المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أدلة من السنة - قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح

[ابن تيمية]

الفصل: ‌أدلة من السنة

‌أدلة من السنة

فمن وجوه كثيرة:

عدد الكفار في بدر بقدر المسلمين ثلاث مرات

60-

أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر وكان عدوهم بقدرهم ثلاث مرات أو أكثر1، وبدر أفضل الغزوات وأعظمها.

61-

فعلم: أن القوم يشرع لهم أن يقاتلوا من يزيدون على ضعفهم، ولا فرق في ذلك بين الواحد والعدد، فمقاتلة الواحد لثلاثة كمقاتلة الثلاثة للعشرة.

المسلمون في أحد كانوا ربع الكفار

62-

وأيضا: فالمسلمون يوم أحد كانوا نحو من ربع العدو؛ فإن العدو كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها2، وكان المسلمون نحو السبعمائة أو قريبا منها3.

1 فائدة: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "جملة من شهد بدرا من المسلمين ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا منهم رسول الله كما قال البخاري

" وقال: "وأما جمع المشركين فأحسن ما يقال فيهم إنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف وقد نص عروة وقتادة أنهم كانوا تسعمائة وخمسين رجلا " البداية والنهاية (5/249، 253) وراجع زاد المعاد (3/171) .

2 راجع البداية والنهاية (5/348) وزاد المعاد (3/192، 195) .

3 قال العلامة ابن القيم رحمه الله في بيان ما اشتملت عليه غزوة أحد من الأحكام والفقه: "ومنها جواز الانغماس في العدو، كما انغمس أنس بن النضر وغيره" زاد المعاد (3/211) =

ص: 45

المسلمون في الخندق دون الألفين والأحزاب عشرة آلاف

63-

وأيضا: فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقدرهم مرات، كان أكثر من عشرة آلاف1، وهم الأحزاب الذين تحزبوا عليهم من قريش وحلفائها وأحزابها الذين كانوا حول مكة وغطفان2 وأهل نجد واليهود الذين نقضوا العهد وهم بنو قريظة جيران3 أهل المدينة، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفين.

حمل الرجل وحده على العدو وبمرأى النبي صلى الله عليه وسلم

64-

وأيضا: فقد كان الرجل وحده على عهد النبي صلى الله عليه وسلم4 يحمل على العدو بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم، وينغمس فيهم، فيقاتل حتى يقتل وهذا كان مشهورا بين المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه.

=يشير رحمه الله إلى ما رواه البخاري (2805) ومسلم (1903)(148) أن أنس بن النضر رضي الله عنه لما انهزم الناس في أحد لم ينهزم وقال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني المسلمين وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين" ثم تقدم، فلقيه سعد بن معاذ فقال أين يا أبا عمر؟ فقال أنس:"واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد"، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه.

قال أبو زرعة العراقي رحمه الله: "وفيه جواز الانغماس في صفوف الكفار والتعرض للشهادة، وهو جائز لا كراهة فيه عند جمهور العلماء"(7/206) .

1 راجع: زاد المعاد (3/271) .

2 في الأصل: "غطفا" والتصويب من درء التعارض للمصنف (7/52) .

3 في الأصل: "خبران" والتصويب من درء التعارض للمصنف (7/52) .

4 راجع: التعليق قبل السابق.

ص: 46

قصة خبيب بن عدي وأصحابه

65-

وقد روى البخاري في صحيحه1 عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب2.

فنطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة 3 بين عسفان4 ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان5.

فنهذوا إليهم بقريب من مائة رجل رام. وفي رواية: مائتي رجل. فاقتفوا آثارهم، حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا: هذا تمر يثرب 6.

1 البخاري (3045، 3989، 4086، 7402) وما أوردته من تفسير لغريب الحديث فمن فتح الباري (7/379-385) إلا ما نبهت عليه.

2 قوله: "وجد عاصم ابن عمر": قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب يعني لأمه قال وهو وهم من بعض رواته فإن عاصم بن ثابت خال عاصم بن عمر لا جده، لأن والدة عاصم هي جميلة بنت ثابت أخت عاصم وكان اسمها عاصية فغيرها النبي صلى الله عليه وسلم ".

3 قوله: "بالهدأة" للأكبر بسكون الدال بعدها همزة مفتوحة، وللكشميهني بفتح الدال وتسهيل الهمزة، وعند ابن إسحاق: الهدة بتشديد الدال بغير ألف، قال:"وهي على سبعة أميال من عسفان".

4 في الأصل: "عسفان"!! والصواب ما أثبته وهو الموافق لما في البخاري.

5 قوله: "يقال لهم بنو لحيان" بكسر اللام وقيل: بفتحها وسكون المهملة، ولحيان: هو ابن هذيل نفسه وهذيل هو ابن مدركة بن إلياس بن مضر.

6 في الأصل: كتب "يحنو يثرب"!! والتصويب من البخاري.

ص: 47

فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى موضع.

وفي رواية: إلى فدفد1- أي: مكان مرتفع - وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا أيديكم ولكم العهد والميثاق، لا يقتل منكم أحد.

مقتل عاصم بن ثابت في جملة سبعة من أصحابه

فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم! أما أنا فو الله فلا أنزل على ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم.

فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة2.

فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ نفر على الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ وزيد َابْنُ الدَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ.

غدر الكفار بالثلاثة الآخرين

فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ3 فربطوهم بها.

قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لَا أَصْحَبُكُمْ لِي بهَؤُلَاءِ أسْوَةً؛ يُرِيدُ الْقَتْلَى.

فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ، فأبى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُو

1 قوله: "لجئوا إلى فدفد" بفائين مفتوحتين ومهملتين الأولى ساكنة وهي الرابية المشرفة.

2 قوله: "في سبعة" أي في جملة سبعة.

3 قوله: "أوتار قسيهم" أوتار أقواسهم.

ص: 48

وقوع خبيب وزيد بن الدثنة في الأسر

بِخُبَيْبٍ وَزيد ابْنِ الدَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ.

فَابْتَاعَ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ خُبَيْبًا، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عمرو يَوْمَ بَدْرٍ.

وَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حتى أجمعوا على قتله.

تورع خبيب عن الغدر وقتل أولاد المشركين

فاسْتَعَارَ مِنْ بعض بنات الحارث مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا1، فَأَعَارَتْهُ فدرج بنيلها وهي غافلة حتى أتاه2 مجلسه على فخذه والموسى بيده؛ قالت: فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ.

فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ، مَا كُنْتُ لأفعل ذَلِكَ؟

كرامة لخبيب

قالت: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، فوَ اللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ قِطْفِا من عِنَبٍ3 فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ4 مِنْ ثَمَرٍ.

وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ رزقه اللَّهِ خُبَيْبًا.

1 قوله: "ليستحد بها" في رواية: "ليستطيب بها" والمراد أنه يحلق عانته. والإستحداد: حلق العانة بالحديد.

فائدة: قال ابن الأثير رحمه الله: "لأنه كان أسيرا عندهم وأرادوا قتله، فاستحد لألا يظهر شعر عانته عند قتله" النهاية (1/353) .

2 بهامش الأصل: "أتته"!!

3 قوله: "لقد رأيته يأكل من قطف العنب، وما بمكة يومئذ تمر" القطف بكسر القاف العنقود.

4 في الأصل: "وما يمكنه"!! والتصويب من البخاري.

ص: 49

فَلَمَّا خَرَجُوا به مِنْ الْحَرَمِ1 لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ.

خبيب أول من سن الركعتين عند القتل

قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دعوني أصلي رَكْعَتَيْنِ.

فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ.

فقَالَ: والله لَوْلَا أَنْ تحسبوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لزدت، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، واقتلهم بددا2 ولا تبقي منهم أحدا. قال:

فلست أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا

عَلَى أَيِّ جنب كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ

يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ3

ثم قام إليه أبو سروعة عقبة ابْنُ الْحَارِثِ فقتله، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصلاة4.

1 قوله: "فلما خرجوا به من الحرم" بين ابن اسحاق أنهم أخرجوه إلى التنعيم.

2 قوله: "واقتلهم بددا": " روي بكسر الباء جمع بدة وهي الحصة والنصيب أي اقتلهم حصصا مقسمة لكل واحد حصته ونصيبه ويروى بالفتح أي متفرقين في القتل واحدا بعد واحد من التبديد " النهاية لابن الأثير (1/105) ورياض الصالحين (1517) .

3 قوله: "أوصال شلو ممزع" الأوصال جمع وصل وهو العضو، والشلو بكسر المعجمة الجسد وقد يطلق على العضو، ولكن المراد به هنا الجسد، والممزع: المقطع. ومعنى الكلام: أعضاء جسد يقطع.

4 قال السهيلي رحمه الله: "وإنما صارت الركعتان سنة يعني عند القتل، لأنها فعلت زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عليها، واستحسنت من صنيعه"(الروض الأنف)(6/192) .

ص: 50

وأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يوم أصيبوا خَبَرَهُمْ.

وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قد قُتِلَ أن يؤتى بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ.

حماية الله لجسد عاصم ابن ثابت من المشركين

فَبُعِثَ الله لعَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ [مِنْ الدَّبْرِ] فَحَمَتْهُ1 مِنْ رَسُولِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَوا مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا2"3.

1 ما بين المعقوفتين زيادة من البخاري، قوله:"مثل الظلة من البدر" الظلة بضم المعجمة السحابة، والدبر بفتح المهملة وسكون الموحدة: الزنابير وقيل ذكور النحل ولا واحد له من لفظه. وقوله: "فحمته" بفتح المهملة والميم أي منعته منهم.

2 قوله: "فلم يقدروا منه على شيء" وفي رواية ابن إسحاق بن عمرو عن قتادة قال: "كان عاصم بن ثابت أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا، فكان عمر يقول لما بلغه خبره، يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته".

3 وفي الحديث: أن الأسير يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة له أن يستأمن، قال الحسن البصري:"لا بأس بذلك " وقال سفيان الثوري: "أكره ذلك".

وفيه: الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله.

وإثبات كرامة الأولياء، والدعاء على المشركين بالتعميم والصلاة عند القتل.

وفيه: إنشاء الشعر وإنشاده عند القتل ودلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه.

وفيه: أن الله يبتلي عبده المسلم بما شاء بما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه.

وفيه: استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيا وميتا وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل. وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه.

وفيه: ما كان عليه مشركوا قريش من تعظيم الحرم والأشهر الحرم.

ص: 51

وجه الدلالة من قصة خبيب وأصحابه

66-

فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المائة أو المائتين، ولم يستأسروا لهم حتى قتلوا منهم سبعة. ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من إتباعهم حتى قتلوه.

