المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌كتاب الحج "الحج" في اللغة: القصد، ومنه سمي - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٧

[ابن الرفعة]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌كتاب الحج "الحج" في اللغة: القصد، ومنه سمي

بسم الله الرحمن الرحيم

‌كتاب الحج

"الحج" في اللغة: القصد، ومنه سمي الطريق: محجة؛ لأنه يوصل إلى المقصد.

وقيل: هو العود مرة بعد أخرى.

وقال الخليل بن أحمد: هو كثرة القصد إلى من يعظم، ومنه قول الشاعر:

وأشهد من عوف حلولًا كثيرةً يحجون سب الزبرقان المزعفرا

أي: يقصدون، ويتكررون إليه، لسؤدده.

والسِّبُّ - بسين مكسورة، وباء ثانية الحروف-: العمامة.

وهو في الشرع: الإتيان بعبادة مشتملة على ما سنذكره من الأركان، وسمي به على القول ألأول؛ لأن البيت مقصود بالنسك فيه، وعلى القول الثاني والثالث؛ لأن الحاج يأتي البيت قبل الوقوف بعرفة، ثم يعود إليه لطواف الإفاضة، ثم ينصرف إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصدر؛ فيتكرر العود إليه مرة بعد أخرى مع التعظيم.

والأصل فيه -قبل الإجماع- من الكتاب: قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27]، فخاطب الله تعالى بذلك نبيه إبراهيم عليه السلام وروي أنه قال:"أي رب، أين يبلغ ندائي؟ " فقال الله تعالى: "عليك النداء، وعلينا البلاغ"، فصعد على المقام -وقيل: على جبل أبي قبيس -وقال: يا عباد

ص: 3

الله، أجيبوا داعي الله؛ إن الله تعالى أمرني ببناء هذا البيت، وأمركم بأن تحجوه، فحجوه، فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك داعي ربنا، لبيك، فيقال: إنه لا يحج إلا من أجاب دعوة إبراهيم – عليه السلام وإن من أجابه مرتين، حج مرتين، وهكذا، وإن أول من أجاب دعوته أهل اليمن.

وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] كما نقرره.

ومن السنة [مع] ما سنذكره من بعد – إن شاء الله تعالى- قوله عليه السلام: "بني الإسلام على خمس

" الخبر مشهور.

وقد حج البيت آدم – عليه السلام لما حج البيت، قال له جبريل:"إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت سبعة آلاف سنة".

وقد اختلف أصحابنا- كما حكاه القاضي الحسين والإمام وغيرهما –هل كان وجوبه قبل الهجرة أو بعدها؟

والقائلون بأنه بعدها، منهم من قال: إنه كان في سنة خمس [من الهجرة] وهو ما حكاه القاضي والإمام.

والصحيح إنه في سنة ست من الهجرة، وسنذكر ذلك في أول باب قتال المشركين، إن شاء الله تعالى.

ص: 4

قال: الحج فرض؛ لما ذكرناه، وفي العمرة قولان:

أصحهما: أنها فرض؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وإتمامهما أن يفعلا على التمام؛ كما قال تعالى:{وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، أي: فعلهن تامات؛ ويؤيد ذلك أن هذه الآية نزلت سنة ست من الهجرة حين أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة فيها وهو بالحديبية، فأحصر، ولا يجوز أن يؤمر بإتمام العبادة من لم يدخل فيها؛ فعلم أن المراد إنشاؤها [وابتداؤها؛] وهذا ما استدل به على أن الحج فرض في سنة ست من الهجرة.

وقد روي عن علي وعمر –رضي الله عنهما أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك.

وقد قرأ ابن مسعود وابن عباس: "وأقيموا الحج والعمرة لله"، والقراءة الشاذة إذا صحت جرت مجرى خبر الواجد في وجوب العمل به.

وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحج والعمرة فريضتان، لا تبالي بأيهما بدأت".

والقول الثاني –أشار إليه في القديم-: أنها مستحبة، وليست بفرض؛ لما روى

ص: 5

الترمذي عن جابر أنه –عليه السلام سئل عن العمرة، أهي واجبة؟ فقال: لا، وأن تعتمر فهو أفضل".

وروي أنه –عليه السلام قال: "الحج جهاد، والعمرة تطوع".

ولأنها نسك يفعل على وجه التبع، ليس له وقت؛ فوجب ألا يكون واجباً؛ كطواف القدوم.

وقد امتنع بعض الأصحاب من نسبة هذا القول إلى الشافعي –رضي الله عنه وقال: إنما ذكره حكاية عن الغير.

والجواب عن حديث جابر: أن في رجاله ابن أرطأة وابن لهيعة، وابن أرطأة لا يحتج بحديثه؛ لأنه يروي عمن سمع وعن من لم يسمع، وابن لهيعة ضعيف

ص: 6

فيما ينفرد به، على أنه لو سلم من الطعن، حمل على سائل سأل عن عمرة ثانية.

وأما قوله: "العمرة تطوع"، فهو مرسل، وليست العمرة كالطواف؛ لأنه ليس نسكاً بذاته، وإنما هو من جملة نسك؛ كما أن الركوع والسجود ليس بصلاة، وإنما هو من جملتها؛ وعلى هذا فلا تقوم [حجة] مقامها وإن اشتملت على أعمال العمرة وزادت، وإن كنا نقيم الغسل مقام الوضوء.

[قال الإمام]: وهذا من أصدق الأدلة على تغاير الحج والعمرة.

تنبيه: في العمرة في كلام العرب قولان:

أحدهما: أنها الزيارة، يقال: اعتمر مكان كذا، إذا زاره، ومنه سمي البيت المعمور: معموراً؛ لأنه مزار الملائكة، قيل: يزوره كل يوم سبعون ألف ملك، ولا تنتهي النوبة إليهم [إلى يوم القيامة].

والثاني: أنها القصد، وكل قاصد إلى الشيء فهو معتمر.

وقال البندنيجي: إنه يقال: الاعتمار هو القصد إلى بلد عامر؛ فهو "افتعال" من "العمارة".

وهي في الشرع: عبادة مشتملة على إحرام وطواف وسعي وحِلاق.

قال: ولا يجب –أي: الإحرام بالحج والعمرة – على المكلف في العمرة إلا مرة واحدة:

أما الحج؛ فلما روى مسلم عن أبي زيد قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:

ص: 7

"يأيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج، فحجوا"، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال –عليه السلام:"لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم"، ثم قال:"ذروني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم؛ لكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".

[وروى أبو داود] عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:[يا][رسول الله]، الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ فقال:"بل مرة، ومن زاد فهو تطوع" ، وأخرجه النسائي وابن ماجه.

وأما العمرة؛ فلما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة"، فقال سراقة: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك بين أصابعه واحدة في أخرى، وقال:"دخلت العمرة في الحج –مرتين- لا، بل للأبد".

ووجه الدلالة منه: أن العمرة إذا دخلت في الحج، والحج لا يجب [في العمر] إلا مرة –لزم أن تكون كذلك.

ولأن هذا النسك يتعلق به في الأغلب قطع مسافة، والتزام مؤنة، وفي تكرار وجوبه مشقة عظيمة؛ فلم يجب لذلك، بخلاف سائر الفرائض.

قال: إلا أن ينذر؛ فيجب أكثر من مرة على حسب نذره؛ [لعموم قوله] –عليه

ص: 8

السلام-: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".

قال: أو يدخل [مكة] ، أي من الحل؛ لحاجة لا تتكرر من تجارة أو زيارة؛ فيلزمه الإحرام بالحج أو العمرة، أي: إذا أمكن [ذلك] بأن دخل في أشهر الحج.

قال: في أحد القولين؛ لإطباق الناس على ذلك، والسنن يندر فيها الاتفاق العملى، وقد روي أنه –عليه السلام قال:"إن أبي إبراهيم حرم مكة؛ فلا يدخلها أحد إلا محرماً".

وحكى أبو الطيب: أن ابن عباس قال: "لا يدخل أحد مكة غلا محرما [إلا الحطابين] " وغيره روى عن ابن عباس أنه قال: "لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا، وأرخص للحطابين".

قال الماوردي: ولأنه لو نذر دخول مكة أو المشي إلى البيت، لزمه الإحرام، لدخولها بأح النسكين، فلو جاز دخولها بغير إحرام، لم يلزم ذلك.

وفي إجماعهم على لزومه في النذر دليل على وجوبه في الدخول.

قلت: وفيما قاله نظر يظهر لك في باب النذر.

قال: ولا يلزمك في الآخر؛ لحديث الأقرع بن حابس وسراقة بن مالك، ولما روي عن [ابن] عمر أنه دخلها بغير إحرام، ولأن ذلك شبيه بتحية المسجد، ولا أصل لها في الوجوب. نعم، يستحب له ألا يدخلها إلا محرمًا؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، وبه قال الشيخ أبو محمد، ومال إليه الشيخ أبو حامد ومن تابعه، وقال: إنه

ص: 9

الذي نص عليه في عامة كتبه؛ كما حكاه عنه في "الشامل" وصاحب "البحر"، وقال: إن كلام القفال يدل عليه –أيضاً- ولأجل ذلك قال الغزالي: إنه الأظهر.

ومنهم من قطع به، ويحكي عن صاحب "التقريب"، لكن الأول هو المنصوص في "الأم"؛ كما قال الماوردي في "المختصر" في الحج، والقديم؛ كما قال القاضي الحسين، وعامة كتبه؛ كما قال أبو الطيب حكاية عن أبي إسحاق، وهو الصحيح في "الحاوي"، و"البحر"، و"التهذيب"، وبه أجاب صاحب التلخيص.

وقال الأصحاب –تفريعاً عليه-: إنه لو دخلها محرماً بفرضٍ سقط عنه [حق الحرم، كما تسقط] تحية المسجد عمن يدخله ويقيم فريضة فيه، وإنه لو دخل بغير إحرام، كان في وجوب القضاء عليه قولان حكاهما الإمام، وغيره رواهما وجهين: أحدهما –وهو المنصوص الذي لم يورد الماوردي وأبو الطيب [والمصنف] والقاضي الحسين والأكثرون غيره-: أنه لا يجب، واختلف الأصحاب في تعليله على وجهين:

فمنهم من قال: لعدم إمكانه؛ فإنه لو خرج ليقضي، [فعوده يقتضي] إحراماً جديدًا؛ فلا يمكنه تأدية القضاء لذلك، وعلى هذا لو صار حطّابا أو صيادًا يجب عليه القضاء؛ لإمكانه حينئذ، قاله القاضي لحسين، وقد نسبه في "المهذب" إلى صاحب "التخليص".

ومنهم من قال: لأنه تحية المكان، فإذا فاتت لا تقضي؛ كالركعتين؛ وهذا ما اختاره ابن الصباغ، وضعف الأول بأن الدخول إذا كان بإحرام كفى، سواء كان [لأجله أو] لأجل غيره؛ كالصوم في الأعتكاف.

ومثل هذا ما قلناه إذا أفسد القضاء: لا يجب قضاء آخر، وإنما يجب قضاء واحد.

قال الماوردي: وعلى هذا القول لا يجب عليه كفارة؛ لأنها إنما تجب جبرًا لنقص دخل على نسك، فإذا لم يأت بالنسك، لم يلزمه جبران [ما] عدم أصله.

ص: 10

[والثاني]: أنه يجب القضاء: فإنه ترك إحراماً محتومًا؛ فلزمه التدارك؛ كما لو ترك حجة الإسلام أو عمرته وما وجب من ذلك بالنذر.

وما ذكر من عدم إمكان القضاء ممنوع، بل هو ممكن، وفي كيفية إمكانه وجهان:

أحدهما: أنه يتصور بعبور المترددين [الذين] لا يلزمهم الإحرام للدخول كالحطابين، وينسب هذا –أيضًا- إلى صاحب "التلخيص"، قال الإمام: وهو في نهاية البعد.

والثاني: -وهو قول المحققين-: أنه ليس الشرط في الدخول أن يكون بإحرام مقصود [له]؛ بدليل ما ذكرناه من أنه لو أحرم بحج الإسلام أو عمرته، تأدى به حق الدخول، وإذا كان كذلك، فليخرج ويعد بإحرام.

والقائلون بالأول [قالوا]: القياس على حجة الإسلام وعمرته [فاسد من وجهين:

أحدهما: أن حج الإسلام وعمرته] لا يقضى؛ لأنه في [أي] زمان فعلهما كان مؤديًا، ولم يكن قضاء.

ص: 11

والثاني: أنه وجب القضاء بالفساد والفوات؛ فلأن قضاءه ممكن؛ لأن زمان القضاء لا يتعلق به ما يوجب القضاء، وقضاء الدخول يتعلق به ما يتعلق بابتداء الدخول؛ فلم يصح القضاء.

وما ذكر من أن الشرط: الدخول بإحرام كيف فرض، لا إحراماً مقصودًا للدخول – ممنوع، فإن القائل بوجوب القضاء قائل بإنه لو خرج وعاد لعمرة منذورة، لم يقع هذا موقع القضاء، كما قاله الإمام، فإن الدخول من غير إحرام، ألزمه إحراماً؛ كما يلزم الناذر، ويخالف ما إذا دخل بحج الإسلام وعمرته؛ لأنه لا يصح دخوله بغيرهما قبلهما.

أما لو كان الداخل إليهما من الحرم، فلا إحرام عليه قولاً واحدًا، وعنه احترز الشافعي –رضي الله عنه بقوله في "الإملاء":"وأكره لمن دخل مكة من الحل من أهلها أو [من] غير أهلها –أن يدخلها إلا محرمًا"، والداخل إليها من الحل غير زائر ولا تاجر على قسمين:

أحدهما: أن يدخل لحاجة تتكرر كالحطابين، والصيادين، ونحوهم الذين يخلونها في كل يوم –فلا يجب عليهم الإحرام لأجل الدخول –أيضًا- على النص في سائر كتبه؛ لقول ابن عباس، ولما فيه من الضر اللاحق بهم وبالناس؛ لانقطاعهم عن الدخول بسبب ذلك، أو قلته.

وفي "الحاوي" وكتب المراوزة حكاية طريقة أخرى طاردة للقولين فيهم أيضًا، ولم يحك القاضي الحسين غيرها.

وقال في "البحر" عن صاحب "التلخيص": إنه قال: إن قلنا في غيرهم: لا يلزمهم الإحرام، [فهؤلاء أولى، وإلا فوجهان.

ص: 12

وحكى الإمام طريقة أخرى: أنهم يلزمهم الإحرام] لأجل الدخول في كل سنة مرة واحدة، ونسبها في "البحر" إلى رواية أبي حامد؛ لأنه حكى عن الشافعي في "تعليقه" –كما قال ابن الصباغ-: أنه قال: "عليه أن يحرم في كل سنة مرة؛ لأنا لو كلفناه في كل كرة يشق عليه"، والمنقول عن الشافعي –رضي الله عنه كما حكاه أبو الطيب وغيره- أنه قال:"واستحب لهم أن يحرموا في كل سنة مرة".

والبريد إذا تكرر دخوله هل يلحق بالحطابين أو لا؟ فيه طريقان في "البحر".

والقسم الثاني: أن يدخلها مقاتلًا لباغٍ أو قاطع طريق، أو خائفًا من ظالم أو غريم يحسبه، وهو معسر لا يمكنه أن يظهر لأداء النسك- فلا يلزمه الإحرام أيضًا؛ نص عليه الشافعي في "المختصر" و"المناسك الكبير"؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، ولو كان محرمًا لم يلبسه، وقد كان خائفًا من غدر الكفار، وعدم قبولهم الصلح الواقع بينه وبين أبي سفيان.

ص: 13

تنبيه: هل ينزل دخول الحرم منزلة دخول مكة فيما نحن فيه؟ حكى الرافعي عن بعض الشارحين: أنه قال: نعم، والمراد بدخول مكة –فيما نحن فيه-: دخول الحرم.

قال الرافعي: ولا يبعد تخريجه على خلاف سبق في نظائره.

قلت: وكأنه –والله أعلم- يشير إلى ما حكيناه في باب المواقيت من أن المكي إذا أحرم بالحج في الحل، ثم عاد إلى الحرم، هل يسقط عنه الدم؛ كما يسقط عنه إذا عاد إلى مكة، وكذا لو أحرم المكي بالحج من الحرم، هل يجب عليه الدم أم لا؟ والذي صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين [في باب المواقيت: الأول، وقد قال القاضي الحسين [هنا]: إن الشافعي قال في القديم: "ولا يجوز لأحد أن يدخل الحرم من غير خوف إلا محرمًا، إلا الذين يدخلون مختلفين بالحطب ومنافع أهل مكة"؛ وهذا نص في المدعى، وكلام الإمام يوافقه؛ فإنه قال: ولو دخل محرماً بنسك مفروض، سقط عنه حق الحرم.

فإن قيل: قول الشيخ: "ولا يجب في العمر إلا مرة [واحدة]

" إلى آخره –غير وافٍ بالمقصود من الحصر؛ لأن الحر إذا أحرم بحج أو عمرة تطوعًا، ثم أفسده، وجب عليه القضاء، وكذلك العبد –كما سنذكره- فقد تصور وجوبه في العمر بغير ما ذكره.

فجوابه: أن هذا القضاء بدل ما أفسده، وما أفسده، لم يكن كله واجبًا، بل بعضه؛ لأن الإحرام من جملة أركانه، وهو تطوع، والمدعى: أن الحج والعمرة لا يجبان في العمر إلا بما ذكر، ولفظ "الحج" و"العمرة" يشمل جميع أركانهما.

فإن قلت: الإحرام في القضاء وقع واجبًا؛ فيصدق حينئذ أن جميع الحج

ص: 14

والعمرة وقع واجبًا؛ فيبقى السؤال.

قلت: نعم، لكن الإحرام في هذه الحالة وجوبه وجوب الوسائل، وفي الصور التي ذكرها وجوب المقاصد، وهو المراد.

قال: ولا يجب ذلك – أي: الإحرام بحج الإسلام وعمرته، أو المنذور، أو لأجل دخول مكة –إلا على مسلم بالغ عاقل [حر] مستطيع.

أما وجوبه على من اتصف بهذه الصفات؛ فلقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، وللخبر المشهور، وهو إجماع.

وأما انتفاء وجوبه عن غير المستطيع بالتفسير الذي سنذكره؛ فلمفهوم الآية والخبر المشهور.

وانتفاء وجوبه عن الكافر وغير المكلف والرقيق، يأتي دليله، إن شاء الله تعالى.

تنبيه: قوله: "ولا يجب ذلك إلا على مسلم" يخرج المرتد، وقد قال من بعد: إنه يجب عليه؛ فكان الأحسن في العبارة أن يقول: يجب الحج على المسلم البالغ العاقل الحر المستطيع، كما فعل [مثل] ذلك في الصلاة.

قال: فأما الكافر الأصلي، فلا يجب عليه؛ كما تقدم تقريره من قبل، ولا يصح منه؛ لأنه عبادة بدنية؛ فلا تصح مع الكفر [كالصلاة].

قال: وأما المرتد؛ فإنه يجب عليه؛ لأنه حق التزمه بالإسلام فلا يسقط بالردة؛ كحقوق الآدميين؛ وهذا يظهر أثره فيما إذا أسلم، ولم يستطع الحج والعمرة إلا في حال الردة؛ فإنه يجب عليه القضاء.

أما إذا كان مستطيعًا قبلها، فما وجب [إلا] على [مسلم] ، وقد حكى في "البحر" عن والده فيما إذا كان قد وجد الزاد والراحلة في حال ردته، ثم أسلم ومات في الحال –هل يقضى عنه أم لا؟ فيه قولان؛ بناء على أن الردة تزيل الملك أم لا؟

فإنا قلنا: تزيله، لا يلزمه الحج؛ لأن ملكه زال عن الزاد والراحلة قبل استقرار الحج عليه، وهما شرطان في الوجوب؛ فصار كزوال الملك بالتلف.

ص: 15

وإن قلنا: لا تزيل الملك؛ فيلزمه؛ ولهذا الأصل اختلف القول في زكاة ماله.

ولو لم يسلم، لم يظهر للحكم بوجوبه عليه أثر في الدنيا؛ لأنه لا يقضى من ماله؛ لأنا نقول: لو كان قد حج أو اعتمر قبل الردة، ثم مات على الردة -حبط عمله، فكيف يؤمر به؟! ويخالف الزكاة حيث تقضى؛ لتعلق حق الفقراء بها.

ولا خلاف عندنا: أنه إذا حج قبل الردة، ثم ارتد، ومات مسلمًا -[لا يحبط عمله،] حتى لا يجب عليه القضاء؛ لأن الله -تعالى- علق إحباط عمله بموته وهو كافر، ولم يوجد الشرط.

قال: ولا يصح منه؛ لأنه عبادة. نعم، لو ارتد في أثنائه، فهل يبطل إحرامه؟

فيه وجهان في "تعليق" القاضي أبي الطيب وغيره:

أحدهما: نعم؛ لأن الردة أخرجته عن أن يكون من أهل القرب والطاعات؛ وهذا ما اختاره في "البحر".

والثاني -وهو الصحيح-: لا؛ لأنه لا يبطل بالموت؛ فبالردة أولى.

قال أبو الطيب: وعلة الوجه الأول تبطل -أيضًا- بالمجنون؛ فإنه ليس من أهل القرب والطاعات، وإحرامه لا يبطل بطرآنه، والله أعلم.

قال: وأما المجنون، فلا يجب عليه؛ للخبر المشهور، ولأنه عبادة فلم تجب عليه؛ كالصوم والصلاة، قال: ولا يصح منه.

ص: 16

قال في "التهذيب": لأنه ليس من أهل العبادات.

قيل: وهذا ينتقض بالصبي غير المميز؛ فإنه ليس من أهل العبادات، ويحرم عنه وليه.

وجوابه من وجهين:

أحدهما: أن الصبا في الجملة لا ينافي العبادة، بخلاف الجنون.

والثاني: أن الصبي ليس من اهل العبادة كما قلت، والقياس يقتضي ألا يصح حجه؛ لأنه عبادة، لكن الخبر دل على صحة حجه؛ فعمل به، ولم يرد في حق المجنون ما يخالف القياس؛ ولم يعقل معناه، لا يقاس عليه، والله أعلم.

وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وابن كج والحناطي، وحكاه في "البحر" عن بعض الأصحاب؛ تمسكًا بأن الأب يجوز له أن يزوج ابنه الصغير من غير حاجة، بخلاف المجنون؛ وعلى هذا ينطبق قول البندنيجي والقاضي الحسين في أول كتاب الحج: ولجواز الحج شرطان: الإسلام والعقل.

والذي أورده التولي والبغوي والغزالي: أن حكم المجنون حكم الطفل الذي لا يميز، وهو المرجح في "البحر" أيضًا؛ ولذلك قال الرافعي: إن الصحة المطلقة لها شرط واحد، وهو الإسلام.

وقال القاضي الحسين أثناء الكتاب: إن هذا الحكم فيما إذا بلغ مجنونًا، أما إذا بلغ عاقلًا رشيدًا، ثم جن، فعلى وجهين ينبنيان على أن الولاية تعود إلى الأب أو إلى السلطان؟ وفيها وجهان؛ وهذا منه دليل على أنه لا يرى أن غير الأب والجد يحرم عن الصبي -كما ستعرفه- وإلا لم يكن للبناء وجه، والله أعلم.

قال: وأما الصبي، فلا يجب عليه؛ لما ذكرناه في الكجنون. ويصح [منه]؛ لما روى أبو داود ومسلم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء، فلقي ركبًا، فسلم عليهم، فقالوا: من القوم؟ فقالوا: مسلمون، فقالوا: فمن أنتم. فقالوا:

ص: 17

رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزعت امرأة، فأخذت بعضد صبي –زاد مسلم: صغير- أخرجته من محفتها، فقالت: يا رسول الله، [هل] لهذا حج، فقال:"نعم، ولك الأجر"؛ فدل هذا الخبر على صحة الحج من الصبي.

والروحاء –بفتح الراء المهملة، وسكون الوأو، وبعدها حاء مهملة، وهي ممدودة-: من عمل الفُرْع، والفراغ –بضم الفاء، وسكون [الراء المهملة]، ويقال: بضمهما-: موضع بأعلى المدينة، فيه مساجد النبي، ومنابر، وقرى كثيرة.

والمحفة –بكسر الميم-: مركب من مراكب النساء كالهودج، غلا أنها لا تقبب كما يقبب الهودج.

قال: فإن كان مميزًا أحرم بإذن الولي:

أما صحة إحرامه بنفسه؛ فلأنه قد ثبت أنه من أهل هذه العبادة؛ فصح إحرامه بها مع التمييز؛ كالصلاة والصوم.

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن أبا الحسين بن القطان قال: لا ينعقد إحرامه بنفسه وإن كان مميزًا؛ لأنه ليس له قصد صحيح. وقد حكى ذلك في "التتمة" طريقة.

قال القاضي: وهو غلط؛ بدليل صحة صلأنه وصومه.

وأما اعتبار إذن الولي؛ فلأنه يتعلق به إيجاب مال؛ فاعتبر إذنه فيه؛ كما اعتبر إذنه للسفيه في النكاح لأجل ذلك، لكنّ الإذن في النكاح شرط في صحته، وهل هو هنا شرط في صحة الإحرام؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا، وهو المنسوب في "تعليق" أبي الطيب و"الحاوي" و"الشامل" وغيرها إلى أبي إسحاق؛ كما لا يعتبر إذنه في الصلاة والصوم؛ وعلى هذا يجوز

ص: 18

للولي تحليله إذا أحرم بدون إذنه، ولا يجوز للولي أن يحرم عنه؛ كما قاله الإمام.

والثاني: نعم، وهو الذي قال به أكثر الأصحاب، واختاره الشيخ أبو حامد والقفال، وادعى القاضي الحسين: أنه المذهب؛ لما ذكرناه؛ وعلى هذا هل ينعقد إحرام الولي [عنه]؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ فإن الإحرام إذا كان ينعقد بعبارته، فلا ينعقد بعبارة غيره.

والثاني: نعم، وهو الذي أورده القاضي الحسين، وادعى الإمام أنه ظاهر المذهب.

وإن لم يراجعه فيه؛ فإن الولاية مطردة عليه؛ فيدوم استقلال الولي بالتصرف فيما تفيده الولاية.

قال: وإن كان غير مميز، أحرم عنه أحد أبويه:

أما الأم؛ فللمفهوم من الخبر؛ فإن قوله –عليه السلام: "ولك الأجر"، يفهم أن الأجر الحاصل لها بسبب فعلها الحج عنه؛ لأن الصغير الذي يحمل بعضده، ويخرج من المحفة –لا تمييز له؛ فلا يمكن أن يحرم بنفسه، ولو كان متعاطي ذلك غيرها، لم يكن لها أجر.

وقد قال في "البحر": إن عقبة بن عامر قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أحج بابني وهو صغير أو مرضع؟ قال: "نعم".

وأما الأب؛ فبالقياس عليها، بل أولى.

ولأنها عبادة على الأعيان من شرطها المال؛ فجاز أن يعقدها الولي عن المولى عليه؛ كصدقة الفطر.

واعلم أن كلام الشيخ يقتضي بمنطوقه: أنه إذا كان مميزًا أحرم بإذن الولي، وهو كما قال في باب الحجز: للأب، ثم الجد، ثم الوصي، ثم الحاكم أو أمينه، وللأم بعد الجد على رأي.

وإذا كان غير مميز يحرم عنه أحد الأبوين.

