الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: في حكايات حسان وأخبار ملوك وأعيان
قال أبو اسحاق: وقد جَمَعْتُ في هذا الباب جُمْلةً من حكاياتٍ مُسْتغرِبة، مُشْتَمِلَةٍ على أخْبار مُسْتَعْذَبَة، تَضَمَّنتْ مَحاسِنَ
أعْيانٍ وملوك، تَحَلَّتْ أزْمانُهُم منْ فَضائلهم بقلائدَ وسُلوك. عَمَروا أنْدية النَّشوة، وارتشفوا ثُغُورَ
الأماني عَذْبَةً حُلْوة، في عزٍّ مُتَّصل الإقبالِ، وسعْدٍ مُبينِ الأسْبابِ والحِبال، وقمَعُوا الطُّغاة والعِدى،
وأحْيَوا ماماتَ منَ البذْلِ، والنَّدى، وتشَمَّروا نحو الوَغى، وأَظْهَروا سَنَنَ الهُدى، واسْتَرخصوا الحمْدَ
بالثَّمنِ الغالي، ونالوا العُلى والمَعالي. ففي تِلْكَ الشيم والشمائل يَحْسُنُ قوْلُ القائل:
يا أيها التالي كتاب محاسن
…
هو ذلك القصصُ المُعَلَّى فاقصُصِ
وكان للأدب في أيامهم نَفَاقٌ، ولأهله رواء وإشراق، أنا لوهم المبرة والإكرام، وأفاضوا عليهم سوابغ
النعم والإنعام، وقلدوهم بعض الأمور، فأقاموا في أوانهم في ثروة برّ وحبور، فنظموا أسلاك القريض
من مدائحهم، ونشر مفاخرهم، ودوّنوا حسن سيَرهم وآثارهم.
حكى الوزير الكاتب أبو المغيرة بن حزم عن نفسه. قال:
نادمت المنصور بن أبي عامر في منية
السرور الجامعة بين روضة وغديرِ، فلمّا تَضمخَ النّهار بزعفران العشيّ، ورفرف غراب الليل
الدَّجوجي، وأسبل الليل جنحه، وتقلّد السماك رمحه، وهمّ النسر بالطيران، وعام في بحر الأفق زورق
الدَّبَران، أَوْ قَدْنا مصابيح الراحِ واشْتمَلْنا مُلَاء الارْتِياح، وللدَّجْنِ فَوْقَنا رِواقٌ مَضْروب، غنَّتْنا عنْدَ
ذلك جاريةٌ منْ جواريه تُسَمَّى أنس القلوب:
قدمَ الليْلُ عند سيرِ النَّهار
…
وبدَ البدْرُ مِثْلَ نصف سِوارِ
فكَأن النَّهار صفْحةُ خَدٍّ
…
وكأنَّ الظلام خَطُّ عذارِ
وكَأنَّ الكؤوس جامدُ ماءٍ
…
وكأنّ المُدامَ ذائبُ نارِ
نظري قد جنى عليّ ذنوباً
…
كيف مما جنته عيني اعتذاري
يَالَقَوْمِي تعجّبوا منْ غزالٍ
…
جائر في محبتي وهو جاري
ليت لو كان لي إليه سبيلٌ
…
فأقضيَ من حبِّه أوْ طاري
قال: فَلَمّا أكْملت الغناء، أحْسسْت بالمعنى فقلت:
كيف كيف الوصول للأقمار
…
بين سُمر القنا وبيض الشفارِ
لو علمنا بأنّ حبك حقٌّ
…
لطلبنا الحياة منك بثارِ
وإذا ما الكرام همّوا بشىءٍ
…
خاطَروا بالنُّفوسِ في الأخْطار
قال: فعند ذلك بادر المنصور إلى حُسامه، وغلّظَ في كلامه، وقال لها، قولي واصدقي إلى منْ
تُشيرين بهذا الحنين والتشوق. فقالت الجارية: إنْ كان الكذبُ أنْجى فالصدقُ أولى وأحرى. والله ما
كانت إلاّ نظرةٌ ولَدتْ في القلب فكرة فتكلم الحُبُّ على لساني، وبرَّح الوَجْدُ بكتماني، والعَفْوُ مضمونٌ
عنكَ عند المقدرة، والصَّفح معلومٌ منك عند المعذرة، ثم بكت، فكأنَّ دمعها دُرٌّ تناثر منْ عِقْدٍ، أوطلٌّ
تساقط منْ وردٍ، وأنْشدَتْ:
أذنبتُ ذنْبا عظيما
…
فكيف منه اعتذاري
والله قدّر هذا
…
ولم يكن باختياري
والعفو أحسن شيءٍ
…
يكونُ عند اقتِدارِ
قال: فعند ذلك صرف المنصور وجه الغضب إليَّ، وسلَّ سيفَ السَُّخْط عليَّ. فقلتُ: أيَّدَكَ الله، إنَّما
كانت هَفْوَةٌ جَرّها القَدرُ، وصَفْوةٌ ولَّدها النَّظر، وليسَ للمرءِ إلاّ ما قُدِّرَ لَهُ لا ما اخْتارَهُ وأمَّلهُ. فأطْرَقَ
المنصورُ قليلا، ثمَّ عَفا وصَفَحَ، وتجاوزَ عَنّا وسَمح، وخَلّى سبيلي، فَسَكنَ وجيبُ قَلْبي وغليلي،
ووهَبَ الجارية لي، فَبِتْنا بأنْعَمِ ليْلةٍ وسَحَبْنا فيها للصَّبا ذَيْله، فلَمَّا شَمَّرَ الليْلُ غدائرهُ، وسلَّ الفجْرُ
بَواتِره، وتجاوبت الأطْيارُ بضروب الألحان، في أعالي الأغصان، انصرفت بالجارية إلى منزلي،
وتكامل سُرُوري وجَذَلي.
قول الجارية:
وبدا البدْرُ مثْلَ نصفِ سِوار
من قول الأمير تميم بن المعز:
وانْجَلى الغيْمُ عن هِلالٍ تَبَدَّى
…
في يدِ الأُفْقِ مثل َنصفِ سِوارِ
وقول أبي المغيرة:
وإذا ما الكرام همّوا بشيء
البيت.
أخذه ابن الزقاق فقال:
وأحمدُ النَّاسِ في الصَّبابةِ مَنْ
…
جُلُّ أمانيه في غَوَائِلِهِ
وأول هذه الأبيات:
أقبَل يختال في غَلائلِهْ
…
ويشْتكي الظُّلْمَ منْ خَلاخِلِهْ
مُهَفْهَفُ الخصرِ غيرُ مُفْعمه
…
مُطَوَّقُ الجيدِ غيرُ عاطِله
يحملُ زهر النجومِ وَهْوَ رَشاً
…
مَنابِتُ الزَّهْرِ منْ خَمائلِه
تتَبَعُهُ الريحُ حيثُ سارَ وقَدْ
…
هامَتْ بِرَيّاهُ أوْ شَمائله
فتَلْثِمُ التُّرْبَ منْ مَواطِئِهِ
…
أوْ أثر المِسْك منْ ذَلاذِلِه
بتُّ به ليتني قَتِيلُ هوىً
…
لا يتمنى بغيرِ قاتِلِهِ
(وأحمد الناس) البيت. وقول الجارية في القطعة الثانية: (والعفو أحسن شيء)، معناه واضح.
ومنه قول أبي يحيى بن صمادح:
مالي وللبَدْرِ لم يَسْمَح برُؤيتِه
…
لعَلَّه تَركَ الإجْمال أوْ هَجَرا
إنْ كانَ ذلكَ لِذنب ما شَعرْتُ به
…
فَأكْرَمُ النَّاسِ منْ يَعْفُو إذا قَدَرا
وفي العفو قالت الحكماء: (أولى الناس بالعفوِ أقدَرُهم عليه).
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (ما قُرنَ شيءٌ إلى شيء أفْضل منْ حِلْمٍ إلي عقْل، ومنْ عفوٍ
إلى قُدْرَة).
وقال رجل مُذْنب للمنصور، وقد سَخِط عليه: ذَنْبي أعظمُ من نِقْمتِك عليَّ، وعَفْوكَ أعْظمُ منْ ذَنْبي،
فَرَضي عنهُ.
وقال له رجل آخر، قد استوجَبَ العقاب، وهو قد مثُلَ بين يديه: الإنتقامٍ عدْلٌ، والتَّجاوُزُ فَضْلٌ،
ونحنَ نُعيذ أمير المومنين بالله، أنْ يرضى لنفسه بأوْكَسِ النَّصِيبَيْن، دُون أنْ يَبلُغَ أرْفَع الدَّرَجَتَين.
وقال له آخر في المعنى: إنْ عاقبتَ جَزيتَ، وإن عفوتَ أحسنْتَ.
والعَفوُ أقربُ للتقوى.
ونظم الشاعر هذا المعنى فقال:
فإن كنت ترجو في العقوبة راحةً
…
فلا تَزْهَدَنْ عند المعافاة في الأجر
وقال الآخر أيضا في المعنى:
إن كان جُرْمي قدْ أحاطَ بِحُرْمتي
…
فأحِطْ بِجُرْمي عفوكَ المأمولا
ومن أناشيد أبي عبد الله محمد بن الحسين النيسابوري في كتاب (أدب الصُّحْبة).
