الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الإحرام وما يحرم فيه
الإحرام - كما قال النواوي-: نية الدخول في حج أو عمرة، سمي: إحراماً؛ لأنه يمنعه من المحظورات.
قلت: وهذا التفسير يخرج الإحرام المطلق عن أن يكون إحراماً، وابن الصباغ حصره في المطلق؛ فإنه قال: لو نوى الإحرام، ولم ينو حجًّا ولا عمرة، [انعقد إحراماً مطلقاً، وله صرفه إلى أيهما شاء، وإن لم ينو حجًّا ولا عمرة] ولا [إحراماً]، فليس بشيء.
وكأن الذي أحوج النواوي إلى حصره في نية الحج والعمرة قوله في "المختصر": "وإن لم يرد حجًّا ولا عمرة، فليس بشيء"، [وهذا النص [اختلف فيه الأصحاب:]
فمنهم من خطأ المزني في قوله: "فليس بشيء"]؛ لأن الإحرام المطلق ينعقد.
ومنهم من صوبه، وحمل ذلك على [ما] إذا لم ينو حجًّا ولا عمرة ولا إحراماً مطلقاً.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا أشبه بالصواب.
ومنهم من حمله على حالة أخرى سنذكرها.
والأوجه في تفسير الإحرام أن يقال: هو نية حج، أو عمرة، أو هما، أو ما يصلح لهما أو لأحدهما، وهو المطلق، وعليه ينطبق قول البندنيجى فى حده: إنه النية والاعتقاد.
فإن قلت: يشكل على هذا قول الشيخ من بعد: "وينوي الإحرام [بقلبه] "، وقوله في "المهذب":"ولا يصح الإحرام إلا بالنية"؛ فإنه يقتضي أن يكون غيرها.
قلت: سأذكر ثم- إن شاء الله تعالى - ما يدفع ذلك.
وقول الشيخ: "وما يحرم فيه"، هو بفتح [الياء]، ومجموعه عشرة أشياء اللباس؛ وستر الرأس [أو الوجه]، والتطيب، والادهان - كما سنبينه - وتقليم الأظفار، وحلق الشعر، والنكاح والوطء في الفرج ودونه، والمباشرة فيما دون الفرج بشهوة، والاستمناء والصيد.
قال: إذا أراد أن يحرم، اغتسل؛ لما روى الترمذي بسنده عن زيد بن ثابت:"أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله، واغتسل"، وسنذكر من رواية مسلم ما يؤيده.
وهذا الغسل مستحب؛ [لأنه] لأمر مستقبل؛ فكان كغسل الجمعة والعيد، ولا يلزم عليه غسل الجنابة؛ لأنه لأمر ماض، وقد حث الشافعي رضي الله عنه على فعله بقوله: تبعت جماعة من أهل العلم، فلم أرهم تركوا الغسل للإحرام؛ فما تركته عند الإحرام، وقد كان تلحقني المشقة لأجله.
والصبي والمرأة الطاهرة والحائض والنفساء في استحباب الغسل كالرجل؛ نص
عليه في "الأم"، واستدل له الأصحاب برواية مسلم عن جابر: أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي".
وحكى القاضي الحسين: أن الشافعي رضي الله عنه نص في موضع آخر [على] أن الحائض والنفساء تؤخران الإحرام إلى أن تطهرا، وأن الأصحاب اختلفوا:
فمنهم من جعل في المسألة قولين:
أحدهما: تغتسلان في الحال وتحرمان مع القوم. والثاني: تؤخران إلى أن تطهرا؛ إذ الاغتال على الحيض والنفاس لا والثاني: تؤخران إلى أن تطهرا؛ إذ الاغتسال على الحيض والنفاس لا معنى له؛ فحل وجوده محل عدمه، وقد حكى هذا القول إبراهيم المروزي أيضاً.
قال القاضي: والقولان قريبان من القولين في العادم للماء في أول الوقت إذا كان يرجوه في آخره هل يتيمم؟
ومنهم من قال: المسألة على حالين:
فحيث قال: "تغتسلان"، أراد: إذا كان يخاف عليهما في التأخير و [المقام بالميقات].
وحيث قال: "تؤخران"، أراد: إذا كان لا يخاف عليهما.
قلت: ويمكن حملهما على ما نص عليه في "الأم"؛ فإنه قال: وإذا كانت الحائض والنفساء من أهل المواقيت، وكان الوقت واسعاً، أحببت لكل واحدة منهما أن تقيم، حتى إذا طهرت، اغتسلت، وأحرمت؛ لتكون على أكمل حالها، وإن ضاق الوقت، اغتسلت حائضاً، وأحرمت".
قال الإمام: وفي [صحته من الحائض] والنفساء دليل على أنه لا يحتاج إلى نية؛
لأن المقصود منه التنظف.
ويحتمل ألا ينصرف إلى جهة العبادة إلا بالنية؛ كغسل الجمعة، وقوي هذا الاحتمال.
قال مجلي: ويحتمل الفرق؛ لأن غسل الإحرام من سننه، والإحرام ركن من أركان الحج، ونية الحج مشتملة على جمح أفعاله فرضها ونفلها؛ فلا يحتاج إلى تجديد تية، بخلاف غسل الجمعة؛ فإنه سنة مستقلة بنفسها، ليست جزءاً من الصلاة.
قلت: وفي هذا نظر؛ لأن نظير المسألة ما إذا تمضمض واستنشق من غير نية، ثم نوى عند غسل الوجه، وقد قال الأصحاب: لا يحصل له إذا فعل ذلك فضيلتهما؛ لخلوهما عن النية.
فإن قلت: هلا قيل بانعطاف النية عليه؛ كما قيل بانعطافها على أول النهار في صوم التطوع إذا وقعت في أثنائه؟
قلت: من عطفها في الصوم على الماضي من اليوم، لاحظ أن صوم بعض يوم لا يمكن؛ فلا بد من أن يقدره صائماً من أول النهار؛ فاضطر إلى تقدير انعطاف النية على أوله؛ لأن الصوم بغير نية لا يصح، ولا كذلك هنا، وفي مسألة المضمضة فإن الإحرام والوضوء ممكن بدونهما؛ فلا ضرورة في التقدير، مع أنه على خلاف الأصل.
قال: فإن لم يجد الماء تيمم؛ لأن الغسل يراد للقربة والنظافة، فإذا تعذر أحد الأمرين الذي هو النظافة، فعل ما يحصل به الأمر الآخر، وهو القربة.
قال في "التهذيب": كما في غسل الجمعة والعيد، وهذا نصه في "الأم".
والحكم كذلك في جمح الاغتسالات المسنونة في الحج.
قال الرافعي: لكنا قد ذكرنا في غسل الجمعة: أن الإمام أبدى احتمالاً في أنه لا يتيمم، وجعله الغزالي وجهاً، واختاره، وهو عائد هنا بلا شك.
قلت: قد يفرق بينهما بأن الغسل هنا مخالف لغيره؛ بدليل صحته من
الحائض والنفساء؛ فكذلك بدله.
ولو وجد الماء، لكن عجز عن الاغتسال به، قال في الحاوي: اخترنا له أن يتوضأ، فإن تعذر الوضوء اخترنا له التيمم.
ولو وجد من الماء ما يكفيه للوضوء، توضأ يه؛ قاله المحاملي، والبغوي، والروياني.
وقال في "الروضة": إن أريد أنه يتوضأ، ثم يتيمم، فحسن؛ وإن أريد الاقتصار على الوضوء، فليس بجيد؛ لأن المطلوب هو الغسل، والتيمم يقوم مقامه دون الوضوء والصبي والمرأة فيما ذكرناه كالرجل.
فإن قلت: ما المحوج إلى حمل قول الشيخ: "إذا أراد أن يحرم اغتسل، فإن لم يجد الماء تيمم"، على الرجل حتى ألحقت به الصبي والمرأة، [ولم لا] حملته على الشخص حتى يشمل الدم والأنثى؟
قلت: أمران:
أحدهما: جعل الشيخ متبعاً للشافعي رضي الله عنه فإنه قال في "المختصر": إذا أراد الرجل الإحرام، اغتسل من ميقاته".
والثاني: قوله: "وتجرد عن المحيط في إزار ورداء"؛ فإن ذلك لا يشرع في حق المرأة.
لكن لك أن تقول قوله: "ويرفع صوته بالتلبية، والمرأة تخفض صوتها"، وقوله: "ويجوز للمرأة لبس القميص والسراويل
…
" إلى آخره - يدل على أن ما ذكره في الباب كله مشترك بين الرجل والمرأة [سوى هذا، وإلا لم يكن لتخصيص هذا بالذكر معنى، وسكوته عن التفرقة بين الرجل والمرأة] في التجرد عن المحيط، كان لوضوحه، ويؤيد ذلك أن البندنيجي وغيره من الأصحاب قالوا: المرأة كالرجل إلا في ثلاث صور: رفع الصوت بالتلبية، وحكم اللباس؛ كما سنذكره، وستر اليدين؛ على أحد القولين، والله أعلم.
قال: وتجرد عن المنعيط؛ لرواية زيد بن ثابت السابقة.
والمنعيط: بفتح الميم، وكسر الخاء.
قال: في إزار ورداء؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه السلام قال: "ليحرم أحدكم في رداء وإزار ونعلين".
قال: أبيضين؛ لقوله عليه السلام: "البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنه أطهر وأطيب، وكفنوا فيه موتاكم"، أخرجه الترمذي.
فلو أحرم في مصبوغ، قال في "التهذيب": كره؛ لأن عمر رأى [على] طلحة ثويين مصبوغين وهو حرام، فقال:"أيها الرهط، [إنكم] أئمة يقتدى بكم؛ فلا يلبس أحدكم من هذه الثياب المصبوغة في الإحرام شيئاً".
وفي "الحاوي" و"البحر": أن ما صبغ قبل نسجه يجوز لبسه؛ لأنه بالرجال أشبه، وما صبغ بعد النسج إذا لبسه الرجل، كان عادلاً عن الاختيار، وأجزأ.
قال: جديدين؛ لأن الجديد أبعد من الدنس، وأنقى من المغسول.
قال: أو نظيفين، أي: من الوسخ والنجاسة؛ لأن ذلك يحصل المقصود.
قال في "الحاوي": فلو لبس ثوباً نجساً، كان [بذلك] مسيئاً، وكان إحرامه منعقداً، وكذا لو أحرم وهو جنب؛ لأن الإحرام لا يفتقر إلى طهارة من حدث ونجس.
قال: ويتنظف، أي: بإزالة الأوساخ، وتقليم الأظفار، والأخذ من شعره، وبالسواك؛ كما يفعل عند الرواح إلى الجمعة؛ لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بأشْنَانٍ
وخطمي".
وروى جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتأهبوا للإحرام بحلق شعر العانة، ونتف الإبط، وقص الشارب والأظفار وغسل الرأس".
وقد استحب الأصحاب له - أيضاً - أن يلبد شعره قبل الإحرام، وهو أن يعقص شعره ويضرب عليه الخطمي أو الصمغ أو غيرهما؛ لدفع القمل وغيره؛ فإنه قد صح في استحباب ذلك أحاديث.
قال: ويتطيب؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم، ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت"، أخرجه مسلم
[والبخاري].
والمرأة في هذا كالرجل إن لم يكن مراد الشيخ: الشخص - كما تقدم – لقول عائشة رضي الله عنها: "كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمخ جباهنا بالمسك [و] الطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينهانا"، رواه أبو داود.
وعن الداركي رواية قول: أنه لا يستحب لها التطيب بحال، فإن فعلت كان جائزاً، كما أنها إذا حضرت الجمعة [لا يستحب لها الطيب. وليس بشيء؛ فإن الحديث حجة عليه.
وعلى الأول قال الأصحاب: لا فرق فيه يين العجوز والشابة، والمزوجة والخلية، بخلاف الجمعة]؛ فإن حكمها ووضعها أضيق.
وقد استحب الشافعي لها - أيضاً - أن تخضب للإحرام وجهها ويديها، سواء كان لها زوج أو لم يكن؛ لما روي عن ابن عمر أنه قال:"من السنة أن تدلك المرأة يديها بالحناء".
والمعنى فيه: أنه يصير ساتراً لبشرتها؛ إذ قد تمس حاجتها إلى كفها، [وكذا استحب لها خضاب وجهها به]، ويكره لها التطرف، ولا يكره إلى الكوع.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الحديث، الدال على مشروعية التطيب يعارضه ما روي "أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة متضمخة بالحلوق، فقادت [يا] رسول الله: أحرمت بالحج، وعليَّ هذه، فما أصنع؟ فلم يرد عليه شيئاً، حتى نزل عليه الوحي، فلما سُرِّيَ عنه قال: وأين السائل آنفاً؟ "فقال الأعرابي: هأنا يا رسول الله، فقال:"انزع الجبة واغتسل"، كما أخرجه مسلم بمعناه، وهذا يدل على منع التطيب.
فجوابه من وجهين قالهما أبو الطيب وغيره:
أحدهما: أن الجية أصابها الخلوق وفيه زعفران، والزعفران محرم على الرجال في حال الحل والإحرام؛ قال الماوردي: لنهيه عليه السلام الرجال عن التزعفر؛ فلذلك أمره بغسله.
والثاني: أن هذا الخبر منسوخ؛ لأنه كان بالجعرانة سنة ثمان، وخبرنا في حجة الوداع سنة عشر.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في التطيب بين ما يبقى جِرْمُهُ بعد الإحرام؛ كالمسك والغالية، وما لا يبقى إلا ريحه: كالبخور بالعود ونحوه، وهو المذهب، وبه جزم الإمام؛ لخبر عائشة السابق، ورواية مسلم عنها [أنها] قالت:"كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم" ووبيص المسك: بريقه.
لكن التطيب بما تبقى عينه، هل يكون مستحباً أو مباحًا؟ حكى الماوردي فيه وجهين، وقال: إن الثاني أشبه بمذهب الشافعي، رضي الله عنه.
والذي أورده ابن الصباغ وغيره الأول.
ومقابل المذهب وجه: أنه لا يجوز التطيب بما يبقى أثره بعد الإحرام؛ لأنه في معنى التطيب بعد الإحرام، وهو جار في المرأة، ومنهم من خصه بها دون الرجل؛ حكاه أبو الطيب وغيره، وقال: إنه باطل؛ لأنه خلاف السنة؛ وعلى هذا لو فعل، لزمه غسله، وعلى المذهب: لا يجب غسله.
قال في "التهذيب"- تبعاً لشيخه ويخالف المرأة إذا تطيبت، ثم لزمتها العدة، يجب عليها إزالته على وجه؛ لأن تنبه حق آدمي.
ولو عرق فسال الطيب إلى موضع آخر، فلا فدية عليه؛ لأنه في حكم المغلوب عليه.
وفيه وجه؛ أنها تجب؛ [لأنه حصل بسبب فعله.
قال ابن الصباغ وغيره؛ وليس بشيء.
ولا خلاف عند الجمهور] فى أنه لو مسه بيده عمدًا وهو مما يعلق بها، أو نقله من موضعه إلى موضع آخر، أو أعاده إلى موضعه - في لزوم الفدية.
وحكى الحناطي قولين فيما إذا نقله، ثم رده إلى موضعه، أو موضع آخر.
أما التطيب في ثوبه، فقد قال في القديم:"وأحب أن يجمر ثيابه ورحله"، فمنهم من أجراه على ظاهره، وقال: له أن يطيب ثياب بدنه للإحرام كما يطيب بدنه، ويكون مستحباً؛ كما حكاه القاضي الحسين، وهو الذي صححه الإمام.
ومنهم من قال: إنما أراد ثياب غير البدن، فأما ثياب البدن فلا يطيبها للإحرام؛ لأن العادة فيها النزع، والإعادة؛ فيؤدي إلى ابتداء التطيب عند الإعادة؛ وعلى هذا لو فعل، فهل يكون فعله مكروهًا أو محرماً؟ فيه وجهان:
المذكور منهما في طريق العراقيين: الأول.
والثاني حكاه الإمام والفرق عليه بين البدن والثوب: أن الطيب [في الثوب يبقى، وفي البدن ينمحق].
وحكى وجهاً آخر: أن الطيب إن لم يكن عيناً، فلا بأس به؛ وإن كان عيناً، لم يجز،
وكان بمثابة ما لو ربط مسكاً على طرف إزاره وكان يستنشقه؛ فإنه ممنوع [منه] وفاقاً.
[ثم]، إذا قلنا بجواز لبس الثوب مطيباً، فلبسه، [ثم أحرم، ثم نزعه]، ورام لبسه محرماً - فهل يجوز؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين.
وغيره من المراوزة [قال: إنه إذا] لبسه ثانياً وهو محرم، هل تجب عليه الفدية؟ فيه وجهان، قربهما الإمام عن الوجهين في إيجاب الفدية بسيلان الطيب، وقضية هذا "التقريب": أن يكون الصحيح المنع، لكن الصحيح في "التهذيب"- وهو المذكور في "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب - الوجوب، ونسبه في "البحر" إلى قول أبي الحسن الماسرجسى.
قال: ويصلى ركعتين؛ لرواية جابر وابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى ذا الحليفة، فصلى ركعتين بعد العصر ببطحائها، ثم ركب"؛ كذا أورده الماوردي، والذي رواه أبو داود عن ابن عباس:"أنه عليه السلام صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين"، ولم يعين الوقت.
وروى عن أنس قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح، فلما ركب راحلته، واستوت به، أهل"، وأخرجه البخاري ومسلم؛ وهذا يدل على أن إحرامه كان قبل الزوال.
ثم استحباب صلاة الركعتين مفروض عند الماوردي وغيره بما إذا لم يكن الإحرام في وقت صلاة مفروضة أو سنة أو راتبة؛ كما قال القاضي الحسين، فإن [كان] في وقت صلاة مفروضة أو سنة راتبة، صلى ذلك؛ ثم أحرم عقيبه، وحاز فضيلة الإحرام بعد الصلاة.
ثم استحبابهما - أيضاً - مفروض عن القاضي الحسين فيما إذا لم يكن الإحرام في الأوقات المكروهة؛ فإن كان لم يفعل، بل يحرم من غير صلاة؛ لأن سببهما الإحرام، وهو [يتأخر عنهما] وقد لا يأتي به؛ فتجرد الصلاة في الوقت المنهي عن الصلاة فيه عن السبب.
قال: ولهذه العلة لا يجوز صلاة الاستخارة، وصلاة الاستسقاء في هذه الأوقات.
والمذكور في "تعليق"، اليندنيجي جواز فعلهما في الأوقات المكروهة؛ لأن لهما سبباً؛ وبذلك يحصل في المسألة وجهان، وقد حكاهما الرافعي، وصحح الأول؛ لما ذكرناه.
لكن ما ذكره الماوردي من أنه عليه السلام صلى الركعتين بعد العصر لو صح، دفعه، والله أعلم.
قال: فإذا بدأ بالسير، أي: بأن مشى إن كان راجلاً، أو انبعثت به دابته إن كان راكباً - أحرم في أصح القولين؛ لما روى الشافعي سنده عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة:"إذا توجهتم رائحين إلى عرفة، فأهلوا بالحج".
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أنه قال في حديث طويل: "وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث [به] راحلته"، ولرواية أنس السابقة.
ولأنه إذا كبر مع السير وافق قوله فعله؛ وهذا ما نص عليه في عامة كتبه الجديدة.
وفي الثاني: يحرم عقيب الصلاة - أي: قاعداً - لما روى أبو داود عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا عباس، عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب! فقال: "إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاًّ، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه، أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام؛ فحفظته عنه، ثم ركب،
فلما استقلت به ناقته، أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين استقلت به ناقته، وايم الله، لقد أوجب في مصلاه"، وهذا ما نص عليه في "مختصر" الحج والقديم واختاره جماعة من الأصحاب؛ كما قال الرافعي.
قال اليندنيجي: وإحرامه عند استواء ناقته يه كإحرامه عقيب الصلاة؛ نص عليه فى لقديم أيضاً.
وتمسك القائلون بالأول فى دفع خبر ابن عباس بأن فى رجاله خصيف بن عبد الرحمن الحرانى، وهو ضعف.
وهذا الخلاف في الأفضل بالاتفاق.
قال: وينوي الإحرام بقلبه؛ لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
وقد تقدم أن النية هي القصد، تقول العرب: نواك الله بحفظه، أي: قصدك الله بحفظه. فإذا تجدد عهدك بذلك، عرفت أن مراد الشيخ: أن يكون المأتي به في القلب قصد الإحرام، وهو الاعتقاد؛ كما قدمنا حكايته عن البندنيجي، لا قوله في القلب: أحرمت؛ فإن ذلك ليس بنية، فلا يقع الاكتفاء به؛ للحديث المذكور.
وكلام الماوردي يقتضي الاكتفاء بذلك؛ فإنه قال عند الكلام في إحرام الولي عن الصبي على مذهب البصريين: يقول عند الإحرام عن الصبي: اللهم إني قد أحرمت عن ابني، و [على مذهب البغداديين يقول: قد أحرت بابني]، وكذا قول الإمام:[و] لو قال في نفسه: أحرمت كإحرام فلان، فهو سائغ - يقتضي الاكتفاء به [أيضاً]، وما ذكره الشيخ أولى.
قال: ويلبي، أي: مقترناً، بالنية؛ لنقل الخلف عن السلف.
قال: فإن لم يلبْ، أجزأه، أي: الإحرام بالقلب؛ لما روى جابر قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج، فلما دنونا من مكة، قال: "من لم يكن معه هدي، فليجعلها عمرة"، فأخبر أنهم أحرموا بمجرد النية دون التلبية.
ولأنها عبادة يجب في إفسادها الكفارة، [ولا يجب النطق] في آخرها؛ فلم يجب في أولها؛ كالصوم.
وهذا هو المذهب، ولم يورد الماوردي وأبو الطيب والفوراني غيره.
وقيل: لا يجزئه -[أى]: الإحرام - حتى يلبي؛ لرواية عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "إذا توجهتم إلى منى فأهلوا".
وحقيقة الإهلال: إظهار الحالة بالتلبية.
ولأنها عبادة شرع [فيها الذكر في أثنائها]؛ فاقتضى أن يجب في ابتدائها، ولا تنعقد بدونه؛ كالصلاة.
وهذا ما نسبه في "المهذب" إلى أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا، والقاضي الحسين إلى صاحب "التقريب"؛ وحكاه الإمام قولاً للشافعي رضي الله عنه وقال: إنه اختيار أبي علي بن أبي هريرة والطيبري.
وعلى هذا: هل يقوم الإشعار والتقليد مقام التلبية؟
الذي حكاه الرافعي عن الشيخ أبي محمد وغيره في رواية القديم: نعم؛ كمذهب أبى حنيفة.
و [قال] في النهاية: إن شيخه كان يتردد في إقامة ذلك مقام التلبية.