ويقتضي بمفهومه: أنه لا يعتبر في الأذن له في الإحرام في حال تمييزه غير الولي، ولا يحرم عنه في حال عدم تمييزه غير الأبوين، وهو قضية القاعدة السالفة في إلحاق

ص: 19

إحرام المميز بقبول السفيه النكاح في الافتقار إلى إذن الولي، وإلحاق الإحرام عن غير المميز بقبول النكاح للصغير؛ حتى لم يجوزوا الإحرام عن المجنون كما [لم] يجوزوا تزويجه من غير حاجة؛ لأن الإذن للسفيه في النكاح يصح ممن تثبت له الولاية على ماله: أبًا كان، أو نائبًا [عنه] ، أو حاكمًا، ولا يصح أن يقبل النكاح للصغير إلا الأب، وألحقت الأحسن به [هنا وإن كانت لا تلحق به] في قبول النكاح؛ للخبر، وصلاحيتها لذلك هنا، وعدم صلاحيتها لقبول النكاح.

لكن الأصحاب سووا بين الإذن للمييز والمحرم عن غير المميز، وقالوا: يصح ذلك من الأب، ثم من أبيه عند عدمه؛ [كما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه].

وقيل: يصح منه مع وجوده؛ كما إذا قيل بأنه إذا أسلم والأب موجود: إنه يتبعه في الإسلام.

والمشهور: الأول.

واختلفوا لماذا ملك الأب ذلك؟

فقيل: لاستحقاقه الولاية عليه في ماله؛ وعلى هذا لا يثبت ذلك للجد من الأم، ولا للأخ والعم من الأبوين؛ لأنهم لا يستحقون الولاية عليه في ماله؛ وإلى هذا أشار صاحب "الإفصاح"؛ وكذلك لا يثبت للأم؛ إذا قلنا: لا ولاية لها، كما هو المذهب؛ وإن قلنا بثبوت الولاية لها - كما صار إليه الإصطخري- ثبت لها ذلك؛ وهذا ما أورده البندنيجي فيها، واختاره في "المرشد".

والحديث يحتمل -كما قال، [تبعًا] لابن الصباغ- أن يكون قد أحرم عنه ولى، وإنما كانت حملته لإتمام حجه.

وقيل: لولادته وكونه بعضا منه؛ وعلى هذا يثبت ذلك لسائر الأداء والأمهات من جميع الأجداد والجدات، من قبل الأب، ومن قبل الأم؛ لوجود الولادة فيهم، وقد رزي أن أبا بكر [الصديق]رضي الله عنه] طاف بعبد الله بن الزبير على يديه ملفوفًا بخرقة، وكان ابن ابنته أسماء؛ ولا يثبت ذلك لسائر العصبات؛ وهذا ما حكاه

ص: 20

أبو إسحاق في "الشرح" والقاضي أبو حامد في "جامعه"؛ كما قاله ابو الطيب، ونسبه الماوردي إلى قول أكثر البصريين من أصحابنا.

وقيل: لوجود التعصيب فيه؛ فعلى هذا يصح ذلك من سائر العصبات من الإخوة والأعمام وبنيهم، ولا يصح من الأحسن وآبائها وأمهاتها؛ لعدم التعصيب.

قال الماوردي: وإلى هذا مال كثير من أصحابنا البغداديين.

وقضية الأوجه الثلاثة: عدم ثبوت ذلك لمن لا ولادة له، ولا تعصيب ولا ولاية من الأقارب: كالأخوة، والأعمام للأم، والأخوال والخالات وإن كان لهم ولاية في الحضانة.

وقد ادعى الماوردي أنه لا يختلف أصحابنا في ذلك.

[وقضية الوجه الثاني والثالث: عدم ثبوت ذلك للوصي والقيم].

وقضية الوجه [الأول]: ثبوته لهما؛ فيكون فيهما وجهان، وقد صرح بهما في "الإبانة".

وقال الإمام: إن الأصح منهما المنع. وادعى الماوردي مع حكايته الأوجه: أنه لا يثبت ذلك للقيم بإجماع علماء أصحابنا؛ لأن ولايته تختص بالمال دون البدن؛ فكان فيما سوى المال كالأجنبي، وأن في ثبوت ذلك للوصي وجهين:

أحدهما: لا يثبت، وهو الأصح؛ كالقيم.

والثاني: يثبت؛ لنيابته عن الأب؛ فكان كهو.

وقد حكى الروياني مثل هذين الوجهين عن رواية والده فيما إذا أذن الأب لشخص في تعاطي ذلك، لكن الصحيح فيها الصحة.

وقد تلخص من هذه الطريقة ثبوت ذلك للأب، ثم لأبيه من بعده وإن علا، ولا يثبت للقيم، وفي ثبوته للوصي وجهان جاريان في [ثبوت ذلك] للأخ والعم وبنيهما، وفي ثبوته للأم طريقان حكاهما الإمام أيضًا:

إحداهما: القطع بالثبوت.

ص: 21

والثانية: إجراء وجهين فيها؛ بناء على أن الولاية هل تثبت لها على المال ام لا؟

والذي صححه افمام منهما: ثبوت ذلك لها، وأن كان البناء يقتضي ترجيح عكسه، كما ذكرناه.

وقد حكى القاضي أبو الطيب عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: يجوز للأب، ثم لأبيه [ثم] للوصي –أن يحرم عن غير المميز.

وحكى البندنيجي وابن الصباغ إلحاق القيم من جهة الحاكم به، وهل يجوز لأخيه وعمه وبنيهما؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين أيضًا:

أحدهما: نعم؛ كما لهم تأديبه وتعليمه والإنفاق عليه.

والثاني: لا؛ لأنه لا يجوز لهما التصرف في ماله.

قال القاضي: ويخالف الإنفاق على التأديب؛ لأنه نفل؛ فسومح فيه، بخلاف الإنفاق على الحج.

قلت: ويمكن بناء الوجهين على أن إحرام المميز بدون إذن الولي، هل يصح؟

فإن قلنا: لا يصح، فقد نظرنا فيه غلى المال؛ فلم يصح من الإخوة والأعمام.

وإن قلنا: يصح، فقد أفقدنا النظر إلى المال، واتبعنا المصلحة؛ فيجوز من الإخوة والأعمام.

ومن هذا البناء يظهر لك أن الصحيح فيهم المنع؛ كما صرح به في "التتمة"، ولم يذكر في "المذهب" غيره.

قال الشيخ أبو حامد: وأما الأم: فإن قلنا بثبوت الولاية لها على قول الإصطخري، [أحرمت عنه]؛ وإن قلنا: لا ولاية لها، كانت بمنزلة الإخوة والأعمام.

وإذا تأملت ما قاله وجدته مخالفًا لبعض ما تقدم؛ فلذلك ذكرته.

وفي "البحر" طريقة ثالثة حكاها عن القفال: انه لا خلاف في ثبوت ذلك للأم؛ للخبر، ولا يجوز للأجنبي وإن كان يلي المال بالوصاية أو الولاية من الحاكم قولاً واحدًا.

وفي " تعليق" القاضي الحسين: إن الذي سمعته أنا في الدرس –يعني: من

ص: 22

القفال –إن كان الولي أبًا أو جدًا، والصبي لا يعقل عقل مثله- أحرم عنه، وإن كان مميزًا، فوجهان، وإن كان الولي غيرهما من القيم والوصي: فإن كان الصبي مميزًا، لا يحرم عنه؛ وإن لم يعقل عقل مثله، فوجهان.

تنبيه: إطلاق الشيخ القول بأن أحد ابويه يحرم [عنه] ، يعرفك أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الولي محرمًا أو حلالًا، حج عن نفسه أو لا؛ كما صرح به البندنيجي والقاضي الحسين وغيرهما؛ لإطلاق الخبر مع احتمال ذلك.

وفي "الحاوي" حكاية وجهين في صحة إحرامه عنه إذا كان محرمًا:

أحدهما: هذا، ونسبه إلى البغداديين.

والثاني: لا يجوز أن يحرم عنه إلا إذا كان حلالًا؛ لأن من كان في نسك، لم يصح أن يفعله عن غيره، ونسبه غلى البصريين، وقال: إن على الوجهين يختلف كيفية إحرامه [عنه].

فعلى مذهب البغداديين: يقول عند الإحرام [-أي] بقلبه-: قد أحرمت بابني، ولا يجوز أن يكون غير مواجه للصبي بالإحرام.

[وعلى مذهب البصريين: يقول –أي: بقلبه-: اللهم إني قد أحرمت عن ابني، ويجوز أن يكون غير مواجه للصبي بلإحرام] ولا مشاهد له؛ إذا كان الصبي حاضرًا بالميقات.

وحكى القاضي أبو الطيب وجهين في أنه هل يجوز أن يحرم عن الصبي إذا كان أحدهما ببغداد ولآخر بالكوفة، [أو لا] يجوز حتى يكونا في موضع واحد؟ مع جزمه بأنه يجوز من الولي وإن كان محرمًا عن نفسه، وقال:[إنا] إن قلنا بالجواز. كان مكروهًا؛ لاحتمال تلبس لصبي بشيء لا يجوز في حال الإحرام.

قال: وفعل عنه وليه ما لا يتأتى منه، أي: كركعتي الطواف، والتلبية، والرمي؛ إذا عجز عنه الصبي، لما روي عن جابر [أنه] قال: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 23

ومعنا النساء والصبيان، فلبينا [عن الصبيان] ، ورمينا عنهم".

وبالقياس على الإحرام؛ فإنه –أيضًا- مما لا يتأتى من غير المميز.

قال الماوردي: ويحضره الولي حالة رمي الجمار.

وقال أبو الطيب وغيره: ويستحب أن يضع الجمار في كفه، ثم يأخذها منه، ويرمي بها.

وهل يرمي عنه؟ فيه قولان:

القديم: لا.

والجديد: نعم؛ [كما في الأجير].

أما ما يتأتى منه، فهو على ضربين:

ضرب يصح منه من غير معونة: كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة ومنى، فإذا حصل الصبي في ذلك، حصل مقصوده، سواء صار إليه بنفسه أو حمله إليه [وليهي أو غيره، لكن الولي هو المنعاطب بحمله إلى هذه المواضع.

وضرب يصح منه بمعونة وليه: كالرمي إذا أمكن وضع الحصاة في كفه ورميها في الجمرة، وكالطواف والسعي، فعلى الولي أن يضع الحصاة في كفه ويرميها في الجمرة، وعليه أن يطوف به، ويسعى، ويرمل –كما تقدم- وان يتوضأ للطواف [به] ، [ويوضئه، فإن كانا غير متوضئين، لم يجز الطواف] ، وكذا إن كان الصبي متوضئًا، والولي محدثًا؛ [لأن الطواف بمعونة الولي يصح، والطواف لا يصح إلا بطهارة.

ص: 24

وإن كان الولي متوضئًا، والصبي محدثًا،] فوجهان، وجه الصحة: أن الصبي إذا لم يكن مميزًا، ففعل الطهارة لا يصح منه؛ فجاز أن يكون طهارة الولي نائبة عنه كما أنه لما لم يصح منه الإحرام وركعتا الطواف، احرم عنه، وصلى.

ولو أركبه الولي دابة، فكانت الدابة تطوف به، لم يجز حتى يكون الولي معها قائدًا أو سائقًا؛ لأن الصبي غير مميز، والدابة لا يصح منها عبادة.

وما ذكرناه من طوافه بالصبي محله بالاتفاق إذا لم يكن عليه طواف، فإن كان، فسنذكره في باب صفة الحج.

قال: ونفقته في الحج –أي: الزائدة بسبب الحج- وكذا العمرة، وما يلزمه من الكفارة- أي: بسبب ما ارتكبه في الإحرام مما ينافيه- في ماله في أحد القولين؛ لأنه مصروف في مصلحته؛ فكان كأجرة المؤدب والمعلم؛ وهذا ما اختاره في "المرشد".

قال: وفي مال الولي في الآخر؛ لأنه الذي أدخله فيه مع استغنائه عنه، والولي ليس له ان يتصرف في مال الصبي إلا بما كان محتجًا إليه، وليس كتعليم القرآن والأدب.

قال الماوردي: لأن ذلك لو فأنه في صغره، لم يدركه في كبره.

وقال القاضي الحسين وغيره: لأن به حاجة غلى تعليم الصلاة في صغره؛ ليعتادها في كبره، والحج العادة فيه أن من كبر دعته نفسه إليه؛ فلا يحتاج غلى تمرينه على ذلك.

ولأن الصبي إذا بلغ، لزمته الصلاة، وفعلها على الفور، فإذا بلغ ولم يتعلمها في حال صغره، كان في اشتغاله بتعليم القرآن تفويت لها، والحج لا يجب عليه فعله عقيب البلوغ؛ لأنه على التراخي، ويمكنه تعلم افعاله بعد البلوغ؛ ولا يفوته؛ وهذا ما اختاره النواوي.

واعلم أن القاضي أبا الطيب في "تعليقه" وغيره حكوا الخلاف المذكور في الزائد

ص: 25

على نفقة الحضر وجهين، والخلاف في الكفارة قولين، ونسبوا الأول غلى القديم، [والثاني إلى نصه] في "الإملاء"، وقد حكاه الشيخ في الصورتين قولين، وهو في "الشامل" كذلك، ولا غرو فيه؛ لأنه في إحدى المسألتين منصوص عليه، وفي الأخرى بالتخريج.

وقد قال القاضي الحسين وصاحب "البحر": إن إلزام الولي الزائد على نفقة الحضر منصوص في "الإملاء" أيضًا.

وقال في "الحاوي": إنه الظاهر من مذهب الشافعي –رضي الله عنه وهو الأصح في "الشامل".

وعن أبي الحسين حكاية وجه ثالث في الثانية: أنه إن أحرم عنه الأب أو الجد، فالكفارة في مال الصبي، وإن أحرم عنه غيرهما فهي عليه.

أما قدر النفقة في الحضر، ففي مال الصبي وجهًا واحدًا؛ صرح به الماوردي وأبو الطيب وغيرهما.

[و] في "الرافعي" في الباب الثاني من قسم الصدقات: أن الصبي إذا سافر به الولي للحج، وأنفق عليه من ماله كم يضمن؟ فيه وجهان:

أحدهما: جميع النفقة.

والثاني: ما زاد بسبب السفر، وعلى هذا الخلاف ينطبق ظاهر كلام الشيخ.

ولو كان الولي هو المتسبب في إيجاب الكفارة –نظر:

فإن كان لا لمصلحة الصبي؛ كما إذا فوته الحج بعد إحرامه، كانت في مال الولي قولاً واحدًا؛ صرح به أبو الطيب، ويلتحق بذلك ما إذا طيبه لا لحاجة ومصلحة؛ كما حكاه الإمام عن الأصحاب، وقال: إن فيه ضربًا من الإشكال؛ لأنه لو قيل لنا: ما قولكم في المحل يطيب المحرم؟ للزم أن نقول بوجوب الفدية، وهو غامض من طريق المعنى، ولكن مأخذه حلق المحل شعر المرحم وهو نائم أو مكره.

ص: 26

وقد يتخيل في ذلك أن شعر المحرم محترم، وإتلافه محرم على المحل والمحرم؛ كشجر الحرم، وتقدير هذا في استدامة فعل المحرم بعيد.

وإن كان لمصلحة كما إذا طيبه لمدأواة، ففيه طريقان:

أحدهما: القطع بأنها على الولي.

و [الثاني]: منهم من جعله على التفصيل فيما إذا طيب الصبي نفسه، وسنذكره.

والحكم في الزائد على نفقة الحضر والكفارة إذا أحرم الصبي بإذن الولي، وقلنا: لا يصح بدون الإذن –كما لو أحرم الولي عن غير المميز. نعم، إذا قلنا: تجيب الكفارة في مال الصبي، فأراد أن يصوم حيث يجوز الصوم، هل يجوز؟

قال القاضي أبو حامد: نعم؛ لأنه ممن يصح صومه؛ فأشبه البالغ.

وقال غيره من العراقيين: لا يجوز؛ لأنه في الفدية واجب، والعبادة لا تجب على الصبي.

وقد خرج الرافعي والروياني الخلاف على قولين، سنذكرهما في الصبي إذا أفسد الحج، وقلنا: يجب عليه القضاء: هل يجزئه في حال الصغر أم لا؟

قال في "البحر": وعلى القول بعد الجواز، فالمذهب: أنه لا يجوز للولي أن يكفر عنه بالمال؛ لأنه غير متعين، وإن قلنا: تجب الكفارة في مال الولي، جاز له الصوم؛ [كما يجوز [له]] إذا كانت الكفارة وجبت عليه بسبب نفسه.

وإن أحرم بغير إذنه، وصححناه، قال الرافعي: فالزائد على نفقة الحضر [يكون] على الولي إن لم يحلله. وقال في "البحر" إن قلنا: إن النفقة الزائدة على نفقة الحضر تكون على الولي، فإذا لم يرد أن يحلله ينفق عليه قدر نفقة الإقامة، فإن أمكنه أن يحج يحج، وإلا فيتحلل.

وإن تعاطى ما يوجب الكفارة، ففي "التتمة": أنه في مال الصبي قولاً واحدًا.

ص: 27

فرع: إذا قلنا: يجوز الإحرام عن المجنون، فأحرم عنه الولي، وأخرجه –فحكمه حكم الصبي فيما ذكرناه.

وإذا قلنا بأن الزائد على نفقة الحضر في مال الولي، وأفاق عند الإحرام والوقوف والطواف والسعي، وفعل ذلك بنفسه –كانت في مال المجنون.

قال الرافعي: ولم يتعرضوا لحالة الحلق، وقياس كونه نسكًا: اشتراط الإفاقة فيه.

وهذا إذا كان الحج قد وجب عليه قبل [جنونه، واستقر في ذمته، فلو كان قد وجب عليه]، وجن قبل استقراره –قال القاضي الحسين في "تعليقه": غرم الولي الزيادة بسبب السفر وإن افاق وأحرم ووقف؛ لأنه [لم يكن مستقرًا] عليه.

قلت: ومن طريق الأولى إذا جن قبل الوجوب.

قال: وأما العبد فلا يجب عليه؛ لما روي أنه –عليه السلام قال: "أيما عبد حج، ثم أعتق، فعليه حجة أخرى".

ولأن الجمعة لا تجب عليه مع قرب المسافة؛ لما في ذلك من تعطيل منافعه على السيد؛ فَلأَلا يجب عليه الحج والعمرة مع بعد المسافة أولى.

قال: ويصح منه؛ للخبر، ولأنه من أهل العبادة.

ص: 28

واعلم أن ظاهر كلام الشيخ مع كلامه السابق الذي تقم تقريره، يقتضي أمرين:

أحدهما: أن العبد لا يلزمه الحج والعمرة بالنذر، وقد قال القاضي ابو الطيب وغيره عند الكلام فيما إذا أفسد الحج: إنه يلزمه بالنذر.

وحكى الإمام في آخر "النهاية" في انعقاد نذره وجهين:

أصحهما: الانعقاد؛ وعلى هذا لو وفى بنذره في حال الرق: فهل يبرأ منه؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها –وهو ما ذكره صاحب "التلخيص"، ولم يذكر غيره-: أنه إن أدى ذلك بإذن مولاه برئ، وإلا فلا.

وقال الإمام [ثم]: إنه ساقط لا أصل له. وقد صححه غيره، وقد يتخيل بين ما قاله الشيخ وغيره من انعقاد نذره منافاة، وليس كذلك؛ لأن القائلين بالانعقاد متفقون على عدم لزوم الوفاء به في حال الرق إذا صدر بغير إذن سيده وإن اختلفوا في براءته بإدائه في حال الرق، وإذا كان كذلك فقد جعلوا الحرية شرطًا في اللزوم، والشيء لا يوجد قبل شرطه؛ فصح أنه لا يجب إلا على حر، والله أعلم.

الثاني: أنه لا فرق في عدم وجوب ما وقعت الإشارة إلى نفي وجوبه من حج الإسلام، وعمرته، أو بالنذر، أو ما سببه دخول مكة، فقد حكى الإمام [فيما إذا أذن السيد له في الإحرام في وجوبه وجهين، وادعى أنه لا خلاف] فيما أذن له في الدخول المجرد: أنه لا يلزمه الإحرام، وهو المذكور في "تعليق" أبي الطيب.

فرع: لو أراد المولى أن يحرم عن العبد، قال الإمام: إن كان بالغًا، فليس له ذلك، وهو يحرم عن نفسه. وسكت عن العبد الصغير، والقياس أن يكون الحكم فيه كما في تزويجه، خصوصًا إذا خصصنا الإحرام عن غير المميز بالأب والجد، كالنكاح.

ص: 29

قال: فإن بلغ الصبي وعتق العبد قبل الوقوف بالحج، أو قبل الطواف في العمرة –أجزأهما عن حجة [الإسلام] وعمرته:

أما في الأولى؛ فلقوله –عليه السلام: "من أدرك عرفة، فقد أدرك الحج"، ولأنه أدرك معظم العبادة؛ فاعتد له بها؛ كالمسبوق إذا أدرك الركوع؛ فإنه معظم الركعة، وإنما قلنا: إنه أدرك معظم العبادة؛ لقوله –عليه السلام: "الحج عرفة"،

ص: 30

أي: معظم الحج عرفة.

وأما في الثانية فلأنه أدرك معظمهما وهو الطواف والسعي والحلاق، ولم يفته إلا ابتداء الإحرام؛ فكان مدركًا لها كالحج. نعم، لو كان في الحج قد سعى مع طواف القدوم: فهل يعتد بذلك السعي، أو يجب عليه إعادته مع طواف الزيارة؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ كما لا يلزمه إعادة الإحرام.

والثاني –وهو الأصح في "تعليق" البندنيجي و"الحاوي" و"الوسيط"-: نعم؛ لأن الإعادة ممكنة، [بخلاف إعادة الإحرام؛ فإنها غير ممكنة]؛ فلذلك أقمنا دوام الإحرام مقام ابتدائه على صفة الكمال، على أن الإمام هنا والمصنف في باب المواقيت وغيرهما حكوا قولين في أنه هل يجب عليه دم الإساءة إذا لم يعد [بعد] صفة الكمال إلى الميقات أم لا؟ وهما مذكوران في "المختصر".

وجه المنع: أنه لم يسئ، وقد فعل ما في وسعه؛ وهذا ما ادعى أبو الطيب: أنه الأظهر، والماوردي: أنه الأصح، وحكى البندنيجي عن أبي الطيب بن سلمة طريقة قاطعة به، وقال: قول الشافعي –رضي الله عنه: "يجب الدم"، أراد: إذا جاوز الميقات مريدًا للنسك، فأحرم دونه.

ووجه الوجوب –وهو الذي صدر به المزني كلامه-: أن الإحرام الذي صدر منه من الميقات كان ناقصًا، وحج الإسلام يستدعي إحراماً كاملًا في الصفات.

وقال القفال: القولان مبنيان على أن الكمال إذا طرأ بعد الإحرام بحيث يجزئ ذلك النسك عن فرض الإسلام، فهل نقول: إن الإحرام وقع على الوقف، وعند طرآن الكمال –والصورة كما ذكرنا- تبينًا: أنه انعقد فرضًا، أو نقول: انعقد نفلًا أولًا، ثم من وقت الكمال انقلب فرضًا؟ وفيه احتمالان: الذي ذكره أبو الطيب منهما

ص: 31

الأول، والبندنيجي الثاني.

قال القفال: فإن قلنا بالأول، لم يجب دم الإساءة، وإلا وجب.

وعلى هذا: لو عاد [إلى] الميقات قبل الوقوف ومر عليه، فالمذهب: أنه لا يلزمه دم الإساءة.

وحكى القفال وجهًا آخر: أن الدم لا يسقط، وهو بعيد.

أما لو بلغ أو عتق بعد فوات وقت الوقوف، أو بعد الطواف [في العمرة] ، فلا يجزئه عن حجة الإسلام وعمرته.

ولو بلغ أو عتق بعد أن وقف، لكن وقت الوقوف باق، فإن كان قد انصرف، ثم عاد بعد صفة الكمال، أجزأه عن حجة الإسلام، [وإن لم يعد، فالذي ذهب إليه الشافعي ومعظم أصحابه: أنه لا يجزئه عن حجة الإسلام].

وذهب ابن سريج إلى وقوعه عن حجة الإسلام؛ لأنهما أدركا زمان الوقوف في حال الكمال؛ فأجزأهما ذلك؛ كالإحرام.

وفرق غيره من الأصحاب بأن الإحرام مستدام؛ فكانت استدامته في حال الوقوف بمنزلة ابتدائه فيه، وليس كذلك فعل الوقوف؛ فإنه غير مستدام.

ولو لم ينصرف من الموقف حتى حصلت له صفة الكمال، فإن مكث بعد ذلك فيه زمانًا يعتد بمثله عن الوقوف ابتداء –أجزأه عن حجة الإسلام؛ كما قاله الأصحاب.

قلت: ولولا جزم الأصحاب بأنه إذا كان قد انصرف، ثم عاد بعد صفة الكمال، ووقف يجزئه عن حجة الإسلام –لكان لقائل أن يبني ذلك على خلاف سبق في أن المصلي إذا طول الركوع، هل يوصف كله بالوجوب، أو ما لو اقتصر عليه لأجزأه؟ فإن قلنا بالثاني؛ فينبغي ألا يجزئه.

ولو لم يمكث بعد حصول صفة الكمال في الموقف؛ بأن كان في طرفه، فلما عتق أو بلغ خرج منه –فيظهر أن يكون الحكم كما لو حصلت له صفة الكمال بعد انصرافه من الموقف، ولم يعد.

وأما المجنون إذا أفاق بعد الإحرام [عنه] ، وقلنا بصحته؛ فينبغي أن يكون

ص: 32

حكمه حكم الصبي فيما ذكرناه.

لكن في "تعليق" القاضي الحسين قبل باب ما للمحرم فعله: أن من يجن يومًا، ويفيق يومًا إذا أحرم بالحج، قال أصحابنا: شرط إجزائه عن الإسلام: أن يكون مفيقًا في أربعة أركان: عند الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي، ولا يمنع الإجزاء كونه مجنونًا في باقيه، وعليه ينطبق ما حكيناه من قبل: أن الولي إذا كان قد أحرم عنه، وقلنا: نفقة الحج على الولي، وكان المحرم عنه مفيقًا عند الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي –كانت نفقة الحج على المجنون، ويجيء هنا سؤال الرافعي الذي ذكره ثم، والله أعلم.

قال: والمستطيع، أي: الذي يلزمه الحج والعمرة –اثنان: مستطيع بنفسه، ومستطيع بغيره:

فالمستطيع بنفسه: أن يكون صحيحًا، أي: بحيث يمكنه الثبوت على الراحلة بنفسه بدون مشقة غير محتملة عادة؛ لأنه إذا لم يكن كذلك، كان من الثاني.

والدليل على اعتبار الصحة قوله –عليه السلام "من لم يمنعه [من] الحج حاجة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر، فمات، فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا".

قال: واجدًا للزاد [،أي:] الذي يكفيه على حسب حاله، وأوعيته حتى السفرة؛ كما قاله القاضي [الحسين] ، والماء بثمن المثل، أي وهو معه، أو له دين على مليء يقدر على أخذه منه، أو له عرض يستغنى عنه بقدره، في المواضع التي جرت العادة أن يكون فيها، أي: بأن يجد الزاد في كل منزل، أو في بلده أو في أقرب البلاد إلى البر؛ وحينئذ يحمله في المفأوز، وإن لزمه فيه مؤنة كبيرة، ويجد الماء في كل منزل، قال القاضي الحسين: وإن لم يجده كذلك فهو غير واجد، كما قاله

ص: 33

أصحابنا؛ لأنه لا يلزمه أن يحمل مع نفسه، وعندي: أنه إذا كان يجده في كل مرحلتين، يلزمه الحمل لمرحلة على العرف والعادة. وهذا ما أورده البندنيجي؛ بحيث فسر وجدانه بأنه يجده في كل منزل أو منزلين.

ولو كان يجده في أقرب البلاد إلى البر فغير واجد، بخلاف الزاد؛ لأن العادة جرت بنقل الماء غلى المنازل بخلاف الزاد.

قال: في ذهابه ورجوعه، أي: وإن لم يكن له أهل في الموضع الذي سافر منه.