من فضائل عاصم

67-

وهؤلاء من فضلاء المؤمنين وخيارهم؛ وعاصم هذا هو جد عاصم بن عمر 1، وعاصم بن محمد جد عمر بن عبد العزيز؛ فإن عمر بن الخطاب كان قد نهى الناس أن يشوب أحد اللبن بالماء للبيع2.

68-

كذلك في مراسيل الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك3.

1 عاصم بن عمر بن الخطاب ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة 70هـ. التهذيب (5/52) .

وهو جد عمر بن عبد العزيز لأمه، وهو الذي تزوج الجارية ابنة بائعة اللبن فولدت له محمدا وبنتا هي أم عاصم فتزوجها عبد العزيز بن مروان بن الحكم فأتت بعمر بن عبد العزيز.

2 راجع القصة في: سيرة عمر لابن عبد الحكم (22، 23) وأخبار عمر للآجري (48، 49) ومناقب عمر لابن الجوزي (84) والطبقات لابن سعد (5/331) ومحض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (1/391) .

وقال المصنف: "وهذا ثابت عن عمر، وبذلك أفتى طائفة من الفقهاء" وراجع: مجموع الفتاوى (28/114) و (29/367-371) .

3 أخرجه أبو داود في المراسيل (176) حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن يونس عن الحسن. وقال عقبه: "وهكذا رواه إسماعيل بن إبراهيم أيضا عن يونس وحماد بن سلمة عن يونس عن الحسن قال: قال عمر" وأخرجه العقيلي في الضعفاء (4/205) من حديث أنس في ترجمة أحد رواته معمر بن عبد الله التميمي، وقال العقيلي:"منكر الحديث ولا يعرف بالنقل حديثه غير محفوظ".

ص: 52

69-

لأنه يفضي إلى غش لا يعلم به المشتري؛ فإن البائع وإن أخبر المشتري بأنه مغشوش؛ ولكنه لا يتميز قدر الغش ولهذا نهى العلماء عن مثل ذلك1.

70-

فبينما عمر ذات ليلة يعس2 إذ سمع امرأة تقول لأخرى: قومي فشوبي اللبن.

فقالت: إن أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك؟!

فقالت: وما يدري أمير المؤمنين؟

فقالت: لا والله لا نطيعه في العلانية ونعصيه في السر.

فعلم عمر على [الباب] 3 فلما أصبح سأل عن أهل ذلك البيت فإذا به "أهل بيت عاصم" هذا أمير المؤمنين المستشهد والمرأة المطيعة إبنته فخطبها وتزوجها4.

71-

وقد روي: أنه زوجها ابنه عاصم هذا. وإن كان عمر قبل ذلك تزوج ابنة عاصم هذا فولدت له عاصم ابنه، وصدق عمر بن عبد العزيز من ذرية عاصم.

1 قال المصنف رحمه الله: "وذلك بخلاف شوبه للشرب" مجموع الفتاوى (28/114) .

2 "يعس" أي يطوف بالليل يحرس الناس ويكشف أهل الريبة، النهاية (3/236) .

3 بياض بالأصل فوقه كلمة: كذا وما بين المعقوفتين زيادة مستفادة من مصادر التخريج ليستقيم السياق.

4 راجع: ما تقدم في العليق الأول بالصفحة السابقة.

ص: 53

دليل آخر من السنة

72-

وأيضا: ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عجب ربنا من رجلين:

رجل ثار عن وطائه من بين حيه أهله إلى صلاته.

فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه ومن أهله وحيه إلى صلاته، رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي.

ورجل غزا في سبيل الله عز وجل، فانهزم مع أصحابه، فعلم ما عليه في الإنهزام وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه.

فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي حتى أهريق دمه" 1.

73-

فهذا رجل انهزم هو وأصحابه ثم رجع وحده فقاتل حتى قتل.

1 رواه أحمد (1/416) وأبو داود (2536) وابن أبي عاصم في السنة (569) وفي الجهاد والبيهقي (9/46، 164) وصححه الحاكم (2/112) وابن حبان (2558) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/255) : "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وإسناده حسن وله عند الطبراني في الكبير ونحوه موقوفا.." وصحح الدارقطني في العلل (5/267) وقفه على ابن مسعود. وقد حسنه الألباني في صحيح أبي داود (2/106) .

وأورد العلامة ابن النحاس في: "باب فضل انغماس الرجل الشجيع أو الجماعة القليلة في العدو الكثير رغبة في الشهادة ونكاية في العدو" ثم قال: "ولو لم يكن في الباب إلا هذا الحديث الصحيح لكفانا في الاستدلال على فضل الانغماس" مشارع الأشواق (1/532) .

ص: 54

وجه الدلالة من الحديث

74-

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يعجب منه؛ [و] 1 عجب الله من الشيء يدل على عظم قدره، وأنه لخروجه عن نظائره يعظم درجته ومنزلته.

75-

وهذا يدل على: أن مثل هذا العمل محبوب لله مرضي لا يكتفى فيه بمجرد الإباحة والجواز؛ حتى يقال: وإن جاز مقاتلة الرجل حيث يغلب على ظنه أنه يقتل فترك ذلك أفضل.

76-

بل الحديث يدل على: أن ما فعله هذا يحبه الله ويرضاه ومعلوم أن مثل هذا الفعل يقتل الرجل فيه كثيرا أو غالبا، وإن كان ذلك لتوبته من الفرار المحرم؛ فإنه مع هذه التوبة جاهد هذه المجاهدة الحسنة.

