الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وحكى إقبال الدولة بن مُجَاهد قال: حضرتُ عند صِهري المعتمد بن عباد، والنهارُ قد نشر من غَيمه
نَدى نَدٍ، وأسْكبَ من قَطْرِه ماء ورد، وأبْدى من برْقِهِ لسانَ نارٍ، وأظْهرَ من قُزَحِهِ بُستان آسٍ حُفَّ
بنرجسٍ وجُلَّنَار، والرَّوضُ قد بعث ريَّاه، وبثَّ الشكرلِسُقْياه. فكتب الى الطبيب الأديب أبي محمد
المصري:
أَيُّهَا الصَّاحبُ الذي فَارَقتْ نف
…
سِي وعيني منه السَّتَا والسَّناءَ
نحن في المجلس الذي يهب الرا
…
حةَ والمسمع الغنى والغناء
نتعاطى التي تسمى من الل
…
ذة والرقة الهوى والهواء
فاتهِ تُلف راحة ومحيَّا
…
قدْ أَعدَّا لَكَ الحيا والحياء
فوافاه الطبيب المذكور، فألفى مجلسا قد اتْلَعَتْ أَباريقُه أَجْيَادَهَا، وأقامتْ به خَيْلُ السُّرُور طِرَادَها.
وأعطَتْهُ
الأماني انطباعَها وانقيادَهَا، وأهدت الدنيا ليومه مَوَاسِمَهَا وأَعْيَادَهَا، وخلعت عليه الشمسُ شُعَاعَها،
ونشرت فيه الحدائقُ ايناعها، فأدِيرَت الرَّاحُ، وتُعُوطيت الأَقْداح، وَخامر النُّفُوسَ الابتهاجُ والارتياحُ.
ؤأظهر المعتمد في ذلك اليوم من إيناسه، ما استرقَّ به نُفُوسَ جُلَاّسه. ثم دعا بكبير، فشَرِبَه عندما
تَناوله من يَدِ المُدِير. فكان كالشمس غَرُبتْ في ثِبير، وعندما تناوله قام الطبيب ينشد شعرا بمثله:
اشْرَبْ هنيئاً عَليكَ التَّاجُ مرتَفقاً
…
في قَصْر حِمْصَ وَدَعْ غُمْدانَ لِلْيَمَنِ
فَأنتَ أَوْلى بتَاج الملْكِ تَلبَسُهُ
…
مِنْ هَوْذَةَ بنِ عليٍّ وابنِ ذي يَزَنِ
فطرب المعتمد حتى زحف عن مجلسه، وأسرف في انبساطه وتأنُّسه. وأمر للطبيب المصري بخلعةٍ
لا تصلح إلاّ للخلفاء، فخلعت عليه، وأدناه حتى أجلسه مجلسَ الأكْفاءِ، وأَمَر له بدنانير عدداً، وملأَ
بالمواهب منه يداً.
قول الطبيب:
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا
شطر بيت لأبي زمعة جد أمية بن أبي الصلت، من شعر قاله في معدي كرب بن ذي يزن، أوله:
ليطلب الوترَ أمثالُ ابن ذي يزِن
…
رَيَّمَ في البحر للأعداء أَحْوَالا
يمَّمَ قيصر لما حان رحلَتُهُ
…
فَلَمْ يجد عندهُ بعض الذي سأَلَا
وفيها يقول:
أَرْسَلْتَ أُُسْداً على سُودِ الكلابِ فقد
…
أضْحَى شَريدُهُمُ في الأرضِ فُلَاّلاً
فَاشْرَبْ هنيئاً عليكَ التَّاجُ مُرتَفِقاً
…
في دار غُمْدَانَ داراً منكَ محلالا
ثمَّ اطل المسكَ إذْ شالتْ نَعَامَتُهُمْ
…
وأسْبِلِ اليومَ في بُرْدَيكَ إِسْبالَا
تِلك َالمكارمُ لَاقَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ
…
شِيبَا بمَاءفَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
قوله: (إذْ شالت نعَامتُهُم)، العربُ تضرب زوالَ النَّعَامة مَثَلاً في الفِرار
فتقول: (شالتْ نَعَامَةُ القوم) إذا فرّوا أو هلكوا وانقرضوا. قال الشاعر:
أَزْرَى بنَا أَنَّنا شالَتْ نعَامَتُنا
…
فخَالني دُونه بَلْ خِلْتهُ دُوني
وقال الآخر:
يَا ليتنَا أُمُّنَا شَالَتْ نَعَامتُنَا
…
إِمَّا إلى جَنَّةٍ إِمَّا إلى نَارِ
والعرب تقول: أَشْرَدُ من نَعَامة، أي أسرع في الفرار من النَّعامة.