والأصل في اعتبار وجود الماء والزاد قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، فإن الأمر بالعبادة إذا ورد مطلقًا، كانت القدرة على أدائها شرطًا في وجوبها، فلما ضم الله تعالى إلى هذه العبادة الاستطاعة [بعد] ، علمنا أن وجوبها على غير المستطيع لا يجوز؛ دل على أنه ضم ذلك لفائدة، وقد بينها صلى الله عليه وسلم: روى الدارقطني بسنده عن غير واحد من الصحابة: أنه لما نزل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية، قال رجل: يا رسول الله، ما السبيل؟ فقال:"الزاد والراحلة".

وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا

ص: 34

رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة"، قال الترمذي: وهو صحيح حسن.

ولأن ذلك عبادة تحتاج في أدائها إلى قطع مسافة بعيدة؛ فوجب أن يكون من شرط وجوبها: الزاد والراحلة؛ كالجهاد؛ فإن الكتاب دل على اعتبار ذلك فيه.

واحترزنا بقولنا: تحتاج في أدائها إلى قطع مسافة [بعيدة] ، عن سفر الهجرة؛

ص: 35

فإنه يجب على أحد الوجهين عندنا -كما حكاه القاضي الحسين- وإن لم يقدر على الزاد والراحلة؛ لأن العبادة فيه نفس الهجرة والسفر.

وإذا ثبت ذلك في الزاد، ثبت مثله في الماء من طريق الأولى؛ لأن الحاجة إليه أشق من الحاجة إلى الزاد.

وفي اعتبار وجدان ذلك بثمن المثل: أنه لو لزمه بأكثر منه لم يأمن [ألا يباع] منه إلا بجميع ما يملكه، وفي ذلك إضرار بيّن به.

ولا فرق في ثمن المثل بين أن يكون غاليًا أو رخيصًا، وثمن مثل الزاد معروف، وفي ثمن مثل الماء أوجه مذكورة في التيمم.

وفي اعتبار وجدان ذلك في المواضع التي يكون فيها على النعت الذي ذكرناه: أنه عليه السلام أطلق ذكر الزاد، ولا شيء يرجع إليه فيه إلا العرف؛ فرجع إليه، وهو ما ذكرناه.

واعتبار وجدان ذلك في الذهاب ظاهر، وأما في ارجوع إذا كان له أهل -وهو من تلزمه نفقته من زوجة وقرابة؛ كما أفهمه كلام الماوردي ومن تبعه، أو أقاربه من المحارم وغيرهم؛ كما حكاه الإمام عن الصيدلاني، وأنه ليس في الطرق ما يخالفه، وعبر عن ذلك الرافعي بأنهم عشيرته التي يتناصر بها -فلأنه عند فقد ذلك لا يصل إليهم، وذلك ضرر ظاهر، والشرع راعى في [مثل] هذه العبادة ترك الضرر؛ فاعتبرنا وجوده.

وإذا لم يكن له فيه أهل؛ فلأن [جنس] الانقطاع عن الوطن، والقيام في الغربة -يشق، فلذلك جعل عقوبة في حق الزاني [البكر] وإن لم يكن له أهل ببلده؛ فالتحق بما إذا كان له فيه أهل، وهذا هو المنصوص عليه في "الإملاء"، والصحيح في "تعليق" أبي الطيب وغيره، واختاره في "المرشد".

وقيل: إذا لم يكن له أهل لا يشترط في الاستطاعة وجود ذلك في الرجوع؛ لأن سائر المواضع في حقه سواء، وقد حكى الحناطي مثله في حق من له أهل وعشيرة فيه، والمشهور الأول؛ وعلى هذا فهل يختص الوجهان عند عدم الأهل بما إذا لم

ص: 36

يكن له في الموضع مسكن؟ فيه احتمالان للإمام، ورأى الأظهر التخصيص، وهو الذي أورده الغزالي.

قال الأصحاب: ولا فرق في اعتبار وجود الزاد والماء بين أن يكون الشخص ممن لا يعمل صنعة، ولا جرت عادته بالسؤال، أو ممن جرت عادته بذلك، وأمكنه التكسب في الطريق؛ لظاهر الخبر.

ولا فرق فيه [أيضًا]-كما قاله أبو الطيب- بين [المسافة] القريبة والبعيدة.

وحكى الإمام عن العراقيين أنهم قالوا: الحكم كذلك في مسافة القصر، أما إذا كان بينه وبين مكة دون مسافة القصر، فإن كان كسبه في يوم لا يكفيه لأيام، فالحكم كذلك، وإن كان يكفيه لأيام، لزمه الخروج، وهو الذي حكاه القاضي الحسين عن المذهب، ولم يورد في "البحر" سواه.

وللإمام فيه احتمال؛ من حيث إن القدرة على الكسب في يوم الفطر لا تجعل كحصول صاع في ملكه.

[وحكى القاضي الحسين وجهًا آخر: أنه إن كان من مكة] أو من الحرك، لا يشترط حصول الزاد في حقه كالراحلة.

فرع: حيث قلنا: لايجب عليه، لفقد الزاد والماء، فهل يستحب [له] أو يكره؟ ينظر: فإن كان يمكنه تحصيل ذلك بالتكسب في الطريق، استحب له الخروج من خلاف مالك رحمه الله نص عليه.

وإن كان لا يقدر على التكسب، لكن عادته السؤال [واعتمد عليه] ، كره [له]؛ نص عليه في "الأم" و"الإملاء"؛ لأن كراهية المسألة أبلغ من كراهية [ترك] الحج.

قال: وأن يكون واجدًا لراحلة تصلح لمثله، أي: بثمن الثمل أو أجرة المثل، وهو واجد لذلك في ذهابه ورجوعه، إن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة، أى:

ص: 37

سواء قدر على المشي وهو من عادته أو لا؛ للخبر والقياس السابقين.

ويعتبر أن يجد مع ذلك علفها وماءها في كل مرحلة، فإن كانا غير موجودين قال القاضي الحسين: فلا يكلف حملهما.

والقياس: أن حكم علف الدواب حكم نفقة نفسه، وقد بيناه.

وهذا الذي ذكرناه فيما إذا كان له أهل، فإن لم يكن له أهل، فيشترط ذلك في الذهاب، وفي اشتراطه في الإياب الخلاف السابق، وحيث لا نوجبه، وقدر على المشي؛ فيستحب له أن يأتي إذا قدر على المشي؛ للخروج من خلاف مالك رحمه الله، وسيأتي في النذر إن شاء الله- خلاف في أن الحج راكبًا أفضل أو ماشيًا؟

ثم أحوال الناس فيما يصلح لهم للركوب مختلفة: فمنهم من يقدر على ركوب المقتب من غير مشقة شديدة تلحقه، ومنهم من لا يقدر [على ذلك] إلا بمشقة [شديدة] ، ويقدر على ركوب الزاملة من غير ذلك، ومنهم من لا يقدر على ركوب الزاملة إلا بمشقة [شديدة] ، ويقدر على ركوب المحمل من غير مشقة، ومنهم من لا يقدر على ركوب ذلك إلا بمشقة [شديدة] ويقدر على ركوب الكنيسة بدونها؛ فيعتبر في كل شخص وجدان ما يقدر عليه؛ كما صرح به الشيخ؛ لأن اعتبار الراحلة إنما كان لما يلحقه من مشقة المشي، فإذا لحقته المشقة بنوع من الركوب، اعتبر بما لا مشقة فيه.

واعتبر الشيخ أبو محمد في ضبط المشقة: أن يكون بين ركوبه ما يليق به وما لا يليق به ضرر يوازن الضرر الذي بين الركوب والمشي.

ثم إذا كان الائق به المحمل، فقدر على شقه ووجد شريكًا -لزمه، وإن لم يجد شريكًا وكان يقدر على المحمل كله، لكنه يكتفي بشق- قال الغزالي: لم يلزمه؛ لأن الزائد خسران لا مقابل له، أي: مؤنة محققة يعسر احتمالها.

قال الرافعي: وكان لا يبعد تخريجه على الخلاف في لزوم البذرقة، وفي كلام الإمام إشارة إليه.

ص: 38

أما إذا كان بينه وبين مكة دون مسافة القصر: فإن قدر على المشي، سقط في حقه اعتبار وجود الراحلة خاصة؛ لإمكان السير منه من غير مشقة شديدة تلحقه غالبًا، وصار هذا كمن سمع نداء الجمعة، يلزمه المشي إليها، وعلى هذه الحالة حمل أصحابنا قوله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27] ، وخصوا الحديث بمسافة القصر؛ لأنه السفر الذي اعتبر الشارع مشقته، وأناط به الترخص بقصر الصلاة وإباحة الفطر.

وإن كان لا يقدر على المشي؛ لضعفه أو يناله منه ضرر ظاهر -فيعتبر في الوجوب في حقه الراحلة كما ذكرنا مع البعد.

قال الرافعي: وقد رأيت لبعض المتأخرين من أئمة طبرستان تخريج وجه في أن القريب كالبعيد مطلقًا.

ولا يؤمر بالزحف والحبو بحال، وإن أمكن؛ لأن المشقة فيهما في المسافة القريبة أعظم من المشقة بالمشي في المسافة البعيدة.

وفي "الروضة": أن الداركي حكى وجهًا [ضعيفًا] عن حكاية ابن القطان: أنه يلزمه الحبو.

قال: وإن يكون ذلك -أي: ثمن الزاد والماء والراحلة، بالصفة التي ذكرناها أو أجرتها- فاضلًا عما يحتاج إليه من مسكن، أي: في الحال وعند عوده، وخادم إن احتاج إليه، أي: لزمانة أو لمنصبه؛ لتنزل ذلك منزلة ثياب بدنه، ولأنهما يبقيان له في الكفارة؛ فكذلك هاهنا [أولى].

ولا فرق في ذلك بين أن يكون في ملكه أو لا ومعه ما يصرفه فيه.

وقيل: يباع المسكن والخادم في كلف الحج والعمرة، كما يباعان في الدين، ومن طريق الأولى عدم شرائهما.

قال الشيخ أبو حامد: ولأنه لو اعتبر ذلك في حاجته لاعتبرنا كفايته على الدوام؛ وهذا ما صححه في "التتمة"، وبه أجاب أبو القاسم الكرضي، وحكاه عن نصه في "الأم"، وادعى القاضي الحسين وكذا الشيخ أبو حامد -كما قال في "البحر"- أنه

ص: 39

المذهب، وفرقوا بينه وبين الكفارة بأن العتق في الكفرة له بدل معدول إليه بخلاف الحج، لكن الذي أورده الأكثرون: الأول؛ لما ذكرناه.

وقال الإمام: إنه غير مذكور في طريق المراوزة ، لكنه الذي يقتضيه قياسهم.

وأما اعتبار كفايته على الدوام، فقد حكى ابن الصباغ في اشتراطها وجهين، وأن أقيسهما الاشتراط، وهما كوجهين حكاهما أبو الطيب في أنه لو كانت [له] بضاعة يكتفي بمؤنتها، فهل يجب صرفها في الحج والعمرة، أو لا يجب كما لا تباع الضيعة المتحصل له من ريعها قدر كفايته؟ ورجح القاضي منهما الثاني، وكذلك غيره؛ كام قال في "البحر"، واختاره في "المرشد"، بل كلام ابن الصباغ يفهم أنهما هما؛ لأنه قال: ومن قال بعدم اشتراط الكفاية على الدوام، فرق بين المسكن والبضاعة:[بأن المسكن يجب للغير [على الغير] ، ولا يجب أن يدفع إلى غيره بضاعة] ليتجر فيها، وإن كان كذلك بطل قياس عدم اعتبار المسكن والخادم على عم اعتبار الكفاية على الدوام.

لكن الذي حكاه الماوردي عن مذهب الشافعي وسائر أصحابه، وصححه الرافعي وغيره: أنه لا تبقى البضاعة له للاتجار وإن بقى له المسكن والخادم؛ لأن الحاجة إلى ذلك ليست ناجزة، والمسكن والخادم الحاجة إليهما ناجزة.

وقد حكى ابن الصباغ هذا الوجه في الضيعة أيضًا.

ثم على ما ذكره الشيخ: لو كان له مسكن كبير إذا باع بعضه أمكنه السكون في الباقي، أو عبد نفيس إذا باعه أمكنه شراء عبد دونه، وفضل من ثمنه ما يحج به أو يعتمر -لزمه الحج والعمرة؛ قاله أبو الطيب وغيره.

ص: 40

وكذا إذا كان المسكن ضيقًا، لكنه نفيس، ولو بيع لأمكنه شراء مسكن يليق به، ويفضل من ثمنه ما يحج به ويعتمر -يلزمه الحج والعمرة.

قال الرافعي: وقد حكى الأصحاب في بيع العبد والدار النفيسين المألوفين في الكفارة وجهين، ولابد من عودهما.

قلت: وفي عودهما مع ما ذكر من الفرق السابق نظر.

وفي معنى المسكن والخادم كتب الفقه؛ فلا يجب بيعها في كلف الحج والعمرة على المشهور.

قال القاضي أبو الطيب: وإن كثرت؛ لأن ما منها شيء إلا وهو محتاج إليه. نعم، لو كان له من كتاب نسختان لزمه بيع إحداهما، والمجزوم به في تعليق القاضي الحسين بيع كتب الفقه.

ولا يلتحق بالمسكن والخادم الحاجة إلى التزويج؛ فيقدم الحج عليه، اللهم إلا أن يخاف العنت؛ فيكون صرف المال إلى النكاح أهم من صرفه إلى الحج؛ هذه عبارة الجمهور؛ كما قال الرافعي، وعللوه بأن حاجة النكاح ناجزة، والحج على التراخي.

قال: والأسبق غلى الفهم من التقديم الذي أطلقوه: أنه لا يجب الحج والحالة هذه، ويصرف ما يملكه إلى مؤنات النكاح، وقد صرح الإمام بهذا المفهوم.

قلت: الذي حكاه الإمام عن العراقيين: العبارة المذكورة.

ص: 41

ووجه تقديم التزويج: أن الشرع لما جوّز له نكاح الأمة مع ما فيه من استرقاق الولد، [أشعر] بأن مجاوزة العنت مهم.

ثم قال: فإذا لا استطاعة ولا وجوب، وهذا الذي ذكروه قاطعين به قياس طريقنا وإن [لم] نجده منصوصًا فيها.

ثم قال [الرافعي]: لكن كثيرًا من العراقيين وغيرهم قالوا: يجب الحج على من أراد التزويج، لكن له أن يؤخره؛ لوجوبه على التراخي، ثم إن لم يخف العنت فتقديم الحج أفضل، وإن خافه فتقديم النكاح أولى.

قلت: وهذه عبارة صاحب "الشامل" و"التتمة" و"البحر".

وقال الشيخ أبو حامد وتبعه البندنيجي: إنه لا نص في ذلك. وهذا مذهب الأوزاعي، وهو الذي يقتضيه قياس مذهبنا.

والقاضي أبو الطيب قال: إذا خاف على نفسه العنت تزوج، وكان الحج واجبًا في ذمته.

قال: وقضاء دين إن كان عليه؛ لأنه إن كان حالًا، وجب قضاؤه على الفور مع كونه حق آدمي فكان مقدمًا على ما وجوبه على التراخي، وهو حق لله تعالى المبني على المساهلة والمسامحة. وإن كان مؤجلًا؛ فلأن بقاءه في ذمته عليه فيه ضرر عظيم؛ لأن نفسه مرتهنة [به].

وفي "الحاوي" حكاية وجه في المؤجل: إن كان يحل [وهو في عرفة، وجب الحج، وإن كان يحل] قبلها [فلا].

واعلم أن الأصحاب مصرحون بأنه يشترط أن يكون ما يصرفه في الحج والعمرة فاضلًا عما يحتاج إليه من نفقة من تلزمه نفقته وكسوته في مدة ذهابه ورجوعه؛ لتأكد ذلك؛ فإنه يجب في الحال مضيقًا وفي الكسب مع كونه حق آدمي، بخلاف الحج، ولم يصرح به الشيخ. نعم، في كلامه ما يمكن أخذه منه؛ لأنه صرح باشتراط فضلة ذلك

ص: 42

عن قضاء الدين، وستعرف أن نفقة من تلزمه نفقته وكسوته مقدمة على الدين، فهي أهم منه، والمقدم مقدم.

قال: وأن يجد طريقًا آمنًا؛ لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، ولأنه لو حصره عدو بعد إحرامه، لم يلزمه البقاء عليه، فلأن يمنع ذلك ابتداءه من طريق الأولى.

والأمن المعتبر في الطريق: أن يكون خاليًا عما يوجب خوفًا في البضع والنفس والمال، ولا يشترط في المعرفة بذلك القطع كما قال الإمام، ولا أن يكون كالأمن الذي يعلم في الحضر، بل الأمن في كل مكان على حسب ما يليق به فإن عدم ذلك بأن يكون فيه من يخاف منه [على النفس [أو البضع] ، لم يجب؛ وكذا إن كان فيه من يخاف منه] على المال؛ بأن يكون فيه من يطلب من الحجيج مالًا وإن قل، لم يجب سواء كان الطالب له من المسلمين أو الكفار؛ لقوله –عليه السلام:"حرمة مال المسلم كحرمة دمه".

قال الشافعي: ولا يستحب بذل المال لهم، بل يكره؛ لأنهم يحرصون بذلك على التعرض للناس.

[وقال في "الحاوي": إن كانوا كفارًا، لم يستحب؛ وإن كانوا مسلمين، استحب. وعلى كل حال] فلو فعل الإمام أو أحد الرعية ذلك، وأمن الحجيج من غدرهم، وجب، وكذا لو بعثوا بأمان الحجيج، وكان أمانهم موثوقًا به، وإن لم يأمنوهم لم يجب، وهل يستحب الخروج إليهم وقتالهم؛ لأجل أداء النسك إذا

ص: 43

كانوا يطيقونه؟ ينظر: فإن كانوا كفارًا، استحب؛ لينالوا ثواب الحج والجهاد جميعًا. وإن كانوا مسلمين، لم يستحب.

ولو كان في الطريق من يخاف منه –على ما ذكرناه- الواحد والنفر القليل، دون الجمع الكثير الذي جرت العادة بخروج مثله من كل بلد –لم يمنع ذلك الوجوب.

وقال في "الحاوي": إن كانوا كفارًا، لم يستحب، وإن كانوا مسلمين استحب على كل حال.

وإذا خلا طريق [دون طريق] عن الخوف المذكور، وجب الحج سواء كان المشتمل على الخوف في المسافة كالطريق الآمن، أو أقرب منه؛ كما قاله الجمهور.

وفي "التتمة" وجه: أنه لا يلزمه إذا كان الآمن هو الأبعد؛ كما لو احتاج إلى بذل مؤنة زائدة في ذلك الطريق.

ثم بما ذكرناه من تفسير الأمن يخرج وجوب الحج على من ليس له طريق إلا في البحر وكان مخوفًا أما في نفسه أو لطرآن الأمواج فيه، ويغلب فيه الهلاك، ووجوبه عليه إذا كان الغالب فيه السلامة، لكن الذي نص عليه الشافعي –رضي الله عنه في "الأم": أنه لم يجب الحج إذا لم يكن له طريق إلا البحر.

ونص في موضع آخر –كما قاله أبو الطيب [وغيره-: أنه يجب.

وقال في "المختصر"]: ولا يبين لي أن أوجب عليه ركوب البحر.

[وقال في "الإملاء": ولا يبين لي أن أوجب] عليه ركوب البحر إلا أن يكون [أكثر] عيشه في البحر.

واختلف الأصحاب –لأجل ذلك-[في المسألة] على طرق، ملخصها: [أن في المسألة أربعة أقوال:

أحدها: وجوبه مطلقًا، فمنهم من قطع به؛ [للظواهر المطلقة في الحج.

ص: 44

والثاني: لا] يجب مطلقًا، ومنهم من قطع به]؛ كما أشار إليه الحناطي وغيره؛ لما فيه من الخوف والخطر.

وإن فرض أن الغالب منه السلامة، فالعوارض التي تطرأ فيه عسرة الدفع، بخلاف البر.

والقائلون بهذا حملوا نص الوجوب على ما إذا ركبه لبعض الأغراض؛ فصار أقرب إلى الشط الذي يلي مكة، شرفها الله تعالى.

وهذان القولان حكاهما الرافعي عن الشيخ أبي محمد وغيره.

والثالث –وبه قال أبو إسحاق، والإصطخري-: إن كان الغالب منه السلامة لزمه، وإن كان الغالب الهلاك؛ أما باعتبار خصوص ذلك البحر، أو لهيجان الأمواج في بعض الأحوال- لم يلزمه. وحملا النصين على هذين الحالين، وهذا هو الصحيح والمنطبق على ما ذكرناه من تفسير الأمن؛ وعلى هذا لو اعتدل الحتمال، فبأي الحالين يلحق؟ تردد [فيه] كلام الأئمة، وهو في تعليق القاضي الحسين محكي قولين.

والرابع: إن كان الرجل ممن اعتاد على ركوب البحر كالملاحين وأهل الجزائر، لزمه، وإلا فلا؛ لصعوبته عليه.

وقد أورد الغزالي وغيره الخلاف في [هذه] المسألة على غير هذا النحو، معبرين عنه بأن في المسألة أربعة طرق فيما إذا كان الغالب منه السلامة:

أحدهما: إجراء قولين في الوجوب؛ لما فيه من الخطر الظاهر مع غلبة السلامة.

والثاني: لا يجب على المستشعر؛ لأن الجبان قد ينخلع قلبه، ويجب على غير المستشعر، وينزل النصان على هذين الحالين.

والثالث: لا يجب على المستشعر وفي غيره قولان. والرابع: يجب على غير المستشعر، وفي وجوبه على المستشعر قولان.

ولو كان الغالب الهلاك، حرم الركوب بخلاف ركوبه للجهاد على أحد

ص: 45

الوجهين في "النهاية"؛ لأن مقصوده على الغدر.

ولو اعتدل الاحتمال، ففيه تردد للإمام.

وحيث قلنا: لا يجب ركوبه مع غلبة السلامة، فعليه فرعان:

أحدهما: هل يستحب؟ فيه وجهان. أظهرهما في "الرافعي": نعم؛ كما يستحب ركوبه للغزو، وهذا ما حكاه في "البحر" عن الشيخ أبي حامد، ولم يحك غيره.

الثاني: إذا ركبه وتوسطه: هل له الانصراف [أو عليه] التمادي؟ فيه وجهان –وقيل: يبنيان على أن العدو إذا حصر المحرم من سائر الجوانب: هل [له] التحلل أم لا؟ فإن قلنا: نعم، جاز له الانصراف، وإلا فلا، وهو الأصح في "البحر"، وقال في "التتمة": إنه المذهب. ومحل الخلاف [ما] إذا استوى ما بين يديه وما خلفه في ظنه، فإن كان ما بين يديه أكثر، لم يلزمه التمادي بلا خلاف [على القول الذي عليه نفرّع، وإن كان أقل لزمه.

قال الرافعي وغيره: وموضعه –أيضًا- ما إذا كان له في المنصرف طريق غير البحر، فإن لم يكن [له] فله الانصراف بلا خلاف] لئلا يحتاج إلى تحمل زيادة الأخطار.

قلت: وهذا منه يظهر [أنه] فيمن له أهل أو من لا أهل له على ظاهر المذهب في اعتبار نفقة الرجوع والراحلة فيه، أما إذا لم يعتبر ذلك فيمن لا أهل له أو فيمن له أهل –فيظهر: ألا يكون ذلك شرطًا فيهما.

قال: من غير خفارة، أي: من غير أجرة يدفعها لمن يحرسه في الطريق ممن هو [فيها] مترصدًا للحجيج؛ لأن ذلك كالزائد على ثمن المثل.

وأيضًا: لإإنه لا يجب الحج والعمرة إذا لم يتهيأ ذلك بدفع شيء للمترصدين

ص: 46

كما تقدم؛ فلذلك لا يجب إذا احتيج إلى أجرة لمن يصونه عنهم؛ وهذا ما أورده العراقيون والقاضي الحسين، وهو المنصوص.

وقد حكى الغزالي في أن أجرة البذرقة –وهي الخفارة-: هل تمنع الوجوب؟ وجهين:

أحدهما: نعم؛ لما ذكرناه.

والثاني: لا؛ لأن الأجرة بذل مال بحق؛ فإن ذلك أهبة من أهب الطريق؛ كالراحلة وغيرهما؛ وهذا أظهر عند الإمام.

[والخفار] –بضم الخاء، وكسرها، وفتحها؛ ثلاث لغات حكاها صاحب "المحكم"-: الاسم من قولهم: أخفرت الرجل إذا أخذته، وهي هنا بالضم لا غير.

قال: وأن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير، أي: المعهود في مثله لو أراده تجب بأول الوقت عند وجوب شرائط التكليف [وجوبًا موسعًا، والصوم يجب بطلوع الفجر من رمضان مع وجود شرائط التكليف] به؛ لأن الزمان الذي بين يديه متسع لذلك ظاهرًا؛ فكذلك هاهنا إذا بقي من الزمان بعد استجماع الشرائط السابقة ما يمكنه أن [يسير فيه] إلى مكة أما منفردصا إن احتمل الطريق ذلك كما قاله المتولي، أو مع الجمع إن لم يتمكن من السير إلا معهم، وخرجوا في الوقت المعتاد [بحيث يكونون في يوم عرفة بعرفة إذا ساروا السير المعتاد] يجب عليه الحج، وغلى الحالة الأخيرة أشار الشافعي بقوله في "المختصر":"وإذا استطاع الرجل وأمكنه مع سير الناس من بلده، فقد لزمه".

وقد أطلق القاضي الحسين القول باشتراط وجود رفقة يتوجهون إلى مكة؛ ليخرج معهم في الوجوب، وأنه إذا لم يجد لم يجب؛ لأجل ما ذكرناه من النص؛ ولأجله قال البغوي وغيره –كما حكاه الرافعي-: إنه يشترط أن يجد رفقة يخرج معهم في

ص: 47

الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه، فإن خرجوا قبله، لم يلزمه الخروج معهم، وإن أخروا الخروج بحيث لا يبلغون إلا بأن يقطعوا أكثر من مرحلة في مرحلة، لم يلزمه أيضًا.

لكن ما ذكرناه هو ما حمل عليه الرافعي هذا الإطلاق؛ لأجل ما نقلناه عن المتولي فيما إذا أمكن السير في حال الانفراد؛ على أنه لو قيل: يحمل هذا الإطلاق على ظاهره، لم يبعد؛ لأن المنفرد في الأسفار مع أمن الطريق تلحقه الوحشة الشديدة، وهو معرض للضياع؛ ولذلك كان "المسافر وماله على قلت إلا ما وقي الله"، فجاز أن يسقط مثل ذلك الوجوب كما أسقطه عدم إمكان الوصول إلا بزيادة سير على القدر المعتاد، والله أعلم.

قال: وإن كانت امرأة، فأن يكون معها من تأمن معه على نفسها، أي: من محرم، أو زوج، أو نسوة ثقات، كان مع واحدة منهن محرم أو لا؛ كما صرح به العراقيون؛ لأن السفر بدون ذلك حرام؛ قال –عليه السلام:"لا يحل لامرأة مسلمة تسافر ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها" أخرجه البخاري ومسلم.

وروى مسلم أنه –عليه السلام قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم"؛ وهذا نص في تحريم المسافرة بدون محرم، وألحقنا الزوج والنسوة الثقات به؛ لأن المفسدة المتوقعة بفقده المندفعة بوجوده، تندفع بالزوج والنسوة الثقات.

وقد جاء في "البخاري" و"مسلم" عن أبي سعيد الخدري من طريقين أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا فوق ثلاثة أيام فصاعدًا إلا ومعها أبوها، أو أخوها، أو زوجها، أو ذو رحم [محرم] منها".

