المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[أمية النبي صلى الله عليه وسلم - التدوين المبكر للسنة بين الدكتور صبحي الصالح والمستشرقين

[ماجد أحمد نيازي الدرويش]

الفصل: ‌[أمية النبي صلى الله عليه وسلم

المكرمة، لينفي ما يزعمه البعض عن جهل العرب بالكتابة، مستدلين باعتماد العرب على الحافظة دون التدوين. فنقد بعض الأخبار الواردة، ومنها أنه ما كان في مكة قبيل البعثة «إِلَاّ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً يَقْرَؤُونَ وَيَكْتُبُونَ» (9)، مُعْتَبِرًا «أَنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ إِذَا صَحَّتْ أَسَانِيدُهَا، لَا تَبْلُغُ أَنْ تَكُونَ إِحْصَاءً دَقِيقًا أَوْ اسْتِقْرَاءً شَامِلاً» (10)، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ سِوَى «دَلَالَةً ظَنِّيَّةً غَامِضَةً لَا يَحْسُنُ مَعَ مِثْلِهَا القَطْعَ فِي هَذَا المَوْضُوعِ الخَطِيرِ» (11).

كما انتقد ولع المؤرخين بعبارة يرددونها دائماً: «وكانت الكتابة في العرب قليلة» (12).

وإن كنا «لا نملك من الحجج والبراهين العقلية والنقلية ما نؤكد به كثرة القارئين الكاتبين في تلك الفترة من حياة العرب» (13)، على ما قاله، إلا أنه يعتبر أن «لا شيء يدعونا إلى الغلو في أمر الكتابة واعتقاد كثرتها في شبه الجزيرة العربية، إلا أن يصيبنا ـ وهذه عبارته ـ من الجهالة العمياء ما يغرينا باتباع المستشرقين الذين يزعمون أن وصف العرب العرب بالأميين في القرآن لا ينافي معرفتهم القراءة والكتابة» (14).

‌[أُمِيَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-]: (*)

لقد أدرك رحمه الله بنظره الثاقب وعقله الحر أن مقولة المستشرقين في تفسير أمية النبي صلى الله عليه وسلم، وأمية أمته، الهدف منها إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف القراءة والكتابة، وبالتالي فهو مطلع على كتب الأمم السابقة، وما القرآن إلا جمعٌ وتبويبٌ لتلك المعارف. واختاروا من تفسير الإمام الطبري لـ (الأميين) عند قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيَّ} (15) ما مفاده أَنَّ الأُمِّيَّ عندهم هو الذي «يجهل الشريعة الإلهية» ، فوجدوا في هذا التأويل «مُبَرِّرًا لزعمهم أنَّ

رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كاتبًا قارئًا، وأن وصفه بالأمية ـ كوصف العرب بها ـ لا ينافي معرفة القراءة والكتابة» (16)، فقال رحمه الله:«وكان يحسن بالمستشرقين أن يقرؤوا " تفسير الطبري " في الصفحة نفسها ليروا أنه يُضَعِّفُ هذا الرأي» (17). ثم اعتبر «أن هذا الربط المضطرب بين الأمي عندما يوصف به النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الأميين وصفاً للعرب ليس من المنطق في شيء، لأنه تجزئة لا مُسوِّغ لها

(9) المرجع السابق، وينظر لزاما ما قاله تعليقا.

(10)

المرجع السابق نفسه.

(11)

المرجع السابق نفسه.

(12)

حاشية المرجع السابق.

(13)

المرجع السابق " ص: 2.

(14)

المرجع السابق نفسه.

(15)

الآية 78 من سورة البقرة.

(16)

علوم الحديث ومصطلحه: ص 2.

(17)

حاشية المرجع السابق.

----------------------

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) ورد ذكر هذا العنصر في (الفهرس العام).

ص: 5

في أصل اللغة» (18). ثم هذه اللفظة (الأُمِيَّ) جاءت في سياق قرآني واحد فينبغي تفسيرها بمعنى واحد لا بمعنيين متباينين (19)، «فإما أن يكون الأمي هو الذي يجهل الشريعة الإلهية، أو هو الذي يجهل القراءة والكتابة» (20).