قال: أنشدني ابن أبي زائدة عن أبيه المنصور:
أذنَبتُ ذنْبا عظيماً
…
وأنتَ أعْظَمُ منهُ
فجُدْ بِحِلْمِكَ أوْلا
…
فاصفح بعَفْوكَ عنْه
إنْ لم أكن في فعالي
…
منَ الكرامِ فَكُنْهُ
وأنشد فيه أيضا:
هَبْني أَسَأتُ كما تَقُو
…
لُ فأيْنَ عاقِبَةُ الأخوَّهْ
إذا أسأتُ كما أسأ
…
تَ فأيْنَ فَضلُكَ والمروَّّهْ
وأنشد فيه أيضا:
قيل لي قدْ أسا إليكَ فُلانٌ
…
وَمُقامُ الفَتى على الذُّلِّ عارُ
قلْتُ قدْ جاءنا وأحدث عُذْراً
…
ديَّةُ الذَّنْبِ عندنا الإِعْتِذَارُ
وأنشد فيه أيضا:
اِقبلْ معاذِير منْ يَأتيكَ مُعْتَذِرا
…
إنْ بَرَّ عندكَ فيما قال أوْ فَجَرا
لقد أطاعكَ منْ أرْضاكَ ظاهِرُه
…
وقدْ أجَلَّكَ منْ يَعْصيكَ مُسْتَتِرا
ولمَّا أسر معاوية جميل بن كعب ومثل بين يديه قال: الحمد لله الذي أمكنني منك. ألست القائل يوم
الجمل:
أصْبحَتِ الأمّة في أمر عَجَبْ
…
والمُلْكُ مَجْمُوعٌ غَداً لمن غلبْ
فقلتُ قولا صادِقا غير كذبْ
…
إنَّ غدا تهلك أعلام العَرَبْ
قال: لا تَقُلْ ذلك فإنَّها مُصيبة. قال له معاوية: وأيُّ نِعْمةٍ أكبرُمنْ أنْ يكونَ الله قد أمْكنَني منْ رَجُل،
وأظْفَرَني بِرَجُل قتل في ساعةٍ واحدةِ عدّةً منْ حُماةِ أصْحابي. آضربوا عنُقَهُ. فقال: اللهُمَّ اشهد أنَّ
معاوية لم يَقتلني فيك ولا لأنَّكَ ترْضى قَتْلي على حُطامِ الدنيا؛ فإنْ فَعَلَ فافعل به ما هُوَ أهله؛ وإن لمْ
يفعل، فافعَلْ بهِ ما أنتَ أهْلُه. فقال معاوية: قاتلك الله لقد سببْتَ فأبْلَغْتَ في السَّبِّ، ودَعَوتَ فبالَغْتَ في
الدُّعاء. ثم أمر به فأطلق.
وتمثل معاوية بأبيات للنعمان بن المنذر ولم يقل النعمان غيرها فيما ذكر ابن الكلبي وهي:
تعْفو الملوكُ عنِ الجَلي
…
لِ من الذُّنوب لِفَضْلها
ولقدْ تُعاقِبُ في اليسي
…
ر وليس ذاكَ لِجَهْلِها
الا ليعرف فضلها
…
وَيُخَافَ شِدّةَ نَكْلِها
وما أحسن قَوْلَ يحيى بن المبارك العدوي القارئ المعروف باليزيدي في هذا المعنى يعتذر للمأمون:
أنا المذنب الخَطَّاءُ والعفوُ واسعٌ
…
ولو لمْ يكن ذنبٌ لما عُرِفَ العفوُ
سَكرْتُ فأبْدَتْ مِنِّي الكأسُ بعض ما
…
كرهت وما إنْ يسْتَوي السُّكرُ وَالصَّحوُ
تنَصَّلْتُ منْ ذَنْبي تَنُصُلَ ضارِعٍ
…
إلى من لديه يُغْفَر العمْدُ والسَّهوُ
فإنْ تعفُ عنِّي كان خَطْوِيَ واسعا
…
وإنْ لم يكن عفْوٌ فقد قَصُرَ الخَطْوُ
ولما أدخل إبراهيم المهدي على المأمون وهو في زيِّ امرأة ومعه، امرأتان، قال له المأمون: هيه يا
إبراهيم. فقال: يا أمير المومنين، وليُّ الثأر محَكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومنْ ناوَلهُ
الزمانُ فاستولى عليه الاغترار بما مدّ له في أسباب الشقاء، أمكنَ عاديةَ الدَّهر من نفسه، وقد جعلك
الله فوق كلِّ ذي ذنب، كما جعل كلَّ ذي ذنبٍ دونك، فإنْ تُعاقِبْ فبِحَقِّك، وإنْ تعفُ فبفضلكَ.
قال المأمون: بل العفوُ يا إبراهيم فكبَّرَ ثُمَّ خَرَّ ساجِدا. فأمر المأمون بِالمقَنَّعَة فصيرتَ على صدره
ليَرى النَّاس الحالَ التي أُخِذَ عليها. ثم قال إبراهيم بعد ذلك قصيدة يشكر فيها للمأمون صنعه به.
يقول فيها:
إنَّ الذي قسمَ المكارم كلها
…
منْ صُلْب آدم للإمام الشافعِ
جمعَ القُلُوب عليكَ جامع أهلها
…
وحوى وِدادَك كلّ خير جامع
فبَذلت أعظم ما يقوم بحمله
…
وَسْعَ النفوس من الفِعَالِ البارع
وعفوتَ عمَّنْ لم يكنْ عنْ مثلِه
…
عفوٌ ولمْ يَشْفعْ إليكَ بِشافِعِ
قول المأمون: (هيه يا إبراهيم) هي كلمة يُسْتفهم بها من أراد أنْ يشار عليه برأي، أو أمر، وهي
مبنية على السكون. وقد تكلم بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال يعقوب: تقول للرجل، إذا استزدته من عمل أو حديث: إيهِ. فإن وصلت قلت: إيهٍ حدِّثْنا. يعني:
إيهٍ بالتَّنوين. وقال ذو الرمة:
وقفنا فَقُلنا إيه عن أُمِّ سالِمٍ
…
وما بالُ تكْليمِ الدِّيارِ البَلاقِعِ
فجاء بغيرِ تنْوين في الأصل لأنه نوى الوقف. وإذا أسكتَّه أو كفَفْته أو أغريته بالشيء قلت: إيهاً يا
فلان، فإذا تعجَّبت من حسن الشيء أو من طيبه: واهاً له ما أطيبه.
قال أبو النجم:
واهاً لِرَيَّا ثمَّ واهاً واهاً
ثم قال أبو النجم:
واها لِسَلْمَى ثم واها وَاها
…
هيَ المنى لو أننا قلناها
يا ليت عيناها لَنا وفاها
…
بِثَمَنٍ رَضِي به أباها
وكُلُّها على لفظ واحد، في الواحد والاثنين والحمع والتأنيث. قاله أبو حاتم وغيره.
وقول إبراهيم (أمكن عادية الدهر من نفسه). عاديةُ الدَّهر: شَيء يُقال له: كُفَّ عَنَّا يا فُلان عَاديتك،
وهُو ما عَداكَ منَ المَكْروه. قال أبو تمام:
مالي بِعاديةِ الأيامِ منْ قبَلِ
…
لم يَثْن قَيْدُ النوى كَيْدي ولا حِيَلِي
والعادية شُغْلٌ من أَشْغالِ الدَّهْرِ يَعْدُوكَ منْ أمرٍ؛ أي يَشْغَلك. قال علقمة:
تُكَلِّفُني لَيْلَى وقدْ شَطَّ وَلْيُها
…
وَعادَتْ عَوادٍ بيْننا وخُطُوبُ
أرادَ فاعلت، فحذف الألف لا لتقاء الساكنين، فلذاك قال عوادٍ. ولولا ذلك لقال عَوائد.
وقال زهير:
فصرِّم حَبلَها إذ صَرَّمَتْهُ
…
وعادكَ أن تُلَاقِيَهَا عَدَاءُ
أي شغل. ويروى: (وعادى أن تلاقيها).
ودخل إبراهيم بن المهدي يوماً علي المأمون بعدَ مُدَّةٍ منَ الظَّفَربه، وللْعَفْو عنه، فقال له المأمون: إنَّ
هذين قدْ حمَلاني علي قَتْلك. وأشارَ إلى المُعْتَصِمِ وإلي العباس بن المأمون. فقال: ياأمير المُومنين ما
أشارَا عليك إلاّ بما يُشارُ به على قَتْلك ولكن تدع ما تخافُ بما ترجو.
وأنشد:
ردَدتَ مالِيِ ولم تَبْخلْ عليَّ بهِ
…
وقَبْل ردِّكَ مالي قد حَقَنْتَ دَمي
فَبُؤْتُ منكَ وما كافَيْتُها بِيَدٍ
…
هُما حَياتانِ من موْتٍ ومنْ عَدمِ
البِرُّ بِي مِنْكَ وَطَّا العذر عندك
…
لي فيما أتيت فلم تُعْذَرْ، ولم تُلَم
وقام عِلْمُكَ بي فاحتجّ عندك لي
…
مَقام شاهدِ عدْلٍ غير مُتَّهم
وقرأت هذه الأبيات في (النوادر) على خلاف هذه الحكاية، وهي:
رَدَدْت مالي ولم تَبْخل عليَّ به
…
وقبل ردِّك مالي قد حَقنْتَ دمي
فأبْتُ منك وما كافأتها بيدٍ
…
هُما الحياتان من وفر ومن عَدَمِ
وقام عِلْمُك بي فاحْتجَّ عندكَ لي
…
مَقامَ شاهدِ عدلٍ غير مُتَّهمِ
فلو بَذَلْتُ دمي أبْغي رضاكَ به
…
والمال حتى أسلّ النعل من قَدَمِي
ما كان ذاك سوى عارية رجعت
…
اليك لوْ لم تَهَبْها كنتَ لم تُلَمِ
ومما اعتذر به أبو الوليد بن زيدون إلى ابن جهور فصل يقول فيه.