ص: 48

وفي طريقة المراوزة وجه نسب إلى اختيار القفال: أنه لا تكفي النسوة ما لم يكن مع واحدة منهن محرم أو زوج؛ لأنهن قد ينوبهن أمر فيحتجن فيه إلى الاستعانة بذات المحرم والزوج في مخاطبته ويستغنين عن مخاطبة الرجال.

وقال الغزالي تبعًا لإمامه: إنه حسن، ويؤيده تحريم الخلوة ما لم يكن فيهن ذات محرم، وقد نص الشافعي –رضي الله عنه على أنه لا يجوز للرجل أن يؤم بنسوة منفردات ما لم تكن إحداهن محرمًا له.

لكن الراجح الأول باتفاق الكل، وقد ادعى القاضي الحسين في كتاب العدد: أنه ظاهر المذهب، ونقلوا عن الشافعي في "الإملاء": أن الثقة إذا حصلت بالمرأة الواحدة كفى، وهو الذي أورده البندنيجي في كتاب العدد.

وروى الكرابيسي عن الشافعي –رضي الله عنه أنه قال: "إذا كان الطريق آمنًا، جاز السفر من غير نسوة"، واختاره أبو الطيب، وصاحب "المرشد"؛ تبعًا للمصنف، وصاحب "البحر" والبغوي؛ واستدل له بقوله –عليه السلام لعدي بن حاتم:"يا عدي، إن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف"، قال عدي: وقد رأيت ذلك.

ص: 49

ولأن المرأة لو أسلمت في دار الكفر، لزمها الخروج إلى دار الإسلام وإن كانت وحدها؛ لوجوبه؛ فهكذا هنا، والحيث السابق يحمل على ما إذا كانت لا تأمن على نفسها؛ إذ هو الغالب، أو على سفر الطاعة: كزيارة الوالدين، وحج التطوع، والمباح كالتجارة؛ فإن المذهب –كما قال البندنيجي في العدد؛ تبعًا لأبي حامد-: أن من شرطه المحرم، وإن كان بعض الأصحاب ألحقه بالسفر الواجب، وهو الذي اختار القفال، وقال في "البحر": إنه أصح وأقيس عندي، لكنه مكروه.

ثم محل الوجوب عليها اتفاقًا: إذا لم يطلب المحرم أجرة، فلو طلبها وقد احتاجت إليه، ففي الوجوب وجهان بناهما الإمام على لزوم أجرة البذرقة، وهنا أولى بالوجوب؛ لأن الداعي إلى التزام هذه المؤنة معنى فيها؛ فأشبه زيادة مؤنة المحمل في حق من يحتاج إليه.

واعلم أن [ظاهر] كلام الشيخ هنا يقتضي أمرين:

أحدهما: أن وجود من تأمن معه على نفسها شرط الوجوب، وقد حكى الموفق ابن طاهر عن الأصحاب ترددًا في أن النسوة الثقات شرط في الوجوب أو التمكن، وذلك يطرد في المحرم والزوج.

الثاني: مساواة المرأة للرجل فيما ذكره إلا في اعتبار المحرم ونحوه، وهو الذي ذكره الغزالي؛ حيث قال: واستطاعة المرأة كاشتطاعة الرجل، [و] لكن إذا وجدت محرمًا. واعترض عليه الرافعي، فقال: وليس الأمر على هذا الإطلاق؛ لأن المحاملي وغيره من العراقيين أطلقوا القول باعتبار المحمل في حق المرأة؛ لأنه أستر لها، وأليق بحالها.

قلت: وممن قال بذلك القاضي الحسين، ولا يردّ هذا الاعتراض على الشيخ؛ لأن قوله:"وأن يكون واجدًا لراحلة تصلح لمثله" يخرجه؛ فإن المحمل يصلح لمثلها. نعم، قال الأصحاب: إنا إذا أوجبنا ركوب البحر على الرجل، ففي وجوبه على المرأة وجهان، حكاهما القفال –كما قال في "البحر"- قولين منصوصين:

ص: 50

أحدهما: نعم؛ كالرجل.

قال في "البحر": وهو غريب، لم يذكره العراقيون.

والثاني: لا؛ لأنه أشد تأثيرًا بالأهوال، ولأنها عورة وربما تتكشف لبعض الرجال؛ لضيق المكان؛ وعلى هذا نقول بعدم الاستحباب أيضًا، وإن استحببناه للرجل، وهو الذي قطع به القاضي الحسين وإن حكى الخلاف في الوجوب عليها.

ومنهم من طر الخلاف في الرجل فيها أيضًا.

تنبيه: ظاهر كلام الشيخ في بيان المستطيع بنفسه يقتضي غيجاب الحج والعمرة على السفيه والأعمى عند استجاع ما ذكر، وهو صحيح في السفيه، ولكن لا يسلم إليه المال، بل ينفقه عليه الولي أو من يستنيبه.

وأما الأعمى، فاشترط الأصحاب في الوجوب عليه: وجود قائد يقوده، ويرتفق به عند الركوب والنزول.

لكن هل يعتبر مع ذلك أن يكون القائد متبرعًا أم لا؟ قال الرافعي –تبعًا للغزالي-: الحكم فيه كما في المحرم في حق المرأة.

قال: والمستطيع بغيره أن يجد من لا يقدر على الثبوت على الراحلة –أي: كيف قدرت- إلا بمشقة شديدة؛ لزمانة، أو كبر مالا يدفعه –أي: أجرة أو جعلا أو رزقا- كما قال الرافعي حكاية "العدة" –إلى من يحج عنه، أي: ووجده، كما قال ابن الصباغ، أو له من يطيعه، أي: عند فقده، والمطيع ممن يوثق بقوله، كما قاله أبو الطيب وغيره، فيلزمه فرض الحج، أي: والعمرة.

ووجهه في الحالة الأولى: أن الله –تعالى- علق وجوب الحج بالاستطاعة، [والمستطيع] باستئجار غيره مستطيع؛ لأن العرب تقول: فلان مستطيع لأن يبني داره، ويخيط ثوبه؛ إذا قدر على ذلك بالاستجئار وإن كان لا يتولاه بنفسه؛ فوجب عليه.

ص: 51

ولأنه –عليه السلام حين سئل عما يوجب الحج قال: "الزاد والراحلة"؛ وهذا يجدهما؛ فاقتضى [ذلك] وجوبه عليه.

وقد سئل عليّ –كرم الله وجهه- عن شيخ يجد الاستطاعة، فقال:"يجهز من يحج عنه".

ولأن ذلك عبادة تجب الكفارة بإفسادها؛ فوجب على الكبير والزمن، كالصوم.

ولأن كل حالة يخاطب فيها بأداء الحج المستقر، جاز أن يخاطب فيها بإيجاب الحج؛ كحالة الصحة.

ووجهه في الحالة الثانية: ما روى مالك في "موطئه" عن ابن عباس: أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أمي عجوز كبيرة لا تستطيع، إن تركتها على البعير لا تستمسك، وإن ربطتها خفت أن تموت، أفأحج عنها؟ قال:"نعم".

وروى البخاري ومسلم أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفحج عنه؟ قال:"نعم"، قالت: أو ينفعه ذلك؟ قال: "أرأيت لو كان عليه دين فقضيته هل ينفعه ذلك؟ قالت: نعم، قال: "فدين الله أحق" وعلى هذا؛ فالدلالة منه –كما قال

ص: 52

أبو الطيب –من وجهين:

أحدهما: قولها: "إن فريضة الله على عباده الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا

" إلخ، ولو كان فرض الحج لا يلزم من كان على هذه الصفة، لأنكر قولها، ولقال لها: ليس فرض الحج متوجهًا عليه.

والثاني: قوله: "فدين الله أحق"، وهذا يدل على أن الحج صار دينًا عليه.

ولأنا إنما ألزمناه ذلك في الحالة الأولى –كما دللنا عليه- لأنه يتوصل به غلى من يطيعه في أن يحج عنه، فإذا كان ذلك حاصلًا له؛ فأولى أن يلزمه فرض الحج، ويشهد له أن الشخص لو كان مقطوع اليدين، سقط عنه فرض الوضوء والتيمم؛ إذا لم يكن له ما يستأجر به من يفعل له ذلك، [و] إذا بذل له شخص الطاعة في أن يوضئه وييممه، لزمه ذلك؛ كما قال أبو الطيب؛ فكذلك هاهنا.

وفي "الروضة" للنوأوي حكاية وجه ضعيف: أنه لا يجب عليه الحج ببذل الطاعة.

والمشهور: الأول.

ونضو الخلق والمريض مرضًا لا يرجى برؤه إذا لم يتمكنا من الركوب على الراحلة كالزمن فيما ذكرناه؛ نص عليه الشافعي، ولا يلتحق به من يرجى برؤه وإن كان لا يستطيع معه الثبوت على الراحلة؛ لأنه لا يجوز أن يستنيب عنه في الحج؛ لاحتمال قدرته عليه بنفسه؛ فهو غير قادر عليه بنفسه وبغيره.

تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورًا:

أحدها: لزوم الحج إذا وجد مالًا يدفعه إلى من يحج عنه، سواء كان قدر أجرة مثله أو دونها؛ إذا وجد من يرضى بذلك، وقد صرح به الرافعي.

الثاني: أنه لا فرق في ذلك المال بين أن يكون فاضلًا عما يحتاج إليه –كما ذكرناه من قبل- أو لا، وقد اشترط الأصحاب فيه أن يكون فاضلًا عن ديونه وما يخلفه له لو حج بنفسه.

قال الرافعي –تبعًا للغزالي-: إلا نفقة عياله؛ فإنا شرطنا فيما إذا كان ممن يحج بنفسه: أن يكون المصروف في الزاد والراحلة فاضلًا عن نفقتهم وكسوتهم في

ص: 53

[الإياب والذهاب] ، وهاهنا يعتبر أن يكون فاضلًا عن نفقتهم وكسوتهم يوم الاستجئار، ولا يعتبر بعد فراغ الأجير من الحج إلى إيابه، وهل تعتبر مدة الذهاب؟ فيه وجهان، أصحهما في "التهذيب": لا، والفرق: أنه إذا لم يسافر يمكنه تحصيل نفقتهم.

قلت: وهذا ما أورده البندنيجي، وقاسه الإمام على زكاة الفطر؛ فإنه لا يعتبر فيها إلا نفقة اليوم، وكذلك في الكفارة المرتبة إذا لم يشترط تخليف رأس المال. انتهى.

قلت: وهذا الكلام من أوله إلى هنا إذا تأملته ظهر لك منه: أنه يشترط أن تكون الأجرة فاضلة عن نفقته في مدة ذهاب الأجير ورجوعه، وقد صرح البندنيجي بأن نفقته كنفقة عياله.

الثالث: أنه لا فرق في الوجوب عند وجود المطيع بين أن يكون المطيع ممن اجتمعت فيه شرائط وجوب الحج أو لا، وقد جزم القاضي أبو الطيب والبندنيجي بأن محل ذلك إذا كان مستجمعًا لشرائط الوجوب الخمسة؛ لأن المبذول له لو قدر على الفعل بنفسه، لكانت هذه الشرائط معتبرة في حقه؛ فأولى أن تعتبر في حق النائب عنه،

وحكى المارودي وجهًا آخر: أنه لا يشترط في الوجوب قدرة المطيع على الزاد والراحلة، بل إذا أطاع، وتكلف المشي والسؤال في الطريق، أو الاكتساب –لزم المبذول له الحج.

والوجهان في الوجوب وعدمه عند عدم المطيع الراحلة جاريان فيما إذا لم يقدر من له مال فاضل عما ذكرناه إلا على أجرة ماشٍ، لكن الصحيح هنا الوجوب.

ووجه مقابله: أن الماشي على خطر، وفي بذل المال في أجرته تغرير به.

الرابع: أنه لا فرق بين أن يكون باذل الطاعة ولدًا وإن سفل، أو والدًا وإن علا، أو أجنبيًا؛ وهو الذي نص عليه في "الإملاء" و"المبسوط" –كما قال الماوردي- وهو الصحيح.

ص: 54

وحكى البندنيجي والقاضي الحسين وغيرهما: أن من الأصحاب من خص الوجوب بما إذا كان المطيع ولدًا وإن سفل؛ لأنه يختص بما لا يختص به غيره من كونه لا يقاد به الأب، ويجب عليه إعتاقه، ويجوز له الرجوع فيما وهبه له.

ولا نوجب الحج عند بذل الأجنبي والوالد: أما الأجنبي؛ فللمنة، وأما في الوالد؛ فلأن خدمته تشق على ولده.

وحكى القاضي الحسين وجهًا آخر: أن الوالد ملحق بالولد، دون الأجنبي، وهذا ما اختاره الشيخ أبو محمد، وقد حكاه الماوردي بدلًا عن الوجه الذي قبله، وألحق الأحسن بالأب، كما أن البنت ملحقة بالابن.

الخامس: أنه لا فرق في الوجوب عليه عن من يطيعه بين أن يصرح له بالطاعة أو لا عند معرفته بذلك، وهو المذكور في "تعليق" البندنيجي وأبي الطيب والشامل، ويحكى عن النص.

وقيل: لا يجب إلا عند التصريح بالطاعة.

وقال القاضي الحسين: إنه الصحيح؛ لأن الظن يخطئ ويصيب.

ولو لم يعلم المعذور بطاعته، قال أبو حامد في "التعليق": هو بمنزلة من له مال لا يعلمه؛ بأن يموت مورثه، والحكم فيه –كما قال البندنيجي-: أنه يلزمه.

وقال ابن الصباغ والطبري: عندي أن هذا يجري مجرى من نسي الماء في رحله، وتيمم، وصلى، هل يسقط عنه الفرض؟ فيه قولان.

وفي "المعتمد": تشبيه ذلك بالمال الضال والمغصوب في الزكاة.

قال الرافعي: ولك أن تفرق بين الحج وغيره، فتقول: وجب ألا يلزمه الحج بحال؛ لأنه معلق بالاستطاعة، ولا استطاعة عند عدم الشعور بالمال والطاعة.

السادس: أنه لا فرق فيما ذكره من النيابة بين أن يكون بينه وبين مكة مسافة القصر أم لا.

وفي "التتمة": أن محل النيابة إذا كان بينه وبين مكة مسافة القصر، أما لو كانت دونها، فلا تجوز النيابة.

ص: 55

السابع: أنه لو بذل له المال ليستأجر به من يحج عنه، لم يلزمه فرض الحج؛ وهذا ما دل عليه مفهوم كلامه، وهو المشهور فيما إذا كان الباذل [له] أجنبيًا، وادعى القاضي الحسين: أنه لا يختلف المذهب فيه، لكن لماذا؟ فيه معنيان:

أحدهما: لأنه يحوج إلى تملكه، ولا يلزم الإنسان تملك مال الغير.

والثاني: لما يلحقه من المنة فيه.

وعليهما يخرج ما لو كان الباذل له الولد وإن سفل، فإن قلنا بالأول لم يجب هنا أيضًا، وهو الأصح في "الحاوي" وغيره. وإن قلنا بالثاني، وجب لأنه لا تلحقه منة يعظم احتمالها من جهة الولد.

وقد أجريا –كما قال ابن الصباغ وغيره- فيما لو بذل الولد لأبيه الصحيح الفقير مالًا ليحج به هل يجب عليه الحج أم لا؟ وقد حكاهما الرافعي في بذل الأجنبي المال –أيضًا- عن رواية الحناطي.

و [عن] صاحب "الفروع" جعلهما مرتبين على الوجهين في بذل الولد في حال المرض وحال الصحة، وهاهنا أولى بالمنع، والأب في بذل المال ملحق بالولد؛ قاله الغزالي.

وحكى الإمام عن شيخه ترددًا في إلحاقه بالأجنبي أو بالابن، ثم قال الإمام: ولعل الأظهر الثاني.

ولو انتفى المعنيان؛ كما إذا كان الولد الباذل للطاعة عاجزًا أيضًا عن الحج، وقدر على أن يستأجر له من يحج عنه، وبذل له ذلك –وجب الحج على المبذول له وجهًا واحدًا؛ قاله البندنيجي، وحكاه في "الزوائد" عن الشيخ أبي حامد والمحاملي وابن الصباغ.

فرع: من يجب الحج ببذله الطاعة، هل له أن يرجع بعد البذل فيها؟

قال الجمهور: إنه ينظر: فإن كان بعد الإحرام لم يجز، وإن كان قبله فوجهان:

المذهب منهما –في "الشامل"، ولم يحك البندنيجي سواه- الجواز.

وقال في "الحاوي": إن محلهما إذا كان لم يحرم، وقد أذن له المبذول له الطاعة

ص: 56

في الحج عنه. زنسب الجواز إلى بعض البصريين؛ وعلى هذا نتبين عدم الوجوب على المبذول [له] الطاعة. وقال: إن الصحيح عدم الجواز؛ لأن بذله الطاعة قد ألزم غيره فرضًا لم يكن، [و] في رجوعه إسقاط الفرض قبل إقامته، ولا يجوز إسقاط الفرض بعد وجوبه إلا بأدائه.

ثم قال: فإن قيل: لو بذل الماء لغيره في السفر عند عدمه، لم يلزمه إقباضه، وجاز له الرجوع فيه، وإن كان قد ألزم غيره فرضًا ببذله.

قيل: الفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أن بذل الماء ليس بموجب لفرض الطهارة، وإنما غير صفة الأداء، وبذل الحج أوجب فرضه.

والثاني: أن المبذول له الماء يرجع غلى بدل يقوم مقام استعمال الماء وهو التيمم، وليس للحج بدل يرجع إليه المبذول له، والله أعلم.

[قال في البحر: وعلى هذا لو كان الباذل الأب للابن، وأوجبنا به الحج على الابن: فهل يجوز رجوعه؟ فيه وجهان].

قال: والمستحب لمن وجب عليه الحج أو العمرة ألا يؤخر ذلك، أي: عن أول سني الإمكان، فإن أخره وفعل قبل أن يموت، لم يأثم.

هذا الكلام ينظم حكمين:

أحدهما: أن فرض الحج أو العمرة إذا وجب لا يجب فعله على الفور.

ووجهه: أن فريضة الحج نزلت سنة ست من الهجرة –كما تقدم ذكره وأنه الصحيح- أو سنة خمس، وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة –شرفها الله تعالى-[فى] سنة ثمان، وأمر فيها عتاب بن أسيد، فحج فيها بالناس، ثم بعث أبا بكر سنة تسع، فحج بالناس، وتأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مشغول بحرب ولا خائف من عدو ومعه مياسير الصحابة: كعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ثم أنفذ علي بن

ص: 57

أبي طالب بعد نفوذ أبي بكر يأمره بقراءة سورة "براءة"، ثم حج في سنة عشر، وحج معه مياسير الصحابة، فلو كان واجبًا على الفور، لعيب على من تأخر مع القدرة، ولما أخره –عليه السلام وكيف وقد فعل عمرة القضاء في سنة سبع التي أحصر عنها في سنة ست.

وإذا ثبت أن الحج غير واجب على الفور، فالعمرة كذلك؛ لقوله –عليه السلام "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، ووجه الدليل منه يفهم مما تقدم ذكره.

الثاني: أن المستحب المبادرة بفعل ذلك.

ووجهه [مع] ما ذكرناه: قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].

ولأن فيه تعجيل براءة الذمة.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق فيما ذكره من الحكمين بين أن يكون قد وجب عليه ذلك لاستطاعته [بنفسه، أو لاستطاعته] بغيره، ويكون المستحب فيما إذا قدر على الفعل بنفسه تعجيل الفعل، وفيما إذا قدر عليه بواسطة غيره تعجيل الاستئجار، أو الإذن للمطيع في [فعل] ذلك عنه؛ [فإنه لا يصح فعله منه [عنهي] ما دام حيًا بدون إذنه، على الأصح في "التتمة"، وإن جوزه القاضي

ص: 58

أبو حامد؛ كما حكاه القاضي الحسين، وغلطه فيه.

ولا شك في ثبوت الحكمين فيما إذا كان مستطيعًا بنفسه، اللهم إلا أن يظهر له أمارات العجز عن ذلك؛ فإن في تضييق الفعل عليه وجهين، أظهرهما عند الرافعي، وهو الذي ذكره في "الوسيط":[نعم].

وإذا لم يفعل مع الاستطاعة حتى عجز عن الفعل؛ لزمانة ونحوها –قال في "الوسيط": عصى، [أي: إذا فرعنا [على] أنه إذا مات عصى] ، وهل تتضيق عليه الاستبانة، كما قال الإمام؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، وهو ما رآه الأظهر؛ لخروج ذلك بتقصيره عن الرفاهية.

والثاني: لا، كما لو بلغ معضوبًا فإن عليه الاستنابة على التراخي.

وأما إذا [وجب عليه ذلك باستطاعته] بغيره، فقد أفهم كلام ابن الصباغ: أنه لا يجب عليه تعجيل الاستئجار، كما صرح به الإمام، وصرح بأنه لا يقوم الحاكم مقامه فيه، وأنه يجب عليه عند بذل الطاعة الإذن للمطيع في فعل ذلك عنه، [وبه صرح الماوردي أيضا، وأنه إذا لم يفعل هل ينوب الحاكم عنه فيه]؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ لأن الإذن واجب عليه، فإذا لم يفعله قام الحاكم مقامه فيه، كالزكاة، وهذا قول أبي إسحاق.

وأصحهما: لا، لأن هذا لا تعلق لغيره به، وإنما يقع عنه بإذنه، لقيام الإذن مقام قصده، فلا ينوب الحاكم منابه فيه؛ وبالقياس على ما لو كان معه ما يستأجر به، لا يقوم الحاكم مقامه فيه.

قال ابن الصباغ: فإن قيل: إنما لم ينب الحاكم منابه في الاستئجار، لأن له غرضًا في تأخيره لينتفع بالمال، والحج على التراخي، ولا غرض له في تأخير الإذن.

فالجواب: أنه قد يكون له غرض في تأخير الإذن، ليجد مالًا يستأجر به من يحج عنه؛ فيكثر ثوابه، أو يستنيب من هو أفضل وأتقى من الباذل، فلا فرق بينهما.

ص: 59

قلت: ولأجل عدم الفرق حكى الفوراني والمسعودي وجهين في أنه إذا قدر على الاستئجار، فلم يفعله، هل يستأجر الحاكم عنه أم لا؟ لكنهما صححا الجواز، ووجهاه بأن الحج إنما يكون على التراخي في الصحة، وهذا يخالف ما ذكره الشيخ؛ وعلى هذا فقد يقال في الفرق بين الحالين: إنه في حال الصحة متمكن من الخروج عن الفرض بنفسه فشابه فرض الصلاة، وفي حال العجز لا يتمكن منه إلا بموافقة غيره، فإذا وجدت، تعين على الفور كالزكاة، ولا يرد الصوم؛ لأنه تعين بحكم الوقت، لكن ترد النذور والكفارات في بعض الصور؛ لأنه لا يتمكن من الخروج عنها إلا بالغير ومع هذا هي على التراخي.

وقد يقال: إن المريض إلى الموت أقرب منه في الظن إلى الحياة، فلذلك يضيق عليه، بخلاف الصحيح، لكن يرد عليه لو كان كذلك: أن يفصل بين الشيخ والشاب في الفورية، ولم يفصل، والله أعلم.

ثم المراد بالفعل في قول الشيخ: "فإن أخر وفعل قبل أن يموت لم يأثم": أن يفعل الحج أو العمرة بنفسه إن استطاع ذلك، وإن لم يستطع بنفسه بل بغيره أن يستأجر من يفعله عنه إن قدر عليه، أو يأذن لمن أطاعه عند عجزه، وقد صرح به الماوردي حيث قال: فإن أذن المبذول له قبل وفأنه، انتقل الفرض عنه إلى الباذل.

وكلام الشيخ مفهم أنه إذا لم يفعل حتى مات [مع تمكنه منه]: أنه يأثم؛ ولذلك لم يذكره عند ذكر هذه المسألة، كما صرح به غيره؛ موجهًا ذلك بأن التأخير جوز بشرط سلامة العاقبة، ولم تسلم. ووراءه وجوه:

أحدها: أنه لا يأثم؛ كما لو أخر الصلاة عن أول الوقت مع التمكن، ومات في أثنائه، فإنه لا يأثم على الصحيح.

والقائل [بالأول] فرق بينه وبين الصلاة: بأن آخر وقت الصلاة معلوم، فلم ينسب إلى التفريط بالتأخير، بخلاف الحج.

والثاني –حكاه ابن الصباغ والغزالي بدلًا عن الذي قبله-: أنه لا يعصي إذا أخر

ص: 60

عازمًا على الامتثال، ومات فجأة.

والثالث –وحكاه القاضي الحسين وغيره من المراوزة -: إن كان شابًا لم يعص بالتأخير، وإن كان شيخًا هرمًا عصى به.

وإذا قلنا بالإثم، فمن أي وقت نؤثمه؟ فيه وجهان في الطريقين:

أحدهما –وينسب إلى أبي إسحاق-: في السنة التي فأنه الحج بالتأخير عنها، وهو الذي رجحه الرافعي.

والثاني –وبه قال غيره من الأصحاب-: من أول سِنِي الإمكان.

وفي "الرافعي" وجه ثالث: أنا نحكم بموته عاصيًا من غير أن نسنده إلى وقت معين.

وفي "البيان" مع الوجوه الثلاثة وجه رابع: أنه يأثم من حين تبين في نفسه الكبر والضعف.

ومن فوائد الحكم بموته عاصيًا –كما قاله الرافعي وغيره-: أنه لو كان قد شهد عند القاضي، ولم يقض بشهادته حتى مات –فلا يقضي؛ كما لو بان له فسقه، ولو قضى بشهادته بين الأولى من سني الإمكان وآخرها، فعلى الأول لا ينقض ذلك الحكم بحال، وعلى الثاني: في نقضه القولان فيما إذا بان له فسق الشهود بعد الحكم.

قال القاضي الحسين: إلا أن القولين في فسق خفي اقترن بأداء الشهادة، وفي مسألتنا هو فسق بالاستبانة؛ فحكمه أضعف.

وقد قال بعضهم: إن بناء نقض الحكم على تعصيته من أي وقت، بناء ضعيف؛ لأنه مختلف فيه.

فرع: إذا فعل العاجز ما وجب عليه من استئجار، أو إذن للباذل للطاعة، ففعل عنه، ثم قدر على تعاطي ذلك بنفسه –ففي وقوع ذلك موقعه طريقان حكاهما العراقيون:

أحدهما: حكاية قولين [فيه]؛ كما إذا كان مرضه مرجو الزوال، ففعل

ص: 61

مثل ذلك، ثم مات من ذلك المرض بعد أن فعل عنه في حياته؛ فإن في وقوعه عن الفرض قولين محكيين في "الأم" جاريين –كما أبدأه ابن الصباغ احتمالًا- فيما إذا حج عن المجنون، ثم مات قبل الإفاقة، وكان قد استقر عليه الوجوب، ينظر في أحدهما إلى الحال، وفي الآخر إلى المآل: فإن نظرنا إلى الحال قلنا بالإجزاء في مسألتنا، وبالمنع في المقيس عليها، وإن نظرنا إلى المآل؛ انعكس الحكم.

والقاضي الحسين قال: إن أصل القولين ما إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي، فبان ميتًا.

وقال الفوراني: أصلهما: القولان فيما إذا رأوا سوادًا، فظنوه عدوًا؛ فصلوا صلاة الخوف، ثم تبين خلافه، هل تجزئهم الصلاة أم لا؟ وقضية كل بناء تقتضي أن يكون الصحيح في إحدى الصورتين خلاف الصحيح في الأخرى، وقد صرج الماوردي وغيره بأن الصحيح فيهما: عدم الإجزاء.

والطريق الثاني: القطع بعدم الإجزاء في مسألتنا، كما نص عليه في "الأم"، والقائلون بها فرقوا بأن الخطأ مستيقن فيها؛ لجواز ألا يكون المرض بحيث لا يوجب اليأس، ثم يزداد فيوجبه؛ فيجعل الحكم للمآل.