77-

قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل:110) .

78-

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"2.

1 مابين المعقوفتين زيادة يستقيم بها السياق.

2 جزء من حديث تقدم تخريجه ص (21) .

ص: 55

79-

فمن فتنه الشيطان عن طاعة الله ثم هجر ما نهى الله عنه وجاهد وصبر كان داخلا في هذه الآية.

80-

وقد يكون هذا في شريعتنا عوضا عما أمر به بنو اسرائيل في شريعتهم لما فتنوا بعبادة العجل بقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: من الآية54) .

81-

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} (النساء: 64-66) .

82-

وذلك يدل على: أن التائب قد يؤمر بجهاد تعرض به نفسه للشهادة.

شبهات وجوابها وتوضيح لمعاني بعض الآيات

83-

فإن قيل: قد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} (لأنفال: 65، 66)

ص: 56

84-

وقد قالوا: إن ما أمر به من مصابرة الضعف1 في هذه الآية ناسخ لما أمر به قبل ذلك من مصابرة عشرة الأمثال2.

85-

قيل: هذا أكثر ما فيه أنه لا تجب المصابرة لما زاد على الضعف ليس في الآية أن ذلك لا يستحب ولا يجوز.

1 في الأصل: "الضعيف"!!

2 قال العلامة أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله: " قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} لم يرد به ضعف القوى والأبدان وإنما المراد ضعف النية لمحاربة المشركين فجعل فرض الجميع فرض ضعفائهم، وقال عبد الله بن مسعود: ما ظننت أن أحداً من المسلمين يريد بقتاله غير الله حتى أنزل الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فكان الأولون على مثل هذه النيات فلما خالطهم من يريد الدنيا بقتاله سوى بين الجميع في الغرض.

وفي هذه الآية: دلالة على بطلان من أبى وجود النسخ في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ،إن لم يكن قائله معتقداً بقوله، لأنه قال تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} والتخفيف لا يكون إلا بزوال بعض الغرض أو النقل عنه إلى ما هو أخف منه.

فثبت بذلك: أن الآية الثانية ناسخة للغرض الأول، ورغم القائل بما ذكرنا من إنكار النسخ لأنه ليس في الآية أمر وإنما فيه الوعد بشريطة فمتى وفى بالشرط أنجز الوعد، وإنما كلف كل قوم من الصبر على قدر استطاعتهم فكان على الأولين ما ذكر من مقاومة العشرين للمائتين والآخرون لم يكن لهم من نفاذ البصيرة مثل ما للأولين فكلفوا مقاومة الواحد للإثنين والمائة للمائتين.

قال: ومقاومة العشرين للمائتين غير مفروضة وكذلك المائة للمائتين وإنما الصبر مفروض على قدر الإمكان والناس مختلفون في ذلك على مقادير استطاعتهم فليس في الآية نسخ كما زعم.

قال أبو بكر: هذا كلام شديد الاختلال والتناقض خارج عن قول الأمة سلفها وخلفها وذلك لأنه لا يختلف أهل النقل والمفسرون في أن الغرض كان في أول الإسلام مقاومة الواحد للعشرة ومعلوم أيضا: أن قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وإن كان=

ص: 57

86-

وأيضا: فلفظ الآية إنما هو خبر عن النصر مع الصبر وذلك يتضمن وجوب المصابرة للضعف ولا يتضمن سقوط ذلك عما زاد عن الضعف مطلقا بل يقتضي أن الحكم فيما زاد على الضعفين بخلافه فيكون أكمل فيه، فإذا كان المؤمنون ظالمين لم تجب عليهم أن يصابروا أكثر من ضعفيهم، وأما إذا كانوا هم المظلومين وقتالهم قتال وقع عن أنفسهم فقد تجب المصابرة كما وجبت عليهم المصابرة يوم أحد ويوم الخندق مع أن العدو كانوا أضعافهم.

87-

وذم الله المنهزمين يوم أحد والمعرضين عن الجهاد يوم الخندق في سورة آل عمران والأحزاب؛ بما هو ظاهر معروف.

=لفظه لفظ الخبر فمعناه الأمر كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} ، وقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} وليس هو إخبار بوقوع ذلك وإنما هو أمر بأن لا يفر الواحد من العشرة، ولو كان هذا خبرا لما كان لقوله:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} معنى لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به لا في المخبر عنه، ومعلوم أيضاً: أن القوم الذين كانوا مأمورين بأن يقاوم الواحد منهم عشرة من المشركين داخلون في قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} فلا محالة قد وقع النسخ عنهم فيما كانوا تعبدوا به من ذلك ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم ولا قل صبرهم، وإنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم، وهم المعنيون بقوله تعلى:{وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} فبطل بذلك قول هذا القائل بما وصفنا وقد أقر هذا القائل أن بعض التكليف قد زال منهم بالآية الثانية وهذا هو معنى النسخ والله أعلم بالصواب".

(أحكام القرآن)(4/256.257)

ص: 58

88-

وإذا كانت الآية لا تبقي وجوب المصابرة ما زاد على الضعفين في كل حال، فإنه لا يبقى الاستحباب الجواز مطلقا أولى وأحرى.

آية أخرى وتوضيح معناها الصحيح

89-

فإن قيل: قد قال الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: من الآية195) . وإذا قاتل الرجل في موضع فغلب على ظنه أنه يقتل فقد ألقى بيده إلى التهلكة.