وعن لحناطي: أنه حكى القول القديم في وجوب التلبية دون اشتراطها، وأنه ذكر تفريعاً عليه أنه لو ترك التلبية، لزمه دم.
ولو اقتصر على [الإتيان بالتلبية] دون النية، فقد حكى الإمام: أن المزني نقل أنه
يلغو ما صدر منه.
ونقل الربيع: أن إحرامه ينعقد مجملاً، [ثم إنه] يصرفه إلى أحد النسكين أو إليهما؛ وأن الأصحاب كثر خبطهم في ذلك.
ونحن نذكر المقصود [منه فنقول:] من ذكر التلبية حاكياً أو معلماً، وقصد غيرها، سوى الإحرام - لم يصر محرماً، [وكذلك إذا جرى اللسان بالتلبية]، فلا حكم له؛ فأما إذا [جرى قصده إلى] النطق بالتلبية، ولم يخطر بباله قصد الشروع في الإحرام - فهذا موضع التردد، وللأصحاب طريقان:
منهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما - وهو الذي نقله المزني -: أنه لا يصير محرماً.
والثاني: أنه يصير محرماً. ولا أعرف له وجهاً.
وعلى هذا إن كان قد سمى شيئاً صار محرماً به، وإن أطلق التلبية، انعقد الإحرام مطلقاً يصرفه إلى ما شاء من كلا النسكين أو أحدهما؛ قاله الرافعي.
وسكت الإمام عن حكاية الطريق الثاني، وقد صرح به الرافعي، وهو القطع بعدم الانعقاد، وحمل منقول الربيع على ما إذا تلفظ بأحد النسكين على التعيين، ولم ينوه، ولكن نوى الإحرام المطلق، فيجعل لفظه تفسيراً أو تعيينًا للإحرام المطلق.
والقاضي الحسين حكى الخلاف في المسألة على غير هذا النحو، فقال: الذي حكاه المزني فيما إذا لبَّى بحج أو عمرة، ولم يرد حجًّا ولا عمرة: فليس بشيء.
وقال في موضع آخر: يلزمه ما سمى.
واختلف الأصحاب في قول المزني؛ "فليس بشىء":
فمنهم من قال: إنما أراد به؛ فليس بشيء أصلاً، وصورته: إذا لم ينو أصل الإحرام، وتلفظ بنسك؛ فعلى هذا قوله:"يلزمه ما سمى"، محمول على ما إذا كان قد نوى ما سماه.
ومنهم من قال: معنى قوله: "ليس بشيء"، أي: ليس بشيء معين. وصورة المسألة:
ما إذا نوى أصل الإحرام، [وتلفظ بنسك، ولم ينو غير ما تلفظ به، ويحمل قوله: "يلزمه ما سمى"، على أنه إذا نوى أصل الإحرام]، ونوى نسكاً، ولم ينو غير ما سماه، فيلزمه؛ لقوة الإحرام وغلبته؛ فيخرج فيما إذا سمى نسكاً ولم ينو شيئاً أصلا: أنه لا يلزمه شيء، وفيما إذا نوى أصل الإحرام، وسمى نسكاً، ولم ينوه - قولان:
أحدهما- وهو الأظهر عند القاضى-: أنه لا يلزمه ما سمى؛ إذ العماد هو النية.
والثاني: يلزمه ما سمى بحكم التسمية؛ لما للإحرام من الغلبة والقوة.
ومنهم من قال: قوله: "ليس بشيء" إذا نوى أصل الإحرام، ورفض بقلبه ما تلفظ [به لسانه]؛ فيبقى مجرد الإحرام، وقوله:"لزمه ما سمى"، إذا لم يرفض بقلبه ما تلفظ بلسانه.
والصحيح: أنه لا أثر لمجرد النطق بدون النية في التعيين ولا في الانعقاد، وعلى هذا: لو لبَّى بحج، ونوى عمرة، أو لبَّى بعمرة، ونوى حجاً - انعقد إحرامه بما نواه؛ نص عليه في "المختصر".
قال: والمستحب أن يعين ما أحرم به؛ لرواية جابر: أنه عليه السلام أهل بالحج، وقد استدل له الماوردي بقوله عليه السلام:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة"؛ فدل على أن إحرامه كان معيناً بالحج، وليعرف ما دخل عليه؛ وهذا ما نص عليه في "الجامع الكبير" و"الأم"، وهو الأصح في "الرافعي" وغيره.
وقد نص في "الإملاء" على أن الإطلاق أفضل.
قال الماوردي: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأصحابه مهلين يتتظرون القضاء، فأمر من لا هدي معه [أن يجعل إحرامه] عمرة، ومن معه هدي أن يجعله حجاً.
ولأنه أحرى أن يقدر على صرفه إلى ما لا يخاف فوته من حج أو عمرة؛ لأنه إن
كان الوقت واسعاً، أمكنه تقديم العمرة وإدراك الحج، وإن كان ضيقاً، قدم الحج؛ لئلا يفوته، ثم يحرم بالعمرة.
[وانتصر ابن الصباغ للقول] الأول، وقال: الخبر الذي استدل به للقول الثاني رأويه طأوس، وهو مرسل؛ فخبر جابر أولى منه، والاحتياط ممكن بأن يحرم بالعمرة؛ فإنه إن شاء كان متمتعاً، وإن شاء قارناً، وإن شاء اقتصر عليها.
قلت: وما ذكره من إمكان الاحتياط فيه نظر؛ لأنه إن حصَل فضيلة التعيين على زعمه بإحرامه بالعمرة، فقد فوّت فضيلة الإحرام بالحج في أشهره إن اقتصر على فعل العمرة، وإن لم يقتصر عليها، بل حج من عامه بعد فراغه من العمرة، أو أدخل الحج على العمرة - فقد فوّت فضيلة الإفراد؛ وحينئذٍ يبقى النظر في أي الفضيلتين أولى بالتحصيل؟ والله أعلم.
قال: فإن أحرم مطلقاً، أي: في أشهر الحج، مثل: أن نوى الإحرام لا غير، ثم صرفه إلى حج أو عمرة، جاز؛ لما ذكرناه، من رواية طأوس؛ أنه عليه السلام وأصحابه أهلوا منتظرين القضاء
…
إلى آخره.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن جابراً روى: أنه عليه السلام أحرم مطلقاً، ثم جعله حجاً، وخالف الإحرام هاهنا الإحرام في الصلاة؛ لأنه يقع فيه ما أحرم به عن غيره عن فرضه، وما تطوع به أو نذره عن فرضه؛ فجاز لذلك انعقاده مطلقاً.
وكما يجوز صرفه إلى الحج أو العمرة، يجوز صرفه إليهما، والصرف يكون بالنية دون القول؛ صرح به في "الروضة"، وفيه ما سبق.
ولو شرع في الطواف والسعي قبل التعيين، قال البندنيجي: لم يعتد به؛ لأنه لا في حج ولا في عمرة.
وعن الشيخ أبي حامد: أنا نجعل إحرامه بحج، وينوي الحج، ويقع هذا الطواف عن القدوم.
وإنما قال: "يصير حجاً ولا يصير عمرة"؛ لأن الطواف ركن في العمرة، فلا يقع بغير نية، وطواف القدوم لا يحتاج إلى نية تخصه.
قال مجلي: وفيه نظر، ولا يمتنع أن يقال: يقع هذا الطواف للقدوم، ثم إن عين حجاً مضى على حاله، وإن عين عمرة، لم يجزئه هذا الطواف، وعليه أن يطوف للعمرة، ولا وجه لصرفه للحج [تعيياً].
ولو كانت المسألة بحالها، إلا أنه لم يعين حتى فأنه الحج - قال القاضي الحسين: احتمل أن يقال: يتعين عمرة؛ لأنه كان بغرض أن يجوز عنهما، فإذا فات أحدهما تعين الآخر؛ كما لو أحرم قبل أشهر الحج.
ويحتمل أنه باق على ما كان؛ فعليه التعيين، فإن عين عمرة خرج منها، وإن عين حجاً يكون كمن فأنه الحج.
أما إذا أحرم مطلقاً في غير أشهر الحج، فالذي أورده الجمهور – ومنهم الماوردي-: أنه ينعقد بعمرة؛ فلا يجوز صرفه إلى حج في أشهره، وهو الذي حكاه الإمام عن معظم الأئمة، وقال في "الوسيط": إنه المذهب.
وعن الشيخ أبي علي رواية وجه آخر: أنه يجوز صرفه في أشهر الحج إلى الحج والقران، ووجهه - على ضعفه-: أن العبد إذا أحرم [بالحج] في رقه، ثم عتق قبل الوقوف، ووقف حرًّا - فقد قال الشافعي:"يقع الحج عن فرض الإسلام"، وقد عزي هذا الوجه إلى اختيار الخضري؛ وعلى هذا ينعقد إحرامه مبهماً، ولو صرفه إلى الحج قبل أشهره، كان كما لو أحرم [بالحج] قبل أشهره، وقد مضى الكلام فيه؛ قاله الإمام والرافعي.
وكما يجوز الإحرام المطلق يجوز الإحرام المعلق على إحرام غيره، مثل: أن ينوي إحراماً كإحرام زيد؛ لما روي أن علي بن أبي طالب وأبا موسى الأشعري لبيا
باليمن، وقالا عند تلبيتهما. إهلالا كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليهما؛ وهذا مما لا خلاف [فيها] عندنا، سواء علم ما أحرم به [زيد] أو لم يعلم، ويصير محرما بما زيد محرم به من حج أو عمرة أو قران أو إطلاق، ولا يلزمه عند الإطلاق أن يصرف إحرامه إلى ما صرفه إليه زيد على أحد الوجهين في تعليق القاضي أبي الطيب والمعتمد، وهو الذي أورده الجمهور.
ولو كان زيد قد أحرم بعمرة أولاً، ثم أدخل عليها الحج: فإن كان الإحرام المعلق قبل إدخال زيد الحج على العمرة، انعقد بعمرة، وإن كان بعد إحرامه بالحج. فإن قصد الأول انعقد بعمرة أيضاً، وإن قصد ما هو عليه في الحال كان قارناً، وإن لم يقصد شيئاً فوجهان؛ نظراً إلى الابتداء والدوام؛ حكاهما المراوزة.
ولو كان زيد لم يحرم بشيء، انعقد إحرامه مطلقاً؛ جزم به القاضي أبو الطيب وغيره، وكان ينبغي أن يتخرج على الخلاف فيما إذا كان زيد قد أحرم إحراماً فاسداً؛ فإن في انعقاده مطلقاً وعدم انعقاده وجهين في "تعليق" أبي الطيب، مشبهين بوجهين حكاهما فيما لو نذر صلاة فاسدة: هل تلزمه صلاة صحيحة أم لا يلزمه شيء؟ وقال في "الروضة": [إن] الصحيح: الثاني.
أو يتخرج على ما إذا بان زيد ميتاً حال الإحرام المعلق؛ فإن في انعقاد إحرامه مطلقاً أو عدمه وجهين، أصحهما فى "البحر" وغيره: الانعقاد.
وقد أشار الإمام إلى الفرق بين هذه الصورة والصورة التي ألحقناها بها: بأن هناك لا نتحقق عدم إحرامه، وهنا تحققناه.
وقد قال الرافعي فيما إذا لم يكن زيد [محرماً]: [إنه] ينظر؛ فإن كان المعلق جاهلاً بعدم إحرام زيد، انعقد إحرامه مطلقاً، وإن كان عالماً به؛ ففي انعقاد إحرامه وجهان، أظهرهما: الانعقاد ولم يورد الجمهور سواه. نعم: حكى القاضي الحسين فيما لو قال: إن كان فلان محرماً، فأنا محرم بما أحرم به، فبان غير محرم-: تبينًّا أنه لم ينعقد إحرامه.
وقد ذكر الأصحاب لهذه المسألة فروعاً:
منها: لو قال زيد: أحرمت بالحج مثلاً، ووقع في قلب المعلَّق: أنه أحرم بعمرة - فهل يؤاخذ بما أخبر به زيد أو بما وفع في قلبه؟ فيه وجهان في تعليق أبي الطيب.
ولو وقع في قلبه صدق زيد فيما أخبر به [من] أنه محرم بالعمرة، وجرى على قوله، ثم بان أنه كان محرماً إلحج - فقد بان أن إحرامه كان منعقداً بالحج فإن فات الوقت، تحلل من إحرامه؛ للفوات، وأراق دماً، وهو في ماله أو [في] مال زيد للتغرير؟ فيه وجهان في "تعليق" أبي الطيب و"المعتمد".
ومنها: لو مات زيد أو غاب أو جن قبل أن يعلم المعلق ما أحرم به، قال القاضي أبو الطيب: فيلزمه أن ينوي القران قولاً واحداً؛ لأنه لا مطلع له على نيته غيره، وهو الذي حكاه الماوردي عن نصه في الجديد والقديم.
وفي كتب المراوزة إجراء القولين الآتيين فيما إذا أحرم بنسك ونسيه فيه.
والإمام نسبهما إلى رواية العراقيين، والمذكور في كتبهم: الأول.
نعم، قال القاضي أبو الطيب: لو كان قد لقيه، وأعلمه بما أحرم به، ثم مات، ونسيه - فيأتي [فيه] القولان.
ومنها: لوكان [قد] علق إحرامه بإحرام زيد وعمرو، فإن كانا محرمين بحج [أو عمرة] أو قراناً - كان المعلق كذلك.
ولو كان أحدهما محرماً بحج، والآخر بعمرة، كان هو قارناً؛ قاله في "البحر".
وهل يجوز تعليق الإحرام بطلوع الشمس؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"المعتمد": أحدهما؛ نعم؛ كقوله: إحراماً كإحرام زيد، وهذا ما حكاه في "البحر"، وقال تفريعاً عليه: إنه لو قال: أحرمت يوماً أو يومين أو بنصف نسك - انعقد إحرامه مطلقاً؛ كالعتق.
والثاني: لا؛ لأنه علق إحرامه على شرط، بخلاف تعليقه على إحرام زيد؛ فإن أصل الإحرام انعقد في الحال، وإنما علق صفته على شرط يوجد في ثاني الحال؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين ومن تبعه، وألحق به ما إذا قال: إن أحرم فلان فأنا محرم، لا يصير محرماً بإحرام فلان.
فرع: إذا قال: أنا محرم إن شاء الله، قال القاضي أبو حامد: ينعقد إحرامه في الحال، ولا يؤثر استثناؤه فيه؛ لأن الاستثناء إنما يؤثر في النطق أو ما يقوم مقامه: كالكناية مع النية في الطلاق ونحوه، [ولا يؤثر في النيات المستقلة بنفسها].
قلت: ويظهر أن يجيء فيه ما قيل في نظير المسألة من الصوم.
قال: وإن أحرم بحجتين، أو عمرتين، [انعقد إحرامه] بأحدهما؛ [لأنه يمكن المضي فيه، ولا ينعقد بهما]؛ لأنه لا يمكن المضي فيهما، ولا فرق في ذلك بين أن يكون إحرامه بهما عن نفسه أو عن مستأجرين، أو أحدهما عن نفسه والآخر عن مستأجره، لكنه يكون لنفسه في الكل، وقد نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الأخيرتين في "الأم"؛ كما حكاه في "الوسيط".
قال: وإن أحرم بنسك، ثم نسبه، أي: قبل أن يأتي بشيء من أعمال النسك -
ففيه] قولان:
أحدهما: أنه يصير قارناً.
والثاني: أنه يتحرى ويصرف إحرامه إلى ما يغلب على ظنه منهما؛ لأنه لو شك في القبلة أو اشتبهت عليه الآنية والثياب، لزمه أن يتحرى، ويعمل بما يغلب على ظنه، فكذلك إذا شك في النسك الذي أحرم به، وهذا أخذ من قوله في القديم في باب وجه الإهلال "ومن لبى ينوي شيئاً، فنسي [ما لبى به ونواه]- فأحب [إلي] أن يقرن؛ [لأن القران] يأتي على ما نوى، وإن تحرى رجوت أن يجزئه، إن شاء الله تعالى".
فقد أجاز له الاجتهاد والتحري.
والجديد الصحيح المشهور: [الأول، وهو المنصوص عليه في أكثر كتبه] ووجهه: أن الإحرام قد انعقد، والتحري [غير ممكن]؛ لأنه شك في فعل نفسه، ولا أمارة عليه، والاجتهاد يكون عند وجود الأمارات.
فإن قلت: قد مضى في كتاب الطهارة خلاف في أن من شرط الاجتهاد اعتماد الأمارات، فلمن قال بالقديم أن يمنع.
قيل في الدليل: إنه شك في العبادة بعد التلبس بها؛ فلا يجوز له الاجتهاد فيها؛ كالمصلي إذا شك في عدد الركعات وهو فيها، لا يتحرى.
ولأن كل عبادة أمكن أداؤها بيقين، لم يجز التحري فيها، وأصله: ما إذا شك: هل صلى أم لا؟ فإنه يبني على اليقين، [كذلك هنا يلزمه القران؛ لأن به يخرج عما عليه] بيقين؛ فإنه إن كان قد نواه لم تضر نيته ثانياً، وإن كان قد نوى عمرة، فإدخال الحج عليها جائز وإن كان قد نوى حجاً فإدخال العمرة عليه لا يقدح فيه، وإن كان في صحتها الخلاف السابق.
والجواب عما ذكر من التحري في القبلة والثياب والآنية: [أنه أدى]
العبادة ثم لا تحصل له بيقين إلا بعد فعل محظور، وهو أن يصلي إلى غير القبلة، ويتوضأ بماء غير طاهر، ويصلي في ثوب نسى؛ فلذلك جاز التحري، وفي مسألتنا يحصل الأداء بيقين من غير فعل المحظور كما تقدم.
التفريع:
إن قلنا بالقديم، فاجتهد، ولم يغلب على ظنه شيء -[عاد الحكم كما سنذكره تفريعاً على الجديد؛ صرح به الماوردي وغيره.
وإن غلب على ظنه شيء] مضى عليه من غير نية، وأجزأه عن فرضه حتى لو غلب على ظنه القران، أجزأه عن حجة الإسلام وعمرته؛ صرح به الأصحاب.
وبهذا يظهر لك أن قول الشيخ: "ويصرف إحرامه"، فيه مسامحة، ويستحب له على هذا أن يقرن كما نص عليه.
وقد حكى الرافعي عن "شرح الفروع" للشيخ أبي علي: أن بعض أصحابنا قال: لا يجزئه ما غلب على ظنه أنه أحرم به من النسكين؛ لأن الأصل وجوبهما بيقين؛ فلا سقط اليقين بالشك، وتكون فائدة الاجتهاد مقصورة على الخلاص من الإحرام.
وفي "النهاية" في حكاية هذا الوجه عن "شرح الفروع": أن [بعض أصحابنا] قال: إن فائدة الحكم بالاجتهاد القضاء بالتحلل والخلاص من الإحرام، فأما أن يحكم ببراءة ذمته من التسكين إذا ظن القران فلا، وكذلك لا يلزمه الدم بالظن.
قال: وهذا بعيد؛ لأن الظن إن اتبع في وجه، وجب اتباعه في كل حكم. وهذا يدل على أن الخلاف مقصور [على ما] إذا غلب على ظنه القران.
وإن قلنا بالجديد، فظاهر كلام الشيخ: أنه يصير قارناً بمجرد النسيان دون نية القران، وهو [ظاهر] كلام المزني في "المختصر"؛ قإنه حكاه كالشيخ، وقد حكاه الحناطى قولاً للشافعى - رض الله عنه - وأغرب فيه.
والجمهور على صرف اللفظ عن ظاهره، وأنه لا يصير قارناً إلا بالية، ويدل عليه قوله في "الإملاء" و"الأم" - كما قال البندنيجي-: "عليه أن يأخذ باليقين، وهو أن
يقرن"، ولفظ الشيخ في "المهذب" في حكاية نصه في "الأم": "أنه يلزمه أن يقرن"، وظاهر [هذا] اللفظ يقتضي أنه يجب عليه أن ينوي القران، وهو المفهوم من كلام الأصحاب، وبه صرح الماوردي.
وفي "النهاية": أن الشافعي رضي الله عنه لم يذكر القران على معنى أنه لا بد منه، ولكنه ذكره؛ ليستفيد الآتي [به] التحلل القطعي، وتبرأ ذمته عن النسكين؛ فإنه لو اقتصر على الإحرام بالحج بعد النسيان، وانتهى عمل الحج، فقد تحلل عما هو عليه قطعاً، وبرئت ذمته عن حجة الإسلام، ولذلك لو لم يجدد إحراماً بالحج، ولكنه أتى بأعمال الحج، فإنه يخرج - أيضاً - عن إحرامه، ويتحلل غير أنه لا تبرأ ذمته في ظاهر الحكم عن واحد من النسكين.
وعلى كل حال، فإذا نوى القران وأتمه، سقط عنه حجة الإسلام بلا خلاف، وهل تسقط عنه عمرته؟ فيه قولان، ينبنيان على أن إدخال العمرة على الحج: هل يجوز أم لا؟ فإن قلنا بجوازه، سقطت [عنه أيضاً] عمرة الإسلام؛ وإن قلنا: لا يجوز، فالمذهب في "تعليق" البندنيجي وغيره: أنها لا تسقط؛ لاحتمال أن يكون إحرامه بالحج، وعن أبي إسحاق؛ أنها تسقط؛ لأن منع إدخال العمرة على الحج في حال الاختيار، أما في حال الضرورة فلا، والنسيان ضرورة. قال في "البحر" وغيره:[وهو] ضعيف.
ثم إذا قلنا بسقوط العمرة [عنه]؟، وجب عليه دم القران إن كان ممن يجب عليه، وإن قلنا؛ لا تسقط، فهل يلزمه الدم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا، وهو ما ادعى في "البحر" - تبعاً للمهذب-: أنه المذهب، وبه جزم القاضي الحسين؛ لأنه يلزمه إذا صح قرانه، وهنا لم يحكم بصحة قرانه؛ فلم يلزمه دم لأجله.
والثاني- وهو الصحيح في "الحاوي"، والظاهر في "الشامل"، والمختار في المرشد-: نعم؛ لأنا [إنما] لم نسقط عنه [العمرة] احتياطاً للعبادة، ومن الاحتياط إيجاب الدم عليه.
أما إذا حصل النسيان بعد فعل شيء من النسك، فعلى القديم لا يختلف الحكم، وعلى الجديد ننظر: فإن كان الوقوف لا غير؛ بأن يكون لمّا أحرم توجه إلى عرفة، ولم يدخل مكة كما يفعل أهل خراسان اليوم، ثم طرأ عليه الشك وهو واقف بعرفة- فإنه ينوي القران، ويسقط عنه فرض الحج؛ لأنه إن كان معتمراً فقد أدخل الحج عليها [قبل الطواف، وهو جائز، وإن كان حاجاً أو قارنًا، فقد فعل الحج]؛ وعلى هذه الحالة يحمل قوله في "المهذب"- تبعاً لأبي حامد-: وإن نسي بعد الوقوف وقبل طواف القدوم أجزأه الحج.