وقد اتفق الكل على أنه لو فعل ذلك في الصحة، ثم مات: لا يجزئ.

ثم حيث قلنا بعدم الإجزاء، وكان في صورة الاستجئار، فهل يقع ما أتى به الأجير تطوعًا عن مستأجره أو لا؟ في طريقة المراوزة حكاية وجهين فيه:

أحدهما –ويحكى عن رواية القفال-: نعم، وهو الذي صححه الغزالي، وإن كان الإمام وغيره استبعدوه؛ إقامة للعجز المقارن للاستئجار في تقديم حج التطوع على فرضه مقام الصبا والرق، فعلى هذا: هل يستحق الأجرة المسماة أو أجرة المثل؟ قال الشيخ أبو محمد: لا يمنع تخريجه على الوجهين الآتيين؛ لأن الحاصل غير ما ابتغاه. والذي رجحه في "الروضة": إيجاب المسمى.

ص: 62

والثاني: لا؛ كما إذا استأجر من لم يحج أصلا ليحج عنه؛ وعلى هذا: فهل يستحق الأجرة؟ فيه قولان:

أصحهما: لا؛ لأن المستأجر لا ينتفع به.

والثاني: نعم؛ لأن له عملًا في اعتقاده؛ وعلى هذا: فهل يستحق أجرة المثل أو المسمى؟ فيه وجهان مأخذهما: أنا نتبين فساد الاستئجار أم لا؟

أما إذا لم يفعل عنه حتى قدر على ذلك بنفسه، ففعل، فلا يقع عنه قولاً واحدًا، قاله المارودي، ومثله في الصورة الأخرى: لو كان الأجير لم يفعل ما وقع عليه عقد الإجارة حتى مات المستأجر، ففعله عنه [بعد موته] أجزأه [عنه] قولاً واحدًا؛ لوقوعه في زمان يصح فيه النيابة عنه، قاله الماوردي أيضًا.

وقياسه: أن يقال بمثل ذلك لو فعله بعد أن صار إلى حالة أيس من البرء فيها.

قال: ومن وجب عليه ذلك، وتمكن من فعله، أي: أما بنفسه أو بغيره، فلم يفعله حتى مات –وجب قضاؤه من تركته؛ لما روى البخاري ومسلم: أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال:"نعم"، قالت: أينفعه ذلك؟ قال: "نعم؛ كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه [ذلك] ".

وروى الدارقطني بسنده عن ابن عباس أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ [قال:"نعم"، قال: أو ينفعه ذلك؟ قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين، فقضيته، هل ينفعه ذلك؟ "] قال: نعم، قال:"فدين الله أحق بالقضاء".

فشبه الحج بالدين الذي لا يسقط بالموت؛ فوجب أن يتساويا في الحكم، ولو

ص: 63

مات وعليه دين، قضى من تركته؛ فكذا هذا.

قال: الزكاة.

هذا من الشيخ يحتمل أن يكون أراد به القياس على الزاكة؛ بجامع كون كل واحد منهما حقًا لله تعالى تمكن من فعله، وهو [مما تدخله] النيابة في حال الحياة مع كون النية شرطًا فيه، ولا يصح فعله عنه بدون إذنه.

ويحتمل أن يكون المراد [به]: أنه يقضى من التركة، سواء أوصى به أم لم يوص، كما تقضى الزاكة أوصى بها أو لم يوص، وأنه يجيء في تقديمه على غيره من الديون عند الضيق ما تقدم من الخلاف في الزكاة؛ كما صرح به في "المذهب" تبعًا للقاضي أبي الطيب والبندنيجي وغيرهما.

وفي "الإبانة": أن من الأصحاب من نسب إلى الشافعي –رضي الله عنه قولًا: أنه لا يحج عنه إلا إذا أوصى [به] كمذهب أبي حنيفة.

وقال القاضي الحسين –تفريعًا عليه-: إنه يعتبر من الثلث. ثم قال: وهكذا إذا مات وعليه زكاة، ومنهم من يجعل في إخراجها بغير وصية قولين، والصحيح في الزكاة والدين: الأول؛ ومنهم من قطع به، وقال: إن الحجة المنذورة تترتب على حجة الإسلام، وأولى بأن تعتبر من الثلث؛ بناء على أن مطلق النذر يحمل على ما يستقرب به الإنسان من ذلك الجنس، وكلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق.

ويحتمل أن يكون أراد به المجموع، ولا منع منه، لكن هذا التشبيه يقتضي إجراء خلاف في أنه هل يجوز أن يتبرع أجنبي عن الميت بذلك بدون إذنه وإذن وارثه، أم لا كما هو محكي في الزكاة؟ وقد صرح به ابن التلمساني في "شرحه"؛ تبعًا لصاحب "البحر"، والذي أورده القاضي الحسين والمتولي والغزالي: الجواز.

ص: 64

وزاد الفوراني [في "الإبانة] والمسعودي، فقالا: إنه يجوز أن يستأجر من يحج عنه، وهذا بخلاف حال الحياة؛ حيث قلنا: لا يجوز أن يحج عن العاجز بدون إذنه على الأصح؛ لأنه في حال الحياة من أهل الإذن، وبالموت خرج عن أن يكون من أهله.

وقال في "التتمة" – تبعًا للقاضي الحسين-: ويخالف هذا أيضًا ما لو كان على الميت عتق، فأعتق الأجنبي عنه؛ فإنه لا يجوز على أحد الطريقين؛ لأن العتق يقتضي الولاء وثبوت الولاء يقتضي ثبوت الملك، [وإثبات الملك] للميت بعد موته متعذر.

أما إذا مات بعد الوجوب وقبل التمكن من الأداء، لم يقض من تركته؛ لأنه يتبين عدم استقرار الوجوب عليه؛ كما إذا مات في أثناء وقت الصلاة قبل التمكن من فعلها، أو جن، أو حاضت المرأة.

وفي "الحاوي": أن البلخي طرد أصله في الصلاة هنا، فقال: ليس من شرط الاستقرار إمكان الأداء.

لكن حكى في "المهذب" هنا: أن أبا إسحاق أظهر له نص الشافعي؛ فرجع عن ذلك؛ فعلى هذا قال بعضهم: الفرق على مذهبه بين الصلاة والحج: أن الصلاة مما تلزم بإدراك بعض الوقت –وهو الآخر- إقامة لذلك مقام إدراك كله؛ فجاز أن يكون أوله كذلك، وليس كذلك الحج.

قال القاضي الحسين: فإن قيل: التمكن على القول القديم في الزكاة شرط في الوجوب، فما الفرق بينها وبين الحج وغيره من العبادات؟

قلنا: لأن في الزكاة لا ينفرد هو بالأداء، بخلاف سائر العبادات.

قلت: وهذا يبطل بالجمعة.

ثم المراد بإمكان الفعل الذي يستقر به الحج على الميت يختلف: فإن كان موته قبل عود الناس من الحج؛ بأن يكون موته حصل بعد مضي إمكان فعل أركانه في وقتها من الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعى، وكذا رمي جمرة العقبة والحلاق

ص: 65

إن قلنا: [إنه نسك] ، وهو مستجمع للشرائط السابقة، فلو مات قبل ذلك، فلا استقرار، وتبين عدم الوجوب، وكذا لو مات بعد إمكان بعد إمكان ذلك، لكن بعد فقد شيء من الشرائط السابقة –فلا استقرار.

ولو كان ممن لا يمكنه السير إلا مع الرفقة، فخرجوا في الوقت المعتاد، وتخلف عنهم مع وجود الشرائط، لكنهم أحصروا-: فإن كان لهم طريق آخر فسلكوها وحجوا في تلك السنة، استقر عليه الفرض، لأنه لو خرج معهم لأمكنه الفعل وإن لم يدركوا الحج في تلك السنة أو لم يكن لهم طريق آخر وتحللوا بسبب الحصر، لم يستقر عليه الفرض؛ لأنه لو كان معهم، لم يمكنه الفعل.

ولو كان تخلفه؛ لكون السلطان أو ظالم منعه من الخروج معهم، وأتموا نسكهم –قال القاضي الحسين: ففي استقراره وجهان ينبيان على أن الحصر الخاص هل يفيد التحلل؟ وفيه قولان.

وإن كان موته بعد عودهم إلى بلده نظر:

فإن كان الشخص مستطيعًا بغيره، فالتمكن في حقه ما تقدم، لكن لا يشترط بقاء المال معه إلى انتهاء ذلك على وجه؛ لما تقدم تقريره.

وإن كان مستطيعًا بنفسه، فإن كان ممن لا يعتبر في حقه وجود الزاد والراحلة في مدة الرجوع؛ أما لقرب المسافة أو لبعدها وكان ممن لا أهل له، وفرعنا على أحد الوجهين فالحكم كما لو مات قبل عودهم.

وإن كان ممن يعتبر في حقه وجود ذلك في مدة الرجوع، فوجهان حكاهما القاضي الحسين:

أحدهما: أن الحكم كذلك؛ قياسًا على حالة الموت، وقد أبداه الإمام احتمالًا.

والثاني –وهو الذي حكاه الإمام ومن تبعه عن الصيدلاني، ولم يحك غيره-: أنه يعتبر مع ذلك بقاء الزاد والراحلة في مدة إمكان الإياب؛ لأن ذلك شرط في الوجوب، فإذا نفد قبله بان أنه كان لا يجد نفقة الرجوع، بخلاف ما لو مات، فإن الموت يغنيه عن الرجوع.

ص: 66

فرع: إذا قضى الحج أو العمرة من التركة، فالاستئجار يكون على فعل ذلك من ميقاته؛ كما قاله الشافعي، رضي اله عنه.

قال القاضي الحسين: وظاهر هذا: أنه يتعين ميقات بلده؛ فمن أصحابنا من قال بظاهره، ومنهم من قال: يجوز أن يستأجر عنه من ميقات هو مثل [ميقات بلده؛ فلو استأجر من ميقات أقرب [منه] فعليه الدم، ولو استأجر من ميقات أبعد منه] بأجرة ميقات بلده، فوجهان:

أظهرهما: لا شيء عليه؛ لأنه زاد خيرًا.

والثاني: يلزمه الدم؛ للمخالفة.

ولو استأجر من ميقات هو مثل ميقات بلده، فوجهان أيضًا:

أحدهما: عليه الدم؛ لأن ميقات بلده متعين.

والثاني: لا بلزمه؛ لأنه لا يتعين.

وكلام الشافعي –رضي الله عنه محمول على أنه قصد به التقريب دون التحديد.

قال: ولا يحج ولا يعتمر عن غيره وعليه فرضه:

أما في الحج؛ فلما روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة، قال:"من شبرمة؟ " قال: أخ لي أو قريب، قال:"حججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال" "حج عن نفسك ثم عن شبرمة"، أي: أدم الحج

ص: 67

عن نفسك ثم [حج] عن شبرمة.

وقد روى مثل ذلك ابن عمر وجابر وعائشة عنه، عليه السلام.

وروى أنه –عليه السلام قال: "لب عن نفسك، ثم لب عن شبرمة".

وروي أنه قال: "هذه لك، وحج عن شبرمة"، وهذه الرواية تعضد ما أولناه من حديث ابن عباس، لكن البهيقي قال: إن إسناد حديث ابن عباس صحيح، وليس في الباب أصح منه. فأفهم الحديث: أنه لا بد من تقديم فرض نفسه على فرض غيره.

ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة؛ فلم يجز أن يؤديها عن غيره مع وجوب فرضها عليه؛ كالجهاد.

وأما في العمرة؛ قبالقياس على الحج.

وكما لا يجوز أن يحج أو يعتمر عن غيره، وعليه فرضه –لا يجوز أن يفعل ذلك وهو عليه بنذر أو قضاء؛ [لأن ذلك ملتحق] بالفرض.

وقد أشار الشيخ بقوله: "وعليه فرضه" إلى ما ذكره في العمرة مفرعًا على الصحيح في أنها فرض، أما إذا قلنا بأنها سنة، فقد حكي في "البحر" عن والده رواية وجهين فيه:

ص: 68

أحدهما: يجوز.

والثاني: لا؛ لأن العمرة أحد [نسكي] القران، فلا يجوز فعله عن الغير قبل فعله عن نفسه؛ كالحج.

قال: ولا ينتفل بالحج عن نفسه وعليه فرضه، ولا يؤدي نذر الحج وعليه فرض الإسلام، لأن النفل والنذر أضعف من فرض الإسلام، فلا يجوز تقديمهما عليه؛ كحج غيره على حجه، وكذا لا يجوز تقديم حجة القضاء على حجة الإسلام وإن سبقته، ويتصور ذلك في العبد يحج في حال رقه، ويفسده، ونقول بوجوب القضاء عليه، فلم يفعله في حال رقه، أو فعله، وقلنا: لا يجزئه كما سنذكره.

والنذر مؤخر عن القضاء كتأخيره عن فرض الحج.

قال القاضي الحسين: وحى الغزالي في الترتيب بين القضاء والنذر ترددًا، وهو للإمام.

ولو كان القضاء قضاء تطوع أفسده، وقد نذر فأحرم، فهو منصرف –كما قاله القاضي أبو الطيب- إلى الأسبق منهما وجوبًا؛ لأن كل واحد منهما وجب عليه بإيجابه.

واعلم أن قول الشيخ: "ولا يؤدي نذر الحج وعليه فرض الإسلام" يجوز أن يريد بفرض الإسلام حج الإسلام، ويجوز أن يريد به فرض الإسلام: من حج أو عمرة، على الجديد، حتى إنه إذا كان قد حج الفرض، ولم يعتمر؛ فلا يحرم بحجة نذرها، وهذه الصورة لم أقف فيها على شيء، لكن الذي يظهر [الجواز؛ إذ لو امتنع ذلك لامتنع أن يحرم بالعمرة تطوعًا من اعتمر عمرة الإسلام ولم يحج حجة الإسلام، وذلك غير ممتنع؛ يدل عليه أنه –عليه السلام اعتمر تطوعًا، ولم يحج

ص: 69

حجة الإسلام، وإذا [لم يمتنع ذلك] لم يمتنع التطوع بالحج قبل أداء فرض العمرة] والله أعلم.

قال: فإن أحرم عن غيره أو تنفل، وعليه فرضه، انصرف إلى الفرض، وكذلك لو أحرم بنذر الحج وعليه فرض الإسلام انصرف إلى فرض الإسلام:

أما في الإحرام عن الغير؛ فللخبر.

وأما عند إحرامه بالتطوع؛ فلأن الإحرام ركن من أركان الحج؛ فوجب ألا يصح أن يتطوع به وعليه فرضه، بل ينقلب إلى فرضه، كمن طاف ينوي الوداع وعليه طواف الزيارة، فإنه يكون عن طواف الزيارة.

ولأنها عبادة يجب في إفسادها الكفارة؛ فوجب ألا تصح ممن يصح منه فرضها، كالصوم في شهر رمضان.

ولأنا أجمعنا على أنه لو أحرم مطلقًا يقع عن الفرض، ولو جاز أن يسبق النفل الفرض، لكان مطلقه ينصرف غلى النفل، كما في الصلاة.

وأما عند إحرامه بالنذر وعليه فرضه [فلأن الفرض أهم من النذر، فقدم؛ كما إذا حج عن غيره وعليه فرضه].

والحكم هكذا فيما لو أحرم عن الغير وعليه نذر أو قضاء، أو تطوع عن نفسه وعليه نذر أو قضاء، ينصرف إلى ما عليه.

ويظهر أن يكون محل ذلك بالتفاق فيما إذا كان النذر مقيدًا بوقت، ففعل فيه التطوع أو فعل عن العير، أما إذا كان النذر مرسلًا في ذمته، فينبغي أن يكون حكمه حكم من تطوع بالطواف أو فعله عن الغير وفي ذمته طواف منذور غير مخصوص بوقت، وفي صحة ذلك وجهان في "الروضة"، أصحهما: أن الحكم كما تقدم.

ص: 70

ولو أحرم بالنذر، وعليه قضاء، انصرف على المذهب.

قال في "البحر": ولو كان قد نذر الحج في عام معين، فلم يحج فيه، وكان قد حج حجة الإسلام، ثم نذر حجًّا آخر –فهل عليه أن يقدم حجة القضاء [أم] له الإتيان بالمنذور ثانيًا؟ قال: والذي عندي: [أن] له أن يأتي بأيهما شاء.

ويحتمل أن يقال: [يقدم] حجة القضاء؛ لأنها أسبق وجوبًا.

قلت: وهذا يوافقه ما قدمت حكايته عن أبي الطيب.

ومن قلنا: إنه لا يصح حجه عن الغير؛ لكونه لم يأت بالفرض، لو كان قد استؤجر عليه، وفعله –لا يستحق على المستأجر شيئًا؛ لأن فعله أسقط عنه واجبًا، بخلاف ما إذا استأجر [عاجز] شخصًا للحج، فبرأ بعد أن حج عنه [أو من يرجى برؤه، فمات قبل البرء وبعد أن حج عنه؛] حيث قلنا: إن ذلك لا يقع عن المستأجر وإن الأجرة تستحق: أما أجرة المثل، أو المسمى؛ على أحد الطريقين؛ لأن فعله لم يسقط عنه واجبًا؛ كذا حكاه العراقيون.

وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا استأجر من لم يحج عن نفسه [مع علمه بأنه لم يحج عن نفسه]، وقال: اعتقادي بأنه أهل لأن ينوب عن الغير في الحج –هل يستحق الأجرة أو يلزمه ردها عليه؟ فيه وجهان نظيرهما: ما إذا استأجر من يحج عنه، فصرف الأجير الإحرام إلى نفسه في خلال الحج؛ فإنه لا ينقلب إليه، وهل يستحق الأجرة؟ فيه قولان:

في أحدهما: ينظر إلى الباطن.

وفي الثاني: إلى الظاهر.

ومثلهما إذا جحد القصار ثوبًا، ثم قصره، هل يستحق الأجرة أم لا؟

نعم، لو غر الأجير المستأجر فقال له: إنه حج عن نفسه، ولم يكن –فإنه يرد الأجرة وجهًا واحدًا.

ص: 71

فروع:

[أحدهما]: إذا أحرم عن الغير، ثم نذر حجًا لله، فإن نذره بعد الوقوف، لم بنصرف الإحرام إليه، وإن نذره قبل الوقوف، فوجهان:

أحدهما: ينصرف إحرامه إلى المنذور كالعبد والصبي يحرمان، فيكمل حالهما بالعتق والبلوغ قبل الوقوف، ينصرف إحرامهما إلى الفرض.

والثاني: لا، وهو الصحيح في "تعليق" القاضي الحسين وغيره؛ لأن هذا انقلاب من شخص إلى شخص، بخلاف العبد والصبي؛ فإن ذلك انقلاب من حال إلى حال.

ونظيره: لو تطوع، ثم نذر حجًا لله تعالى قبل الوقوف، فإن المذهب [أنه] ينصرف [إحرامه إلى] المنذور.

والخلاف في هذه الأخيرة، جارٍ –كما قال في "البحر"- فيما إذا استأجر العاجز من يحج عنه تطوعًا، وصححناه، ثم نذر الحج قبل أن يقف الأجير، إذا قلنا: يلزمه الإحرام، لدخول مكة، وإنه إذا تركه لا يجب عليه القضاء إلا إذا صار حطابًا – [هل له أن يحج عن الغير أو يتطوع قبل أن يصير حطابًا؟] حكى في "البحر" عن والده أنه [قال]: يحتمل وجهين، ومال إلى ترجيح الجواز، وأنه إن صح، فليس على أصلنا مسألة يصح التطوع فيها بالحج والنيابة مع وجوب الحج عليه إلا في هذا الموضع.

[الثاني]: العاجز عن الفعل بنفسه إذا كان عليه حجة الإسلام، وحجة بالنذر، فاستأجر رجلين ليحجا عنه في سنة واحدة –نص في الأحسن على الجواز، بل قد فعل الأولى.

ومن الأصحاب من قال: لا يجوز؛ لأنه لا يحج في سنة واحدة حجتين، فعلى هذا لو وقع إحرامهما معًا، وقع عن أنفسهما.

[الثالث]: إذا استأجر للحج والعمرة من حج عن نفسه ولم يعتمر، فإن أحرم بكل منهما منفردًا وقع الحج عن المستأجر والعمرة [عن الأجير.

ص: 72

وإن أحرم بهما معًا، كانا جميعًا عن الأجير؛ لأن العمرة تقع] له؛ فلا يكون الحج عن غيره؛ لأنه إحرام واحد؛ فلا يتبعض؛ وهذا ما حكاه البندنيجي وأبو الطيب [والماوردي وابن الصباغ] ونسبه ابن سريج إلى نصه في الجديد؛ كما قال القاضي الحسين، فإنه قال في "الجامع الكبير": إذا كان [قد] حج عن نفسه، ولم يعتمر، فحج عن غيره واعتمر -أجزأه الحج دون العمرة.

وإن المزني قال: هذا غلط؛ لأنه إذا قرن بينهما، صار إحراماً واحدًا.

وقال أصحابنا: لم يرد الشافعي رضي الله عنه إذا قرن بينهما، وإنما أراد: إذا أتى بالحج، ثم بالعمرة بعده.

ثم قال القاضي الحسين: وقد قال في القديم: [إنه] لو مات وعليه حج، فاستؤجر من يحج عنه، فقرن -سقط الحج عن الميت"، واختلف أصحابنا فيه:

فمنهم من جعل [في المسألة] قولين:

أحدهما: يسقط الحج عن المستأجر في مسألتنا، كما قال في القديم.

والثاني: يقع كلا النسكين عن الأجير كما قاله في الجديد.

واعلم أن قول الشيخ: "ولا يتنفل بالحج عن نفسه وعليه فرضه"، يفهم صحة التنفل به ممن ليس عليه فرضه، وهو صحيح في العبد والصبي، ومن أسقط فرضه عن نفسه بالفعل، وأما من لم يخاطب بفرضه، لعدم الاستطاعة، فلا؛ لأنه إذا فعل ذلك متكلفًا كان حكمه حكم من فعله وعليه فرضه، والعبارة الوافية بالمقصود أن يقال:

ولا ينتفل بالحج عن نفسه من يصح منه الفرض قبل أداء فرضه.

قال: ولا تجوز النيابة في حج التطوع، أي: حيث تجوز في حج الفرض في أحد القولين؛ لأنه من عبادة البدن، وإنما دخلت النيابة في الواجب منه بالشرع أو بالنذر؛ للضرورة، ولا ضرورة في النفل، فأشبه ما لو استناب في حج النفل وهو صحيح، وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب وجماعة، وقال الإمام في كتاب الوصية: إنه الأقيس.

ص: 73

وتجوز في الآخر؛ لأن كل عبادة جازت النيابة [في فرضها جازت] في نفلها، كالصدقة، وهذا ما صححه البغوي، وتبعه الرافعي، ثم النواوي.

وقال الإمام في كتاب الوصية: إنه الأصح في الفتوى.

قال ابن الصباغ: وما ذكرناه للأول ينكسر بالتيمم؛ فإنه يجوز للفرض عند الحاجة إليه، ويجوز للنفل أيضًا.

فإن قلت: القاضي الحسين قد قال هنا: إن الخلاف في جواز هذا كالخلاف في جواز التيمم للنافلة [-أيضًا- فلا كسر].

قلت: الكسر متوجه على من اختار عدم الصحة هاهنا، وجزم بجواز التيمم للنافلة أو صححه.

والقولان يجريان في صحة الوصية بحج التطوع، وفي حج الوارث أو الأجنبي عمن مات ولم يجب عليه الحج؛ لفقد الاستطاعة.

ومنهم من قطع في الأخيرة بالصحة؛ لأنه يقع عن الواجب فيها؛ ولهذا لو تكلف ذلك في حال الحياة، وقع [ذلك] عن فرضه، بخلاف التطوع.

والعمرة فيما ذكرناه كالحج.

ثم حيث قلنا بعدم صحة ذلك، فاستاجر إنسانًا لفعله، وفعله، وقع على نفسه، وهل يستحق ألأجرة؟ أطلق في "المهذب" حكاية وجهين فيه.

وفي "الشامل" و"تعليق" القاضي أبي الطيب حكايتهما قولين، أصحهما عند أبي الطيب والبغوي: المنع، وعند المحاملي [و] غيره: الاستحقاق؛ لأنه دخل في العقد طامعًا في الأجرة، وتلفت منفعته وإن لم ينتفع بها المستأجر، فصار كما لو استؤجر لحمل طعام مغصوب، فحمله.

وإذا قلنا: يستحقها، فهل [أجرة] المسمى أو أجرة المثل؟ يشبه أن يجئ فيه الوجهان السابقان.

وقد رأيت في "المهذب" و"الشامل" الثاني لا غير.

ص: 74

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب ما يقتضي الأول حيث قال: إنه لا يرد الأجرة.

وقال في "التتمة" إن محل الخلاف في الاستحقاق إذا جهل الأجير عدم الصحة، فلو علمها، لم يستحق شيئًا وجهًا واحدًا.

ثم الأجير في حج التطوع يجوز أن يكون عبدًا أو صيًا؛ لأنه من أهله، بخلاف حج الفرض كما تقدم.

وفي جواز ذلك في الحجة المنذورة وجهان يبنيان على أنه يسلك بها مسلك جائز الشرع أو واجبه.

قال: ويجوز الإحرام بالعمرة وفعلها في جميع السنة، أي: يجوز الإحرام بالعمرة، والأصل في ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار -يقال لها: أم سنان-: "ما منعك أن تكوني حججت معنا؟ قالت: ناضحان كانا لأبي فلان- تعني: زوجها -حج هو وابنه على أحدهما، وكان الآخر يسقي عليه غلامنا نخلًا لنا، قال: "فعمرة في رمضان تقضي حجة" [أو حجة] معي".

وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما".

وروى مسلم [أيضًا] أنه عليه السلام أمر عبد الرحمن أن يعتمر بعائشة من التنعيم في ليلة الحصبة، وهي ليلة الرابع عشر من ذي الحجة التي يرجعون فيها من

ص: 75

منى إلى مكة، [وتسمى: ليلة الصدر، و: ليلة البطحاء].

وقد روى أنه عليه السلام: اعتمر عمرة القضية في شوال، اعتمر عام الفتح في ذي القعدة.

وفي مسلم عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته: عمرة من الحديبية [أو زمن الحديبية] في ذي القعدة [وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة] ، وعمرة من جعرانة، [حيث] قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته".

وقد كانت العرب ترى أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر، وقولون:"إذا برأ الدبر وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر"، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابع ذي الحجة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة؛ فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال:"الحل كله" كذا أورد مسلم بعضه، وغيره أورد الباقي؛ فدل ما ذكرناه على فتح الباب وعدم التأقيت.

ولأنها إنما سميت عمرة؛ [لجواز فعلها] في العمر كله.

ثم مع جواز الفعل في جميع السنة لا يكره في وقت منها، سواء فيه يوم عرفة،

ص: 76

ويوم النحر، وأيام التشريق، وغيرها.

نعم، فعلها في الأيام الخمسة ليس بفاضل كفعلها في غيرها؛ لأن الأفضل فعل الحج فيها، وعليه يحمل قول عائشة رضي الله عنها، إن [صح-]:"العمرة في السنة كلها إلا يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق".

والعاكف بمنى للرمي والمبيت، لا تنعقد عمرته لاشتغاله بذلك؛ نص عليه. ومن تعجل الرمي في اليوم الثاني، يجوز له الاعتمار في الثالث، صرح به المارودي والإمام.

ويجوز أن تفعل في السنة الواحدة مرتين وأكثر، خلافًا للمزني فإنه قال: لا تجوز إلا مرة؛ قياسًا على الحج. وهو فاسد؛ لما سنذكر أن عائشة رضي الله عنها اعتمرت في سنة مرتين بأمره، عليه السلام.