90-

[قيل] 1: تأويل الآية على هذا غلط!

إنكار الصحابة على من يتأول معنى الآية خطأ

91-

ولهذا ما زال الصحابة والأئمة ينكرون على من يتأول الآية على ذلك كما ذكرنا2: أن رجلا حمل وحده على العدو فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة.

إنكار عمر

فقال عمر بن الخطاب: كلا ولكنه ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية207) .

إنكار أبي أيوب الأنصاري

92-

وأيضا: فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي من حديث يزيد بن أبي حبيب - عالم أهل مصر من التابعين – عن أسلم أبي عمران قال: " غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم مُلصِقُو

1 مابين المعقوفتين زيادة يستقيم بها السياق.

2 تقدم تخريجه ص (32) .

ص: 59

ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدوِّ؛ فقال الناس: لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى النهلكة؟!

فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأظهر الإِسلام، قلنا: هلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: من الآية195) .

فالإِلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية ".

قال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب"1

من فضائل أبي أيوب الأنصاري

93-

وأبو أيوب من أجل السابقين الأولين من الأنصار قدرا وهو الذي نزل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته لما قدم مهاجر من مكة إلى المدينة، ورهط بنو2 النجار هم خير دور الأنصار كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقبره بالقسطنطينية.

1 رواه أبو داود (2512) والنسائي في الكبرى (299، 1029) والترمذي (2972) والطيالسي (599) وصححه ابن حبان (4711) والحاكم (2/84، 275) وصححه الألباني في الصحيحة (13) .

2

ص: 60

94-

قال مالك: "بلغني أن أهل القسطنطينية إذا أجذبوا كشفوا عن قبره فيسقون"1.

إنكار أبي أيوب على من جعل المنغمس في العدو ملقيا بيده إلى التهلكة

95-

وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المنغمس في العدو ملقيا بيده إلى التهلكة دون المجاهدين في سبيل الله ضد ما يتوهمه هؤلاء الذين يحرفون كلام الله عن مواضعه، فإنهم يتأولون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله.

توضيح معنى الآية بما قبلها من الآيات

96-

والآية إنما هي أمر بالجهاد في سبيل الله، ونهي عما يصد عنه، والأمر في هذه الآية ظاهر كما قال عمر وأبو أيوب وغيرهما من سلف الأمة؛ وذلك أن الله قال قبل هذه الآية:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة: 190-191) .

1 وهذا البلاغ الذي يشعر بالتضعيف عن الإمام مالك رحمه الله أورده المصنف أيضا رحمه الله في الجواب الصحيح (6/118) وصدره بقوله: "وذكروا" فعلق محقق الكتاب عليه: بأن الأولى بالمصنف أن يحذفه أو لعله سبق قلم!! وأقول: الأولى والمناسب نقل كلام المصنف من كتبه الأخرى! وما أحسن ما قاله رحمه الله معلقا على هذا الكلام في اقتضاء الصراط (1/339) : "ويذكرون أن قبر أبي أيوب الأنصاري عند أهل القسطنطينية كذلك ولا قدوة بهم فقد كان من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير وعندهم التابعون ومن بعدهم من الأئمة وما استغاثوا عند قبر صحابي قط ولا استسقوا عنده ولا به ولا استنصروا عنده ولا به ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل على نقل ما هو دونه" اهـ.

ص: 61

97-

وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} إلى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:193-195) .

98-

فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله وإنفاق المال في سبيل الله، فلا تناسب ما يضاد ذلك عن النهي عما يكمل به الجهاد وإن كان فيه تعريض للنفس للشهادة، إذ الموت لا بد منه، وأفضل الموت موت الشهداء.

99-

فإن الأمر بالشيء لا يناسب النهي عن إكماله، ولكن المناسب لذلك النهي عما يضل عنه؛ والمناسب لذلك: ما ذكر في الآية من النهي عن العدوان، فإن الجهاد فيه البلاء للأعداء؛ والنفوس قد لا تقف عند حدود الله بل تتبع أهواءها في ذلك، فقال:{وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: من الآية190) .

100-

فنهى عن العدوان، لأن ذلك أمر بالتقوى، والله مع المتقين كما قال:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة: من الآية194) .

ص: 62

101-

وإذا كان الله معهم1 نصرهم وأيدهم على عدوهم فالأمر بذلك أيسر، كما يحصل مقصود الجهاد به.

102-

وأيضا فإنه في أول الآية قال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وفي آخرها قال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) .

إمساك المال والبخل هو التهلكة

103-

فدل على ذلك ما رواه أبو أيوب من أن إمساك المال والبخل عن إنفاقه في سبيل الله واشتغال به هو التهلكة.

104-

وأيضا: فإن أبا أيوب أخبر بنزول الآية في ذلك؛ لم يتكلم فيها برأيه، وهذا من ثاني روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حجة يجب إتباعها.

من أسباب التهلكة والهلاك

105-

وأيضا: فإن التهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فعل ما نهى الله عنه.

1 تأمل هنا الكلام المتين لشيخ الإسلام في التحذير من الاعتداء في الجهاد وأن النفوس قد لا تقف في ذلك عند حدود الله وأن هذا ينافي التقوى، وهو سبب كاف للخروج من معية الله، فأين هذا مما يفعله المتجرون على الدماء من الاعتداء على الآمنين باسم الجهاد في سبيل الله؟! فشوهوا صورة الإسلام والمسلمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل!!

