المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌منهج الإمام السيوطي في شرحه على جامع الترمذي - قوت المغتذي على جامع الترمذي - المقدمة

[الجلال السيوطي]

الفصل: ‌منهج الإمام السيوطي في شرحه على جامع الترمذي

‌منهج الإمام السيوطي في شرحه على جامع الترمذي

اعتنى الحافظ السيوطي بالتنكيت على كل مشكل أو مبهم أو ما يحتاج إلى توضيح في متون أحاديث جامع الترمذي أو في أسانيده، وقد يترك العديد من الأحاديث الواردة في كل باب لعدم الحاجة إلى توضيح أو بيان ما يشكل فيها من وجهة نظره رحمه الله. وقد ضمن هذا السفر الجليل ملحًا: في اللغة، والنحو، والبلاغة، والصناعة الحديثية، والعقيدة، إلى غير ذلك من فوائد شتى دبَّج بها شرحه رحمه الله، ولكنه قبل ذلك افتتح بمقدمة جمع فيها أقوال العلماء في بيان مراد الإمام الترمذي من أوصافه التي ينعت بها الأحاديث "كحسن صحيح" و"حسن صحيح غريب"، و"غريب" وما إليها من نعوت غدت فيما بعد مصطلحات وموازين تعرف بها درجات الأحاديث عند أهل الصناعة.

1-

أما اللغة: فاهتمامه انصبَّ في ضبط اللَّفظ الوارد في الباب، سواء اختلف رسمه بحسب الروايات التي انحدر منها، أو حركته بحسب اللغات التي رويت عن العرب، وهذا شأنه في أكثر الأحاديث المحتملة للاختلاف المذكور، معتمدًا في اختياره أو ترجيحه أقوال من سبقه من أهل الفن: كابن سيد النَّاس، والعراقي، والنووي، وابن حجر، وابن العربي، والقاضي عياض، والطيبي، والحافظ المزي، وغيرهم، دون أن يقول -مثلاً-: والذي عندي، أو والراجح، أو الصواب، وما إليها من ألفاظ الترجيح، وهذا الأسلوب منه ينسحب على نكاته في الغالب، وربما عُدَّت له منقبةً ألا يُلغي الخلاف بين العلماء بتصريح أو بلفظ جازم إن رَجَح عنده قول ما، ولكن بأدب يقول: قال ابن سيد النَّاس.

قال العراقي

دون أن يتلوه بنص يفيد الترجيح.

وكمثال على هذا، انظر: الأحاديث رقم: [1، 2، 3، 11، 13، 15، 16، 17، 18، 20، 100] وهذه الأمثلة هي بترقيم جامع الترمذي.

ص: 55

والملاحظ أيضًا أنَّ الإمام السيوطي جارٍ في بيان معاني المفرادات، أو التراكيب مجرى من سبقه من علماء اللغة، أو علماء التأويل، يذكر تارةً اسم من نقل عنه، ويُغفل ذكره أخرى كما هو مبين في حواشي التحقيق، وأكثر من يعتمد كلامه ويعتبره في هذا الباب: أبو عبيد القاسم بن سلام، والهروي، والخطابي، وابن الأثير، وابن العربي، والقاضي عياض، وغيرهم، إلَاّ أنَّه يكتفي في الجملة بتحرير ابن الأثير في كتابه النهاية، وأكرم بها من نهاية، فقد استقرأ مؤلفها أقوال من تقدمه، ونخلها، حتى أراح من جاء بعده مِنْ وُكْدِ الجمع والتحرير.

كما أنه في شرحه يأتي بمحل الشاهد لا يزيد عليه، تفاديًا للتطويل، وانشغالاً ببيانه، بحسب ما تلوح النكتة من شتى نوافذ المعرفة:

كحديث ابن عمر رقم: (11) قال: " أرقِيتُ " ذكر السيوطي هذا اللفظ فحسب، ثم تلاه بقوله:" بكسر القاف " لم يزد على ضبط حركته؛ لأنَّ مدلول اللَّفظ ظاهر لا يحتاج إلى شرح.

وكحديث كبشة برقم (92) : عنها عن أبي قتادة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّها ليست بنجس"، وذكر الشارح من الحديث:" ليست بنجس " وقال: بفتح الجيم.

وكحديث عائشة برقم (153) في قولها: " فيمرُّ النساء متلففات " قال الشارح: " بفاءين ".

وكحديث علي بن أبي طالب برقم (171) عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ْ "الصلاة إذا أتَتْ" قال شارحه. "قال ابن العربي وابن سيد النَّاس: كذا رُويناه بتاءين، كل واحدة منها معجمة باثنتين من فوقها، ورُوي "آنت" بنون ومد".