يامَوْلايَ الذي وِدَادِي لهُ، واعْتِدادي به، واعْتِمادي عليه، أبْقاكَ الله ماضي حد الغرار، وَارِي زَنْدِ
الأمل، ثابث عهد النعمة، إنْ سَلَبْتني - أعزك الله - لِباس إنْعامك، وعَطَّلْتني منْ حَلْي إيناسك،
وغَضَضْتَ مِنِّي طرْفَ حمَايَتِك، بعدَ أن نظر الأعمي إلي تأميلي لك، وسمِعَ الأصَمّ ثنائي عليك،
وأحسَّ الجَمَادِي بإسْنادي إليك. فلا غرْو، فقد يَغَصُّ بالماء شَارِبُه، ويقتُلُ الدَّواءُ المشْتَفى به، (ويُؤْتى
الحذرُ منْ مأْمَنه)، وإنِّي لأتَجَلَّدُ فأَقُول: هلْ أنا إلاّ يَدٌ ادْماها سوارُها، وجَبينٌ عَضَّهُ إكليله، ومَشْرَفِيٌّ
ألْصَقَهُ بالأرْضِ صاقِلُه، وسَمْهريٌّ عرِضَهُ على النَّارِ مُثْنِيه. (والغيثُ مَحْمُودٌ عواقِبُه)، والنَّبْوَةُ
غمْرَةٌ ثمَّ تنْجَلي، والنَّكْبَةُ:(سَحابَةُ صيفٍ عنْ قريب َتقَشَّعُ) وسيدي إنْ أَبْطَأَ مَعْذورٌ:
وإنْ يَكُنِ الفِعْلُ الذي شاءَ واحِداً
…
فأَفْعالُهُ التي تَرُوقُ أُلُوفُ
فيا ليتَ شِعْري ما الذَّنْبُ الذي أذْنَبْت، ولم يَسَعْهُ عفوك، ولسْتُ أخْلُو منْ أنْ أكونَ بريئا. فأيْنَ العَدْلُ؟
أوْ مُسيئا فأيْنَ الفَضلُ؟ لوْ أنَّني أُمِرْتُ بالسُّجودِ لآدَم فأبَيْتُ، وعَكَفْتُ على العِجْلِ، واعْتَدَيْتُ في
السَّبْت، وتَعاطيّتُ فَعَقَرْتُ، وشربتُ منَ النهرِ الذي ابْتلى به جُنودُ طالُوت، وقُدْتُ الفيل لأبرهة،
وعاهدتُ قُريشاً على ما في الصَّحيفَة، وتَأَوَّلْتُ في بيعَةِ العَقَبة، ونَفَرْتُ إلى العِيرِ بِبَدْر، وانْعَزَلْتُ
لِثُلُث الناسِ يومَ أُحُد، وتَخَلَّفْتُ عنْ صلاةِ العصرِ في بني قريظَة
وأَنِفْتُ منْ إمارةِ أسامة، وزعَمْتُ أنَّ خِلافَةَ الِّدين فَلْتَة ورَويْتُ رُمْحي منْ كَتيبَةِ خالد) وضَحَّيْتُ بالأشْمَطِ الذي عُنْوانُ السَّجود به، لكانَ فيما
جَرى عليَّ ما يَسُومُني نَكَالا، ويَدَعُني ولوْ على المجازِ عقالا:
وَحَسبُك منْ حادثٍ بامْرئٍ
…
يَرى حاسِديهِ لهُ راحِيمنا
فكيفَ ولا ذَنْبَ لي إلاّ نَميمَةٌ أهْداها كاشِحٌ، ونَبَأٌ جاءَ به فاسِقٌ. ووالله ما غَشَشْتُكَ بعْدَ النَّصيحة، ولا
انْحرفت عنْكَ بعْدَ الصَّاغية. ففيمَ عبَثَ الجفاءُ بأَذِمَّتي؟ وعاثَ في مَوَدَّتي؟ وإنَّي غَلَبَني المُغَلَّب، وفَخَرَ
عليَّ الضعيف (ولَطَمني غيْرُ ذاتِ السِّوار) ومالكَ لا تَمْنَعُني قبلَ أنْ أُفْتَرَس، وتُدْرِكُني ولمَّا أُمزَّق.
وقدْ زانني اسْمُ خِدْمتِك، وأَبْلَيْتُ الجميلَ في سماطِك، وقُمْتُ المَقامَ المَحْمود على بِساطِك:
أَلَسْتُ المُوالي فيكَ نَظم قصائدٍ
…
هيَ الأنْجُمُ اقْتادَتْ معَ اللَّيْلِ أنْجمَا
والفضْلُ كثير، وقَدْ جِئْتُ منهُ باليَسير.
والعَفْوُ عن المُذْنِبِ: ترْكُ عُقُوبَتِه.
وأصْلُ العفو في اللغة هو ما سَهُلَ وزادَ. وفي كتاب الله تعالى (فمن عُفِيَ له من أخيه شيء) أي
يَسَّرَ. وفيه (ويَسْأَلونك ماذا يُنْفِقون قُل العفْو) أي ما فَضُلَ وزادَ.
قال أبو اسحاق:
وذَكرتُ بحكاية أبي المغيرة، حكايةً قَرَأْتُها في النَّوادر
لأبي علي البغدادي، حذتْ في المطرف حَذْوَها، وزهت بالإغْراب زهوها.
حَدَّثَ أبو علي بسند عن منصور البرمكي قال: كان لهارون الرشيد جاريةٌ غُلامية، يعني وصيفَةً في
قدِّ الغُلام، وكانَ المأمون يَميلُ إليْها، وهو إذ ذاك أمْرد، فَوَقَفَتْ يوما تَصُبُّ على يَدِ الرَّشيد منْ إبريقٍ
معها، والمامون جالسٌ خلفَ الرشيد، فأشار إليها يُقَبِّلها، فأنْكَرتْ ذلكَ بِعَيْنِها، وأَبْطَأتْ في الصَّبِّ،
على قدْرِ نظَرِها إلى المأمون واشارتها إليه. فقال الرَّشيد: ماهذا. ضعي الإبْريق من يدك. ففعلتْ.
فقال: والله لَئِنْ لمْ تُصدقيني لأقْتلنك. فقالت: ياسيِّدي أشار
إِلَيَّ عبد الله كأنّه يُقبلني فأنكرتُ ذلك، فالتفَتَ إلى المأمون فنظر إليه كأنه مَيْتٌ لما دَخَله من الجزع والخجل،
فرحِمهُ وضمَّه إليه وقال: يا عبد الله أتُحِبُّها؟ قال: نعَمْ يا أمير المومنين. قال: هي لكَ قُمْ، فادْخُلْ بها في تلك القُبَّة. ففعل، ثم قال
له: هل قلت في هذا الأمر شيْئا. قال: نعم يا سيدي، ثم أنشده:
ظَبْيٌ كتبتُ بِطرْفي
…
من الضَّمير إليه
قَبَّلْتُه منْ بَعيدٍ
…
فاعتلَّ من شفتيه
ورَدَّ أَخْبَثَ ردٍّ
…
حتَّى قَدَرْتُ عليه
وفي هذا المعنى يقول أحد البلغاء: (اللَّحْظُ يُعْربُ عن اللفْظ) وقال الآخر: (رُبَّ كِنايَةٍ تُغْني عنْ
إيضاح) (ورُبَّ لحظٍ يدُلّ على ضمير). ونظمه الشاعر، فقال:
جَعَلْنا علاماتِ المَوَدَّة بيننا
…
دَقائقَ لحْظٍ هُنَّ أَخْفَى من السِّحْرِ
فأعْرِفُ منها الوَصل في لين لَحْظِها
…
وَأَعْرِفُ منها الهَجْرَ بالنَّظَرِ الشَّزْرِ
ومثل هذا قول بعض الحكماء: (والعينُ بابُ القلبِ). فما كان في القلْبِ ظَهَرَ في العين. وقال
الشاعر:
العينُ تُبْدي الذي في نَفْسِ صاحبها
…
منَ المحبَّةِأوْ بُغض إذا كانا
والعينُ تَنطقُ والأفْواهُ صامتةٌ
…
حتَّى ترى منْ ضميرِ القلْب تِبْيانا
وقال محمود الوراق:
وإذا تلاحظت العيونُ وأومأتْ
…
وتحدثت عَمَّا تجِنُّ قُلُوبُها
يَنْطِقْنَ والأفواه صامتَةٌ فما
…
يخفى عليك بَريئها أوْ مُريبُها
وقرأت في (النوادر) لأبي علي قول إبراهيم بن المهدي في المعنى:
إذا كَلَّمتني بالعُيُون الفواتر
…
ردَدْتُ عليها بالدُّموعِ البَوادرِ
فلَمْ يعلم الواشون ما دار بيْننا
…
وقد قُضيَتْ حَاجَاتُنا بالضمائر
ومثل هذا قول الأمير تميم:
سُبْحانَ مَنْ خَلَقَ الخُدو
…
دَ شَقَائقا تَتَبَسَّمُ
وأعارها الألحاظ فَه
…
يَ بِلَحْظِها تتَكَلَّم
ومثله قول الآخر أيضا:
أشارتْ بِلَحْظ العينِ خِيفَةَ أهْلِها
…
إشارةَ مَذْعُورٍ ولم تتكَلّمِ
فَأيْقَنْتُ أنَّ اللَّحظَ قد قال مرْحبا
…
وأهلا وسهلا بالحبيب المتيَّمِ
ومثله قول الآخر أيضا:
أشارَتْ بعيْنها إشارة خائفٍ
…
إلَيَّ حَذَارَِ الكاشحين فسلَّمتْ
فردَّ عليها الطَّرْفُ منِّي سلامها
…
وأوْمَأ اليها بالهوى فتَبَسَّمت
وأنشَدني بعض الأدباء في المعنى:
إذا نحنُ خِفْنا الكاشحينَ ولَمْ نُطِقْ
…
كَلاماً تَكَلَّمْنا بأعْيُننا سِرّا
فنقضي ولمْ يَعْلَمْ بِنا كل حاجة
…
ولم نَكْشِف البَلْوى ولم نَهْتِكِ السَّتْرا
وقال أبو نواس الحسن بن هانئ في المعنى:
وحَثْحَثَتْ كأسها مُقَرطَقَة
…
لوْ مُنِيَ الحُسْنُ ما تَعَدَّاها
تَجْمَع عيني وَعَيْنَهَا لُغَةٌ
…
مُخالفٌ لَفْظُها لمَعْناها
إذا اقْتَضاها طرْفي لها عِدَةً
…
عَرَفْتُ مَرْدودُها لِفَحْواهَا
يا لُغة تَسْجُدُ اللغاتُ لها
…
ألْغَزَها عاشِقٌ وعَمَّاها
وهذا المعنى مليح بليغ. أراد باللغة: اللحظ، لأنه كلام الأعين. ومعنى
البيت الذي من هذه القطعة، أي: أعيننا غضاب وقلوبنا راضية. فلذلك قال: (مخالف لفظها لمعناها).
