الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدلة من الكتاب
…
الآية الأولى
32-
فقد قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:207) .
سبب النزول
33-
وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية1:
أن صهيبا خرج مهاجرا من مكة إلى المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فلحقه المشركون وهو وحده.
فنشل كنانته، وقال: والله لا يأتي رجل منكم إلا رميته.
فأراد قتالهم وحده، وقال: إن أحببتم أن تأخذوا مالي بمكة فخذوه، وأنا أدلكم عليه.
ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ربح البيع أبا يحي".
1 قال ابن النحاس رحمه الله: بعد أن ذكر طرفا من المفسرين الذين ذكروا سبب نزول هذه الآية بما أورده شيخ الإسلام؛ منهم ابن أبي حاتم وأبو بكر المنذري، وقال:"وقد روى القصة صهيب هذا جماعة من المفسرين غير من ذكرنا منهم ابن مردويه والواحدي والقرطبي وغيرهم، وقال ابن كثير الدمشقي: وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} ". مشارع الأنوار (1/523) .
راجع: العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (1/525، 526) وتفسير القرطبي (3/20) وتفسير الطبري (2/321) وتفسير البغوي (2/329) وزاد المسير (1/223) والدر المنثور (1/577) وروح المعاني (2/97) .
34-
وروى أحمد بإسناده: أن رجلا حمل وحده على العدو فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: كلا بل هذا ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:207) .1
35-
وقوله تعالى: {يَشْرِي نَفْسَهُ} أي يبيع نفسه، فيقال شراه وبيعه سواء، واشتراه وابتاعه سواء، ومنه قوله:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (يوسف: من الآية20) أي باعوه.
فقوله: {يَشْرِي نَفْسَهُ} أي يبيع نفسه لله تعالى ابتغاء مرضاته وذلك يكون بأن يبذل نفسه فيما يحبه الله ويرضاه، وإن قتل أو غلب على ظنه أنه يقتل.
1 رواه ابن جرير (4/249 -شاكر) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "بعث عمر جيشا فحاصروا أهل حصن وتقدم رجل من بجيلة فقاتل فقتل فأكثر الناس فيه يقولون ألقى بيده إلى التهلكة قال فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال كذبوا أليس الله عز وجل يقول {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} " وعزاه في كنز العمال أيضا (11328) لوكيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
ورواه البيهقي (9/46) عن مدرك بن عوف الأحمسي أنه كان جالسا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكروا رجلا شرى نفسه يوم نهاوند فقال: ذالك والله يا أمير المؤمنين خالي زعم الناس أنه ألقى بيديه إلى التهلكة، فقال عمر رضي الله عنه:"كذب أؤلئك بل هو من الذين اشتروا الآخرة بالدنيا".
ورواه ابن جرير (4/249 -شاكر) أن هشام بن عامر حمل على الصف حتى خرقه، فقالوا: ألقى بيده إلى التهلكة!! فقال أبو هريرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ} .
الآية الثانية
36-
37-
وهذه الآية وهي قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} يدل على ذلك أيضا.
أفضل الشهادة
38-
فإن المشتري يسلم إليه ما اشتراه، وذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله وطاعته، وإن غلب على ظنه أن النفس تقتل والجواد يعقر، فهذا من أفضل الشهادة.
39-
لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها [أحب] 1 إلى الله من هذه الأيام" يعني أيام العشر.
قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم
1 ما بين المعقوفتين زيادة من البخاري يستقيم بها السياق.
لم يرجع من ذلك بشيء" 1.
40-
وفي رواية: "يعقر جواده وأهريق دمه"2.
41-
وفي "السنن" عن عبد الله بن حبشي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ قال: طول القيام.
قيل: أي الصدقة أفضل؟ قال جهد المقل.
قيل: فأي الهجرة [أفضل؟ قال: من هجر ما حرم الله عليه.
قيل: فأي الجهاد أفضل؟] 3 قال: من جاهد المشركين بنفسه وماله.
قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه، وعقر جواده4.
1 البخاري (969) بلفظ: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه قالوا ولا الجهاد قال ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء" واللفظ للترمذي (757) وقال: "حسن صحيح غريب" وقال: "وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو".
2 الطبراني في الصغير برقم (889) وفي الأوسط برقم (6696) .
3 ما بين المعقوفتين زيادة في مصادر التخريج يستقيم بها السياق.
4 رواه أبو داود (1449) والنسائي في الكبرى (2/32) وفي المجتبى (5/59) وهو عند ابن ماجه (2794) مختصرا، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/399) .
"جهد المقل": قال ابن الأثير: "قد تكرر لفظ الجهد والجهد في الحديث كثيرا وهو بالضم الوسع والطاقة وبالفتح المشقة وقيل المبالغة والغاية وقيل هما لغتان في الوسع والطاقة فأما المشقة والغاية فالفتح لا غير " النهاية (1/320) .
الآية الثالثة
42-
وأيضا: فإن الله سبحانه قد أخبر1 أنه أمر خليله بذبح ابنه ليبتليه هل يقتل ولده في محبة الله وطاعته؟!
43-
وقتل الإنسان ولده قد يكون أشق عليه من تعريضه نفسه للقتل، والقتال في سبيل الله أحب إلى الله مما ليس كذلك.
امتحان إبراهيم بذبح ابنه
44-
والله أمر إبراهيم بذبح ابنه قربانا؛ ليمتحنه بذلك ولذلك نسخ ذلك عنه لما علم صدق عزمه في قتله؛ فإن المقود لم يكن ذبحه لكن ابتلاء إبراهيم2.
2 فائدة: قال المصنف رحمه الله: "والتحقيق أن الأمر الذي هو ابتلاء وامتحان يحض عليه من غير منفعة في الفعل متى اعتقده العبد وعزم على الامتثال حصل المقصود وإن لم يفعله كإبراهيم لما أمر بذبح ابنه وكحديث "أقرع وأبرص وأعمى" لما طلب منهم إعطاء بن السبيل فامتنع الأبرص والأقرع فسلبا النعمة وأما الأعمى فبذل المطلوب فقيل له أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك وهذا هو الحكمة الناشئة من نفس الأمر والنهي لا من نفس الفعل فقد يؤمر العبد وينهى وتكون الحكمة طاعته للأمر وانقياده له وبذله للمطلوب كما كان المطلوب من إبراهيم تقديم حب الله على حبه لابنه حتى تتم خلته به قبل ذبح هذا المحبوب لله فلما أقدم عليه وقوى عزمه بإرادته لذلك تحقق بأن الله أحب إليه من الولد وغيره ولم يبق في قلبه محبوب يزاحم محبة الله " مجموع الفتاوى (14/145) .
ابتلاء الله للمؤمنين ببذل أنفسهم
45-
والله تعالى يبتلي المؤمنين ببذل أنفسهم، ليقتلوا في سبيل الله ومحبة رسوله؛ فإن قتلوا كانوا شهداء، وإن عاشوا كانوا سعداء.
46-
كما قال: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (التوبة: من الآية52) .
الآية الرابعة
47-
وقد قال لبني إسرائيل: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} (البقرة: من الآية54) .
48-
أي: ليقتل بعضكم بعضا.
49-
فألقى عليهم ظلمة، حتى جعل الذين لم يعبدوا العجل يقتلون الذين عبدوه.
50-
هذا الذي كان في شرع من قبلنا من أمره بقتل بعضهم بعضا1 قد عوضنا الله بخير منه وأنفع، وهو جهاد المؤمنين عدو الله وعدوهم وتعريضهم أنفسهم لأن يقتلوا في سبيله بأيدي عدوهم لا بأيدي بعضهم بعضا، وذلك أعظم درجة وأكثر أجرا.