وقد جاء عن ابن عباس في قوله {وَلا تَعْتَدُوا} : "لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير" وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في وصايا للأمراء عند القتال. يقول المصنف رحمه الله: "فمن لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بفعله أو قوله" السياسة الشرعية (127، 128) . وراجع المبدع لابن مفلح (3/322، 323) .

ص: 63

من أسباب الذل في الدنيا وقهر العدو

106-

فإذا ترك العباد الذي أمروا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه؛ من عمارة الدنيا هلكوا في دنياهم بالذل1 وقهر العدو لهم، واستيلائه على نفوسهم وذراريهم وأموالهم، ورده لهم عن دينهم، وعجزهم حينئذ عن العمل بالدين، بل وعن عمارة الدنيا وفتور هممهم عن الدين، بل وفساد عقائدهم فيه.

107-

قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: من الآية217) .

108-

إلى غير ذلك من المفاسد الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة.

109-

فإن كل أمة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكا عظيما باستيلاء

1 قال البخاري في صحيحه (2321) : "باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به" ثم روى بسنده إلى أبي أمامة رضي الله عنه قال ورأى سكة وشيئا من الحرث فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل هذا بيت إلا أدخله الله الذل" وفي المعنى أيضا: ما رواه ابن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" رواه أحمد (4825، 5007) وأبو داود (3462) بإسنادين جيدين كما قال المصنف رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (29/30) وراجع الصحيحة للألباني (13) .

ص: 64

العدو عليها وتسلطه على النفوس والأموال.

ترك الجهاد يوجب الهلاك

110-

وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يشهده الناس وأما في الآخرة فلهم عذاب النار.

المؤمن لا ينظر إلا إحدى الحسنيين

111-

وأما المؤمن المجاهد؛ فهو كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (التوبة:52) .

فأخبر أن المؤمن لا ينظر إلا إحدى الحسنيين: إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة، فالمؤمن المجاهد إن [حيا] 1 حي حياة طيبة، وإن قتل فما عند الله خير للأبرار2.

1 ما بين المعقوفتين زيادة يستقيم بها السياق.

2 قال المصنف رحمه الله: "نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتمل من محبة الله تعالى والإخلاص له والتوكل عليه وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال على ما لا يشتمل عليه عمل آخر، والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائما: إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة، ثم إن الخلق لا بد لهم من محيا وممات؛ ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتها، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد وقد يرغب في ترقية نفسه حتى يصادفه الموت، فموت الشهيد أيسر من كل موتة وهي أفضل الميتات" السياسة الشرعية (104) .

ص: 65

112-

وأيضا: فإن الله قال في كتابه: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} (البقرة: من الآية154) .

113-

وقال في كتابه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169) .

114-

فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد أنه ميت.

115-

قال العلماء: وخص الشهيد بذلك؛ لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت فيفر عن الجهاد خوفا من الموت.

وصف الشهادة تهلكة بهتان عظيم

116-

وأخبر الله أنه حي مرزوق؛ وهذا الوصف يوجد أيضا لغير الشهيد من النبيين والصديقين وغيرهم لكن خص الشهيد بالنهي لئلا ينكل1 عن الجهاد لفرار النفوس من الموت، فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميتا واعتقاده ميتا؛ لئلا يكون ذلك منفرا عن الجهاد فكيف يسمي الشهادة تهلكة واسم الهلاك أعظم تنفيرا من اسم الموت.

117-

فمن قال قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: من الآية195) .

يراد به الشهادة في سبيل الله فقد افترى على الله بهتانا عظيما!!

1 قال ابن الأثير رحمه الله: "نكل عن الأمر ينكل ونكل ينكل إذا امتنع ومنه النكول في اليمين وهو الامتناع منها وترك الإقدام عليها "النهاية (5/117) .

ص: 66

الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يقتل قسمان

118-

وهذا الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يقتل قسمان:

أحدهما: أن يكون هو طالب للعدو. فهذا الذي ذكرناه

والثاني: أن يكون العدو قد طلبه، وقتاله قتال اضطرار. فهذا أولى وأوكد.

119-

ويكون قتال هذا: إما دفعا عن نفسه وماله وأهله ودينه.

120-

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد"1.

قال الترمذي: "يكون قتاله دفعا للأمر عن نفسه أو عن حرمته"2.

121-

وإن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان القتال يحصل المقصود وإما فعلا لما يقدر عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت وأصحابه3.

1 الجملة الأولى عند البخاري (2480) ومسلم (641)(226) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما والحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد (1/190) وأبو داود (4772) والترمذي (1421) وقال: حسن صحيح من حديث سعيد بن زيد.

2 الذي في الترمذي (3/88) : وقد رخص بعض أهل العلم للرجل: أن يقاتل عن نفسه وماله، قال ابن المبارك: يقاتل عن ماله ولو درهمين.

3 راجع القصة: فيما تقدم ص (47-54) .

ص: 67

حكم الذي يكره على الكفر فيصبر حتى يقتل

122-

ومن هذا الباب: الذي يكره على الكفر فيصبر حتى يقتل ولا يتكلم بالكفر؛ فإن هذا بمنزلة الذي يقاتله العدو حتى يقتل ولا يستأسر لهم، والذي يتكلم بالكفر بلسانه من قلبه مؤمن بالإيمان بمنزلة المستأسر للعدو1.

123-

فإن كان هو الآمر الناهي ابتداء كان بمنزلة المجاهد ابتداء.