وعن علي -كرم الله وجهه- أنه اعتمر في شهر أربع مرات، وكذا روي عن ابن عمر وأنس، ولم ينكر ذلك أحد.

ولأنها عبادة غير مؤقتة؛ فجاز تكرارها في السنة، كالصلاة، وخالفت الحج؛ لأن له وقتًا يفوت بفواته وهو عرفة.

قال البندنيجي: ويجوز أن يقيم على إحرامه بالعمرة أبدًا، ويكملها متى شاء.

قال في "التهذيب": والمستحب أن يعتمر في أشهر الحج، اقتداء به عليه السلام.

قال: ولا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، لقوله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] والحج: هو الفعل؛ فلا يصح وصفه بأنه أشهر؛ [فثبت أنه

ص: 77

لا] بد من إضمار ولا يجوز إضمار فعل الحج؛ لأن فعله ليش بأشهر، وإنما يكون في أيام معدودة، ولا يجوز أن يكون التقدير: أشهر الحج أشهر معلومات -كما قال الزجاج- لخلوه عن الفائدة؛ فتعين أن يكون: وقت الإحرام بالحج أشهر معلومات؛ لظهور الفائدة، قال الماوردي: ولأنه لما جعل الحج أشهرًا، والحج: الإحرام، والوقوف، والطواف، [والسعي، والطواف] والسعي لا يختص بها، بل يصح فيها وفي غيرها، وإن لم يكن الوقوف في جميعها -حصل الاختصاص بالإحرام؛ فكأنه قال: اللإحرام بالحج في أشهر معلومات.

قال القاضي الحسين وغيره: ويدل على ذلك من الآية قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197] والفرض: هو العقد والإيجاب، والهاء والنون إنما تستعمل فيما دون العشرة، فأما فيما وراء العشرة فيقال فيها بالهاء والألف، كما قال تعالى:{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ، ثم قال تعالى:{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36]؛ فدل على اختصاص الإيجاب بأشهر الحج.

قال: وهي شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة؛ كذا ذكره ابن عباس، وجابر، وابن مسعود، وابن الزبير.

وقد خالفنا أبو حنيفة، فعد يوم العيد منها؛ لأنه يفعل فيه معظم النسك؛ فكان كيوم عرفة وما قبله.

ومالك يعد جميع ذي الحجة منها، وقد نص الشافعي على مثل مذهبه في "الإملاء"؛ كما قاله القاضي أبو الطيب والعمراني وغيرهما؛ لقوله تعالى:{أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] ، وهي جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وأثر هذا الخلاف يظهر من بعد.

والمذهب: [الأول]؛ لأن الله -تعالى- حد شهور الحج، وأخبر أنها معلومات، والتحديد لا بد له من فائدة وتلك الفائدة عندنا: أن الإحرام بالحج لا ينعقد في غيرها، والفائدة عند مخالفنا: أنه يكره الإحرام بالحج في غيرها، وهذا المعني موجود في يوم النحر وما بعده؛ لأن الإحرام فيه لا ينعقد عندنا بالحج

ص: 78

ويكره عند مخالفنا؛ [فثبت أنه ليس من أشهر الحج.

ولأن الله تعالى قال: {فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197] فنهى عن الرفث -وهو الجماع- في وقت الحج، وقد يحل الجماع في يوم النحر، وهو إذا طاف بعد نصف الليل، ورمى بعد طلوع الفجر، وكذا عنده إذا طاف بعد طلوع الفجر، ورمى بعد طلوع الشمس يستبيح الوطء في بقية يومه] فثبت أن ذلك ليس من جملة أشهر الحج.

والجواب عن حجة أبي حنيفة: أن معظم الحج يفعل في أيام التشريق، وهو الطواف، والرمي، والنحر، والمبيت بمنى، وليست من أشهر الحج.

وعن حجة مالك: أن العرب قد تذكر الشيئين وبعض الثالث باسم الجمع، قال الله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 227] ولو طلقها وكانت طاهرًا، ثم مضى جزء يسير، وحاضت، لكان ذلك الجزء مضافًا إلى قرأين كافيًا.

على أنا [قد] نقول: إن أقل الجمع اثنان، كما قاله [بعض] أصحابنا، فلا نحتاج معه إلى جواب.

وقد حكى الإمام ومن تبعه وجهًا: أنه لا يصح الإحرام به في الليلة العاشرة وهي ليلة العيد، كما حكاه القاضي الحسين عن ابن سيرين.

قال الرافعي: ويجوز أن يكون قائله هو القائل بأنها ليست وقتًا للوقوف، كما سيأتي، ويجوز أن يكون مستنده قول الشافعي رضي الله عنه:"أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة، وهو يو معرفة، فمن لم يدركه إلى الفجر من يوم النحر، فقد فأنه الحج"؛ فإن الليلة العاشرة لو كانت منها لقال: وعشر من ذي الحجة. واعتقاده أن قول الشافعي: "وهو يوم عرفة" أي: اليوم التاسع يوم عرفة، وقوله:"فمن لم يدركه"، أي: لم يدرك الوقوف في يوم عرفة الذي هو معظم الحج "إلى الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج"، كما قدره المسعودي.

لكن الجمهور قالوا: المراد: من لم يدرك الإحرام إلى الفجر من يوم النحر، فقد فأنه الحج وأفرد الليلة العاشرة؛ لأن فوات الحج يتعلق بفواتها، ولأن المحرم بالحج فيها لا يحصل له فضيلة الإحرام؛ لأنه لم يجمع فيه بين الليل والنهار.

ص: 79

ولأن ليلة النحر لا يتعقبها شيء من أشهر الحج، بخلاف سائر ليالي الحج.

ولأن الليالي تستتبع الأيام، وليلة النحر لا تستتبع يومها؛ فلذلك أفردت بالذكر؛ لما امتازت على غيرها، وهذا أحد الجوابين اللذين أجاب بهما الأصحاب ابن داود حين قال: الشافعي إن كان أراد بقوله: "وتسع من ذي الحجة" الأيام، فقد خالف اللغة؛ لأنه لا يقال:"تسع أيام"، وإن كان أراد: الليالي، فقد خالف الشريعة؛ لأن الليالي من ذي الحجة عشرة.

والجواب الثاني: أن الشافعي أراد الأيام، وليس في ذلك مخالفة للغة؛ لأن من شأن العرب إذا جمعت الأيام والليالي تجعل الحكم لليالي؛ قال الله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] والعشر تكون ليالي وأيامًا؛ فغلب حكم التأنيث لما اجتمعا، وقال –عليه السلام:"يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا".

وقال لحبان بن منقذ: "إذا اشتريت فقل: لا خلابة، واشترط الخيار ثلاثًا" وأراد: ثلاثة أيام.

قال: فإن أحرم بالحج في غير أشهره، انعقد إحرامه بالعمرة؛ لأنه –عليه السلام سئل عمن يحرم بالحج قبل أشهره، فقال:"يهل بالعمرة"، وروي أنه قال:"مهل بالحج قبل أشهر الحج مهل بالعمرة".

ولأن الإحرام شديد التشبت واللزوم؛ ولهذا ينعقد مع السبب المفسد؛ بأن يحرم مجامعًا، فإذا لم يقبل الوقت ما احرم به، انصرف إلى ما يقبله.

وأيضًا: فإنه [إذا] بطل قصد الحج، بقي مطلق الإحرام، [والعمرة تنعقد بمجرد الإحرام] فانصرف إليها، وهذا ما نص عليه في "المختصر"، ولم يورد العراقيون سواه، وقالوا: لو كان عليه عمرة الإسلام، أجزأته، وهو مراد الشيخ بقوله:"بالعمرة"؛

ص: 80

إذ لو لم يكن هذا مراده، لحذف الألف واللام، ولقال: انعقد بعمرة.

وقد حكى القاضي الحسين والفوراني عن الشافعي –رضي الله عنه أنه قال في موضع آخر من القديم: "إنه يتحلل بعمل عمرة"، فأقامه بعض الأصحاب قولاً ثانيًا في المسألة، ومنهم من قطع به، وقاسه على ما لو فات حجه؛ [لأن كل] واحد من الزمانين ليس وقتًا للحج، وعلى هذا لا تجزئه عن عمرة الإسلام.

وحكى الإمام أن بعض المصنفين –وهو في "الإبانة"-[قال]: إن إحرامه ينعقد فيهما، إن صرفه إلى العمرة كان عمرة صحيحة، وإلا تحلل بعمل عمرة. ونزَّل [النصين] على هذين الحالين.

وفي "تعليق" القاضي: أن من أصحابنا من قال بنفي الخلاف في المسألة، وينزل الأول على ما إذا أحرم مطلقًا، والثاني على ما إذا قيد الإحرام بالحج.

والأشهر –كما قال الرافعي- طريق القولين، وهما مشبهان- عند من أثبتهما كالقولين- في التحرم بالصلاة قبل وقتها، هل تنعقد نافلة؟ لكن الأظهر هناك: أنه إن كان عالمًا بالحال لم تنعقد نافلة، وهنا: الأظهر انعقاد العمرة بكل حال؛ لقوة الإحرام.

وغيره صحح طريقة القطع بأنه بأفعال عمرة، وفرق بين ما نحن فيه، التحرم بالصلاة قبل وقتها-: بأن الفرض في الصلاة صفة لها؛ فإذا سقطت الصفة، بقيت نفس الصلاة صحيحة، والحج ليس هو عمرة موصوفة.

قال: ويجوز إفراد الحج عن العمرة، ويجوز القران بينهما، ويجوز التمتع بالعمرة إلى الحج؛ لما روى أبو داود عن عائشة قالت:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، [ومنا من أهل بحج] ، ومنا من أهل لالحج والعمرة، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم [بالحج] "، وأخرجه البخاري ومسلم

ص: 81

وغيرهما مختصرًا ومطولًا.

وقد أجمع المسلمون على ذلك.

[قال العلماء: وسميت: حجة الوداع؛ لأنه –عليه السلام ودع فيها الناس.

وتسمى: حجة البلاغ؛ لأنه بلغ أمته فيها ما تضمنته خطبته.

وتسمى: حجة التمام؛ لأنه بين تمامها وأراهم مناسكها.

وتسمى: حجة الإسلام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد فرض الحج غيرها وقيل: لم يحج بعد النبوة غيرها.

قال الماوردي في السير: وقد حكى مجاهد أنه حج قبل الهجرة حجتين، ورواه جابر بن عبد الله].

قال: وأفضلها: الإفراد؛ لما روى مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.

وروى مسلم –أيضًا- عن ابن عباس قال: "فركب –يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته، فلما استوت على البيداء أهل بالحج".

وروى مسلم عن ابن عمر قال: "أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا"، وفي رواية:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردًا".

وروى البخاري ومسلم عن جابر قال: "أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [بالحج] خالصًا وحده، ليس معه عمرة".

ص: 82

وروى عن ابن عمر أنه قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعبد الرحمن ابن عوف، فأفردوا، لوم يقرنوا، ولم يتمتعوا.

وإذا كان هذا فعله عليه السلام وصحابته، كان هو الأفضل.

ولأن الإفراد أكثر عملًا؛ فإنه يأتي بالنسكين كاملين، [لا تداخل فيهما] ، ولا يتعلق به [وجوب دم] جبران، بخلاف التمتع والقران؛ فإنهما يجبران بالدم، والجبران دليل نقصان.

قال: ثم التمتع، ثم القران، لأن المتمتع يأتي بعملين بتمامهما، بخلاف القارن، وموجبات الدم في التمتع [أقل] منها في القران، وما قل نقصه كمل حاله.

وما ذكره الشيخ من تفضيل الإفراد على التمتع، وتفضيل التمتع على القران -هو الذي نص عليه في "المختصر" وعامة كتبه، وهو الجديد، والمختار في "التهذيب" و"المرشد" وما بعدهما.

ونقل العراقيون قولاً ثانيًا في المسألة يعزى إلى نصه في "اختلاف الحديث": أن التمتع أفضل من الإفراد والقران، وهو اختيار المزني -كما قال الفوارني- لما روى مسلم عن عمران بن حصين قال:"تمتع نبي الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه"، ولأجل هذه الرواية قال ابن سريج: إنه عليه السلام كان متمتعًا في حجة الوداع.

وقد جاء في "البخاري" و"مسلم" أنه عليه السلام قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة"، فتمنى تقديم العمرة، ولولا أنه أفضل لم يتمنه.

قال القاضي الحسين: وهذا [الحديث] ليس على ظاهره؛ لأنه يوجب أن سوق

ص: 83

الهدى يمنع العمرة، وقد انعقد الإجماع على خلافه.

والقائلون بهذا القول قالوا: من روى أنه أفرد إنما قال ذلك؛ لأنه رآه يهل بالحج، فظن أنه أفرده وأحرم به ابتداء وكان –عليه السلام قد تقدمت عمرته على الحج، لكن خفي عليهم ذلك.

والقائلون [بالقول الأول] قالوا: ما روي من أنه –عليه السلام تمتع، يحتمل أن يكون المراد أنه تمتع بع التحلل من الحج وقبل الإحرام بالعمرة.

ومنهم من حمله على أنه أمر بالتمتع، وذلك جائز في اللغة، ألا ترى أنه روي "أن ماعزًا زنى؛ فرجمه –عليه السلام"، وإنما أمر برجمه.

وأجابوا عما ذكر من التمني: بأنه أراد به تطييب قلوب من أحرم بالعمرة؛ لأنه –عليه السلام كان أحرم إحراماً مبهمًا، كما رواه جابر، وكان ينتظر الوحي في اختيار أحد الوجوه الثلاثة، فنزل الوحي بأن [من] ساق الهدي، فليجعله حجًا، ومن لم يسقه فليجعله عمرة، وكان –عليه السلام[هو] وطلحة قد ساقا الهدي دون غيرهما، فأمروا أن يجعلوا إحرامهما عمرة، ويتمتعوا، وجعل –عليه السلام إحرامه حجًا، فشق عليهم ذلك؛ لأنهم كانوا يعتقدون من قبل أن العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر؛ فقال –عليه السلام ذلك إظهارًا للرغبة في موافقتهم لو لم يسق الهدي؛ فإن الموافقة الجالبة للقلوب أهم بالتحصيل من فضيلة يختص بها؛ ولهذا يؤثر للمتطوع الصائم أن يفطر للموافقة، ويستدرك بالقضاء.

وقد توافق القولان على تأخير القران عن الإفراد والتمتع.

والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما يقولون: لا خلاف على مذهب الشافعي أن الإفراد والتمتع أفضل من القران، لكن في "الوسيط" حكاية قول: أن القران أفضل من التمتع.

قلت: ويشهد له أن الماوردي حكى في السير: أن رواة القران: أربع من الصحابة ورواة التمتع ثلاثة، وكثرة الرواة مما يرجح به، ولهذا رجحنا الإفراد عليهما؛ لأن

ص: 84

رواته من الصحابة خمسة.

وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن المزني وأبا بكر بن المنذر قالا –تبعًا لأبي حنيفة وإسحاق-: إن القران أفضل الثلاثة.

وقال في "الشامل" إنه اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وقد تقدم أن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك.

وروى مسلم عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما جميعًا: "لبيك عمرة وحجًا"، وأخرجه البخاري بمعناه.

والقائلون بالأول قالوا: ما ذكرناه من رواية الإفراد معارضة لهذه الرواية، وهي أولى؛ لاعتضادها بالمعنى، ولأن جابرًا أقدم صحبة، وأشد عناية بضبط المناسك وأفعاله صلى الله عليه وسلم من لدن خروجه من المدينة إلى أن تحلل.

وروي أن رجلًا أتى من العراق وسأل ابن عمر –رضي الله عنهما عن حجة [النبي صلى الله عليه وسلم] فقال: كان مفردًا، ثم رجع إليه في العام المستقبل، وسأله عن حجه –عليه السلام ثانيًا، فقال:"ألست أخبرتك في العام الماضي؟! " فقال: إن أنسًا –رضي الله عنه عندنا يزعم أنه قرن، فقال: وهل كان أنس يلج على النساء وهن متكشفات وكنت أمشي تحت ثفنة ناقته –عليه السلام ولعابها يسيل علي، وهو يقول:"لبيك بحجة"؟

والقائلون بأن التمتع أفضل قالوا: قوله –عليه السلام: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت

" إلى آخره، نفى أنه كان قارنًا؛ لأنه لو كان قارنًا لكان محرمًا بالعمرة، وكان لا معنى للتمني.

ومن روى أنه قرن أراد على جهة التوالي والتعاقب، لا على جهة الاجتماع والتزاحم.

ص: 85

ووراء ما ذكرناه طريقة أخرى حكاها الإمام عن بعض التصانيف –وهي في "الإبانة"-: أن مذهب الشافعي –رضي الله عنه أن الإفراد أفضل من التمتع والقرآن، جزمًا، وهل التمتع أفضل من القرآن أو العكس؟ فيه القولان.

وقد بقى من تتمة الكلام في المسألة بيان محل كون الإفراد أفضل، فسنذكره.

قال: والإفراد: أن يحج، ثم يخرج إلى أدنى الحل –أي: بعد التحلل منه؛ كما قاله بعضهم، مع أن في كلام الشيخ غنية عنه- ويحرم بالعمرة.

هذا التفسير وافق الشيخ فيه البندنيجي وغيره، وهو إن يريد به بيان حقيقة الإفراد، فهو يخرج من أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، ثم حج من الميقات، ومن لم يحرم إلا بالحج من الميقات في سنته –عن أن يكون منفردًا.

وقد قال القاضي الحسين والإمام: إنه مفرد في كل واحدة منهما بلا خلاف، وصرح به الغزالي في الأولى.

ولو أريد به بيان الإفراد الذي هو أفضل من التمتع والقران، فهو يخرجهما –أيضًا- لكن قد صرح بإخراج الأخير وإخال الأول الرافعي؛ حيث قال: إن محل كون الإفراد أفضل إذا اعتمر في تلك السنة، أما لو أخر، فكل واحد من التمتع والقران أفضل منه؛ لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه.

ص: 86

و [قد] صرح بإخراج الأول القاضي أبو الطيب والماوردي حيث قالا: الإفراد الذي يختاره الشافعي إفراد الحج الذي يكون بعده عمرة في عامه، فأما إذا أفرد الحج من غير عمرة، فالتمتع والقران أفضل منه.

قال الماوردي: وقد روى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه أنه –عليه السلام قال: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد".

وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية عن المذهب خلاف ما قاله الرافعي؛ فإنه قال: نحن إنما نفضل الإفراد على القران إذا أراد أن يأتي بكل واحد من النسكين على الانفراد، فأما إذا أراد الاقتصار على أحدهما، والإعراض عن الثاني أصلًا، فالقران أفضل منه لا محالة، وأبو حنيفة يوافقنا في أن [الإتيان] بكل واحد من النسكين على الانفراد أفضل من الجمع بينهما؛ فيبقى الخلاف في أنه إذا حج في سنة

ص: 87

واعتمر في أخرى، يكون أفضل عندنا من أن يجمع بينهما، خلافًا له، ثم مال القاضي إلى قول أبي حنيفة؛ لأن للتأخير آفات.

قال: والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحج في عامه، سمي بذلك؛ لأنه بصدد أن يتمتع بما كان عليه محظورًا بينهما، ولانتفاعه بسقوط العود إلى الميقات [للحج؛ فإن التمتع لغة –كما قال الواحدي-: التلذذ والانتفاع؛ يقال:] تمتع به، أي: أصاب منه، والمتاع: كل شيء ينتفع به، وأصله من قولهم: حبل ماتع، أي: طويل.

قال القاضي أبو الطيب وغيره: وليس يريد بكونه يحج في عامه أن يفعل جميع الحج، بل إذا فعل جزءًا من الحج بعد العمرة، كان متمتعًا؛ لأن ما جعل غاية، فوجود أوله كاف؛ كقوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

وقد وافق الشيخ فيما ذكره من التفسير البندنيجي، وابن الصباغ، وغيرهما، وهو يقتضي أمرين:

أحدهما: أن اسم "المتمتع" يصدق على من يجب عليه الدم لاجتماع الشرائط التي سنذكرها فيه، وعلى من لم يجب عليه لفقد شرط منها، وسيأتي في كلام الشيخ ما يدل عليه أيضًا، وهو الذي صرح به الماوردي، وحكاه في "الزوائد" عن الشيخ أبي حامد، والآية توافقه، وكذا قول الأصحاب: إن المكي لا يكره له التمتع والقران، خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله لكن المحكي عن القفال: أنه [لا] يسمى متمتعًا ما لم تجتمع الشرائط المذكورة [فيه] ، وحكى فيه نصًا للشافعي، والاشتقاق السابق يعضده.

الثاني: أن من أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، وطاف، وسعى في أشهره –أنه لا يكون متمتعًا، ولا يجب عليه دم، وقد حكى أبو الطيب وغيره في وجوبه قولين:

أحدهما: قاله في القديم و"الإملاء"-: أنه يكون متمتعًا، وعليه دم.

والثاني: قاله في الجديد [و"الأم"] ، وهو المختار في "التهذيب"

ص: 88

و"المرشد"، والصحيح في "تعليق" القاضي الحسين وغيره-: أنه لا يكون متمتعًا، ولا دم عليه.

وعن ابن سريج أنه قال: إن أحرم قبل أشهر الحج بالعمرة، ثم دخلت أشهر الحج، فمر بالميقات محرمًا – [يلزمه] دم التمتع. وإن لم يمر الميقات، أو كان قد مر به قبل أشهر الحج –لم يكن متمتعًا؛ فلا يلزمه دم.

وزاد الرافعي في الحكاية عنه أنه حمل النصين على هاتين الحالتين.

ولو كان قد أتى بشيء من الطواف قبل أشهر الحج، ثم كمله فيها –فليس بمتمتع على القولين.

وفي "النهاية": أنا إذا قلنا بالقول القديم، جعلناه متمتعًا إذا أتى بالحلاق فقط في أشهر الحج، وقلنا: إنه نسك.

ثم قال: وحيث لم نجعله متمتعًا [والصورة هذه] ، فهل يجب عليه دم الإساءة؟ كان شيخي يقطع بالوجوب؛ لأنه يجب بسبب الإخلال بالميقات وذهب المحققون إلى المنع؛ فإن المسيء من ينتهي إلى الميقات وهو على قصد النسك، فيجاوزه غير محرم، وهذا لم يتحقق ممن جاوز الميقات محرمًا بالعمرة، وأما الحج فقد أتى به من ميقات انتهى إليه، وهو مكة؛ فإيجاب دم الإساءة بعيد.

قال: والقران: أن يجمع بينهما في الإحرام، أي: في أشهر الحج.

قال الماوردي: وهذا حقيقته لغة وشرعًا.

أو يهل بالعمرة، أي: في أشهر الحج أو قبلها؛ كما قاله ابن الصباغ وغيره، ولم يفسدها، ثم يدخل عليها الحج، أي: في أشهره، قبل الطواف، ثم يقتصر على أفعال الحج، أي: يجزئه.

والأصل في ذلك: ما رواه أبو داود عن جابر قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا وأقبلت عائشة مهلة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف عركت –أى: حاضت؛ فإن العراك: الحائض – حتى [إذا] قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة،

ص: 89

فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي. قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: "الحل كله"، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، لبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، فوجدها تبكي، فقال:"ما شأنك؟ " قالت: شأني أني قد حضت، قد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن، قال:"إن هذا [أمر] كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلى بالحج" ففعلت، ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال:"قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا"، وأخرجه مسلم.

وفي رواية عند قوله: "وأهلى بالحج": "واصنعي ما يصنع الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت، ولا تصلي".

قال الغزالي: ولا تحتاج إلى نية القران في هذه الحالة.

وعن الشيخ أبي علي حكاية وجه آخر فيما أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج: لا يجوز أن يدخل عليها الحج في أشهره، وعزاه إلى عامة الأصحاب، واختاره، والذي اختاره القفال: الأول.

أما إذا دخل [عليها] الحج قبل أشهره، لَغَى ذلك، وإن أدخله في أشهره بعد الطواف في العمرة، لم يصح إحرامه بالحج أيضًا وفاقًا، لكن لماذا؟ فيه أربعة معان، ذكرها القاضي الحسين:

أحدها: لأنه أتى بعمل من أعمالها.

والثاني: لأنه أتى بفرض من فرائضها.

والثالث: لأنه أتى بمعظمها.

والرابع: [لأنه أخذ في أسباب التحلل.

والثالث والرابع] هما اللذان أوردهما العراقيون، والأخير هو المذكور في

ص: 90

"عيون المسائل" لأبي يكر الفارسي، وشبهه أبو علي بما لو ارتدت الرجعية، فراجعها في الردة؛ فإن الشافعي رضي الله عنه نص على أنه لا يجوز؛ لأن الرجعة استباحة فلا تصح، والمرأة جارية إلى تحريم.

وكما لا يصح إدخاله عليها بعد الطواف، لا يصح إدخاله عليها بعد استلامه الحجر، وفعل خطوة أو خطوتين، ولو أدخله بعد استلام الحجر، وقبل المشي، ففي جوازه وجهان في "الحاوي":

أحدهما: يجوز؛ لأن الاستلام مقدمة الطواف؛ فأشبه ما لو وقف عند الحجر لإرادة الطواف ولم يشرع فيه.

والثاني: لا يجوز؛ لأن ذلك أول أبعاضه، وعلى هذا لو استلم غير مريد للطواف، ثم أحرم بالحج أجزأه.

ولو شك هل أحرم قبل الطواف أو بعده، قال أصحابنا: أجزأه؛ لأن الأصل جواز إدخال الحج على العمرة إلا بتعيين يمنع منه، فصار كمن أحرم وتزوج ولم يدر هل [كان] تزوج قبل الإحرام أو بعده؛ فإن الشافعي رضي الله عنه قال: يجزئه.

ولو أدخل [لحج] على العمرة بعد أن أفسدها، فوجهان في "المهذب" وغيره: أحدهما: ينعقد، ويكون فاسداً.

والثاني: لا ينعقد، واختار، في "المرشد"؛ لأنه لو انعقد لكان فاسداً ولم يصادف ما أفسده، ولا يجوز أن يكون صحيحاً ومقارنه فاسداً.

وقيل: ينعقد الإحرام بالحج صحيحاً، والعمرة على الفساد، حكاه الماوردي وهو بعيد.

وإذا قلنا: يكون فاسداً فهل ينعقد على الصحة ويفسد على الاتصال، أو ينعقد على الفساد فيه احتمالان.

ص: 91

قال: وإن أهل بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، ففيه قولان:

أحدهما: يصح، ويكون قارناً كعكسه وهذا هو القديم، والأصح في "النهاية"، وعلى هذا ففي وقت جواز ذلك أربعة أوجه حكاها الغزالي، وهي مبنية - كما قال القاضي الحسين - على المعاني الأربعة في الحالة السابقة.

فإن جعلنا الامتناع ثم؛ لأنه أتي بعمل من أعمالها، اختص الجواز هنا بما إذا لم يطف طواف القدوم، فإن طافه، لم يجز إدخالها عليه، وهو ما ذهب إليه ابن الحداد، وصاحب "التلخيص"، وحكاه عن نص الشافعي رضي الله عنه في القديم، وصححه البغوي، وقبله القاضي [أبو الطيب] في شرح الفروع، وقال: لا أعلم خلافا بين أصحابنا: أن من جاوز الميقات غير محرم، ثم أحرم، ولم يرجع حتى تلبس بشيء من أعمال الحج من طواف القدوم أو عدل إلى الوقوف، ووقف - أنه لا ينفعه، رجوعه، ولا يسقط عنه الدم، ولا يتغير حكم إحرامه؛ فكذلك ها هنا.

