الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب كفارة الإحرام
إذا تطيب أو لبس - أي: ما يحرم لبسه بسبب الإحرام - أو باشر فيما دون الفرج بشهوة أو دهن رأسه، أو حلق ثلاث شعرات، أي: في دفعة واحدة من شعر مضمون عليه بالجزاء، أو قلم ثلاثة أظفار - أي بالشرط الذي ذكرناه - بعذر كان جميع ذلك أو بغير عذر: لزمه دم، وهو مخيَّر بين أن يذبح شاة - أي: تجزئ في الأضحية - وبين أن يطعم ثلاثة آصعٍ: لكل مسكين نصف صاعٍ، وبين أن يصوم ثلاثة أيام.
[ثم] اعلم أن الدليل على وجوب الكفارة في هذا الأشياء قد تقدم في الباب قبله عند ذكر الشيخ لها، والمقصود الآن بيان ما هي الكفارة الواجبة في ذلك؟
وكونها على التخيير:
[ووجهه في حلق شعر الرأس بالعذر الآية المفسرة بحديث كعب بن عجرة؛ لأن تقديرها: ولا تحلقوا شعر رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله - لأن الرأس لا تحلق - فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه؛ فحلق، فعليه فدية.
والشعر جمع يصدق على ثلاث شعرات، فأوجبنا [بحلقها الفدية].
فإن قيل: هذا جمع قوبل بجمع؛ [فوجب] أن تتوزع الآحاد على الآحاد حتى نقتضي لكل واحد شعرة واحدة.
قيل هذا صحيح [فيما يتحد]، فأما فيما يتعدد فيقتضي عددًا لكل واحد من آحاد الجمع.
قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى آخرها، فحرّم على الرجل جميع أخوأنه ولا يختص التحريم بواحدة منهن؛ لما بيناه، فكذلك
فيما نحن فيه.
ووجهه في حالة عدم العذر؛ أن كل كفارة ثبت فيها التخيير إذا كان سببها مباحًا [ثبت فيها التخيير] إذا كان سببها محظورًا؛ ككفارة اليمين، وقتل الصيد.
ولأن الله – تعالى – أوجب الكفارة، [وأثبت الخيار في قتل الصيد متعمدًا، ونبّه بذلك على ثبوته في الحلق متعمدًا].
وأثبت الخيار في الحلق للعذر، ونبه بذلك على ثبوته في قتل الصيد فكان في كل واحدة من الاثنتين تنبيه على الأخرى.
ووجهه في الباقي في الحالين القياس على ما ذكرناه؛ لأنه في معناه.
وقد حكى الماوردي أن الشافعي – رضي الله عنه – نص في "الأم" على أن الآية دالة على ذلك – أيضاً – في ذم تقليم الأظفار، وترجيل الشعر، والطيب، واللباس، وتغطية رأس الرجل، ووجه [المرأة، ويكون] تقدير الآية: فمن كان منكم مريضًا فتطيب، أو لبس، أو أخذ ظفره، لأجل مرضه، أو كان به أذى من رأسه؛ فحلق – ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.
وفي "البحر" نسبة هذا القول إلى أبي إسحاق، والصحيح نسبته إلى الشافعي؛ فإن الإمام – أيضاً – عزاه إلى نصّه في "الإملاء"، وقال في توجيهه: إن الآية ليستْ ناصة على الحلق، وإنما هي مشتملة على دفع الأذى، وقد تقع برأس المحرم شجة؛ فيحتاج في دفع أذاها إلى الستر والحلق واستعمال دواء فيه طيب.
لكن المشهور أن الحكم فيما ذكرناه غير الحلق ثابت بالقياس كما ذكرناه، وقد حكاه في "الحاوي" وغيره عن نصه في "الإملاء"[و] أن ذلك ليس بداخل في لفظ الآية، وبه يحصل في الآية قولان له.
ثم ما ذكره الشيخ هو المنصوص عليه في الكتب الجديدة والقديمة كما قال في
البحر]. والمذكور في طريقة العراق، ووافقهم في كفارة حلق الشعر – [التي تسمى: كفارة الأذى، وسماها الشافعي – رضي الله عنه – في "الإملاء": فدية التعبد؛ لأن الشرع تعبد فيها بقدر الطعام وأعداد المساكين] – المراوزة للآية.
قال الرافعي: والقلم ملحق به بلا خلاف، وقالوا في كفارة المباشرة فيما دون الفرج بشهوة: إنها دم شاة، فإن لم يجد، تقوّم الشاة دراهم، والدراهم طعامًا بسعر مكة، فإن لم يكن، صام عن كل مد يومًا.
وإن فيه قولاً آخر: أنه يكون على التخيير، كذا أورده القاضي الحسين والإمام والغزالي، وهو يقتضي أن [يكون] الراجح عندهم الترتيب، [وبه صرح في "التهذيب".
وقالوا في كفارة الاستمتاع الذي ينفرد به، مثل: الطيب، واللباس، ونحوهما – قولان محكيان في "البحر" أيضاً:
أحدهما: أنها على الترتيب] وهو الذي ذكره في "الأوسط"، ونقله المزني.
والثاني: قاله في "الإملاء في المناسك"، و"الأوسط":"إنها" على التخيير.
وقال القاضي الحسين: إنهما ينبنيان على أن الطيب واللباس هل يتضمنها قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} الآية [البقرة: 184]، أو يتضمن الحلق فقط؟ وفيه قولان – أي: للشافعي – كما تقدم.
فإن قلنا: يتضمن الكل فهي على التخيير، وإلا فعلى الترتيب.
وعلى هذا إذا فقد الطعام وعدل إلى الصوم، ففيه وجهان:
أحدهما: صوم التعديل.
والثاني: صوم التمتع: عشرة أيام.
والماوردي جزم القول بأنها كفارة تخيير، لكنها تجري مجرى كفارة الحلق أو جزاء الصيد؟ فيه وجهان تظهر فائدتهما فيما إذا لم يخرج الدم.
ثم ما ذكرناه من تقييد كلام الشيخ بقولنا: "من شعر أو ظفر مضمون عليه بالفدية" احترزنا به عما إذا حلق ذلك من شعر حلال، أو صيد أو من شعر [نبت في عينه]، أو قلم ثلاثة أظفار [من] حلال، أو من أظفاره التي انكسرت -[فإنه] لا يجب عليه في ذلك شيء كما تقدم.
واعلم: أن الكفارة لا تتعدد بزيادة الشعر المحلوق، والأظفار المقلمة على ثلاثة مع اتحاد الزمان وتقاربه، بل إذا حلق جميع شعر رأسه وجده، أو قلم جميع أظفار يديه ورجليه على الولاء أو في دفعة واحدة، ويتصور ذلك بتعاطى الغير، ذلك بإذنه - كان الواجب كفارة واحدة؛ نص عليه، وقاسه الأصحاب على ما لو غطى رأسه ولبس القميص والخف، في مجلس واحد - فإنه لا يلزمه غير فدية واحدة.
وعن أبي القاسم الأنماطي: أنه يلزمه فيما إذا حلق شعر رأسه وبدنه فديتان؛ لأن شعر الرأس يخالف شعر البدن في الحكم؛ لأنه يتعلق النسك يحقه دون شعر البدن، [فكان كالطيب] واللباس ومما ذكره من العلة ينقطع إلحاق القلم به.
وحكى الفوراني وجها آخر فيما إذا أخذ ثلاث شعرات من ثلاثة مواضع من البدن مختلفة مع اتحاد المكان وتواصل الزمان؛ أنه يلزمه في كل شعرة ما يلزمه إذا اقتصر على حلقها كما سنذكره.
وهذا الوجه لا مايع من جريان مثله في تقليم الأظفار، لكنه ووجَه الأنماطي بعيدان.
تنييهان:
أحدهما: كلام الشيخ يفهم أن المباشرة فيما دون الفرج بغير شهوة لا توجب [الكفارة] وظني أني رأيته كذلك في كتب العراقيين، ويؤيده تقييدهم إيجاب الفدية يوجود الشهوة، سواء أنزل أو لم ينزل.
لكن الماوردي قال فيما إذا قبَّل زوجته بشهوة، وجبت الفدية، وإن قبلها وهو قاصد غير الشهوة: كما إذا قبّل زوجته عند قدومه، وقصد تحية القادم، ولا شهوة - فلا تجب.
وإن لم يكن له قصد أصلاً، لكن ظاهر الحال يدل على أنه لم يكن بشهوة: كما إذا قبلها عند القدوم، وهو غافل عن القصديْنِ، فهل تجب؟ فيه وجهان:
ووجه المنع: اعتبار ظاهر الحال، وهذا يدل على أن مجرد المباشرة توجب الفدية، [إلا] أن يقصد لغير شهوة.
وكلام الإمام يقتضي ما هو أبلغ من ذلك فإنه قال: وقد ضبط الأصحاب المباشرة الموجبة للفدية بما يوجب نقض الطهارة، ثم مسائل الملامسة في الطهارة تنقسم إلى خلاف ووفاق، والأمر في الحج ينطبق [على قياسها] وفاقاً [وخلافًا].
الثاني: قوله: "قلم ثلاثة أظفار":
قال الجوهري يقال: قَلَم ظفره، بتخفيف السلام، وقضم أظفاره، يتشديدها.
وقال ابن فارس: والأكثرون: قََلَم وقلّم بمعنى.
[و] الآصع: جمع صاع، وهو صحح فصيح، وقد عدّه ابن مكي في لحن العوام، وقال: الصواب أصوع مثل: دار وأدور.
وليس ما قاله بالقوي؛ لأن الأول جاء في الأحاديث، الصحيحة، وهو من باب المقلوب، وكذا يجوز "آدر" في جمع "دار" وشبه ذلك.
والصاع يذكر ويؤنث.
فائدة: قال القاضي الحسين: إنما أُعْطِيَ كل مسكين في هذه الكفارة مُدّان، وفي سائر الكفارات مُد؛ لأنه في سائر الكفارات جعل صوم كل يوم في مقابلة طعام مسكين فجعل لكل مسكين طعام مسكين واحد "وهنا جعل صوم كل يوم في مقابلة
طعام مسكينين]، فجعل لكل سكين طعام مسكينين، والله أعلم.
قال: فإن قلم ظفرًا، أو حلق شعرة - أي - ضمنهما؛ لأن ما كان مضمون الجملة، كان مضمون البعض أصل ذلك الصيد.
لكن بماذا يضمن؟
قال الشيخ: ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يجب ثلث دم؛ إلى التقسيط؛ فإن كل جملة ضمنت بجنس، ضمنت أبعاضها بذلك الجنس، كالصيد، وهذا ما نقله الحميدي في "المناسك".
وقال الإمام تبعاً للقاضي الحسين: إنه أقيس الأقوال:
وقد قيل: إنه مخرج من نظيره في الحصاة، فإن القول الذي حكاه الحميدي فيها كذا قاله ابن الصباغ.
وعلى هذا يجب في الشعرتين والظفرين ثُلُثَا دم.
والثاني: درهم؛ نظراً لتقسيط قيمة الشاة في عصره صلى الله عليه وسلم؛ فإن تقسيط الدم يشق.
وقال الإمام: إن الشافعي رضي الله عنه – استأنس فيه بمذهب عطاء، ولست أرى له وجهاً إلا تحسين الاعتقاد في عطاء، وأنه لا يقول مثل ذلك إلا عن تثبت، وهو أجل علماء التابعين رضي الله عنهم.
وقد قيل: إن هذا القول مخرج من نظيره فى الحصاة، ولم يحكه الماوردي إلا هكذا.
وعلى هذا يجب في الشعرتين والظفرين درهمان.
والثالث: مُدُّ؛ لأنه إيجاب ثلث دم يشق، وربما تعذر؛ [فتعين] العدول عنه إلى غيره، وهو عدول من حيوان؛ فوجب أن يكون إلى الإطعام كجزاء الصيد الذي نص الله - تعالى - في كتابه العزيز عليه، والشعرة الواحدة في نهاية القلة، وكذا الظفر،
والمد أقل ما يجب من الكفارات، فقوبل ذلك به؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، و"الإملاء"، والبويطي، و"المختصر"، وصححه القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما، واختاره في "المرشد" تبعاً للمزني.
وقال الإمام: إنه مشهور معتضد بآثار السلف، وهو مرجوع إليه في مواضع من الشريعة، فإن اليوم الواحد من صوم رمضان مقابل بمد -كما تقدم- وعلى هذا يجب في الشعرتين والظفرين مدان.
وحكى المراوزة قولاً رابعاً، نسبه الإمام إلى رواية صاحب التقريب: إنه يجب دم كامل في الشعرة الواحدة، والظفر الواحد، ولا يزيد بزيادته، واختاره الأستاذ أبو طاهر؛ لأن محظورات الإحرام لا تختلف بالقلة والكثرة.
أصله: الطيب واللباس.
وقال الإمام: إنه وإن كان يقدح توجيهه؛ فلست أعده من المذهب.
والأقوال- كما قال القاضي أبو الطيب - تجري فيما إذا قطع جزءاً من شعرة؛ لأن التقصير بمنزلة الحلق في الإحرام.
وفيه وجه آخر حكاه الماوردي: أنه يجب فيها بالقسط.
وكذا تجري الأقوال فيما إذا قلم بعض ظفر، مثل أن يكون قد انكسر [بعض] ظفره، وبقي معلقاً، فقطعه من فوق الكسر؛ لأن قطع الجزء الصحيح الذي قطعه من فوق الكسر بمنزلة قطع جميع الظفر.
وقال القاضي أبو الطيب في هذه المسألة: يلزمه من الإطعام بقدر الجزء الصحيح الذي قطعه جميع الظفر؛ كما قلنا: يجب في قطع الأنملة ثلث العشرة، ولو قطع بعض الأنملة لزمه بحساب ذلك.
ثم ذكر له بعض أصحابه أن ما قاله خلاف نصّ الشافعي رضي الله عنه وحمل إليه في كتاب الحج "الأوسط" للشافعي وأوقفه على المسألة مسطورة فيه، فأجابه بجواب لم يتحصل منه شيء.
وفي الرافعي: أنه إذا أخذ من بعض جوانب الظفر، ولم يأت على رأسه كله، فقد قال الأئمة: إن قلنا: يجب في الظفر الواحد درهم أو ثلث دم، فالواجب ما يقتضيه الحساب.
وإن قلنا: يجب فيه مُدُّ؛ فلا سبيل إلى تبعضه.
واعلم أنه حكي عن العمراني أنه قال: هذه الأقوال المذكورة في الكتاب إنما تتصور إذا اختار الدم، فأما إذا اختار الإطعام أو الصيام، فإنه يطعم عن الشعرة صاعاً، وعن الشعرتين صاعين، ويصوم عن الشعرة يوماً.
وقال بعض المشايخ المتأخرين ممن اجتمعت بهم:
هذا الذي قاله إن ظهر على قولنا؛ إن الواجب في الشعرة ثلث دم أو درهم، فلا يظهر على قولنا؛ إن الواجب فيها مُدٌّ؛ لأنه يرجع إلى الحاصل حينئذ من هذا القول: أنه يخير بين إخراج المد والصاع، والمد بعض الصاع، ولا يخير الشخص بين الشيء وجزئه.
وجوابه أنَّا نمنع كون الشخص لا يخيّر يين الشيء وبعضه؛ ألا ترى أن المسافر يخيّر يين إتمام الصلاة وقصرها؟ ومَنْ لا جمعة عليه مخيّر يين صلاة الجمعة ركعتين، وبين صلاة الظهر أربعا وهو تخيير بين الشيء وبعضه، والله أعلم.
قال: وإن لبس وتطيب- أي: متواليًا أومتفرقاً - لزمه لكل واحد كفارة؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ فلا يتداخل موجبهما؛ كالسرقة والزنا.
وقال ابن أبي هريرة: هما جنس واحد؛ لأنهما ترفه واستمتاع؛ فإن والى بينهما، لزمه فدية واحدة.
وهذا لا يصح؛ لأن المقصود منهما أمران؛ فكانا جنسين وإن تقاربت منفعتهما؛ كالحلق والتقليم.
نعم: لو لبس ثوباً مخيطاً متطيباً، لزمته كفارة واحدة؛ لأن الطيب هاهنا وقع تبعاً، وهذا ما أورده البندنيجي وغيره.
وحكي الرافعي ذلك وجهاً بعد أن صدر الكلام بلزوم كفارتين، والوجهان في "الإبانة".
ولو احتاج إلى استعمال [ثوب] وطيب، مثل: أن أصابته شجة احتاج فيها إلى لصاق فيه طيب وستر، فالذي ذهب إليه الأكثرون تعدد الكفارة؛ للاختلاف.
وذهب بعض الأصحاب إلى الاتحاد؛ نظراً للسبب، وقد نسبه القاضي الحسين والفوراتي إلى الاصطخري، وهو جار فيما إذا احتاج إلى حلق الرأس من جوانبه، ووضع خمار عليه، وتطيب، ونحو ذلك.
والمشهور والذي حكاه الجمهور أن اللبس وحلق الثعر جنسان؛ فيجب فيهما فديتان، سواء توالى فعلهما أو افترقا.
وفي "الإبانة" حكاية وجه مخرج فيما إذا فعل ذلك في مكان واحد؛ أن الفدية واحدة.
قال: وإن لبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب في مجالس قبل أن يكفر عن الأول، كفاه عنهما كفارة واحدة في أحد القولين؛ لأنهما من جنس واحد؛ فداخلا؛ كما لو سرق قبل القطع مراراً؛ وهذا هو القديم.
ويلزمه لكل واحد منهما كفارة في الثاني؛ كما لو تغلل التكفير؛ وهذا ما نص عليه في "الأم" و"الإملاء"، وهو الصحيح.
والقولان يجريان فيما إذا كان اللبس والتطيب بعذر أو غير عذر.
قال الإمام: ورأى بعض الأصحاب ترتيب المعذور على غير المعذور، [وجعل المعذور]، أولى باتحاد الكفارة من غير المعذور وهذا لا أراه كذلك؛ فإن العذر يؤثر في جواز الإقدام لا في الكفارة.
ومحل القولين بالاتفاق إذا كان سبب اللبس والتطييب واحداً؛ كما إذا لبس لحر أو برد، فلو اختلفا: بأن لبس المنعيط؛ لأجل البرد، وغطى رأسه؛ لأجل الحر - قال الماوردي وكذا القاضي أبو الطيب: اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال – أيضاً-: فيه قولان.
ومنهم من قال: قولاً واحداً: لا تتداخل الكفارة، ويكون اختلاف الأسباب بمنزلة اختلاف الأجناس، وليس بشيء؛ لأن الشافعي رضي الله عنه اعتبر اختلاف الأجناس دون اختلاف الأسباب.
وقد أبدل في "المهذب" لفظ المجالس بـ"الأوقات المتفرقة"، والكل متقارب.
واحترز يقوله: "في مجالس" عما إذا والى بين اللبيسن أو بين التطيبين؛ فإنه لا يلزمه إلا فدية واحدة، وإن وقع ذلك في لحظات، بحيث يعد في العرف والعادة متواليًا، وسواء اختلف الملبوس، بأن أدرع قميصاً ولبس عمامة ولبس خُفًّا، أو اتحد.
ووجهه: أن ذلك يُعد فعلاً واحداً؛ ألا ترى أنه لو حلف: لا يأكل في اليوم إلا أكلة [واحدة] فجلس من أول النهار إلى آخره يوالي الأكل - لم يحنث، وكان ذلك فعلاً واحداً.
ولك أن تقول: الموالاة تخرج بقوله: "ثم"، لأن وضعها الترتيب والتراخي؛ فلم يكن به حاجة إلى ذكر المجالس.
ولو حلق ثم حلق، أو قلم ثم قلم في مجالس قبل التكفير، قال الشيخ أبو حامد: لا تداخل قولاً واحداً؛ لأن ذلك إتلاف؛ فتعدد موجبه، كما لو قتل صيدًا، ثم آخر، أو قلع شجرة من الحرم، ثم أخرى؛ فإنه يتعدد الموجب عندنا قولاً واحداً.
وهذه الطريقة لم يورد الماوردي والبندنيجي غيرها مع القطع بأنه لو والى بين ذلك لم يجب إلا فدية واحدة، وهي التي صححها الرافعي، وقد حكاها القاضي أبو الطيب مع طريقة أخرى، وهي أن الحلق والتقليم بمنزلة الطيب واللباس، وعليها فروع:
أحدها: لو حلق ثلاث شعرات في مجالس قبل التكفير، أو قلم ثلاثة أظفار، فإن
قلنا بالتداخل، فعليه دم، وإن قلنا بعدم التداخل، وجب في كل شعرة ما يجب فيها لو انفردت، وهو ما ادّعى البندنيجى: أنه المذهب.
وقال في "المهذب": يجب في كل شعرة مُدٌّ، ولعله فرّع على القول المختار ثم، وعكس هذا وهو الفرع.
الثاني: لو حلق تسع شعرات، أو قلم تسعة أظفار في ثلاثة أوقات متفرقة، فإن قلنا بالتداخل، لزمه دم واحد، وإلا فثلاثة دماء، واختاره في "المرشد".
والفرع الثالث: إذا استأصل قطع شعرة في أيام كثيرة؛ فقطع في كل يوم قطعة، حكى القاضي أبو الطيب في ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: وهو الصحيح; أن عليه لكل قطعة فدية.
[والثاني: يلزمه بقطع الجزء الأول فدية] ولا شيء فيما بعد ذلك كما إذا أزال امتناع الصيد، ثم قتله.
قلت: وفي المسألة المستشهد بها وجه: أنه يلزمه جزاءان، فللقائل الأول أن يمنع فيها.
والثالث: عليه بقطع الجزء الأول فدية، وعليه فيما بعد ذلك صدقة؛ كما لو قطع أصابع رجل، فاندملت، ثم قطع كفه.
أما إذا لبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب بعد التكفير عن الأول - لزمه للثاني كفارة أخرى، وإن قلنا بالتداخل قبل التكفير كما إذا تخلل حد بين زنيتين.
