الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
كان القرن الثامن الهجرى من أخصب العصور الإسلامية فى المؤلفات التاريخية. فقد ظهر فيه عدد كبير من المؤرخين، تركوا آثارا تاريخيّة مهمّة. وكانت الكثرة من هؤلاء، من رجال الحديث الذين جمعوا بين الحديث والفقه ونقد الرجال، وبين التأريخ بمفهومه عند المسلمين. كالقطب اليونينى (726 هـ-1326 م)، والبرزالى (739 هـ-1339 م)، وابن الجزرى (739 هـ-1339 م)، والذهبى (748 هـ-1348 م)، والحسينى (765 هـ-1364 م)، والسبكى (771 هـ-1370 م)، وابن كثير (774 هـ-1373 م)، وابن رافع (774 هـ-1372 م)، وابن رجب الحنبلى (795 هـ-1392 م). وعرف فريق جمع بين الأدب والتأريخ كالصلاح الصفدى (764 هـ-1363 م). وفريق ثالث كان من الورّاقين، كابن شاكر الكتبى (764 هـ-1363 م). وفريق رابع كان ممن يتّصلون بالدولة أو كانوا موظفين فيها أو أبناء موظفين، مثل بيبرس الدوادارى (725 هـ- 1325 م)، وأبى بكر ابن الدوادارى (بعد 736 هـ-1335 م). وقد امتازت كل فئة فى تآليفها التاريخية بميزة خاصة.
ومؤلف الجزء الذى ننشره هو من الفئة الأخيرة. وميزة هذه الفئة أنها كانت شهود عيان لكثير من الحوادث التى عاصرتها، وأتيح لها أن تطلع على خفايا أمور السياسة فى ذلك العصر، كما أنها عبّرت عن وجهات النظر الحكومية فى أحيان كثيرة. وعلى هذا فإن ما يتعلّق، من مؤلفاتها، بالعصر الذى عاشت فيه، هو على جانب كبير من الشأن. أما ما سبق عصرها فقيمته متعلقة بشأن المصادر التى استمدت منها، وطريقة الأخذ عنها.
ونحن لا ندرى الكثير عن مؤلّف هذا الجزء. ولولا كتبه التاريخية التى وصلت إلينا لما عرفنا عنه شيئا. إذ سكت عنه الذين ترجموا لعلماء القرن الثامن ورجاله، فى حين ترجموا للكثيرين غيره. وإذن فإن من الصعب أن نقدّم ترجمة واسعة له. ومن المؤسف أنه هو أيضا لم يتحدّث عن نفسه كثيرا فى تاريخه، وما وجدناه فى تاريخه قد يقدم له ترجمة صغيرة، ولكنها على كل حال ناقصة.
يذكر المؤلف فى عنوان تاريخه اسمه. وهو «أبو بكر بن عبد الله ابن أيبك صاحب صرخد» . ولنحاول أن نبحث أولا عن جدّه.
لقد بحثنا كثيرا عن ولاة صرخد، وهى بليدة فى حوران لها قلعة مشهورة، فوجدنا فيهم «أيبك صاحب صرخد، الاستادار المعظمى» . وكان هذا
توفى سنة 645 هـ. وهو بانى المدرسة العزيّة على الشرف الأعلى بدمشق.
وتذكر المصادر أنه توفى بصرخد، ثم نقل إلى مدرسته بدمشق. لكن مؤلفنا يذكر أن جدّه وجدّته مدفونان بأذرعات. فلعل جدّه أيبك آخر كان صاحب صرخد.
أما أبوه فيحدّثنا ابنه أنه سمّى بالدوادارى لأنه انتسب إلى خدمة الأمير سيف الدين بلبان الرومى الظاهرى. ويذكر ابن تغرى بردى أن بلبان هذا كان دوادارا عند الظاهر بيبرس الذى تولّى السلطنة سنة 658 هـ وظلّ إلى سنة وفاته سنة 676 هـ. وكان مقرّبا إليه مطلعا على أسراره، مدبّرا أمور القصّاد والجواسيس والمكاتبات. وتوفى سنة 680 هـ، أى بعد موت الظاهر بأربع سنين.
على أننا لا ندرى متى انتسب إلى خدمة بلبان.