وإن جعلنا علة المنع ثم: أنه أتى بفرض [من فرائضها اختص الجواز هنا بما إذا لم يأت بفرض]، ولا يضره طواف القدوم [فإن أتى بفرض - ولو السعي - عقيب طواف القدوم] لم يجز إدخالها عليه؛ وهذا ما اختاره الخضري.

وإن قلنا ثم: المانع كونه أتى بمعظم العبادة، فوقت الجواز هنا ما لم يقف بعرفة، سواء أتى بالسعي أو لا، فإن وقف لم يجز إدخالها عليه، وهذا ما حكاه الماوردي -[أيضاً]- وجعل حكم من أدخلها وهو واقف حكم من أدخلها بعد الوقوف. وعلى هذا لو كان قد سعى ثم أدخلها قبل الوقوف، ففي شرح الفروع لأبي علي: أن عليه إعادة السعي؛ ليقع عن النسكين جميعاً.

وإن جعلنا ثم علة المنع: أنه أخذ في أسباب التحلل، فالوقت هنا ما لم يشرع في رمي جمرة العقبة وإن سعى مع طواف القدوم ووقف، وإذا رمى، لم يجز إدخالها عليه.

ص: 92

وقد حكى القاضي أبو الطيب هذا الوجه - أيضاً - عند الكلام فيما إذا أحرم بنسك، ثم نسيه.

قال الرافعي: وعلى هذا: لو كان قد أدخلها قبل التحلل وبعد السعى فقياس ما تقدم عن الشيخ أبي علي وجوب إعادة السعي، وقد حكى الإمام فيه وجهين [وقال إن] المذهب: أنه لا يجب. وكذلك قال في "الوسيط": إنه الصحيح.

قال: والثاني: لا بصح، والفرق: أنه بإدخال الحج على العمرة يستفيد فائدة؛ لأن الأعمال تزداد بسببه، بخلاف إدخال العمرة على الحج، فإنه لا يفيد شيئاً؛ لأنه يقتصر بعد إدخالها إليه على ما كان يقتصر عليه قبله من الأعمال؛ وهذا هو الصحيح والجديد.

قال: ويجب على المتمتع والقارن دم:

أما وجه وجوبه على المتمتع قبل الإجماع، قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196][معناه فعليه ما استيسر من الهدي].

قال الأصحاب: والمعنى فيه أنه ربح ميقاتًا، قإنه لو كان قد أحرم بالحج أولاً من ميقات بلده، لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل، فيحرم بالعمرة منه، وإذا تمتع، استغنى عن الخروج؛ لأنه يحرم بالحج من جوف مكة؛ فلذلك وجب الدم.

ووجه وجوبه على القارن: ما روى البخاري ومسلم: أنه عليه السلام ذبح عن نسائه البقر يوم النحر، قالت عائشة:"وكن قارنات"؛ ولأنه إذا وجب على المتمتع لقطعه مسافة عن مسافتين وربحه عن أحد السفرين، فلأن يجب على القارن وقد وجد ذلك في حقه، مع إسقاط أحد العملين، كان أولى.

والدم الواجب على المتمتع والقارن: شاة تجزئ في الأضحية، وتجزئه البدنة والبقرة عنها، لكن [تكون كلها واجبة] أو سبعها؟ فيه وجهان في تعليق القاضي

ص: 93

الحسين وغيره، وعلى الوجهين لو شارك فيها ستة جاز.

و [حكي] عن القديم: أن على القارن بدنة. والحديث والقياس يبطله.

ولا يجب الدم على المفرد إجماعاً.

قال: ولا يجب على القارن إلا أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام؛ لأن دم القران فرع دم التمتع، وهو غير واجب على من هو من حاضري المسجد الحرام؛ فكذلك [دم] القران.

وروى الحناطي وجهاً: أن عليه دم القران.

قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا الاختلاف مبنياً على وجهين نقلهما صاحب "العدة" في أن دم القران دم جبر أم دم نسك؟ والمشهور: الأول؛ فلا جرم أنه لا يجب على الحاضر. نعم، هل على المكي إذا قرن إنشاء الإحرام من أدنى الحل كما لو أفرد العمرة، أو يجوز أن يحرم من جوف مكة؛ إدراجاً للعمرة تحت الحج؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني.

قال الرافعي: ويجريان في الآفاقي إذا كان بمكة، وأراد القران.

قلت: والظاهر: أنه أراد الآفاقي الذي لم ينو الإقامة بمكة، وإلا لكان من حاضري المسجد الحرام؛ فلا معنى لقوله: إن الوجهين يجريان فيه.

فرع: لو عاد القارن الغريب إلى الميقات محرماً، ففي سقوط الدم عنه وجهان مرتبان- كما قال الإمام- على ما لو عاد المتمتع بعد إحرامه وقبل أداء شيء من النسك إليه؛ فإن في سقوط الدم عنه وجهين: فإن قلنا: لا يسقط، وهو المختار في "المرشد"، فكذلك ها هنا، وإلا فوجهان والفرق: أن اسم القارن باق، وهو في حكم متنسك بنسك واحد؛ فلا أثر لعوده في الإسقاط.

وقال الحناطي: الأصح: أنه لا يجب عليه – أيضاً- وقد نص عليه في "الإملاء".

قال: ولا على المتمتع إلا ألا يعود [: للإحرام بالجح] إلى الميقات؛ لأن

ص: 94

المعنى في إيجاب الدم عليه ما تقدم، وبإحرامه بالحج من الميقات لم يحصل له ذلك، فلم يجب عليه، والمراد بالميقات: الميقات الذي أحرم منه بالعمرة، ويقوم مقام عوده إليه عوده إلى ميقات مثله، أو أبعد منه، ولو عاد إلى ميقات أقرب منه إلى مكة، ففي وجوب الدم عليه وجهان، اختيار القفال والمعتبرين: لا.

وفي "الإبانة" و"العدة": أنه إذا سافر بعد عمرته سفراً يقصر فيه الصلاة، ثم حج من سنته - لا دم عليه.

ومما ذكرناه يظهر لك: أنه إذا فرغ من العمرة، ثم زار قبره عليه السلام وأحرم بالحج من ذي الحليفة، لا يجب عليه الدم اتفاقاً.

قال: وألا يكون من حاضري المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، أي: ما ذكر من وجوب الهدي والصوم عند عدمه، على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام؛ كما قال تعالى:{وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا} ، [الإسراء: 7]، أي: فعليها، وقال تعالى:{أولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]، وأراد به: فعليهم اللعنة وعليهم سوء الدار.

وإذا كان ما ذكرناه مفروضاً في حق من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، ففي حاضريه [على الأصل، وهو عدم الوجوب،] والمعني فيه: أن الحاضر بمكة - شرفها الله تعالى - ميقاته للحج نفس مكة؛ فلا يكون رابحاً ميقاتاً، ومن كان بينه وبين الحرم دون مسافة القصر، لم يترفه ترفها له تأثير بإحرامه إلحج من مكة، لأن رجوعه إلى قريته لا مشقة عليه فيه، فلذلك لم يلزمه الدم بخلاف الغريب؛ فإن ترفهه له تأثير؛ لأن في رجوعه إلى الميقات مشقة عليه.

قال الإمام: وقد يرد على من يعتمد ملك المعنى سؤال، فيقال له: من كان مسكنه دون ميقات، وكان من حاضري المسجد الحرام - كما سنذكره - فلو قصد مكة ناوياً نسكاً، وجاوز مسكنه وقريته غير محرم، فهو مسيء يلزمه دم الإماءة وفاقاً، ولو لم تكن المسافة محتفلاً بها، لقيل: هو من أهل مكة؛ فلا يلزمه شيء إذا أحرم من

ص: 95

مكة؛ فالوجه: التعويل على الآية.

قال: وحاضرو المسجد الحرام: أهل الحرم؛ لأن كل موضع ذكر الله سبحانه وتعالى فيه: المسجد الحرام، أراد به: الحرم.

قال الماوردي: إلا قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، فإنه أراد به الكعبة، وكان إلحاق هذا بالأغلب أولى، مع أن هذا مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في غيره.

قال: ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة؛ لأن من قرب من الشيء ودنا منه، كان حاضراً إياه، قال تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 1]، قال أهل التفسير: هي أيلة، ومعلوم أنها ليست في البحر، وإنما هى مقاربة له، ويقال: فلان حفم فلاناً، إذا دنا منه، ومن كان مسكنه دون مسافة القصر، فهو قريب نازل منزلة المقيم في نفس الحرم، [ولأجل هذا] لا يجوز للخارج إليه الترخص بالقصر والفطر ونحوهما.

وفي "تعليق" القاضي الحسين "والبحر" وغيرهما حكاية وجه: أن ما دون مسافة القصر يعتبر من نفس مكة، لا من الحرم، وهو ما حكاه الإمام عن الشافعي، رضي الله عنه.

وقال ابن التلمساني: إن الغزالي حكى وجهاً: أن حاضري المسجد الحرام أهل الحرم خاصة، قال: يعني: أهل مكة دون من عداهم؛ كمذهب مالك. لكن المحكي عن مالك: أنهم أهل مكة وذو طوى.

قال أبو الطيب: وهو يوافق قول ابن عباس وسعيد بن جبير: إنهم أهل الحرم؛ لأنه ليس في الحرم قرية عامرة غير مكة إلا ذا طوى.

والمشهور: ما ذكره الشيخ، وعليه يتفرع ما لو كان للشخص داران: إحداهما فيما دون مسافة القصر، والأخرى في مسافة القصر، فإن كان مقامه في إحداهما أكثر، فالاعتبار بها؛ وإن استوى مقامه فيهما، فالاعتبار بالتي ماله فيها أو بالتي أكثر، ماله فيها؛ وإن استوى ماله فيهما، فالاعتبار بالتي عزم على الإقامة فيها بعد الفراغ؛ فإن

ص: 96

عدم ذلك، فالاعتبار بالتي أحرم منها؛ قاله البندنيجي وغيره.

وقال الماوردي: قال أصحابنا: يجري عليه حكم الدار التي خرج منها.

تنبيه المتبادر إلى الفهم من أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة: أنهم المستوطنون ذلك، دون المقيمين [فيه] والمسافرين الحاصلين فيه، وهو ما ذكره الفوراني، وكذا القاضي الحسين؛ فإنه قال: العبرة فيهم بالاستيطان والسكنى، دون المنشأ. وهذا ما أفهمه كلام القاضي أبي الطيب والماوردي، وعليه يدل ظاهر الآية؛ فإن أهل الشخص إنما [يكونون في] موضع استيطانه.

وفرَّع القاضي الحسين على ذلك: أن شخصاً لو كان مستوطناً مكة؛ أو قريباً منها، فسافر، فلما عاد أحرم بالعمرة من الميقات، فاعتمر، ثم حج من باب داره - لم يكن متمتعاً يلزمه الدم.

وقال في "الوسيط": حاضرو المسجد الحرام: من [كان] بينه وبين مكة ما دون مسافة القصر، سواء كان مستوطناً أو مسافراً. وهذا يكون فيمن كان بمكة من طريق الأولى، لكنه قال عقيب ذلك: إن الآفاقى إذا جاوز الميقات غير مريد نسكاً، فلما دخل مكة عنَّ له أن يعتمر، ثم يحج - لم يلزمه الدم، وإن عنَّ له ذلك قبل دخول مكة على أقل من مسافة القصر، فأحرم بالعمرة من موضعه، ثم حج في تلك السنة - ففيه وجهان حكاهما الإمام - أيضاً-:

أحدهما: لا يلزمه؛ كما لو كان وطنه ذلك الموضع.

والثاني: يلزمه [ذلك] وهو الذي مال إليه الإمام، وصححه الرافعي، وقال الغزالي في توجيهه: إن اسم "الحاضر" لا يتناوله إلا إذا كان [فى] نفس مكة أو كان مستوطناً حواليها.

وهذا يقتضي عدم اعتبار التوطن فيمن هو بمكة، واعتباره فيمن هو حواليْها، وهو مخالف لصدر كلامه، وإذا صح ما ذكره حصل في المسألة ثلاثة أوجه.

وقد علل في "الوجيز" عدم إيجاب الدم عليه فيما إذا عن له الإحرام بالعمرة [بعد دخول] مكة: بأنه صار من الحاضرين؛ إذ ليس يشترط فيه قصد الإقامة.

ص: 97

وقال الرافعي عقيبه: إن هذا لم أجده لغيره بعد البحث، بل كلام عامة الأصحاب ونقلهم عن نصه في "الإملاء" والقديم ظاهر في اعتبار الإقامة، بل في اعتبار الاستيطان، مع أن الصورة أولاً متعلقة بالخلاف في أن من قصد مكة هل يلزمه الإحرام بحج أو عمرة؟

قلت: وما أنكره إن كان هو الحكم، فهو ما أورده الماوردي؛ حيث قال: من مر بميقات بلده يريد حجًّا أو عمرة، فلم يحرم من ميقاته، بل جاوزه، وأحرم من الحل – ينظر في موضع إحرامه: فإن كان بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فلا دم عليه لتمتعه ولا لقرانه؛ لأنه قد صار كحاضري المسجد الحرام.

وكذا القاضي الحسين [حيث قال] عند عدِّ شرائط إيجاب الدم على المتمتع: الشرط الخامس: أن يحرم بالعمرة من الميقات، فإن جاوز الميقات، ثم أحرم بها، لم يلزمه دم المتعة، وعليه دم الإساءة، نص عليه، فمن أصحابنا من قال به، ومنهم من قال: إن بقي بينه وبين مكة مسافة القصر، يلزمه دم المتعة ودم الإساءة، وإن بقي دون مسافة القصر، لم يلزمه دم المتعة، ويلزمه دم الإساءة، وحمل النص عليه.

وقد حكى الرافعي هذا – أيضاً – في موضع آخر، والنص المذكور نسبه الشيخ أبو حامد إلى القديم، وكذلك حكاه البندنيجي، ولم يحك سواه.

فإن كان ما أنكره كونه جعله من حاضري المسجد الحرام فهو قريب؛ لأن غيره قال: إنه كهم كما ذكرناه، وإن كان كهم صدق عليه أنه منهم؛ تجوزاً، والله أعلم.

ص: 98

وقد اتفق الكل على أن الغريب لو قصد مكة، ودخلها متمتعاً ناوياً الإقامة بها بعد الفراغ من النسكين أو من العمرة، أو نوى الإقامة بها بعدما اعتمر - أنه يجب عليه دم التمتع؛ لأنه لم يكن من الحاضرين؛ إذ الإقامة لا تحصل بمجرد النية؛ كذا قاله الرافعي.

[ووجهه أبو الطيب] فيما إذا نوى الإقامة بعد الفراغ من العمرة بأن فرض الحج باق عليه، ولا بد له من الخروج إلى أرض عرفة وغيرها، وفنيته مخالفة لفعله؛ فلذلك لم يسقط عنه الدم.

واعلم أن كلام الشيخ مصرح بأن المعتبر في إيجاب الدم [على المتمتع] وجود شرطين: ألا يعود لإحرام الحج إلى الميقات، وألا يكون من حاضري المسجد الحرام، وإنما اقتصر على ذلك؛ لاعتقاده أن التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يفرغ منها، ثم يحج من عامه، وأنه لا يشترط في إيجاب الدم نية التمتع.

ص: 99

وفي "المهذب" اتبع طريقة القاضي أبي الطيب وغيره؛ [حيث] عدوا شرائط إيجاب الدم على المتمتع المتفق عليها أربعة:

أحدها: أن يفعل الحج والعمرة معًا في أشهر الحج؛ [لأنه إذا فعل العمرة في غير أشهر الحج] وفعله في أشهره، فهو بمنزلة المفرد، والمفرد لا دم عليه؛ فثبت أن الدم يلزمه إذا فعل النسكين على خلاف فعل المفرد لهما.

والثاني: أن يفعلهما معاً في سنة واحدة؛ لأنه إذا فعل العمرة قبل أشهر احلج وفعله في أشهره لا دم عليه، فأولى إذا فعلهما في عامين ألا يلزمه دم؛ لأنه أبعد في باب التفريق، فلم يوجد معنى التمتع الذي لأجله يجب الدم، وقد روي عن سعيد ابن المسيب: أنه قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج، فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك، لم يهدوا دماً".

وعن ابن خيران: أن الشرط: أن يجمع بينهما في شهر واحد.

وقال القاضي الحسين: إن الشافعي – رضي الله عنه أشار إليه في رواية حرملة.

الثالث: ألا يكون في رجع إلى الميقات، وأحرم منه بالحج.

الرابع: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام.

والمنعتلف فيه أمور:

أحدها: نية التمتع، وفيها وجهان:

أحدهما: أنها واجبة؛ لأنه جمع بين عبادتين؛ فكان من شرطه النية؛ كالجمع بين الصلاتين، وهذا ما اختاره في المرشد.

والثاني: لا؛ لأن [الجمع بين] الحج والعمرة يصح بالفعل؛ فلم يفتقر إلى النية، ويفارق الجمع بين الصلاتين؛ فإنه لا يصح بالفعل، بل بالنية؛ فلذلك كانت شرطاً فيه؛ وهذا ما اختاره القفال، [وصححه] الغزالي والرافعي، وفرق بأن أشهر الحج كما هي وقت الحج فهي وقت العمرة، بخلاف وقت الصلاة.

وقال الإمام: إن اعتبار ما نحن فيه بنية الجمع بين الصلاتين في نهاية الضعف،

ص: 100

لكن لو قيل: إنما يلزم الدم إذا كان على قصد الحج عند الانتهاء إلى الميقات، وأتى بالعمرة؛ فإنه قدم أدنى السكين من أطول الميقاتين، أما إذا لم يكن على قصد الحج، أو كان على قصد الاقتصار على العمرة، ثم اتفق الحج، فلا دم عليه؛ قياساً على من جاوز الميقات لا على قصد النسك- لكان هذا قريباً من مأخذ النسك.

فإن قلنا باعتبارها، ففي وقتها وجهان في كتب العراقيين مأخوذان من القولين في وقت اعتبارها فى الصلاة:

أحدهما: أنه وقت الإحرام بالعمرة.

والثاني: ما لم يفرغ من العمرة.

وفي "الرافعي" وجه ثالث: أنه ما لم يشرع في الحج، وقال الإمام: إن اعتبار ما نحن فيه بنية الجمع.

الأمر الثاني: وقوع النسكين عن شخص واحد، وفيه قولان:

المنسوب في "البحر" إلى القفال، وهو اختيار الخضرى: أنه يشترط كما يشترط وقوعهما فى سنة واحدة.

والجمهور على أنه لا يشترط، [وهو ما حكاه أبو حامد عن القديم]، فيجب الدم إذا كان أجيراً [من قبل شخصين، استأجره أحدهما للعمرة، والآخر للحج، أو كان أجيرًا] للعمرة، فاعتمر للمستأجر ثم حج عن نفسه، أو كان أجيراً للحج، فاعتمر لنفسه، ثم حج عن المستأجر؛ وعلى هذا يكون نصف دم التمتع على من يقع له الحج، ونصفه على من تقع عنه العمرة.

قال الرافعي: وليس هذا الكلام على هذا الإطلاق، بل هو محمول على تفصيل ذكره صاحب "التهذيب":

أما [فى] الأولى، فقال: إن أذنا في التمتع، فالدم عليهما نصفان، وإن لم يأذنا، فعلى الأجير وقياسه: إن أذن أحدهما دون الآخر، فالنصف على الآذن، والنصف على الأجير

ص: 101

وأما في الثانية والثالثة، فقال: إن أذن له المستأجر في التمتع، فالدم عليهما نصفان، وإلا فالكل على الأجير.

قال الرافعي: وننبه هاهنا لأمور:

أحدها: أن إيجاب الدم على المستأجرين أو أحدهما مفرع على الأصح في أن دم القران والتمتع على المستأجر، وإلا فهو على الأجير بكل حال.

الثاني: إذا لم يأذن المستأجران أو أحدهما في الصورة الأولى، والمستأجر في الصورة الثانية والثالثة، وكان ميقات البلد معيناً فى الإجارة، أو نزلنا المطلق عليه - فيلزمه مع دم التمتع دم الإساءة؛ كمن جاوز [الميقات مريداً للنسك].

والثالث: إذا أوجبنا الدم على المتأجرين، فلو كانا معسرين [أو أحدهما] فعلى كل واحد منهما صوم خمسة أيام، لكن صوم التمتع بعضه في الحج وبعضه بعد الرجوع، وهما لم يباشرا الحج، فعلى قياس ما ذكره في "التهذيب"- تفريعاً على قولنا: إن دم القران والتمتع على المستأجر - يكون الصوم على الأجير، وعلى قياس ما ذكره صاحب "التتمة" ثم هو كما لو عجز المتمتع عن الصوم والهدي جميعاً.

ويجوز أن يكون الحكم على ما سيأتي في المتمتع إذا لم يصم في الحج كيف يقضي؟ فإذا أوجبنا التفريق، اقتضى تفريق الخمسة بنسبة الثلاثة والسبعة إلى تبعيض القسمين، فيكملان، ويصوم كل واحد منهما ستة أيام، وقس على هذا ما إذا أوجبنا الدم في الصورتين الأخيرتين [على الأجير] والمستأجر.

وإن فرعنا على وجه الخضري، فإذا اعتمر عن المستأجر، ثم حج عن نفسه، ففي كونه مسيئًا الخلاف الذي مر فيما إذا اعتمر قبل أشهر الحج، ثم حج من مكة، لكن الأصح هاهنا: أنه مسيء؛ لإمكان الإحرام الحج حين حضر الميقات.

قلت: وهذا فيه نظر إذا كانت الإجارة واردة على عينه.

قال الإمام: فإن لم يلزم الدم، ففوات هذا الشرط لا يؤثر إلا في فضيلة التمتع على

ص: 102

قولنا: إنه أفضل عن الإفراد، وإن ألزمناه فله أثران:

هذا أحدهما.

والثاني: أن المتمتع لا يجب عليه العود إلى الميقات، وإذا عاد وأحرم منه، سقط عنه الدم بلا خلاف، والمسيء يلزمه العود، وإذا عاد، ففي سقوط الدم عنه خلاف. وأيضاً: فإن الدمين يتفأوتان في البدل.

الأمر الثالث: أن يبقي حياً إلى انقضاء الحج، فلو مات قبل انقضاء الحج مع قدرته على الهدي فقولان حكاهما [الإمام] والماوردي:

أحدهما: تخرج الشاة من تركته.

والثاني: تتبين أنها لم تجب عليه؛ لأنها كفارة في مقابلة تمتع، وإنما ينتفع المتمتع إذا تم له النسكان على رفاهية وربج [سفر]، فإذا مات لم يتحقق ذلك، وهو بعيد. والأصح: الأ هنأول.

قال: والأفضل أن يذبج دم [التمتع والقران] يوم النحر؛ ليخرج من خلاف أبي حنيفة، فإن عنده اختصاص دم التمتع بيوم النحر، [ودم القران] فرعه، وقد استدل لذلك بقوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وقد أجمعنا على أنه إذا نحر الهدي قبل يوم النحر: أنه لم يجز أن يحلق رأسه؛ فدل أن محل الهدي يوم النحر.

ودليلنا على جواز الذبح قبله: أنه وافقنا على جواز الصوم بعد الإحرام [بالحج] إذا لم يجد الهدي، وإذا جاز فعل البدل في وقت الوجوب مع ضعفه، فلأن يجوز فعل الأصل في وقت الوجوب إذا قدر عليه مع [قوته أولى] ويشهد لذلك: أن المكلف [إذا وجبت] عليه الصلاة وعدم الماء، صح تيممه، ولو وجد الماء في ذلك الوقت، توضأ به، وصح وضوءه.

واحترزنا بقولنا: وقدر عليه، عما إذا وجب عليه الصيام في كفارة الظهار لعدم الرقبة، ولم يستطعه؛ فأطعم؛ فإن الإطعام بدل الصيام، ويجوز فعله بالليل [ولا يجوز

ص: 103

الصوم بالليل].

والجواب عن الآية: أنها واردة في حق المحصر، دون المتمتع ونحن كذلك في المحصر نقول: لا يحلق رأسه قبل التحريم، [و] لو سلمت من هذا، لحملناها على الاستحباب.

قال: فإن ذبح المتمتع بعد الفراغ من العمرة - أي: وقبل الإحرام بالحج - والقارن بعد الإحرام بالحج - أي: في صورة إدخال الحج على العمرة - جاز على ظاهر المذهب، أي: المنصوص في "الإملاء"، و"حرملة"، و"المختصر"؛ لأن الحق المالي إذا تعلق بيبين جاز تقديمه على أحدهما، وهو الشطر، أصله: الزكاة، وكفارة اليمين، وهذا كذلك؛ لأنه يجب بأربعة أشياء، وبكمال العمرة وجد منها شيئان: كونه من غير حاضري المسجد الحرام، وفعل العمرة في أشهر الحج؛ فجاز تقديم الدم، وهذا هو الصحيح في الطرق.

وقيل: لا يجوز دم التمتع حتى يفرغ من العمرة، ويحرم بالحج؛ لأن ذلك وقت الوجوب، [والذبح قربة متعلقة بالبدن؛ فلا يجوز قبل الوجوب] كالصلاة والصوم، ويخالف الزكاة وكفارة اليمين؛ لأن الاسم متحقق قبل الحول [والحنث] واسم التمتع لا يتحقق إلا بالحج. وهذا ما نقله ابن خيران قولاً ثانياً في المسألة، كما حكاه الماوردي، وقال القاضي الحسين: إنه من تخريج ابن سريج، وأنه قال: معنى كونها متعلقة بالبدن: أنها تؤدى بالذبح، ولا يتأتى ذلك إلا في بدن.

قال القاضي: وهو فاسد؛ لأن العتق - أيضاً - في الكفارة لا يتأتى إلا ببدن، ولا يعد من القرب البدنية حتى لا يجوز تقديمه على بعض الأسباب، وكذا في زكاة السوائم.

قال القاضي: وتخالف هذه المسألة - على هذا القول- ما إذا أخرج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل الزهوق، فإنه يجوز قولاً واحداً؛ لأن الجرح يفضي إلى الهلاك من غير صنع من الجارح، بخلاف فعل العمرة؛ فإنه لا يفضي إلى الإحرام بالحج بنفسه.

وقد تحصل مما ذكرناه: أنه لا خلاف عندنا في جواز ذبح دم القران بعد

ص: 104

الإحرام بالحج، وفي جواز دم [التمتع بعد] الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج الخلاف السابق. وإذا كان الأحسن كذلك، كان الأحسن فى الإيراد أن يذكر مسألة القران أولا، ويعقبها بمسألة التمتع؛ ليعود الخلاف إلى أقرب مذكور، لكن الحامل للشيخ على تقديم مسألة التمتع [أنها الأصل].

ولو ذبح دم التمتع بعد الشروع في العمرة، وقبل الفراغ منها - فالذي أورده العراقيون والماوردي: عدم الإجراء، وأن مذهب الشافعي رضي الله عنه لا يختلف فيه.

قال الماوردي: لبقاء أكثر الأسباب.

وقال في "الوسيط": إذا قلنا بظاهر المذهب، ففي الإجراء في هذه الصورة وجهان منشؤهما: أن السبب الأول يتم بإحرام العمرة أو بتمامها؟

وفي "البحر" نسيتهما إلى القفال، وشبههما القاضي الحسين بما إذا قال لزوجته: إن دخلت الدار، فأنت عليَّ كظهر أمي، ثم أخرج الكفارة قبل انعقاد الظهار بدخولها الدار- فإن في الإجراء وجهين.