وأما فرض العمرة فقد أطلق الكرخى والبغوي: أنه لا يسقط.
وقال القاضي أبو الطيب: إن قلنا فى الحالة السابقة: لا سقط، فكذلك هنا؛ وإن قلنا؛ [يسقط ثم، فهاهنا] وجهان ينبنيان على الوقت الذي يجوز فيه إدخال العمرة على الحج؛ فإن قلنا: يجوز إلى أن يقف بعرفة فلا يجوز فهاهنا لا يسقط؛ وإن قلنا: يجوز ما لم يشرع في التحلل، سقط عنه فرض العمرة هنا أيضاً؛ [وهذا] قد
أبداه الرافعي احتمالاً.
ولو طرأ عليه النسيان بعد انصرافه من الوقوف، فإن كان الوقت باقياً، نوى القران، وعاد إلى الموقف، وكان حكمه كما لو وقع النسيان وهو بعرفة.
وإن كان [وقت الوقوف] قد فات، فلا يسقط عنه فرض الحج؛ لأنه يجوز أن يكون ما نسيه عمرة؛ فلا يصح إدخال الحج عليها في زمان لا يصح فيه الإحرام بالحج.
وأما فرض العمرة، فإن قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج إذا وقف بعرفة - فلا يسقط فرضها؛ وإن قلنا: يجوز ما لم يرم جمرة العقبة - سقط عنه فرضها.
وإن كان لما أحرم توجه إلى مكة قبل الوقوف، وطاف طواف القدوم، ثم طرأ عليه الشك - لم يسقط [عنه] فرض الحج؛ لأنه يجوز أن يكون ما نسيه عمرة، والطواف منصرف إلى طوافها، ولا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف.
وأما فرض العمرة، فإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج، فلا يسقط [أيضاً] وإن قلنا: يجوز - أما في حال الاختيار أو في هذه الحالة؛ كما قاله أبو إسحاق - سقط؛ كذا قاله القاضي أبو الطيب وغيره، وهو منه بناء على أن طواف القدوم في الحج لا يمنع إدخال العمرة عليه، أما إذا قلنا:[إنه] يمنع - كما اختاره البغوي وغيره - فلا يسقط؛ صرح به القاضي الحسين؛ ولذلك قال ابن الحداد - كما حكاه ابن التلمساني -: إنه لا تجزئه العمرة يكل حال على القولين جميعاً؛ لأن [من] مذهبه - كما تقدم - أن طواف القدوم يمنع إدخال العمرة على الحج.
وقال الشيخ أبو علي: إنه الصحيح، وهو الذي ذهب إليه أبو حامد في "التعليق". نعم، قال ابن الحداد:[له] في هذه الحالة أن يصلي ركعتي الطواف، ويسعى، ويحلق، ثم يحرم بالحج، ويهريق دماً لحلاقه قبل أوانه، أو لتمتعه، وقد تم حجه.
وقال أبو زيد؛ كما قال القاضى الحسين وصاحب "التقريب"، والأكثرون؛ كما قال الرافعي-: لا يفتى له بما قاله ابن الحداد؛ لجواز أنه محرم إلحج؛ فيصير
بالحلاق جارحاً لإحرامه، ولا يطلق للإنسان جرح الإحرام، لكنه لو أقدم على الحلاق، وأحرم بالحج، فالحكم فيه كما قاله ابن الحداد، وعلى [هذا] ينطبق قول الإمام: إن كافة الأصحاب نقموا على ابن الحداد ما قاله.
وقد جعله في "الوسيط" الأظهر، ووجهه بأن هذا الضرر أعظم من أذى الشعر؛ إذ يؤدي إلى فوات الحج لو لم يفعل ذلك.
وقال في "المهذب" - تبعاً للبندنيجي -: إذا أراد أن يجزئه الحج، طاف، وسعى لعمرته، وحلق، ثم يحرم بالحج، ويجزئه.
قال العمراني: قال الشيخ الإمام: ينبغي [عندي] أن يقال: يكفيه السعي، ولا يحتاج إلى إعادة الطواف؛ لأنه طاف، وليس من شرط السعي أن يكون بعقب الطواف، بل يجوز التفريق بينهما بسنة وأكثر. وهذا [عين قول ابن الحداد].
وقد فرض القاضي أيو الطيب الكلام في المسألة فيما إذا طرأ النسيان بعد طواف القدوم والسعي والحلاق، ولم يكن فعل بعد الإحرام سوى ذلك، وقال: إنه ينوي القران، ويأتي بأفعاله، ويسقط عنه فرض الحج؛ لأنه إن كان الذي نسيه عمرة فقد أتى بأفعالها، واستأنف الحج؛ فيكون متمتعاً، وإن كان حاجاً فقد حلق في الحج؛ وإن كان قارناً فقد أتى بالحج، وحلق في إحرامه، فالحج ساقط؛ وكذا العمرة إن قلنا: يجوز إدخال العمرة على الحج، وإلا فلا، وهل يجب عليه دم أو دمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: دمان؛ احتياطاً للفرض.
والثاني: دم واحد، وهو الصحيح في "البحر"؛ لأن المنسي إن كان عمرة، فهو متمتع؛ فيلزمه دم واحد، وإن كان حجاً؛ فقد حلق؛ فيلزمه دم الحلاق.
قلت: ودم القران إن قلنا: يجوز إدخال العمرة على الحج.
وإن كان قراناً؛ فيلزمه دم القران، ودم الحلاق، غير أن المتيقن دم واحد؛ فلم
يلزمه غيره، وهذا ما قال البندنيجي: إنه المذهب، وبه جزم الإمام، فعلى هذا إن كان المنعرج: الدم، فينوي به الفداء أو الواجب عليه، ولا يضره الجهل بالتعيين: أنه عن تمتع أو قران أو حلاق؛ كما نقول في الكفارات.
وإن كان بالصوم، فصوم التمتع عشرة أيام، وصوم الحلق ثلاثة، فإن صام العشرة مع التفريق، برئ، ولا يضر عدم التعيين في نية الصوم، وإن صام ثلاثة أيام، قال الشيخ أبو علي؛ لا يجزئه، وكذا لو أطعم ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لاحتمال اشتغال ذمته بدم التمتع أو بدله، وقد تيقنا وجوب الكفارة، ولم نتحقق البراءة؛ فإن الإطعام لا مدخل له في التمتع.
وقال الإمام: يحتمل أن يجزئه الثلاثة والإطعام؛ لأن الأصل براءة الذمة، والسبعة مترددة يين الثبوت والسقوط، فكيف نوجبها وقد تقرر فى المذهب: أن من خرج منه بلل احتمل أن يكون منيًّا ومذيًا: أنه يقتصر على الوضوء للشك؛ أخذاً بالأقل حتى قال قائلون: لو توضأ منكساً في هذه الصورة، أجزأه؟!
وقد أقام في "الوسيط" هذا الاحتمال في إجزاء صيام الثلاثة وجهاً، وأثبت في المسألة وجهين؛ وهذا إذا كان الشاك من أهل التمتع والقران، وإلا فلا دم عليه لذلك، ودم الحلاق لا يجب بالشك، والاحتياط أن يريق الدم؛ لاحتمال الوجوب.
تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن محل القولين في مسألة الكتاب إذا شك؛ هل أحرم بحج أم عمرة؟ فإنه قال: "والثاني: يتحرى، ويصرف إحرامه إلى ما يغلب على ظنه منهما"، وهو ما حكاه الماوردي عن البصريين، وأنهم قالوا: إذا وقع الشك في أنه حج أو عمرة أو قران، تعين [القول] الأول جزماً.
وحكي عن البغداديين إجراؤهما في الصورتين، وهو الذي حكاه الجمهور.
وعن الشيخ أبي علي: نفي الخلاف في جواز التحري، وحمل النص الجديد على ما إذا شك، فلم يدر أنه أحرم بأحد النسكين، أو قرن؛ وبهذا يحمل في المسألة ثلاث طرق.
قال: ولا يستحب أن يذكر ما أحرم به في التلبية، أي: إذا قلنا: إن التعيين أفضل؛
كما قاله ابن الصباغ؛ لما روي عن جابر قال: "لم يسم رسول الله صلى الله عليه وسلم [نسكاً] أحرم به قط، لا حجًّا ولا عمرة".
وروي أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: "لبيك بحجة وعمرة"، فضرب بيده على صدره، وقال:"إنه يعلم ما في نفسك".
وروي أنه قال: أتلبون له بما في قلوبكم؟! إنما هي نية أحدكم.
ولأن إخفاء العبادة أولى؛ وهذا ما نص عليه فى عامة كتبه؛ كما قاله البندنيجى وابن الصباغ، [ثم] قال: ومن أصحابنا من قال: الأفضل أن يذكره.
والقاضى أبو الطيب والماوردي والفورانى حكوه قولاً ثانياً فى المسألة، ووجهوه بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو بالعقيق:"أتانى الليلة آت من ريى، فقال: صل في هذا الموضع المبارك، وقل: عمرة في حجة".
وروى مسلم عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ بهما جميعاً: "لبيك عمرة وحجًّا".
ولأن ذكر النسك فى التلبية يمهد النية؛ فاستحب لذلك، وما ذكر من [أن] إخفاء العبادة أولى، فهذا قد أظهرها بالتلبية؛ فلا معنى للإخفاء بعد ذلك.
قال: والتلبية: أن يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك [لا شريك لك لبيك]، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؛ لما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن [عبد الله] بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال: "لبيك اللهم لبيك
…
" إلى آخره.
قال الأصحاب: ويستحب أن يأتي بالتلبية نسقاً لا يتخللها كلام، وإن سلم عليه رد السلام؛ لأنها سنة والرد فرض.
ويستحب أن يقف وقفة لطيفة عند قوله: "والملك"، ثم يقول:"لا شريك لك"، ويستحب ألا يزيد على هذه الكلمات، ولا ينقص منها.
قال الشافعي رضي الله عنه: "واختار أن يفرد تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقصر عنها، ولا يجاوزها؛ لما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه سمع بعض بني أخيه، وهو يلبي: يا ذا المعارج، فقال سعد: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والفرق بينها وبين تكبيرات العيد؛ حيث استحب الزيادة فيها: أن تكبيرات يوم العيد لم يشرع فيها التكرار، فشرعت فيها الزيادة؛ لإكثار الذكر، وأما التلبية فقد شرع فيها التكرار؛ فاستغني به عن ضم الزيادة.
ثم لو زاد على ذلك لم يكن مكروهاً على المشهور؛ فإن الشافعي رضي الله عنه – قال: لا يضيق أن يزيد عليها؛ لما روى البخاري و [مسلم] في تتمة الحديث [الأول].
قالوا: وكان عبد الله يرفع مع هذا: "لبيك لبيك، لبيك وسعديك، والخير [كله] بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل".
وروى أبو داود وابن ماجه عن جابر قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر التلبية بمثل حديث ابن عمر، قال: والناس يزيدون "ذا المعارج" ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فلا يقول لهم شيئاً.
وقد حكى الشيخ أبو حامد: أن أهل [العراق] ذكروا عن الشافعي رضي الله عنه أنه تكره الزيادة على ذلك، وغلطوا فيه؛ فإن المنقول عنه ما ذكرناه وهو ما أورده الفوراني.
وقد استحب الشافعي رضي الله عنه في "الأم" أن يلبي ثلاثاً.
واختلف أصحابنا في تأويله على ثلاثة أوجه حكاها الماوردي:
أحدها: أنه يكرر قوله: "لبيك" ثلاث مرات.
والثاني: أنه يكرر قوله: "لبيك اللهم لبيك" ثلاث مرات.
والثالث: أنه يكرر جميع التلبية.
تنبيه: لبيك: من التلبية، وهى إجابة المنادي، والقصد [بها] هنا: إجابة إبراهيم - على نبينا وعليه السلام - التي أمر بها كما تقدم في أول الباب.
وممَّ هي مشتقة؟ فيه خمسة أقوال:
أظهرها- وهو قول الخليل، وثعلب-: أنها مشتقة من: ألبّ [فلان] بالمكان؛ إذا أقام فيه. ومعنى "لبيك": أنا مقيم على طاعتك.
وعن الأزهري وغيره [أنه قال]: معنى "لبيك" على هذا القول: أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة، والله أعلم.
قلت: وهذا الاختلاف يمكن أن يكون أصله أن "لبيك" هل [هو [على]] معنى التثنية [وان كان] لا واحد له، كقولهم: حنانيك؛ فإنها تثنية لا واحد لها، [أو هو]، على معنى الإفراد؟ وفيه وجهان عند أهل اللغة نقلهما الماوردي؛ ليكون الأول مبنياً على الثاني، والثاني مبنياً على الأول، وهو المشهور، ولذلك قال بعضهم: إنها لا تستعمل إلا على لفظ التثتية، وإن أصلها:"لبَّين"، فحذفت النون للإضافة.
والقول الثاني - وهو قول الفراء -: أنها مشتقة من الإجابة، ومعناها: إجابتي لك.
والثالث: أنها مأخوذة من "اللب" و"اللباب" الذي هو خالص الشيء، ومعناها: الإخلاص، أي: أخلصنا لك الطاعة.
والرابع: أنها مأخوذة من "لب" العقل من قولهم: "رجل لبيب"، ويكون معناه: إني منصرف إليك، وقلبي مقبل عليك.
والخامس: أنها مأخوذة من المحبة من قولهم: "امرأةٌ لبَّهٌ"، إذا كانت لولدها محَّبة، ويكون معناها: محبتى لك.
وكرر قوله: "لبيك"؛ للتوكيد.
وقوله: "إن الحمد" روي بكسر الهمزة وفتحها، وهما وجهان مشهوران، وأشهرهما: الكسر؛ قاله الأزهري وغيره، وهو على الاستئناف، والفتح للتعليل.
وقال ثعلب: من كسر فقد عمم، ومن فتح فقد خص.
وحكم التلبية بغير العربية حكم التسبيحات في الصلاة.
قال: ويرفع صوته بالتلبية؛ لرواية الشافعي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: "أتاني جبريل، فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصوأنهم بالإهلال"، وقد أخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن صحيح.
وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا [لا] يبلغون الروحاء حتى تُبَحَّ حلوقم من التلبية.
ولأن معناها معنى الأذان، الذي لا يسمعه شيء إلا شهد له، وقد جاء عنه عليه السلام أنه [قال]:"ما أهلَّ مهلٌّ قط إلا بشر، [ولا كبر مكبر قط إلا بشر"]، قيل يا رسول الله، بالجنة؟ قال:"نعم".
ثم حد الرفع: أن يتتهي إلى حد لو زاد عليه، انقطع صوته؛ لما روي عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا إذا علونا كبرنا، فقال – عليه السلام:"اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، ولكن تدعون سميعاً بصيراً" أخرجه البخاري.
ومعنى اربعوا: كفوا.
قال: والمرأة تخفض صوتها؛ خشية من الافتتان به؛ ولهذا شرع التسبيح في الصلاة للرجال، والتصفيق للنساء.
قال القاضي الحسين: ويشرع لها: أن تقيم ولا تؤذن، ولا تجهر بالقراءة؛ وهذا - كما قال أبو الطيب - على وجه الاستحباب، فلو رفعته، كره لها كراهة تنزيه لا تحريم؛ فإن صوتها ليس بعورة. ووافقه على ذلك البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين وغيره.
[وفي "الرافعي"] وجه أنه عورة.
ولا فرق في استحباب التلبية لها بين أن تكون طاهراً أو [حائضاً أو نفساء، كما أنه لا فرق في الرجل بين أن يكون طاهراً أو] جنباً.
قال: ويستحب أن يكثر من التلبية؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 196].
قال ابن عمر: فرض الحج: التلبية.
وروى الشافعي بإسناده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبي راكباً وماشياً، وقائماً وقاعداً ومضطجعاً.
وروي أن سعيد بن جبير كان يوقظ الناس في المسجد الحرام، ويقول لهم: لبوا؛ فإني سمعت ابن عباس يقول: "التلبية زينة الحج".
قال: ويستحب ذلك في المساجد، أي: أكثر من غيرها - وإن كان رفع الصوت
منهي عنه فيها؛ كما جاء في الخبر: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، ورفع أصواتكم"- لعموم الأخبار مع أنه ذكر هو شعار العبادة؛ فكان مستحباً في المساجد؛ كالقراءة والأذان.
وعن القديم إثارة إلى أنه لا يلي إلا في [ثلاثة مساجد]: المسجد الحرام بمكة، ومسجد الخيف بمنى، ومسجد إبراهيم بعرفات؛ لاختصاص المناسك بهذه المساجد؛ فاختص استحباب التلبية بها.
وفي الحاوي ما يقتضي حكاية هذا القول على غير هذا النحو؛ فإنه قال: كره الشافعي رضي الله عنه رفع الصوت بالتلبية في القديم فيما عدا المساجد الثلاثة؛ لأنه يؤذي به المصلين والمرابطين، ثم رجع عن هذا في الجديد، واستحب رفع الصوت في كل مسجد؛ لأنه ذكر لله تعالى، [فكانت المساجد] أولى البقاع به؛ لقوله عليه السلام:"إنما بنيت المساجد؛ لذكر الله والصلاة".
قال الإمام: وإذا قلنا بكراهية رفع الصوت بها فيما عدا المساجد الثلاثة، فهل نعدِّيه [إلى المساجد] الثلاثة؟ فيه وجهان.
قال: وإقبال الليل والنهار، وعند اجتماع الرفاق، أي: وكذا عند الصعود والهبوط، وخلف الصلوات من فرض ونفل، لأن السلف كانوا يستحبون التلبية في هذه الأحوال، وفي الأسحار.
قال البندنيجي: وإذا لبى دبر الصلاة، لبى ثلاثاً؛ كما يكبر في أيام التشريق ثلاثاً نسقاً.
قال: وإذا رأى شيئاً يعجبه، قال:"لبيك إن العيش عيش الآخرة"، أي: وكذا إذا دهمه ما يكرهه.
قال الشافعي رضي الله عنه: لأنه عليه السلام قالها في أسرَّ حاله، وفي أشد حاله:
[فأما أسرُّ حاله]، فحين وقف بعرفة عام الوداع، ورأى جمع المسلمين؛ فسرَّه
ذلك المنظر، واستبشر، وقال:"لبيك إن العيش عيش الآخرة".
وروي أنه عليه السلام أحرم بذى الحليفة وهو على ناقة عليها قطيفة لا تساوي درهمين، ورأى أصحابه يتتظرون أمره ونهيه؛ فتضاءل حتى توارى براحلته تواضعاً لربه، وقال:"لبيك إن العيش عيش الآخرة".
وأما أشد [حاله، فما] روي أنه عليه السلام وأصحابه كانوا يحفرون الخندق، وقد نهكت أبدانهم، واصفرت ألوانهم، فقال عليه السلام:[اللهم] إن العيش عيش الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة"؛ فأجابوه:"نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدا".
ومعنى قوله: "إن العيش عيش الآخرة": أن الحياة المطلوبة الهنيئة الدائمة هى حياة الدار الآخرة.
قال: وإذا لبّى، صلَّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، أي: لا أذكر إلا وتذكر معي.
قال: وسأل الله - تعالى - ما أحب، [أى] من أمر الدين والدنيا؛ لما روى خزيمة بن ثابت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة، سأل
الله - تعالى - رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار".
[قال في "الأم": وهذا أعظم ما يسأل".
ثم يسأل الله تعالى بعد هذا ما أحب].
قال الإمام: ويكون هذا وكذا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت خفيض؛ بحيث يتميز عن التلبية.
قال: ولا يلبي في الطواف؛ لأن له ذكراً يختص به؛ فكان الاشتغال به أولى.
قال سفيان: ما رأيت أحداً يلبى وهو يطوف إلا عطاء بن السائب! قال القاضي أبو الطيب: وهذا حكاه سفيان على سيل النكرة؛ لمخالفة عطاء الإجماع، ولذا [كان] لا يليى في السعي؛ لأن له ذاكراً يخصه.
وحكى البندنيجي عن القديم قولاً: أنه يلبي في الطواف والسعي، ويخفض صوته قدر ما يسمع نفسه، قال: وهذا في طواف القدوم؛ فإنه لا تلبية بعد جمرة العقبة.
وقد عكس القاضي الحسين هذه الحكاية، فقال: الجديد: أنه يلبي فيهما، والقديم [أنه] لا يلبي، والمشهور: الأول.
وقال الإمام: إن اختلاف القول في ذلك يقرب من اختلاف القول في أنا هل نستحب للمصلي أن يجيب المؤذن فى الصلاة؟
قال: وإذا أحرم، حرم عليه لبس المنعيط في جمع بدنه، أي: المعمول على
قدره على الهيئة المألوفة فيه؛ لما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما من أسفل الكعبن، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس".
وقد جاء في رواية غيره أنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم القميص والأقبية"، فنص على منع القميص والقباء، ونبه على الجبة والدراعة، ونص على السراويل، ونبه [به] على التبان.
والمنسوج على هيئة المحيط والملزوق والملّبَّد في معنى المنعيط.
ولا فرق في ذلك بين المتخذ من خرق أو ورق أو جلد [أو حديد]، كالدرع؛
كما قاله أبو الطيب وغيره.
والعفو في معنى الكل؛ إذا كان الملبوس معتاداً: كالقفازين، أما إذا لم يكن معتاداًَ: كما إذا اتخذ للحيته خريطة، وجعلها فيها، فقد قال القفال: إن الفدية تلزمه.
وحكى غيره نصاً: ألا فدية عليه؛ كما لو لف عليها خرقة؛ كذا حكاه القاضي الحسين قبيل باب ما يجتنبه المحرم.
وفي "الرافعي": أن الذي أجاب به الأكثرون: الأول.
ولو اتخذ لساعده أو لعضو آخر شيئاً مخيطاً، فقد تردد فيه جواب الشيخ أبي محمد.
قال الإمام: وهو لعمري محتمل؛ فإن التكشف ليس واجباً في غير عضو الإحرام، وإن القاعدة المعتبرة اجتناب زي مخصوص، وذلك يختص بالملابس المعتادة، والخريطة ليست لبساً على الزي المنعصوص.
[وقال الرافعي: إن الذي أجاب به الأكثرون: التحريم].
وفي "الحاوي": أنه إذا لبس القباء، ينظر: فإن كان من أقيية أهل خراسان، ضيق الأكمام، قصير الأذيال- وجبت الفدية، أخرج [يده من]، كمه أو لم يخرج؛ لأنه يلبس هكذا.
وإن كان من أقيية أهل العراق طويل الذيل، واسع الأكمام - لم تجب الفدية، إلا إذا أخرج يده من كمه؛ لأنه لا يحفظ نفسه؛ فكان كالرداء والإزار.