ويحدثنا أبو بكر أنهم كانوا يسكنون فى القاهرة بحارة الباطلية.
وبهذه الحارة نشأ وربّى، فقد كان لأبيه سكن فيها.
ويحدثنا أيضا أنه فى سنة 699 هـ، ولّى أبوه أعمال الشرقية وإمرة العربان. فبقى فيها إحدى عشرة سنة، إلى سنة 710 هـ، فاستعفى فأعفى. وخيّره السلطان بين البقاء فى القاهرة أو الذهاب إلى الشام. فاختار الشام. فباع سكنه، ولم يكن لديه سواه، وتجهّز
بثمنه إلى الشام، ومعه ابنه المؤلف. وفى دمشق عيّن مهمندارا، والمهمندار هو الذى يستقبل الرسل والضيوف الواردين ويدبر أمورهم ويعنى بهم. ثم أضيف إليه شدّ الدواوين. فقبل العمل الجديد على كره، حتى واتت الفرصة فتخلّص منه. وبقى مهمندارا إلى سنة 713 هـ، عند ما مات، وهو يقوم بمهمة رسمية. فقد كان يفتش القلاع، وفى جولته مرّ بوادى الزرقا، من الأردن، قاصدا قلعة عجلون. فوقع من فوق فرسه، ومات. فحمل إلى أذرعات بحوران، ودفن قريبا من أبيه وأمّه.
وتدلّ اللهجة التى يتحدث المؤلف بها عن أبيه على أنه كان ذا شأن، وأنه شارك فى أمور هامة سياسيّة، تتعلّق بالناصر محمد بن قلاوون، وأنه كان مهابا، وكان أمينا، فقيرا، خلف بعد وفاته الكثير من الديون.
أما مؤلفنا فالغموض يحيط بحياته. لا ندرى متى ولد، وقد ذكر أنه نشأ وربى بحارة الباطلية بالقاهرة. ولما انتقل أبوه إلى دمشق، ذهب معه، وظل فيها إلى سنة وفاته (713 هـ)، ولا ندرى إذا كان بقى بدمشق أم عاد إلى القاهرة، وكذلك لا ندرى إن كان انتسب إلى خدمة الحكومة أم ظل بطّالا منعزلا، لكننا نرجح أنه كان ذا صلة
حسنة بالناصر محمد، فقد أشاد بذكره فى مقدمة تاريخه، وفى مقدمة الجزء التاسع منه خاصة، بل وضع تاريخه كله من أجله «فوضعت هذا التاريخ اللطيف مشرّفا بالاسم السلطانى الناصرى الشريف» ، ونرجح أيضا أنه انصرف عن أعمال الحكومة إلى تلقى الأدب والعلم «. . . استأنست بالخلاء عن الملاء، ووليت وجهى شطر الأئمة الفضلاء، وبسطت حجرى لالتقاط درر الشفاه، وجعلت ذلك دواء لقلبى وشفاه. . .» .
على أنه كان فى حال حياة أبيه يرافقه دائما، وكان يحضر المحادثات التى كانت تجرى بين أبيه ورجال الدولة. وقد نقل الكثير منها فى الثامن والتاسع من تاريخه. وكان يستمع إلى آراء الكبار والقوّاد، وكان يساعد أباه على عمله، وقد أنفذه مرّة إلى القاهرة، وهو فى دمشق، ليتخفى ويكتب له بما يجرى فيها من مؤآمرات.
ولكن العجيب أن لا يذكر أباه أحد من المؤرخين. إنّ من يقرأ الجزء التاسع والثامن من كنز الدرر يحسّ بأن الرجل كان ذا شأن.
وأنه أسهم فى الأمور السياسية إلى حد بعيد. فلماذا أغفل المقريزى وابن تغرى بردى وابن حجر ذكره، وقد ذكروا من هو أقل منه شأنا؟
ونستطيع أن نخلص إلى القول إن أبا بكر ابن الدوادارى كان من أسرة أفرادها من رجال الدولة الكبار-أبوه وجدّه-ونرجح
أنها كانت من حوران، أو تعيش فى حوران. فجدّه كان صاحب صرخد، وصرخد فى حوران، ودفن هو وزوجته فى أذرعات، وهى فى حوران وكان لأبيه قرية خسفين إقطاعا له، وهى فى حوران أيضا.