124-

فإذا كان الأول أعز الإيمان وأذل الكفر كان هو الأفضل.

125-

وقد يكون واجبا إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب وغلبة الكفر عليها وهي الفتنة، فإن الفتنة أشد من القتل.

126-

فإذا كان بترك القتل يحصل من الكفر ما لا يحصل بالقتل وبالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه: ترجح القتل واجبا تارة ومستحبا أخرى.

127-

وكثيرا ما يكون ذلك تخويفا به فيجب الصبر على ذلك.

128-

قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ

1 راجع ما تقدم في ذلك ص (25) من كلام الإمام أحمد رحمه الله.

ص: 68

فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة:217)

129-

فأخبر أن الكافرين لا يزالون بقاتلون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم.

130-

وأخبر أنه من ارتد فمات كافرا خالدا في النار.

131-

ومن هذا ما ذكره الله عن عباده المؤمنين في كتابه: كما قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} إلى قوله: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (غافر:26- 28) .

132-

وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (لأعراف: 127، 128) .

133-

وقال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (البقرة: من الآية87) .

134-

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ

ص: 69

137-

وقال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} إلى قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} (البروج: 4-7) .

قصة الغلام والساحر

138-

وقد روى مسلم في صحيحه1 عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم. وكان له ساحر.

فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت. فابعث إلي غلاما أعلمه السحر.

تعليم السحر للغلام

فبعث إليه غلاما يعلمه.

تعرف الغلام في طريقه على الراهب

وكان في طريقه، إذا سلك راهب. فقعد إليه وسمع كلامه.

فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه. فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب؟. فقال: إذا خفت الساحر فقل: حبسني أهلي. وإذا خفت أهلك فقل: حبسني الساحر.

اختبار الغلام أيهما أفضل الساحر أم الراهب

فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس. فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟

1 مسلم (3005)(73) وما بين المعقوفتين في الحديث زيادة منه أحيانا ليستقيم السياق، وأما شرح الغريب فمن شرح النووي لمسلم إلا ما نبهت عليه.

ص: 71

مقتل الدابة وعلو شأن الغلام

فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة. حتى يمضي الناس.

فرماها وقتلها. ومضى الناس.

فأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني. قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي.

وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس [من] سائر الأدواء.

دعاء الغلام لجليس الملك برد البصر فشفي فآمن

وأصبح جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة.

فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني.

فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل. فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله، فشفاه الله عز وجل.

فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس.

فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟

قال: ربي.

قال: ولك رب غيري؟

ص: 72

قال: ربي وربك الله.

جليس الملك يعذب فيدل على الغلام

فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام. فجئ بالغلام.

فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل.

فقال: إني لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل.

فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب1.

فجئ بالراهب؛ فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فدعا بالمنشار. فوضع المنشار في مفرق رأسه. فشقه حتى وقع شقاه.

ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه. فشقه به حتى وقع شقاه.

ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبى. فدفعه إلى نفر من أصحابه

1 فائدة قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: "فإن قيل: كيف يجوز في شرعنا ما فعل الغلام من دلالته على الراهب للقتل؟ فالجواب: أن الغلام غير مكلف لأنه لم يبلغ الحلم، ولو سلم أنه مكلف لكان العذر من ذلك أنه لم يعلم أن الراهب يقتل، فلا يلزم من دلالته عليه قتله" المفهم (7/425) .

ص: 73

محاولة طرحه من فوق الجبل ونجاته

فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا. فاصعدوا به إلى الجبل. فإذا بلغتم ذروته1، فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه.

فذهبوا به فصعدوا به الجبل. فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل2 فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملك.

فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟

قال: كفانيهم الله.

محاولة إغراقه في البحر ونجاته

فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاجعلوه في قرقور3، ثم توسطوا به البحر فإذا رجع عن دينه وإلا فاقذفوه.

فذهبوا به. فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت.

فانكفأت بهم السفينة4 فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك.

فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟

قال: كفانيهم الله.

فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به.

1 "ذروة الجبل": أعلاه هي بضم الذال وكسرها.

2 "رجف بهم الجبل": أي اضطرب وتحرك حركة شديدة.

3 "القرقور" بضم القافين السفينة الصغيرة وقيل الكبيرة.

4 "انكفأت بهم السفينة" أي انقلبت.

ص: 74

فقال: ما هو؟

دلالة الغلام للملك لكيفية قتله

قال: أنك تجمع الناس في صعيد1 واحد. وتصلبني على جذع. ثم خذ سهما من كنانتي. ثم ضع السهم في كبد القوس2. ثم قل: باسم الله رب الغلام. ثم ارم. فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني3.

فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع. ثم أخذ سهما من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس

مقتل الغلام سبب في إيمان الناس وظهور الإيمان

ثم قال: باسم الله رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه. فوضع يده في صدغه4 في موضع السهم فمات.

فقال الناس: آمنا برب الغلام.

1 "الصعيد": الأرض البارزة.

2 "كبد القوس": مقبضها عند الرمي.

3 فائدة: قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: "في الجواب عن إرشاد الغلام ومعونته إلى كيفية قتل نفسه: أنه لما غلب على ظنه أنه مقتول ولا بد، أو علم بما جعل الله في قلبه أرشدهم إلى طريق يظهر الله به كرامته، وصحة الدين الذي كانا عليه ليسلم الناس وليدينوا دين الحق عند مشاهدة ذلك كما كان. وقد أسلم عثمان رضي الله عنه نفسه عند علمه بأنه مقتول ولا بد بما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم " المفهم (7/426) .