والذي حكاه في "البحر" عن نصه في "الأم"، وهوالذي أورده العراقيون والغزالي وغيرهم-: وجوب الفدية؛ إذا أدخل كفيه فيه، سواء أخرج [يده من كمه] أو لا.
وأما [إذا أراد لبس شيء مما ذكرناه على هيئة لم تؤلف؛ كما] إذا أراد أن يأتزر يقميص أو سراويل، فإنه يجوز، وكذا لو أخذ خرقاً، وخاط بعضها إلى بعض، وجعلها
شبه المئزر، أو الرداء - جاز لبسها.
ولو ألقى على نفسه قباء أوفرجية، وهو مضطجع، قال الإمام؛ إن أخذ من يديه؛ بحيث إذا قام [عدَّ لابساً له]؛ فعليه الفدية، وإن كان بحيث لو قام أو قعد، لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر، فلا.
ويجوز أن يعقد الإزار لأن فيه مصلحته، وهو ثبوته على عورته، وكذا يجوز أن يجعل له حجزة؛ ليدخل فيها تكة؛ ليشدَّه بها؛ لأنه لا يعد لابساً مخيطاً، وإنما هو استيثاق في الستر؛ كذا أورده الجمهور.
وفيما وقفت عليه من "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه لا يجوز؛ لأنه [لا] يصير كالسراويل.
وعلى المشهور يجوز من طريق الأولى شد التكة فوقه بعد الائتزار.
ولا يجوز شق الإزار، وأن يجعل له ذيلين يسدهما على ساقيه؛ كما نقله في البحر وغيره عن نص الشافعي رضي الله عنه في "الأم".
وقال الإمام: إن ذلك جائز، ولا تجب الفدية به إلا إذا فرطت خياطة أو شرج أو عرى.
وفي "البحر" حكاية ذلك عن بعض الأصحاب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب في "تعليقه"، وأيده بنص الشافعي رضي الله عنه في "الأم" على جواز لف الرداء على عاتقه لفتين وثلاثة.
والذي أورده الجمهور: الأول.
ولا يجوز له عقد ردائه، ولا خله بخلال أو مسلة، ولا ربط طرفه إلى طرف بخيط ونحوه، وإن جاز غرز طرفيه فى إزاره، وهو ما حكاه فى "الروضة" عن النص، وقال: إنه المذهب.
وفي "النهاية": أنه لو ارتدى المحرم رداء، وعقد أحد طرفيه بالآخر، فلا بأس؛ فإن هذا مخالف للستر المعتاد، والعقد الذي جرى استيثاق التوشح، هذا بمثابة
عقد الإزار، وكذا لو عقد طرف ردائه بإزاره.
وهل يجوز أن يجعل [لردائه سرجاً] وعرى؟ حكى الإمام فيه عن العراقيين المنع، وعن شيخه تردداً، ثم قال: ولا شك أنه لو فرض [ذلك] على طرف من الرداء، ولم ينتظم انتظاماً قريباً من الخياطة، [فلا بأس والرجوع في ذلك إلى العقد والخياطة:] فما حل محل العقد فلا بأس [به]، وما ضاهى الخياطة ففيه التردد، والظاهر: المنع؛ لأنه نص في "الأم" على أنه لا يجوز أن يزر إزاره ولا يخيطه بشوكة؛ لأنه يصير [به] كالمنعيط.
قال: فإن لم يجد إزاراً، جاز أن يلبس السراويل، [أي:] الذي لا يتأتى الائتزار به لو فتق؛ لما روي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "السراويل لمن لا يجد الإزار، والخف لمن لا يجد النعلين"، أخرجه أبو داود [والبخاري] ومسلم بنحوه.
ولا يقال: ما الفرق بينه وبين القميص؛ حيث لا يجوز لبسه إذا لم يجد رداء لإمكان ارتدائه بالقميص؟ لأنا نقول: المسألة مصورة في المحرم الذي لا يمكنه الارتداء بالسراويل لو فتق، أما إذا أمكن، فالذي أورده الجمهور: أنه لا يجوز له لبسه على هيئته.
وأطلق البندنيجي القول بأنه لا يلزمه فتق الرأويل، بل يلبسه على هيئته.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: [أن] الذي حكاه رضي الله عنه: أنه إذا لبسه على هيئته، لا فدية عليه؛ لأنه مرخص بالحديث، بخلاف الخفين؛ فإنا اتبعنا في قطعهما النص.
[و] الذي وجدت في كتب بعض أصحابنا: أن عليه الفدية؛ كما لو لبس الخف على هيئته عند عدم النعل، بل [فى] السراويل أولى؛ لأنه [لا يضيع و] لا ينقص [كثير من قيمته بالفتق، والخف ينقص] نقصاناً متفاحشاً بالقطع، ولا وجه للمنع في هذه المسألة وإن كان ما حكاه مذهباً؛ لتعذر الفرق بينه وبين الخف.
ثم في الحالة التي يجوز فيها لبس السراويل، لا نكلفه أن يقطع من السراويل ما جاوز حد العورة، ويجوز عقده فوق السرة.
وللإمام في جواز ذلك إذا حصل الاستيثاق بدونه نظر، وقال: إنه يظهر عندي
تكليف رد عقده إلى حد السرة.
قال: ولا فدية عليه؛ لأنه غير محظور في هذه الحالة. نعم، لو وجد بعد لبسه الإزار، فعليه خلعه، فإن لم يفعله، لزمته الفدية، نص عليه في "الأم".
تنبيه: المراد بالوجدان: وجود من الإزار أو قيمته مع القدرة على شرائه، وكذا بذله [له] عارية لا هبة من أجنبي.
ولو كان البذل هبة من ابنه، ففيه وجهان؛ كما في بذل النفقة في الحج؛ [قاله القاص أبو الطيب.
ولو قدر على بيع السراويل، وشراء إزار به، فهل يجب؟] قال القاضي أبو الطيب: إن كان مع فعل ذلك لا تبدو عورته، وجب، وإلا لم يجب.
قال: ويحرم عليه لبس الخف؛ للخبر، فإن لبسه، لزمته الفدية؛ لأنه فعل محظوراً في الإحرام؛ فأشبه الحلق.
قال: فإن لم يجد نعلين، جاز أن يلبس خفين مقطوعين من أسفل الكمين، للخبر، ولا فديت عليه؛ لأنه غير محظور في هذه الحالة.
نعم: لو وجد بعد لسهما كذلك نعلين، لزمه نزعهما، فإن لم يفعل، لزمته الفدية.
قال في البحر وغيره: ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار بين أن يلبس نعلين، وبين أن يستديم ذلك، ولا شيء عليه؛ لأنهما [صارا] بمنزلة النعلين؛ وهذا وجه من جوز لبسهما ابتداء كذلك مع وجود النعلين؛ لصيرورتهما كالنعلين؛ فإنه [لا] يجوز المسح عليهما.
قال الأصحاب: وهو باطل بالخف المنعرق؛ فإنه لا يجوز المسح عليه، ويحرم لبسه على المحرم مع أن الخبر يرد عليه.
والمداس ملحق بالخف المقطوع، فيجوز لبسه عند فقد النعلين، ولا يجوز مع وجودهما؛ على ما نص عليه في الأم؛ كما حكاه الماوردي.
ومن الأصحاب من قال بالجواز وإن لم يجوز لبس الخف؛ لأن القدر المنعيط بأعلاه، للاستمساك في القدم، بخلاف الخف؛ فإنه يلبس لقصد [الستر].
واعلم أن ظاهر الحديث يدل على جواز لبس الخف عند عدم النعلين وقطعهما بعد ذلك، والأصحاب مصرحون بعدم جواز ذلك، وأجابوا عن ظاهر الخبر بأن مثل هذا جائز في اللغة؛ قال الله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، والرفع قبل الوفاة قطعاً.
قال: ويحرم عليه ستر الرأس بالمخيط وغيره، أي: عن غير عذر؛ لقوله – عليه السلام: "لا يلبس المحرم العمائم ولا البرانس"، وقوله في المحرم الذي خرَّ من على بعيره:"ولا تخمروا رأسه؛ قإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً"، أخرجه البخاري.
وقد ادعى الماوردي الإجماع على تحريم ستر الرأس.
وحكم ستر الجزء منها الذي يقصد ستره لشجة أو غيرها، حكم ستر الكل.
واحترزنا بقولنا: "يقصد ستره"، عما إذا شد خيطاً على رأسه؛ فإنه يجوز لأن قدر موضع الخيط لا يقصد ستره.
وقد اعترض الرافعي على ذلك، وقال: إن ستر المقدار الذي يحويه وشد الخيط قد يقصد - أيضاً - لغرض منع الشعر من الانتشار وغيره، وهو ينقض الضابط
المذكور؛ فالوجه: النظر إلى تسميته حاسر الرأس، ومستور جميع الرأس، أو بعضه.
قلت: لعلَّ مراد الأصحاب بما يقصد ستره: لأجل الستر لا لأمر آخر، وحينئذ يندفع الاعتراض.
وقال الغزالي: يحتمل أن يقال: كل ستر يلوح للناظر - أي: السليم - على بعد، فهو الممنوع. وهذا الاحتمال للإمام قبله، والله أعلم.
[قال: فإن ستر لزمته الفدية؛ لأنه ارتكب محظوراً [فيه]].
تنبيه: كلام الشيخ يقتضي بمنطوقه أموراً، وبمفهومه آخر، ويحتاج إلى التنبيه على ذلك:
فمن الأول قوله: "وغيره" يقتضي [تحريم] ستر الرأس بالزنبيل والعدل المحمول من مكان إلى مكان، وقد جزم في "المهذب" بجوازه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، والصحيح من المذهب.
لكن في "الشامل": أن ابن المنذر حكى عن الشافعي رضي الله عنه أن عليه الفدية.
وقال أصحابنا: هذا لا يعرف فى شيء من كتب الشافعى.
لكن أبا حامد حكى فى "التعليق": أنه نص فى بعض كتبه: أن عليه الفدية؛ كما لو طلاها بالطين، وقد عزى البندنيجى هذا القول إلى "الإملاء"، وهو منسوب في "البحر" إلى رواية القفال، وأنه اختيار [أبي سليمان] الخطابي وجماعة، فللشيخ أسوة بهم.
وقد تلخص في المسألة قولان، وخصهما [فى]"الحاوي" بما إذا لم يقصد الستر، فإن قصده لزمته الفدية وجهاً واحداً.
ومنه - أيضاً: [ما] إذا انغمس فى ماء حتى ستر رأسه، فقد فعل محرماً، وقد نص الأصحاب على جوازه.
ومنه –أيضاً-: أنه لا يجوز [له] أن يغطي رأسه بكفيه أو يد غيره، وقد جزم الأصحاب بجواز ذلك بكف نفسه، ولا فدية عليه، وهو المذهب فى كف الغير أيضاً.
وفي "الحاوي" وجه آخر: أنه لا يجوز، ويجب به الفدية.
والفرق: فى جواز السجود على كف الغير، دون كف نفسه.
[ومنه: تحريم الستر بالطين والحناء، وقد نص الشافعي على أنه إذا خضب رأسه بالحناء، لزمته الفدية، ولم يحك البندنيجي غيره.
وكذلك أطلقه فيما إذا خضبها بالنورة.
وفيه وجه: أنه لا يلزمه الفدية كالوجه في أنه لا يحمل بالطين ستر العورة.
قلت: [وقائله] قد يؤول النص في الحناء، ويقول: إنما لزمته الفدية؛ لأن الحناء طيب؛ كما حكاه الفوراني قولاً عن رواية بعض الأصحاب، والصحيح: الأول.
قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: وهو محمول على ما إذا كان الخضاب بحناء يمنع النظر إلى الرأس، أما إذا كان رقيقاً فلا فدية عليه.
وحكم المرهم حكم الحناء، يختلف بالثخانة والرقة.
وقال ابن الصباغ: عندي أنه يجري مجرى ما لو طلى رأسه بعسل، وقد نص الشافعي في "الأم" على أنه لا فدية عليه، وكذا إذا طلاها بسدر؛ فإنه لا يجري مجرى الحناء؛ لأن الحناء له جرم، فقد يخف ويكون ساتراً، بخلاف المرهم إلا إذا كان معه قرطاس].
ومن الثاني: جواز تغطيتها بثوب تبدو البشرة من ورائه؛ لأنه لو لبس مثل هذا الثوب من يحاول الستر، لم يكن ذلك سترًا.
وقال الإمام: إنه في الرأس ستر يوجب الفدية فيما يظن، وإنه لا بعد في إلحاق
ذلك [بوضع الزنبيل]، والأوجه: الأول.
ومنه: جواز ستر الوجه؛ كما نص عليه الأصحاب؛ لأنه ليس من الرأس، لكنه يخرج البياض الذي وراء الأذن من وجوب الفدية بستره.
وقد حكى في "الروضة" عن الروياني وغيره: أنه تجب الفدية يتغطيته، وقال: إنه ظاهر.
ومنه: جواز الاستظلال بالظلالة، والسفيفة، والخيمة، والمحمل، والمجن المرفوع، والعمامة المكورة إذا توسدها؛ كما صرج بذلك الأصحاب؛ لأن ذلك لا يُعد ستراً، وقد دل على جوازه الخبر.
لكن صاحب "التتمة" خص ذلك بما إذا لم تمس المظلة والمحمل رأسه، أما إذا مسه، فتلزمه الفدية.
قال الرافعي: ولم أر هذا لغيره، وإن لم يكن بد منه فليلحق بالزنييل.
قال: ويحرم عليه الطيب، أي: استعمال الطيب في [بدنه وثيابه].
أما في الثياب؛ فللخبر السابق؛ فإنه نص فيه على منع الورس والزعفران، ونبه بهما على منع الكافور والمسك وغيرهما.
وأما في البدن؛ فبالقياس على الثياب من طريق الأولى.
ولأن الإحرام عبادة تحرم النكاح؛ فجاز أن تحرم الطيب؛ كالعدة.
وقد ادعى الماوردي الإجماع على حرمة استعمال الطيب على المحرم.
ولا فرق في ذلك بين تبخير الثياب والبدن [به]، أو تلطيخ ذلك به، وكذا صبغ الثوب وغسله، ولا بين الأخشم وغيره؛ كما قاله في "الإبانة"، ولا بين الرجل والمرأة؛ لقول ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مس الورس من الثياب.
والنعل في هذا المعنى كالثوب؛ حتى إذا وطئ به طيباً قصداً، أو من غير قصد، واستدامه - لزمته الفدية.
أما إذا لم يستعمل الطيب، بل طيبه غيره، فقد حكى الغزالي عن الأصحاب: أن على الفاعل الفدية.
قلت: ويظهر أن يجيء في كون المطيب طريقاً للضمان، الخلاف الآتي في الحلق،
ويظهر ألا يجيء.
والفرق: أن من قال إن المحلوق يكون طريقاً، جعل الشعر في يده كالمستعار، ولا كذلك في التطيب.
لكن قد حكى النواوي وغيره: أن الولي إذا طيب الصبي لا لحاجة، فالفدية عليه، وكذا لو طيبه أجنبي، وهل يكون الصبي طريقاً؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، وهذا يؤيد الاحتمال [الأول]، ويلغي الفرق.
ثم ما ذكرناه في الثوب المطيب إذا ابتدأ لبسه بعد الإحرام سواء طيبه بعده أو قبله، فإن طيبه قبل الإحرام، ولبسه، [ثم نزعه بعد الإحرام]- فهل يحرم عليه لبسه ثانياً؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين، وقد تقدم ذكرهما، والمشهور: المنع.
فروع:
[أحدها:] إذا طيب أرضاً، أو فرشاً، وجلس عليه، ملاقياً له بثوبه أو بدنه - لزمته الفدية، سواء كان رطباً أم يابساً ينقص بالاستعمال أم لا.
وفي "الحاوي": أنه إذا فرش الثوب المطيب، ونام عليه؛ إن أفضى بجلده إليه افتدى، وإن لم يفض بجلده إليه، وكان بينه وبينه ثوب [آخر] فلا فدية عليه؛ لأنه ليس بلابس ولا متطيب، وإنما هو مجاور للطيب.
والمشهور: الأول. نعم، لو فرش عليه ثوباً ساتراً، وكان صفيقاً يمنع العين والريح- لم يضر، وإن كان خفيفاً لا يمنعهما، فوجود الثوب كعدمه لأن منع العين دون الريح، كره، ولا فدية عليه؛ قاله البندنيجي وغيره.
[الثاني:] إذا مس طيباً، فعبقت به رائحته دون عينه؛ ففي إيجاب الفدية عليه قولان في "المهذب" وغيره، أحدهما: نعم؛ كما لو عبق من غباره شيء يبدنه.
[الثالث:] إذا حمل المسك والعيب في خرقة مشدودة، أو كيس [أو فأرة]
أو [قارورة] مصمتة الرأس، أو الورد فى ظرف - لا تجب عليه الفدية؛ نص عليه في "الأم".
وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنها تجب؛ لاستمتاعه برائحته إذا شمه في خرقة.
وفي غيره [تخصيص هذا الوجه] بما إذا كان يشم ذلك قصداً.
ولو حمل المسك فى فأرة غير مشقوقة، ففى الفدية وجهان:
أصحهما- وبه قال الشيخ أبو حامد، ولم يورد في "المهذب" غيره-: لا.
والأصح عند صاحب "العدة": نعم.
وهما - كما قال القاضي الحسين - فيما إذا لم يقصد حملها للنقل من مكان إلى مكان؛ فلو قصده فلا فدية.
قال: ويحرم عليه شم الأدهان المطيبة، أي: كدهن الورد، والزنبق، والبان المنشوش - وهو المعلى بالمسك ونحوه - بالقياس على المنصوص عليه.
وقد أطلق الإمام الحكاية عن الشافعي رضي الله عنه: أن البان ودهنه ليس بطيب.
وعن يعفى المصنفين أنه يعتبر عادة كل ناحية في طيبها، وقال: إنه فاسد؛ فإنه يشوش القواعد.
وقال الغزالي: إنه غير بعيد.
والأكثرون أطلقوا القول بأنه طيب، والتقييد الذي ذكرناه صرح به المصنف والبغوي والماوردي، وقالوا: غير المغلي بمسك ليس يطيب.
قال الرافعى: ويشبه أن يكون من أطلق القول بأنه ليس بطيب مراده: غير المنشوش، ومن أطلق القول بأنه طيب، أرادت المنشوش.
قلت: لكن كلام القاضي [الحسين ينفي هذا الحمل]؛ فإنه قال: البان يحرم على المحرم استعماله، سواء شمه أو اتخذ منه الدهن واستعمله، أو عصر ماءه واستعمله.
قال: وأكل ما فيه طيب ظاهر؛ لأنه مستعمل للطيب، والظهور يحصل جزماً إذا ظهر في طعمه ولونه وريحه، وكذا لو ظهر في ريحه لا غير بلا خلاف.
ولو لم يظهر فيه إلا اللون فقط، مثل: أن صبغ اللسان إذا استعمل، فقد قال في "المختصر الأوسط" من الحج:"إنه لا يجوز"، [وقال في القديم و"الإملاء" و"الأم":
"يجوز"، واختلف الأصحاب في ذلك على طريقين:
إحداهما- وبها قال أبو إسحاق-: أنه يجوز] قولاً واحداً، وحمل نصه في "المختصر" على ما إذا كانت له رائحة.
والثانية- قالها أبو العباس وأبو الطيب بن سلمة-: إجراء النصين على ظاهرهما، وحكاية قولين في المسألة.
والأصح في "المهذب" و"الحاوي" و"الإبانة": الجواز؛ لأن الطيب بالطعم والرائحة.
ووجهه الماوردي: أن رائحة الطيب لو زالت من الثوب، وبقي لونه - لم تجب الفدية بلبسه؛ فكذلك المطعوم، وهذا يدل على أنه متفق عليه في الثوب.
وقال الغزالي: إنه ينبني على القولين: ما إذا بقي جرم الطيب [على الثوب] دون رائحته إذا لم تفح رائحته إذا أصابه ماء. نعم، لو فاحت فهي غير ذاهبة، بل كامنة.
وإن عليهما ينبني – أيضاً- ما إذا مزج ماء الورد بالماء حتى سقطت رائحته.
ولو لم يظهر إلا الطعم فقط، فقد حكى البندنيجي في التحريم ثلاث طرق:
إحداها: يحرم، وتجب الفدية قولاً واحداً، وهي التي حكاها الماوردي والفوراني وغيرهما.
والثانية: لا يحرم قولاً واحداً.
والثالثة: إجراء القولين فيها.
وقال القاضي الحسين: الخلاف في ظهور الطعم وحده مرتب على الخلاف في ظهور اللون وحده، فإن أوجبنا الفدية بظهور اللون وحده، فبظهور الطعم أولى، وإلا فوجهان، والفرق: أن الطعم يقصد أكثر من اللون، فضاهى الرائحة.
ولو ظهر فيه الطعم واللون دون الرائحة، فقد حكى الإمام عن العراقيين القطع
بالتحريم، [ثم] قال: ليس الأمر كذلك عندنا.
والطعم مع اللون كاللون المجرد.
قال: وشم الرياحين: كالورد، والياسمين، والورس، والزعفران؛ لأنه ترفه لا يليق بالمحرم.
وعن الحناطي حكاية وجه في الورد والياسمين: أنه لا يحرم.
وحكى القاضي الحسين الوجهين في الياسمين كالريحان، وجزم في الورد بالتحريم.
تنبيه: الياسمين: فارسي معرب؛ وسينه مكسورة.
قال ابن الجواليقي: ويقال: الياسمون، وإن شئت أعربته بالياء والواو، وإن شئت جعلت الإعراب في النون؛ لغتان. والياسمين: هو الذي يتخذ منه الزنبق.
واعلم: أن قول الشيخ: "وشم الرياحين" قد يفهم [عدم] تحريم ثم غيرها من المسك، والعنبر، والصندل، ونحو ذلك، وهو حرام بالاتفاق، وهو يؤخذ من كلام الشيخ من طريق الأولى، ولا يلتحق بذلك ثم ماء الورد، بل الحرام منه رشه على بدنه أو ثيابه؛ وكذا لا يحرم شم العود ولا ربطه على طرفه؛ لأنه لا يعد تطيباً، بخلاف شد المسك ونصه وشمه. نعم، المحرم التبخير به، وكذلك بالند والكافور، وهو صمغ شجر؛ كما قاله البندنيجى وغيره.
وما ذكرناه في العود إذا لم يعبق من ريحه شيء، فإن عبق فقد قال الإمام: إنه
على القولين فيما إذا مس طيباً يابساً، فعلق به ريحه، ولم يتعرض غيره لهذا التقييد.