وقوله (بفحواها) أي بظاهر أمرهما. يقال: عرفت فحوى كلامه وقال أبو تمام:
فحواكَ عينٌ على جَواكَ يا مَذِلُ
…
حَتَّى مَ لا يَتَقَضَّى قَولُكَ الخَطِلُ
ويجوز مده وقصره، قاله أبو علي في كتاب المقصور والممدود قال: وقال أبو زيد: سمعت من
العرب من يقول فَحَوَى بفتح الحاء. وهو مقصورُ لا يَجوز مده وحكى عن اللحياني: فُحَواء كلامه
بضم الفاء وفتح الحاء، والمدّ قال: وهذا نادر.
وقوله:
يا لغة تَسْجُدُ اللُّغاتُ لها
معنى السُّجود هنا: الخُضُوع والتذلل. ومنه قول الشاعر:
بِجَمْعٍ يظلُّ البُلْقُ في حجرَاتِه
…
تَرى الأُكْمَ منه سُجَّداً للحَوافِرِ
كأنه قال: مذللة للحوافر. والسَّجود أيضا خَفْضُ الرَّأْس على جهة التعظيم. ومنه قول الأعشى:
من يلقَ هَوْدَةَ يسجُدْ غيرَ مُتَّئِبٍ
…
إذا تَعَمَّمَ فوق الرأس واتَّضَعا
ومنه قوله تعالى وعز (وادْخُلوا البَابَ سُجَّداً) في أحد الأقوال، وقيل معناه: رُكَّعا عن ابن عباس
وغيره. وروى أن الباب جعل قصيرا ليدخلوه ركّعا فدخلوا مُتَورِّكين على أَسْتاهِهِمْ. والسُّجود
والخُضوع والتَذَلل نظائر في اللغة. والسُّجود في اسماء الدين معروف، وهو وضع الوجه على
الأرض. ومنه قول حميد بن ثور الهلالي:
فلمْ نُكذِّبْ وَخَرَرْنا سُجَّدا
…
نعْطي الزكاة ونُقيمُ المَسْجِدا
وقال صاحب العين سجدنا لله سجودا ويقال: سجَد يسجُد سجودا، وأسجد للسجاد إذا خفض رأسه من
غير وضع لجبهته. قال الشاعر:
فَكِلْتَاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رَأْسُها
…
كَما سَجَدتْ نَصْرانةٌ لم تُحَنَّفِ
وقرأت في كتاب (الأدب): (أسْجَدَ الرَّجلُ إذا طَأْطَأ، وسَجَدَ إذا وضعَ جَبْهَته بالأرض).
ومِمَّا جاء من السجود كناية عن الرُّكوع حديث عبد الله بن عمر فيما روى عن عبد الرحمان بن أبي
الزناد عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر انه كان يقول في صلاةِ الخوفِ: "يَقُومُ الإمام وتقوم
معه طائفةٌ، وتكون طائفةٌ بينهم وبين العدو، فيسجد سجدةً واحدةً بمن معه، ثم ينصرف الذين سجدوا
سجدة، فيكونون مكان أصحابهم الذين كانوا بينهم وبين العدو، وتقوم الطائفة الأخرى الذين لم يصلوا،
فيصلون مع الإمام سجدة ثم ينصرف الإمام، وتُصلي كلُّ واحدة من الطائفتين لأنفسهم سجدة سجدة،
فإن كان الخوف أكثر من ذلك فليصلوا قياما على أقدامهم، أو ركباناً علي ظهور الدوائب".
قال موسى بن هارون الطُّوسي: كُلُّ سَجْدَةِ في هذا الحديث فمعناها ركعة. سمعت أبا خيثمة يقول:
أهلُ الحجاز يسمون الركعة سَجْدة. ويقال نساءٌ سُجَّد؛ وهنَّ الفاترات الأعين ومنه قوله:
ولَهْوي إلى حُورِ المدامعِ سُجَّد
والإسْجادُ أيْضا: إدامَةُ النَّظرِ في فتورِ وسكون، وقيل له ذلك لأنه كفعل المتذلل. قال الشاعر وهو
كثير:
أغَرَّك منِّى أنَّ دَلَّكِ عنْدنا
…
وإسْجادَ عيْنيك الصَّيُودَيْن رابِحُ
وحكى أبو الوليد بن زيدون عن نفسه قال: كنت أيامَ شبابي وغمرة التَّصْباب، أهيمُ بغادة تُدْعى ولادة
فلمّا قُدِّر اللقاءُ، وساعد القضاء كتبت اليّ بهذين البيتين:
ترقَّبْ إذا جَنَّ الظلامُ زيارتي
…
فإني رأيْتُ الليل أَكتَمَ للسّرِّ
وبي منكَ ما لو كان بالبدْرِ ما بَدا
…
وبالليل ما أدْجَى وبالنجمِ لم يسْر
قال: فلمّا طوى النَّهارُ كافورَه، ونشرَ الليْلُ عنْبَرهُ، أقْبلتْ بقدٍّ كالقضيب، وَرِدْفٍ كالكثيب، وقد أطبقتْ
نرجِسَ المُقَل، على وردِ الخجل، وملنا عند ذلك إلى روض مُدَبَّج، وظلّ سَجْسج، قد قامت راياتُ
أشْجارهِ، وفاضتْ سلاسِلُ أنْهاره، وتفتحت كَمَائمُ أَزْهاره وتَأرَّجَت نفحاتُ نواره، ودرُّ الطَّلِّ منثورُ،
وَوَجيبُ الراح مزور. فلما ارتَشَفنا كُؤُوسها، وأَغْرَبَنا في الأفْواه بُدُورها وشُمُوسَها، وَشَبَبْنَا نارَها،
أدركت فيها ثارها، وَبرحَ كلُّ واحدٍ منَّا بِحُبِّه، وشَكا إليه ما بِقَلْبه، وبِتْنَا ليْلَتَنا نَجْني أُقْحُوان الثُّغور،
ونَقْطِفُ رُمَّانَ الصُّدور، فلمَّا شَمَّر الليلُ ذيلَهُ، وَجَيَّشَ الصبح خيْلهُ، وولّى الظلام منهزما، وأقبل ابن
ذُكاء مبْتَسما، ودنَتْ ساعَةُ الوداعِ صَباحا، عانَقْتُها وأنْشَدْتها ارتياحا:
ودَّع الصَّبْرَ محبّ ودَّعَكْ
…
ذائعا من سره ما استودعكْ
يقرع السنَّ على أنْ لم يكنْ
…
زاد في تلك الخطى إذْ شَيَّعكْ
يا أخا البدْرِ سناءً وسَنى
…
حَفِظَ الله زماناً أَطْلَعك
إِنْ يُطُلْ بَعْدَكَ لَيْلي فَلَكَمْ
…
بِتُّ أَشكُو قِصَرَ اللَّيلِ مَعَكْ
قوله: (إن يطل بعدك ليلي) البيت، ليس أبو الوليد اخترعه، وإنما ألمّ فيه
بقول جميل فاقتلعه وهو:
يطُول اليومُ إن شَحَطَتْ نَواها
…
وَحولٌ نلتقي فيه قصيرُ
ويروى: (يطول اليوم لاألقاك فيه). وهذا البيت جامع لِطَرفي الطول والقصر. ولا يزال الناس
يستقصرون أمد السرور وإن طالَ، ويستطيلون أَمَدَ المكروه وإن قَصُر.
ويحكى عن أبي حاتم العتبي انه قال: سمعت أعرابيا وذكر امرأته فقال: كاد الغزال يكونُها لوْلا ما
تَمَّ منها، ونقص منه، وما كانت أيامي معها إلا كَأَباهيم قطاً قِصَراً ثم طالت بعدهاشوقا اليها، فوا أسفا
عليها. قال: والعربُ تقولُ في هذا المثل: (مرَّ بنا يوْمٌ كعقرب قصراً) إذا مرَّ عليهم يوم سرور.