قال الإمام والفوراني: إلا إذا قصد بالتكفير الماضي والمستقبل جميعاً، فإن ذلك ينبني على أنه: هل يجوز تقديم الكفارة على محظور الإحرام ثم لا؟ وفيه وجهان:
أحدهما: لا، كما لا يجوز تقديم كفارة الجماع في رمضان عليه، وعلى هذا الحكم كما سبق.
والثاني: وهو ظاهر نصه في "الأم" و"الإملاء"- كما قال في "البحر" - يجوز كما يجوز تقديم كفارة اليمين على الحنث؛ لأنه وجد سبب الوجوب، وهو الإحرام،
ويفارق الجماع في رمضان؛ لأن الموجب من اللبس والحلق ونحوهما يجوز فعله في حالة العذر؛ فلذلك أبيح تقديم كفارته، والجماع لا يباح في صيام رمضان في حالة ما؛ فلا يباح تقديم كفارته.
وعلى هذا هل تتداخل الكفارتان؟ قيه وجهان أثبتهما الإمام قولين، وقال: إنه إذا اتحد المكان والزمان في اللباس، ولكنه تخلل في أثناء اللباس المتواصل تكفير، فهل يجب بما يقع بعد إخراج الكفارة كفارة؟ فيه اختلاف الأصحاب من جهة أن تخلل الموجب يؤثر في التعدد؛ اعتباراً بالحدود.
ثم اعلم أن الوجهين في تقديم الكفارات في الإحرام مختصين بما يجوز فعله في حالة ما كما أشرنا إليه في الفرق، ومن ذلك يظهر لك جريانهما في جواز تقديم جزاء الصيد كما صرح به الماوردي، أما ما لا يجوز فعله في الإحرام أصلاً: كالوطء، فلا يجوز تقديم كفارته قبل وجوبها وجهاً واحداً.
وكذا الدم الذي يجب بترك النسك: كدم الفوات، ومجاوزة الميقات، والدفع من عرفة قبل الغروب، وترك المبيت بـ"مزدلفة"، ورمي الجمار، والمبيت بـ"منى"، والصدور من مكة بلا وداع؛ لأن النسك الذي يتعلق به وجوب الدم مأمور يفعله بعد تقديم الدم كما كان مأموراً بفعله قبل تقديم الدم، فلما لم يجز أن يكون الدم الذي لم يؤمر به بعد وجوبه بدلاً من النسك المأمور به مع إمكان فعله والله أعلم.
قال: وإن جامع - أي المكلف في الفرج - أي: من قبل أو دبر - بغير حائل عامدًا عالماً بالتحريم في العمرة، أو في الحج قبل التحلل الأول – أي: قبل الوقوف – أو بعده، فسد نسكه: أما في الحج؛ فلقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، والرفث: الجماع؛ يدل عليه قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية [البقرة: 187]، والنهي كما قال ابن عباس يقتضي الفساد.
وقد روي مثل ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وأبي هريرة، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين-.
وأيضاً: فقد ادعى الماوردي، والقاضي الحسين فيما إذا وطئ قبل الوقوف-
الإجماع على فساده، فَقِيسَ ما بعد الوقوف عليه؛ لأنه وطئ في إحرام تام، ولأن أصول الشرع متقررة: أن العبادة إذا حرم فيها الوطء وغيره، اختص الوط بتغليظ حكم يباين به ما حرم معه.
ألا ترى أن الصوم لما حرم الوطء وغيره، استوى حكم الجميع في إفاد الصوم، واختص الوطء بإيجاب الكفارة.
ولما كان الوطء وغيره من محظورات الإحرام؛ سواء في إيجاب الكفارة، وأن البدنة تجب بغير الوطء وهو قتل النعامة- وجب أن يختص الوطء يإفساد الحج؛ فيكون تغليظه في الصوم إيجاب الكفارة، وفي الحج اختصاصه بوجوب القضاء.
وأما في العمرة؛ فلأنها عبادة تفتقر إلى الطواف؛ فوجب أن يكون الوطء فيها موجباً للقضاء كالحج.
وأيضاً؛ فالعمرة كالحج فيما يحل فيه ويحرم؛ فوجب أن تكون كالحج في الوطء.
واحترز الشيخ بقوله: "في الفرج" عما إذا باشر فيما دون الفرج بشهوة، فإن ذلك يوجب ما يوجبه اللبس ونحوه كما تقدم.
وكذلك الاستمناء باليد، وإتيان الرجل في دبره مفسد للنسك.
وكذا إتيان البهيمة على الصحيح المجزوم به في "المهذب"، و"الحاوي"، و"تعليق البندنيجي"، و"الشامل"، و"تعليق القاضي الحسين".
وحكى القاضي أبو الطيب طريقة أخرى مبنية على إيجاب الحدِّ فيه.
فإن قلنا: يجب به التعذير، لم يفسده، وقد حكاه ابن كج وجهاً.
وإن قلنا: يجب به الحد، أفسده.
وقول الشيخ في العمرة لا يحتاج إلى تقييد بأن يقع ذلك قبل التحلل كما فعله بعض الشراح؛ لأن الجماع بعد التحلل منها لا يصدق [عليه] أنه جماع فيها، ومراد الشيخ بما ذكره إذا كانت العمرة مفردة.
أما القارن، فإن فسد حجه بالجماع، فسدت عمرته أيضاً، وإن كان في فواتها بفوات الحج وجهان:
أظهرهما: الفوات، [ووجوب القضاء.
وإن لم يفسد حجه بالجماع: كما إذا وجد منه بعد الرمي وقبل الطواف]، لم تفسد عمرته وإن لم يأت بشيء من أعمالها، وهذا بناء على الصحيح في أن الحج لا يفسد بالجماع بعد التحلل الأول.
أما إذا قلنا بفساده، فسدت أيضاً، وبه قال الأودنى.
وعلى الأول قال الأصحاب: لا يوجد معتمر جامع قبل الطواف، ولم تفسد عمرته إلا هذا.
أما إذا جامع الصبي، فقد تقدم ذكر الخلاف في أنه: هل يفسد نسكه أو لا؟ بناء على أنه يسلك بعمده ملك عمد البالغ أم لا.
ويظهر أن يكون جماع المجنون إذا صح إحرامه كذلك.
ولو جامع من يفسد نسكه بالجماع فى الفرج، لكن مع حائل، فهل يفسد، ويجب عليه الغسل؟
فيه ثلاثة أوجه في "الحاوي": ثالثها منسوب إلى بعض المتأخرين من البصريين: إن كانت الخرقة كثيفة، لم يفسد الحج، ولم يجب الغسل؛ لأن كانت رقيقة، فسد به الحج، ووجب به الغسل، لحصول اللذة بهذه، وعدمها بتلك.
ولو جامع ناسيًّا أو جاهلاً، فقد تقدم حكمه.
ولو جامع في الحج بعد التحلل الأول، فسيأتي بيانه، ويكفي في ثبوت ما ذكرناه من الحكم تغييب الحشفة أو مقدارها من مقطوعها على الأصح.
فرع: هل تلتحق الردة بالجماع في إفساد النسك ثم لا؟ قد ذكرنا فيه خلافاً، والذي ذهب إليه الأكثرون - وهو الأصح - نعم، لكن إذا قلنا به، فهل يخاطب بالمضي في الفاسد إذا عاد إلى الإسلام؟ فيه وجهان:
وجه المنع: أن طريق إفسادها القطع والاستئصال وإحبإط الأعمال، وهذا يقتضي ألا يقع الخطاب بعد الردة بفعل.
وعلى هذا قال الرافعي: لا كفارة؛ كما في إفساد الصوم بها.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً آخر: أن الردة لا تفسد الحج، طالت مدتها أو قصرت، ولكن لا يعتد بما يأتي به في زمن الردة.
قال: وعليه أن يمضي في فاسده؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ولم يفصل بين الصحيح والفاسد، وقد روي عن عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي موسى- رضي الله عنهم أنهم قالوا في الحج إذا فسد [يمضي في فاسده] ويقضي من قابل، ولا مخالف لهم.
ونقيس على الحج العمرة.
ولأنهما عبادة لا تنفسخ بالقول؛ فوجب ألا تنفسخ بالوطء.
أصله الإيمان.
وقولنا: "لا تنفسخ بالقول" احترزنا به عن الصلاة؛ فإنها تنفسخ بالقول، وهو أن يقول:"أخرجت نفسي منها".
ومعنى المضي في الفساد: أنه يأتي ببقية أفعاله، كما كان يفعل ذلك لو لم يفسد، ويجتنب فيه من المحظورات ما كان يجتنبه قبل الإفساد، حتى لو فعل شيئاً منها، لزمته الفدية.
ومن المراوزة من قال: لا فدية عليه؛ إذا قلنا الجماع الثاني لا يوجب شيئاً.
قال الإمام: وهو بعيد.
قال: ويجب عليه القضاء:
أما في الحج؛ فلما روي أن رجلاً أفسد حجه، فسأل عمر بن الخطاب عنه- فقال:"تقضي من قابل"، ثم سأل ابن عباس- رضي الله عنهما فقال:"تقضي من قابل"، ثم سأل ابن عمر- رضي الله عنهما فقال مثل ما قالاه. ولا يعرف مخالف لهم.
وأما في العمرة؛ فلأنها أحد النسكين، فإذا أفسدها وجب قضاؤه؛ كالحج.
قال: من [حيث أحرم]، أي: في الأداء إذا لم يكن إحرامه [به] دون الميقات؛ لأنه تعين عليه بالشروع فيه، وتأخير المكان نقصان في الإحرام؛ فلا يسوغ؛ وهذا بخلاف ما لو أحرم في أول أشهر الحج بالحج أو بالعمرة في شهر عن شهور السنة، لا يلزمه قضاء الإحرام في ذلك الوقت.
والفرق: أن الإحرام من الأمكنة المعينة مما يلزم بالنذر؛ فلزم بالشروع، ولا كذلك الأزمنة؛ فإنه لو نذر الإحرام من أول شوال مثلاً، لم يجب عليه مراعاة الزمان في إحرامه.
قال الرافعي: وهذا الفرق لا يسلم عن النزاع، وقد قال القاضي الحسين: إن فيه إشكالاً، لأن طول الإحرام عبادة، وما كان عبادة يلزم بالنذر.
أصل هذه المسألة: كما لو نذر الصوم في الأيام الطوال، جاز قضاؤه في الأيام القصار، ولو نذر أن يصوم أطول يوم في السنة، ينعقد نذره؛ لأنه متعين.
ولولم يحرم في القضاء من الموضع الذي أحرم منه في الأداء ولا من مثله في المسافة، بل جاوزه، لزمه دم كما في مجاوزة الميقات.
ولو كان قد أحرم في الأداء دون الميقات، نظر: فإن كان قد عاد إلى وطنه، أحرم
في القضاء من الميقات، وإن لم يعد إليه فكذلك على أحد الوجهين، وهو المختار في "المرشد" وغيره، وبه جزم البغوي وغيره.
ومقابله: أنه يحرم به من حيث أحرم في الأداء، وهو ما اقتضاه إطلاق الشيخ، وصححه أبو على؛ كما قال الرافعى.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي وجوب الإحرام في القضاء من نفس المكان الذي أحرم فيه، سواء سلك في القضاء ذلك الطريق أو غيره، وهو وجه حكاه الماوردي موجهاً له بأن من شرط القضاء: أن يكون مماثلاً للأداء، فإذا كان قد أحرم في الأداء من البصرة، فالإحرام من مصر وإن كان مساوياً لمسافة الإحرام من البصرة [فهو غيره؛ فلا يقوم مقامه].
لكن الذي عليه الجمهور، والمشهور: أن ذلك مخصوص بما إذا سلك طريقه الأول في القضاء.
أما إذا لم يسلكها، وجب عليه أن يحرم من مثل تلك المسافة إن كان قد أحرم من الميقات أو فوقه.
فرعان: أحدهما: المتمتع إذا أحرم بالحج من مكة، ثم أفسده، أحرم بالقضاء من مكة.
وكذا لو كان قد أحرم بالعمرة بعد تحلله من أدنى الحل، ثم أفسدها، أحرم في القضاء منه أيضاً.
الثاني: إذا كان قد أحرم بالأداء قارناً، جاز أن يقضي قارناً، ويجب عليه مع القضاء والبدنة دم القران؛ على الأصح، وبه جزم العراقيون.
وحكى المراوزة وجهاً آخر: أنه لا يجب دم القران؛ لأنه لم ينتفع به، ويجوز أن يقضى مفرداً.
قال [الشيخ] في "المهذب" وشيخه لأنه أفضل من القران، ولا يسقط عنه دم القران في القضاء على الأصح؛ لأنه متبرع بالإفراد.
وما حكى عن الإمام الشافعى - رضى الله عنه - أنه قال: إذا قضاه مفرداً، لم يكن له ذلك.
قال أصحابنا: معناه: لم يكن له ذلك من غير دم.
ثم اعلم أن الحجة المفضية تجزئه عما [كان] أحرم به وأفسده، سواء أكانت عن حجة الإسلام، أو عن نذر، أو تطوع.
قال: ويكون القضاء على الفور؛ لما ذكرناه من أثر عمر، وعلي، وابن عمر، رضي الله عنهم.
ولأنه بدل عما في ذمته لو تطوع به، وقد تعين بالشروع فيه؛ وهذا ظاهر النص في "المختصر"؛ فإنه قال:"وحج من قابل" واختاره في "المرشد".
وقيل: لا يجب على الفور؛ لأن الأداء على التراخي؛ فالقضاء أولى؛ فإن وجوب الصوم والصلاة على الفور، وقفبماؤهما على التراخي؛ كذا قاله أبو الطيب.
وعلى هذا يحمل قول الصحابة والشافعي- رضي الله عنهم على الاستحباب.
وعن القفال: أنه أجرى مثل هذا الخلاف في كل كفارة وجبت بعدوان؛ لأن الكفارة في وضع الشرع على التراخي كالحج، وأما الكفارة الواجبة من غير عدوان
فهي على التراخي لا محالة.
وحكى الإمام الخلاف في المتعدي بترك [الصوم، وقال: إن المتعدي بترك] الصلاة يلزمه قضاؤها على الفور، بلا خلاف على المذهب؛ والسبب فيه: أن المصمم على ترك القضاء مقتول عندنا، ولا يتحقق هذا إلا مع توجه الخطاب بمبادرة القضاء.
وأبعد بعض الأصحاب، فقال: إنما يقتل تارك الصلاة إذا لم يعد القضاء، ومثل هذا لا يعد من المذهب.
والمصر على ترك الصوم لا يتوجه عله القتل؛ وبهذا حصل الفرق.
وعن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: قضاء الحج على التراخي إن تركه لعذر، وإن كان لغير عذر فهو على الفور.
والكل متفقون على أن الأولى أن يقضيه على الفور.
تنبيه: قول الشيخ: "على الفور" أشمل من قول غيره "من قابل"، لأمرين:
أحدهما: أن كلامه يشمل الحج والعمرة، والعمرة لا تتأخر إلى قابل؛ لإمكان فعلها على الفور، وفور كل شيء على حسبه: ففور الحج يكون بعد كماله وتحلله من قابل، وفور العمرة بعد كمالها والتحلل لا غير.
الثاني: أن قضاء الحج قد يتصور في عام الإفساد؛ بأن يحصر بعد إفساده؛ فتحلل، ثم يزول الحصر والوقت باق فإنه يجزئه الحج فيه لو فعل، وكلام الشيخ يقتضي إيجابه [عليه] في هذا العام، والحالة هذه على قول الوجوب، بخلاف قول غيره "من قابل"، لكن الغير ذكر ذلك؛ لأنه الغالب، واتبع فيه قول الصحابة.
قال: ويجب عليه نفقة المرأة في القضاء – أي: الحج- إذا كانت زوجه، وفرعنا
على أن الكفارة تجب عليه دونها؛ كما قال الإمام؛ لأنها غرامة تعلق بالوطء فأشبهت المهر والكفارة، وكما لو كانت الموطوءة أمته؛ فإنه يجب عليه نفقتها في القضاء قولاً واحداً، وهذا ظاهر النص؛ فإنه قال:"يحج بامرأته"؛ ولأجله قال البندنيجي: إنه المذهب، [و] في العدة: إنه ظاهر المذهب، واختاره في "المرشد".
وعلى هذا لو زمنت وعجزت عن القضاء بنفسها، قال القاضي الحسين: لزمه أن يستأجر من يحج عنها.
وقيل: عليها النفقة [في القضاء] كنفقة الأداء، وكما لو كانت أجنبية وقد وطئها بشبهة أو سفاح.
ولأنها مختارة فى تمكينها، والكفارة وإن وجبت عليه دونها - كما سنذكره - فهى خارجة عن القياس، مستندة إلى حديث الأعرابى؛ فلا ينبغى أن تتخذ أصلاً في كل ما لا نص فيه.
وقول الشافعي رضي الله عنه[به:]["يحج بامرأته"]، عني به: أن القضاء واجب عليها أيضاً، أو عني به: أنه يأذن لها في الحج، ولا يمنعها؛ كما قال القاضي الحسين.
وهذا الوجه أدعى في "البحر": أنه ظاهر المذهب، ثم قال: إنه الأصح.
وخرج القاضي أبو الطيب على هذا الخلاف ثمن ماء الاغتسال؛ ولأجله حكى فى "المهذب" فيه وجهان، اختار فى "المرشد" منها: أنه عليها؛ لأنه ليس من خصائص الوطء، وإنما يجب لأجل الصلاة.
قلت: وهذا منه بناء على أن رفع الحدث إنما يجب بدخول وقت الصلاة.
لكن لنا وجه أنه يجب بنفس الحدث وجوباً موسعاً، فللقائل الآخر أن يتمسك به ويمنعه.
أما إذا قلنا: تجب الكفارة عليها، فالنفقة أولى، والعمرة لا تحتاج في تحصيلها إلى نفقة في الغالب.
وقولنا: "في الغالب" يحترز به عما إذا أحرمت بها من مسافة بعيدة، وأحصرت، وتحللت، ثم زال الحصر؛ فإنه في هذه الحالة تحتاج في قضائها إلى النفقة وتكون كالنفقة في الحج.
ثم [ما] المراد بالنفقة المنعتلف فيها؟
الذي قاله الإمام: إنه يحصل لها الحج [بمؤنة] من ماله، وعني بذلك: الزاد، والراحلة؛ كما صرح به القاضي الحسين.
وقال القاضي أبو الطيب والبندنيجي: إنها الزائدة على نفقة الحضر، وأن ذلك واجب عليها في الأداء قولاً واحداً.
قال [القاضي]: ولو كانت نفقة السفر كنفقة الحضر، وجبت عليه في الأداء قولاً واحداً.
وقال البندنيجي: إنها عليها قولاً واحداً، ولعل ما ذكره القاضي محمول على ما إذا [كان معها] في الحالين، وما ذكره البندنيجي محمول على ما إذا [سافرت] وحدها بغير إذنه، وإلا فسفرها وحدها بإذنه سفر في حاجتها بإذنه، وفيه قولان في الكتاب؛ ومن هنا يظهر لك [أن] مجيئهما في [القضاء بالترتيب].
وكلام ابن يونس يفهم أن المراد بالنفقة المنعتلف فيها في الكتاب: النفقة التي تجب بسبب الزوجية؛ فإنه جعل القول الأول جار وإن قلنا تسقط نفقتها في الأداء على قول، وأشار بذلك إلى حالة سفرها في حاجتها بإذنه.
وإذا كان كذلك اختص التصوير [أيضاً] بما إذا سافرت [دونه، فإنه لو سافر معها، وقد سافرت] في حاجتها، لم يكن في وجوب نفقتها خلاف.
تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن المرأة يفسد نسكها- أيضاً إذا كانت محرمة؛ لأن القضاء لا يكون مع صحة الأداء، وإذا كان كذلك اختص تصوير المسألة بما إذا كانت
مطاوعة أو ممكنة من الوطء كما قيدها الإمام.
أما لو كانت مكرهة أو نائمة فلا؛ لأن نسكها لا يفسد، ولو كانت هى المحرمة دونه، اختص الفساد بإحرامها، وكان الكلام في النفقة على ما مضى؛ كذا قاله الماوردي، ولو كانت [غير] محرمة فلا شيء عليها.
قال: وإن قضى الحج وهي معه، فالمستحب أن يفترقا في الموضع الذي جامعها فيه؛ خشية [من] أن يتذكر ما فعله [فيه] فيعود إلى مثله؛ لأن معهد الوصال مشوق.
وقيل: بجب ذلك؛ لأجل ما ذكرناه، و [قد] روي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم ذلك، ولا يعرف لهم مخالف، وهذا ما نص عليه في القديم، وشدد فيه - كما قال القاضي أبو حامد - واختاره في "المرشد"، والقاضي أبو الطيب.
فعلى هذا لو لم يفعلا ذلك، آثماً لا غير.
والمنصوص في الجديد وهو الذي صححه الماوردي والقاضي الحسين الأول؛ كما لا يجب في قضاء رمضان إذا أفسده بالوطء [وفي سائر الطريق].
وحكى الإمام عن بعضهم القطع به.
والقائلون بالثاني فرقوا بين ما نحن فيه والصيام؛ بأن زمان الصوم لا يتطاول، ويمكن أن يمسك نفسه عن الجماع إلى الليل، وليس كذلك زمان الإحرام؛ فإنه متطاول، وربما لم يمسك نفسه إلى أن يحل.
ولا خلاف في استحباب التفرق من وقت الإحرام.
واعلم أن ما ذكرناه عن وجوب القضاء وما بعده يختص بالمكلف الحر، أما الصبي إذا قلنا بفساد نسكه - كما هو الصحيح عند المحققين - فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان:
أحدهما لا؛ لأنه عبادة تتعلق بالبدن؛ فلا تجب على الصبي؛ كالصوم والصلاة.
والثاني: يجب؛ لأن من أفسد نسكه، كان عليه قضاؤه؛ كالبالغ، واختاره في "التهذيب"، و"المرشد" وغيرهما.