وكحديث جابر برقم: (180) في قوله: " بُطحان " قال الشارح:

ص: 56

"بضم أوله وسكون ثانيه، وذكر أبو عبيد البكري وغيره: أنه بفتح أوله وكسر ثانيه".

وكحديث جابر كذلك برقم (195) عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وإذا أَقمت فاحدُر "

قال الشارح: " بإهمال الحاء والدال، وتضم وتكسر، ويُروى: فاحْذِم، الذال المعجمة والميم، وكلاهما بمعنى الإسراع ".

إلى ما هنالك من أمثلة -يطول حصرها- تبين اهتمام الإمام السيوطي بضبط اللَّفظ: رسمه وحركته، وهذا مطلب أول فهمناه من منهج الشارح رحمه الله.

أما المطلب الثاني: فهو منهجه إزاء مدلولات الألفاظ والتراكيب؛ وهذه هي لجة البحر التي يطيل فيها الإمام السيوطي الغوص؛ كيف لا وحولها يطوف الفقهاء والعلماء، مستفرغين جهدهم في استنباط الأحكام والمعاني، ببيان مجمل، أو تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو ترجيح متعارض، وهلم جرًا لقواعد الاستنباط المذكورة في مظانها؛ لأنَّ اللَّفظ لا يعدو أن تكون له حقيقة شرعية فتقدم، أو عرفية، أو لغوية، أو لها جميعًا ولا تعارض بينها، أو استغلق المعنى فاحتجنا إلى مبين من خارج النص، وهو ما يسمى بقرائن الأحوال؛ وعلى هذا الأمر انصب جهد الحافظ السيوطي في شرحه الممتع. ولنأت بأمثلة اكتفى فيها الشارح بتفسير اللَّفظ لغة فحسب.

كحديث أنس بن مالك برقم (5) قال: "كان النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء"، قال شارحه:"بفتح الخاء ممدود: المكان الذي ليس به أحد".

ومن الحديث السابق أيضًا: " فوجدنا مراحيض " قال شارحه: "جمع مرحاض من رَحض إذا اغتسل، قال في النِّهاية: أراد المواضع التي بنيت للغائط، أي مواضع الاغتسال".

ص: 57

وكحديث حُذيفة برقم (13) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم "أتى سُباطة قوم" قال شارحه: "بضم السين، وهو مُلقَى التراب والكناسة ونحوها".

وكحديث سليمان برقم (16) في قوله: " أجَلْ " قال شارحه: بسكون اللام، حرف جواب بمعنى نعم.

وفي قوله: " برجيع " قال شارحه: الغائط.

وفي قوله: "انها رِكْسٌ" قال شارحه: أي نجسٌ.

وكحديث سلمة بن قيس برقم (27) عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا توضأت فانْتَثِرْ " قال شارحه: قال ابن العربي: أي أدخل الماء في الأنف، مأخوذ من النثرة وهي الأنف ".

وكحديث حسان بن بلال برقم (29) عن عمار بن ياسر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخلل لحيته" قال شارحه: " قال ابن العربي: أي يُدخل يده في خَلَلها وهي الفُروج التي بين الشعر ".

وهكذا يسري أسلوبه رحمه الله مع الألفاظ التي ليس لها إلَاّ معنى واحدٌ، لا يزيد على بيان معناها اللغوي، إلَاّ أنه إزاء المفردات والتراكيب مما يستنبط منه حكم شرعي، أو صورة بلاغية أو نقد حديثي أو فائدة أدبية أخرى يلتفت إليها طويلاً، بزيادة شرح واستخلاص نكتة، ناقلاً أقوال العلماء في المسألة لا يتقدمهم بالرأي -كما سبقت الإشارة-، وهو في نقله يختار من كلامهم أقواه دلالة وأوفاه.

وكأمثلة على هذا:

حديث رباح بن عبد الرَّحمن بن أبي سفيان برقم (25) فقد فحصه الإمام السيوطي من جوانب متعددة؛ بدأه بتحرير متنه حيث قال: " زاد ابن ماجه في أوله: " لا صلاة لمن لا وضوء له "، وزاد الحاكم في آخره: ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار ".