قال: ويجوز له شم النيلوفر والبنفسج؛ لأن القصد بهما التداوي، ولأنه لا يتخذ من يابسهما طيب؛ فأشبها الأترج والسفرجل والنارنج؛ فإن الطرق متفقة على أنه يجوز شمها؛ لأن القصد منها الأكل والتداوي، إلا أن الإمام قال: إن في النفس من الأترج والنارنج شيء؛ فإن قصد الأكل والتداوي ليس بأغلب من قصد التطيب. وألحق التفاح بالسفرجل، وستعرف ما حكاه غيره فيه.
وزهر النارنج وغيره مما ذكرناه ملحق به كما حكاه الماوردي.
ووراء ما ذكره الشيخ في النيلوفر طريقان:
إحداهما - ولم يحك القاضي أبو الطيب غيرها-: أنه لا يجوز، وهي التي صححها النواوي وغيره.
والثانية - وتعزى إلى الشيخ أبي حامد-: إجراء القولين في المسألة، وهي التي أوردها في "المهذب"، وحكى في البنفسج - تبعاً للقاضي أبي الطيب - ثلاث طرق:
إحداها: ما ذكره هنا، وهي التي نص عليها الشافعي رضي الله عنه في عامة كتبه؛ كما قال البندنيجى.
والثانية: [المنع]، وهي التي رجحها المراوزة والنواوي، وقال البندنيجي: إنه الذي يجيء على مذهبه كالورد سواء.
وقوله: "ليس بطيب" عنى به: إذا رُبِّبَ وجعل دواء، فاستهلك فيه.
وقال الغزالي: إن الشافعي رضي الله عنه إنما تردد جوابه فيه؛ لأنه لا يعرف طيباً فى بلاده.
وقال غيره: إنه أراد البنفسج الجاف؛ فإنه بعد الجفاف لا يصلح إلا للتداوي. وقال الفوراني: إن من القائلين بهذه الطريقة من قال: مراد الشافعي – رضي الله عنه بنصه على عدم الفدية: دهن البنفسج؛ لأنه ليس بطيب، نص عليه في مختصر الحج، وقد حكاها الإمام طريقة لبعض العراقيين.
قال البندنيجي: وهذا القائل مخالف لما عليه أكثر الأصحاب، فإنهم قالوا: إذا قلنا: إن البنفسج طيب، فدهنه كذلك. وهو الذي أورده الماوردي وغيره0
وقال في "الوجيز": الخلاف في دهن الورد والبنفسج مع جزمه بأن البنفسج والورد طيب، وهي طريقة حكاها الإمام عن رواية شيخه، ثم قال: ولست أرى لهذا وجهاً، وحكي عنه أنه قطع بأن دهن الورد كالورد.
ثم قال: ولست أرى لهذا وجهاً، فلا فرق بين الدهنين؛ لأن الغالب أنهما لا يستعملان لغرض التطيب.
وعكس الطريقة التي رواها الشيخ أبو محمد ما ذكره الماوردي: أن الأترج ليس بطيب، وفي دهنه وجهان، الذي قطع به منهما الرازي: أنه طيب محرَّم، حكاه عنه في الروضة، وفرق بأن أصله مأكول، وقشره يربى به الدهن كالورد.
ثم المراد بدهن البنفسج والورد: [الشيرج إذا أقام فيه البنفسج والورد]؛ كما حكاه الإمام عن العراقيين، أما إذا طرحا على السمسم حتى أخذ الرائحة، ثم استخرج منه الدهن، فليس بطيب وفاقاً؛ وهذا ما ذكر الرافعي: أن به أجاب المعظم. وهو معزي في "تعليق" القاضي أبي الطيب إلى الشيخ أبي حامد، وقال: إنه غلط، بل لا فرق بين أن يجعل السمسم على الورد، فإذا اكتسب ريحه عصر دهنه، وبين أن يجعل الورد في الدهن.
وكلام البندنيجي يقتضي أن المراد يدهنهما: ما إذا طرحا على السمسم حتى اكتسب ريحهما، ثم عصر؛ فإنه قال: وأصل الأدهان كلها الشيرج، والشيرج من السمسم، يربى السمسم بهذه الأشياء، ويكرر عليه حتى يصير برائحته ثم يعصر منه دهنه، وعلى هذا ينطبق قول الشيخ أبي محمد، ووجهه بأنه أشرف وألطف مما يغلى فيه البنفسج والورد؛ ليشرب السمسم ماءهما وهى الطيبة المقصودة منهما.
تنبيه: النيلوفر: مفتوح النون والسلام، ويقال: نينوفر بنونين مفتوحتين، ذكرهما أبو حفص بن مكي الصقلي، قال: ولا يقال: نينوفر بكسر النون، وجعله من لحن العوام.
قال: وفي الريحان الفارسي قولان:
وجه الجواز - وهو أحد قوليه في القديم-: ما أورده مسلم في كتاب الحج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عرض عليه ريحان، فلا يرده؛ فإنه خفيف المحمل طيب الريح".
وروي أن عثمان سئل عن المحرم يدخل البستان؟ قال: نعم، ويشم الريحان.
ووجه التحريم - وهو المنصوص في الجديد وعاعة كتبه؛ كما قال الفوراني، [وأحد قوليه فى] القديم-: أنه يقصد شمه كالورد والزعفران، وقد صحح النواوي وغيره هذا القول، وجزم به في "الوجيز".
وقال في "الوسيط": إن الشافعي رضي الله عنه إنما تردد نصه فيه؛ لأنه لا يعرف طيباً في بلاده. وفيه نظر؛ لأن البندنيجي حكى عن الشافعي رضي الله عنه أنه اختار هذا القول في القديم، وأنه شنع على من ذهب إلى القول الأول.
والريحان الفارسي هو الضيمران المذكور في باب جامع الأيمان.
والقولان يجريان في مائه، ويجريان أيضاً- كما قال البندنيجي- في الريحان العربي، ويجريان [أيضاً]- كما قال في المهذب - في النرجس والنبق، وكذا في التفاح والمرزنجوش، كما قال البندنيجي؛ تبعًا للشيخ أبي حامد والقاضي الحسين.
والذي أورده الماوردي في الرجس: التحريم.
قال: فإن استعمل شيئاً من ذلك، لزمته الفدية؛ لأنه ارتكب محظوراً ترفه به، ولا فرق فى ذلك بين أن يستعمله وحده، أو فى مأكول، أو سعوط، أو كحل، أو حقنة، نص عليه في "الأم".
وقيل: لا تجب الفدية في السعوط والحقنة.
واحترز الشيخ بقوله: "فإن استعمل" عما إذا جلس عند الكعبة وهي تجمر، أو في بيت وهو يبخر كما نقله الإمام عن الأئمة، أو في حانوت العطار؛ فإن ذلك لا يوجب الفدية. نعم، هل يكره له ذلك؟ قال الأصحاب: أما الجلوس عند، الكعبة فلا يكره وإن قصد ذلك لأجل الطيب، وأما الجلوس عند العطار وعند المتطيب، فقد قال البندنيجي: إنه ينظر: فإن كان لغير شم الطيب، لم يكره [قولاً واحداً، وإن كان لشم الطيب، كره]، وأطلق الرافعي حكاية قولين فيما إذا جلس عند الكعبة، وعند
حانوت العطار، وقال: إن أصحهما الكراهة.
وحكي عن القاضي الحسين: أن الكراهة ثابتة لا محالة، والخلاف في وجوب الفدية.
والذي رأيته في "تعليقه" أنه هل يكره أن يستنشق الروائح الطيبة؟ فيه وجهان.
[وينبغي أن يخرج في وجوب الفدية إذا قصد الاستنشاق وجهان]، كالصائم [ثم] إذا فتح فاه حتى وصل إلى جوفه غبار الطريق وغربلة الدقيق، فإن في حصول الفطر به وجهين.
قال: ويحرم عليه أن يدهن رأسه – أي: إن لم يكن أقرع - ولحيته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحاج أشعث أغبر"، وذلك زينة، وهذا بخلاف غسلهما بالدر والخطمي
وغيرهما حيث يجوز ذلك؛ لأن ذلك لإزالة الأوساخ، والدهان لتنميته وتزيينه في عادة العرب.
قال: فإن فعل [ذلك] لزمته الفدية، لما سبق.
والحكم كما ذكرناه فيما إذا كان محلوق الشعر؛ لأن الدهن يحسن الشعر إذا نبت، كذا حكاه العراقيون.
ونقل الفوراني عن المزني: أنه يجوز، وهو الصحيح؛ إذ لا شعث عله حتى يزول به.
أما إذا كان أصلع، جاز له دهان موضح الصلع من رأسه؛ لأنه ليس فيه تزيين.
وهل يجوز خضاب الشعر بالحناء؟ حكى الفوراني تردد قول الشافعي فيه، فقيل؛ [هو] تردد في أنه هل يلحق به بالترجيل بالدهن أم لما فيه من التزيين؟
وقيل: [هو] تردد في أن الحناء طيب أم لا؟ وهو بعيد.
وقيل: هو تردد في أن الخريطة المحيطة باللحية، هل يحرم اتخاذها أم لا؟ لأن الخضاب يحتاج إليها.
قلت: وهذا يعتضد بما حكاه القاضي الحسين من أن الشافعي رضي الله عنه قال في موضع [آخر]: إذا خضب لحيته، ولف عليها خرقة، فلا فدية عليه.
فرع: إذا كان للمرأة لحية، فدهنتها بدهن غير طيب، قال القاضي الحسين في التعليق: يلزمها الفدية؛ لأن المرأة وإن لم يكن لها جمال في اللحية؛ فالمجيز، ينقص القبح الذى بها بسبب اللحية؛ فالتحقت بالرجل فى ترجيل لحيته بالتدهين.
قال: ويحرم عليه تقليم الأظفار، وحلق الشعر، أي: من نفسه، من غير عذر.
ووجهه في حلق [شعر رأسه] قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، والمراد: شعر رءوسكم؛ لأن الرأس لا تحلق، وإنما يحلق الشعر.
وفي شعر باقى الجسد قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس المحرم من شعره ولا [من] بشره شيئاً؛ كذا قاله الماوردي، وبالقياس على شعر الرأس، بل أولى؛ لأن شعر الرأس يحصل بحلقه الترفه فحسب، وحلق [شعر] البدن يحصل به الترفه والزينة.
وفي تقليم الأظفار قوله عليه السلام: "المحرم أشعث أغبر"، وتقليمها يزيل الشعث، ولأنه قطع جزء من البدن يزيل الشعث ويحدث الترفه؛ فحرم كالشعر.
قال: فإن فعل ذلك، [أي:] ولو في شعر العانة والإبط - لزمته الفدية:
أما في شعر الرأس، فلقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} الآية: [البقرة: 196]، وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ روى البخاري ومسلم وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بكعب بن عجرة زمن الحديبية، فقال:"قد آذاك هوام رأسك؟ " قال: نعم، فقال النبي صلى لاله عليه وسلم:"احلق، ثم اذبح نسكاً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع عن تمر على ستة مساكين".
وفي رواية لأبي داود؛ أن كعب بن عجرة قال: أصابني هوام في رأسي، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، حتى تَخَوَّفْتُ على بصري؛ فأنزل الله عز وجل[فيَّ]:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ} الآية [البقرة: 196]، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي:"احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين فرقاً من زبيب، أو انسك شاة"، فحلقت رأسي، ثم نسكت.
وفي رواية لمسلم: أنه قال: نزلت هذه الآية في خاصة، وهي لكم عامة.
فإذا وجب ذلك مع العذر بالنص؛ فمع عدمه من طريق الأولى.
وأما في باقى شعر الجسد، وتقليم الأظفار؛ فبالقياس على المنصوص عليه للاشتراك في الترفه والتنظيف مع أن ذلك مما ينمي.
واعلم أن النواوي اعترض على الشيخ، فقال: لو قال: ويحرم عليه إزالة الظفر والشعر، لكان أحسن وأعلم؛ فإنه يحرم إزالتهما بالقلم والحلق وغيرهما، يعني من الكسر، والقطع، والتقصير، والنتف والإحراق.
والجواب: أن الشيخ جرى على الغالب؛ فإن العادة فيهما ما ذكره.
وأيضاً: فإن الإزالة قد تحصل من الحك بالأظفار، وليس الحك حتى ينتف الشعر محرماً، بل مكروهاً؛ كما قاله في "المهذب". نعم، لو حكه فانتف الشعر، لزمته الفدية.
ولو شك: هل حصل ذلك بمشط اللحية أو لا؟ ففي وجوبها قولان أو وجهان؛ كما أوردهما الجمهور، وأصحهما: لا.
ولا خلاف أنه لو قطع من جسده عضواً، أو كشط منه جلداً عليه شعر- لا يلزمه الفدية؛ لأن الشعر تابع في الإتلاف، وشبه ذلك بما إذا قتلت زوجته، لا يجب له المهر؛ لما ذكرناه من العلة، بخلاف ما لو أفسد نكاحها برضاع.
أما تقليم أظفار غيره وحلق سعره، هل يحرم؟ ينظر:
فإن كان ذلك الغير حلالاً، لم يحرم؛ قاله في "المختصر"، وجزم به الأصحاب. وإن كان محرماً، أطلق في "الحاوي" القول بالتحريم.
ويظهر أن يقال فيه: إن كان يحرم ذلك على المحرك نفسه، [حرم على غيره من المحرمين أيضاً؛ لأنه يحرم على الحلال، وإلا فإن كان بإذنه لم يحرك؛ [لأنه] كالآلة له،] وإن كام بغير إذنه حرم.
قال: ويحرم [عليه] أن يتزوج، وأن يزوج، أي: بالوكالة، أو الولاية الخاصة والعامة؛ لقوله- عليه السلام:"لا ينكح المحرم ولا ينكح"، وفي رواية:"ولا يخطب"، أخرجه أبو داود ومسلم وغيرهما.
وروى الدارقطني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتزوج المحرم، ولا يزوج".
فإن قيل: قد روى البخاري و [مسلم] عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. وقد أفهم كلام الشافعي –رضي الله عنه جواز ذلك؛ حيث قال
في "الكبير" –كما قال القاضي [الحسين] في باب حد الصبي يبلغ: "على هذا لو أحرمت، فنكحت، فليس للزوج أن يمنعها"، وهذا يدل على ما ذكرناه.
قلنا: أما الحديث، فعنه أجوبة:
أحدها: أن الرواية عنه قد اختلفت، فروي مطر الوراق عن عكرمة عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو
حلال؛ فتعارضت الروايتان، وسقطتا.
الثاني: أن معني قوله: "وهو محرم" أراد: وهو في الشهر الحرام، أو في الحرم؛ كما يقال:"متهم"، و"منجد" لمن دخل تهامة ونجد.
الثالث: أنه كان يرى أن من قلد هديه، وأشعر، [صار] محرماً؛ فيحتمل أن يكون قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قلد هديه بالمدينة، وعقد على ميمونة في تلك الحالة، فسماه: محرماً؛ بتقليد الهدي.
الرابع –قاله أبو الطيب بن سلمة-: أن ذلك من خصائصه، عليه السلام.
الخامس: أن سعيد بن المسيب قال: إن ابن عباس وهم في ذلك، ويؤيده أن هذه القصة كانت في سنة ست من الهجرة؛ وكان ابن عباس إذ ذاك ابن ست سنين، وقد روي مسلم وغيره عن ميمونة أنها قالت:"تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالٌ بسرف".
وقال أبو عمرو النمري: إن الرواية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال"، متواترة عن ميمونة، وعن أبي رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن سليمان ابن يسار مولاها، وعن غيرهم، وما أعلم [أن] أحداً من الصحابة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم إلا عبد الله بن عباس، فإن لم تترجح رواية
الجماعة على روايته فقد عارضتها، ويعمل بالحديث الأول.
وأما ما قاله الشافعي، فإن ما ذكره تفريعا على مذهب أبس حنيفة؛ لأنه يجوز نكاح المحرم والمحرمة؛ كذا حكاه القاضي الحسين عن الأصحاب.
قال: فإن فعل ذلك، فالعقد باطل؛ لأن النهي يقتضي التحريم والفساد، وهو إجماع الصحابة، روى أبو غطفان بن طريف المزني عن أبيه: أنه تزوج وهو محرم؛ ففرق عمر بينهما.
وروي أن عليا قال: "من تزود وهو محرم، نزعناها منه، وفرقنا بينهما"، وروي نحو ذلك عن ابن عباس وابن عمر، ولم ينكر ذلك أحد.
ولأنه نكاح لا يستعقبه استباحة وطء ولا قبلة –فكان باطلاً؛ كنكاح المعتدة.
قال القاضي أبو الطيب: ولا يلزم عليه إذا كانت المنكوحة صائمة؛ لأن تقبيلها جائز لزوجها إذا كانت القبلة لا تحرك شهوته، ولا يرد عليه إذا نكحها وهي تصلي؛ لأنه يجوز أن يقبلها من وراء حائل.
ولأنه عقد يمنع الإحرام من مقصودة؛ فلم يصح كشراء الصيد.
وهكذا الحكم [فيما لو قبل للمحرم النكاح حلال] بوكالة تقدمت الإحرام؛ لوجود معنى النهي فيه؛ قاله القاضي [الحسين] وغيره.
ولا يجب عليه في كل من الحالين فدية؛ لعدم حصول المقصود، وهو الانعقاد، بخلاف غيره من المحرمات في الإحرام.
وقد حكى في "المهذب" وغيره في أن التزويج بالولاية العامة- وهي الإمامة والقضاء- هل يحرم، ولا يصح، كالخاصة أو لا؟ وجهين:
المختار منهما في "المرشد": الجواز، وفرق بأن الولاية العامة آكد؛ بديل أنها تسلط على تزويج الكافرة، بخلاف الولاية الخاصة.
وحكى القاضي أبو الطيب والحسين والماوردي طريقة قاطعة بمنع الحاكم من التزويج، بخلاف الإمام.
وفرق بعضهم: بأنا لو منعنا الإمام في حال إحرامه، لوجب أن يمتنع خلفاؤه من التزويج؛ فيؤدي ذلك إلى أن يمتنع حكام الأرض من التزويج؛ [فيعلم الضرر بخلاف الحاكم].
ثم قال القاضي الحسين: إلا أن هذا لا يصح؛ لأن الإمام] إذا امتنع، لم يجب أن يمتنع خلفاؤه؛ لأنهم ليسوا منصوبين من جهته، وإنما نصبوا لمصالح المسلمين؛ ألا تري أنه لو مات أو عزل، لم ينعزل الحكام؟!
هذا حكم نكاح المحرم وإنكاحه، وأما ارتجاعه، ففيه وجهان:
المذكور منهما في "المهذب"، و"تعليق" أبي الطيب، و"الشامل"، و"الحاوي"، و"الإبانة"، والمحكي عن النص: الجواز.
والمنصوب منهما إلى أبي إسحاق، وهو ظاهر المذهب في "تعليق" القاضي الحسين: المنع.
وهما ينبنيان على أن الرجعة بمنزل الاستدامة أو الابتداء؟
وقضية ذلك: أن يجوز له إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة وأحرام أن يختار أربعاً منهن جزماً؛ لأن ذلك استدامة، وهو ظاهر ما ذكر في الكتب؛ كما حكاه المتولي في نكاح المشركات.
وعن القفال: أنه قال بالتحريم، وهو ما ادعى في كتاب الحج: أنه ظاهر المذهب، ومحله إذا لم تسلم النسوة، أما إذا أسلمن -أيضاً- قبل إحرامه، ثم أحرم، فالذي حماه في كتاب النكاح عن الشافعي -رضى الله عنه-: أن له أن يختار أربعا منهن.
وفيه وجه آخر على قياس من قال: إن الرجعة في الإحرام لا تصح.
فروع:
[أخدهم] إذا وكل في قبول النكاح، ثم أحرم، فهل يصح من الوكيل أن يقبل له
النكاح بعد تحلله؟ فيه وجهان ينبنيان- كما قال القاضي الحسين- على ما إذا أحرم الولي، هل تنتقل الولاية [عن وليته] إلى السلطان، أو إلى من دونه من الأولياء؟
وفيه وجهان محكيان –أيضاً- فيما لو وكل المحرم حلالاً في قبول النكاح، وقبله له بعد تحلله، هل يصح؟
قال القاضي الحسين: وأظهرهما، وهو طريق المراوزة - كما قال أيضاً-: لا، إلا بتجديد وكالة بعد التحلل؛ لأنه لم يكن أهلا للوكالة حالة ما وكل؛ فلم يصح توكيله.
والثاني- وهو طريقة بعض العراقيين-: أنه يصح، وهي التي حكاها القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والبندنيجي، وفي "الحاوي" و"البحر" نسيته إلى النص في "الأم" ووجه بأن الإذن يصح ممن هو ممنوع من توليته بنفسه لعارض؛ ألا ترى أنه يصح توكيله في بيع شيء يجهله؟!
والمحرمة إذا أذنت في النكاح، [هل يجوز] لوليها التزويج بعد تحللها؟ قال القاضي الحسين في "تعليقه": سألته مرارا فقال: ينبغي أن يخرج على الوجهين، ثم قال: والأظهر عندي الجواز؛ لأن المقصود منه رضاها بالعقد عليها والرضا صحيح به، وإن كان لا يعقد في الحال؛ كما لو رضيت أن يزوجها من فلان إذا قدم، بخلاف الرجل يوكل في العقد وهو حرام؛ لأنه يليه من جهته؛ فلم يصح إلا في حال هو من أهل الولاية والمباشرة بنفسه.
[الفرع الثاني] إذا أذن المحرم لعبده في التزويج، رجلاً كان المولي أو امرأة- فالمحكي عن أبي الحسين بن القطان: أن الإذن باطل.
وقال ابن النرزبان: عندي في هاتين المسألتين نظر؛ كذا حكاه القاضي أبو الطيب.
حكى ابن القطان: أن إسماعيل الفقيه قال في كتاب "المستعمل": إذا وكل المحرم رجلاً في أن يزوجه إذا حل من إحرامه –صح، ولو وكل رجلاً رجلاً في أن يزوجه إذا طلق إحدى أربع نسوة عنده أو إذا طلق فلان زوجته أن يزوجه – لم يصح التوكيل.
والفرق: أن مدة الإحرام معلومة، وغايته معروفة؛ فلذلك صح توكيله، ومدة الطلاق غير معلومة؛ فإنه لا غاية لها تعرف؛ فلذلك لم يصح التوكيل.
قال ابن القطان: ولا فرق عندي؛ فإما أن يصح التوكيل في الجميع، أو لا يصح.
قال: ويكره له الخطبة والشهادة على النكاح:
أما الخطبة؛ فلأنها سعى في المحرم، وقد جاء في بعض الروايات- كما تقدم-:"ولا يخطب".
وكما يكره أن يخطب امرأة حلالاً وهو محرم، يكره أن يخطب المحرمة حلال؛ قال أبو الطيب وغيره، ولا تحرم؛ بخلاف خطبه المعتدة؛ حيث حرمت؛ لأنها ربما كذبت في انقضاء عدتها؛ فإن لا يطلع على انقضائها إلا منها، بخلاف زوال الإحرام؛ فإنه أمر مشاهد مضبوط؛ فلا تتعجله.