وعلى هذا هل يصح منه في الصغر؟ فيه قولان:
أحدهما: لا؛ لأنه نسك واجب؛ فلا يصح من الصبي، كفرض الإسلام.
والثاني: نعم؛ لأن من صح أداؤه، صح قضاؤه؛ كالبالغ، واختاره في "المرشد" وغيره.
قلت: ويظهر أن يتبنى هذا الخلاف على أن القضاء هل يجب على الفور أم لا؟
فإن قلنا بالأول، صح جزماً، وإلا جاء القولان.
والخلاف جار كما حكاه أبو الطيب - فيما لو ارتكب محظوراً غير الجماع، وقلنا: إن الكفارة في ماله، فأراد أن يكفر بالصوم، وقد حكيناه عن قبل.
وأما العبد فلا شك في أن جماعة عامداً أو ناسياً في الإفساد وعدمه كالحر، وهل يجب عليه القضاء؟ فيه خلاف:
ووجه المنع خرج من أحد القولين في الصبي، قال في "الحاوي": فهو غلط، والمذهب الوجوب؛ كما يلزمه بالنذر والفرق بينه وبين الصم: أنه يلزمه النسك بالدخول فيه.
وعلى هذا هل يصح منه في حال رقه؟
فيه قولان جاريان في قضاء نذره فيه، والمذهب المنصوص عليه هنا الصحة،
فإن قلنا به، فهل للسيد متعه [منه] إذا كان قد أذن في الأداء؟
قال في "المهذب": إن ذلك ينبني على أن وجوبه على الفور أو لا؟
فإن قلنا: إنه على التراخي، كان له منعه، لأن حقه على الفور، وإلا فوجهان:
أحدهما: [أنه ليس له منعه؛ لأنه موجب ما أذن فيه.
والثاني: له منعه؛ لأن المأذون فيه حج صحيح، واختاره في "المرشد".
وقال القاضي الحسين: إنه ينظر:
فإن كان بائناً عن مكة؛ بحيث يلزمه مؤنة كثيرة - لا يلزمه ذلك.
وإن كان قريباً، لا يلزمه مؤنة كثيرة، فهل يلزمه أن يأذن له في القضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا، وهو الذي نص عليه.
ومن الأصحاب من قال: يجريان الوجهين فى المسافة القريبة والبعيدة.
ولو عتق بعد التحلل من الفاسد وقبل القضاء، فقد تقدم أنه يبدأ بفرض الإسلام، ثم بالقضاء، وكذا لو أعتق بعد الوقوف في الحج وقبل التحلل.
ولو عتق قبل الوقوف، يمضي في فاسده، ثم يقضي، ويجزئه عن القضاء وحجة الإسلام؛ لأنه لو لم يفسده لكان أداؤه يجزئه عن حجة الإسلام، فإذا أفسده وجب أن يجزئه قضاؤه كذلك؛ عملاً بما ذكرناه من قبل.
وحكم الصبي إذا بلغ بعد الوقوف أو قبله حكم العبد من غير فرق.
فرع: لو أحرم نازعاً عن الجماع، فهل نقول: لا ينعقد إحرامه، أو ينعقد صحيحاً أو فاسداً؟ فيه خلاف.
قال: ويحب عليه الجماع - أي: المفسد للنسك حجاً كان أو عمرة - بدنة؛ لأنه روي عن عمر، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة: أنهم قالوا فيمن جامع في إحرامه: فسد، وعليه البدنة، والقضاء من قابل، ولا مخالف لهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين - فكان إجماعاً.
وعن أبي إسحاق؛ أن بعض أصحابنا ذهب إلى أنه لا يجب في إفساد العمرة إلا شاة؛ لانخفاض رتبتها عن رتبة الحج، ولا تفريع عليه.
تنبيه: البدنة: جمعها "بدْن" بإسكان الدال وضمها، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها، وحيث أطلقت في كتب الفقه والحديث، فالمراد بها كما قال النواوي: البعير ذكراً كان أو أنثى، وشرطها أن تكون في سن الأضحية.
والبدنة – لغة-: تطلق على الذكر والأنثى، صرح به صاحب العين.
وقال كثير من أهل اللغة أو أكثرهم: إنها تطلق على البعير والبقرة.
وقال الأزهري: تكون من الإبل والبقر والغنم.
وقال الماوردي في تفسير قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ} [الحج: 36]: قال الجمهور: هي الإبل.
وقال جابر وعطاء: الإبل والبقر.
وقيل: الإبل والبقر والغنم، وهو شاذ.
وسيكون لنا عودة إلى ذلك في باب النذر - إن شاء الله تعالى.
قال: فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فسبعة من الغنم- أي: يجزئ ذلك في الأضحية أيضاً معزاً كان أو ضأنًا؛ لأنهما يجريان في الأضحية مجرى البدنة في الإجزاء، ويطلق على كل منها بدنة لغة كما تقدم، وسيأتي؛ فألحقا إلإبل.
قال: فإن لم يجد، قوّم البدنة دراهم؛ لأنه المقرر في المتقومات.
وعن ابن سريج: أن المقوم الغنم دون البدنة؛ لأنه [الذي] استقر [عليه] آخرًا وهو - أيضاً- مفرع على القول بأن الكفارة مرتبة كما ذكر الشيخ.
قال: والدراهم طعاماً، وتصدق به، أي: حبًّا لأن الشرع عدل في جزاء الصيد من الحيوان إلى الطعام؛ فرجع إليه هنا عند العذر، وإنما قلنا يفرق حبًّا؛ لأنه أكمل.
ولا يجزئه تفرقة الدراهم، [قال الماوردي: لأن إخراج الدراهم] في الكفارات إنما يكون [قيمة، وإخراج] القيم فيها لا يجوز.
وبأي موضع تعتبر القيمة؟ فيه وجهان في ابن يونس:
أحدهما: موضع مباشرة السبب.
والثاني- وهو الذي أورده القاضيان: أبو الطيب، والحسين، ونص عليه في "المختصر" - بـ"مكة"[وأعدل] الأسعار في غالب الأحوال.
وفي "الحاوي": أنها تقوَّم بـ"مكة"، أو منى، وماذا يدفع لكل مسكين؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه غير مقدر؛ كاللحم؛ فعلى هذا: المستحب ألا يزيد كل مسكين على مدين، ولا ينقص عن مد.
ولو كانت الأمداد ثلاثة لا غير، لم يجز دفعها لأقل من ثلاثة.
وإن كان الطعام مُدَّيْنِ، دفعهما إلى مسكينين، ويجوز أن يدفعها إلى ثلاثة فأكثر.
ولو كان مدًّا، جاز دفعه إلى مسكين واحد وأكثر؛ حكاه في "البحر" عن "الحاوي".
والثاني: أنه يتقدر بمد.
تنبيه: قوله: "قَوَّم البدنة دراهم، والدراهم طعاماً":
دراهم منصوب، وتقديره: قدرها دراهم، أو قومها بدراهم، فأسقط الباء، ونصب كقوله تعالى:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]، أي: من قومه.
وقوله: "والدراهم طعاماً"، أي يشتري بها طعاماً، والطعام يأتي بيانه في باب الوصية.
قال: فإن لم يجد صام عن كل مد يوماً؛ كما في جزاء الصيد، فلو كان في الأمداد كسر، صام مكانه يوماً كاملاً.
وهذا الذي ذكره الشيخ من الترتيب هو ظاهر قول الشافعي – رضي الله عنه المحكي في "المختصر" وعامة كتبه؛ كما قال أبو الطيب، واستدل له بقول ابن عباس؛ فإنه هكذا قال، وبأن الصحابة نصت على البدنة بالإفساد، وذلك يقتضي تعيينها، والبقرة والغنم دونها، فلا تقوم مقامها مع القدرة.
ولأنها كفارة وجبت لإفساد عبادة، فكانت على الترتيب؛ ككفارة الصوم.
وغير الشيخ أثبت مع هذا القول قولاً آخر في المسألة، لكنهم اختلفوا في كيفيته.
فمنهم من قال: إنه مخيّر بين الجميع.
ونسب القاضي أبو الطيب هذا إلى رواية أبي إسحاق، والبندنيجي نسبه إلى أبي إسحاق نفسه؛ فيكون حينئذٍ مخرجاً.
ووجهه بأنها وجبت بالاستمتاع؛ فأشبه ما يجب بالحلق والمباشرة فيما دون الفرج [بشهوة].
وفي "تعليق القاضي الحسين": أن ابن سريج هو الجاعل في المسألة القولين،
وأنه وجه الثاني بأنها فدية تجب لحرمة الإحرام؛ فوجب أن يكون وجوبها على التخيير؛ كما إذا قتل نعامة، وأنه بنى القولين على أن الوطء إتلاف، أو استمتاع؟
فإن جعلناه إتلافاً، فالحكم على التخيير؛ كفدية الحلق، والقَلْمِ؛ وقتل الصيد.
وإن جعلناه استمتاعاً، فالترتيب؛ كما في فدية الطيب واللباس.
وقد حكى الإمام هذا البناء –أيضاً- وهو منهما مفرع على ما اقتضاه نظم كلامهما من قبل: أن كفارة الطيب واللباس مرتبة على الصحيح كما تقدم.
ومنهم من قال: إنه مخير بين البدنة والبقرة والشاة قولاً واحداً، [مثل: الضحايا] والهدايا.
والقولان في قيمة البدنة: أن الأمر فيها وفي الطعام والصيام على الترتيب، أو على التخيير؟ وعلى هذه الطريقة إذا قلنا بالترتيب، وعجز عن الإبل والبقر والغنم، كان المقوم ليشتري به طعاماً: أحد الثلاثة.
ومنهم من قال: إن البدنة والبقرة والغنم تقدم على الإطعام والصيام [في الترتيب، ولم يختلف مذهب الشافعي- رضي الله عنه – و [سائر] أصحابه] في ذلك.
نعم: اختلفوا في البدنة والبقرة والغنم، هل هي على الريب أو على التخيير؟ على وجهين:
ووجه الأول بأنه لما كانت كفارة الوطء أغلظ كفارات الحج تقديراً، وجب أن تكون أغلظها ترتيباً.
ووجه الآخر - وهو الصحيح، والمنصوص في "الأوسط": أن البدنة لا تجب في الحج والعمرة إلا في قتل النعامة والإفساد، فلما وجبت في قتل النعامة على وجه التخيير، اقتضى أن تجب في إفسادهما [أيضاً] على وجه التخيير؛ وهذه طريقة
القاضي أبي الطيب والماوردي. ووراء ذلك وجهان غريبان:
أحدهما: حكى [عن] ابن كج وجه: أن خصال هذه الكفارة: البدنة، والبقرة، والغنم؛ فإن عجز عنها، فالهدي في ذمته إلى أن يجد؛ تخريجاً من أحد القولين في دم الإحصار كما سنذكره.
والثاني: أنا إذا قلنا بوجوب الترتيب بين الكل، فإذا عجز عن الغنم قوم البدنة دراهم، والدراهم طعاماً، ثم يصوم عن كل مد يوماً، فإن عجز عن الصيام، أطعم كما في كفارة الظهار والقتل.
واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي ألا يجب لجماعة سوى بدنة واحدة وإن كانت المرأة قد فسد نسكها وهي زوجته، وأنها [تجب] عليه دونها، وقد قال الأصحاب: إن الحكم في هذه الكفارة كالحكم في كفارة الجماع في رمضان.
وبعضهم قال: هل تجب كفارة واحدة أو كفارتان؟
فيه قولان:
القديم: كفارتان؛ وعلى هذا يجب على كل منهما كفارة؛ قاله البندنيجي، وهو
يفهم أن الوجوب يستقر عليها؛ تفريعاً على هذا القول.
والماوردي قال: إنهما يجبان على الزوج.
وقد حكى القاضي الحسين ما قاله البندنيجي والماوردي قولين في القديم.
والجديد: كفارة واحدة؛ وعلى هذا فالزوج مخاطب بإخراجها، لكن هل وجبت عليه وحده، أو وجبت بجملتها على كل واحد منهما، وهو متحمل كالضامن؟ فيه وجهان حكاهما البندنيجى وغيره، وتظهر فائدتهما فيما لو كانت المرأة أجنبية.
فإن قلنا بالأول، لم يجب عليها أيضاً، ولا يجزئ تكفيرها.
وإن قلنا بالثاني، وجبت عليها كفارة أخرى؛ لأن مناط التحمل الزوجية، وهي منتفية، ويجزئ تكفيرها؛ لأن كل حق ضمن، فأداه المضمون عنه، سقط كما لو أداه الضامن.
وكفارة العبد كفارة العاجز، وهو الصيام.
نعم: لو عتق بعد الإفساد، وأيسر، فهل يكفر كفارة الأحرار، أو العبيد؟ فيه خلاف أن النظر في الكفارات إلى حال الوجوب أو الأداء؟
فرع: إذا كان المجامع قد باشر زوجته، ولزمته شاة فهل تسقط بما وجب من البدنة؟ فيه وجهان مبنيان كما قال الماوردي على [أن] الخلاف في المحدث إذا أجنب، هل يسقط حكم حدثه بجنابته أم لا؟
[قال:] وإن تكرر منه الجماع، ولم يكفر عن الأول، كفاه عنهما كفارة واحدة في أحد الأقوال؛ كما لو جامع في الصوم في يوم مراراً، أو زنا، وهذا هو القديم، واختاره المزنى.
والجديد: أنه يلزمه كفارة [أخرى]، وهو الأصح في "النهاية" وغيرها؛ لأنه وطء عامد، صادف إحراماً، لم يحل منه؛ فوجبت به كالأول، ويخالف الصوم؛ لأنه بالإفساد خرج منه، والحدود إنما تداخلت؛ لأنها عقوبات لا يتعلق بها حق لآدمي، وليس كذلك الكفارات؛ فإن حق الآدمي متعلق بها.
وعلى هذا ماذا يلزمه؟ فيه قولان صرح بهما الشيخ حيث قال: ويلزمه بدنة في القول الثاني،] لما ذكرته، وشاة في القول الثالث [أي: بالجماع الثاني مع ما وجب الأول؛ لأنها مباشرة لا توجب القضاء، فأوجبت الشاة؛ كالقبلة بشهوة.
ولان حرمة الإحرام بعد الوطء الأول أخفض من حرمة القبلة؛ لورود الفساد عليه؛ فوجب إن يكون الوطء الثاني أخفض تكفيرًا من الأول لضعفه عن تأثير الوطء الأول؛ وهذا ما اختاره في "المرشد" والرافعي.
وعلي هذا قال الرافعي: يكون الحكم في الشاة حكمها في فدية القبلة، وسائر مقدمات الجماع.
قلت: وهذا الخلاف مأخذه ما تقدم: إن المغلب في الجماع حكم الاستمتاع؛] كالطيب، أو المغلب عليه حكم الإتلاف؛ كقتل الصيد ونحوه، وفيه خلاف سبق: فإن قلنا: المغلب حكم الاستمتاع [.
] جاء [قولان: الأول، والأخير.
وإن قلنا: المغلب حكم الإتلاف، جاء قولان: الثاني، والثالث.
وإذا جمع ذلك جاء في المسالة ثلاثة أقوال، كما ذكر الشيخ، وكذا البندنيجي، والقاضي الحسين بعد إن بسطا القول فيها.
أما إذا كان الوطء الثاني بعد إن كفر عن الأول، فلا اثر له ما عدا الأول، وإما على الأول ففيما يلزمه بالثاني قولان:
أحدهما: بدنة.
والثاني: شاة.
وتعليلهما ما سبق.
وقد ظهر لك: إن الكفارة تجب علي كل قول، وبذلك صرح القاضي الحسين، لكن الرافعي حكى إن منهم من طرد القول الأول هنا، وإن بعضهم خصص القول القديم والجديد في حالة التكفير وعدمه بما إذا طال الزمان بين الجماعي أو اختلف
المجلس، وقطع بالتداخل فيما إذا لم يكن كذلك.
والمراد بتكرر الجماع: إن يحصل له بكل واحد قضاء الوطر مع تعدد الأزمنة، فلو واقع مرارًا في مكان واحد، وهو يقضي من كل وقاع وطره.
قال الإمام: فقد سبق منا رمز إلى ذلك في الفصل المشتمل علي تداخل الكفارات، وذكر صاحب التقريب في ذلك جوابين:
احدهما: إن المواقعات وإن تواصلت أزمنتها، فهي بمثابة ما لو تفرقت، وهو متجه في المعنى ظاهر.
والثاني: إنه يلتحق بإعداد من اللبس مع اتحاد المكان والزمان حتى نقطع باتحاد الموجب.
ولو كإن ينزع ويعود، وفعله متواصل، وقضاء الوطر آخرًا فلا خلاف في إن الكل وقاع واحد.
فرع: إذا باشر زوجته فيما دون الفرج] بشهوة [فلزمته شاة، ثم جامع] في الفرج [،فهل يسقط بما وجب في البدنة؟ فيه وجهان مبنيان-كما قال الماوردي- علي ما إذا أجنب بعد الحدث، هل يسقط حكم حدثه آم لا؟
قال: فإن جامع بعد التحلل الأول، أي: وقبل التحلل الثاني، لم يفسد حجه؛ لقول ابن عباس:"من وطئ بعد التحلل- وروى بعد الرمي- فقد تم حجه، وعليه بدنه"، ولم يعرف له مخالف.
ولأنه لم يصادف إحراماً تامَّا.
وحكى الإمام: إن من أصحابنا من قال: يفسد لمصادفة الوطء للإحرام.
وحكى القاضي الحسين في تعليقه وجهًا يقابله: إنه لا يفسد حجه إذا جامع بعد مضي وقت رمي جمرة العقبة، ولم يرم؛ لان الدم استقر في ذمته، فقام مقام الرمي؛ إذ
بدل الشيء يقوم [مقام أصله]؛ وهذا مفرع على إن التحلل الأول يحصل بواحد من اثنين؛ كما ستعرفه في موضعه- إن شاء الله تعالى.
والذي حكاه الجمهور [الأول، وعليه].
قال الشيخ: وعليه بدنة في احد القولين؛ لقول ابن عباس.
ولأنه وطء في زمان يحرم عليه؛ فأشبه ما قبل التحلل؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن النص.
فعلى هذا يكون الحكم في إخراجها وبدلها كما تقدم.
قال الماوردي: وشاة في [القول] الآخر؛ لما سبق.
قال القاضي أبو الطيب: ولإن الوطء الناقص في الإحرام التام لا يوجب البدنة، فكذلك الوطء التام في الإحرام الناقص؛ وهذا ما اختاره المزني، واقتضى كلام أبي الطيب ترجيحه، وبه صرح الرافعي.
فعلى هذا [هل] تتعين الشاة عند القدرة عليها، أو يكون مخيرًا بينها وبين الطعام والصيام؛ كما في كفارة الحلق؟ فيه وجهان في "الحاوي".
وقد رأى الإمام تخريج وجه آخر في أصل المسالة: إنه لا يتعلق بهذا الوطء شيء أصلًا إذا قلنا: لا يفسد حجه، وقال: إنه بعيد؛ لان الوطء يجب ألا يقصر عن مباشرة لا وقاع فيها، وقد أقامه الغزالي وجهًا ثالثًا في المسالة.
قال: وإن افسد القضاء، لذمه بدنة؛ لما تقدم، دون القضاء، أي: لا يلزمه للقضاء قضاء آخر، بل عليه قضاء ما أفسده أولًا فرضًا كان أو تطوعًا؛ لإن المقتضى واحد؛ فلا يلزمه أكثر منه.
قال: وإن قتل صيدًا له مثل من النعم: [أي: يقاربه في الصورة والشبه- وجب فيه مثله من النعم]؛ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
ووجه الدلالة منها: إن الله أوجب المثل، وإطلاق المثل يتناول المثل في الصورة
والجنس، حتى يجب في النعامة [نعامة] ، وفي الغزال غزال، فلما قيد الله- تعالى- ذلك بالنعم، انصرف المثل عن الجنس إلى المثل من النعم، وبقي المثل في الصورة والشبه على ما افتضاه ظاهر الآية، وقد ورد في السنة ما يعضد ذلك.
روى إن جابرًا سئل عن الضبع أصيد هو؟ قال: نعم، قيل: أيؤكل؟ قال: نعم، قيل: فيه كبش إذا أصابه المحرم؟ قال: نعم، قيل وسمعته من رسول الله؟ قال: نعم. والنعم [من] الإبل والبقر والغنم، ولا فرق في ذلك بين إن يكون قيمة المثل كقيمة الصيد، أو فوقها، أو دونها؛ لظاهر الآية.
قال: فيجب في النعامة بدنة؛ لقوله تعالي: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ، وقد روى إن عمر، وعثمان، وعلَّيا، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير [وابن الزبير] ، ومعاوية حكموا بذلك في قضايا مختلفة في بلدان شتى وأوقات متباينة، ولم ينكر ذلك احد مع إن النعامة تنقص قيمتها عن قيمة البدنة.
ثم الآية دالة مع ما سنذكره من حكم الصحابة علي بقية الأمثال.
قال: وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة.
إما إيجابها في حمار الوحش؛ فلحكم عطاء بها فيه؛ كما قال الماوردي، ولم يخالفه احد.
وفي "المهذب": إن الحاكم فيه بذلك عمر.
والذي اشعر به إيراد القاضي أبي الطيب وابن الصباغ وغيرهما: إن القاضي فيه بذلك عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وغيرهم.
وإما إيجابها في بقرة الوحش، وهي المسماة بـ"الثيثل" بثاءين معجمتين بثلاث، بينهما ياء آخر الحروف- فبالقياس علي حمار الوحش؛ كذا قاله الجمهور.
وفي "الحاوي": إن ابن عباس، وعطاء التابعي قضيا فيها بذلك؛ ولأجل ذلك قال الرافعي: إن الصحابة قضوا في حمار الوحش وبقرة الوحش ببقرة.
وكذا يجب في الأُيَّل؛ لحكم ابن عباس فيه بذلك. وفي الأراوي؛ لحكم عطاء [فيها][بذلك].
وقال الشافعي- رضي الله عنه: الأروية: وهي الأنثى من الوعول- دون البقرة المسنة، وفوق الكبش؛ فيجب فيه الغضب، وهو الفحل الذي طلع قرنه.
