الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو إذ يناقش مناهج المستشرقين، لا يفوته التنويه بكتابات صدرت في ذلك الوقت، بذل أصحابها فيها جهداً في الرد على المستشرقين، ولكنه مع ذلك يبدي رأيه مع النقد والتحليل، فَحَيْثُ يَرَى أَنَّ البَاحِثَ أَصَابَ يُثْنِي، وَحَيْثُ يَرَى أَنَّ البَاحِثَ لَمْ يُصِبْ يُقوِّمُ (84).
وهو في كل ذلك يعنيه أمر واحد هو «خطأ الاعتقاد بتناقل الحديث عن طريق التحديث وحده» (85).
وبالرغم من أهمية ما حققه الدكتور الصالح رحمه الله في شأن التدوين المبكر للحديث، إلا أننا للأسف وجدنا أن بعض المتأخرين ممن كتبوا في " دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث" قد أغفل ما كتبه الدكتور الصالح، بينما نجده ينقل عمن نقل عن الدكتور الصالح. وهذا قصور في ميدان البحث العلمي (86).
الضَّلَالُ العِلْمِيُّ:
ويبقى الهم الأكبر عند الدكتور الصالح تلك الفكرة التي تولى كبرها جولدتسيهر، والتي أطلق عليها لقب (الضلال العلمي)(87)، ومفادها أن كل فريق كان يكتب ما يؤيد رأيه وهواه ويرد ما يخالفه.
ولدحض هذا الضلال العلمي أورد الدكتور الصالح مجموعة من النصوص تثبت كراهة التابعين أن يُكتب عنهم رأيهم دون النصوص (88). ومن ذلك ما روي عن جابر بن زيد - المُتَوَفَّى سَنَةَ 93 للهجرة - أنه قيل له: إنهم يكتبون رأيك. فقال مستنكرًا: «يَكْتُبُونَ مَا عَسَى أَنْ أَرْجِعَ عَنْهُ غَدًا؟!» (89).
فهذا واضح في أنهم كانوا يفرقون بين النصوص الشرعية وبين الآراء الشخصية. وهذا كان مشتهرًا عند المتقدمين، وعليه حمل ما ورد عنهم من نهي عن الكتابة، أي النهي عن كتابة الآراء الشخصية، أما كتابة النصوص النبوية فقد كانت منتشرة بين التابعين (90)، فمن ذلك ما كان من حرص سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ على كتابة الحديث، فقد قال:«كُنْتُ أَسِيرُ بَيْنَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَكُنْتُ أَسْمَعُ الحَدِيثَ مِنْهُمَا، فَأكْتُبُهُ عَلَى وَاسِطَةِ الرَّحْلِ حَتَّى أَنْزِلَ فَأَكْتُبَهُ» (91).
(84) ينظر " علوم الحديث ومصطلحه ": ص 28 و29.
(85)
" علوم الحديث ومصطلحه ": ص 30.
(86)
- the significance of sunna and hadith and their early documentation الدكتور امتياز أحمد، كتبت سَنَةَ 1974 م.
(87)
ينظر " علوم الحديث ومصطلحه ": ص 27.
(88)
ينظر " علوم الحديث ومصطلحه ": ص 33 و34.
(89)
" علوم الحديث ومصطلحه ": ص 34.
(90)
المرجع السابق.
(91)
" تقييد العلم " للخطيب البغدادي: ص 103. وينظر " علوم الحديث ومصطلحه ": ص 34.
وبالرغم من أنه هو الذي روى عن ابن عباس قوله: «إِنَّمَا أَضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمُ الكَتْبُ» (92)، نجده يروي عنه أيضاً:«خَيْرُ مَا قُيِّدَ بِهِ العِلْمُ الكِتَابُ» (93).
ولو نظر من لا رأي له في هذه النقول لظن أنها متضاربة، ولكنها في الحقيقة تتكلم عن حالين مختلفين، فالنهي منصرف إلى كتابة الرأي المجرد، والإذن منصرف إلى جواز، بل وضرورة، كتابة النصوص النبوية.
ومن قرأ النصوص القديمة وأمعن النظر فيها يدرك أن لفظة (عِلْمٍ) يراد بها النصوص الشرعية - قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ -، ويقابل ذلك (الرَّأْيُ) وهو الفهم لهذه النصوص. وهذا المعنى واضح في كلمة جابر بن زيد:«يَكْتُبُونَ مَا عَسَى أَنْ أَرْجِعَ عَنْهُ غَدًا؟!» ، لأنه نَظَرٌ مِنْهُ فِي الدَّلِيلِ، وقد يصح خلافه، فيوجب ذلك الرجوع عنه.
والنصوص على ذلك كثيرة جداً. منها مثلاً:
- قول الإمام مالك رحمه الله: «الحُكْمُ الذِي يُحْكَمُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ حُكْمَانِ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ، فَذَلِكَ الحَكَمُ الوَاجِبُ وَذَلِكَ الصَّوَابُ، وَالحُكْمُ الذِي يَجْتَهِدُ فِيهِ العَالِمُ رَأْيَهُ فَلَعَلَّهُ يُوَفَّقُ، وَثَالِثٌ مُتَكَلِّفٌ فَمَا أَحْرَاهُ أَلَاّ يُوَفَّقَ» (94).