وأما في الشهادة؛ فلما روي أنه –عليه السلام قال: "ولا يخطب ولا يشهد".
وقد حكى عن الإصطخري أنه قال بالتحريم وعدم الانعقاد؛ لهذا الخبر.
ولأن بها يتم عقد النكاح؛ فكان الشاهد كالقابل أو الموجب.
والمذهب المنصوص عليه في "الأم": الصحة.
وما ذكره الإصطخري من الاستدلال بالخبر يلزمه عليه أن يقول بتحريم الخطبة، وقد ادعى القاضي الحسين أنه لا خلاف في المذهب فيها، على أن معني الخبر –كما قال القاضي أبو حامد-: أن من عقد من المحرمين النكاح، فلا يجوز له أن يتحمل تلك الشهادة ويؤديها؛ لأن العقد باطل.
وقال غيره من أصحابنا: معناه: أن المحرم لا يجوز له أن يشهد عقد النكاح على المحرمين، ولا أن يحضره؛ لكونه محرماً باطلاً.
وإذا احتمل الخبر ما ذكرناه، فلا حجة له فيه.
والفرق بين الشاهد وأحد العاقدين: أنه غير متعين، بخلاف الولي والزوج، ولأنه [لا] فعل له في العقد؛ فكان كالخاطب.
لكن للإصطخري أن يمنع كون الخطبة [غير] محرمة؛ فإن في "البحر" حكاية وجه عن رواية صاحب "التقريب": أنها حرام، حتى لو خطب المحرم امرأة حلالاً، فرضت به، يجوز لحلال آخر خطبتها؛ لأن الخطبة الأولى لم تقع الموقع؛ للخبر. والله أعلم.
قال: ويحرم عليه الجماع في الفرج؛ لقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، والرفث: الجماع –قاله ابن عباس- وقوله- عليه السلام "إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء إلا النساء".
والمراد بالفرج: القبل، والدبر.
قال: والمباشرة فيما دون الفرج بشهوة، والاستمناء؛ لأنه إذا حرمت دواعي الوطء: كالنكاح والطيب، فلأن تحرم هذه الأشياء أولى.
وأيضاً: فإن ذلك يحرم على المعتكف فعله، ومعلوم أن الإحرام آكد منه.
قال: فإن فعل ذلك، لزمته الكفارة؛ لأنه استمتع بما هو محظور في الإحرام؛ فكان كالحلق.
ولا فرق في وجوبها حالة المباشرة فيما دون الفرج بشهوة، بين أن يتصل بها الإنزال أو لا. نعم، يشترط في وجوبها بسبب الاستمناء: الإنزال؛ صرح به الماوردي حيث قال: إذا أولج المحرم ذكره في فرج خنثى مشكل إن أنزل، فعليه أن يفتدي؛ لاستمتاعه بالإنزال؛ كالمحرم إذا استمنى بيده، و [إن] لم ينزل، فلا فدية عليه ولا غسل؛ لأن المحرم إذا باشر رجلاً لم يفتد. وإذا أولج في غير فرج، لم يغتسل.
وفي "النهاية" حكاية وجه آخر: أنه لا كفارة في الاستمناء أصلا؛ حكاه عن العراقيين، ونسبه في "البحر" إلى بعض الخراسانيين؛ موجها له بأنه لم يشاركه في هذا الاستمتاع غيره؛ فأشبه الإنزال بالنظر.
وقد يؤخذ هذا الوجه من كلام الشيخ حيث تعرض في باب كفارة الإحرام للواجب في المباشرة فيما دون الفرج وغيرها وصفته وسكت عن الاستمناء، والمشهور: الأول، نعم، اشتهر خلاف الأصحاب في أنه إذا باشر فيما دون الفرج بشهوة، ثم جامع، هل يدخل [واجب الاستمتاع في الفدية]، أو يجبان جميعا؟
وسيأتي في الباب الثاني ما الواجب في هذه الأشياء، إن شاء الله تعالى.
قال: ويحرم عليه الصيد المأكول، أي: يحرم عليه اصطياد الصيد المأكول من حيوانات البر؛ لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96].
قال: وما تولد من مأكول وغير مأكول؛ تغليبا للتحريم، فلو خالف وفعل [لم] يملكه، ووجب عليه إرساله على المشهور، وسنذكر من بعد ما قيل فيه.
وإذا عرفت أن الاصطياد حرام، عرفت أن قتله وجرحه وقطع جزء منه كذلك؛ لأن الشيء إذا حرم، حرم ما يفضي إليه، والاصطياد لا يحصل بدون ذلك غالبا.
وأخذ بيضة –أيضاً- حرام؛ وكذا ذبح الحيوان المأكول المتولد بين إنسي ووحشي، كالمتولد بين [ذكر] اليعفور –وهو ذكر الحجل – والدجاجة، أو الظبي والشاة؛ تغليبا للتحريم، وإذا فعله وجب عليه الجزاء.
قال: فإن مات في يده، أو أتلفه، أو أتلف جزءا منه، لزمه الجزاء:
أما إذا أتلفه عمدا؛ فلقوله –تعالى-: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
وأما إذا قتله خطأ؛ فلقوله –عليه السلام: "في الضبع كبش إذا أصابها المحرم"، ولم يفصل؛ فكان على عمومه.
ولأنها كفارة تجب بالقتل، فاستوى فيها حكم العمد والخطأ؛ ككفارة قتل الآدمي.
ولأن ذلك مستفيض عند الصحابة، ولم ينكره أحد؛ فكان كالإجماع.
وتقييد الآية بالعمد؛ لتضمنها الوعيد بالعقاب، لا لنفي الحكم عن المنعطئ وسيأتي الكلام فيه.
وأما في الباقي فبالقياس؛ لأنه مال ضمن لحق الغير في حال العمد والخطأ فضمن في بقية الأحوال المذكورة؛ [كمال الآدمي].
وقد حكى الماوردي في كتاب الأطعمة: أن ابن القاص قال: لا يجب الجزاء في المتولد [من مأكول وغير مأكول]، وأنه وهم منه.
ولا فرق فيما ذكره الشيخ بين أن يكون الصيد غير مملوك، أو مملوك قد تأنس، أو هو باق على توحشه. نعم، يجب في المملوك مع الجزاء قيمته لمالكه، خلافا للمزني، فإنه قال: لا يلزمه الجزاء في المملوك.
وكذا لا فرق بين أن يحصل التلف بمباشرته كالرمي، أو بسبب من جهته كنصب شبكة في ملكه أو ملك غيره، أو إرسال كلب معلم أو حله وقد رأي الصيد، أو انحلال رباطه بنوع تقصير في ربطه، أو تنفير الصيد حتى يطير قبل سكون نفاره وهلك، أو أخذه سبع، أو انصدم بشجر أو جبل.
نعم، لو أرسل عليه سهما وهو حلال، ثم أحرم، [ثم أصابه] السهم –فهل يلزمه الجزاء؟ فيه وجهان يأتي مثلهما في الجنايات، والأظهر في "تعليق" القاضي
الحسين: اللزوم، وكذلك في "البحر"، وقال: إنهما يجريان فيما لو أرسل السهم وهو محرم، ثم تحلل قبل الإصابة: هل يلزمه الجزاء أم لا؟
ولو نفر الكلب، فهلك [الصيد] قبل سكون النفار بآفة سماوية، ففي الضمان وجهان.
ولو حفر المحرم بئراً في ملكه، لم يضمن ما تردى فيه على المذهب.
وفيه وجه نقله صاحب "التتمة": أنه يجب كما [لو حفره [في غير ملكه]، و [هو] في "تعليق" القاضي أبي الطيب عند الكلام فيما] إذا دل المحرم على الصيد معزياً إلى ابن القاض، وقال: إنه يحتمل ألا يضمن، وجعل حكمه فيما إذا حفر بئرا [في ملكه في الحرم كما إذا حفرها في ملكه في الحل، والمشهور فيما إذا حفرها] في ملكه في الحل: عدم الضمان، وبه جزم الجمهور، وحكوا الخلاف فيما إذا حفره في ملكه في الحرم، والأشبه والأصح في "تعليق" القاضي الحسين: الوجوب، ويحكى عن الربيع وصاحب "التخليص"، ولم يحك في "التتمة" و"الإبانة" غيره.
والفرق: أن الحرم ليس موضع اصطياد أصلا، والحل في الجملة محل الاصطياد، لكن كلام صاحب "التهذيب"[يشير إلى] ترجيح المنع.
ولو أرسل الكلب، أو قصر في رباطه حيث لا صيد، فعرض صيد- ففي الضمان وجهان: أظهرهما: أنه لا ضمان، ورأي الإمام أن الضمان أرجح؛ لحصول التلف بسبب فعله، وجهله لا يقدح فيه، كما في حفر البئر.
وما ذكرناه هو المشهور، وقد أشار القاضي الحسين في تعليقه إلى خلاف في نصب الشبكة في الحل بقوله:"والأظهر أنه يلزمه الضمان" بعد قوله: "ولا خلاف أنه لو نصبها في الحرم ضمن".
وحكى الإمام ترددا فيما إذا قصر في ربط الكلب، فانحل، وقتل الصيد، وجزم الماوردي فيها بعدم الضمان، وقال هو والقاضي أبو الطيب، فيما إذا كان الكلب المرسل على الصيد غير معلم: إذا قتله لا ضمان؛ لأنه لا ينسب فعله إلى مرسله. وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين، وعزاه إلى نصه في الإملاء، كما إذا أرسل الكلب المعلم على آدمي فقتله؛ فإنه لا ضمان عليه؛ لأن الكلب لا يعلم على الآدمي.
نعم، لو علم عليه، أو كان ضارياً –ضمنه.
تنبيه: قد يؤخذ من قول الشيخ: "فإن مات في يده .... " إلى لآخره – أنه يختار الضمان في مسألتين:
إحداهما: إذا خلص المحرم صيداً من جارج أو داوى جرحه فمات في يده؛ كما هو أحد القولين.
لكن الصحيح، والذى نص عليه الشافعي –رضي الله عنه: عدم الضمان، والأول أخذ من احتمال أبداه الشافعي.
الثانية: أن المحرم إذا استودع صيدا لحلال، فتلف في يده – [ضمنه]، وهو ما حكاه القاضي الحسين، وقال: إنه لو كان مملوكا وجب معه قيمته لمالكه. وفيه نظر؛ لما ستعرفه من النص فيما إذا وهب من محرم صيدا وتلف في يده، أو أرسله.
وقد وافق القاضي في ضمان الوديعة بالجزاء الرافعي هنا، وكذا فيما إذا استعاره، لكن [حكى] في "الروضة": أن صاحب "البيان" حكى في كتاب العارية عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: لا جزاء في العارية؛ لأنه لم يمسكه لنفسه، ومن طريق الأول المودع.
وقد يقال: إنه ليس في كلام الشيخ تعرض لهاتين المسألتين؛ فإنه قال أولا: "ويحرم عليه الصيد"، ثم قال:"فإن مات في يده"، أي: بعد أن اصطاده؛ كما جاء مثل ذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]، والتقدير: فحلق، ففدية، وغيرها من الآيات، وإذا كان كذلك ثبت ما قلناه.
فرع: إذا قتل الصبي أو المجنون صيدا وهو محرم، فهل يجب عليه الجزاء؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره في المغمى عليه أيضاً.
ومنهم من أثبت الخلاف قولين؛ كما سنذكره.
أما صيد البحر، فحله ثابت بقوله تعالي:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96].
وهو –كما قال الأصحاب-: الذي لا يعيش إلا في البحر، وأما ما يعيش في البر والبحر فهو كالبري، والطيور المائية التي تغوص في الماء وتخرج، من صيد البر؛ لأنها لو تركت في الماء لهلكت.
ومنها –كما قال البندنيجي وأبو الطيب-: البط والإوز.
وقال في "الحاوي": إن البط –وهو الذي لا يطير- من الإوز، إذا قتله المحرم لا جزاء عليه؛ لأنه ليس بصيد، وحكى وجهين في الحمام الأهلي الذي يسمى: الراعي، وهو ما يكون في المنازل، ولا ينهض طائرا:
أحدهما: أنه من جملة الحمام؛ لانطلاق الاسم عليه؛ فيجب فيه الجزاء.
والثاني –وبه قال ابن أبي هريرة-: أنه لا جزاء فيه؛ لأنه ليس بصيد، إنما هو أنيس؛ فكان كالدجاج، ومراده: الدجاج البلدي، وإلا فدجاج الحبشة من صيد البر، ويجب فيه الجزاء؛ صرح به عن النص القاضي أبو الطيب وغيره؛ لأنه وحشي يمتنع بالطيران وإن [كان ربما ألف] البيوت، وهي [شبه الدُّرَّاج]، ويسمى بالعراق: الدجاج السندية.
والجراد من صيد البر، يجب الجزاء بقتله.
وحكى الموفق بن طاهر وغيره قولاً غريباً: أنه من صيد البحر؛ لأنه يتولد من روث السمك.
قلت: ويعضده ما روي عن أبي هريرة أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلنا ضرب من الجراد، وكان بعضنا يضربه بالسوط، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "هو من صيد
البحر"، لكن المشهور: الأول.
واختلف الأصحاب لم عده –عليه السلام من صيد البحر؟
فقيل: لأنه يؤكل ميتاً؛ كالسمك.
وقيل: لأن الغالب: أنه في السواحل.
وقال كعب: إنه خرء السمك يلفظه البحر إلى الساحل، فخلقه الله تعالى منه.
والحيوان المتولد من غير مأكول لا غير، لا يحرم عليه صيده وإذا مات في يده أو أتلفه لا ضمان عليه.
نعم، في هذا الصنف ما يستحب للمحرم وغيره قتله وهي المؤذيات بطبعها، نحو الفواسق الخمس، روي أنه –عليه السلام قال:"خمس فواسق يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور".
وروي أنه –عليه السلام قال: "خمس من الفواسق ليس على المحرك في قتلهن جناح .... " فذكرهن، وفي معناها: الحية، والذئب، والأسد، والنمر، والدب، والنسر، والعقاب، والبق، والبرغوث، والزنبور.
ولو ظهر القمل على بدن المحرم أو ثيابه، لم يكره له تنحيته، ولو قتله لم يلزمه شيء ولو فلى لحيته ورأسه، وارتكب هذا المكروه، فأخرج منها قملة فقتلها –تصدق ولو بلقمة؛ نص عليه، وهو عند الأكثرين محمول على الاستحباب، ومنهم من قال: إنه يجب ذلك؛ لما فيه من إزالة الأذى عن الرأس.
ولا خلاف أنه لو أخرجها من جسده وقتلها، لا يجب عليه سيء، قاله القاضي الحسين، وقال: إن الوجهين السابقين يجريان فيما إذا قتل القمل في رأسه بالزئبق؟ ونحوه.
ومنه ما لا يستحب له ولا لغيره قتله، وهي الحيوانات التي فيها منفعة ومضرة: كالفهد، والصقر، والبازي؛ لما يتوقع من المنفعة، ولا يكره لما يخاف من المضرة.
ومنه ما يكره له ولغيره قتله، وهو ما لا يظهر فيه منفعة ولا مضرة: كالخنافس، والجعلان، والسرطان، والرخمة، والكلب الذي ليس بعقور.
ومنه ما لا يجوز قتله، وهو النحل، والنمل، والخطاف، والضفدع؛ لورود النهي عن قتلها.
وفي وجوب الجزاء بقتل الهدهد والصرد خلاف مبني على الخلاف في جواز أكلهما.
والمذكور في تعليق القاضي الحسين: التحريم.
قال: -ويحرم عليه لحم ما صيد له؛ لما روى جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " [صيد] البر حلال لكم [وأنتم حرم] ما لم تصيدوه أو يصد لكم".
قال الترمذي: وهذا أحسن حديث.
قال: أو أعان على ذبحه أو كان له أثر في ذبحه؛ لما روى أبو داود عن أبي قتادة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة، تخلف مع أصحاب له محرمين، وهو غير محرم، فرأى حماراً وحشياً؛ فاستوى على فرسه، قال: فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا، فسألهم رمحه فأبوا، فأخذه، ثم شد على الحمار، فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بعضهم، فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك؟ فقال:"إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالي"، وأخرجه البخاري ومسلم بمعناه، وفي روايتهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "منكم أحد أمره أو أشار إليه؟ " قالوا: لا، قال:"فكلوا ما بقي من لحمه"، ووقع فيهما: أنه صلى الله عليه وسلم أكل منه.
فلو خالف المحرم، وأكل مما حرم عليه أكله بسبب مما ذكرناه، فهل يلزمه شيء؟ فيه قولان:
أحدهما- وهو القديم، والمختار في "المرشد"-: نعم؛ لأن الأكل فعل محرم في
الصيد؛ فتعلق به الجزاء، كالقتل، ويخالف ما لو ذبحه، وأكله؛ حيث لا يلزمه في الأكل شيء؛ لأن وجوب الجزاء بالذبح أغنى عن جزاء آخر؛ فعلى هذا ماذا يلزمه؟ فيه ثلاثة أوجه ذكرها الماوردي:
أحدهما: مثل ما أكله من لحم النعم يتصدق به على مساكين الحرم.
والثاني: [يجب] من مثله من النعم بقدر ما أكل من لحمه؛ فإن كان قد أكل عشر لحمه، لزمه عشر مثله.
والثالث: قيمة ما أكله دراهم يتصدق بها إن شاء، ويصرفها في طعام يتصدق به إن شاء.
والقول الجديد –وهو الصحيح في "الحاوي" و"التهذيب" وغيرهما-: لا لأنه ليس بنام بعد الذبح ولا يئول إلى النماء؛ فلا يتعلق بإتلافه الجزاء؛ كما لو أتلف بيضة مذرة.
وقد أغرب في "الوجيز"؛ فحكي القولين فيما إذا دل المحرم حلالاً على صيد –في أنه هل يحرم عليه الأكل منه، أم لا مع الجزم بعصيانه؟
قال الرافعي: ولم نر هذا الخلاف لغيره، بل جزموا بحرمة الأكل على المحرم مما صيد له، أو بإعانته بسلاح وغيره، أو بدلالته أو إشارته؛ فالوجه: أن تغير هذه اللفظة، ويجوز أن يجعل مكانها:[وفي] وجوب الجزاء عليه عند الأكل قولان؛ لأنهما مشهوران في هذه الصورة، لكنه قد ذكر هذه المسألة من بعد، وتبديل اللفظ بها يفضي إلى التكرار.
قال: فإن ذبح الصيد، حرم عليه أكله؛ لأنه إذا حرم عليه [أكل ما] أعان على ذبحه، كان تحريم ما ذبحه أولى.
قال: وهل يحرم على غيره، أي: من المحلين والمحرمين؛ كما قاله في البحر –فيه قولان.
[ووجه الحل] –وهو القديم-: أنه من أهل الذكاة في غير الصيد؛ فوجب أن
يكون من أهلها في الصيد: كالحلال طرداً، والمجوسي عكسا.
قال في "البحر": قال أصحابنا: وهذا القول القديم أصح في هذه المسألة.
وقال القاضي أبو الطيب: إن أكثر الأصحاب قالوا ذلك؛ وعلى هذا هل يحرم على الذابح على التأبيد أو مدة إحرامه؟ فيه وجهان:
أظهرهما- وهو المشهور؛ كما قال الفوراني-: الأول.
ومقابلة: منسوب في "تعليق" القاضي الحسين إلى رواية الأستاذ أبي طاهر الزيادي.
ووجه التحريم- وهو الجديد والأصح-: أنها ذكاة ممنوع منها؛ لحق الله تعالى؛ [لمعنى في] الذابح؛ فوجب ألا تقع بها الإباحة كذكاة المجوسي.
قال القاضي الحسين: ولا تأثير لقولنا: ممنوع منها؛ لأن الخلاف في المحرم المضطر وغير المضطر واحد، والمحرم المضطر غير ممنوع من الذبح، لكن نقول: الحلال إذا جرح صيداً، استفاد به شيئين: الملك، وتحليل الأكل، ثم المحرم لا يستفيد بجرحه الملك؛ فكذلك الحل.
وقد عكس النجنيجي ما ذكرناه، فقال: إن القول الجديد: [أنه] لا يحرم على غيره أكله، والقديم: التحريم. والصحيح الأول.
والقولان في الكتاب يجريان –كما حكاه في "الشامل" عن بعض الأصحاب، وهو المذكور في "تعليق" البندنيجي –في حل بيض الصيد إذا كسره المحرم، والجراد إذا قتله.
وحكى في "المهذب" عن شيخه القاضي أبي الطيب: أنه قال: [فيه] نظر؛ من حيث إن البيض لا روح فيه، والجراد يحل ميتا؛ ولأجل ذلك قال ابن الصباغ: إن القول بإجراء القولين في هاتين الصورتين غير صحيح؛ فإن المجوسي لو قتل جرادة، أو كسر بيضة، كانت على حكم الإباحة، بخلاف الصيد.
وفي "الحاوي": أن البيض إذا كسره محرم، لم يحل له ولا لغيره من المحرمين، ويحل للمحلين.
وجهل بعض متأخري أصحابنا؛ فخرج جواز أكل الحلال له على قولين؛ كالصيد، وهو قبيح.
قلت: وتحريمه على غير الكاسر من المجرمين فيه نظر؛ لأنه خرج بالكسر عن أن يكون ناميا؛ فيشبه الصيد إذا ذبحه محرم.
والقولان في حله للحلال جاريان في حلة للمحرم إذا لم يصد له، ولا أعان عليه، ونحو ذلك.
وقد يقال: إن جريان القول بالتحريم على الحلال هاهنا قبيح، فليكن تحريم البيض على غير الكاسر من المحرمين كذلك.
ويجري القولان -أيضاً- فيما إذا ذبح الصيد في الحرم، أو كسر البيض، وقيل:[هو ميته قطعاً]؛ لأنه المانع في نفس البيض والذبيح، ولأن المحرم قد يستبيح مثل الصيد وأكل البيض بعد إحلاله، والحرم لا يستباح قتل صيده وكسر بيضة بحال؛ وهذا ما ادعى البندنيجي: أنه المذهب.
وقد قيل: إن الشافعي نص في "الإملاء" على هذا الفرق، قال في "البحر": وهو بعيد؛ لأن هذا الصيد في حق المحرم كصيد الحرم في حق الكافة.
وإذا قلنا بهذه الطريقة، قال الماوردي: فلو أن محرما قتل صيدا في الحرم، فقد اختلف أصحابنا: هل يغلب حكم الحرم، أو حكم الإحرام؟ على وجهين.
قال: لا يملك الصيد بالبيع والهبة؛ لأن سبب يملك به عين الصيد؛ فكان المحرم ممنوعا من التملك به؛ وما ذكره الشيخ هو الذي نص عليه الشافعي، رضي الله عنه.