…
ولنتحدث عن شخصية ابن الدوادارى العلمية. يخبرنا فى مقدمة تاريخه الكبير «أنه اشتغل بفن الأدب، السامى القدر، العالى الرتب» ، وأنه تردّد إلى العلماء «. . . ووليت وجهى شطر الأئمة الفضلاء، وبسطت حجرى لالتقاط درر الشفاه. . . ورويت عن الفضلاء من مشارقها ومغاربها» .
على أننا لا نجد ذكرا فى تاريخه لهؤلاء العلماء والفضلاء الذين تردّد إليهم وروى عنهم. ونجده فى الجزء التاسع من تاريخه يتردّد على بعض المتصوّفة ويروى أخبارهم. كما نجده يزور الأديرة فى الوجه القبلى ويقرأ ما فى خزائنها. وهو يذكر من مصادر الجزء السادس «الكتاب القبطى الذى وجدته بالدير الأبيض بالوجه القبلى واستنسخت منه» وما ندرى إن كان يعرف القبطية، أو ترجم له ما فى الكتاب. وكذلك نراه يلتقط أو يقع على كثير من الكتب النادرة، مما يدل على شغفه بالعلم والقراءة.
هذا الشغف العلمىّ دفعه إلى التأليف. وهو يذكر فى الجزء التاسع بعض الكتب التى ألفّها. مثل:
1 -
أعيان الأمثال وأمثال الأعيان.
2 -
حدائق الأحداق، ودقائق الحذّاق.
3 -
عادات السادات، سادات العادات. فى مناقب الشيح أبى السعادات.
ولم تصل إلينا هذه المؤلفات.
4 -
تاريخ موجز اسمه درر التيجان.
5 -
تاريخ موسع اسمه كنز الدرر.
وقد وصلا إلينا.
6 -
ووعد فى الجزء السادس، أن يؤلّف بعد تكملة التاريخ الكبير، أى كنز الدرر، كتابا اسمه «الروضة الزاهرة فى خطط القاهرة» وما ندرى إن كان وضعه أم لا.
هذه التواليف تدلنا على أنه كان يعنى بالأدب والأخبار والتاريخ، ولم تصلنا كتبه الأدبية، والأغلب أنها كانت تقوم على الجمع. على أننا نحسّ، من ثنايا الجزء السادس، أنه كان يتذوّق الشعر، ويحسن انتقاءه. فهو يعلّق أحيانا على بعض الأشعار بعبارات جيدة، وهو ينتقى لبعض الشعراء مقطعات رائعة.
ولقد وصل إلينا التاريخان اللذان وضعهما. فلنتكلم عنه مؤرّخا، بالاستناد إليهما، وخاصة الجزء السادس والتاسع من تاريخه الكبير.
…
نلاحظ، فى تتبع كنز الدرر، أن ابن الدوادارى جمّاع فى الأجزاء التى سبقت عصره، مؤلّف فى الحوادث التى عاصرها ورآها.
ويقول فى مقدمته عن تاريخه: «. . انتخبته وانتقيته، وغربلته ونقّيته، من تواريخ رئيسة، وكتب نفيسة، فعاد كالحديقة المشرقة، ذات أشجار مورقة. . . ونوادر ملهية، ومضاحك هزلية، وملح شهيّة، ورقائق مبكية، وأهاجى منكية، ومدائح زكية، وحكايات مليحة،. . . فلما كملت مسوّداته، ونجزت آياته، ألفت كل واقعة فى زمانها، وماجرية فى أوانها، وأقمته تاريخا غريب المثال، كثير الحكم والأمثال.
ولخّصت من تواريخ الجمع ما ينزّه الناظر ويشنف السمع، يتضمّن من فوائد الجد، ونوادر الهزل، وفوائد النثر، وقلائد النظم ما يملأ البصر نورا، والقلب سرورا. . .
فنلاحظ أن ابن الدوادارى عمد بادئ بدء إلى «التقميش» أو «الجمع» ، وإلى «التلخيص» ، كما نلاحظ أن غايته فى تاريخه إرضاء القارئ
وتسليته، لذلك حشد فيه النوادر والمضاحك والملح والرقائق والأهاجى والمدائح والحكايات.