وعليه فإنه رحمه الله يرى أنه بسبب هذه الازدواجية في تفسير اللفظة كبُر «خطأ المفسرين الذين أَوَّلُوا (الأُمِيِّينَ) العرب بجهلة الشريعة الإلهية، على حين أَوَّلوا النبي الأُمِيَّ بالذي لا يعرف القراءة والكتابة» (21). فجاء خطؤهم مركباً مضاعفاً «لأنهم عَوَّلُوا فيه على رأيٍ ضعيف شطروه شطرين، ثم آمنوا ببعضه وكفروا ببعض، وجاؤوا على الأثر برأيهم الصبياني - عبارته -: فأما العرب - بزعمهم - فهم أميون لجهلهم الشريعة الإلهية. وأما النبي فأميٌّ نسبةً إلى هؤلاء الجاهلين، لتعليمه إياهم شريعة الله، فهو نبي هؤلاء الجاهلين. أو نبي هؤلاء الأميين! فهل بعد هذين التفسيرين من تناقض؟» (22).

لقد أدرك، رحمه الله، البُعد الفكري لتأويلات المستشرقين، فعرضها على موازين النقد العلمي متخذاً اللغة منطلقاً لأنها وعاء كلام الله تعالى وعلى ضوئها يُفهم، والتي يصعب على المستشرقين سبر روحها، ولذلك تأتي تحليلاتهم انتقائية ولا منهجية.

وبعد إثبات تناقض هذه الأقوال، لا بد من تقرير الصواب. وهو ما يقرره وضوح النص القرآني الذي لا يقصد بكلمة الأمي، سواء أكانت وصفاً للعرب أم للنبي صلى الله عليه وسلم " إلا الذي لا يعرف القراءة والكتابة "(23)، وهذا المعنى تؤيده اللغة، وجمهور العلماء المسلمين، إذ هو «ما فهمه جمهور المفسرين، وما عليه علماء الأمة إلى يومنا هذا. وحينئذٍ لا يكون في وصف العرب بالأميين غلوٌّ في جهلهم الكتابة، إذ الأمية بهذا المعنى كانت غالبة على كثرتهم، وإنما يكون الغلو يقيناً في ادعاء كثرة الكتابة وأدواتها بين العرب، وفي الزعم القائل إنهم لم يجهلوا الكتابة بل جهلوا شريعة الله، لأن أحداً من الباحثين لم يأت ببرهان على هذا الرأي العقيم» (24).

وبعد تقريره معنى (الأمي) بأنه الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لم يوافق أيضاً على أن من كان يعرفها بالندرة التي ذكرها بعض العلماء من المسلمين، لأنه يوجد من النصوص ما يدل على أن مكة

(18) المرجع السابق نفسه.

(19)

ينظر المرجع السابق.

(20)

" علوم الحديث ومصطلحه ": ص 3.

(21)

" علوم الحديث ومصطلحه ": ص 3.

(22)

المرجع السابق نفسه.

(23)

ينظر: ص 3 من المرجع السابق.

(24)

" علوم الحديث ومصطلحه ": ص 3 و 4.

ص: 6

المكرمة كانت تنعم بعدد أكثر منه في المدينة المنورة، كقصة فداء أسرى بدر من المكيين والذين تجاوز عددهم الأربعين (25)، فكان كل كاتب منهم يفدي نفسه بتعليم عشرة من أبناء المسلمين، فإن اعتبرنا، على سبيل التنزل، أنه كان فيهم خمسةٌ فقط كاتبين، تكون النسبة حينها خمسة من أربعين، أي أن واحداً من كل ثمانية في مكة يعرفون الكتابة.

فكيف إذا انضم إلى ذلك «أن كتبة الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بلغ عددهم أربعين رجلاً، وأن كثيراً منهم مكيون؟» .

هذا يعني أن الكتابة والقراءة كانت منتشرة في العرب، وهي في مكة أكثر منها في غيرها. ومع تسليمنا بأن الغالب على الناس كان الأمية، بمعنى عدم معرفة القراءة والكتابة، ولكنها لم تكن من الندرة لدرجة أن لا يكون في مكة قبل الإسلام (إلا بضعة عشر رجلاً) يعرفون القراءة والكتابة.

فإذا تقرر هذا، فإنه لا يمكن، في رأي الدكتور الصالح، أن نُرجع قلّة التدوين للحديث إلى ندرة وسائل الكتابة، كما يزعمه الكثيرمن الباحثين، «لأنها لم تكن قليلة إلى هذا الحد الذي يبالغ فيه» (26)، وبخاصة أن الصحابة لم تعجزهم قلة الوسائل عن كتابة القرآن الكريم في اللِّخاف (27)، والعُسُب (28)، والأكتاف (29)، والأقتاب (30)، وقطع الأديم (31).

إذن، لا بد أن قلة تدوين الحديث تعود إلى أمور أُخرى، وقد أرجعها الدكتور الصالح إلى انصراف الصحابة لتلقي القرآن، إذ كانوا من تلقاء أنفسهم «مشغولين بجمعه في الصدور والسطور، وكان

كتابُ الله يستَغرق جُلَّ أوقاتهم» (32).