قال: وفي الضبع كبش؛ لخبر جابر السابق، وقضاء عمر، وعلي، وكذا عثمان، وابن عباس، وغيرهم بذلك.
والضبع: بفتح الضاد، وضم الباء، ويجوز إسكان الباء الأنثى، ولا يقال: ضبعة.
والذكر: ضبعان: بكسر الضاد، و [سكون] الباء.
والكبش: الذكر من الظان، وجمعه: أكبش وكباش، والأنثى نعجة.
قال: وفي الغزال عنز؛ لان عمر- رضي الله عنه حكم فيه بذلك، ولم يخالفه [غيره فيه].
وقد قال الأصحاب: إن ما حكم فيه واحد من الصحابة بحكم ولم يخالفه [غيره] فيه، كان كما لو حكم به الجميع كما ستعرفه.
وكلام ابن الصباغ والقاضي أبي الطيب [يفهم] إن القاضي فيه بذلك هم
القاضون في البدنة والبقرة.
والغزال: قال أهل اللغة: هو ولد الظبية إلى حين يقوى ويطلع قرناه، ثم الأنثى: ظبية، والذكر ظبي.
والعنز: الأنثى من المعز؛ كما افهمه كلام النواوي الذي سنذكره.
وهذا الذي ذكره الشيخ في الغزال هو الذي حكاه القاضي الحسين عن قضاء الصحابة وهو ما أورده العراقيون والماوردي، وقالوا: يجب في الظبي تيس وهو الذكر من المعز؛ لقضاء علي، وابن عباس [فيه] بذلك، ووافقهم أبو القاسم الكرخي فيما قالوه في الغزال، وقال: إن الواجب في الظبي كبش، لكنه يعتقد إن الظبي ذكر الغزلان، وإن الغزال الأنثى.
وما ذكره من الحكم في الظبي والغزال قد نسبه الإمام إلي العراقيين، ثم [قال: وهو وهم] ، والذي صح القضاء فيه: إن في الظبي العنز، وهو شديد الشبه به؛ فإنه اجرد الشعر متقلص الذنب، والغزال ولد الظبي؛ فيجب فيه ما يجب في الصغار من كل جنس.
وهو موافق فيما قاله في الغزال القاضي الحسين؛ فإنه حكى ذلك في موضع من تعليقه بعد حكايته ما ذكرناه عنه أولًا.
قال: وفي الأرنب عناق؛ لحكم عمر وعطاء- رضي الله عنهما فيه بذلك.
وكلام أبي الطيب وابن الصباغ يشعر بان القاضي فيه بذلك القاضون في النعامة بالبدنة.
والعناق: الأنثى من ولد المعز إذا قويت قبل استكمالها الحول؛ قال الأزهري، وجمعها: أَعْنُق وعُنُوق، والذكر من ولد المعز يسمى جديًا، وقبل العناق ولد المعز إذا
اشتد عن أمه، وفصل.
قال: وفي اليربوع جفرة؛ لحكم عمر [وابن عمر] وابن عباس- رضي الله عنهم فيه بذلك.
واليربوع: بفتح أوله، وسكون ثانيه، وبضم ثالثه، وجمعه: يرابيع.
والجفرة- بفتح الجيم-: الأنثى من ولد المعز إذا امتلأ جوفها من الماء والشجر.
وقال الأزهريك وهي الأنثى من ولد المعز إذا بلغت أربعة أشهر، وفصلت عن أمها، والجفر: الذكر، سمي بذلك؛ لإنه جفر جنباه، أي: عظماً.
قال الرافعي: وما ذكر هو معنى الجفرة في اللغة، وهي بهذا التفسير خير من العناق بالتفسير الذي ذكرناه، لكنه يجب إن يكون المراد من الجفرة هاهنا دون العناق؛ فإن الأرنب، خير من اليربوع.
قال: وفي الصغير صغير أي: وإن لم يجزئ في الأضحية- وفي الكبير كبير، وفي الذكر ذكر، وفي الأنثى أنثى، وفي الصحيح صحيح، وفي المكسور مكسور؛ رعاية للمثلية التي افتضاها ظاهر الآية.
[ولأن الصيد] قد يختلف في الصغر والكبر من وجهين:
احدهما: باختلاف أجناسه.
والثاني: باختلاف أسنانه.
فلما كان الصغر والكبر باختلاف أجناسه معتبرًا حتى أوجبوا في الضبع كبشًا، وفي الغزال عنزًا، وفي اليربوع جفرة، اعتبارًا بالمثل في الخلقة، وإن [كان] كل ذلك صيدًا- أوجب إن يكون الصغر والكبر باختلاف أسنانه معتبرًا؛ فلا يجب في الصغير ما يجب في الكبير؛ اعتبارًا بالمثل في الخلقة، وإن كان جميع ذلك صيدًا.
وتحريره قياسًا ضمان يجب باليد والجناية؛ لحرمة غيره، يختلف باختلاف الأجناس؛ فوجب إن يختلف باختلاف الأسنان؛ كسائر الأموال.
وقولنا: يجب باليد والجناية لحرمة غيره يحترز به عن الديات والكفارات؛ حيث سوى فيها بين الصغير والكبير؛ لأنها لا تجب إلا بالجناية؛ لحرمة الروح.
فإن قيل: الآية تقتضي إن يكون المنعرج مما يجزئ في الأضاحي؛ لان الله تعالى يقول: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، والهدي عندكم مختص بما يجزئ في الأضاحي، وقضية ذلك منع إخراج الصغير والكبير.
قيل: للشافعي قولان في الهدي:
احدهما: إنه يجوز ما ينطلق عليه الاسم ولو بيضة، وعلي هذا سقط السؤال.
والثاني: وهو الجديد: إن الأمر كما ذكرتم، لكن محله إذا أطلق الهدي، والهدي المذكور في الآية مقيد؛ فحمل علي تقييده دون ما يقتضيه إطلاق اللفظ؛ وهذا هو الصحيح.
وفي "الحاوي": إن بعض أصحابنا قال: لا يجوز إن يفدي المعيب بمعيب مثله، وعليه إن يفديه بصحيح.
قال: وهو خطأ؛ لأن الصحيح ليس للمعيب، نعم: لو اخرج الصحيح عن المعيب، والكبير عن الصغير كإن أفضل.
قال: وإن فدى الذكر بالأنثى، فهو أفضل علي المنصوص؛ لأنها أكثر قيمة منه، وأطيب لحمًا؛ وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة.
ولفظ الشافعي فيه: "ولو فدى الذكر بالأنثى، كان أحب إليّ".
وقيل: إن أراد تفرقة اللحم، أي: لاختياره الذبح من الخصال الثلاث دون الإطعام، أو عدل الطعام كما سيأتي، وإلا فمتى اختار الذبح وفعله، وجب تفرقة اللحم بلا خلاف كما سيأتي.
قال: لم تجزئ الأنثى عن الذكر؛ لان الذكر أكثر لحمًا من الأنثى؛ فلا يجزئ للنقص.
تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أمورًا:
أحدها: بمنطوقه: وهو عدم إجزاء الأنثى عن الذكر علي طريقه عند إرادة تفرقة اللحم بالتفسير الذي ذكرناه، وهو كما قال ابن التلمساني- قول الشيخ أبي حامد، وقد حكاه البندنيجي عن بعض الأصحاب.
لكن في "الحاوي": إنه لم يختلف الأصحاب في أجزاء الأنثى عن الذكر، ولم يحك في " المهذب " غيره.
نعم: اختلفوا فيما لو كان الصيد المقتول أنثى، فأراد فدائه بمثله من النعم ذكرًا هل يجزئه؟ على وجهين حكاهما ابن الصباغ [أيضًا] عن الشيخ أبي حامد.
وقال البندنيجي: إن المذهب الأجزاء أيضًا.
وقال الفوراني في " الإبانة": إن النص مختلف فيما إذا قابل الذكر بالأنثي في الأجزاء.
وأومأ المزني إلي القولين: فمن الأصحاب من قال قولين:
احدهما: يجوز؛ كما في الزكاة.
والثاني: لا؛ لأنه ليس بمثل.
ومنهم من قال: [حالان.
ثم هؤلاء اختلفوا في ذلك:
فمنهم من قال: إن أراد الذبح لم يجزه، وإن أراد التقويم جاز.
ومنهم من قال: إن كانت الأنثى لم تلد جاز، وإلا فلا.
ومنهم من قال:] إن كان الذكر صغيرًا جازت الأنثى الصغيرة، وإن كان كبيرًا لم تجز الأنثى الكبيرة.
ووافق الإمام الفوراني على [إن] النص مختلف، ثم قال: والذي نراه، ونقطع به أن الأنثى إن كانت قيمتها دون قيمة الذكر من النعم لا تجزئ، وإن آل الأمر إلى الذبح، وكانت الأنثى خسيسة اللحم؛ لأنها ولدت، فلا تجزئ؛ لاجتماع النقص في الخلقة، والنقصان في القيمة، والرداءة في اللحم.
وإن كانت الأنثى طيبة اللحم لو ذبحت، تامة القيمة لو قومت للتعديل، فهل تجزئ عن الذكر؟ فيه طريقان:
من أصحابنا من قال: [فيه] قولان.
أصحهما الأجزاء.
ومنهم من قال: اختلاف النص محمول على ما اشرنا إليه: فحيث منع أراد إذا كانت الأنثى ناقصة أو معيبة اللحم، و [حيث] جوز، أراد إذا كانت أفضل منه.
وقال: إن الحكم فيما إذا اخرج الذكر عن الأنثى كما إذا اخرج الأنثى عن الذكر، وإن الشيخ أبا بكر وغيره قالوا: مقابلة الأنثى بالأنثى واجب، والتردد في مقابلة الذكر بالأنثى؛ وهذا ذهاب عن التحصيل.
وقد اختصر في "الوسيط" هذا التطويل [الذي ذكره الإمام]، وحكى في المسألتين ثلاثة أوجه:
ثالثهما: تجزئ الأنثى عن الذكر دون العكس.
وقال: إن هذا الاختلاف إنما يحتمل إذا لم يظهر اثر في اللحم ونقصان في القيمة.
وجمع في الذخائر بين ما قاله الإمام وغيره واختصره فحكى في المسألتين سبعة أوجه:
احدهما: لا يجوز إخراج أحدهما عن الأخر.
والثاني: يجوز.
والثالث: إن أراد الذبح، لم تجزئ الأنثى عن الذكر، ويجزئ الذكر عن الأنثى، وإن أراد التقويم أجزأت الأنثى عن الذكر، ولا يجزئ الذكر عن الأنثى.
والرابع: أجزاء الأنثى عن الذكر بكل حال، [وعدم أجزاء الذكر عن الأنثى بكل حال] ، واختاره في "المرشد".
والخامس: يعتبر القيمة وطيب اللحم: فإن كان أحدهما أكثر قيمة، وأطيب لحمًا، لم يجزىْ [عنه] الأدون، ولا الخبيث [في] اللحم [عنه] ، ويجزئ [ويجزئ الأكثر قيمة والأطيب عن الأدون والخبيث] عكسه.
والسادس: يجزئ الذكر عن الأنثى [وأما الأنثى عن الذكر؛ فإن كانا صغيرين جاز، وإلا فلا].
والسابع: يجزئ الذكر عن الأنثى، وأما الأنثى عن الذكر: فإن كانا صغيرين جاز، وإن كانا كبيرين، لم يجز.
الأمر الثاني الذي افتضاه كلام الشيخ، وهو بمفهومه: أجزاء الأنثى عن الذكر [بلا خلاف] عند إرادة التقويم؛ ليخرج بدله [الطعام، أو يعدله بالصيام، وهو مصرح به في "الحاوي" وغيره من كتب العراقيين؛ لأن الواجب يزيد، وفيه الخلاف السابق.
وقد رأيت في ابن يونس حكاية طريقة قاطعة بالأجزاء عند إرادة اللحم وحاكية للقوانين عند إرادة التقويم؛ لأجل] الإطعام أو الصيام، وهي عكس ما في الباب، ولم أرها في غيره، فلعله أراد حكايتها فيما إذا أراد إخراج الذكر عن الأنثى؛ فإن هذه الطريقة بها أشبه؛ فحكاها في مسالة الكتاب.
الأمر الثالث: إن الأنثى أفضل من الذكر عند إرادة التقويم أو التعديل علي رأي، وهذا يفهم من إطلاق قوله:"وإن فدى الذكر بالأنثى فهو أفضل على المنصوص".
وقد قال في "الحاوي": إن الأصحاب لم يختلفوا في إن الأنثى أفضل في هذه الحالة، نعم: اختلفوا عند إرادة ذبح الأنثى، هل الأنثى أفضل أو لا علي قولين:
احدهما: وبه قال ابن أبي هريرة: إنها أفضل [أيضًا]؛ لما ذكرناه.
والثاني: ليست بأفضل من الذكر وإن أجزأت، وبه قال أبو إسحاق.
وفي "الشامل" و"تعليق [القاضي] أبي الطيب" بدل الوجه الأخير: [إن القاضي أبا حامد قال في الجامع: قول الشافعي- رضي الله عنه: "ولو فدى الذكر بالأنثى كان أحب إليّ" محمول علي] إذا أراد الذبح، فالذكر أولى، وهذا غير الوجه الذي اختاره أبو إسحاق.
قال: وإن فدى الأعور من اليمين بالأعور من اليسار، جاز، لاستوائها في المقصود من اللحم والقيمة؛ [فأشبه اختلاف اللون، ثم لو فُرِضَ بينهما تفاوت، فهذا يسير؛ وهذا] ما أورده الجمهور.
وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: إنه لا يجزئ، ويكون متطوعًا به؛ لأن اختلاف العيب يجري مجرى اختلاف الجنس.
ولو اختلف الجنس، فاخرج الأعور عن الأعرج، لم يجز، فكذا هاهنا.
قال: ثم هو بالخيار: إن شاء اخرج المثل، وإن [شاء] اشترى بقيمته- أي
[بقيمة] المثل- طعامًا [وتصدق به، وإن شاء] صام عن كل مد يومًا، [أي: شاء قوم القيمة طعامًا، وصام عن كل مد يومًا].
والأصل في ذلك قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95].
ووجه الدلالة من ذلك علي التخيير: [إن وضع "أو" في اللغة إنما تدخل في الأوامر للتخيير] وهذا أمر.
ولأنها كفارة واجبة بإتلاف ما حرمه الإحرام؛ فوجب إن تكون علي التخيير؛ كفدية الحلق.
وقد حكى أبو ثور: إن للشافعي- رضي الله عنه قولًا في القديم كمذهب ابن عباس والحسن البصري: إن جزء الصيد علي الترتيب، فلا يجوز الإطعام إلا بعد عدم الهدي، ولا الصيام إلا بعد العجز عن الإطعام؛ نقله أبو علي في الإفصاح عنه.
وقال في "الحاوي"، وغيره: ليس هذا بمشهور عن الشافعي، بل نصه في القديم والجديد والإملاء علي الأول؛ لما ذكرناه في الآية.
ووجه الدلالة منها علي إن المعتبر قيمة المثل عند إرادة إخراج الطعام أو عدله صيامًا لا قيمة الصيد وإن كان هو الأصل- من وجهين:
احدهما: قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95] برفع الجزاء [وجر المثل] علي قراءة كثير من القراء فأوجب عليه بظاهر هذه القراءة جزاء مثل المقتول، ولم يوجب جزاء المقتول.
والثاني: قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] يعني: كفارة ما تقدم ذكره، وقد تقدم ذكر الصيد والمثل، ولا يجوز إن يرجع إليهما جميعًا، وإنما ترجع
[الكفارة] إلى أحدهما، والمثل اقرب مذكور؛ فتعين.
ولان الواجب عليه إخراج المثل؛ فتعينت قيمته.
ثم بأي حال تعتبر قيمة المثل والطعام وبأي مكان؟ فنقول: أما المكان فهو مكة إذا كان المقتول مما له مثل علي اصح الطريقين في الرافعي، ولم يحك الماوردي وابن الصباغ والقاضي الحسين غيره، وإن الاعتبار بأعدل الأسعار، وادعى في "البحر": إنه لا خلاف في ذلك.
والطريق الثاني: حكاية قولين في المسألة:
أحدهما: ما ذكرناه وهو المنصوص.
والثاني: موضع الإتلاف.
وأما الزمان فهل هو حالة الإفراج أو حالة الإتلاف؟
اختلف النص فيه، والصحيح [في تعليق القاضي] الحسين [وغيره] الأول، ولم يحك في " البحر " تبعًا للحاوي غيره.
فرع: إذا عدل القيمة بالطعام، وأراد الصيام: أما في جزاء ما له مثل، أو فيما لا مثل له، ففضل بعض مد، أو لم تكن القيمة [ألَّا] بعض مد- صام يومًا؛ لأن الصوم لا يتبعض.
واعلم إن جزاء الصيد وما في معناه من كفارات التعديل قد سماها الشافعي- رضي الله عنه فدية بدل، فإذا رأيت ذلك في لفظ، فاعلم إن مراده ما ذكرناه.
قال: وإن اتلف ظبيًا ماخضًا- أي: حاملاً- ضمنه بقيمة شاة ماخض، أي: ويكون مخيرًا فيها: إن شاء اشتري بها طعامًا، وتصدق به، وإن شاء صام عن كل مد يومًا، ولا يجوز إن يذبح شاة ماخضًا؛ لأن الحمل في الصيد زيادة، وكذلك هو في
الشاة إلا إنه ينقص لحمها، ويضر بها، فقيمتها تزيد به، ولحمها ينقص، فأوجبنا القيمة؛ لتحصل الزيادة من غير نقص؛ وهذا ما قال القاضي أبو الطيب: إنه نص عليه في "المناسك [الكبير،] " ولم يحك غيره، وكذا البندنيجي لم يحك غيره.
وقال الفوراني: إنه الذي نص عليه في ["المختصر الأوسط"]، وإن الذي نص عليه في "المناسك الكبير": إن عليه مثله حائلًا.
قلت: وقد أوَّل ذلك بعض المراوزة، واثبت لأجله وجهًا في المسألة: إنه مخير بين إن يخرج شاة حائلًا بقيمة شاة ماخض، ويتخير فيها بالخصال الثلاث.
وقال الإمام: إنه متخرج مما إذا فدى الذكر بالأنثى، وهو بعيد؛ فإن الحمل إذا تحقق زيادة في الخلقة معتبرة.
وقد قال الفوراني بعد حكاية النصين- كما ذكرنا-:
قال الأصحاب: وليست المسألة علي قولين، ولكن إن أراد الذبح ذبح الحائل، وإن أراد التقويم فعليه تقويم الماخض؛ لأنها أكثر قيمة؛ وبهذا يحصل في المسالة عندهم ثلاثة أوجه:
والثاني: [ما] حكيناه عن بعض المراوزة.
والثالث: ما أُوِّلَ النصان عليه.
وقد قال المزني في "المختصر": إذا قتل المحرم صيدًا ماخضًا، فعليه مثله من النعم ماخضًا، وقال به [بعض] الأصحاب؛ كما حكاه ابن يونس.
لكن الماوردي حكى عن الشافعي- رضي الله عنه إنه قال: "إني لو قلت: اذبح شاة ماخضًا كانت شرًّا من شراء شاةٍ [حائل] للمساكين، فتكون أزيد ثمنًا، ويتصدق بقيمتها طعامًا؛ فتكون أزيد إمدادًا، وإن أراد الصيام كان أزيد أيامًا".
وهذا القول بين ما أورده [مما حكاه] المزني عنه في "المختصر"؛ فلذلك لم
يقل [بظاهره] معظم الأصحاب، وإذ قلنا به، وأجريناه علي ظاهره، اجتمع في المسألة أربعة أوجه.
وقد اخذ على الشيخ في قوله: "ظبيًا ماخضًا"؛ فإن الصواب "ظبية "؛ لأن الظبي مذكر، والأنثى: ظبية؛ كما ذكرناه من قبل، ولا خلاف في ذلك.
وكذا اخذ عليه في قوله: "ضمنه بقيمة شاة"؛ لأن الواجب عليه عنز [كما ذكر النووي] والشاة [كما ذكرنا] تطلق علي الذكر والأنثى.
وجواب هذا: إن الشيخ اتبع فيه الشافعي- رضي الله عنه والمراد: العنز، نعم: لو قال: "بقيمة عنز" كان أوضح.
فرع: إذا ضرب المحرم بطن بقرة وحشية رقوبًا- وهي التي قربت ولادتها، وصارت مرتقبة- فألقت ما في بطنها، فإن عاش مع الأم، فقد أساء، ولا شيء عليه، وإن ماتا جميعًا، فإن خرج الولد حيًا، ثم مات مع الأم، فعليه إن يفدي الأم ببقرة كبيرة، والولد بعجل صغير.
وإن خرج ميتًا، فدى الأم ببقرة، والولد بما نقص من قيمة أمه بوضعه، [وهل المعتبر] القيمة حتى يخير فيها بان يشتري بها طعامًا أو يصوم عن كل مد يومًا، [أو المعتبر قدر] وما نقص من المثل؟ فيه الخلاف الذي سنذكره؛ صرح به البندنيجي.
وإن ماتت الأم دون الولد، ضمنها ببقرة.
وإن مات الولد دون الأم، فلا شيء في الأم، لكن ينظر في الولد: فإن خرج حيًا، ثم مات، ضمنه بعجل صغير؛ وإن خرج ميتًا، بما نقص من قيمة الأم، وهو إن تقوم حاملًا به، ثم حائلًا بعد الوضع، ثم ينظر إلى ما بين القيمتين: فإن كان العشر فهو الواجب، ويكون الكلام فيه كما إذا جرح صيدًا، فنقص عشر قيمته؛ قال في "الحاوي".
وحكى الفورإني: إن أبا ثور قال: يجب فيه عشر قيمة الأم؛ كولد الآدمي.