قال: فإن لم يجد، أي: المتمع والقارن؛ كما قال في "المهذب"- الهدي، أي: في موضعه، صام ثلاثة أيام في الحج؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وأراد فصيام ثلاثة أيام واجب في وقت أفعال الحج؛ لأن الحج أفعال، فلا يجوز أيضاًع الصيام فيها، ولا يجوز أن يكون التقديرت فصيام ثلاثة أيام في وقت الإحرام بالحج؛ لأنه لو كان كذلك، لاقتضى جواز الصيام قبل الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، ولا قائل به، وإذا ثبت أن هذا المراد بالآية، اقتضى ألا يجوز صوم الثلاثة قبل الشروع في الحج؛ لأنه عبادة بدنية، والعبادات البدنية لا تقدم على وقتها، وألا يجوز [تأخير ولا بعضه] عن الحج بغير عذر؛ كما لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، وقد صرح به الشافعي رضي الله عنه حيث قال:"وعليه ألا يخرج من الحج حتى يصوم إذا لم يجد هدياً، وأن يكون آخر ما له من الأيام في آخر صيامه يوم عرفة"؛ ولهذا قال الأصحاب: إن وقت الأداء يخرج بمضي يوم عرفة،

ص: 105

على الجديد، وبمضي أيام التشريق، على القديم.

وإذا لم يصم حتى خرج الوقت، فعن ابن سريج رواية قول: أنه لا يقضي، ويستقر الهدي في ذمته.

قال الإمام: ويسقط صيام الأيام السبعة على هذا؛ فإنه يستحيل تقدير الدم وهو الأصل مع شيء من البدل.

وإنه مما يجب التنبه له [أنا لا نوجب على المتمتع أن يصوم في الحج؛ فإنه مسافر، ونحن نسقط أداء صوم رمضان وهو ركن الإسلام بالسفر، فما الظن بصيام الكفارة؟! وحاصل القول فيه يرجع إلى أن الأصل الدم على هذا القول، فإن لم يجده، ورام إسقاطه عن ذمته بالكلية، فليصم ثلاثة أيام في الحج، وإن لم يصم فلا يقضي، ولكن يستقر الدم في ذمته على العسر واليسر؛ هذا حقيقة هذا القول، وهو غير معدود من المذهب، وقد حكى ابن الصباغ والقاضي الحسين؛ أن ابن سريج خرجه من [قولين للشافعي]رضي الله عنه نص عليهما؛ كما قال البندنيجي، في "الأم" فيما إذا أحرم المتمتع بالحج، ولم يجد الهدي، ومات قبل التمكن من الصوم:

أحدهما: أنه لا شيء عليه.

والثاني - وهو الأصح في "النهاية"-: أنه يُهْدَى عنه، ومنه خرج.

قال البندنيجي: و [الأول]: هو المذهب. وقال ابن المباع: [وهو] الصحيح. وفي "الحاوي" و"تعليق" أبي الطيب: أن أبا إسحاق هو المنعرج له، وغلط فيه، والذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في عامة كتبه: أنه يلزمه القضاء، وإذا قضاها لا يلزمه دم.

وحكى القاضي الحسين: أن من أصحابنا من قال: إذا لم يصمها حتى دخل يوم النحر، فعليه أن يؤخر طواف الإفاضة حتى يصومها، ثم يأتي به؛ ليقع صوم الثلاثة في الحج؛ لأنه إذا لم يكن قد طاف فعليه بعض الأعمال بعد.

وقال الصيدلاني: إن صوم الثلاثة بعد أيام التشريق لا يكون أداء وإن بقي الطواف؛

ص: 106

لأن تأخيره عن أيام التشريق مما يبعد ويندر؛ فلا يقع مراداً من قوله تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، بل هو محمول على الغالب المعتاد.

قال الإمام: ويخالف هذا الصوم [أيام] التشريق إذا قلنا: يصح صومها؛ حيث يقع أداء وإن وقع بعد التحلل الثاني؛ فإن المفهوم من القرآن [تقييد] صوم الثلاثة [فى] أيام الحج، وهي مضبوطة، وأيام التشريق ملحقة بأيام الحج على بعد، وقد استحب الأصحاب له إذا لم يجد الهدي أن يحرم الحج قبل اليوم السادس من ذي الحجة؛ ليصوم الثلاثة، ويفطر يوم عرفة؛ [فإن صيامه مكروه. وإن كان واجداً للهدي، فالمستحب له أن يحرم يوم التروية] بعد الزوال متوجهاً إلى منى؛ لقوله عليه السلام – "إذا توجهتم إلى منى، فأهلوا بالحج".

والمراد بوجدان الهدي؛ أن يكون معه، [أو ثمنه وهو قادر] على شرائه؛ فلو كان معه الثمن، ولم يقدر على شرائه، فهو فاقد، وكذا لو كان ماله غائباً ببلده ولو كان معه لقدر على الشراء، فهو فاقد أيضاً.

قال القاضي أبو الطيب وغيره: ولا يجوز له تأخير الصوم عند الفقد ليحصل الهدي؛ كما لا يجوز تأخير الصلاة إذا وجبت وقدر على التيمم إلى أن يجد الماء. نعم، لو قدر على الهدي بعد الوجوب وقبل الشروع في الصوم، فهل يتعين الهدي أو يجوز له العدول إلى الصوم فيه قولان؛ بناء على أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب أو بحال الأداء، وهما جاريان فيما لو كان في وقت الوجوب قادراً على الهدي، ثم عجز عنه في الحج. والقول الثالث في أن الاعتبار في الكفارات يأغلظ الحالين جار هنا، صرح به القاضي أبو الطيب والمصنف وغيرهما.

ولو قدر على الهدي بعد الشروع في الصوم، لم يلزمه الانتقال إليه، خلافاً للمزني؛ كما إذا وجد الماء بعد الشروع في الصلاة بالتيمم، وبالقياس على ما لو وجده وقد شرع في السبعة.

وبجوز صيام الأيام الثلاثة [متفرقاً ومتتابعاً] وكذا الأيام السبعة؛ كما ذكره

ص: 107

القاضي الحسين، ولم يحك غيره، وكذا الإمام.

وفي "الحاوي" حكاية وجهين في وجوب التتابع فيه فيهما؛ كما في وجوب التتابع في الصيام في كفارة اليمين.

قال: وسبعة إذا رجع إلى أهله في أصح القولين؛ لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]، أي: إلى أهليكم؛ يدل عليه ما روى مسلم عن ابن عمر أن الناس تمتعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى، فاق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس:[من كان] منكم [قد] أهدى، فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم [قد] أهدى، فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج، وليهد، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله".

ولأن حقيقة الرجوع إنما تكون إلى الأهل والوطن؛ فحملت الآية عليه، وإذا كان هذا معنى الآية، اتبعناه، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب والماوردي عن نصه في "الأم" و"المختصر".

وفي "تعليق" البندنيجي عوضه: أنه يصومها إذا رجع إلى موضع استيطانه، وعزاه إلى نصه في "حرملة"، ثم قال: وعلى هذا، فالمراد بموضع الاستيطان: الذي عزم على الاستيطان فيه، سواء كان البلد الذي خرج منه أو غيره، حتى لو أقام بمكة، كانت وطنه وصامها بها.

قال: وإذا فرغ من الحج في القول الآخر لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]، أي: عن أفعال الحج؛ لأنه المذكور في الآية؛ فوجب أن يكون المراد بالرجوع رجوعاً عن الحج، أي: عن أفعاله.

ص: 108

ولأنه لو كان الرجوع إلى الأهل والوطن شرطاً في جواز هذا الصوم، لوجب إذا نوى المقام بمكة ألا يجزئه [الصيام بها]، وفي إجماعهم على جواز صيامه فيها إذا نوى المقام بها دليل على أن الرجوع [إلى الأهل] ليس بشرط؛ وهذا ما فسر به البغداديون قول الشافعي في "الإملاء":"إنه يصومها إذا رجع من حجه بعد كمال مناسكه".

وعلى [حكايته هكذا] جرى القاضي أبو الطيب والحسين والإمام.

وصار البصريون إلى أن ما حكيناه عن نصه في "الإملاء" المراد به: الأخذ في الخروج من مكة راجعاً إلى بلده؛ لأن ابتداء الرجوع هو ابتداء السير، وعلى حكاية هذا جرى الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمصنف في "المهذب"، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أقوال.

وحكى الإمام عن بعض التصانيف قولاً آخر: أن المراد: الرجوع إلى مكة، وأن هذا لا أصل له في مذهب الشافعي، وإنما هو قول بعض السلف.

قلت: وكأنه يشير إلى "الإبانة"؛ لأن ذلك عادته في إسناد الفل إليها، لكن المذكور في "الإبانة" في التعبير عن هذا القول: أن له أن يصوم بعد الرجوع إلى مكة حتى يفرغ من الحج؛ لأنه لما قال: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] فالظاهرة من هذا الرجوع هو الرجوع بعد الفرع؛ كما يقال: إذا رجعت من أمر كذا، فافعل كذا؛ فظاهره: إذا فرغ منه. وإذا كان كذلك؛ فهو كقول البغداديين، لا غيره، والله أعلم.

التفريع:

إن قلنا بالقول الصحيح، قال الماوردي: فينبغي أن يصومها عقيب رجوعه، فإن آخر صيامها كان مسيئاً، وأجزأه، وإن صامها قبل وصوله إلى الوطن، لم يجزئه لما تقدم أن تقديم العبادة البدنية على وقتها لا يصح، وهذا ما قطع به العراقيون.

وحكى القاضي الحسين عن صاحب "التقريب" أنه إذا صامها في الطريق،

ص: 109

أجزأته؛ لأن المسافر جوز له تأخير الصوم، ولو صام في السفر جاز؛ كذلك هذا. قال القاضى: وهذا لا يقوى؛ لأن وقت صوم رمضان قد دخل بإهلال الهلال غير أنه رخص للمسافر في الفطر؛ لما يلحقه من المشقة، فإذا صامه فقد صام في الوقت، ولا كذلك هاهنا؛ فإذ الوقت إنما يدخل بوصوله إلى الوطن.

وإن قلنا بالقول الذي نص عليه في "الإملاء" - أما على تفسير البغداديين أو البصريين - فلو صام قبل ذلك لم يجزئه، وهل يستحب له تأخير الصوم إلى أن يرجع إلى الوطن؟ فيه قولان حكاهما العراقيون والقاضي الحسين:

أحدهما: لا؛ لأن فعل العبادة في أول وقت وجوبها أحوط لبراءة الذمة، وهذا [ما] أورده الماوردي وقال: إنه يكون مسيئاً بالتأخير، [وعلى هذا فيطلب الفرق يين هذه المسألة، وبين [تأخير]] ذبح الدم إلى يوم النحر.

وأصحهما: نعم؛ خروجاً عن الخلاف. قال القاضي الحسين: وعلى هذا هل يكون التأخير ليرجع إلى أهله، فيصوم إذ ذاك عذراً؛ حتى إذا مات قبل [ذلك] لا يجب في تركته شيء أو لا؟ فيه وجهان؛ بناء على ما إذا أخر دفع الزكاة إلى المساكين ليدفعها إلى الإمام، فلم يتفق الدفع إلى الإمام حتى تلف المال، هل يضمن؟ فيه وجهان، [وجه المنع:] أنه فعل [ما ندبناه إليه؛ فلا يضمن ما تولد منه.

قلت: ويظهر مجيء الوجهين فيما إذا أخر ذبح الدم ليوم النحر].

وعلى القولين: لو أراد أن يوقع بعض الأيام السبعة في أيام التشريق، لم يجز وإن حكمنا بأنها قابلة للصوم:[أما على القول الصحيح فظاهر]، وأما على القول الذي نص عليه في "الإملاء"؛ فلأنه بعد في أفعال الحج وإن حصل التحلل، وهذا ما أورده الرافعي، وحكاه الإمام عن شيخه، وأنه وجهه بأنه لا يصح [من الحاج الإحرام] بالعمرة ما دام عاكفاً على مناسك [منى].

ص: 110

قلت: ومن هذا يؤخذ أن محل ما ذكره إذا كان عاكفاً [بمنى]، الرمي لأجل الرمي، أما إذا تعجل في يومين، فيظهر صحة صومه لليوم الثالث من أيام التشريق عن أحد الأيام السبعة؛ تفريعاً على أن المراد بالرجوع: الفراغ من الحج، وصحة صوم أيام التشريق؛ لانتفاء المعنى المذكور، كما صح أن يعتمر فيه المتعجل، وسنذكر من كلام البندنيجى ما يقتضى أن بعض الأصحاب جوز صومها من السبعة.

فروع:

أحدها: إذا لم يخرج الدم حش مات، نظر:

فإن مات في أثناء الحج، فقد قدمت حكاية قولين في أنه يقضى من تركته إذا كان موسراً أم لا، والأصح: القضاء.

وإن مات بعد الفراغ من الحج، وهو موسر - أيضاً- فلا خلاف أنه يخرج من تركته.

الثاني: إذا كان واجبه الصوم لإعساره، فلم يصم الأيام الثلاثة حتى رجع إلى وطنه، وقلنا: يقضيها - فهل يستحب له أن يفرق يين صوم الثلاثة [والسبعة]، أو يجب عليه؟ فيه قولان:

أحدهما: أنه يستحب، ويجوز له التتابع؛ لأن التفريق في الأداء كان لأجل الوقت، وقد فات، فأشبه قضاء الصلوات؛ وهذا قاله من اعتقد أن التفريق في الأداء يتعين، وإلا فقد يتصور في الأداء جواز التتابع، وهو إذا فرعنا على أن صوم أيام التشريق يجوز للمتمتع، وأن المراد بالرجوع: الفراغ من الحج، وإذا تصور ذلك في الأداء، فالقضاء أولى، وقد صرح بما أشرت إليه الأصحاب.

والثاني: أنه يجب التفريق.

قال الإمام: وهو في نهاية الضعف، ولا وجه [له].

وفي ["تعليق" القاضي]، أبي الطيب؛ أنه الأظهر، وقال البندنيجي: إنه المنصوص. ولأجله قال في "المهذب": إنه المذهب.

ص: 111

قالوا: ويخالف ما إذا كان عليه صلاة الظهر [وقضاء] العصر، حيث لا يجب أن يفرق بينهما؛ [لأنه لما سقط الترتيب بينهما،] وجاز له أن يقضي العصر أولاً ثم الظهر بعده؛ كذلك سقط التفريق بينهما في الزمان؛ وفي مسألتنا مراعاة الترتيب شرط في القضاء كما في الأداء؛ فكذلك وجوب التفريق، وعلى هذا قال في "المهذب": فيفرق بينهما بقدر ما وجب التفريق بينهما في الأداء، ويجيء بمقتضى هذا في قدره خمسة أوجه، وقد صرح بها الأصحاب:

أحدها: ييوم واحد، عزاه الماوردي إلى الإصطخري.

وقال ابن الصباغ والبندنيجي: إنه الذي نص عليه في "الإملاء" وغيره من تخريج الأصحاب، وإن الأصحاب اختلفوا في النص:

فمنعهم من قال: إنه بناه على أنه يجوز صيام أيام التشريق عن كل صوم له سبب، والسبعة صوم له سبب؛ فيجوز في الأداء أن يفصل بينهما بيوم النحر؛ فكذلك [في] القضاء يفصل بيوم.

قالا: وهذا سهو منه؛ فإن السبعة لا تصام في أيام التشريق، قال البنديحي: قولاً واحداً، وقال ابن الصباغ؛ بالإجماع؛ لأنه إنما يجوز بعد الفراغ من أفعال الحج، على أحد المذهبين، وفي أيام التشريق يفعل بقية أفعال الحج، وإنما نص عليه؛ لأنه أصل في نفسه؛ فكأنه قال: إذا لم يكن من التفريق بد، فأقله يوم؛ وهذا ما أورده الإمام في حكاية هذا الوجه.

وقال المسعودي: إنه مبني على جواز صوم [أيام] التشريق، وأن الرجوع المراد به؛ الرجوع إلى مكة؛ لأنه يجعل كأنه صام أيام التشريق، وأفطر يوم الرجوع.

وقال القاضي الحسين: إن بعضهم بناه على أن صوم أيام التشريق جائز، وأن المراد بالرجوع الفراغ من الحج، فإن مقتضى ذلك ألا يجب التفريق في القضاء، وقد قام الدليل على ساق التفريق، فتفرق بيوم.

والثاني: يفرق بأربعة أيام، بناء على أن صوم أيام التشريق لا يجوز، [وأن]

ص: 112

المراد الرجوع: [الفراغ من الحج.

والثالث - حكاه المسعودي- أنه يفرق بخمسة أيام؛ [وهو] بناء على أنه لا يصح صوم أيام التشريق، وأن المراد بالرجوع]؛ الرجوع إلى مكة؛ [فيجعل كما قال: كأنه صام ثلاثة [أيام] آخرها يوم عرفة، ثم أفطر العيد وأيام التشريق، ويوم الرجوع إلى مكة].

والرابع: يفرق بقدر مدة رجوعه إلى بلده؛ وهو بناء على صحة صيام أيام التشريق، والمراد بالرجوع: رجوعه إلى بلده؛ لأنه يمكنه صوم أيام التشريق، ثم يشتغل بالرجوع.

والخامس: يفرق بقدر مدة رجوعه إلى بلده وأربعة أيام؛ بناء على أنه لا يصوم أيام التشريق، والمراد بالرجوع: الرجوع إلى الوطن؛ إذ يمكنه في الأداء أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر العيد وأيام التشريق، ويشتغل بالرجوع إلى الأهل؛ وهذا هو الصحيح بمقتضى ما ذكرناه بمن البناء على الأصلين المذكورين، [وقد اختاره في "المرشد"].

قلت: ويجيء وجه سادس: أنه يفرق بثلاثة أيام؛ بناء على أنه يجوز صوم أيام التشريق عن كل صوم له سبب غير التمتع، وأن المراد بالرجوع؛ الفراغ من الحج، وأن صوم اليوم الثالث من أيام التشريق يصح عن السبعة إذا كان قد تعجل في يومين، كما أبديته تخريجاً من كلام الشيخ أيي محمد.

وسابع: أنه يفرق يثلاثة أيام وقدر مسافة رجوعه إلى بلده؛ [بناء] على الاحتمال المذكور، وأن المراد بالرجوع: الرجوع إلى أهله ووطنه. وهذا ذكرته بناء على ما ذكره الأصحاب وجهاً رابعاً في المسألة كما ذكرته، وإلا فقد حكي [عن] العمراني أنه قال عقيب ذكر الأصحاب الوجه الرابع: ينبغي أن يقال على هذا: إنه يجب أن يفرق بيتهما بقدر مسافة السفر إلى وطنه إلا يوماً وشيئًا؛ لأنه كان يمكنه

ص: 113

في الأداء أن يصوم الثلاثة في أيام التشريق، ويبتدئ بالسير إلى وطنه بعد الرمي والطواف في اليوم الثاني [من أيام التشريق فتحسب بقية اليوم الثاني] والثالث من أيام التشريق من مدة السفر إلى وطنه، وهو فيها صائم عن الثلاثة. وهذا إن صح اقتضى أن ينقص من الأيام الثلاثة ومدة مسيره قدر ما بقي من اليوم الثاني من أيام التشريق بعد طوافه ورميه فيه، و [قد] حكي عنه ما ذكرته أولاً، والله أعلم.

وإذا عرفت ما ذكرناه، عرفت أنه إذا فرق في الصوم بأربعة أيام، وقدر مدة رجوعه إلى بلده، أجزأه وفاقاً.

وإن صام العشرة متوالية، أجزأه منها ثلاثة عن الثلاثة، وسقط من الباقي ما وجب التفريق به على حسب الأوجه السابقة [وكان فيه صائما تطوعًا؛ كما أشار إليه الماوردي في ضمن سؤال أورده، وصرح به ابن الصباغ وغيره.

وكان يتجه أن يتخرج على الخلاف فيما إذا أحرم بالظهر قبل الزوال، هل ينعقد نفلاً]؟

ثم إن لم يبق من السبعة بعده شيء، استأنف السبعة، وإن بقي منها شيء: إما ستة أيام [إن قلنا: إنه] يكفي التفرقة بيوم، أو ثلاثة [إذا قيل: إنه بفرق بينهما]، بأربعة أيام، أو أقل من ذلك؛ على حسب ما يقتضيه الحال - نظر في حاله: فإن كان بعد فراغ العشرة لم يفطر، احتسب له بما بقي من السبعة بعد التفرقة، ووجب عليه أن يتم صيام ما بقي من السبعة.

وإن كان قد أفطر فهل يحتسب له بصيام ما مضى من السبعة بعد التفرقة؟ فيه وجهان ينبنيان على وجوب التتابع فيها، فإن لم نوجبه، احتسب له به، وإلا فلا.

وقال الإصطخري: إن نوى التتابع [بعد صيام الثلاثة، أجزأته الثلاثة، وكان الكلام في السبعة على ما مضى، وإن نوى التتابع]- أي: في صيام العشرة - في صيام

ص: 114

الثلاثة، عند دخوله فيها، لم يجزئه الثلاثة ولا السبعة، ولزمه استئناف الجميع، ويكون فساد نيته قادحًا فى صومه.

قال الماوردي: وهذا غلط فاحش؛ لأن تفريق الصوم ومتابعته إنما يكون بالفعل لا بالنية، فلو فرق صيامه، ولم ينو كان مفرقاً، ولو تابع ولم ينو كان متابعاً، وإذا لم تكن النية شرطاً في صحة التفريق، لم تكن نية المتابعة قادحة في صحة الصوم مع وجود التفرقة. ولأن طروء الفساد على صوم بعض الأيام لا يقتضي فساد الصوم في غيره من الأيام، كصوم رمضان إذا أفطر بعضه؛ لأن لكل يوم حكم نفسه، وإذا كان كذلك، لم يكن فساد صوم السبعة قادحاً في صحة صوم الثلاثة، وهذا ما ذكره الشافعي رضي الله عنه – وجمهور أصحايه0

وعن صاحب "التقريب" والفوراني؛ أن بعض أصحابنا قال: إنه لا يصح له صوم شيء من السبعة وإن قلنا: يكفي التفريق بيوم.

قال الإمام؛ [و] كأنه يعتقد أن التفريق إذا لم يقع يفطر يعتد بشيء من السبعة.

وقال القاضي الحسين: إنه وجهه بأنه صام كل يوم منها على اعتقاد يوم آخر؛ فإنه صام الخامس على أنه ثاني السبعة، وهو أولها، والسادس على أنه ثالث السبعة وهو ثانيها، وهكذا، وإنه نظر ذلك بما إذا ترك الجلوس بين السجدتين، ثم جلس عقيب الثانية [بنية] الاستراحة، هل يجزئه عن الجلسة بين السجدتين؟ وكذا [فيما] إذا ترك لمعة من الوجه في المرة الأولى، وانغسلت في الثانية، هل يجزئه؟ وفيهما وجهان.

قلت: وهذا ليس النظير، بل النظير إذا ترك سجدة عن الأولى؛ فإنها تجبر بسجدة من الثانية وإن اعتقد أنها من الثانية.

وقد ظهر لك مما ذكرناه: أن ما اشترطنا التفريق به، لا يشترط أن يكون [فيه]

ص: 115

مفطراً، بل يجوز أن يكون فيه صائماً عن غير التمتع: قضاء كان أو تطوعاً، وقد صرح به الإمام وغيره، وادعوا اتفاق الأصحاب عليه.

الفرع الثالث: إذا لم يصم حتى مات بعد الوجوب، فإن كان بعد التمكن ولا عذر، فقد حكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وبعض التصاتيف – نصاً للشافعي رضي الله عنه أنه لا يجب شيء إذا مات: لا فدية، ولا صيام الولي، وتوجيه عدم صيام الولي ظاهر، وأما توجيه عدم الفدية؛ فلأنها إنما تثبت في صوم رمضان؛ كما أن الكفارة إنما وجبت بسبب إفساد الصوم فيه؛ فالفدية هي الكفارة الصغرى؛ فلا يعدى بها موضعها؛ اعتباراً بالكفارة العظمى.

والمشهور - وبه جزم المعظم-: الوجوب، وعلى هذا، فما هو الواجب؟ فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: يصوم عنه الولي.

والثاني: يطعم عنه لكل يوم مد من طعام، وهو الذي أورده البندنيجي، ويتصور ذلك بما إذا كان عاجزاً عن الهدي في موضعه واجداً له في بلده، أو وجده بثمن غال، أو لم يجده أصلاً، وعلى هذا فهل يختص به فقراء الحرم أو يجوز صرفه لغيرهم؟ فيه وجهان، وقيل قولان، أشبههما: الثاني.

والقول الثالث - حكاه الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وغيره-: أنا نرجع إلى الدم فنوجب دم شاة في تركته؛ فإنه أولى وأقرب في [هذا] الصوم من الأمداد؛ فيجب في مقابلة الأيام العشرة دم شاة، وأن العراقيين ذكروا قولاً راجعًا إلى هذا.

وحكمه إذا مات وقد بقي عليه بعض الصوم، كما إذا مات ولم يصم إلا على القول الأخير؛ فإن العراقيين قالوا: إنه يجب عليه [تفريغا عليه]- في اليوم ثلث شاة، وفي اليومين ثلثا شاة، [وفي ثلاثة] فصاعداً إلى تمام العشرة شاة؛ تنزيلاً للأيام منزلة الشعرات التي يأخذها المحرم من نفسه، [وعزوا ذلك إلى النص]،

ص: 116

وكذلك عدد الأظفار وأعداد رمى الجمرات.

وفي "الشامل" -[بعد حكاية قوله: إنه يجب التصدق عن كل يوم بمد]-: أن أبا إسحاق قال في "الشرح": إن قوله "يتصدق [بمد" أولى من قوله يتصدق] بدرهم، أو ثلث شاة"، فأومأ إلى أن في ذلك ثلاثة أقأويل، وهذه الأقاويل قال أصحابنا: إنما هي في إتلاف الشعر، والظفر، ورمي الجمار، وليست هاهنا، وكذلك قال القاضي الحسين، وزاد إلى الصور الثلاثة صورة رابعة، وهي إذا ترك البيتوتة بمنى ليلة أو ليلتين.

وإن كان لم يصم لعدم تمكنه منه، فقد حكينا عن "الأم" قولين:

أحدهما: [أنه] يُهْدَى عنه، ويجيء قول ثان: أنه يصوم عنه الولي، وثالث: أنه يخرج عنه دم شاة؛ أخذاً مما تقدم.

والثاني - وهو المذهب في "تعليق" البندنيجي، [والصحيح في غيره-: أنه لا يجب شيء؛ كما في صوم رمضان إذا مات قبل التمكن منه، وقد جزم به البندنيجي] في موضع آخر، فقال: إن كان [ترك] الصوم؛ لعدم قدرته عليه، سقط. وعبارة القاضي أبي الطيب: إن كان قد ترك الصوم بعذر سقط. وبين العبارتين فرق؛ لأن الثانية تفهم السقوط إذا كان الترك بسبب مرض يطيق معه الصوم، أو سفر، دون العبارة الأولى؛ وعلى الثانية ينطبق قول الإمام: إذا انتهى المتمتع إلى وطنه، ومات، فلا يلزمه شيء وإن حكمنا بأن الرجوع هو الفراغ من الحج؛ لأن السفر من الأعذار التي يجوز ترك صوم رمضان لأجله، ولو دام السفر إلى الموت، وقد اتفق ترك صوم رمضان فيه، فلا شيء على الذي مات، ودوام السفر بمثابة دوام المرض، فصيام الأيام الثلاثة وإن كان ثابتاً على الغرباء، فلا يزيد تأكده على تأكد صوم رمضان أداء واستدراكًا.

فإن قلت: هذا من الإمام مخالف لظاهر قول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ

ص: 117

فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وقول الشافعي في "المختصر":"وعليه ألا يخرج من الحج حتى يصوم إذا لم يجد هدياً".

قلت: من حأول الجمع بين ذلك وبين كلام الإمام، حمل نص الكتاب و"المختصر" على الحاج الذي انقطعت عنه رخص السفر؛ عملاً بما ورد من جواز الفطر بسبب السفر، والله سبحانه أعلم بالصواب.

* * *

ص: 118