وألم فيه أبو الوليد أيضا بقول مهلهل:
فإنْ يَكُ بالذَّنائِبِ طالَ ليْلي
…
فقد أبْكي من الليْلِ القصيرِ
وأخذه بعض المتأخرين فقال:
يطول النهار لميعادها
…
ويقصر لي عند إسعادِها
وليلي إذا ما دنت لحظة
…
وما ينقضي عند ابعادها
وقد جمعه أبو العباس بن سيِّد في بيت واحد فقال:
فاللَّيلُ إنْ وَصَلَتْ كالليل إنْ هجرْتْ
…
أشكُو من الطَّولِ ما أشكو من القِصَرِ
ومنه قول عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
فيالك من ليل تقاصر طُولُهُ
…
وما كان لَيْلِي قبل ذلك يقصُرُ
والمقصود بهذا أن أيام السرور ولياليه قصيرة، وأيام الحزن ولياليه طويله، كما ذكرنا، ولذلك قال ذو
الرمة:
ولو شئتُ قَصَّرْتُ النَّهارَ بِطَفْلَةٍ
…
هَضِيمِ الحَشا بَرَّاقَةِ المتَبَسَّمِ
وأما حديث أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "يتقارب الزمان حتي تكون السنة
كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة" فذكر حجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة
قال: سألتُ أبا سِنان
عن معني هذا الحديث، فقال: ذلك من استذاذ العيش يكون. يريد،
والله أعلم، زمان خروج المهدي
وربوع الأَمَنَةِ في الأرض ببسطه العدل فيها.
وقرأت في النوادر قول علي بن بسام:
لاأظْلم الليل ولا أدَّعي
…
أنَّ نُجُومَ الليل ليست تَغُورُ
لَيْلي كما شاءتْ فإن لم تَجُدْ
…
طال وإنْ جَادَتْ فليْلي قصيرُ
وهذان البيتان منقولان من قول علي بن الخليل وهو:
لا أظْلم الليلَ ولا أدَّعي
…
أنّ نجومَ الليلِ ليْسَتْ تَزُولُ
لَيْلي كما شاءتْ قصيرٌ إذا
…
جَادَتْ وإنْ ضنَّتْ فَلَيْلي طويلُ
وأخذ هذا المعنى ابن خليل من قول يزيد بن عبد الملك بن مروان وهو:
لا أسألُ الله تَعْمِيداً لما صَنَعَتْ
…
نامَتْ وقد أسْهرتْ عينيَّ عَيْناها
فالليلُ أطولُ شيءٍ حينَ أفْقدُها
…
والليلُ أَقْصرُ شيء حين أَلْقاها
رجع لقول علي:
تصرّف الدهر على حُكْمِهَا
…
فَهْوَ على ما صَرَّفَتْهُ يدورُ
ومن هذا المعنى قول عبد الصمد في أبيات له:
ونحنُ ضجيعان في مَجْسَدٍ
…
فلِلَّهِ ما ضُمِّنَ المَجْسَدُ
فياليلة الوَصْل لا تَنْفَدِي
…
كما ليلة الهجر لا تَنْفَدُ
وأبلغ ماأذكر في طول الليل، قول علي بن العباس الرومي قرأته أيضا في (النوادر):
رُبَّ ليلٍ كأنه الدَّهرُ طُولا
…
قد تَنَاهَى فليسَ فيه مزيدُ
ذي نجومٌ كأنهنَّ نُجُومُ الشْ
…
شَيبِ ليستْ تزولُ لكن تزيد
ومثله قول أبي بكر محمد بن أحمد الغساني:
وليلٍ كفكري في صدود مُعذِّبي
…
وإلا كأنْفاسي عليه منَ الوَجْدِ
وإلاّ كعمر الهجر منه فإنه
…
إذا قسته بالوصف كانَ بلا حدٍّ
وقال أيضا:
أطال ليلي الصدود حتى
…
يَئستُ من غُرَّةِ الصَّباحِِ
كأنه إذْ دَجى غرابٌ
…
قد حصر الأرض بالجناحِ
ومثله قول الآخر:
ألا ياليل هل لكَ منْ براحِ
…
وهَل لأسير نَجْمِكَ من سَراحِ
ألا يا ليل طلت عليَّ حتَّى
…
كأنك قدْ خُلقت بلا صباحِ
وذكروا أن أبا الوليد بن زيدون كان شديد الكَلَف بولادة قد جَعَلَ حُبَّها وَمَواصلَتها شِعاره وعناده،
وهي ولادة ابنة محمد بن عبد الرحمان بن عبد الله بن عبد الرحمان الناصر المتسمى من الألقاب
السلطانية بالمستكفي بالله. بويع له بالخلافة بقرطبة يوم السبت لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع
عشرة وأربع مائة، وانقرضت مدة خلافته في جمادى الأخرى سنة ست عشرة، فيما ذكر أبو مروان
بن حيان. وكانت ولادة هذه من الأدب والظُّرفِ، والحَلاوَة واللُّطْفِ، واحدةَ نساء زمانها، وفذةَ وقتها
وأوانها، بحيث تخْتَلِس القلوب والألباب، وتُعيد الشيب إلي أخلاق الشباب، بِحُسنِ منظرٍ ومخْبر،
وعُذُوبَةِ موردٍ وَمَصْدرٍ، وجمالٍ فائقٍ في خَلْقها، وبراعة وذكاء في طبعها وخلقها، وكانَ
فِنَاؤُها بقرطبة منتدىً لأحْرار المِصْر، وأعيان ذلك العصر، وميدانا بجياد النظم والنثر. يعشو أهل الأدب
إلى ضوء غرّتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب علي خلافة عشرتها، إلى سُهُولة حِجابِها، وكثرة
مُنْتابها، تخلط ذلك من فعلها بعلُوِّ نصاب، وكرَمِ انتساب، وطَهارَة أثواب، وشرف أثْواب. والله تعالى
يسمح لها، ويغفر زَلَلَها، فلقد اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القولِ فيها السبيل، وذلك لِمُجاهَرتها
بِلَذَّاتِها، وقلة مبالاتها، وكانت قد رسمتْ على عاتقيْ ثوبها بيتين وهما:
أنا والله أصلُحُ للمعالي
…
وأمشي مِشْيَتِي وأتيهُ تِيهَا
وأُمْكِنُ عاشِقي من عَض نهْدٍ
…
وأُعْطي قُبْلتي منْ يَشْتَهِيها
قال أبو الحسن بن بسام: هكذا وجدتُ هذا الخبر، وأَبْرأُ إلى الله من عُهْدَة قائليه، وإلى الأدبِ من
غَلَطِ النَّقل إنْ كان وقع فيه.
قلت: وأنا أيضا أحْكيه عن ناقليه، ولا أعتمدُ على تصحيحه ولا أدَّعيه، فلأهْلِ النُّبل والفضل عن
هذا الخبر وأشباهه مناديح، وكمْ خَبَرِ حكيَ ودوِّن، وهُو غيرُ صحيح. ولولادة أخبارٌ يفوتُ إحْصاؤها
ويقلّ استقصاؤها، وكانت في ذكاء خاطرها، وكثْرة نوادرها، آية من آيات فاطِرِها. ذكروا أنها مرتْ
ذات يوم بالوزير أبي عامر ابن عبدوس وكان من أعيان المصر، في ذلك العصر،
وكان مِمَّنْ هذى باسمها، وتعرَّف على حكمها، وكانت أمامَ دارِه بركةٌ تتولدُ من الأمطار، وربما استمدتْ بشيء ومما
كان ثم من الأقذار، فمرتْ به، وهو قاعدّ قد نشرَ كميه، ونظر في عِطْفيه، وحسن أعوانه إليه، فقالت
له: أبا عامر:
أنتَ الخصيبُ وهذه مِصْرُ
…
فتَدَفَّقا فَكِلاكُما بحْرُ
وهذا البيت لأبي نواس من أبيات له في الخصيب والد ابراهيم عامل مصر. فتركته لا يحيرُ حرفاً،
ولا يَرُدُّ طرْفاً.
وطال عُمْرُها وعُمْرُ أبي عامر المذكور حتى أوفيا على الثمانين وهو لا يدعُ مُواصَلَتها، ولا يَغْفُلُ
مُراسَلتها، وتحيف الدهرُ المُسْتَطيلُ حالَ ولادة حتى لم يتْرُك لها شيئا من الوفْر إلا أبادَه. فكان أبو
عامر هذا يحمل كلها، ويرفعُ ظلها، على جَذْبِ واديه، ورُكود روائحه وغواديه، أثراً جميلا أبقاه،
وطَلقاً من الظَّرْف جرى إليه حتى استوفاه.