ص: 58

ثم بين اختلاف الروايات في وصله وإرساله، والعلة القادحة فيه، فقال: " قال الدارقطني في العلل: اختلف فيه، فقال وُهَيْبُ وبشرُ بن المفضل، وغير واحد هكذا

" وحاصل كلام الدارقطني: أنَّ طرق الحديث تدور بين الوصل والإرسال، وأنَّ أصحها طريق الوصل -أي طريق وهيب وبشر بن المفضل ومن تابعهما- وهذه علة أولى نبه عليها الحافظ السيوطي فيما نقله عن الدارقطني، ثم أردف هذا بأن أورد الحديث من مسند الهيثم بن كليب من طريق وهيب بن عبد الرَّحمن بن حرملة أنه سمع أبا غالب يقول: سمعتُ رباح بن عبد الرَّحمن: قال ابن حجر: " قال الضياء: المعروف أبو ثفال بدل أبي غالب، وهو كما قال "، ثم نقل عن ابن حجر عن الجرح والتعديل، فقال: " وقال أبو حاتم وأبو زرعة: أبو ثفال ورباح مجهولان، ثم قال: أما أبو ثفال فروى عنه جماعة.

وقال البخاري: في حديثه نظر، وهذه عادته فيمن يضعفه، زاد ابن حجر: ذكره ابن حبان في الثقات، إلَاّ أنه قال: لستُ بالمعتمد على ما تفرد به، فكأنه لم يُوثقه، ثم قال ابن حجر: وأما رباح فمجهول " ومن مجموع أقوال العلماء فيمن يدور عليهم الحديث يتبيَّن ضعفه، وهذه علة ثالثة.

ومع ذلك فإنَّ الحافظ السيوطي يرجح ثبوته -رغم ما قاله ابن القطان من أنَّ الخبر لا يثبت من جهة النقل- بذكره قول أبي بكر بن أبي شيبة إذ يقول: " ثبت لنا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قاله ".

قال السيوطي: " يعني بمجموع طرقه، فإنه ورد في ذلك أحاديث تدل على أنَّ له أصلاً "، وعلى اعتبار ثبوته، فإنَّ الشَّارح يُنهي الكلام عنه بما يتلخص من أحكام فقهية، فقال:" قال البزار: لكنه مؤَوَّل، ومعناه؛ أنه لا فضل لوضوء من لم يذكر اسم الله، لا على أنه لا يجوز وضوء من لم يُسمّ ".

ص: 59

ثم قال: " وقال ابن العربي: قال علماؤنا: إنَّ المراد بهذا الحديث النية ".

وكحديث أبي هريرة برقم (50) في قول جبريل عليه الصلاة والسلام: " إذا توضأت فانْتَضِحْ ".

قال شارحه: " قال ابن العربي: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث على أربعة أقوال: "

وأوردها الحافظ السيوطي جميعًا تنبيهًا على ما استنبطه الفقهاء من أحكام، بل وكذلك ما يستفاد من الحديث من حكمة وسداد في إبعاد ما قد يطرأ من وسواس عند قضاء الحاجة، وهو ما تعم به البلوى، فذكر كلام أبي مسلم المهدي فيما رَوَاه عنه ابن العربي.

قال ابن العربي: " وحدثني أبو مسلم المهدي قال: من الفقه الرائق: الماء يذهب الماء، معناه: أنَّ من استنجى بالأحجار لا يزال البول يرشح فيجد البلل منه، فإذا استعمل الماء نَسَب الخاطِرُ ما يجد من البلل إلى الماء، فارتفع الوسواس ".

وكحديث الفضل بن عياش برقم (385) في قول الترمذي: " عن عبد الله بن نافع بن أبي العمياء " قال شارحه: " ليس له في الكتب إلَاّ هذا الحديث عند الأربعة "، وهذا من اهتمامه بالأفراد، فإنه لا يتجاوزهم حتى يذكرهم، معتمدًا في ذلك خاصة كلام العراقي في شرحه على الترمذي؛ ثم نقل عن العراقي ضبط مفردات الحديث، والتنبيه على ورودها من أكثر من رواية، وبيان أصحها سندًا وأصوبها لغة.

بعد ذلك يأتي إلى الشرح اللغوي فيما ينقله عن صاحب النهاية، مع الإشارة إلى فائدة صرفية يحسن بطالب العلم معرفتها.

ثم يأتي إلى ما يستفاد من الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: " وتُقنع يديك ".

فيذكر لنا قول الخطابي، وابن العربي، والعراقي، والنووي، كلٌ

ص: 60

منهم أورد معنى للحديث بحسب مدلوله الشرعي، وزاد عقب أقوالهم قائلاً:" ويطلق أيضًا على الطاعة والصلاة، والسكون والخشوع، والدعاء، والإقرار بالعبودية ".