وقال في "المهذب": إن الإقدام على الابتياع، والأنهاب حرام؛ لرواية ابن عباس: أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار وحش، فرده عليه؛ فلما رأى ما
في وجهه، قال:"إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم"، وقد أخرجه مسلم والبخاري أيضاً.
وفي طريقة المراوزة حكاية قول آخر- قال الإمام: إنه منصوص عليه أيضاً-: أنه يملك بذلك، وشبهوا ذلك بشراء الكافر العبد المسلم.
وفي "الشامل" حكاية عن الشيخ أبي حامد أنه قال: من أصحابنا من تعلق بقول الشافعي فيما إذا وهب له وقبضة: "إن عليه إرساله"، وقال: قد ملكه بالهبة؛ ولهذا أمره بإرساله.
وقد ذكر القاضي الحسين أن من الأصحاب من ذكر خلافا في أن المحرم هل يملك الصيد بالاصطياد أم لا؟ ومنهم من جعله مرتبا على الخلاف فيما إذا أحرم وفي ملكه صيد، هل يزول ملكه عنه أم لا؟ فإن قلنا ثم بالزوال، لم يملكه بالاصطياد، وإلا فوجهان، والفرق: أن هذا ابتداء، وذلك استدامة؛ فأشبه النكاح.
وقال: إنا إذا قلنا: لا يملكه، وجب الإرسال، فإن لم يرسله حتى تحلل ملكة، ولا
يجب عليه إرساله. وإن قلنا: يملكه، وجب الإرسال أيضاً، فإن لم يرسله حتى تحلل، هل يجب [عليه] الإرسال؟ فيه وجهان، فإن قلنا بوجوبه كان له أن يأخذه في الحال.
ثم على القول الصحيح [في] أنه لا يملك الصيد بالبيع والهبة، فرعان: أحدهما: كما يمنع من شرائه يمنع من بيعه أيضاً.
قال الإمام: وليس هذا كتصرف الكافر في العبد المسلم؛ فإنا وإن منعناه من شرائه، لا نمنعه من بيعه من مسلم، والسبب فيه: أن بيعه من مسلم يزيل مادة الاعتراض، وإذا امتنع عن بيع عبده الذي أسلم في يده، فإنا نبيعه عليه من مسلم، فإن فعل ما نفعله نفذ، والمقصود في الصيد الإرسال ورفع اليد عنه، والمحرم ببيعه يورطه في التقييد والضبط؛ فكان البيع في معنى الشراء، وهذا مفرع -كما قال أيضاً- على أن الإحرام لا ينافي الملك، يعنى: فلا يزول بالإحرام.
وفي "الحاوي" و"تعليق" اليندنيجي و"البحر" و"الرافعي": أنا إذا قلنا: لا يزول ملك المحرم عن الصيد بالإحرام، كان حكمه حكم سائر أملاكه إلا في شيء واحد، وهو أنه لا يجوز له ذبحه، وما سوى ذلك من بيعه وهبته، فجائز له، وهذا مخالف لما ذكره الإمام.
الثاني: إذا قبل البيع والهبة، وقبضه، فعليه رده إلى صاحبه وما حكى عن نص الشافعي رضي الله عنه فيما إذا وهب له أن يرسله- فقد قال الشيخ أبو حامد والقاضي الحسين وغيرهما: مراده: الإرسال إلى يد صاحبه؛ لأنه باق على ملكه.
ثم قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل أن يحمل كلام الشافعي رضي الله عنه على ظاهره؛ لأن البيع والهبة لا يزيلان عنه ضمان الكفارة برده إلى صاحبه؛ فإنه لو مات في يده كان عليه الجزاء؛ كما لو كان هو الصائد ووهبه من غيره، وما ذكره من عدم براءته من الضمان برده إلى صاحبه، هو المذكور في "الحاوي"، و"التهذيب"،
و"التتمة"، و"تعليق" القاضي الحسين، وقالوا: إنما يبرأ إذا أرسله، فتوحش.
لكن البندنيجي قال: إنه إذا رده إلى صاحبه؛ زال عنه الضمانات معا، يعنى: ضمان قيمته لمالكه، وضمان الجزاء.
ثم قال الشيخ أبو حامد –سؤالاً على الاحتمال الذي أبداه-: فإن قيل: ملك صاحبه باق عليه، فكيف يجب إرساله ليتوحش؟
فجوابه: أنه أسقط حقه؛ لأنه كان سببا لثبوت يد المحرم عليه، وإيجاب إرساله عليه يحصل له بدله.
ولو لم يرده [لصاحبه] حتى مات في يده، وقد قبضه على حكم البيع والهبة- لزمه الجزاء، وضمنه لمالكه بالقيمة في البيع دون الهبة؛ لأنه لم يدفعه إليه على أن يستحق لأجله عوضا؛ كذا قاله الشافعي نصا في الهبة، وهو مبني على أصح الوجهين في "الروضة" في أن الهبة الفاسدة غير مضمونة.
لكن في "الحاوي" أن الوجهين في أن الهبة الفاسدة هل تضمن، مخرجان من اختلاف قوليه في أن الهبة هل تقتضي ثوابا أم لا؟ فإن قلنا: تقتضيه، ضمن، وإلا فلا.
وهذا فيه نظر.
وقد سوى الرافعي بين الهبة والبيع والوصية، وجعل الكل مضموناً عليه بالجزاء والقيمة.
ولو لم يتلف الصيد في يده، لكنه تحلل وهو في يده –قال الماوردي: فمذهب الشافعي: أنه مضمون عليه بالجزاء والقيمة، يعني: في مسألة البيع، وكذا في الهبة؛ على أحد الوجهين الذي اقتضي بناؤه: أنه أصحهما.
وفيه وجه آخر: أنه يسقط عنه ضمان الجزاء.
وعلى القول المحكي في أصل المسألة في طريقة المراوزة: أنه يملكه بالبيع ويجب عليه إرساله، فو باعه حرم البيع، ولكنه ينعقد ويجب على المشتري الإرسال، وإذا أرسل فهل يكون من ضمان البائع؟ فيه خلاف مذكور في "الوسيط"؛ كما في العبد المرتد.
[قال الإمام: ولعل الأوجه القطع هنا بأنه من ضمان البائع، فإنا قد نقول في المرتد] إذا قتل: إنه قتل، لردته في الحال، والخطرات تتجدد حالا بعد حال، والسبب الذي نيط به وجوب الإرسال، قائم لا تجدد فيه، والله أعلم.
فرعان:- على القول بعدم ملكه الصيد [بالبيع] والهبة أيضاً-:
أحدهما: إذا باع محل صيدا من محل، ثم أحرم البائع، وأفلس المشترى- هل للبائع أن يختار عين ماله؟ قال ابن الصباغ والماوردي والقاضي الحسين: لا؛ لأنه يريد أن يتملك الصيد باختياره؛ فلا يجوز. نعم، إذا زال الإحرام قال في "الحاوي": كان له أن يرجع فيه.
الثاني: إذا اشترى صيدًا من حلال، وهو حلال، ثم أحرم البائع، ووجد المشتري به عيبا، فأراد رده عليه- قال ابن الصباغ: أنبنى ذلك على أنه هل يملكه بالإرث؟
فإن قلنا: يملكه –كما سيأتي- رده عليه؛ لأنه يرده إلى ملكه بغير اختياره.
وإن قلنا: لا يرثه، ففيه وجهان- قلت: قالهما القاضي أبو الطيب [في "تعليقه" احتمالين-:
أحدهما: نعم؛ لأن ذلك حق المشتري؛ فلا يسقط بإحرام البائع.
والثاني: لا يرده. قال القاضي أبو الطيب:] فيرد عليه الثمن، ويوقف الصيد حتى يتحلل، فيرده عليه.
قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأنه إذا ملك المشتري الثمن بالرد زال ملكه عن الصيد، ووجب عوده إلى البائع، وينبغي أن يقال: هو بالخيار بين أن يقف حتى يتحلل، [فيرد عليه]، أو يرجع بأرش العيب؛ لتعذر الرد في الحال.
قال: وهل يملك بالإرث؟ [فقد قيل: يملك]؛ لأنه قهري؛ وهذا هو الصحيح في "الوسيط"، و"المرشد"، و"الروضة"، وبه قطع الشيخ أبو محمد والصيدلاني؛ كما يرث الكافر المسلم، وقال الطبري: إن هذه طريقة القفال.
وقيل: لا يملك؛ لأن الإرث سبب الملك؛ فلا يملك به المحرم الصيد؛ كالبيع والهبة.
ولا يخفي أن هذا الخلاف مفرع على المذهب في أنه لا يملك الصيد بالبيع والهبة، أما إذا قلنا: يملكه بهما، ملكة بالإرث بلا خلاف، وقد صرح به في الروضة، وأنه مفرع –أيضاً- على أنه لا يزول ملكه [عنه] بالإحرام، أما إذا قلنا بزواله، فلا يرثه قولا واحدا؛ لأنه إذا امتنع الاستدامة، فالابتداء أولى؛ قاله القاضي أبو الطيب.
وحكى الإمام عن العراقيين: أنهما قالوا: إذا قلنا: الإحرام يقطع دوام الملك، ففي الإرث وجهان:
أحدهما: لا يملك به؛ لما ذكرناه.
والثاني: يملك به ويزول؛ فإنا نضطر إلى الجريان على قياس التوريث، فلنجر
ذلك الحكم، ثم نحكم بعده بالزوال.
التفريع:
إن قلنا بالملك، قال في "الوسيط" و"التهذيب": إنه يجب إرساله.
ولو باعه، قال في "التهذيب": صح، ولا يسقط عنه [ضمان الجزاء؛ حتى لو مات في يد المشتري، وجب الجزاء على البائع، وإنما يسقط عنه] إذا أرسله المشتري.
وقال الإمام تفريعا على قول الملك الذي عليه فرعنا: إنه يزول ملكه عقيب موته؛ بناء على أن الصيد يزول الملك عنه بالإحرام.
وإن قلنا بعدم الملك، قال المتولي: إنه ينتقل لباقي الورثة، وإحرامه بالنسبة إلى الصيد مانع من موانع الإرث، وهو ما صدر به صاحب "البحر" كلامه.
وعن أبي القاسم الكرخي: أنه يبقي موقوفا، فإذا تحلل ملكه، وهو ما حكاه الشيخ أبو حامد، والمحاملي، والبندنيجي، والقاضي أبو الطيب، والماوردي، والقاضي الحسين، وصاحب "العدة"، والدرامي، وقال: إنه لو مات الوارث قبل تحلله، قام وارثه مقامه.
قال: وإن كان ملكه صيد، أي: في يده، أو [في] بيته، [فأحرم] –زال ملكه عنه في أحد القولين، أي: المذكورين في "الإملاء"؛ لأنه لا يراد للبقاء دوامه؛ فيحرم استدامته؛ كلبس المنعيط.
[قال:] دون الآخر؛ لأنه ملكه؛ فلا يزول بالإحرام؛ كالبضع.
ولأنه لو ملك صيدا في الحل، وأدخله الحرم، لم يزل ملكه؛ كذلك هنا؛ وهذا ما اختاره في المرشد.
فعلى هذا: يجوز له بيعه وهبته، ولا يجوز له قتله كما ذكرناه من قبل وفيه ما نقلناه عن الإمام، ولا يجب عليه –على هذا القول- إرساله.
والذي اقتضاه إيراد ابن الصباغ: ترجيح الأول، وقال في البحر: إنه الأظهر، [[وقال] القاضي أبو الطيب في "تعليقه": إنه الأصح]، وعلى هذا لا يجب عليه السعي في إرساله قبل الإحرام؛ كما صرح به الإمام، وهل يؤمر بالإرسال بعده؟ فيه وجهان في "الرافعي" عن رواية [بعض] الأصحاب، والمشهور: الوجوب، فإن لم يرسله حتى مات، نظر:
فإن قصر فيه، ضمنه بالجزاء.
وقال البندنيجي: إنه يكون بمنزلة ما إذا طير الريح ثوباً إلى داره.
وإن لم يقصر في إرساله، قال الإمام: المذهب وجوب الضمان.
ومن أصحابنا من قال: لا يضمنه، وهو ما أورده البندنيجي وإليه يرشد كلام ابن الصباغ والقاضي أبي الطيب.
ولو لم يرسله حتى تحلل، ففي عود ملكه قولان في "المهذب" وغيره.
وقال ابن الصباغ والبندنيجي وغيرهما: إن الذي نص عليه وجوب الإرسال.
[وحكي عن أبي إسحاق] أنه قال: يعود الملك، ولا يلزمه الإرسال؛ كما إذا انقلب الخمر خلاً.
وحكى الإمام عن العراقيين القطع بوجوب الإرسال، وأنهم ترددوا فيما إذا قتله، هل يجب عليه الجزاء؟
وقال: إن القول بالمنع مزيف مع القطع بوجوب الإرسال.
ورتب المراوزة الخلاف في [هذه] المسألة على غير هذا النحو، فقالوا: إذا أحرم وفي ملكه صيد، هل يجب عليه إرساله وإزالة يده أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا؛ كما إذا دخل به الحرم، وكما يجوز له استدامة النكاح دون ابتدائه.
وهذا ما ذكر الرافعي: أنه صححه المحاملي والكرخي وغيرهما من العراقيين.
وعن القاضي ابن كج طريقة [قاطعة] بهذا القول، معزية إلى أبي إسحاق، وأنه حمل النص بالإرسال على الاستحباب؛ فإنه على هذا يستحب [له] إرساله،
وإذا أرسله، وأخذه غيره، فله إذا خرج من إحرامه أن ينتزعه من يده، ولو أرسله غيره من يده، ضمن المرسل.
والقول الثاني: نعم، وهذا الذي صححه الفوراني؛ كما لا يجوز له ابتداء أخذه.
والفرق بين ما نحن فيه ودخول الحرم به: أن حكم الإحرام آكد من حكم الحرم؛ بدليل أنه لو كان حلالاً، فاصطاد صيدًا في الحل بنية حرمي، يحل لذلك الحرمي أكله، ولو اصطاد الحلال صيدًا بنية المحرم، لا يحل للمحرم أكله، وعلى هذا فرعان:
أحدهما: هل يزول ملكه عنه أو لا؟
فيه قولان:
أحدهما: نعم، وهو الأصلح عند العراقيين؛ كما قال الرافعي، [لكن هل يزول بالإحرام]، أو بالإرسال ويكون الإحرام سبب وجوب الإرسال؟
فيه وجهان في "النهاية".
وعلى كل الوجهين إذا أخذه غيره بعد الإرسال، ملكه.
و [القول] الثاني: لا يزول ملكه؛ حتى لو أرسله غيره، ضمنه، وإذا أخذه غيره بعد امتثاله ما أمر به من إرساله، فله أن يسترده إذا خرج من إحرامه، على المشهور الذي قطع به المعظم.
وحكى الإمام – تفريعًا على هذا – عن شيخه تخريج وجهين في أنه هل يزول ملكه عنه بالإرسال؛ بناء على وجهين للأصحاب في أن من فتح قفصًا عن طائر إذا نوى تحريره، أو حل الرباط عنه، وهو حلال، وحرره – هل يزول ملكه عنه؟
الفرع الثاني: إذا لم يرسله حتى تحلل، فالأمر بالإرسال مستمر، وفيه وجه: أنه ينقطع.
قال: وإن احتاج إلى اللبس، لحر أو برد، أو إلى الطيب والحلق؛ لمرض،
أو إلى ذبح صيد للمجاعة، أي: شدة الجوع، وهي بفتح الميم – جاز له ذلك؛ لقوله – تعالى -:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
قال: وعليه الكفارة.
أما في الحلق لمرض؛ فلقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196].
وقد اختلف المفسرون في المراد بالمرض:
فقال ابن عباس: هو البثور.
وقال غيره: هو الصداع.
وأما في الباقي، فبالقياس عليه، وسنذكر في أول باب كفارة الإحرام شيئًا يتعلق به.
وهكذا الحكم في كل محظور بغير عذر إذا أبيح للعذر، وجبت فيه الكفارة، إلا لبس السراويل عند عدم الإزار، والخفين المقطوعين وما في معناهما عند فقد النعلين كما تقدم؛ للنص عليهما، ولأنهما ليسا للترفيه وإزالة الضرر؛ فإن ستر العورة واجب، ولبس الخفين المقطوعين ونحوهما يقي الرجل من النجاسة؛ فخفف فيهما لذلك.
قال: فإن صال عليه صيد – أي: قصد الوثوب عليه – جاز له قتله للدفع، لا جزاء عليه؛ لأن الذي يتعلق به المنع ألجأه إليه؛ فأشبه العبد الصائل.
وكذا الحكم فيما لو انكسر من ظفره شيء فقطع المنكسر لا غير.
والفرق بينه وبين ما إذا آذاه القمل في رأسه، فحلق شعره: أن الذي يجب فيه الجزاء الشعر، والصيال من غيره.
فإن قيل: إذا تأذى بكثرة الشعر من الحر، فالصيال حصل من الشعر [فكان قياس ما ذكرتم ألا يجب فيه الجزاء عند الحلق.
قيل: الأذى جاء من الحر لا من الشعر]؛ بدليل عدمه في البرد. نعم، قال الأصحاب: لو صال عليه حلال راكب حمار وحشٍ، ولم يتمكن من دفعه إلا بقتل الحمار – قال الصيدلاني: ففي الجزاء قولان للقفال، والذي أورده الأكثرون منهما: وجوبه، وهو قياس ما تقدم.
ولا خلاف فيما إذا ضمناه أن قرار الضمان على الراكب، وهكذا الحكم فيما إذا غصب دابة وصالت [على شخص]، فقتلت – في ضرورة الدفع؛ ففي وجوب الضمان على القاتل قولان، فإن ضمناه، كان قرار الضمان على الراكب، ولمالكها مطالبة الصائل على القولين، ومن هنا قال الإمام: إن بين ما ذكر في المحرم والغاصب فرقًا ظاهرًا؛ فإن الحلال على أحد القولين لا يغرم الصيد، ولكن يرجع المحرم عليه إذا غرم، وفي مسألة الغصب يتوجه الطلب على الغاصب قولاً واحدًا، وإنما الكلام في قرار الضمان كما سبق.
قال: فإن افترش الجراد – أي: انبسط كقولهم: أكمة مفترشة، أي: منبسطة.
[قال]: في طريقه، فقتله – ففيه قولان، أي: أومأ إليهما في "الأم"، وقد أثبتهما الإمام ومن تبعه وجهين:
وجه عدم الوجوب: أنه ملجأ إلى قتله؛ فكان كالصائل؛ وهذا ما جعله الرافعي أظهر، وصححه النواوي، وعن الشيخ أبي محمد طريقة قاطعة به.
ووجه الوجوب: أنه قتله لمنفعة نفسه؛ فأشبه ما لو قتله للمجاعة؛ فإنه يجب عليه الجزاء بلا خلف؛ وهذا ما اختاره في "المرشد".
والقولان يجريان – كما قال البندنيجي وغيره – فيما إذا باض الحمام على فراشه، فنقل البيض – لحاجته إلى فارشه – ففسد.
وفيما إذا أكره المحرم على قتل صيد وجهان:
أحدهما: يجب الجزاء على المكره.
[والثاني: على القاتل، ويرجع على المكره].
قال: وإن نبتت في عينه شعرة، فقلعها، لم يلزمه شيء؛ لأنها كالصائلة؛ نص عليه، وألحق الأصحاب [به] ما لو نزل شعر الرأس أو الحاجب عليى عينه، فقطع ما غطاها.
وقيد قيل: بجريان القولين في المسألة قبلها فيهما، حكاهما الشيخ أبو علي وغيره.
وفي "تعليق" القاضي الحسين الجزم بما إذا نبتت في عينه شعرة، فقلعها: أن عليه الفدية؛ وفيما لو انعطف هدبه إلى عينيه، فآذاه؛ فنتفه أو قطعه – بأن لا فدية وفرق بأن ذلك في موضعه ولم يؤذ، وإن تأذى صاحبه بمكانه.
قال: وإن تطيب أو لبس أو ادهن ناسيًا – أي: لإحرامه – لم تلزمه الكفارة، أي: خلافًا للمزني.
ووجهه: ما روى البخاري ومسلم عن يعلى بن أمية: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، قد أهل بالعمرة، وهو معصفر لحيته ورأسه، وعليه جبة، فقال:"انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة، وما كنت صانعًا في حجك، فاصنعه في عمرتك".
وجه الدليل منه: أنه كان جاهلاً بالتحريم، وقد أمره – عليه السلام – بالنزع
والإزالة، ولم يأمره بالفدية، ولو كانت واجبة لبينها [له]، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وإذا ثبت هذا الحكم في الجاهل بالحكم، فالناسي مثله؛ لأنه يفعل مع جهل التحريم.
وقد [عرفت بما ذكرناه] حكم الناسي لإحرامه والجاهل بالتحريم، وهو ما صرح به القاضي الحسين وغيره.
نعم، حكى القاضي أبو الطيب في أن من ادعى الجهل بالعلم بالتحريم في زماننا هل يقبل قوله، أو لا [يقبل] ويلزمه التكفير؟ وجهين.
وإذا ذكر الناسي ما نسيه، وعلم الجاهل ما جهله – نزع اللباس، وأزال الطيب.
والمستحب أن يزيله عنه [محل]، فإن لم يفعل، وغسله هو، جاز ولا شيء عليه، ولا يلزمه شق القميص والخروج منه، كالفرجية والقباء بل ينزعه من رأسه على الفور، وكذا إزالة الطيب، فإن لم يقدر على ذلك لعجزه، لم تلزمه الفدية. وإن استدام مع القدرة على الإزالة لزمته [الفدية] ويفارق استدامة ما تطيب به قبل الإحرام على المذهب؛ فإن ابتداءه مندوب إليه، والتطيب هنا ليس بمباح، وإنما سقط حكمه لنسيان فاعله؛ كما نقول فيما إذا أفطر يوم الشك، ثم قامت البينة بأنه من رمضان – لم يجز له استدامة الأكل فيه؛ لأن الفطر مع العلم بأنه من رمضان محرّم، بخلاف ما إذا أفطر بالسفر ثم قدم يجوز له الأكل؛ لأن ابتداء الفطر كان مباحًا مع العلم بأنه من رمضان.
[فروع:
أحدها: لو] مسَّ طيبًا على الكعبة ظنه يابسًا، فكان رطبًا، وعلق بيده – فقولان:
أحدهما، تجب؛ كما لو مسه مع العلم برطوبته، وهذا ما جزم به في "الوجيز" ورجحه الإمام وغيره.
والثاني: لا، وهو الذي رجحه طائفة، وذكر صاحب التقريب: أنه القول الجديد.
[الفرع الثاني]: إذا علم تحريم الطيب [وجهل كون الشيء] الذي مسه طيبًا – فجواب الأكثرين: أنه لا فدية؛ لأنه إذا جهل كونه طيبًا، فقد جهل تحريم استعماله.