4 "صدغه": الصدغ ما انحدر من الرأس إلى مركب اللحيين وقيل: هو ما بين العين والأذن وقيل: الصدغان ما بين لحاظي العينيين إلى أصل الأذن لسان العرب (صدغ) .

ص: 75

فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك1. قد آمن الناس.

حفر الأخدود لتحريق المؤمنين

فأمر بالأخدود2 بأفواه السكك3 فخدت. وأضرم فيها النيران. وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها4. أو قيل له: اقتحم.

غلام يتكلم في المهد ليثبت أمه على الحق

ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست5.

فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق"

139-

ففي هذا الحديث:

أنه قتل جليس الملك والراهب بالمناشير، ولم يرجعا عن الإيمان.

1 "نزل بك حذرك" أي ما كنت تحذر وتخاف.

2 "الأخدود": هو الشق العظيم في الأرض وجمعه أخاديد.

3 "السكك " الطرق وأفواهها: أبوابها.

4 هذا اللفظ الذي ذكره هنا شيخ الإسلام، قال عنه النووي رحمه الله:"ووقع في بعض النسخ في بلادنا "فأقحموه" بالقاف ومعناه: اطرحوه فيها كرها" اهـ.

وأما الرواية المشهورة فهي "فأحموه" قال النووي رحمه الله: "بهمزة قطع بعدها حاء ساكنة؛ ومعناها: ارموه فيها، من قولهم: حميت الحديد وغيرها إذا أدخلتها النار لتحمى".

5 "فتقاعست": أي توقفت ولزمت موضعها، وكرهت الدخول في النار.

ص: 76

صبر أهل الأخدود

140-

وكذلك: أهل الأخدود صبروا على التحريق بالنار ولم يرجعوا عن الإيمان.

141-

وأما الغلام فإنه أمر بقتل نفسه لما علم أن ذلك يوجب ظهور الإيمان في الناس، والذي يصبر يقتل أو يحمل حتى يقتل؛ لأن في ذلك ظهور الإيمان من هذا الباب1.

1 فائدة: قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: "وهذا الحديث كله إنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليصبروا على ما يلقون من الأذى والآلام والمشقات التي كانوا عليها، ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره، وتصلبه في الحق وتمسكه به وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه، وعظيم صبره.

وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار.

وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى، ورسخ الإيمان في قلوبهم صبروا على الطرح في النار، ولم يرجعوا عن دينهم.

وهذا كله فوق ما كان يفعل بمن آمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يكن فيهم من فعل به شيء من ذلك، لكفاية الله لهم ولأن الله أراد إعزاز دينه وإظهار كلمته.

على أني أقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم أقوى الأنبياء في الله وأصحابه أقوى أصحاب الأنبياء في الله تعالى، فقد امتحن كثير منهم بالقتل وبالصلب وبالتعذيب الشديد ولم يلتفت إلى شيء من ذلك وتكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابه، وما لقي أصحابه من الحروب، والمحن والأسر والحرق وغير ذلك.

فلقد بذلوا في الله نفوسهم وأموالهم وفارقوا ديارهم وأولادهم، حتى أظهروا دين الله، ووفوا بما عاهدوا عليه الله، فجازاهم الله أفضل الجزاء ووفاهم من أجر من دخل الإسلام بسببهم أفضل الإجزاء" المفهم (7/426) .

ص: 77

مدح من يصبر على الإيمان حتى يقتل

142-

وفي صحيح البخاري1 عن قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرث قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ؟ قُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا؟

فقَالَ: قد كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يؤخذ الرجل فيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِا ثم يؤتى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فيجعل نصفين وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ عَظْمه2 [وما] يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأَمْرَ3 حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ4 وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ".

1 البخاري (3612) .

2 قال ابن التين رحمه الله: "كان هؤلاء الذين فعل بهم ذلك أنبياء أو أتباعهم قال وكان في الصحابة من لو فعل به ذلك لصبر إلى أن قال وما زال خلق من الصحابة وأتباعهم فمن بعدهم يؤذون في الله ولو أخذوا بالرخصة لساغ لهم " فتح الباري (7/167) .

3 "وليتمن الله هذا الأمر": المراد بالأمر الإسلام.

4 "والذئب""هو بالنصب عطفا على المستثنى منه لا المستثنى كذا جزم به الكرماني ولا يمتنع أن يكون عطفا على المستثنى والتقدير ولا يخاف إلا الذئب على غنمه لأن مساق الحديث إنما هو للأمن من عدوان بعض الناس على بعض كما كانوا في الجاهلية لا للأمن من عدوان الذئب فان ذلك إنما يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى" فتح الباري (1/167) .

ص: 78

143-

وفي رواية1: " أَتَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ: أَلَا تَدْعُو اللَّهَ.

فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ".

وجه الدلالة من الحديث

144-

والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال لهم ذلك آمرا لهم بالصبر على أذى الكفار، وإن بلغوا بهم إلى حد القتل صبرا، كما قتلوا المؤمنين صبرا؛ ومدحا لمن يصبر على الإيمان حتى يقتل.

والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل

تمت بعون الله تعالى في 25 محرم 1319هـ

1 البخاري (3852) .

ص: 79