وكحديث ابن عباس برقم (579) من قول الشجرة: " وتقبلها منِّي

" ذكر الشارح قول ابن العربي في تعليقه على الحديث، حيث يقول: " عسُر عليَّ في هذا الحديث أن يقول أحد ذلك

وأين ذلك اللسان، وأين تلك النية؟ " وهذا فهم ذوقي لا يخضع لمدلول اللفظ، وربما استشكل على القارئ قول ابن العربي، مما حدَا بالحافظ السيوطي أن يتعقبه موجهًا لمعنى الحديث، فقال: " قلتُ: ليس المراد المماثلة من ْكل وجه، بل في مطلق القبول، وقد ورد في دعاء الأضحية

وإذا ورد الحديث بشيء اتُّبع ولا إشكال " وهذا التوجيه منه وجيه.

هذه أمثلة ذكرتها -لا للحصر- تبين منهج السيوطي في شرحه للنصوص، واستخلاصه ما يدل عليه من معنى لغوي، أو شرعى، أو نقد حديثي، أو ملحة أدبية كما رأينا.

وقُلْ مثل ذلك في البلاغة والنحو: كحديث ابن عباس برقم (2193) في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارًا " قال شارحه: " وقال ابن مالك: فما خفي على أكثر النحويين استعمال [رجع] كـ[صار] معنى وعملاً، ومنه الحديث

قال: ويجوز في [يضرب] الرفع والجزم "، وإيراد الحافظ كلام إمام النحاة المتأخرين في جواز الرفع والجزم لفعل [يضرب] جوابٌ على قول القاضي عياض -قبل ذلك- " أنَّ الصواب الضم " وقد أوضحت وجه التعارض، وسبيل الجمع بما يكفي في حاشية التحقيق، فلينظر هناك.

وكحديث أبي رزين العقيلي برقم (2278) في قوله صلى الله عليه وسلم: "وهي

ص: 61

على رجل طائر"، قال شارحه: " قال الطيبي: التركيب من باب التشبيه التمثيلي، شبَّه الرؤيا بالطائر السريع طيرانه، وقد عُلِّق على رجله شيء يسقط بأدنى حركة

".

وكحديث معاذ بن جبل برقم (2616) في قوله صلى الله عليه وسلم: " والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار " قال شارحه: قال الطيبي: فلما وضع الخطيئة موضع النَّار -على الاستعارة المكنية- أثبت لها - على سبيل الاستعارة التخييلية ما يلائم النار من الإطفاء

".

ْنلاحظ في المثالين الأخيرين كيف أنَّ الإمام السيوطي لم يُغفل ملحة البلاغة في فصاحة خير من نطق لغة الضاد، دون أن يُسرف في استخلاصها من كل النصوص، بل لو قلت: إنه شحَّ علينا في هذا الباب، لما أبعدت، وربما عذره في ذلك، أنه اتَّخذ منهجًا سلكه من كان قبله من فضلاء الفقهاء المجتهدين عند شرح نصوص الشريعة المطهَّرة؛ والمنهج بإيجاز هو أنَّه صبَّ أكثر الجهد فيما فيه حكم فقهي أو نقد حديثي أو حكمة تشريعة، أو ملحة أدبية أخرى، إذ هذه المسائل أهم ما يصرف فيه العمر، ولا شكَّ أنَّها أُفرغت في أبلغ بيان وأصدق لسان صلى الله على من جمَّله بهما، مما تجدر الإشارة إلى شيء من ذلك دون تطويل، وعلى الله قصد السبيل.

المطلب الثالث: منهجه في العقيدة:

لا يكاد يخفى أنَّ الإمام السيوطي ينحو في تصوره العقدي منحى الأشاعرة المؤولة، كما في حديث أبي هريرة برقم (3507) ، الذي لم ْيخرج الترمذي غيره في ذكر الأسماء.

قال الشارح عند قوله صلى الله عليه وسلم: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) } : "اسمان بُنِيَا للمبالغة من الرحمة، وهي في اللغة: رقة قلب وانعطاف يقتضى التفضل والإحسان على من رقَّ له، وأسماء الله تعالى وصفاته إنما تؤخذ باعتبار

ص: 62

الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي تكون انفعالات

" وهذا المطلب أكثر شيء استوقفني؛ أوضح مسائله، وأقرر أحكامه على أسلوب أهل السنة والجماعة، ناقلاً عن أعلامهم القول الفصل في ذلك، والله يعصمنا من الزلل، وإليه المفر.

ص: 63