وأما أبو الوليد أحمد بن زيدون فعلمّ من أبناء العُلى، ومَحَاسِنُهُ مدى الأيام تُتْلى، وتُطَرّز بكلام الكتب
وتحلى، مرتبه في ذُرَى المجد، مُطْنَبٌ بالفخار، ومحْتده زاكي النِّجار، وأخباره مع الملوك مشهورة،
مروية في الكتب مسطورة، وحين هَمَّ بدره بالكمال، وأشْرَف علي احتفال الحال، تداركه حيْفُ
الزمن، فاعتقل وامتهن وحيل بينه وبين ولادة حتى يَئسَ من لقائها، أو أن يَنال نظره في محياها
بنكبة اشتدت بها حسراته، وتوقَّدت لها لَوْعاته وزفراتُه، فشجيت نفسه، وقَلَتْه الأيام كما (قَلَتْ صخْرا
سُلَيْمى عِرْسُهُ) فعند ذلك قال قصيدته الفريدة التي ضربت في الإبداع بأعلى سهم، وقصَّر عنها ابن
أوس
وابن الجهم، وعَجَزَ عن مثلها كلُّ ناظم وناثر، وفَتَنَتْ سمعَ كل أديب وشاعر، وأعْلَمَ فيها ولادة
باقامته على وُدِّها، وحفظ عهدها، وأولها:
بِنْتُم وبِنَّا فما ابْتلتْ جَوانِحُنا
…
شوْقا إليكمْ ولا جَفَّتْ مآقينا
يَكادُ حينَ تناجيكُم ضمائرُنا
…
يقضي علينا الأسى لولا تَأسينا
حالتْ لفقدكمُ أيامُنا فغدتْ
…
سُودا وكانت بكم بيضا ليالينا
إذْ جانِبُ العيش طَلْقٌُ من تَألُّفِنا
…
ومورد اللهو صافٍ من تصافينا
وإذْ هَصَرْنا غصون الأنس دانية
…
قُطوفُها فجنينا منه ما شينا
ليُسْقَ عهدُكم عهد السرور فما
…
كنتم لأرواحنا إلاّ رياحينا
من مبلغ الملبسينا بِانْتِزَاحِكمُ
…
حزنا مع الدّهر لا يَبْلَى ويُبْلينا
أنَّ الزَّمان الذي لا زال يُضْحِكُنا
…
أُنْسا بقربكم قد عاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا
…
بأن نَغَصَّ وقال الدهر آمينا
فانحل ما كان معقودا بأنفسنا
…
وانْبَثَّ ما كان موصولا بأيدينا
وقد يكون وَمَا يُخْشَى تَفَرُّقُنا
…
فاليوم َنحنُ وما يُرجى تلاقينا
لم نعتَقِدْ بعْدَكُم إلا الوفاء لكم
…
رأيا ولم نتقلد غيره دينا
لا تحسَبوا نأيكم عنا يُغَيِّرُنا
…
أنْ طالَما غيّر النَأيُ المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلا
…
منكم ولا انصرفتْ عنكم أمانينا
ولا استفدنا خليلا عنك يشغلنا
…
ولا اتخذنا بديلا منك يسلينا
يا ساري البرق عادِ القصر فاسْقِ به
…
من كان صرفَ الهَوى والوُدِّ يسقينا
ويا نسيمَ الصَّبابَلِّغْ تَحيتنا
…
منْ لوْعَلى البُعْدِ حَيَّا كانَ يُحيينا
يارَوضة طالما أجْنَتْ لَواحِظنا
…
وردا حَلاهُ الصِّبَا غضّا ونسْرينا
ويا حياةً تملَّيْنَا بِزَهْرِتها
…
مُنىً ضُرُوباًولذاتٍ أفانينا
لسْنا نُسَمِّيكَ إجْلالا وتكرمةً
…
وقدرك المعتلى عن ذاكَ يُغْنينا
إذا انفردتِ وما شوركت في صفة
…
فحسبُنا الوصف ايضاحا وتَبْيينا
يا جَنة الخلد ابدلنا بسلسلها
…
والكوثر العذْب زقُّوما وغسلينا
كأننالم نبت، والوصلُ ثالِثُنا
…
والسعدُ قد غضَّ من أجفان واشينا
سِرَّانِ في خاطر الظلماء تَكتمنا
…
حتى يكاد لسانُ الصبح يُفْشينا
لا غَرْوَ أنا ذكرنا الحزن حين نَأتْ
…
عنه النُّهى وتركنا الصبر ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً
…
مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أمَّا هَواك فلم نعْدِلْ بِمَنْهله
…
شُرْباً وإنْ كانَ يُرْوينا فيُظْمِئُنا
لم يَخْفَ أفق جمال أنت كوكبه
…
سالين عنه، ولم نهجره قالينا
نأسى عليك وقد حُثَّتْ مَشعشعة
…
فينا الشُّمُولُ وغنَّانا مُغنِّينا
لا أكْؤُسُ الراحِ تُبْدي منْ شمائلنا
…
سيمَا ارتياحٍ ولا الأوتارُ تُلْهينا
دومي على العهد مادمنا مُحافظةً
…
فالحرُ منْ دانَ إنْصافاً كمادينا
أَبْدِي وفاء وإن لم تَبْذُلي صِلةً
…
فالطيفُ يقْنِعُنا والذِّكرُ يَكْفينا
وفي الجواب متاعٌ إنْ شَفَعْتِ به
…
بيضَ الأيادي التي مازلت تُولينا
عليك منّي سلام الله ما بقيَتْ
…
صبابَةٌ بِكِ نخْفيها فتخفينا
البيت الرابع والخامس من هذه القصيدة، يشبه قول الحارث بن هشام في أبيات له:
إذْ نلْبَسُ العيش صَفواً ما يكدِّره
…
طعنُ الوشاةِ ولا ينْبُوبنا الزَّمنُ
ومثله أيضا قول الآخر:
هناكَ تغنينا الحمام وَنَجْينِي
…
جَنَى اللهو يَحْلَوْ لِي لنا ويطيبُ
وقد أثبتُّ من هذا المعني في الجزء الثاني من هذا المجموع، ما اقتضته المشاكلة، وألفته المماثلة،
وحسنته نسقا ونظاما، وفتقت من زهره الأرج كماما.
وقوله:
وقد تكون وما يُخْشى تَفرقنا
البيت، كقول أبي أيوب سليمان بن أبي أمية:
أناجيك من بعد كان لم يكن قرب
…
وألقاك بالذكر ومن دونك الحُجبُ
وقوله: (يا جنة الخُلْد) معناه: يا جنة البقاء، لأن الخُلُود هو البقاء طول الأبد. فكلُّ منْ يدْخل الجنَّة
فهو خالِدٌ فيها، وكل من يدخل النار من المعذبين الجاحدين فهو خالدٌ فيها، لقوله تعالى (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) وأهلُ الجنَّة
فيها مُخَلَّدونَ خالدون طول الأبد لقوله تعالى (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
والخُلُودُ والدَّوام والبَقاءُ والتَّأبيد نظائر في اللغة.
وقال صاحب العين: الخُلُود البقاء في دار لا يخرج منها.
والفعل: خَلَدَ يَخْلُدُ خُلُوداً، وخَلَّدَه تخليدا. والخُلْدُ اسم من أسماء الجِنان. وحدُّ الخُلُود الوُجودُ في الشيء
إلى غير نهاية. ويقال: خَلَدَهُ في السجن، وخلَدَهُ في الديوان، إذا أوجده هناك. ويقال: أَخْلَدَ فلان إلى
كذا وكذا، والمعنى رَكَنَ إليهِ ورَضيَ به. قال الله تعالى وجلَّ (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ).
والخَلَدُ البال. تقول: وقع ذلك في خَلَدي، أي في بالي. والخُلْدُ أيْضا ضربٌ من الجِرْذَان عُمي لم
تُخْلقْ لها عُيون، واحدها خِلْدَةٌ
بكسر الخاء والجميع خِلدان. والخَوالِدُ الأثافي في مواضعها، والجبال والحجارة تسمى أيضا
خوالد. قال الشاعر:
فتأتيك حَذَّاءَ محمولةً
…
تَفُضُّ خَوالِدها الجَنْدلا
يعني بالخوالد هنا القوافي، كنى عنها بالحجارة. ومثله قول أبي تمام:
وكأنما هي في السَّماع جَنادلٌ
…
وكأنما هي في العيون كواكِبُ
فأما الجُنَّةُ فمعروفة، سميت جُنَّة لأن الشجرة تَجُنُّها، أي تستُرُها. وكل شيء وقاك وسترك فهو جُنَّةٌ؛
ومنه سميت الدِّرع جُنَّةٌ. واستَجَنَّ فلان إذا استتر بشيء، والمِجنُّ: التُّرْسُ لستره صاحبه، وسمي القبر
جَنَناً من هذا.
وقال المقنع الكندي أو رافع بن هرم اليربوعي:
وصاحب السوء كالداء العياء إذا
…
ما ارْفَضَّ في الجِسم يَجْري هاهنا وهنا
فذاكَ إنْ عاشَ كُنْ عنهُ بِمَعْزِلةٍ
…
أوماتَ يوماً فلا تَشْهَدْ لهُ جَننا
ويروي:
إن عاشَ ذلك فأبعِدْ عنْكَ منزِله
…
أوْ ماتَ ذاكَ فلا تعرف له جَنَنا
وللقبر أسماء غير الجَنَن هو الريْم والرَّمْس والجدث والحَدَب. قاله أبو علي. وقال الشاعر:
ولا شَمْطاء لم يَتْرك شَقاها
…
لها منْ تسعةٍ إلاّ جَنينا
يعني مدفونا، أي قدْ ماتوا كلهم. وقد يسمى الرُّوح جَناناً، لأن الجسم يَجُنُّهُ.