وقال: وإن قتل صيدًا لا مثل له من النعم: كالعصافير، والجراد، والطيور التي يحرم صيدها- وجبت فيه القيمة؛ [لما روى إنه عليه السلام قال:"في بيض النعامة يصيبها المحرم قيمتها"] وقد قضت الصحابة في "الجراد" بالقيمة، وهو مما لا مثل له؛ [لإنه تعذر] إيجاب المثل فيه؛ فضمن بالقيمة كمال الآدمي.
فإن قيل: الله- تعالى- قد أوجب المثل بقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95]، [فلم أوجبتم] القيمة؟ قيل: في جوابه وجهان.
احدهما: إن جميع الصيد لا مثل له إلا إن المثل علي ضربين:
احدهما: مثل من جهة الصورة.
والثاني: مثل من جهة القيمة، وجميعهما مثلان للمتلف؛ كالحكم على من اتلف طعامًا بمثله وعبدًا بقيمته، وكلاهما مثل على حسب الإمكان، وهذا ما أومأ إليه الشافعي في القديم.
والثاني: إن هذه الآية إنما دخل فيها الصيد الذي له مثل من النعم، وإما ما لا مثل له لم يدخل [في الجزاء المذكور] فيها، ولكن دخل في قوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] وهذا نصه في الأم وغيره.
قال: ثم هو بالخيار بين إن يخرج الطعام وبين إن يصوم- أي: هو بالخيار بين إن يخرج بقيمته طعامًا، ويتصدق به، وبين إن يصوم عن كل مد يومًا؛ لما تقدم.
ويجيء القول الذي حكاه أبو ثور في الترتيب؛ صرح به الرافعي.
ولا يجوز له إن يتصدق بقيمته دراهم؛ لما تقدم.
ثم ما المعتبر في قيمة الصيد: هل [يعتبر] بـ"مكة" أو بموضع الإتلاف؟ فيه خلاف مشهور في الطريقين.
وهل تعتبر القيمة حال [الإتلاف] أو حال الإخراج؟ اختلف فيه النص، والصحيح- كما قال القاضي الحسين وغيره-:[الأول] ، وهو الذي أورده الماوردي.
والفرق بينه وبين ما ذكرناه فيما له مثل- كما قال القاضي الحسين-: إن ما لا مثل له الواجب فيه القيمة، وحال وجوب القيمة هو حالة القتل، وما له مثل الواجب
فيه مثله، فبالقتل استقر المثل في ذمته؛ فإذا أراد الانتقال إلى القيمة، اعتبرت القيمة بتلك الحال؛ لإن هذه [الحالة] في التقدير هي حالة وجوب الفدية.
وما المعتبر في قيمة الطعام في مسألة الكتاب؟ قال الإمام: إذا قلنا بما رآه العراقيون اصح [وهو اعتبار قيمة] الصيد بموضع [الائتلافي-[وكلامهم متردد-[فيحتمل][إن يعتبر سعر الطعام في ذلك المكان أيضًا، ويحتمل إن يقال: إذا ضبطت القيمة بمكان الإتلاف] فالمعتبر في صرفها إلى الطعام سعر مكة، وهو الظاهر من كلامهم.
قال: إلا في الحمام، وكل ما عبَّ وهدر؛ فإنه يجب فيه شاة؛ لقضاء الصحابة بذلك، وهم- كما قال في "المهذب" تبعًا "للحاوي"- عمر، وعثمان، ونافع بن عبد الحارث، وابن عباس، ولم يخالفهم احد، وما مستندهم فيه؟
فيه وجهان:
أصحهما- وبه قال الشيخ أبو حامد، ويحكى عن النص: إنه توقيف بلغهم فيه.
والثاني: شبهه بالشاة فيما عبَّ؛ وهذا عند من يرى إن الحمام هو ما عبَّ وهدر؛ كما سنذكره.
[ومن رأي] إنه غيره- ومنهم الغزالي- قال: إما فيما عبَّ وهدر؛ فللشبه السابق، وأما في الحمام، فلشبه بالشاة في الخلق الجامع، وهو الاستئناس.
وقد اشعر كلام الماوردي حكاية الوجهين علي غير هذا النحو، فإنه قال:
"الشاة الواجبة في الحمام هل وجبت توقيفًا أو من جهة المماثلة والشبه؟ اختلف أصحابنا فيه علي وجهين:
أحدهما: وهو منصوص الشافعي- رضي الله عنه: إنها وجبت إتباعًا للأثر، وتوقيفًا عن الصحابة لا قياسًا.
والثاني: إنها وجبت من حيث الشبه والمماثلة؛ لأن فيهما إنسًا وإلفًا، وإنهما يعبان في الماء عبَّا".
وقد وجه ابن الحداد إيجاب الشاة في الحمام بانه مضمون بالجزاء؛ فضمن بشاة؛ كحمام الحرم، وأراد بذلك الاستدلال علي المنعالف، وهو مالك- رحمه الله فإنه يرى إن الواجب في حمامات الحرم شاة، ولا يجب علي المحرم إلا حكومة؛ لقول ابن عباس: في كل شيء ثمنه إلا حمام مكة.
[وجوابه: إنه قد ورد عن ابن عباس إنه أوجب في حمام غير مكة] شاة.
على إن القياس مقدم علي قوله وحده مع مخالفة غيره.
قال: ثم هو بالخيار بين الشاة والطعام والصيام؛ لما تقدم.
وحكي القاضي الحسين [إن] من أصحابنا من قال: لو اشترى بالقيمة ما تجوز الأضحية [به] ، جاز.
تنبيهان:
أحدهما: كلام الشيخ مصرح بانه لا فرق في إيجاب القيمة فيما عدا الحمام ونحوه بين ما صغر شكله عن الحمام: كالعصافير- كما ذكرنا- أو كبر شكله عنها: كالكراكي، والقطا، واليعقوب، وهو ذكر الحجل، وغير ذلك؛ وهو الجديد، واحد قولي القديم.
والآخر: إن ما كبر شكله عن الحمام تجب فيه الشاة من طريق الأولى.
وعن الشيخ أبي محمد: إنه بنى الخلاف علي الخلاف في إن الشاة وجبت في الحمام بالقياس أو توقيفًا: فعلى الأول لا تجب لفقد الشبه، وعلى الثاني تجب.
الثاني: قال الأزهري: قال الشافعي- رضي الله عنه: الحمام كل ما عبَّ
وهدر وإن تفرقت أسماؤه إلى اليمام، والدباسي، والقماري، والفواخت وغيرها.
وقد عزا البندنيجي ذلك إلى نصه في "الأم".
وعلى هذا يكون الشيخ بقوله: "وكل ما عبَّ وهدر" قد عطف الشيء علي نفسه وكذا الغزالي حيث قال في "الوسيط": وفي معنى الحمام كل ما عبَّ وهدر".
والجواب عن الشيخ: إن مثل ذلك جائز عندنا لاختلاف اللفظ؛ قال الشاعر [من الوافر]
.. ....... .......
…
وألفى قولها كذبًا ومينا
والكذب هو المين؛ علي أن أبا عبيد قال: سمعت الكسائي يقول: الحمام: هو الذي لا يألف البيوت، وهو الوحشي، واليمام: هو الذي يألف البيوت؛ وهو يوافق كلام البندنيجي في أول كلامه: الحمام: ما كان وحشيًا، واليمام: ما كان أهليًا.
وعن الأصمعي إنه قال: كل ذات طوق كالفواخت، والقماري وأشباههما؛ فهي حمام وهذا يدفع السؤال من أصله.
وفي "المهذب": إنه ينظر في الطائر: فإن كان حمامًا، وهو الذي يعبُّ ويهدر كالذي يقتنيه الناس في البيوت، والدبسي، والقمري، فإنه يجب فيه شاة، وهذا مغاير لجميع ما ذكرناه؛ فتأمله.
العَبَّ بفتح العين المهملة: شرب الماء بلا مص؛ قاله الزبيدي والجوهري، ويقرب منه غيرهما: إنه الذي يجرع الماء عند الشرب جرعاً.
قال الأزهري: وذلك مختص بالحمام البري والأهلي، وأما غيره من الطيور فينقر الماء نقرا، ويشرب قطرة قطرة؛ وهذا قاله بناء ما نقله عن الشافعي رضي الله عنه وعليه يرد مثل السؤال المتقدم.
وقد أورده الرافعي عن طريق آخر، فقال: الأشبه أنه ما عبَّ وهدر، فلو اقتصروا في تفسير الحمام علي العبَّ، كفاهم؛ يدل عليه الشافعي في عيون المسائل:"وما عبَّ في الماء عبَّا فهو حمام، وما شرب قطرة كالدجاج ليس بحمام".
والجواب الذي ذكرناه أولاً يدفع ما أبداه الرافعي، وقد جاء مثله في الكتاب العزيز في قوله تعالي {لِبَاسًا يُوَارِي سوأتكم وَرِيشًا} [الأعراف: 26]
واللباس: هو الريش؛ علي أن ألقاعي قال: العبَّ: شدة جرع الماء من غير تنفس، يقال: عبَّه يعبُّه عبَّا، وهو يدفع من أصله.
وقال صاحب المحكم: يقال في الطائر عبَّ، ولا يقال شرب.
الهدير: ترجيع الصوت ومواصلته من غير قطع، وهو التغريد.
وذلك في الدبسي والقمري، والفاخت، ونحوها.
قال: ويرجع في معناهم مما ذكرناه ونحوه - ووجهه في معرفة المثل قوله تعالي: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]
وفي معرفة القيمة القياس علي المثل؛ لأنها في معناه.
أما ما حكمت فيه الصحابة بشئ أو بعضهم وسكت الباقون، (ثبت ذلك) فيه، وصار مقدًرا به، لا يعدل عنه أبداً؛ لأن الله تعالي يقول:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وعدالة الصحابة أكد من عدالتنا؛ لأنهم شاهدوا الوحي، وحضروا التنزيل والتأويل، وجعلهم النبي صلي الله عليه وسلم كالنجوم.
وأيضاً: فإنهم إذا حكموا بشىيئ أو حكم بعضهم [به] وسكت الباقون عليه، [صار إجماعاً، وما انعقد الإجماع عليه] لا يجوز الاجتهاد فيه.
ولأجل هذه العلة قال القاضي الحسين: إن حكم التابعين وغيرهم من أهل الأمصار فيما ذكرناه حكم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
والمارودي وأبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ اقتصروا على إلحاق التابعين بالصحابة، وسكتوا عن غيرهم.
واعلم أن الآية تقتضي مع ما ذكرناه اشتراط الفقه في العدليين؛ لما سنذكره، وقد حكاه المار ودي عن الشافعي رضي الله عنه حيث حكي عنه أنه قال:"ولا يجوز لأحد أن يحكم إلا أن يكون فقيهاً؛ لأنه حكم، فلم يجز إلا بقول من يجوز حكمه".
لكن في "المهذب" أن كونهما فقيهين مستحب، وهو المذكور في "تعليق أبي الطيب" و" الشامل" و"البحر"، وقالوا: إن لفظ الشافعي _ رضي الله عنه "وأحب أن يكونا فقيهين".
وإذا جمعت هذا وما حكاه المارودي [حصل لك] في المسألة قولان.
وقال الإمام: المعتبر أن يكونا خبيرين من أصحاب الكياسة فيما يتعلق بهذا الغرض.
وقد حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: إذا كان القاتل فقيهاً عدلاً، جاز أن يكون أحد العادلين؛ لأنه روى بسنده أن رجلاً يقال له: أربد، وطئ ظبياً، فعقر ظهره، فقدم على عمر، قال له عمر:[احكم يا أربد فيه، فقال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم، فقال له عمر] إنما أمرتك أن تحكم فيه، ولم آمرك أن تزكيني،
فقال أربد: أرى أن فيه جديًا قد جمع الماء والشجر، فقال عمر: فذاك فيه؛ فأمضى عمر الحكم باجتهاده واجتهاد أربد، وكان قاتلاً، وليس يعرف له مخالف في الصحابة؛ وهذا ما جزم به الفوراني
ويمكن أن يؤخذ من كلام الشيخ: أنه بني قوله: "ويرجع في معرفة المثل
…
" إلي آخره لما يسلم فاعله.
وقد حكي الماوردي وغيره عن بعض الأصحاب: أنه لا يجوز أن يكون القاتل هو أخد العدليين؛ كما لا يجوز أن يكون مقومًا فيما أتلفه من حقوق الآدميين.
قال الغزالي: وهو الأوفيس.
وقال المارودي: إنه خطأ لما ذكرناه من عموم قوله تعالى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95].
وكذلك حقوق الآدميين؛ لأنها علي المشاحنة بخلاف حقوق الله تعالي.
وكذلك يرجع إلي من عليه الحق في الكفارات والزكوات.
وهذا الوجه يمكن أخذه من كلام الشيخ بأن يقرأ بفتح الياء آخر الحروف، وكسر الجيم؛ لأن الراجع غير المرجوع إليه، لولا أن الصحيح الأول، وحينئذ يتعين البناء كما ذكرناه.
ثم المسألة مصورة- كما القاضي الحسين والإمام ثم من بعدهم- بما إذا كان مخطئاً في القتل إذا كان عامداً، فسق به.
والبندنيجي والرافعي صوراها بهذه الصورة، وبما قتله لأجل المجاعة. وما ذكرناه من الخلاف جار كما قالا فيما إذا كان القاتلان هما المقومان.
فرع: لو حكم عادلان في حيوان بمثل من النعم، وحكم آخران فيه بمثل آخر-
فوجهان:
أحدهما: أنه يتخير في الأخذ بأيهما شاء.
والثاني: يأخذ بأغلظهما.
وهما كالوجهين فيما إذا اختلفت فثوي مفتيين له (فيما سألهما عنه)؛ قاله في "البحر"، ويخالف المسألة الأولي ما لو حكم عادلان بأنه له مثلاً، وآخران بأنه لا مثل له؛ فإنه يرجع إلي قول الحاكمين بالمثل؛ لأن النفي لا يعارض الإثبات.
قال: وإن جرح صيدًا له مثل؛ فنقص عشر قيمته، أي: إن لم يؤثر في إزالة امتناعه، أو لكونه صار ممتنعا بعد الاندمال.
قال: لذمه عشر ثمن المثل؛ لأن إيجاب عشر المثل يشق، فدل عنه كما عدل من زكاة الإبل إلي الغنم للعسر.
ولأن كل جملة مضمونة بالمثل يكون النقص الداخل عليها بالجنابة مضموناً بالأرقش من القيمة دون المثل؛ أصله الطعام المغصوب إذا بله الماء أو قلاه بالنار، فإن عليه أرش نقصه دون المثل، وهذا ما نص عليه في "المختصر"، وبه قال أبو إسحاق، وابن
أبي هريرة، وسائر أصحابنا؛ كمال قال الماوردي والبندنيجي، واختاره في المرشد.
وعلي هذا يكون مخيراً بين إخراج الطعام والصوم عن كل مد يوما بلا خلاف، وهل يكون مع ذلك في التصديق بالدرهم وإخراج عشر المثل أم لا؟ الذي قاله الشيخ أبو حامد - وهو المذكور في "الحاوي" والبحر:- الأول؛ فيكون مخيراً بين أربعة أشياء: بين أن يتصدق به، وبين أن يشتري به جزءا من المثل ويتصدق به كما سنذكره، وبين أن يشتري طعاماً ويتصدق به وبين أن يصوم عن كل مد يوماً.
وعليه ينطبق ما حكاه الرافعي عن بن أبي هريرة: أن له إخراج القيمة، وإن وجد
شريكاً في الذبح معه.
والذي أورده البندنيجي الثاني، وقال: إنه لو أخرج عشر المثل لم يجزئه وما قاله أخيراً هو الذي حكاه الرافعي عن رواية أبي القاسم الكرخي وغيره.
وعن البغوي أنه لا يتصدق بالدراهم، ولكنه يصرفها إلي الطعام، ويتصدق به أو يصوم عن كل مد يوماً، وهو الذي أشار إليه في الوجيز بقوله:"فعليه الطعام بعشر ثمن شاة".
قال: وقيل عجب عليه عشر المثل؛ لأن ما ضمن بالمثل ضمن بعضه يبعضه؛ كما لو أتلف ما يضمن بالمثل منن أموال الآدميين.
وعلي هذا قال المزني: إنه أولي بأصل الشافعي رضي الله عنه وساعده عليه الأكثر من الأصحاب؛ كما قال الرافعي؛ ولأجله قال الغزالي: إنه الصحيح.
وممن صرح بالتصحيح القاضي الحسين، وتبعه النووي.
والقائلون بهذه الطريقة اختلفوا علي ماذا يحمل النص؟
فمنهم من حمله - وهو صاحب التقريب؛ كمال قال في البحر-علي ما إذا عدم
عشر المثل، وهو الذي أورده الشيخ حيث قال: أن لا يجد عشر المثل وهو موجه بالضرورة.
والمراد بعدم الوجدان: ألا يجد من يشاركه الذبح.
ومنهم من قال: جزاء الصيد علي التخيير، والشافعي رضي الله عنه ذكر الأسهل وهو القيمة؛ لأن إخراج جزء من الحيوان فيه مشقة، والمزني بين ماهو الأصل في الواجب؛ فلا اختلاف بينهما؛ وهذه طريقة من نفي الخلاف في المسألة. وممن الأصحاب من أجري النص علي ظاهره، وأثبت تخريج المزني قولاً في المسألة وجعلها علي قولين، وتفريعهما ما تقدم.
وبذلك يجتمع في المسألة ثلاثة طرق.
وقال الرافعي: إن الأشبه من هذا كله تفريعا علي المنصوص إن أثبتنا الخلاف بغير الدراهم، وحكي قبل ذلك وجهًا في المسألة عن أبي إسحاق أنه يخير بين إخراج العشر وبين إخراج الدراهم.
أما إذا لم ينقص من قيمته شئ بعد الاندمال، فقد جزم القاضي أبو الطيب في تعليقه، وتبعه ابن الصباغ أن الحكم كما تقدم، ولا يسقط الجزاء.
وحكي غيرهما الوجهين فيما إذا نتف ريش طائر، ثم نبتت، ولم ينقص من قيمته شئ، هل يسقط الجزاء أم لا؟ بناء على القولين فيما إذا قلع السن، ثم نبت ولأفرق يظهر بين المسألتين؛ ولأجل ذلك حكي في "المهذب" الوجهين في الصورتين، واختار في "المرشد" منهما السقوط.
وبني ألفوراني وغيره من المراوزة الوجهين عند براء الصيد من الجرح علي الخلاف فيما إذا جرح آدميا، واندمل جرحه، ولم ينقص منه شيئاً هل يجب الحكومة أو لا؟
وحكي في البحر فيها عن القفال: أنه يجب عليه شئ بمقدار ما يجتهد القاضي
لذلك الوجع الذي أصابه.
ولو كان الصيد الذي نقص بجرحه عشر قيمته مما لا مثل له، فالواجب عشر القيمة بلا خلاف.
ويظهر أن يكون تخييره فيها كتخيره فيما إذا كان الصيد مما له، فيما يمكن أو أن يكون حكمه فيما يصرفه كحكمه فيما إذا أتلف صيداً لا مثل له.
فرع: يتعلق بما ذكره تبعا: وهو إذا نتف ريش طائر، فعاد وقد نقصت قيمته، أو قلنا يضمنه مطلقاً، وكان مما يضمن بالشاة، ففيما يضمنه خلاف كالخلاف فيما إذا جرح صيداً له مثل، فنقص من قيمته العشر مثلاً، والله أعلم.
قال: وإن جرح صيداً فأزال امتناعه- أي: واندمل الجرح- ضمنه بكمال الجزاء؛ لأنه عطله؛ فصار بمنزلة التالف؛ ولهذا يجب في قطع يدي العبد تمام قيمته، وهذا ظاهر نصه في الجامع الكبير، والأصح في الرافعي، وقال الإمام: أنه الذي ذهب إليه معظم ألائمه، ولم يحك في " الحاوي" غيره.
وقيل: يلزمه أرش ما نقص؛ لأنه لا يضمن ما لم يتلف، ويخالف ما إذا تلف؛ فإنه لو جاء محرم آخر فقتله، لذمه الجزاء، وهو مثله جريحاً، ويبعد إن يجب علي الجارح دون ما يجب علي القاتل، وإذا مات فقد أمن هذا المحذور؛ وهذا ما زيفه الإمام، وقال الرافعي: إنه الذي يحكي عن ابن سريج.
لكن الذي حكاه عنه غيره: أنه قطع به إذا قتله غيره محرما كان أو حلالاً؛ لأجل ما ذكرناه.
وفي " تعليق القاضي الحسين": أنا إذا قلنا بأن الجارح يضمنه بكمال الجزاء لو لم يقتبه غيره، فلو قتله غيره فوجهان:
أحدهما: يجب على كل واحد منهما جزاء كامل.
والثاني: أن الجزاء على القاتل، وعلى الجارح ما نقص وهو الذي أورده.
البندنيجي وصاحب "البحر"، وقالا: إن الجزاء الكامل إذا كان من النعم أوجبتاه جريحاً، فإن لم نجد جريحا من النعم عدل إلي القيمة، ولا يخفي أن محل تضمين القاتل في هذه المسألة إذا كان محرما.
أما إذا كأمم حلالاً فلا ضمان عليه، والحكم كما لولم يقتله أحد، وقد صرح به في "البحر" وغيره.
التفريع:
إن قلنا بالمنصوص، فلو كان الصيد مما يمتنع بالطيران والجري: كالنعام والدراجة، فأزال أحد الامتناع، فهل يضمن بكمال الجزاء؟ فيه وجهان: حكاهما الأمان عن العراقيين، وقال: إن من لم يكمل، فالغالب علي الظن أنه يعتبر ما نقص، وهو الوجه].
وعكس الوجهين لو أزال الامتناع، فهل يضمنه بجزاء واحد أو جزاءين؟
فيه وجهان: الذي ينطبق عليه كلام الشيخ الأول، وهو الذي أورده البنديجي.
ولو أزال امتناع الصيد ثم قتله قبل الاندمال، فهل يجب عليه موجب الأمرين كما لو قتله بعد الاندمال، أو تتداخل الجنابة؟ فيه وجهان حكاهما الإمام: كما لو قطع يدي شخص، ثم حز رقبته، والمذكور في " الوسيط" التداخل.