ومع ذلك فإن أفراداً منهم «وجدوا من البواعث النفسية ما حملهم على العناية بكتابة أكثر ما سمعوه - وربما بكل ما سمعوه - وأقرهم على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُمِنَ التباس السُنَّةِ بالقرآن، على حين كتب أفراد آخرون أشياء قليلة، وظل سائرهم بين قارئ كاتب، لكنه مشغول بالقرآن شغلاً لا يتيح له كتابة الحديث، فغدا يسمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم ويعمل به ولا يجد الحاجة لتقييده، وبين أميٍّ يحفظ من القرآن والحديث ما تيسر في صدره، وهو ما كان عليه أكثر

(25) ذكر ابن إسحاق في مغازيه أنهم بلغوا بضعةً وأربعين أسيراً.

(26)

" علوم الحديث ومصطلحه ": ص 6.

(27)

اللخاف: حجارة بيض رقاق. " تاج العروس من جواهر القاموس "

(28)

العسب: جريدة من النخل مستقيمة دقيقة يُكشطُ خُوصُها. " تاج العروس ".

(29)

الكتف: عظم عريض في أصل كتف الحيوان، كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم. " تاج العروس ".

(30)

القتب ما يوضع على ظهر الراحلة (ينظر: " النهاية في غريب الحديث والأثر ".

(31)

الأديم: الجلد. " تاج العروس ".

(32)

" علوم الحديث ومصطلحه ": ص 6.

ص: 7

الصحابة في بدء الإسلام ومطلع فجره» (33).

إضافة إلى ما ورد من توجيه نبوي عام للصحابة بعدم الكتابة (34).

فكل هذه العوامل جعلت جهود الصحابة تنصب نحو تدوين القرآن الكريم، والعناية بحفظه، وعدم تدوين السنة خوفاً من التباسها بالقرآن.

ثم بعد أن أُمِن اللبس جاء الإذن العام بالتدوين للسنة (35).

وإن كان الشهيد، رحمه الله، يرى «أن المنع من كتابة الحديث، الذي أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان توجيهاً عاماً لم يمنع من الإذن لبعض الصحابة ممن يوثق بضبطهم أن يكتبوا ما سمعوه منه صلى الله عليه وسلم، فكان هذا بمثابة استثناء خصهم به لأسباب وجيهة قدّر أهميتها تبعاً للظروف والأشخاص» (36).

وإن كان الكثير من العلماء جمعوا بين تقدم المنع وتأخر الإذن، بأن المتأخر نسخ المتقدم، إلا أن الدكتور الصالح، رحمه الله، يرى أن ذلك يراد منه «التدرج الحكيم في معالجة هذه القضية البالغة الخطورة» (37)، وأن «تخصيص بعض الصحابة بالإذن العام في وقت النهي العام لا يعارض القول بالنسخ» (38)، معللاً ذلك بأن «إبطال المنسوخ بالناسخ لا علاقة له ولا تأثير في تخصيص بعض أفراد العام قبل نسخه» (39).

وبهذه النتيجة التي خلص إليها الدكتور الصالح رحمه الله، يرى أنه جمع فيها بين «الآراء والتوجيهات المختلفة التي يخيل إلى الباحث السطحي - عبارته - أنها متضاربة» (40)، والعبرة «بما انتهى إليه الموضوع آخر الأمر واستقرت عليه الأمة، وهو اتفاق الكلمة بعد الصدر الأول على جواز كتابة الأحاديث» (41).

وبهذه النتيجة التي توصل إليها بعدما يشبه الاستقراء لكثير من النصوص الواردة بهذا الشأن، يكون قد هدم مقولة المستشرقين التي روجوا لها ومفادها: أن الحديث النبوي الشريف لو يدوَّن إلا على رأس المئة الثانية بطلب من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، معتبرين أن هناك فجوة تمتد إلى أكثر من مئة وخمسين عاما ً بين سماع الحديث وتدوينه، فهو بهذا يبين أن هذه الفجوة غير موجودة، فالحديث جمع

(33)" علوم الحديث ومصطلحه ": ص 7.

(34)

ينظر: " علوم الحديث ومصطلحه ": ص 8.

(35)

يراجع: " علوم الحديث ومصطلحه ": ص 8.

(36)

" علوم الحديث ومصطلحه ": ص 11.

(37)

المرجع السابق نفسه.

(38)

المرجع السابق.

(39)

المرجع السابق.

(40)

المرجع السابق.

(41)

المرجع السابق نفسه.

ص: 8