الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تلازم الظاهر والباطن
هذا حال السحرة لما سكنت المحبة قلوبهم، سمحوا ببذل نفوسهم، قالوا لفرعون:"اقض ما أنت قاض" ومتى تمكنت المحبة في القلب لم تنبعث الجوارح إلا إِلَى طاعة الرب.
وهذا هو معنى الحديث الإلهي الَّذِي خرَّجه البخاري في "صحيحه"(1) وفيه: "وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا". وفي بعض الروايات: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش، وبي يمشي".
والمعنى أن محبه الله إذا استغرق بها القلب واستولت عليه لم تنبعث الجوارح إلا إِلَى مراضي الرب، وصارت النفس حينئذٍ مطمئنة، ففنيت بإرادة مولاها عن مرادها وهواها.
يا هذا، اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله عَلَى حرف، إن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب عَلَى وجهه خسر الدُّنْيَا والآخرة، ومتى قويت المعرفة والمحبة لم يُرد صاحبها إلا ما يريده مولاه.
وفي بعض الكتب السالفة: من أَحَبّ الله لم يكن في شيءٌ عنده آثر من رضاه، ومن أحبَّ الدُّنْيَا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه.
وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن الحسن قال: (ما نظرت)(*) ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بَطَشْتُ بيدي، ولا نَهَضْتُ عَلَى قدمي، حتى أنظر عَلَى طاعة
(1) برقم (6502) من حديث أبي هريرة.
(*) ما ضربت: "نسخة".
أو معصية، فإن كانت طاعة تقدمتُ، وإن كانت معصية تأخرت.
هذا حال خَوَاصّ المحبين الصادقين، فافهموا -رحمكم الله- هذا، فإنَّه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة. وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم في خطبته لما قدم المدينة حيث قال:"أحبوا الله من كل قلوبكم" وقد ذكرها ابن إسحاق (1) وغيره.
فإن من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادات النفس والهوى، وإلى ذلك أشار القائل بقوله:
أروح وَقد ختمت على فُؤَادِي
…
بحبِّك أَن يَحُلَّ بِهِ سواكا
فَلَو أَنِّي اسْتَطَعْت غضضت طَرفِي
…
فَلم أنظُر بِهِ حَتَّى أراكا
أحبك لَا ببعضي بل بكلِّي
…
وَإِن لم يُبْق حُبُّك لي حِراكا
وَفِي الأحباب مَخْصُوص بوجدٍ
…
وَآخر يَدَّعِي معه اشتراكا
إِذا اشتكبت دموعٌ فِي خدودٍ
…
تبيَّن من بَكَى مِمَّن تباكى
فَأَما من بَكَى فيذوبُ وجدًا
…
وينطقُ بالهوى من قد تشاكى
متى بقي للمحب من نفسه حظ، فما بيده من المحبة إلا الدعوى، إِنَّمَا المحب من يفنى عن نفسه كله، ويبقى بحبيبه، "فبي يسمع، وبي يبصر".
القلب بيت الرب:
وفي الإسرائيليات يقول الله: "ما وسعني سمواتي ولا أرضي، ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن"(2). فمتى كان القلب فيه غير الله، فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى.
الحق -تعالى- غيور، يغار عَلَى عبده المؤمن من أن يسكن في قلبه سواه،
(1) أخرج ذلك البيهقي في الدلائل (2/ 524 - 525) من طريق ابن إسحاق، وذكر ذلك ابن هشام في السيرة (2/ 146 - 147) دون إسناد.
(2)
انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (18/ 122) فقد ذكر أن هذا الحديث من الإسرائيليات.
وأن يكون فيه شيء لا يرضاه.
أردناكموا صِرْفًا فلما مَزَجْتُم
…
بعُدْتُم بمقدار التفاتكموا عنَّا
وقلنا لكم لا تُسْكِنُوا غَيْرَنَا
…
فأسْكَنْتُمُوا الأغيار ما أنتموا مِنَّا
***