وإن قلنا بالقول المنسوب إلى ابن سيريح، قومناه صحيحًا، ثم مندمل الجرح، فإذا عرف ما بينهما، فهل نقول: هو الواجب، أو نقدره من المثل إن كان الصيد مثليًّا؟ فيه الخلاف السابق.
ولو كان الصيد قد غاب بعد جرحه، وجب عليه أرشه، ولا يضمن جميعه، والاحتياط أن يفديه بجملته.
وهكذا الحكم لو وجده ميتاً، ولم يدر من ماذا مات؟
قال الشيخ أبو حامد: وفيه نظر؛ لأنه وجد سبباً يمكن إحالة الموت عليه؛ كما لو جرح رجلاً فمات.
وغير الشيخ من المراوزة حكي فيه قولين؛ بناء علي القولين في حل أكله إذا كان الجارح له بالرمي غير محرم.
قال: وإن كسر بيض صيد- أي يجب به الجزاء- ولا فرخ فيه، لذمته القيمة؛ لقوله تعالى:{لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} الآية [المائدة: 94].
قال مجاهد: ما تناله أيدينا: الفراخ والبيض؛ فدل علي أن ذلك من الصيد، وإذا كان صيداً، وجب الجزاء بإتلافه؛ كالفراخ.
وقد روي عن كعب بن عجزة أن النبي صل الله عليه وسلم "قضي في بيض النعام أصابه المحرم بقيمته"، وروي "بثمنه" وهي رواية أبي هريرة.
ولأنه خارج من الصيد الذي يجب بقتله الجزاء، وقد يكون منه مثله؛ فوجب أن يكون فيه قيمته إذا كان مما قيمته؛ أصله الصيد بعينه؛ فإنه خارج من الصيد الذي يجب بقتله [الجزاء].
وعن المزني أنه لا يجب فيه شئ، وما ذكرناه حجة عليه.
وعلي هذا هل تعتبر بـ"مكة" أو بموضع كسره؟ فيه القولان السابقان؛ صرح يهما الماوردي، وقال: أنه يرجع في تقويمه إلي اثنين، ويجب أن يكونا فقهين عدليين، ويكون مخيراً [بين] أن يتصدق بالدراهم، أو بطعام يساوي قدرها، أو يصوم عن كل مد يوماً.
أما إذا كان فيه فرخ: فإن كان ميتاً، فالحكم كما تقد، وإن كان حيًّا، فإن سلم وطار، فلا شئ عليه، وقد أساء وإن مات ضمنه، لكن بماذا؟ ينظر: فإن كان مما لا حياة مستقرة، ولا يجوز أن يعيش مثله، فيجب عليه قيمته.
وإن كانت الحياة مستقرة وترجي حياته، فإن كان فرخ نعامة ففيه ولد ناقة، وأنن كان فرخ حمامة ففيه وجهان:
أحدهما: فيه شاة؛ كما يجب في أمه.
والثاني: ولد شاة رضع أو فطيم يكون قدر بدنه من الشاة بقدر بدن الفرخ من أمه، وهو ما أورده ابن الصباغ.
وقال الماوردي: إن الوجهين ينيبان على أن الشاة الواجبة في الحمام وجبت توقيفاً، أو من طريق الشبه والمماثلة؟
وأن كان فرخ ما دون الحمام: كالعصفور، ففيه القيمة.
وأن كان فرخ ما فوق الحمام: كالكروكي، فإن قلنا: يجب فيه القيمة، فكذلك في فرخه، وإن قلنا: يجب فيه الشاة، كان في فرخه الوجهان في فرخ الحمام.
وقد أدخل الشيخ في كلامه بالصريح البيض المذر، إذا كانت له قيمة وهو بيض النعام لأن قشره ينتفع به وهو الذي صرح به الماوردي والبنديجي وأبو الطيب وغيرهم.
لكن قال في "الوسيط": إنه لا شيء عليه؛ لأنه لم يبق حرمة الروح.
وقاسه في " النهاية" علي ما لو أتلف ريش طائر منفصلاً عنه.
وأخرج الشيخ بمفهوم كلامه ما القيمة له وهو المذكور في كتب الأصحاب. وفي معنى كسر البيض نقله من موضوع ففسد، سواء كان فساده؛ لنفور الطائر عنه، أو لكونه أحضنه دجاجة، أو لم يكن شئ من ذلك اللهم إلا أن يكون قد باض على فراشه، فنقله، ولم يحضنه، فإن الشافعي رضي الله عنه – نقل عن عطاء؛ أنه لا يلزمه ضمان؛ لأنه مضطر إلي ذلك.
وقال: إنه من المحتمل أن يضمن؛ لأنه أتلفه باختياره؛ فجعل الأصحاب- لأجل ذلك- في ضمانه قولين، وهكا كالقولين فيما إذا افترش الجراد في طريقه فقتله. ولو أحضنه دجاجة، فصار فرخاً، وطار، فلا ضمان عليه وإن كان مسيئاً.
فرع: إذا نتف ريش صيدد، قال الشافعي- رضي الله عنه: يضمن مابين قيمته منتوفا وبين قيمته
عافيَّا، أي: نابت الشعر وهو عند الأصحاب محمول على ما إذا كان الصيد مما يضمن بالقيمة، أما إذا كان مضموناً بالمثل، ففيه الخلاف السابق.
ولو عاد الريش، فقد تقدم الكلام فيه وعليه إذا نتف ريشه حطي صار غير
ممتنع: أن يمسكه، ويطعمه، ويسقيه؛ لينتظر ما يئول إليه حاله.
ولو حلب لبن صيد، ضمنه، كالبيض.
وفي البحر أن أصحابنا قالوا: لا جزاء عليه. والفرق بينه وبين البيض: أنهه يكون من البيض الصيد واللبن بمنزلة ريقه وبوله وبعره.
قال: وأن اشترك جماعة أي: محرمون- في قتل صيد، لهزم جزاء واحد، لقوله تعالي:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فأوجب في قتل الصيد جزاء، وهو مثل المقتول، ومثل الواحد، سواء كان القاتل واحداً أو جماعة؛ كما أن مثل العشرة عشرة، سواء كان القاتل واجداً أو جماعة.
ولأنه إجماع الصحابة، حكاه الماوردي، وكأنه يشير إلي ما حكاه أبو الطيب: أن ابن عمر سأله جماعة قتلوا ضبعًا، فقال "على كلكم جزاء واحد"، ولا يعرف مخالف. وأيضاً فصيد الحرام لو قتله جماعة لم يجب عليهم إلا جزاء واحد، فكذا هنا.
وخالف هذا كفارة القتل حيث تعددت علي الصحيح؛ لأن تلك وجبت لهتك الحرمة لا بدلاً؛ ولهذا لم تختلف باختلاف المقتول صغيراً أو كبيراً، ولم تجب في الأطراف، ولا كذلك جزاء الصيد
أما لو كان بعضهم محرماً والبعض حلالاً، وجب علي المحرم ما يقتضيه التوزيع، ولا شئ علي الحلال؛ كما لو اشترك مسلم حر وحربي في قتل عبد مسلم، نص عليه الشافعي في " الأم".
قال: وإن أمسكه محرم، فقتله حلال، وجب الجزاء علي المحرم؛ لأنه تلف في يده، وهو مضمون عليه بوضع اليد، فأشبه ما لو غصب عبدا فقتل في يده، وبهذا خالف مال ومسم حرا، فقتله غيره؛ فإنه لا ضمان علي الممسك؛ لأن الحر لا يضمن بوضع اليد.
وظاهر كلام الشيخ أنه لا رجوع للمحرم عل الحلال إذا غرم؛ لأنه لو كأن يرجع عليه لقال: "ويرجع به علي القاتل"، كما قال في حلق الشعر، وهو قول الشيخ أبي حامد موجهاً له بأن الحلال يجوز له قتل هذا الصيد؛ فأشبه ما لو مات في يده حتف أنفه.
قلت: أو كما لو قتل العبد المغصوب في يد الغاصب حربي؛ ولأجل ذلك قال ابن الصباغ: إنه لأقيس عندي.
والذي حكاه القاضي أبو الطيب، ولم يذكر في "المهذب" سواه، وهو المختار في "المرشد" أنه يرجع على الحلال إذا غرم؛ لآن القاتل أدخله في الضمان؛ فرجع عليه؛ كما لو غصب مالا، فأتلفه أخره في يده.
وعلي هذا يظهر أن يكون الحكم في ماذا يرجع به إذا كفر بالمال أو بالصوم؟ كما تقدم فيما إذا حلق رأسه مكرها، وقلنا: يرجع علي الحالق.
قال: وإن قتله محرم آخر، وجب الجزاء بينهما نصفين؛ لأنه وجد سبب الضمان من كل منهما.
وظاهر هذا أنه لا يطالب كل منها إلا بنصف الجزاء.
ومن الأصحاب من قال: الجزاء على القاتل؛ لأنه اجتمع فيه [السبب] والمباشرة، وكل منهما موجب للضمان؛ فغلبت المباشرة؛ لأنه لا يجمع بين السبب والمباشرة إذا كان السبب غير صالح في شيء من الأصول؛ وهذا ما قال الرافعي: إنه الأظهر، وتبعه النواوي، وصححه.
وهذا الوجهان ذكرهما الشيخ أبو حامد، وقال في "البحر": إنهما يجريان فيما إذا أمسك محل صيد الحرم فقتله آخر.
وقال القاضي أبو الطيب في مسألة الكتاب: الصحيح من المذهب: أنه يجب الجزاء على كل واحد منهما، فإن أخرجه الممسك يرجع على القاتل [وإن أخرجه القاتل، لم يرجع [به] على الممسك] وهو ما صدر به القاضي الحسين كلامه، وصححه في "العدة".
وقال ابن الصباغ: إنه الأقيس عندي.
وقولهم: إن الجزاء على القاتل؛ لاجتماع السبب والمباشرة ينتقض بما لو غضب شيئاً، فجاء آخر فأتلفه في يده؛ فإنه يجب الضمان على الغاضب.
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يحصل ذلك بدلالة المحرم الذي في يده الصيد أو لا.
قال: وصيد الحرم حرام على الحلال والمحرم [أي:] اصطياده؛ لما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام، حرمه الله تعالى يوم خلق السموات [والأرض] فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، لا يعض شجره، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاؤه".
قال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر؛ فإنه [لنعمهم ولبيوتهم؛ فقال: "إلا
وقد جاء من طريق آخر "إلا الذخر؛ فإنه لقبورنا وبيوتنا". وفي "تعليق القاضي الحسين": أن العباس قال: " إلا الذخر؛ فإنه لقينا [وقبورنا][وبيوتنا]).
والقين: الحداد.
وجاء: "فإنه لصياغتنا". ووجه الدلالة من الخبر أنه حرم تنفير صيد مكة، وليس المراد نفس البلد، وإنما أراد الحرم، وإذا كان التنفير محرما كان القتل والاصطياد أولي به.
وقد قيل: إن معني قوله عليه السلام: " لا ينفر صيدها": لا يتعرض له بالاصطياد، ولا يهاج فينفر.
وادعي القاضي أبو الطيب إجماع المسلمين علي تحريم صيده. وقد أختلف العلماء أن مكة -شرفها الله تعالي- صارت حرماً آمناً بدعوة إبراهيم عليه السلام أو كانت قبله كذلك.
وسبب اختلافأنهم ما ذكرناه من الخبر، وما سنذكره من قوله عليه السلام:"إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة"؛ قال النووي في " المناسك".
والصحيح من القولين الثاني؛ لما ذكرناه من الخبر. والجواب عن الخبر الآخر الذي سنذكره: أن إبراهيم عليه السلام أظهر تحريمها بعد أن كان مهجوراً لا أنه ابتدأه. وقد تقدم أن المراد بـ"مكة" في الخبر: الحرم، وسيأتي ذكر حدوده - إن شاء الله
تعالى- في باب عقد الذمة؛ لأن الأصحاب تكلموا فيه ثم عمل عليه علامات من جوانبه كلها، ومنصوب عليها أنصاب، ذكر الأزرقي وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل عليه السلام عملها، وجبريل عليه السلام يريه مواضعها، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحديدها، ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية رضي الله عنهم وهي إلي الآن بينة ولله الحمد.
وقد أختلف العلماء في سبب تحديده بما سنقف عليه: فقيل: إن جبريل- عليه السلام أراه إبراهيم الخليل، علي نبينا وعليه السلام. وقيل إن آدم عليه السلام لما أهبط خاف الشيطان، فأنزل الله تعالي له ملائكة تحرسه، فحيث وقفت من كل جانب كان ذلك حده منه.
وقيل: أنزلت خيمة من الجنة، فضربها، ووقفت الملائكة من ورائها تحرسه؛ فالحرم موقف الملائكة.
وقيل: إن الحجر الأسود لما أهبط إلي الأرض، أضاء نوره شرقاً وغرباً، ويميناً وشمالاً؛ فكان حد الحرم حيث انتهي نوره.
قال: فمن قتله منهما، أو أتلف في يده، أو جزء منه- وجب عليه ما يجب علي المحرم في صيد الإحرام؛ لأنه روي عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في حمام مكة شاة، ولم يخالفهم أحد، وإنما أوجبوها علي المحل؛ إذ لو كان علي المحرم، لما اختص بحمام مكة دون غيره.
وقد قال عليه السلام في الضبع كبش إذا إصابة المحرم، ومن دخل الحرم يسمي محرماً؛ قال الشاعر:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ........
…
.............
…
............
وأرد أنه كان في حرم المدينة، والعرب تقول:"أنجد الرجل"؛ إذا دخل نجدًا،
و"أتهم" و"أحرم"؛ كذا قال ابن الصباغ وغيره.
قلت وإذا كان كذلك، كان الاستدلال بقوله تعالي:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية [المائدة:95] أولى، وأيضاً فقد قرئ "وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً" بفتح الحاء والراء ولأنه صيد يحرم قتله؛ لحق الله تعالي؛ فوجب بإتلافه وبإتلاف جزئه الجزاء؛ كصيد غير الحرم بالنسبة إلي المحرم.
وهو الذي ذكره الشيخ شامل للواجب وصفته من التخيير والتعديل، لكنه يدخل ما إذا قتله عند صياله عليه، وكذا عند صيال راكبه. وجوابه فهم خروج ذلك مما تقدم.
ولا يتكرر الجزاء بقتل المحرم صيداً في الحرم؛ لأن المقتول واحد، وشبه هذا بقتل القارن الصيد؛ فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد، ثم المراد بصيد الحرم ما كان فيه بحيث لو كان في الحل، حرم علي المحرم اصطياده؛ لأجل الإحرام.
وأردنا بذلك إدخال الطيور التي في هواء الحرم؛ فإنه يحرم صيدها كما يحرم علي المحرم صيد الطائر في الهواء.
وأخرجنا بقولنا: " لأجل الإحرام" الصيد المملوك للحلال إذا أدخله الحرم؛ فإن صيده في الحل حرام؛ لأجل الملك.
وقد قال الأصحاب- كما حكاه الماوردي، وتبعه في "المهذب" وغيره: إنه يجوز لصاحبه قتله في الحرم والتصرف فيه، ولا جزاء عليه؛ لأنه ملكه خارج الحرم؛ فجاز له التصرف [فيه] في الحرم؛ كما لو أدخل شجر الحل إلى ملكه في الحرم، ونبت فيه.
وقد حكى البندنيجي وغيره ذلك عن النص، لكن ما ذكرناه يخرج -أيضاً- ما لو
كان في الحرم نهر، وفيه صيد عن أن يحرم صيده، ووجوب الجزاء فيه، وهو موافق لما أطلقه المسعودي.
لكن في "البحر" أن الصيمري قال بتحريمه.
وقد ظهر لك مما ذكرناه: أنه لو نفر صيداً من الحل، فدخل الحرم، ثبت له حرمة الحرم، وقد صرح به الأصحاب، وقالوا: إنه لو تلف ضمنه المنفر.
والفرق بينه وبين ما إذا غرس [شجر] الحل في الحرم، لا يثبت له حرمة شجر الحرم: أن الصيد ليس بأصل ثابت، بل منتقل في العادة؛ فاعتبر فيه حكم المكان، والشجر أصل ثابت، ليس بمنتقل؛ فاعتبر [فيه حكم] أصله.
ومنه يظهر أيضا: أنه لو كان في الحل، ورمى إلى صيد في الحرم، فقتله، أو جرحه - ضمنه.
وكذلك لو حبس صيداً في الحل، وله فراخ في الحرم؛ فماتت جوعا - ضمنها؛ كما نص عليه في الإملاء؛ لأنها ماتت بسبب فعله.
وكذا لو قتل صيداً، في الحل بعضه، وبعضه في الحرم [ضمنه]؛ تغلبيا للتحريم؛ كما يضمن المحرم المتولد من مأكول وغيره؛ وقد صرح به الفوراني والرافعي، وكذا قاله البندنيجي، وأنه لو كانت جميع قوائمه في الحرم ورأسه في الحل، فأصاب الرأس، فالحكم كذلك.
وقال القاضي الحسين: إن ضمانه منوط بما إذا كانت إحدى يديه أو رجليه في الحل، والأخرى في الحرم.
أما [لو كان] رأسه في الحرم وباقيه في الحل، فرمى من الحل إلى ما هو خارج الحرم - فلا جزاء عليه.
وفي "الحاوي" حكاية ثلاثة أوجه فيه:
أحدها: لا جزاء فيه: لأن حرمة الحرم لم تكمل.
والثاني: إن كان أكثر الصيد في الحرم ففيه الجزاء، وإن كان أكثره في الحل فلا
جزاء عليه؟ اعتباراً بالأغلب.
والثالث: وبه أجاب بعض متأخري أصحابنا حين امتحن بالسؤال عن الحكم في هذه المسألة:
إن كان الصيد قد خرج من الحل إلى الحرم لم يضمنه، وإن كان قد خرج من الحرم إلى الحل ضمنه؛ استصحاباً لما كان عليه [إلى] أن يتم خروجه عنه.
قلت: ويؤيده ما ذكره الأصحاب فيما إذا أدخل رجليه الخف على طهارة، وقبل استقرارهما فيه أحدث - لا يجوز له المسح عليهما ما لم ينزعهما، ويجدد الطهارة، ثم يلبسهما.
ولو نزع رجليه من الخف، فقبل استكمال نزعهما، أحدث في المدة - يجوز له المسح عليهما.
وما ذكره القاضي الحسين من أنه لوكان في الحرم، وأخرج يده إلى الحل ونصب فيه شبكة، فتعلق بها صيد الحرم أو الحل وهو حلال، لا جزاء عليه [لا يرد عليه][ولا يرد عليه] ما قاله القاضي الحسين - أيضاً - فيما إذا كان في الحل، فأدخل يده الحرم، ونصب فيه شبكة أو حفر فيه حفرة فوقع فيه صيد الحرم - أنه يضمنه؛ لما ذكرنا من قبل: أنه لوكان بجملته في الحل، ورمى إلى صيد [في] الحرم ضمنه.
واعلم أنه كما يحرم عليهما ميد الحرم، يحرم الاصطياد فيه لصيد الحل، مثل أن يرمي من الحرم سهماً إلى صيد في الحل، أو يرسل عليه كلباً؛ لأن كونه في الحرم يوجب تحريم الصيد عليه، كذا قاله الأصحاب.
ويرد عليه ما حكيناه من قبل عن رواية القاضي الحسين فيما إذا كان في الحرم، فأدخل يده الحل، ونصب فيه شبكة؛ فوقع بها صيد الحل أو الحرم - لا جزاء عليه.
وقد ألحقوا بذلك ما لو حبس صيداً في الحرم، وله فراخ في الحل؛ فماتت جوعاً، وقالوا: إنه يضمنها.
وليس في كلام الشيخ تعرض لهاتين الصورتين إلا أن يستعمل قوله: "وصيد الحرم حرام" في معنيين مختلفين: وهو الاصطياد في الحرم، ونفس صيد الحرم، ولا يمكن ذلك؛ لأن اللفظ الواحد لا يستعمل كذلك.
وأيضا: فيعكر عليه قوله من بعد "فمن قتله منهما
…
" إلى آخره؛ فإنه يقوي أن مراده المعنى الثاني لا غير.
فرع: إذا رمى وهو في الحل صيداً في الحل، فمر السهم في جانب من الحرم، وأصاب الصيد، وهو في الحل - ففي ضمانه وجهان، وقيل: قولان، وقيل: إن الشافعي رضي الله عنه علق القول فيه.
والمذكور في "تعليق البندنيجي"، والمختار في "المرشد": أنه لا ضمان، وقد حكاه في "البحر" عن الشافعي رضي الله عنه.
ووجه مقابله بأنه لما صار في الحرم فقد خرج من الحرم إلى صيد في الحل، فأشبه ما لو خرج ابتداء منه.
وقال الماوردي: إن القولين يجريان في نظير المسألة من إرسال الكلب، وفيه نظر؛ لما سنذكره من أنه لو أرسله على صيد في الحل، فأصابه أو غيره في الحرم – لا
جزاء عليه، بخلاف السهم، والله أعلم.
تنبيه: في قول الشيخ: "فمن قتله منهما
…
" إلى آخره - ما يقتضي أمرين:
أحدهما: أنه لا فرق في حصول ذلك بالسبب أو المباشرة، عمدا أو خطأ، وهر كذلك عند الأصحاب حتى قالوا: لو نفَّر صيداً من الحرم، فتكسر في نفاره في الحل، ضمنه.
قال الإمام: بلا خلاف؛ لأنه من ضمانه إلى أن يستقر ويسكن.
وقد قيل: إنه من ضمانه حتى يرجع إلى الحرم؛ قاله الصيدلاني، وهو زلل فإنه ليس عليه السعي في رده إلى الحرم.