أما فى القسم الذى عاش فيه وأرّخه فنجده مؤرخا من الطراز الأول، كثير الملاحظة، يسوق أكثر ما يمكن من تفصيلات، وخاصة فيما رآه هو نفسه أو شارك فيه. وهو يقص، بحرارة وصدق، الحوادث التى رآها وأثرت فى نفسه. ولا شك أنه فى هذا القسم من أثمن المراجع التى يرجع إليها لتأريخ المماليك. غير أن أسلوبه عامى فيما ينشئه هو بنفسه، فى أغلب الأحايين: يستعمل اللغة العامية، وتراكيبها، وألفاظها، وقد يخلطها باللغة الفصحى، المسجوعة، مما حفظه من الكتب. فيأتى من ذلك أسلوب عجيب، يفصح مرة، ويسفل أخرى.
وقد ألّف تاريخين: الأوّل هو «كنز الدرر» ، والثانى «درر التيجان» . جعل الأول فى تسع مجلّدات، وهو يدخل فى إطار التواريخ العامة، منذ مبدإ الخليقة إلى عصر المؤلف. وقد جعل كل جزء يختص بدولة واختصّ كلّ جزء باسمين خاص وعام. ويعتقد أن عمله هذا لم يسبق إليه. فالاسمان الفرعيان الأولّ يتعلّق بفلك من أفلاك السماء التسع، والثانى يتعلّق بموضوع الكتاب. وإذ كان الاسم العام «كنز الدرر» فقد جعل عنوان الكتاب الفرعى الثانى درّة دائما.
لأن الكنز كله درر.
وها هى أسماء الأجزاء:
1 -
نزهة البشر من قسمة فلك القمر وهو:
الدرّة العليا فى أخبار بدوّ الدنيا
2 -
غلّة الوارد من قسمة فلك عطارد وهو:
الدرة اليتيمة فى أخبار الأمم القديمة
3 -
المشرّف بالقدرة من قسمة فلك الزهرة وهو:
الدر الثمين فى أخبار سيد المرسلين
4 -
بغية النفس من قسمة فلك الشمس وهو:
الدرة المسميّة فى أخبار الدولة الأموية
5 -
الذى كلّ سمع له مصيخ من قسمة المريخ وهو:
الدرة السنية فى أخبار الدولة العباسية
6 -
الفائق صحاح الجوهرى من قسمة فلك المشترى وهو:
الدرّة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية
7 -
شهد النحل من قسمة فلك زحل وهو:
الدر المطلوب فى أخبار دولة بنى أيوب
8 -
زهر المروج من قسمة فلك البروج وهو:
الدرة الزكية فى أخبار دولة الملوك التركية
9 -
الجوهر الأنفس من قسمة الفلك الأطلس وهو:
الدر الفاخر فى سيرة الملك الناصر
ويحدثنا أنه جمع مواده أولا وسوّده، ابتدأه سنة 709 هـ، أى قبل أن ينتقل إلى دمشق مع أبيه. ثم أخذ ينسخه ويبيّضه ويعيد النظر فيه جزءا جزءا.
وقد وقف فى حوادث تاريخه عند سنة 735 هـ. وفرغ من الجزء الآخر فى مستهل سنة ست وثلاثين. فيكون قضى فى جمعه وكتابته سبعا وعشرين سنة.
والتاريخ الثانى الذى ألفه ابن أيبك هو درر التيجان وغرر تواريخ الزمان. وهو تاريخ عام مختصر فى مجلد واحد. بدأه من زمن آدم، ثم تكلم على الأنبياء، وعلى عصر الجاهلية، وبدأ بذكر الحوادث منذ بدء الإسلام، سنة فسنة، وانتهى إلى سنة 710 هـ. وقد أضاف فيه إلى ذكر الحوادث تراجم الملوك والوزراء والعلماء والأدباء والشعراء والأطباء. بخلاف الأوّل، فقد جعله للحوادث والدول.
وقد وصل إلينا التاريخان، والأول بخط المؤلّف.
ونعتقد أن كل جزء من أجزاء التاريخ الكبير، يحتاج إلى دراسة خاصة ونقد داخلى.