وحكى الإمام وجهًا آخر: أنها تجب.
[الفرع الثالث]: الصبي إذا تطيب، أو لبس المنعيط، ففي لزوم الكفارة له قولان مأخوذان من حكم عمد الصبي، هل هو كالخطأ أو [كعمد المكلف]؟
والراجح – على ما اقتضاه كلام الإمام الذي سنذكره من بعد -: ترجيح الوجوب.
ثم حيث ثبتت، ففي ماله، أو في مال الولي؟ فيه الخلاف الذي سبق في الكتاب.
وحكم الناسي للإحرام إذا فاخد أو قبل أو لمس بشهوة، حكم الناسي للإحرام إذا تطيب ولبس، وكذا لو فعل ذلك جاهلاً بالتحريم.
قال: وإن قتل الصيد، أو حلق رأسه، أو قلم الظفر ناسيًا – لزمته الكفارة؛ لأن إتلاف مال أو ما [هو] في معناه؛ فاستوى في ضمانه السهو والعمد، كإتلاف مال الآدمي، هذا هو المنصوص.
وقيل: في الحلق والتقليم قول آخر: أنه لا تلزمه [الكفارة]؛ لأنه ترفه وزينة فأشبه التطيب. وهذا القول مخرج من أحد القولين المنصوصين في "الأم" في المجنون إذا قتل الصيد؛ كما قاله أبو الطيب.
وحكى ابن الصباغ [وغيره قولاً آخر مخرجًا مما ذكرناه عن "الأم" – أيضاً – فيما إذا قتل الصيد ناسيًا: أنه لا يلزمه الكفارة.
وقد قال الإمام قبل جزاء الصيد بورقتين وشيء: إنه وجد ذلك محكيًا عن حرملة عن الشافعي، ولفظه:"إنما يعذر متلف الصيد بما يعذر به المتطيب".
وقد وجهه ابن الصباغ] بأن الصيد على الإباحة، وإنما منع من قتله؛ تعبدًا، فلا يجب إلا على مكلف.
قال: ومن أصحابنا من فرق بينهما، وقال: إنما سقط الضمان عن المجنون؛ لأنه غير مكلف، [والناسي مكلف].
وفي موضع آخر أيد الفرق بأنه لو حلف: "لا يدخل دارًا، فدخلها مجنونًا – لم يحنث قولاً واحدًا، ولو دخلها ناسيًا، فقولان، والصحيح ما ذكره الشيخ أولاً.
والفرق بين ما نحن فيه والطيب واللباس ونحوهما من الاستمتاعات: أن الاستمتاعات تميل الطباع إليها [ولا يتكامل فيها القصد، فذر بالنسيان، والإتلافات على خلاف الطبع] فلا يقدم عليها إلا عن تكامل قصد ووجود رؤية؛ فلذلك كان حكم العمد [والنسيان فيها] سواء.
فإن قيل: هذا الفرق وإن راج في القتل، فلا يروج في الحلق والتقليم؛ لأنهما من جملة الاستمتاعات.
قيل: وجوب الفدية فيهما لما فيهما من الإتلاف؛ إذ حقيقة الإتلاف: أن يفعل ما لو أراد أن يرده إلى حاله لم يمكنه ذلك، وهذان بهذه الصفة.
وحكم الجهل بتحريم ذلك في الإحرام، حكم النسيان.
قال: وإن جامع ناسيا – أي: في القبل أو الدبر – ففيه قولان:
أصحهما: أنه لا تلزمه الكفارة، أي: ولا يفسد به نكسه؛ لقوله – عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ولأن الإحرام عبادة يجب بإفسادها الكفارة، فاختلف حكم الوطء فيه بالعمد والسهو؛ كالصوم. وهذا هو الجديد، والصحيح في "الحاوي" وغيره.
وقال في القديم: يفيسد حجه، ويلزمه الكفارة؛ لأنه معنى يتعلق به قضاء الحج؛ فاستوى فيه العمد والنسيان؛ كفوات الوقوف.
ومثار القولين – كما قال القاضي الحسين -: أن الوطء استمتاع [مشوب بالإتلاف]؛ فالجديد: تغليب الاستمتاع؛ كالطيب؛ والقديم: تغليب الإتلاف، وفرق بينه وبين الصوم: بأن محظورأنه تختص بالاستمتاع.
وعلى القولين في الأصل ينبني – كما قال ابن الصباغ – ما إذا أكره على الوطء أي إن تصور كما هو أحد القولين في طريق المراوزة [أيضاً].
ومختار [أبي علي] بن أبي هريرة: القطع بالفساد: ذهابًا إلى أن إكراه الرجل على الوطء ممتنع. والصحيح خلافه.
والصبي إذا جامع عامدًا، إن [قلنا]: عمده كعمد البالغ، [فالحكم كما تقدم] وإلا خرج على القولين.
قال: إن حلق رأسه مكرهًا أو نائمًا، وجبت الفدية على الحالق – [أي: وحده – في أحد القولين، وعلى المحلوق له في الآخر – أي: مع الحالق – ويرجع بها على الحالق]، أي: إن غرم ولم يصم.
والقولان ينبنيان – كما قال الشيخ أبو حامد؛ تبعًا لأبي إسحاق المروزي – على أن شعر المحرم في يده كالعوديعة او كالعارية؟ وفيه قولان حكاهما البندنيجي وأبو الطيب:
وأصحهما: الأول عند ابن الصباغ؛ تبعًا لشيخه القاضي أبي الطيب؛ لأن العارية هي [التي] يمكسها لمنفعة نفسه، وقد يريد المحرم الإزالة دون الإمساك، فإن قلنا به، ضمنه الحالق؛ كما لو أتلف وديعة عند إنسان بغير تفريط من المودع، وهو ما نص عليه في "الإملاء" والقديم؛ كما قال البندنيجي وأبو الطيب، وهو الصحيح في "الرافعي"[و"تعليق" القاضي الحسين]، والمختار في "المرشد"، وبه أجاب في "الوجيز"، وقوي بأنه لو [احترق شعره بالشرار المتطاير]، ولم يقدر على التطفئة – لا فدية عليه؛ ولو كان كالمستعير لوجبت؛ هكذا قاله العراقيون، وستعرف ما فيه.
وإن قلنا: [إنه] كالعارية؛ كانت على المحلوق له، ويرجع بها على الحالق؛ كما لو أتلف العارية في يد المستعير؛ فإن للمالك تضمين المستعير، وإذا غرم رجع على المتلف.
وقد ذكر المزني أن الشافعي – رضي الله عنه – خط على هذا القول، والأصحاب نقلوه عن البويطي وعن "مختصر الحج الأوسط" وقالوا: إنه فيهما غير مخطوط عليه، وهو يجري – كما قال القاضي الحسين – فيما [لو] احترق شعره بتطاير
الشرار، ولم يقدر على التطفئة؛ إذا قلنا: إن العشر في يده عارية، وهذا [ما] أشرت إليه من قبل. وقال: إن نظير القولين في المسألة الوجهان في وجوب الضمان على المكره على إتلاف المال.
التفريع:
إذا قلنا بالقول الأول، فلا فرق فيه بين أن يكون الحالق محرمًا أو حلالاً.
قال الإمام: وهو مما لم يختلف الأئمة فيه، وأقرب مسلك فيه تشبيه شعر المحرم في حق الحلال بصيد الحرم وشجره، وهو ما ذكره البندنيجي أيضاً.
ويجوز للحالق أن يكفر بالصوم والإطعام والذبح، وإذا لم يكفر مع القدرة كان للمحلوق مطالبة الحالق – وإن كان محلا – بإخراج الفدية؛ كحاه البندنيجي وغيره.
وقال الإمام: إني وجدت الطرق متفقة على ذلك، وهو مشكل في المعنى، والتعويل على النقل.
وما ذكره من الإشكال قد أشار إليه ابن الصباغ أيضاً، ونسب الرافعي هذا إلى قول الأكثرين، وقال: إنه مبني على أن للمودع المنعاصمة.
لكن ستقف في كتاب الرهن على [أنه] ليس له ذلك، وحكاية وجه آخر فيه في آخر باب الوديعة.
وإن قلنا بالقول الثاني، فأراد الحالق أن يكفر ابتداء، فليس له الصوم؛ لأنه لا يتحمل، وهو مخير بين الذبح والإطعام؛ قاله القاضي أبو الطيب، وقال: إنا لا نطالب المحلوق بالإخراج ابتداء، بل الحالق.
وقال الإمام: إن في عدم صومه وقفة عندي؛ فإنه لا يمكننا أن نلزم المحرم أن يصوم، والكفارة على التخيير ويبعد أن يتعين الطعام في حق الحلال.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الحالق لو أخرج الفدية ابتداء، لا تقع الموقع، وإن كان القرار عليه، بخلاف ضمان الأموال؛ فإن المكره لو غرمه برئ
المكره على أحد الوجهين؛ لأن الفدية [فيها] معنى القربة؛ إذ هي واجبة بسبب العبادة؛ فلا بد فيها من قصد [و] نية من جهة. من لاقاه الوجوب. نعم، لو أخرج ذلك بإذن المحلوق، أجزأه؛ وبهذا يحصل في المسألة وجهان.
وقد جزم في الحاوي القول بجواز التكفير منه بالإطعام والذبح، وحكى وجهين في التكفير بالصوم، وأن أصحهما: الجواز؛ لأن الوجوب مستقر عليه، وكان مخيرًا فيه.
ولو أراد المحلوق أن يكفر، كفر بالمال، ورجع بأقل الأمرين من الشاة أو ثلاثة آصع؛ لأنه أقل الواجب.
وقال في "الحاوي": إن كفر بأقل الأمرين رجع به، وإن كفر بأكثر الأمرين فهل يرجع بأقل الأمرين أم لا يرجع بشيء؟ فيه وجهان، [و] وجه الثاني: أنه غارم عن غيره؛ فلم يكن [له] إسقاط الحق بشيء يقدر على الإسقاط بدونه، وإذا لم يكن له ذلك صار كالمتطوع به.
وهل يجوز أن يكفر بالصوم؟ فيه وجهان:
الذي قاله أبو علي بن أبي هريرة: لا، وهو الذي أورده الماوردي، ووجهه بأن التحمل لا يدخل في الصوم.
والذي قاله أبو إسحاق: نعم؛ فعلى هذا إذا صام هل يرجع بشيء على الحالق؟ فيه وجهان:
الذي قاله عامة الأصحاب – كما قاله ابن الصباغ وغيره -: لا، وهو الأظهر.
وعلى مقابله: بماذا يرجع؟ فيه وجهان [حكاهما ابن القطان]:
أحدهما: بثلاثة أمداد، قال أبو علي الطبري: وهو الأظهر؛ لأن صوم كل يوم مقابل بمد.
والثاني: بأقل الأمرين من الشاة أو ثلاثة آصع.
وهل له أن يرجع حيث أثبتنا له الرجوع قبل أن يغرم؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا.
أما إذا حلق [رأس المحرم] بإذنه، كانت الفدية عليه قولاً واحدًا، ولا شيء على الحالق، سواء كان حلالاً أو محرمًا؛ لأن الحلق منسوب إليه، فإن العادة أن الإنسان لا يحلق [شعره] بنفسه، وإنما يحلقه غيره بإذنه؛ ولهذا لو حلف: لا يحلق رأسه، فأمر غيره، فحلقه – حنث. نعم، يعصي الحالق؛ لإعانته على المعصية.
فإن قيل: لو أمر المحرم شخصًا بقتل صيد، فقتله – لا ضمان على الآمر؛ [فهلا كان] هذا مثله؟
قيل: لأن الشعر في يده، بخلاف الصيد. نعم، لو كان الصيد في يده، ضمنه؛ وهذا يعكر عليه ما حكاه الماومردي فيما إذا أمر [حلال] حلالاً بحلق [شعر محرم]، كانت الفدية على الآمر دون الحالق.
وقال في "البحر": عندي أن هذا إذا كان المحلوق [نائمًا والحالق لا يعرف الحال.
ولو حلق رأسه وهو ساكت فهو كما لو حلق وهو] نائم، أو حلق بأمره؟ فيه طريقان، المختار منهما في "تعليق" القاضي الحسين [و] في "التهذيب" و"الرافعي" و"المرشد" الثاني.
وجميع ما ذكرناه يجري فيما [إذا قلم] ظفر المحرم غيره؛ صرح به البندنيجي وغيره.
قال: ويجوز للمرأة لبس القميص والسراويل [والخف والخمار]؛ لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس أو الزعفران من الثياب، وليلبسن بعد ذلك ما
أحببن من ألوان الثباب، معصفرًا أو خزًّا أو حليًّا، أو سراويل أو قميصًا أو ذهبا.
قال: وفي لبس القفازين قولان:
أصحهما: أنه لا يجوز لها ذلك؛ للخبر، وبالقياس على الرجل؛ فإنه يحرم عليه لبسهما قولاً [واحدًا][كما تقدم؛ وهذا ما] نص عليه في "الأم" و"الإملاء" والقديم، ووافق الشيخ في تصحيحه أكثر النقلة، ومنهم البغوي، وصاحب "البحر".
فعلى هذا: لو لبستهما، أو أحدهما، لزمتها الفدية.
ومقابله: أنه يجوز، وهو الأصح في "الوسيط"، والمنصوص في "مختصر الحج الأوسط"، ونقله في "المختصر"، وقال الإمام: لعله الأظهر؛ لقوله – عليه السلام: "إحرام المرأة في وجهها؛ فلا تغطِّه"، رواه ابن عمر.
وقد روي أن سعد بن أبي وقاص كان يلبس جواريه وبنأنه القفازين وهن محرمات.
ولأنه يجوز لها ستر اليدين بغير المنعيط بلا خلاف؛ كما قال الإمام، ولم يحك
العراقيون غيره؛ فكذلك بالمخيط؛ كالرجلين.
[وأما] الخبر، ففي إسناده محمد بن إسحاق، وهو متكلم فيه.
وأيضاً: فقد قال كثير من العلماء: إن ذكر القفازين إنما هو قول ابن عمر، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن لمن صحح الأول أن يقول: قد جاء في "البخاري" و"مسلم" وغيرهما عن نافع عن ابن عمر في حديث طويل: "ولا تنتقب المرأة [الحرام]، ولا تلبس القفازين".
و [أما] خبر ابن عمر فقد قيل: إنه موقوف عليه، وإن صح فإنه محمول على بيان ما يجب على المرأة كشفه في الإحرام؛ ولذلك نقول: لا يجب عليها أن تكشف غير وجهها.
و [أثر] ابن أبي وقاص والقياس، غير معمول به مع ما ذكرناه من صحة الحديث، على أن القاضي الحسين حكى فيما إذا قلنا بتحريم [لبس] القفازين وجهين في تحريم ستر اليدين بغير المخيط.
قلنا: إن منع الحكم في الأصل المقيس عليه، وقد حكى الشافعي – رضي الله عنه – أنه علق القول في ذلك على صحة الحديث، وقد صح.
ثم على القول الثاني إذا لبستهما ففي "الأم": أنه لا فدية عليها، وقال في "الإملاء": عليها الفدية.
قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: إنما قال ذلك على سبيل الاستحباب والاحتياط [، لا] على سبيل الوجوب.
تنبيه: القفاز – بقاف مضمومة، ثم فاء مشددة، ثم ألف، ثم زاي -: شيء يعمل من البرد لليد؛ ليغطي الأصابع والكف والساعد، ويحشي بقطن، ويكون له
أزرار على الساعدين، تلبسه المرأة في يديها؛ قاله الجوهري.
وقيل: إنه ضرب من الحلي تتخذه المرأة ليديها.
فرع: إذا اختضبت المرأة، ولفَّت على يديها المنعضوبتين خرقة:
فإن شدتها عليهما، قال القاضي الحسين والبندنيجي: ففيها قولا لبس القفازين.
وإن لم تشدها، فعلى القول الذي لا يجوز لها لبس القفازين فيها وجهان؛ لأنه ستر بغير مخيط؛ كذا قال القاضي – أيضاً – وحكاه أبو الطيب عن ابن المرزبان وأبي حامد.
والمذكور في "البحر": أن الشافعي قال في "الأم": وإن اختضبت المحرمة ولفَّت على يديها خرقة، رأيت علها أن تفتدي.
وقال في "الإملاء": لا يبين لي أن عليها الفدية.
ونقل أبو حامد ذلك إلى "الجامع"، وأثبتهما قولين، وقال الرافعي: إنهما مفرعان على القول بتحريم القفازين، أما إذا قلنا بعدم التحريم لم تجب قولاً واحدًا.
وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه لا فدية عليه قولاً واحدًا؛ لأنا لو أوجبنا الفدية عليها لأوجبناها بالخضاب بما يستر يديها، ولأن الخرق ليست معمولة على قدر العضو؛ فأشبهت كميها تغطي بهما يديها.
وقال الرافعي: إنا إذا أوجبنا الفدية عند شد الخرقة، كان في وجوبها بمجرد الحناء ما سبق في الرجل إذا خضب رأسه بالحناء.
قال: ولا يجوز لها ستر وجهها، أي: بمخيط ولا غيره وإن جاز للرجل؛ للخبر، فلو خالفت وجبت عليها الفدية؛ لأنها فعلت محظورًا في الإحرام كالحلق.
والجزء فيما ذكرناه كالكل، اللهم إلا الجزء الذي لا يمكن ستر الرأس إلا به؛ فإنه معفو عنه للضرورة؛ نص عليه في "الأم".
فإن قيل: إذا كان كشف الوجه واجبًا، فهلا قلتم: تكشف جميعه، ولا تستوفيه إلا بكشف جزء من الرأس، فلم قدمتم الكشف على الستر؟
قيل: الرأس إنما وجب ستره من المرأة؛ لأنه عورة، [وذلك موجود في جميعه؛
فوجب ستر الجميع، والوجه إنما نهي فيه عن النقاب]، وذلك القدر ليس بنقاب ولا في معناه، ولأن الغرض بذلك أن يظهر شعار الإحرام، وذلك لا يفوت بفوات جزء منه، بخلاف ستر العورة، ولأن الستر آكد؛ فقدم.
فإن قيل: لم جعل إحرام الرجل في رأسه والمرأة في وجهها؟
قيل: لأن المرأة تستر الوجه في الغالب؛ فأمرت بكشفه نقضًا للعادة تعبدًا، والرجل يستر الرأس في العادة؛ فأمر بكشفه نقضًا للعادة تعبدًا.
قال: فإن أرادت الستر عن الناس، أي لحر أو برد أو لا لغرضٍ – سدلت، أي: أَزْخَتْ، على وجهها ما يستره، ولا يقع على البشرة؛ لما روى أبو داود عن مجاهد عن عائشة قالت: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا جاوزونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه.
وما قيل من أن حديث مجاهد عن عائشة مرسل؛ لأنه لم يسمع منها – ففيه نظر؛ لأن البخاري ومسلمًا في "صحيحيهما" أخرجا من حديث مجاهد عن عائشة أحاديث، ومنها ما هو ظاهر في سماعه منها، ثم لو ثبت ذلك أخذنا هذا الحكم بالقياس على ما لو ستر الرجل رأسه من الشمس وغيرها بما لا يقع عليه؛ فإنه جائز – كما تقدم – لرواية مسلم وغيره عن أم الحصين قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة.
وصورة الستر على الهيئة التي قالها الشيخ: أن تأخذ ثوبًا فتشده على قصاص الشعر كالكور، وتسدل عليه الثوب، وتمسكه بيدها؛ حتى لا يمس وجهها كذا قاله الماوردي.
وقال القاضي الحسين: إن ذلك لا يمكن إلا بأن تضع خشبتين على أذنيها وتشدهما بخيط، وتسدل الثوب عليهما متجافية.
ثم إذا فعلت ذلك وباشر الوجه: فإن أزالته في الحال فلا شيء عليها، وإن تركته
مع القدرة وجبت الفدية؛ كما لو ابتدأت الستر.
ولو سترت وجهها بكفها جاز؛ كما لو ستر الرجل رأسه بيده.
تنبيه: كلام الشيخ يفهم أمرين:
أحدهما: أنه لا فرق فيما ذكره بين الحرة والأمة، ولا إشكال في جريانه في الحرة، وأما الأمة فالحكم في وجهها وكفيها كالحكم في وجه الحرة وبدنها، وأما رأسها وساقها فهل يتعلق بهما الإحرام كالوجه؛ لأن ذلك ليس بعورة منها؟ فيه طريقان في "تعليق" القاضي أبي الطيب:
إحداهما – وبها قال القاضي أبو حامد -: لا؛ كالحرة.
والثانية – قالها غيره-: فيهما وجهان؛ كما أن في كفي المرأة إذا لبست القفازين قولين.
وهذا إذا لم نقل: إن عورتها كعورة الرجل، أما إذا قلنا به فقد حكى القاضي – أيضاً – فيها وجهين:
أحدهما: أنها كالرجل في الإحرام سواء.
والثاني: أنها بمنزلة الحرة.
ومن نصفها حر ونصفها رقيق، هل حكمها في الإحرام حكم الأمة أو الحرة؟ فيه وجهان.
الأمر الثاني: أن الأنوثة هي المقتضية لجواز لبس المنعيط وستر الرأس وغير ذلك – كما تقدم = وهو ما أورده الرافعي وغيره؛ حيث قالوا: إن الخنثى المشكل لو ستر رأسه، ولبس المنعيط، وكشف الوجه، أو غطى وجهه بغير مخيط وحده، وكشف رأسه – لا يلزمه الكفارة؛ للشك في الموجب.
لكن في "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه لا خلاف على المذهب أنا نأمره بالستر ولبس المنعيط؛ كما نأمره أن يستتر في الصلاة كاستتار المرأة، وهل تلزمه الفدية؟ فيه وجهان، وجه الوجوب: الاحتياط؛ كما لزمه الاستتار في الصلاة احتياطًا للعبادة، ولا خلاف أنه لو غطى رأسه وستر وجهه لزمته الفدية.
واعلم أن الشيخ قد بيّن ما تخالف المرأة فيه الرجل بسبب الإحرام، ولم يستوعبه بالذكر؛ فإن الأصحاب قالوا – حكاية عن النص -: إنه يستحب لها أن تختضب للإحرام كما تقدم، بخلاف الرجل، والله أعلم.
وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بذكر فروع تتعلق به:
هل يكره للمحرم الاكتحال بما لا طيب فيه؟ فيه قولان، وإذا قلنا بالكراهة فهي في حق النساء أشد.
يجوز للمحرم أن يدخل الحمام ويغسل شعره بالماء والسِّدر، وأن يفتصد ويحتجم ما لم يقطع من شعره شيئًا.
يكره له أن يلبس الثياب المصبغة، ويحرم على الرجل لبس المزعفر كما تقدم.
ينبغي للمحرم أن ينزِّه إحرامه عن الخصومة والسبِّ والكلام القبيح؛ لقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"من أتى البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه" أخرجه البخاري في صحيحه.