وجَنانُ النَّاس مُعْظمهم قال الشاعر:
جَنانُ المُسلِمين أو دُّمسّاً
…
وإنْ جَاوَرْتُ أسْلمَ أوْ غِفَارا
وكان أهل الجاهلية يسمون الملائكة جِنَّا لا سِتتارهم عن العيون. والجَنينُ: الولد في الرحم، والجميع
الأجنَّةُ. قال الله تعالى (أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) ويقال: أجَنَّت الحاملُ ولَدَها. وقال الشاعر:
وقد أجنَّتْ علقا ملقوحا
…
ضمَّنه الأرحام والكشوحَا
ويقال جَنّ الولد يَجُنُّ جَنّا، وكذلك جَنَّ الليل، وهو يَجُنُّ جَنّاً وَمجَنَّةً، وجَنّ عليه الليل، إنْ غطَّى عليه
وستره بظلمته، وأجَنَّهُ الليل: أي ستره. وجِنَّةُ الليل أيضا بإسقاط الألف لغة، وبها قرأ علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، وجملة من الصحابة أبو هريرة، وغيره في قوله تعالى في سورة النجم (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)
وقال الهذلي، وقرأته في النوادر لأبي علي البغدادي:
من المُرْبَعينَ وَمِنْ آزِلٍ
…
إذا جَنَّهُ الليْلُ كالناحِطِ
وَجِنُّ الليل: اختلاط ظلمته. قال الشاعر:
حتَّى يجئَ وَجِنُّ اللَّيل يُوغلُه
…
والشُّوكُ في وضح الرِّجْلينِ مرْكُوزُ
ويقال: جَنَانُ الليل وَجُنونُ الليل. وقال الشاعر:
ولولا جُنُونُ الليل أدركَ رَكْضُنا
…
بذي الرَّمْثِ والأرْضِ عياضَ بن ناشفِ
وجِنُّ الشَّباب: حدَّته ونشاطه. وفي الحديث: "الشباب شُعْبَةٌ من الجُنون" وذلك أن الجُنُون آفة تنالُ
العقل فتزيله، وكذلك الشَّباب، قد يسرع إلى غلبة العقل بما له من قوة الميل الى الشهوات، وشدة
النزاع إليها، وكذا قول بعضهم (الغَضَبُ جنُونُ ساعة).
وقال حسان بن ثابت:
إنّ شرخَ الشَّباب والشَّعرا لأسْ
…
ودما لمْ يُعاصَ كانَ جُنُوناَ
قال: (ما لم يعاص) ولم يقل (يعاصيا) كما يجب، لأنه أراد ما لمّ يُعاصَ كُلُّ واحدِ منهما. وقيل: إنّ
الشعر الأسود داخلٌ تحت ذكر الشباب، فلهذا استغنى بالضمير الواحد واكتفى به.
وفي حديث عبد الله بن عمر: "مَتِّعْنا بأسْماعِنا وأبْصارنا واجْعلهُ الوارثَ منَّا" فقال: وجعله بلفظ
الواحد، وقد تقدم ذكر الأسماع والأبصار بلفظ
الجماعة ففي هذا وجهان: أحدهما أن تكون التاء راجعة
إلى ضمير الفعل وهو الإستمتاع بهما.
والوجه الآخر: أن تكون الإشارة بها إلى واحد واحدٍ من كل سمع ومن كل بصر.
قاله أبو سليمان الخطابي، وقال في معني هذا الحديث قولين: أحدهما أن يكون معنى الوراثة منهما
أن تبقى صحتهما عند ضعف الكبر فيكونا وارثي سائر الأعضاء الباقين بعدها.
والقول الآخر أن يكون دعي بذلك للأعقاب والأولاد. والأول أصح.
وبالقول الثاني قال ابن سراج.
وحكي ان الحسن كان يقول في دعائه (اللَّهمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ من صَناديد القدر وَجُنُون العمَل). قال ابن
الأعرابي: الصَّنايد: الشَّدائد والدَّواهي، وجُنونُ العمل الإعجابُ به حتى يبطل عمله. وأنشد:
فدقَّتْ وجَلَّتْ واسْبكرتْ وأٌكمِلتْ
…
فلَوْ جُنَّ إنْسانٌ منَ الحُسْنِ جُنَّتِ
ويقال: جُنَّ الرجلُ وأجنَّه الله فهو مجْنونٌ، والجميع مَجانين.
قال الشاعر:
شكوتم إلينا مَجانينَكمْ
…
ونشكو إليكمْ مَجَانينا
فلَوْلا المُعافاةُ كُنَّاكهُمْ
…
ولوْلا البلاءُ لَكَانُوا كنا
وسمي المجنون مجنونا لأنه قد أطبق على قلبه. وأصله من الجِنِّ، وهو السَّتْر، ويقال بالرجل جِنَّةٌ
ومَجَنَّة أي جُنُونٌ. قال الله سبحانه (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) وقال (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) وقال الشاعر:
من الدّارميِّين الذين دِمَاؤُهُمْ
…
شِفاءٌ من الدَّاء المجَنَّة والخَبْلِ
وأرضٌ مَجَنَّة كثيرة الجِنِّ. والجِنَّة والجِنَّان جماعة ولد الجان. والجانُّ هو أبو الجِن خُلِق من نار، ثم
خُلق منه نسْله، وسُمُّوا جِنّاً لأنهم استجنوا من الناس فلا يرون.
قال الحسن في قوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) يعني إبليس خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام. ونارُ السَّموم؛ الحارة
التي تقتل. والجان أيضا الحَيَّةُ البيضاء. قال الله سبحانه (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ)
وفي حديث عبد الله بن عمر قال: شرب رجل من سقاء، فانساب في بطنه جانٌّ، فنهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن اخْتِناثِ الأسْقِية واختناثُ الأسقية هي أن تمال، فيشرب منْ أفواهِها، وعند
ميلها يحدث فيها تكسر
ورخاوة، وبذلك سميّ المُخَنث من الرجال. وفي الحديث أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم دخل على أمِّ سلمة، وعندها مخنث.
وشرب أحد الشعراء من سقاءٍ اختثنه حتى روى فألغز وقال:
أخذت مخنثا فلثمت فاه
…
فيا طيب المخنث من لثيمِ
رجع
وقوله (والكوثر العذب)، والكوثرُ فَوْعَل: من الكثرة، والواو فيه زائدة كزيادتها في الدَّوْلس، وهو
فوعل أيضا من الدَّلَس. والدَّلَس: اخفاء العيب وستره في حين البيع. والكَوثر نهر في الجنة للنبي
خاصة تتشعب منه أنهار الجنة. قالته عائشة رضي الله عنها، وروى نحوه عن النبي عليه السلام،
وقال عطاء: هو حوض النبي عليه السلام. ويومئذ قول عطا حديث أبي سعيد سنان ين مالك بن
سنان الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لي حوضا طوله ما بين الكعبة إلى بيت
المقدس أبيض من اللبن آنيته عدد النجوم" وفي حديث أنس، فيما روى أبو بن بكر أبي شيبة، عن
علي بن
مسهر عن المختار عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر وعدنيه ربي
في الجنة عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم" ويقال: الكوثر
هو الخير الذي أعطاه الله تعالى وجل النبي محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يوم القيامة.
وقال بعضهم: الكوثر: العَجَاجُ المُلتَفُّ بعضه ببعض، وأنشد:
وقد ثار نقْعُ الموتِ حتى تَكَوْثَرا
أي حتى التف بعضه بعض.
وقال الحسن: الكوثر: القرآن.
وقوله: (زقوما وغسلينا) قال ابن زيد: لا يعلم أحد ما الزَّقُوم ولا الغِسْلين. وعن قتادة طعام الزقوم
شر الطعام وأبشعه.
والغِسْلين غسالة أجواف أهل النّار. ووزنه فِعْلِين من غسل الجراح والدبر.
رجع
قال: فلما خلص أبو الوليد من اعتقاله، وتَنَسَّمَ من الدَّهر صلاح حاله، بعد أن أعوز نفسه الجَلَد، وملأ
جوانحه الوجْد والكمد، كرّ إلى (الزهراء) ليتوارى في نواحيها، ويتسلى برؤية مَراقبها، فوافاها،
والربيع قد خلع عليها برده ونثر على
بساطها سوْسَنه وورْده، وأغصان ثمارها مورقة، ونواحيها
مشرقة، قد سالت جداولها، وغنَّت بلابلها، فراح أبو الوليد بين روض يانع، وريح طيبة المسرى،
وارتاح ارتياح جميل ببوادي القرى، فتشوق إلى لقاء ولادة، وحنَّ وخاف تلك النَّوائب والمحن، فكتب
إليها يصف فرط قلقه، وضيق أمده وطلقه، ويعاتبها على اغفال تعهده، ويذكرها بحسن محضره معها
ومشهده، فقال:
إني ذكرتك بالزهراء مُشتاقا
…
والأفقُ طلْق ووجهالأرض قد راقا
وللنسيم اعتلالٌ في أصائله
…
كأنه رقّ لي فاعْتل إشْفاقا
والرَّوضُ عنْ مائه الفضي مُبْتَسِمٌ
…
كما شَقَقْتُ عن اللبات أطواقا
يومٌ كأيامِ لذاتٍ لنا انصرمتْ
…
بتْنا لها حين نامَ الدّهر سُرّاقا
نلهو بما يستميل العينَ من زهر
…
جال النَّدى فيه حتى مال اعناقا
كأن أعينه إذ عاينت أرقي
…
بكت لما بي فجال الدّمع رَقْراقا
ورْد تألق في ضاحي منابته
…
فازداد منه الضحى في العين اشراقا
سَرى يُنافِحُه نَيْلُوفرٌ عَبِقٌ
…
وَسْنان نبَّه معه الصُّبح أحداقا
كلٌّ يهيجُ لنا ذكرى تشوقنا
…
إليك لم يعدعنها الصدر أن ضاقا
لو كان وفىَّ المنى في جَمعنا بكم
…
لكان منْ أكرم الأيام أخلاقا
لا سكَّن الله قلباً عن ذِكركمُ
…
فلم يطِر بِجَناحِ الشوق خَفَّاقا
لو شاء حملي نسيمُ الريح حين هفا
…
وافاكُمُ بفتى أضْناه ما لاقى
كان التجازي بمحض الودِّ مذ زمن
…
ميدان أنس جرينا فيه إطلاقا
فالآن أحمد ماكُنّا بعهدكمُ
…
سلوتم وبقينا نحن عُشَّاقا
في أشعارٍ له كثيرة هي في كتاب ابن بسام وغيره مسْطُورة. وفي أبي الوليد يقول أبو الحسن بن
بسام: كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شُعراء مخْزوم، أحدُ منْ جَرَّ الأيام جرًّآ، وفاتَ
الأنام طُرُاً، وصَرَّفَ السُّلْطان نفعاً وضَرّاً، ووسع البيان نظما ونثرا، إلى أدب ليس للبحر تدفُّقه، ولا
للبدر تَألُّقه، وشِعْرٍ ليس للسحر بيانُهُ، ولا للنجوم الزُّهْرِ اقتِرانُه، وحظٍّ من النَّثر غريب المَباني،
شِعريِّ الألفاظ والمعاني.