وقالوا: إنه لو رمى إلى صيد في الحل، فأصاب صيداً في الحرم: إما ذاك الصيد أو غيره - يلزمه الضمان، بخلاف ما لو أرسل كلباً على صيد في الحل، فقتل صيداً في الحرم [ذاك] أو غيره، فإنه لا ضمان عليه؛ لأن للكلب اختياراً، كذا حكاه الفوراني والبندنيجي وغيرهما، وعزاه الماوردي إلى النص.
وحكى القاضي [الحسين وجها آخر فيها إذا أرسل كلباً على صيد في الحل، فدخل الحرم، وتبعه الكلب: أنه يلزمه الضمان]؛ كما في نظير المسألة من رمى السهم، وهذا نظير ما حكيناه عن الماوردي في المسألة السابقة.
قال القاضي الحسين: ومحل القول بعدم الضمان في مسألة الصيد إذا كان [لكلب الصيد طريق آخر] غير الحرم فلو لم يكن له طريق سواه ضمنه.
قال الإمام: وان كان غير آثم.
وقال الماوردي: إن محله كما قال [الأصحاب] إذا كان مرسله قد زجره عن اتباع الصيد في الحرم، فلم ينزجر، أما إذا لم يزجره مرسله، ولا منعه من اتباعه- فعليه الجزاء، لأن الكلب المعلم إذا أرسل على صيد تبعه حيث توجه.
وقد تقدم ذكر الأسباب المضمنة للصيد في حق المحرم، وهي جارية هنا، فلا حاجة إلى إعادتها.
نعم: من جملة الأسباب ما لم يذكر ثمَّ، وهو إذا نفر صيد الحرم، فخرج إلى الحل، فقتله قاتل، فإن أكثر النقلة أطلقوا القول بأنه يجب على المنفر ضمانه إذا كان القاتل حلالُا، ولعل ذلك محمول على ما إذا قتله قبل سكون نغاره لا بعده: كما تقدم أن الصحيح زوال الضمان عنه به.
وقال الماوردي: إنه ينظر:
فإن كان القاتل محرماً، كان الضمان عليه لا غير.
وإن كان حلالاً، قال أصحابنا: فإن لم يكن حين نفره ألجأه إلى الحل، ومنعه من الحرم - فلا ضمان على المنفر والقاتل، وإلا ضمنه المنفر.
الأمر الثاني: أن الكافر إذا قتل صيد الحرم، ضمنه وإن كان لا يضمن صيد غيره إذا أحرم وقتله؛ لأنه حلال: فاندرج تحت قوله، وهو المذكور في "تعليق البندنيجي" و"القاضي أبي الطيب"، وحكاه في "المهذب" عن بعض الأصحاب موجهاً له بأنه
ضمان يتعلق بالإتلاف؛ فاستوى فيه المسلم والكافر، كسائر الأموال.
ثم قال: ويحتمل عندي أن لا ضمان عليه؛ لأنه غير ملتزم لحرمة الحرم؛ فلا يضمن صيده.
وعلى الأول يكون حكمه حكم المسلم في كيفية الضمان إلا في الصيام، قاله البندنيجي.
قال: ويحرم على الحلال والمحرم قلع شجر الحرم - أي: في حال رطوبته- سواء كان قد نبت بنفسه، أو استنبت؛ لقوله تعالى:{وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3] وقوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91]، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق "لا يعضد شجره"، والعضد القطع.
وهكذا حكم ما كان بعض أصله في الحل، وباقيه في الحرم: تغلبياً للتحريم؛ حكاه البندنيجي.
وقيل: لا يحرم قلع ما أنبته الآدمي؛ لأنه شبيه بالحيوان الأهلي، والقائل بهذا تمسك فيه بقول الشافعي رضي الله عنه في "الإملاء" كما قال القاضي أبو
الطيب والبندنيجي وغيرهما:" ومن قطع من شجر الحرم، فعليه الجزاء؛ لأنه لا مالك له"، وهذا الوجه لم يحك الفوراني غيره، وهو الذي أورده القفال؛ كما قال الطبري.
ويشبه أن يكون قول صاحب التلخيص فإنه قال: "الاعتبار بالقصد لا بالجنس، فما استنبت لا يضمن، وما نبت بنفسه ضمن من غير نظر إلى الجنس.
والقائل بهذا لا يثبت الأول.
وقال البندنيجي: إنه يثبته، ويجعل في المسالة قولين، وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة طرق.
قال الشيخ: والأول هو المنصوص، ووجهه على الخصوص: أنه شجر نامٍ غير مؤذٍ نبت أصله في الحرم، فأشبه ما أنبته الله تعالى.
قال القاضي الحسين: ولأنه ما من شجر إلا ويوجد ذلك مباحًا في الآجام والغياض.
وقول الشافعي- رضي الله عنه" لأنه لا مالك له"، لم يذكره ليخرج به ما له مالك التحريم، ولكن ذكره؛ ليخرج به الشجر المملوك في الحرم؛ فإنه يجب فيه مع الجزاء القيمة بلا خلاف؛ كما في الصيد المملوك، وهو لم يذكر القيمة.
وصورة ذلك- كما قال في" البحر"- إن نبت الشجر بنفسه في موضع مملوك لإنسان من الحرم.
وقد وجه في" المهذب" المنصوص بأن ما حرم لحرمة الحرم يستوي فيه المباح والمملوك؛ كالصيد.
وكأنه- والله أعلم- يشير إلى ما ذكره الماوردي في توجيه هذا القول: إن الحرمة للحرم لا للشجر؛ فلا فرق بين ما أنتبه الله تعالى في الحرم وبين ما نقله الآدميون من الحل إلى الحرم، ألا ترى لو أن رجلًا صاد من الحل صيدًا، وأطلقه في الحرم، كان كصيد الحرم؛ لحرمة المكان؛ فكذلك الشجر.
فإن قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنه [إما أن] يعتقد أن الصيد بإطلاقه خرج عن ملك صائده أو لا.
فإن اعتقد ذلك، كان خلاف المذهب؛ فلا يحسن الاستدلال به [على] المذهب.
وإن لم يعتقد ذلك- كما أفهمه [لفظه في المذهب] فليس من صيد الحرم؛ [لأن صائده يجوز له ذبحه في الحرم] والتصرف فيه؛ كما حكيناه من قبل عن النص، وانه لم يحك غيره، وذلك يدل على أن حرمة الحرم لا تثبت عليه، وإذا كان كذلك، فلا جزاء فيه، وقد صرح هو به من بعد، حيث قال: لو أتلفه غير مالكه، [وجب] عليه القيمة لا غير.
قلت: الذي ينفي النظر: أن يحمل كلامه على أنه يعتقد زوال الملك عنه بإطلاقه؛ كما صرح به من بعد، وهو منه محمول - أيضًا- على ما إذا قصد بإرساله التقرب إلى الله تعالى؛ فإنه قال "-كما حكيناه عنه في باب الصيد والذبائح- به ولم يحك غيره"، وهو وجه حكاه ابن الصباغ في المسألة، والله اعلم.
ثم ما المراد بما أنتبه الآدميون الذي وقع فيه الخلاف؟
اختلف فيه الناقلون:
فكلام الماوردي الذي حكيناه آنفًا يفهم أنه المنقول من الحل إلى الحرم، وقد صرح بأنه الذي ينبته الآدميون في الموات دون الأملاك، أما الذي أنبتوه في الأملاك في الحرم، فلا يحرم قطعه بلا خلاف، وكأنه يشير بذلك إلى أنه إذا غرسه في الموات يقصد الإعراض عنه؛ فإنه لو قصد إبقاءه لنفسه، لغرسه في ملكه، وهو لا يزول ملكه عنه بذلك؛ فأشبه عند القائل بعدم التحريم ما لو غرس ذلك في ملكه.
وقال القاضي الحسين: إن المراد [به] ما أنبت أصله الآدميون، يعني: كالسفرجل، والتفاح ونحوهما، وإن كان قد نبت بنفسه، وعليه ينطبق قول ابن يونس: إن المراد جنس ما ينبته الآدميون عادة.
وقيل: المراد به إذا أخذ غصنًا من شجرة في الحرم، فأنبته في موضع آخر من الحرم، وهو ما حكاه الإمام عن صاحب التلخيص.
قال: فإن قلعه- أي: وهو رطب- وتلف، فإن كانت كبيرة ضمنها ببقرة، وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة؛ لأنه روي عن ابن عباس وابن الزبير: أنهما قالا: "في الدوحة بقرة، وفي الشجرة الجزلة شاة"، ولم يعرف لهما مخالف.
والدوحة: الشجرة العظيمة من أي شجر كان.
والجزلة: الغليظة؛ قاله الجوهري.
وفي "الحاوي" أن سفيان روى عن داود بن سابور عن مجاهد عن النبي- صل الله عليه وسلم- أنه قال: في الدوحة إذا قطعت من أصلها [بقرة].
وكذلك روى عن عطاء، لكن الشافعي- رضي الله عنه لم يذكره؛ وهذا هو الجديد الذي حكاه الجمهور.
[وعلى هذا] يكون مخيرًا في البقرة والشاة كما يكون مخيرًا في البدنة وغيرها من جزاء الصيد؛ قاله الماوردي والقاضي الحسين.
وقال الإمام تفريغًا [عليه]: إن البقرة إنما تجب في أكبر أشجار الحرم، ولم يقع التعرض للبدنة، ولكنّا لا نشك أنها في معنى البقرة.
وأما إيجاب الشاة، فليس في الشجرة الصغيرة التي فيها الشاة ضبط يهتدي إليه، ولعل أقرب قول فيه أن تكون قريبة من جنس الكبار، والشاة من البقرة سبعها، فليعتبر المعتبر هذا التقريب بين الدوحة والشجرة الصغيرة.
وإن كانت صغيرة جدًّا فالقيمة مصروفة إلى الطعام، ثم الصيام يعدل الطعام كما ذكرناه في الصيد.
وقد أقام في "البحر" لهذا وجهًا لبعض الخراسانيين من أصحابنا.
وقد حكى عن القديم قول: أنه لا ضمان في شجر الحرم وإن كان منهيًّا عن إتلافه، وهو مذهب أبي ثور، [لان الإحرام] لا يوجب ضمان الشجر؛ فكذلك الحرم.
أما إذا كان الشجر قد جف فقلعه، فلا شيء عليه.
قال القاضي الحسين: كما إذا قطع الصيد الميت إربًا إربًا.
قال الماوردي والبندنيجي: ولا فرق في ذلك بين أن يستهلكه أو لا.
ولو قلعه و [هو] رطب، ولم يتلف، بل كان باقيّاً على رطوبته، وجب عليه رده إلى مكانه، فإن استقر ونبت، فلا شيء عليه ما لم يحصل فيه نقص.
قال الماوردي: فإن قيل: أليس لو اخذ صيد الحرم، وأطلقه في الحل، لم يجب عليه رده إلى الحرم، فهلا كان الشجر كذلك؟
قيل: لأن الصيد يقدر على الرجوع إلى الحرم بنفسه، فلم يجب عليه رده، وليس كذلك الشجر.
ولو غرس ما قلعه في الحرم- أيضًا- ونبت فلا شيء عليه ما لم يحصل فيه نقص، ولا يجب عليه نقله إلى موضعه؛ لأن حرمة سائر الحرم واحدة؛ قاله الماوردي وغيره من العراقيين.
قال: وإن قطع غصنًا منها، ضمن ما نقص؛ لأن أغصانها منها كأعضاء الحيوان منه.
وعلى هذا إذا كان النقص عشر القيمة مثلاً، فهل يجب عشر ما يجب في الجملة، أو عشر قيمته؟ الكلام فيه كما في جرح الصيد؛ قاله القاضي الحسين. وقد أفهم قول الشيخ أمرين:
أحدهما: أنه لا فرق بين أن يكون الغصن المقطوع في الحرم أو الحل، وهو الذي صرح به الأصحاب، كما صرحوا بأنه لو قطع غصنًا في الحرم من شجرة أصلها [في] الحل، لا جزاء عليه؛ نظرًا للأصل.
نعم: لو كان علي الغصن طائر، حرم صيده على من في الحل، وهو حلال في الصورة الأولى دون الثانية؛ لأن له حكم نفسه كما تقدم.
الثاني: أن محل الضمان إذا نقص من قيمتها شيء، أما إذا لم تنقص بالقطع بان قطع الأفنان، وهي الأغصان الصغار، فلا يضمن، وهو ما صرح به أبو حامد؛ لأنه لا يضر بها.
قال: ويخالف [هذا] ريش الطائر، وشعر الصيد؛ فإنه يضر به أخذه؛ فإنه يطير به، ويقيه البرد والحر.
وفي "تعليق البندنيجي": أن الشافعي- رضي الله عنه قال في القديم: ويقطع السواك من فروع الشجر، ويؤخذ الورق والثمر منها للدواب إذا كان ذلك لا يميتها ولا يضرها؛ لأن هذا يستخلف، فيعود كما كان.
قال: فإن عاد الغصن، سقط الضمان في أحد القولين، ولم يسقط في الآخر.
هذان القولان ينبنيان على ما إذا قلع سن كبير فعاد، هل يسقط الضمان أم لا؟ كما سيأتي:
فمن قائل: يسقط؛ لعوده.
ومن قائل: لا يسقط؛ لان العائد غيره، وهو الذي صححه النواوي.
وفي "الإبانة"، و"تعليق القاضي الحسين": أنه ينظر: فإن لم يكن يخلف في تلك السنة ضمنه، وإلا فلا.
ثم قال القاضي: وفيه نظر.
ولو كان قد أخذ الغصن المقطوع، وغرسه في الحرم، فإن مات، فالحكم [كما] تقدم، وإن نبت، فلا ضمان عليه بلا خلاف، ويثبت لهذا الغصن حكم أصله حتى لو قلعه قالع ضمنه.
وقال صاحب التلخيص: إذا كان يعتبر القصد فلا تثبت الحرمة لهذه الشجرة.
ومن طريق الأولى جريان مثل ذلك فيما لو غرسه في الحل، ونبت ألا تثبت له حرمة الحرم.
وقد أطلق الأصحاب القول بأنه لو غرسه في الحل فإن لم ينبت، فالحكم كما لو غرسه في الحرم ولم ينبت.
وإن نبت وجب عليه نقله للحرم، فلو قلعه قالع في الحل ضمنه [وقال الإمام: فيه تردد ظاهر عندي] وكان القرار عليه، كما لو غصب شيئًا، فأتلفه غيره في يده؛ قاله البندنيجي.
وحكم النواة- كما قال الفوراني- حكم الغصن في كونه إذا استنبت في الحل يكون إذا طلع حكمه حكم الأصل.
قال: وإن أخذ أوراقها- أي: ولم تجف في- لم يضمن؛ لأنها تستخلف في الغالب.
نعم: هل يجوز ذلك؟
الذي أورده الماوردي الجواز في حال جفافه، والمنع في حالة رطوبته؛ لأن فيه إضرارًا بالشجرة، فلا يجوز؛ كنتف شعر الصيد وقد يشهد لما نصه في "الإملاء""ولا يخبط ورق الشجر للدواب".
لكن الذي أطلقه الجمهور الجواز، [و] قالوا: إن أخذه لا يضر بها.
ولفظ البندنيجي: أن له خبط ورق الشجر والأفنان الرطبة الغضة التي تحل محل الورق، وأخذ ذلك؛ لعلف الدواب، وغير ذلك، وقال: إنه نص عليه في القديم.
وليس هذا مع ما قاله في "الإملاء" باختلاف قول، وإنما منع منه في "الإملاء"؛
لأن العصا إذا وقع عليها وصل إلى القضبان، فقشرها، وربما كسرها؛ فلهذا منع منه.
تنبيه: قد ذكرنا أنه إنما لم يضمن الورق؛ لأنه يستخلف في الغالب، ومنه يظهر لك أنه يجوز إخراج ماء زمزم؛ لأنه يستخلف، وقد صرح به الأصحاب، وقالوا: لا يكره؛ لأن عائشة كانت تفعل ذلك، وهذا بخلاف تراب الحرم وأحجاره؛ فإنه لا يجوز إخراجها لعدم استخلافهما؛ قاله في "المهذب"، و"الحاوي" وغيرهما، فلو أخرج شيئًا من ذلك وجب عليه رده.
ومن طريق الأولى أنه لا يجوز أخذ شيء من طيبها، ويجب رده على من أخذه، وبه صرح الأصحاب.
وقالوا: من أراد التبرك فليأت بطيب من عنده، يمسحها به، ثم يأخذه.
لكن المذكور في "الإبانة" و"تعليق القاضي الحسين": إنه يجوز إخراج التراب، لكنه مكروه.
وقياس ذلك أن يطرد في الحجر، وقد صرح به الرافعي فيه أيضا، ولم يحك سواه، ويمكن أخذه من قول الشافعي- رضي الله عنه في القديم:"وأكره أن يخرج [من تراب الحرم وأحجاره] شيء إلى غيره".
ثم قال الشافعي- رضي الله عنه وقد رخص بعض الناس في ذلك، [واحتج] بشراء البرام من "مكة"، والبرام من الحل على يومين أو ثلاثة، يعني: ليس في الحرم، فلا حجة في [ذلك].
لكن في "البحر": أن هذا يدل علي أنه يجوز ذلك، ويكره، وأن بعض أصحابنا ذكر ما يدل على أنه يحرم، ولكن لا يضمن، وهو خلاف المذهب.
وقد أعرب الرافعي فحكى عن الشيخ أبي الفضل بن عبدان: أنه لا يجوز قطع شئ من ستر الكعبة- شرفها الله تعالى -ونقله وبيعه وشراؤه، وأن من حمل منه شيئًا فعليه رده، وهو قاعد ما لا يستخلف.
وقول أبي عبد الله الحليمي- ويوافقه قول ابن القاص: لا يجوز بيع كسوة الكعبة.
وقال ابن الصلاح: الأمر فيها إلى الإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعًا وعطاء، واحتج بما ذكره الأزرقي أن عمر بن الخطاب كان ينزع كسوة البيت كل سنة، فيقسمها على الحاج.
قال النواوي: وهذا حسن.
وقد روى الأزرقي عن ابن عباس وعائشة أنهما قالا: تباع كسوتها، ويجعل ثمنها في سبيل الله، والمساكين، وابن السبيل.
وقالا: وكذا أم سلمة: ولا بأس أن يلبس كسوتها من صارت إليه من حائض وجنب وغيرهما.
قال: ويحرم قطع حشيش الحرم؛ لقوله- عليه السلام في الحديث السابق الذي رواه ابن عباس: "ولا يُخْتَلى خلاه"؛ كذا قاله [بعض] من الأصحاب، ومنهم ابن الصباغ، والقاضي أبو الطيب والماوردي.
ولك أن تقول: الخلا بفتح الخاء مقصورًا: النابت ما دام رطبًا، وكذلك العشب، فإذا يبس فهو الحشيش والهشيم، ولا يقال له رطبًا: حشيش.
وذكر ابن مكي وغيره من لحن العوام [إطلاق] الحشيش [على الرطب، وإذا كان كذلك، فكيف يحسن الاستدلال من الحديث على تحريم قطع الحشيش]
ولأجل ذلك قال النواوي: إن البغوي وغيره قالوا: اليابس والرطب يحرم قلعه وقطعه.
قلت: ويدل عليه قوله عليه السلام "يختلى"؛ فإن معناه: ينتزع بالأيدي وغيرها من المناجل.
وأما اليابس فيحرم قلعه، ولا يحرم قطعه، فقول المصنف:"يحرم قطع حشيش الحرم" بالطاء مع أن الحشيش هو اليابس يخالف ما ذكره الأصحاب، وكان ينبغي أن يقول:" [يحرم] قلع الحشيش" باللام، أو "قطع الخلا"، كما جاء في الحديث.
قال: وأقرب ما يعتذر عنه أنه سمي الرطب: حشيشًا باسم ما يئول إليه؛ لكونه أقرب إلى أفهام أهل العرف.
قال: إلا الإذخر؛ لحديث ابن عباس، وألحق الأصحاب به ما يتداوى به كالسنا؛ لأن إباحة الإذخر إنما كانت لأجل الانتفاع به، فألحق به ما ينتفع به دواء.
وفي" الوسيط" حكاية وجه آخر: أنه لا يلحق بالإذخر غيره وإن مست إليه الحاجة كما في الإذخر، وحكاه الإمام عن رواية صاحب التلخيص.
والإذخر بكسر الهمزة، والخاء المعجمة: نبت المعجمة: نبت طيب الرائحة، تسقف به البيوت فوق الخشب.
قال: والعوسج- أي بفتح العين والسين- لأنه يؤذي فأشبه ما يؤذي من الصيود، وهذا ما ذكره الماوردي، والفوراني، وأكثر الأصحاب، وألحقوا به كل شجر مؤذٍ.
وقد حكى القاضي الحسين ذلك في موضع من تعليقه، وحكى في موضع آخر منه وجهًا أنه يحرم قطع العوسج وغيره من الشوك؛ لأن أكثر شجر الحرم هكذا، وهو الذي صححه في" التتمة"؛ لإطلاق الخبر.
وقال النواوي: إنه المختار.
ثم على طريفة الشيخ وغيره - وهي تحريم قطع العوسج- لو قال الشيخ "والشوك" بدل"العوسج" لكان أقرب.
واعلم أن كلام الشيخ يفهم أن العوسج من جملة حشيش الحرم، وقد عده الإمام من شجر الحرم؛ كالطرفاء والأراك، وهو الذي يفهمه كلام الفوراني والقاضي الحسين.
قال: فإن قطع الحشيش ضمنه بالقيمة؛ لأنه يحرم قطعه فضمن كالشجر، لكن ضمان هذا بالقيمة؛ لأنه القياس، ولم يرد فيه ما يقتضي خلافه.
قال: فإن استخلف- أي: كما كان- سقط عنه الضمان- أي: قولًا واحدًا- كما قال البندنيجي؛ كما لو عاد سن الصغير الذي لم يثغر.
قال النواوي: لو قال الشيخ "أخلف"، لكان أجود.
أما إذا استخلف ناقصًا، فعليه ما نقص.
قال البندنيجي: وفي "البحر" أنه قيل: يتصدق عنه بشيء.
وما ذكره الشيخ هو المشهور.