فليُنظَر كيف فَرَّقَ الإمام مالك بين النقل، وبين النظر فيه، وبين النظر العري عن الدليل. فالأول هو المأذون بتدوينه، والثاني هو الذي لم يأذن التابعون بتدوينه، والثالث لا يعتبر أصلاً.
- ومن الأدلة عليه ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله: «لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ إِلَاّ مِنْ جِهَةِ العِلْمِ، وَِجِهَةُ العِلْمِ مَا نُصَّ فِي الكِتَابِ أَوْ فِي السُنَّةِ ، أَوْ فِي الإِجْمَاعِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ فَالقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الأُصُولِ مَا كَانَ فِي [مَعْنَاهَا]» (95).
وهذا تصريح بمرادهم من لفظة (العِلْمِ) وأنه النص.
- ومن هذا الباب ما أخرجه الإمام عبد الرزاق الصنعاني في " مصنفه "(96) عَنْ عَطَاءَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُسْتَحَاضَةِ - أي في الحج - فَقَالَ: «تُصَلِّي وَتَصُومُ، وَتَقْرَأُ القُرْآنَ، وَتَسْتَثْفِرُ بِثَوْبٍ، ثُمَّ تَطُوفُ» . قَالَ
(92)" تقييد العلم " للخطيب البغدادي: ص 43. وينظر " علوم الحديث ومصطلحه ": ص 35.
(93)
" تقييد العلم " للخطيب البغدادي: ص 92. وينظر " علوم الحديث ومصطلحه ": ص 35.
(94)
" جامع بيان العلم وفضله "، الحافظ ابن عبد البر: 2/ 25.
(95)
" جامع بيان العلم ": 2/ 26.
(96)
ج1 / ص 311، رقم 1194.
لَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: أَيَحِلُّ لِزَوْجِهَا أَنْ يُصِيبَهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ سُلَيْمَانُ: أَرَأْيٌ، أَمْ عِلْمٌ؟ قَالَ:«سَمِعْنَا أَنَّهَا إِذَا [صَلَّتْ وَصَامَتْ] حَلَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يُصِيبَهَا» .
فقول سليمان: «رَأْيٌ، أَمْ عِلْمٌ؟» يدلنا على أن كلمة (العِلْمَ) كانت عندهم مصطلحاً يدل على النقل. وأن كلمة (رَأْيٌ) كانت عندهم مصطلحاً يدل على الإجتهاد. وهو الذي ينصرف المنع عن التدوين إليه.
- ومنها ما نقل عن الإمام محمد بن سيرين، أنه سئل عن المتعة - أي التمتع - بالعمرة إلى الحج، فقال:«كَرِهَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنهما ، فَإِنْ يَكُنْ عِلْمًا فَهُمَا أَعْلَمُ مِنِّي وَإِنْ يَكُنْ رَأْيًا فَرَأْيُهُمَا أَفْضَلُ» (97). ففرق أيضا بين القول اعتماداً على نص، وهو العلم، وبين القول اعتماداً على فهم النص، وهو الرأي.
ولا يفوتنا أن نبين أن العلم عندهم أيضاً ما كانت دلالته قطعية. وأن الرأي ما كانت دلالته ظنية.
فكل هذه النقول تدحض (الضلال العلمي) الذي تولى كبره المستشرق جولدتسيهر مُتَّهِمًا سَلَفَنَا بالمزاجية في تدوين العلم، وَتُبَيِّنُ مدى الدقة والأمانة عند التابعين في التفريق بين النص وبين الاجتهاد، وهذا يؤكد كل كلمة قالها الدكتور الصالح في نوايا المستشرقين.
ثم عندما رسخ هذا التفريق في الأذهان " أصبح كثير من أوساط التابعين في أول المئة الثانية لا يرون بأساً في تقييد العلم، ويرخصون لتلامذتهم بتقييده، كما رخص سعيد بن المسيب - المُتَوَفَّى سَنَةَ 105 للهجرة - لعبد الرحمن بن حرملة - المُتَوَفَّى سَنَةَ 145 للهجرة - بذلك حين شكا إليه سوء الحفظ، وراح الشعبي - عامر بن شراحيل الإمام المتوفى في العشر الأول من المائة الثانية - يردد العبارة المشهورة التي كانت صدى لحديث مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (98) تناقله الصحابة والتابعون:«الكِتَابُ قَيْدُ العِلْمِ» ، وينبه على فائدة الكتابة فيقول:«إِذَا سَمِعْتُمْ مِنِّي، شَيْئًا فَاكْتُبُوهُ وَلَوْ فِي حَائِطٍ» (99). إلى أمثلة كثيرة ساقها الشهيد الدكتور صُبْحِي الصَّالِحْ رحمه الله تعالى تثبت انتشار كتابة الحديث في مطلع
(97)" جامع بيان العلم ": ج 2 / ص30.
(98)
وهو ما أخرجه الطبراني في " الأوسط ": (1/ 259 رقم 848) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له:«قَيِّدِ العِلْمَ» ، قُلْتُ: وَمَا تَقْيِيدُهُ؟ قَالَ: «الكِتَابُ» .
(99)
" تقييد العلم " للخطيب البغدادي: ص 100.