وفيه يقول أبو نصر الفتح بن محمد في (القلائد):
ذو الوزارتين أبو الوليد بن عبد الله بن زيدون زعيم الفئة القرطبية، ونَشْأةُ الدَّولة الجَهْوَرِيَّة الذي
بهر في نظامه، وطلعَ كالبَدْر ليلَةَ تمامِه، فجاء من القوْل بسحرٍ، وقلَّدَهُ أبْهى نحر، لم تصرفْهُ إلاّ بين
ريحان وراح، ولم يطلعه إلاّ في سماء مؤانساتِ وأفراح، ولا تعدى به الرؤساء والمُلوك ولا تَرَدى
منه إلاّ حظوة كالشمس عند الدُّلوك، فشرف بضائعه، وأرهف بدائعه وروائعه، وكلفت به تلك الدولة
حتى صار ملهج لسانها وحل محل انسانها.
قلت أنا: وكانَ رحمه الله شِهابَ ذكاءٍ متألقاً، وبحر بيان متدفقا، يقذف بلسانه من البيان لؤلوآ مكنونا،
ويَبُثُّ من البلاغة ضروبا وفنونا، وفيما أثبت له في التَّصانيف، وسطر في التَّواليف، من النَّظْم الذي
أرْهَفَه بالتَّهْذيب، وطرَّزَهُ بكُلِّ معنى عجِيب، وبناه من اللَّفظ الصحيح، ووشحه بالوَشي المليح، ونثره
البديع، المزري بالدُّرّ الرفيع، دليل على أنه كان يملك من البيان بحرا لا يُمْتَطى
لهُ ثَبَج، ولا تُخاضُ بهِ اللجج. وناهيكَ من تحرير حلَّ من ابن عبّاد غُرةً في جبين مُلكِه، وواسطة في مُنْتَظم سِلْكِهِ،
واسْتَقَلّ من دولته بأعْبائها، ولاحَ بدْرا منيرا في سمائها، أشرق من لآلئه الإظْلامُ، وعَبِقَتْ بأرَجِهِ
الليالي والأيامُ، ولا يَتَّسِعُ هذا المجموع لاثباث محاسنه وفنونه، وتصرّفه في سهول الإبداع وحُزُونِه،
ولو أشرتُ إلى ذلك، لخرجتُ عما قصدتُ إليه من غرضي، واعتمدتُ عليه. وقد أثبتُّ له فيه ما
يشهد له بالسَّبْق، وفي الثّناء عليه بالحق.
وحكى أبو العباس أحمد بن عبد ربه في كتاب (العقد) عن أبي زيد الأسدي قال: دخلت يوما على
سليمان بن عبد الملك مروان فَوَجدته جالسا على دكان مبلط بالرخام الأحمر، مفروش بالديباج
الأخضر، في وسط بستان قد أينع وأثمر، ويشق البُستان من جانبيه ميدانٌ ينبُت الربيع، وعلى رأس
سليمان وصَائف. كُلُّ واحدة أحسن من الأخرى كأنّما شردن من الجنان، عن غفلة من الرضوان،
يُصْمِينَ بسهام الجُفون، ويُسْبين بقُدود تحكى تَثَنِّي الغُصون، ويُسْفرنَ عن بدور، ويَبْسمْنَ عن دُرِّ لم
تقلد مثله النُّحور. والشمس قد مالت للغروب، وحكت لون المُحِبِّ ساعَة وداعِ المَحْبُوب، وهَبَّ النَّسيمُ
على الغُصون فتَمايَلتْ، وحنَّتِ الأطيار فتَجاوبتْ فقلت: السلامُ عليك أيُّها الأمير، ورحمة الله
وبركاته، وكان مُطرقا، فعندما مَثُلْتُ بين يديه، وسَلَّمْت عليه، رفع رأسه إلي وقال: أبا زيد في هذا
الوقت غشيت حيّنا. فقلت أصلح الله الأمير، أو قدْ قامت القيامة؟ قال: نعم. على أهل الحب. ثم قال
لي: يا أبا زيد ما يَصْلُحُ في هذا الوقت؟ قلت: أصلَحَ الله الأمير. قهْوةٌ صفراء في زُجاجةٍِ بيضاء،
تناولينها جارية هَيْفاء، رخيمة الدال بديعة الشَّكل أشْرَبُها من كَفِّها، واجعل نقلي رُضابَ فمِها. فأطرق
الأمير وتَحَدَّرَتْ عبراته، وهاجَتْ لو عاته، وتحركت سَواكنه، وبكى حتى بُلَّ سِرْبالُه. فلما رأى
الوصائف حاله تَنَحَّيْن عنه، فعند ذلك قال لي: أبا زيد هذا والله آخر يوم من أيامك، وانصِرَامِ مُدَّتِك،
بالله لأضْرَبَنَّ عنقك. أو لتخبرني ما الذي أوقع هذه الصفة في قلبك.
فقلت: نَعَمْ، أصْلَحَ الله الأمير، كنْتُ جالِسا على بابِ أخيكَ سعيد، فإذا أنا بجاريةٍ قد خَرَجَتْ إلى بابِ
القصْر كالغزال، انفلت من شبكة صائد، وعليها قميص سَكْبٌ اسْكنْدراني، تبصر العين من فوقه
رمانتي صدرها، ونقش تكَّتها، وفي رجليها نَعْلان أحمران، فتعجَّبت أيها الأمير من بياض رجليها،
في حمرة نعليها، ولها ضفيرتان تضربان خصريها، قد أسبلتهما على منكبيها، وصدغان كأنهما نونان
وحَاجِبانِ كأنهما قوسان، وعينان ليستا لحور الجِنان، بالسحر مملوءتان. فأبصرت أحسن سواد، رأيته
في بياض، من لِحاظٍ مُعْتَلَّة، في جُفونِ ليست بمِراض، وعِقْدُها في نَحْرِها يبرق، والشَّمس فوق
إزارِها تُشْرِقُ. فلمّا وصلت إلى باب القصر، تَنَهَّدَتْ تنهدا جاوبتها الحِيطان، قالت: عِبادَ الله من لي
بدواء مالا يُشتكى، وعِلاج مالا يُوسى. طال والله الحجاب ومنع الجواب، ولزم الاكتئاب، فالفؤاد
مُخْتلس، والنوم مُحْتبس، والحزن دائم، والدمع ساجم. فرحم الله قوماً عاشوا تجلداً، وماتوا تبلداً، ولو
وجدنا إلى العزاء سبيلا، لكان الأمر أمراً جميلا. ثم أسبلت عبرات حكت تناثر اللؤلؤ الرطب، على
الورد الغض، ثم رفعت رأسي فقلت: أيتها الجارية إنسية أم جنية، أرضيّةٌ أمّ سَمائية؟ فقد أعجبني ما
رأيت من حسنك، وأذهلني ما سمعت من منطقك، فسترت وجهها بكمها. ثم قالت: عُذْرا أيُّها المُتَكَلِّمُ
الأديبُ فما أوْحَشَ الوحيدَ بلا مساعد، والغريبَ عن أوطانه، والنازحَ عن أحبابه وخِلانه. ثم
انصرفت، فوالله - أيها الأمير - ما رأيتُ حسنا بعده، الاّ سمج في عيني
لحسنها، ولا ذقت طيبا إلاّ عادَ عَلْقَما لشجوها. فاستوي الأمير جالسا، وعَبَراتُه تسكب. فقال: يا أبا زيد كاد الجهلُ يَسْتفزني،
والصِّبا يعودُ لي، والحِلمُ يغْرُبُ عنِّى. أتعرف تلك الجارية؟ قلتُ: لا، أعرفها أيها الأمير. قال: تلك
الذَّلْفاءُ التي يقول فيها الشاعر:
إنما الذَّلْفَاءُ ياقوتةٌ
…
أُخْرِجَتْ من كيسِِ دِهْقانِ
اشتراها أخي الوليد بألف ألف درهم، وهي عاشقة للذي باعها، فلا يتمتع بها أخي ولا غيره إلا على
تلكَ الحال. ووالله ما يموتُ من رآها إلاّ بحسرتها، ولا يَدخُلُ القبر إلا بِغُصَّتها، ولكن في الصَّبرة
سُلْوَة، وفي توقُّع الموت بهتة. قُمْ أبا زيد واكتُمْ، فقلت: أفْعَلُ أيها الأمير، وَأمرَ لي ببدرةٍ فأخذتُها
وانصرفتُ.
قال الأصمعي في الأنف الذَّلِف؛ وهو قِصَرُهُ وصغَرُ أرْنبته: يُقال رجَلٌ أذْلَف، وامرأة ذَلْفاء.
قال أبو النجم:
للشَّمِّ عندي بهجةٌ ومَوَدَّةٌ
…
وأُحِبُّ بعض ملاحَةِ الذَّلْفاءِ
وقال العجاج:
بسلهبينِ فوق أنْفٍ أذْلَفَا