وعبد بن حميد (850) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفي إسناده عبيد الله بن مروان وهو مجهول الحال.
عندهم في العِظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً (1).
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالرجل السمين العظيم فلا يزن عند الله قشر شعيرة أولئك (دفع) الملك منهم سبعين ألفاً في النار» (2).
وفي حديث أنه نظر إلى ساقي ابن مسعود وحموشتهما فقال: لهما في الميزان أثقل من أحُد (3).
وهذا فيه إعادة الوزن إلى نفس الرجال. وقيل في الآية: لا يكون عندنا وزن ولا مقدار. وقيل: لا يقام لهم ميزان (4). لأن الميزان يوضع لمن له حسنات وسيئات من الموحدين.
فهؤلاء قد أخبر الله تعالى في موضع آخر أنهم خفت موازينهم
(1) ذكره البغوي عن أبي سعيد في تفسيره (5/ 211). وقد جاء مرفوعاً من حديث ثوبان رضي الله عنه: رواه ابن ماجه (4245) والروياني (651) والطبراني في الأوسط (4632) وغيرهم. وصححه الألباني كما في الصحيحة (505).
(2)
رواه بمعناه: البخاري (4729) كتاب تفسير القرآن بَابُ {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ، ومسلم (2785) كتاب صفة القيامة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد (7/ 98) والطيالسي (353) والبزار (1827) وغيرهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. صححه الحاكم (3/ 358) من طريق آخر والألباني في الصحيحة (2750).
(4)
انظر زاد المسير (3/ 112).
وأنهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون. وخفتها بأنها لم يكن فيها ما له وزن وثقل، وقد وصف سبحانه الخير والشر بالثقل في قوله:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ • وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
فأخبر أن الخير والشر يكون مثقال ذرة (1)، وحينئذ فإذا وزن هذا بهذا رجح أحدهما على صاحبه فهذا وزن الحسنات بالسيئات كما في حديث البطاقة، فهذا لا يكون إلا لمن له حسنة توزن. والكافر المحض قد ضلّ عمله لم يبق له حسنة توزن، فإن عمله كله سيئات، بل هذا لا يقيم الله له وزناً، وإن كانوا يظنونها حسنات، كما قال أبو سعيد.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] الآية، وقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] الآية. فهؤلاء تخف موازينهم خفة مطلقة إذ ليس فيها ما يثقل به فإنها لا تثقل إلا بالحق، وهؤلاء ليس معهم إلا الباطل، وحُق لميزان لا يوضع
(1) في هذا الموطن هناك حاشية: ( .. ) وقال أبو الدرداء: لا تحقرن شيئاً من الخير أن تعمله، فإنك إذا رأيته في ميزانك ( .. ) مكانه، ولا تحقرن شيئاً أن تجتنبه فإنك إذا رأيته في ميزانك ( .. ) مكانه. اهـ
فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً.
وهؤلاء وزن أعمالهم مقابلها بما فيها من خير أو شر، وهل كانت خالصة لله أم لا؟ وهل وافقت أمره أم لا؟ فتوزن بما يبين جنسها وقدرها وصفتها، هل فيها حق يستحق صاحبها الثواب أم لا؟ كمن قيل أن عليه حقوق، فقيل هات ما أحضرت حتى نزنه وننقُده، فصار كلما أظهر شيئاً ظهر أنه رديٌ، حتى لم يظهر شيئاً يُحسب له.
ولهذا قال من قال من العلماء أن الكفار لا يُحاسبون أي لا يُحاسبون محاسبة تظهر فيها حسناتهم بسيئاتهم، بل يُحاسبون بمعنى أنهم تُعد أعمالهم وتُحصى، وتلك كلما وضعت في الميزان خفّ بها الميزان، وهذا الميزان لا نظير له في موازين الدنيا، فليس لنا ميزان يخف بما وضع فيه من الأجسام كانت ما كانت.
ولهذا قال من قال: المراد بالموازين العدل. وقيل في تفسير قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} قال مجاهد: والقضاء يومئذ العدل. وقال من قال: لكل شيء ميزان يحسبه (1)، فالمواقيت لها موازين والممسوحات لها موازين والكيلات لها موازين،
(1) انظر تفسير الطبري (10/ 68) وتفسير ابن أبي حاتم (5/ 1440).
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى توزن (1)، أي تُخرص ويُعرف قدرها، ووازنت بين الشيئين موازنة ووزاناً، وهذا يوازن هذا إذا كان على زنته أو كان يُحاذيه، وهو وزن الجبل أي ناحية منه، وزنة الجبل أي حذاه، وقد قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17] وقد قال جمهور المفسرين إنه: العدل. وقيل ما يوزن به وهو أعم مما يوزن به الأجسام الثقيلة والخفيفة (2).
وقد قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أنا تارك فيكم الثقلين أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (3). فسمى القرآن ثقلاً. وقال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2]. ويقال: اعطه ثقله أي وزنه، والثقلان الجن والإنس، ومثقال الشيء ميزانه من مثله، والمقصود هنا أن المسلم الذي وزنت حسناته وسيئاته إما جميعاً في ميزان كما في حديث البطاقة، وإما بأن عرف قدر
(1) رواه البخاري (2246) كتاب السلم باب السلم إِلى من ليس عنده أصل، ومسلم (1537) كتاب البيوع، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(2)
انظر تفسير الطبري (20/ 490).
(3)
رواه مسلم (2408) كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، والترمذي (3788) واللفظ له، من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
حسناته وقدر سيئاته عدل أحدهما بالآخر فوجدت سيئاته راجحة، فهذا يستحق العذاب لسيئاته الراجحة فيُعذب بها في النار بقدر ما يستحقه ثم يخرج بتلك الحسنات المرجوحة، ولو لم يكن فيها إلا مثقال ذرة، فبذلك المثقال يخرج من النار ولا يخلّد فيها، وليس هو كالذي ليس له حسنات بحال الذين حبطت أعمالهم كلها فلا يقام لهم يوم القيامة وزن، وبهذا يحصل الجواب عن رجحان السيئات والخروج من النار، فإن هذا أشكل على طائفة اعتقدوا أنه إذا رجحت السيئات لم يبق للحسنات أثر أصلاً بل يبقى وجودها كعدمها، وحينئذ فهذا إذا دخل النار لم يبق معه شيء من الإيمان يخرج به، فلهذا قال بعضهم: الإيمان ليس مما يوزن بالسيئات، وقد تقدم الجواز والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلّم تسليماً.