وفيما وقفت عليه من" تعليق القاضي أبي الطيب": أنه إذا عاد لا يسقط قولًا واحدًا، ويفارق حكمه إذا قطع غصنًا من شجرة، ثم نبت كما كان؛ حيث قلنا: في ذلك قولان؛ لأن الحشيش إذا قطع نبت في العادة، فلو أسقطنا الضمان عن قاطعه بعوده، أدى ذلك إلى إباحة قطعه، والغصن إذا قطع من الشجرة [فعود نباته] غير معتاد؛ فلذلك قلنا إذا نبت في سقوط الضمان عن قاطعه قولان، وصار هذا بمثابة قولنا: من قلع سن صغير لم يثغر: أنه يضمنها، وإن عاد نباتها قولًا واحدًا- يعني: بالحكومة- ومن قلع سن رجل ثم نبت، ففي سقوط ضمانها قولان.
تنبيه: ما ذكره الشيخ يقتضي أنه لا فرق في تحريم قطع الحشيش بين أن يكون لعلف الدواب أو غيره؛ كما إذا قطعه للبيع وغيره من الأغراض سوى العلف، وهو وجه حكاه الشيخ أبو علي في شرح التلخيص، ووجهًا آخر- قال الرافعي: إنه أظهر-: أنه لا يحرم أخذه لعلف الدواب.
قلت: ويمكن أخذهما من نصين للشافعي- رضي الله عنه:
أحدهما: قاله في القديم: أن له أن يأخذ الورق للدواب والعلف والأفنان الغضة التي تحل محل الورق.
والثاني: قاله في" الإملاء" لا يخبط ورق الشجر للدواب؛ لأن عمر رأى رجلًا يخبط شجر الحرم، فنهاه عنه، وإذا كان في أخذ الورق قولان، فكذا في الحشيش.
لكن قال: في "البحر" و"تعليق البندنيجي" و"الطبري"- كما تقدم-: أن المسألة ليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين:
فالقديم محمول على ما إذا كان الخبط لا يفسد الأغصان الكبار.
والذي قاله في" الإملاء" محمول على ما إذا كان الخبط يخدش الأغصان والشجر ويُضِرُّ بها، وربما يكسرها.
وذكر صاحب الفروع حالين غيرهما، فقال: إن كانت الأوراق ساقطة، والأغصان يابسة، جاز، وإلا لم يجز.
وذكر أنه يجوز أخذ اليسير من حشيش الحرم.
قال: ويجوز رعي الحشيش؛ لأنه- عليه السلام سوَّى بين المدينة ومكة، حيث قال:" إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة [كما حرم الله مكة، ودعا لأهلها، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا] "
…
الحديث، أخرجه مسلم.
قال في المدينة- كما سنذكره-: "ولا يصلح أن يقطع فيها شجر إلا أن يعلف رجل بعيره"، وهذا يدل على إباحة القطع للعلف؛ فيكون العلف من طريق الأولى.
وقد قال الماوردي: إنه جاء في رواية أبي هريرة: أن النبي- صل الله عليه وسلم- قال: "ولا يختلى خلاها إلا لعلف الدواب".
ولأن الحاجة تدعو إليه؛ فجاز؛ كقطع الإذخر، والنهي لحفظ المراعي على الدواب.
قال: ويحرم صيد المدينة كما يحرم صيد الحرم، للخبر الذي ذكرناه عن رواية مسلم، وأخرج- أيضًا- عن جابر أنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم" إن إبراهيم- عليه السلام حرّم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابَتَيْها، لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها"، وروى أبو داود عن علي بن أبي طالب في قصة طويلة أنه- عليه السلام قال: " المدينة حرام لا يتخلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يلتقط لقطتها إلا لمن بينها، ولا يصلح أن
يقطع فيها شجر إلا يعلف رجل بعيره".
وقد دل ما ذكرناه على تحريم صيد المدينة، وقطع شجرها، وما في معناه، وهو الذي صرح به الأصحاب، ولم يذكره الشيخ للعلم أن ما حرم صيده، حرم قطع شجره، كالحرم.
وقد حكى في" البحر" أن الشافعي- رضي الله عنه قال: " ولا يحرم قتل الصيد إلا صيد الحرم، وأكره صيد المدينة"، وأن بعض الأصحاب قال: ظاهر كلام الشافعي- رضي الله عنه أنه كرهه كراهة تنزيه؛ لأنه قال:" لا يحرم إلا صيد الحرم"؛ ولأجل ذلك حكى الفوراني قولًا: أن المدينة كسائر البلاد؛ فلا يحرم صيدها، ولا قطع شجرها، والأكثرون على التحريم، وقالوا: المراد كراهية تحريم. [وعلى هذا] قال: إلا أنه لا يضمن إلا إذا تلف في يده أو بفعله [كما] قال الأصحاب؛ لأنه موضع يجوز دخوله من غير إحرام؛ فلم يضمن صيده؛ كصيد وجّْ، وأنه لا ضمان فيه، وصرحوا به في مواضع أخر، وأنه يحرم] قطع شجره أيضًا.
واستدلوا على تحريم ذلك بما رواه ابن الزبير: أنه- عليه السلام لما توجه إلى الطائف، فبلغ وج، قال:"صيد وج وعضاهه حرام محرم".
ولا شك في جريان القول المذكور في أن صيد المدينة وقطع شجرها لا يحرم [جارٍ] في صيد وج وشجره، وقد حكاه الشيخ أبو علي، وجعل النهي نهي كراهة، ولم يذكر في" الوجيز" غيره، لكن الجمهور على التحريم كما ذكرناه، وأنه لا ضمان فيه.
ومنهم من قال: إنه يجري فيه القول- الذي سنذكره في صيد المدينة وشجرها-.
قال: وفيه قول آخر- أي: قديم: أنه يسلب القاتل؛ لما روى أبو داود عن سليمان ابن أبي عبد الله قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلًا يصيد في [حرم][المدينة في الحرم] الذي حرم رسول الله- صل الله عليه وسلم-، [فسلبه ثيابه؛ فجاء مواليه إليه، فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم] هذا الحرم، وقال:"من أخذ أحدًا يصيد فيه، فليسلبه"؛ فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه".
وهذا القول قول جارٍ فيما إذا قطع شجرها؛ لرواية مسلم في صحيحه من حديث عامر: أن سعد بن أبي وقاص ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد، فكلموه أن يرد علي غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أراد شيئًا نفلنيه رسول الله- صل الله عليه وسلم-.
فعلى هذا يسلب الصائد وقاطع الشجر كما يسلب المقتول من الكفار حتى سراويله وفرسه وكل ما هو متصل به؛ كما سيأتي في موضعه؛ صرح به العراقيون، وكذا الماوردي، لكنه قال: إنه يترك عليه ما يستر عورته.
وقال في" البحر": إنه قريب عندي.
والأولون قالوا: يقال له: أصل ما يستر به.
وقال المراوزة: يسلب ثيابه، وفي حليه وجهان: وعلي كل حال فالسلب يكون للسالب على أحد الوجهين في "الحاوي" وغيره، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وبه جزم الفوراني، لحديث سعد.
ومقابله: أنه يكون لمساكين المدينة، كما أن جزاء صيد الحرم لمساكينه.
قال في "الوسيط" تبعًا لإمامه وغيره: ولا فرق فيهم بين القانطين بها، والعابرين؛ كما في الحرم، لكن الأولى صرفه للقاطنين.
وحكى الشيخ أبو محمد عن الأستاذ أبي إسحاق والقفال: أنه يترك في بيت المال، ويكون سبيله سبيل السهم المرصد للمصالح.
ولا فرق على القول بأنه يسلب القاتل بين صيد وصيد، وكذا حكم الشجر.
وقال الإمام: إن بعض أصحابنا ذكر أن الواجب في صيد المدينة وشجرها كالواجب في حرم مكة.
وعلى هذا لا خفاء في الحكم، وأما على قول السلب، فغالب ظني أن الذي يهم بالصيد لا يسلب حتى يصطاد [، ولست أدري أيسلب إذا أمسك الصيد، أو ذلك إذا أتلفه]؟ كل ذلك محتمل.
وقال الرافعي: إن السابق إلى الفهم من الخبر وكلام الأئمة: أنه يسلب إذا صاد، ولا يشترط الإتلاف.
والجديد الصحيح ما ذكره الشيخ أولًا، وحديث سعد قد سئل أبو حاتم الرازي عن سليمان راويه؟ فقال: ليس بالمشهور؛ فيعتبر بحديثه، وإن صح فلعله كان في الوقت الذي كانت العقوبات فيه بالأموال، ثم نسخ ذلك.
وهذا ما يجاب به- أيضًا- عن الحديث الذي رواه مسلم عن سعد.
قال: وما وجب على المحرم أي: بسبب الإحرام- من طعام وجب تفرقته على مساكين الحرم: كالهدي، لكن ما يعطي كل مسكين منهم؟
أطلق بعض الشراح فيه حكاية وجهين:
أحدهما: [مد] ، وهو اختيار ابن أبي هريرة.
والثاني: ما شاء، ومراده فيما عدا كفارة الأذى، أما في كفارة الأذى، فقد نص النبي- صل الله عليه وسلم- في حديث كعب بن عجرة على القدر المدفوع؛ فلا يجوز الزيادة عليه، ولا
النقصان منه؛ صرح به الماوردي.
والحكم فيما إذا وجب الطعام على المحل بتوابع الإحرام، وهو ترك الرمي بعد التحللين ونحوه- كالحكم فيما إذا وجب في الإحرام؛ لكونه من توابعه؛ فألحق به؛ صرح به الإمام.
قال في" البحر": ويجب أن ينوي عند تفرقة الطعام كما ينوي في الكفارة.
قال: وما وجب [أي:] عليه- من هدي، أي بسبب ترك مأمور: كترك الإحرام من الميقات ونحوه، [أو ارتكاب محظور كالحلق وقتل الصيد ونحوه] والاستمتاع وكذا دم التمتع والقران والفوات ونحوه.
قال: وجب ذبحه في الحرم؛ لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وقوله تعالى {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، وقوله عليه السلام:"فجاج مكة كلها طريق ومنحر".
وهذا يدل على تخصيصها بذلك.
قال الإمام هنا والماوردي وغيره في باب الهدي: ولا يتعين الذبح [في] يوم النحر وأيام التشريق، بل يجوز قبلها وبعدها.
نعم: المستحب أن يكون فيها؛ تشبيهًا لذلك بالتطوع؛ ولذا يستحب أن يكون في موضع تحلله: فإن كان معتمرًا فعند المروة، وإن كان حاجَّا فبمنَى، سواء [كان] مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا، قاله البندنيجي والماوردي والإمام، والله أعلم.
قال: وتفرقته على فقراء الحرم؛ لأنه المقصود من الهدي، وإلا فنفس الذبح بغير تفرقةٍ تَلْوِيثُ للحرم، وليس ذلك بقربة، بل مكروه.
قال ابن الصباغ وغيره: ويجوز أن يدفعه لمساكين الحرم بعد الذبح وتمليكهم إياه علي الإشاعة، وأي الأمرين فعل، خرج عن العهدة، ولا يخرج بمجرد الذبح عنها؛ حتى لو سرق لم يخرج عما في ذمته، ويجب عليه الإعادة.
قال الرافعي في باب الهدي: وله أن يشتري اللحم، ويتصدق به.
وفيه وجه آخر: أنه يكفيه التصدق بالقيمة.
قال الأصحاب: ويستحب أن يفرقه على القاطنين بالحرم؛ لأنهم أوكد [حرمة] من الطارئ إليه، فلو فرقه على القاطن دون الطارئ، أو على الطارئ دون القاطن، جاز؛ لأنهم قد صاروا من أهل الحرم بدخولهم إليه؛ وقد حكى البندنيجي ذلك عن نصه في "الأم".
قال الماوردي: وليس لما يعطيه، لكل واحد منهم قدر معلوم، ولا عدد من يعطيه معلوم نعم: لا يجوز أن يعطي أقل من ثلاثة مساكين ما كان يقدر عليهم؛ لأنه أقل الجمع المطلق.
قلت: ولقائل أن يقول: لم لا يجب تعميمهم إذا أمكن؛ لأنا على قول منع [نقل] الصدقة، نقول: إن أهل "السهمان" يملكونها حتى لو مات واحد من الفقراء، وله وارث غنى، صرفت إليه، والنقل هنا ممنوع؛ فيجب أن يجري في التفريغ عليه مجرى الزكاة.
ولا يجوز له الأكل منه بحال؛ صرح به الماوردي وغيره في باب الهدي، وقد يؤخذ من قول الشيخ:"وتفرقته على فقراء الحرم" وهذا الذي ذكره الشيخ هو المشهور.
وقد حكى في" البحر" قولًا عن القديم فيما إذا ارتكب في الحل ما يوجب دمًا: كما لو دفع من عرفة قبل الغروب: أنه لا يختص الهدي بالحرم؛ حتى لو ذبح في
الحل، وفرق اللحم في الحل، جاز؛ لان ذبحها لا يختص بزمان النسك؛ [حتى يجوز قبل يوم عرفة؛ فلا يختص بمكان النسك] بخلاف دم التمتع.
ويقرب من هذا ما حكاه الإمام من أن شيخه ذكر وجهًا غريبًا فيمن حلق قبل الانتهاء إلى الحرم: أن له تفرقة اللحم حيث حلق، واستدل له بحديثه- عليه السلام مع كعب بن عجرة، وكان حلقه في محل بعيد عن مكة، ودلَّ ظاهر كلامه على التسلط على إراقة الدم وتفرقة اللحم، ثم قال: وهذا بعيد؛ فإن ما ذكره- عليه السلام محمول على إعلامه كعبًا ما يجب عليه بسبب الحلق، فأما التعرض لتنجيز الإراقة وتعجيل تفرقة اللحم، فلم يتعرض له- عليه السلام.
قلت: بل ما ذكره- عليه السلام في قصة كعب كالنص على جواز النحر في موضعه؛ فإنه جاء في رواية عامر عن كعب: أنه- عليه السلام مرَّ به زمن الحديبية، فذكر القصة قال:" أمعك دم؟ " قال: لا.
وفي رواية البخاري ومسلم: " أتجد شاة؟ " قال: لا، قال:" فصم ثلاثة أيام، أو تصدق بثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين [بين] كل مسكينين صاع"، أخرجه أبو داود.
نعم: يقع الرد على صاحب هذا الوجه من طريق آخر، وهو أن كعبًا كان محصرًا، فإنه- عليه السلام ومن معه أحصروا عام الحديبية عن البيت؛ كما سنذكره، والجديد: أن المحصر يذبح ما عليه من دم حيث أحصر كما سنذكره، والمدعي هنا جواز الذبح لغير المحصر؛ فلا تنهض قصة كعب دليلاً عليه.
وقد حكى ابن الصباغ وغيره عن القديم [قولًا على غير هذا النحو، فقالوا: نصَّ الشافعي- رضي الله عنه في القديم] على أن المحرم إذا اضطر إلى قتل الصيد،
أو الطيب، أو اللباس في الحل، وفعل ذلك في الحل- كان له الهدي في الحل؛ كالمحصر.
ثم قالوا: وهذا غير صحيح، لأنه دم تعلق بالإحرام؛ فأشبه إذا لم يضطر إلى سببه، ويفارق المحصر، فإنه متعذر عليه الوصول إلى الحرم.
ولأنه يتحلل في الحل، بخلاف مسألتنا.
وقد حكى الإمام أن صاحب التقريب ذكر وجهًا غريبًا على نسق آخر، فقال: كل ما أقدم عليه المحرم من موجبات الدم، وكان مسوغًا له بعذر وغير عذر، فله أن يريق الدم، [ويفرق اللحم] حيث شاء، وكل سبب يحرم الإقدام عليه، فإذا فرض صدوره من المحرم، كان النحر والتفرقة بالحرم، وأنه زيفه.
وإذا عرفت ما يجوز له فعله [مما ذكرناه] وما لا يجوز، فلو خالف ذلك ، نظر: فإن كان بالذبح في الحل، والتفرقة فيه، لم يجزئه اتفاقًا على المشهور إلا دم الإحصار؛ كما سنذكره.
وإن كان الذبح في الحل لا غير، وقد نقله وفرقه على فقراء الحرم- نظر: فإن كان لم يتغير اللحم فوجهان.
المذهب المنصوص منهما: عدم الإجزاء؛ لأن إراقة الدم فيه مقصوده كالتفرقة.
وقد أشعر إيراد بعضهم بجواز الذبح في غير الحرم إذا كان النقل ممكنًا قبل تغير اللحم، وبه صرح في "الإبانة"، ونقله قولًا للشافعي- رضي الله عنه وعليه يحمل قول بعض الأصحاب الذي وافقه الإمام عليه: إن دماء الجبرانات لا يجب تبليغها الحرم؛ كما سنذكره في باب النذر.
وإن كانت المنعالفة بالذبح في الحرم، والتفرقة في الحل، لا يجزئه اتفاقًا وإن فرق ذلك على فقراء الحرم؛ لأن الآية لا يجوز أن تكون مختصة بالإراقة دون التفرقة؛
لأنها لا تفيد إلا [تلويثًا، وليس] تلويث الحرم قربة [بل صيانته عن الأنجاس قربة]
ولو كانت المنعالفة بالأكل منه، ضمنه، وبماذا يضمنه؟ فيه الأوجه الثلاثة التي نذكرها في باب الأضحية.
أما ما وجب عليه أو على غيره لا سبب الإحرام وتوابعه: كنذر الهدي، فسيأتي الكلام فيه في باب النذر.
قال: [فإن كان محصرًا] جاز أن يذبح، ويفرق-[أي: دم الإحصار وغيره] حيث أحصر.
أما دم الإحصار، فللاقتداء برسول الله- صلى الله عليه وسلم وأصحابه: روى ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم خرج معتمرًا، فحالت كفار [قريش] بينه وبين البيت؛ فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية.
وروى مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله قال: نحرنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وبين الحديبية والحرم ثلاثة أميال.
ولأنه موضع تحلله؛ فكان موضع نحر هديه؛ كالخرم.
فإن قيل: قد روى أبو داود: أن ابن عباس قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء، وهذا يدل على عدم إجزائه.
قيل: في إسناده محمد بن إسحاق، وهو متكلم فيه.
ثم إن صح فهو محمول على الاستحباب؛ كما استحب الإتيان بالعمرة وإن لم يكن قضاء ما أحصر عنه واجبًا [بالتحلل].
وأما غير دم الإحصار من الدماء الواجبة بسبب الإحرام؛ فلقصة كعب بن عجرة السالفة.
وأيضًا: فإطلاق خبر ابن عمر يدل عليه؛ وهذا هو الجديد.
وحكى البندنيجي: أن اضطر إلى قتل الصيد فقتله، أو [اضطر] إلى الحلق؛ فحلق- فإن عليه الهدي، ونحره في محله.
وإن كان الواجب بأمر لم يضطر إليه: كاللباس، [والحلق] والطيب، ونحو ذلك، فمحله الحرم، لا يجزئه غيره.
واعلم أن بعض الشارحين لهذا الكتاب فهم من كلام الشيخ جواز الذبح للمحصر حيث أحصر، وإن قدر على الوصول إلى الحرم [؛ فقال بعض شراحه: وقيل: إن أحصر في غير الحرم، وقدر على الوصول إلى الحرم] ، لم يجزئه أن يذبح إلَّا في الحرم؛ لأنه يقدر على إبلاغه الحرم؛ وهذا الذي قاله صحيح فيما إذا كان قد أحصر عن البيت، لكن الذي فهمته من كلام الشيخ [هنا] أن مراده بالحصر هنا الإحصار
عن الحرم، لا عن البيت، والله أعلم.
ولو وجب عليه صوم، نظر:
فإن كان صوم تمتع، فقد تقدم ذكره.
وإن كان غيره، صام حيث شاء من الأمكنة؛ إذ لا منفعة لأهل الحرم في صيامه.
قال في "الحاوي": لكن صيامه في الحرم أولى؛ لشرف المكان، وقرب الزمان.
وهل تجب المتابعة فيه؟ فيه وجهان في "الحاوي".
وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به.
إذا وجب على المحرم دماء ليس فيها جزاء صيد، ويجزئ في كل منها شاة- جاز أن يخرج عن سبعة منها بدنة أو بقرة؛ لأن كل سبع منها قائم مقام شاة؛ ولذلك جاز لسبعة إخراجها عن سبع دماء واجبة عليهم؛ كما دل عليه خبر جابر في عام الحديبية، وخبر أبي هريرة الذي أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن.
وكذا يجوز لمن عليه شاة: أن يخرج سبع بدنة أو بقرة، ويمسك الباقي لنفسه لحمًا، ولو أخرج جميعها عن الشاة أجزأت؛ لكن الواجب كلها أو سبعها؟ فيه خلاف.
وأما جزاء الصيد فالمعتبر فيه المماثلة؛ فلا يجزئ فيه إلا [المثل] المسمى.
وعلى هذا فلا يجوز لمن [وجب] عليه بدنة أن يخرج عنها بقرة أو سبعا من الغنم.
وقال القاضي الحسين: إنها إذا وجبت في غير جزاء الصيد، كان له ذلك ويجزئ.
وفي ذلك نظر؛ لما تقدم: أن كفارة الجماع مرتبة على الصحيح، ويجب فيها البدنة.
وجوابه أن يقال: ذكره تفريعًا على القول بأنه مخير في البدنة والبقرة والغنم بلا خلاف، وقد حكى في "البحر" وجهًا عن رواية ابن المرزبان أنه يجزئ إخراج البقرة وسبع من الغنم عن البدنة الواجبة بقتل النعامة.
ولو وجب على شخصين دمان بسبب قران وتمتع، فأخرجا شاة واحدة عنهما- لم يكتف بها، وماذا يجب عليهما؟ فيه وجهان في "الحاوي" في باب النذر:
أحدهما: يجب على كل منهما شاة؛ لان هذه لم تقع الموقع.
والثاني: قال- وهو الصحيح-: أنه يجب على كل [واحد] منهما نصف شاة، والله عز وجل أعلم.