1 قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال الزهري لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر وموسى رافع يديه حتى إذا فتر بعضهم قالوا يا نبي الله أدع الله لنا وأخذوا بعضديه يسندون يديه فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض فألقوا السلاح وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى ما يحزنك أما من قتل منهم فحي عندي يرزقون وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل رواه بن جرير بإسناد جيد عنه " تفسير ابن كثير (1/93، 94) .
وراجع أيضا: تفسير الطبري (2/73) ومعاني القرآن (3/84) وتفسير أبي السعود (1/102) وتفسير الواحدي (2/703) وزاد المسير (1/82) والدر المنثور (1/168) وروح المعاني (1/260) .
51-
ذم الفرار من الموت
52-
وأيضا: فإن الله أمر بالجهاد في سبيله بالنفس والمال مع أن الجهاد مظنة القتل بل لا بد منه في العادة من القتل.
الآية الخامسة
53-
فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} إلى قوله: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} النساء:77-78) .
الآية السادسة
54-
55-
فأخبر سبحانه:
* أن الفرار من الموت أو القتل لا ينفع بل لا بد أن يموت العبد وما أكثر من يفر فيموت أو يقتل، وما أكثر من ثبت فلا يقتل1.
* ثم قال: ولو عشتم لم تمتعوا إلا قليلا ثم تموتوا.
* ثم أخبر أنه لا أحد يعصمهم من الله؛ إن أراد أن يرحمهم أو يعذبهم، فالفرار من طاعته لا ينجيهم.
1 تكررت هنا من الناسخ جملة طويلة!!
* وأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير.
مايوجبه الجبن من الفرار هو من الكبائر
56-
وقد بين في كتابه: أن ما يوجبه الجبن من الفرار هو من الكبائر الموجبة للنار1، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الأنفال:15-16) .
1 فائدة قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الجبن والجبن خلق مذموم عند جميع الخلق وأهل الجبن هم أهل سوء الظن بالله وأهل الشجاعة والجود هم أهل حسن الظن بالله كما قال بعض الحكماء في وصيته عليكم بأهل السخاء والشجاعة فإنهم أهل حسن الظن بالله والشجاعة جنة للرجل من المكاره والجبن إعانة منه لعدوه على نفسه فهو جند وسلاح يعطيه عدوه ليحاربه به وقد قالت العرب الشجاعة وقاية والجبن مقتلة وقد أكذب الله سبحانه أطماع الجبناء في ظنهم أن جبنهم ينجيهم من القتل والموت فقال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} (الأحزاب: 16)
…
واعتبر ذلك في معارك الحروب بأن من يقتل مدبرا أكثر ممن يقتل مقبلا
وفي وصية أبي بكر الصديق لخالدبن الوليد: "احرص على الموت توهب لك الحياة".
وقال خالد بن الوليد: "حضرت كذا وكذا زحفا في الجاهلية والإسلام وما في جسدي موضع إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف وها أنا ذا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء ولا ريب عند كل عاقل أن استقبال الموت إذا جاءك خير من استدباره والله أعلم" الفروسية (491-493) .
57-
فأخبر أن الذين يخافون العدو خوفا منعهم من الجهاد منافقون فقال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (التوبة:56-57) .
58-
وفي "الصحيحين" عن النبي أنه عد الكبائر؛ فذكر: "الشرك بالله وعقوق الوالدين، والسحر واليمين الغموس وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
وذكر منها: "الفرار من الزحف في الصفين"1.
59-
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شر ما في المرء: شح هالع، أو جبن خالع"2.
1 البخاري (2767) ومسلم (89)(145) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات"
2 رواه أبو داود (2511) وأحمد (2/302، 320) وابن حبان (4218) والبيهقي (9/170) بإسناد صحيح، وصححه الألباني في الصحيحة (560) .
"هالع": الهلع أشد الجزع والضجر النهاية (5/269) .
"وجبن خالع": وجبن خالع أي شديد كأنه يخلع فؤاده من شدة خوفه وهو مجاز في الخلع وهو المراد به ما يعرض من نوازع الأفكار وضعف القلب عند الخوف. النهاية (2/64) .