وقال الشاعر:
هُمُ تَرَكُوكَ أَسْلَحَ منْ حُبَارى
…
رأَتْ صقراً وأَشْرَدَ مِنْ نَعَامِ
والنَّعامَةُ في اللغة: بَاطِنُ القَدَم، فمن مات فقد شَالَتْ رجْلُه، أي ارتفعت، وأَنْشَدُوا قول الشاعر:
تَنَعَّمْتُ لَمَّا جَاءَني سُوءُ فِعْلِهِمْ
…
أَلَا إِنَّمَا البَأْْسَاءُ لِلْمُتَنَعِّمِ
والنَّعَامَةُ أيضا: الجِلْدَة التي تغطى الدماغ، والنَّعَامَةُ: الظُّلْمَةُ. وابنُ النَّعَامة: عِرْقٌ في باطن القدم.
وقوله: (تِلك المَكَارِمُ) البيت، تمثل به عمر بن عبد العزيز رحمه الله، حين وفد عليه الرجل الذي
انتسب الى قتادة بن النُّعْمَان، الذي أصيبت عينه يوم أُحُد، فسأله عمر: من أَنْتَ؟ فقال الرجل:
أنَا ابْنُ الَّذي سَالتْ عَلَى الخَذِّ عَيْنُهُ
…
فَرُدَّتْ بكَفِّ المصطفى أَيَّما رَدِّ
فَعَادَتْ كما كانَتْ لِأَوَّلِ أَمْرِهَا
…
فَيَا حُسْنَ مَا عَيْن ويَا حُسْنَ مَا حَدِّ
فقال: عمر بن عبد العزيز: (تِلْلكَ المَكَارمُ لَاقَعْبَانِ مِنْ لَبَنِ) البيت بكماله.
ووصل الرجل وأحسن جَائزتَه.
وقد روي أن عيني قتادة بن النعمان الذي انتسب اليه الرجل، الوافد على
عمر، سقطتا معاً يوم أُحُد فردهما النبيّ صلى الله عليه وسلم وروى هذا الحديث: محمد بن أبي عثمان، عن مالك بن أنس عن
محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن أخيه قتادة بن النعمان. قال:
(أصيبت عيناي يوم (أحد) فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادهما
مكانهما، وبصق فيهما فعادتان تبرقان).
قال الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني: هذا حديث غريب عن مالك، تفرد به عمار بن
نصر وهو ثقة.
وحكى الحسين بن الضحاك قال: دخلت ذات يوم على الحسن بن
سهل في فصل الخريف، وقد جاء الوَسْميِّ، بِرَشٍّ خفيف، واليوم قَد تَجَلَّى في أحْسَنِ مَنْظَرٍ وأَعْجَبِهِ.
وَرَوائِحُ المجْلِسِ تَتَضَوَّعُ بأذْكى نَشْرٍ وَأطْيَبِهِ.
والحسَن جَالسٌ عَلَى سَرِيرِ آبنوس، وأمامه أَباريقُ مُتْرعة بالخمر وكؤوس، وهو ينظر
الى بستانٍ أنيق، والطَّيرُ تَشْدُو في أَفْنَانِه بِلَحْن يُطْرِب، وعلى رأسه غُلامٌ، كأنه البدر، وَجَبينُهُ قَدْ جَمَعَ
بين اللَّيْل والصَّبَاح، وَثَغْرُهُ بين العقِيقِ والأقَاح. فسلمت، فرد السلام عَلَيَّ. ونظر كالمستنطق اليَّ
فقلتُ:
أَلَسْتَ ترَى ديمةً تَهطلُ
…
وَهذَا صَبَاحُكَ مُسْتَقبَلُ
وهذا العُقَار وقدْ راعنا
…
بِطَلْعَتِهِ الشَّادِنُ الأكحلُ
وقد أَشْكَلَ العَيْشُ في يَوْمِنا
…
فيَا حَبَّذَا عَيْشُنا المُشْكِلُ
فقال: العَيْشُ مشكل، فَمَا تَرى؟ قُلْتُ: مُبَاكَرةُ القَصْفِ، وَتَقْرِيبُ الإلْفِ. فقال: شَرْطَ أَنْ تَبِيتَ. قُلتُ:
لكَ الوَفَاءُ على أَنْ يَكونَ هَذَا الواقِفُ عَلَى رَأْسِكَ يَسْقِيني. فَضَحكَ الحَسَن وقال: ذلك لَكَ عَلَى مَافيه،
ثمَّ دَعَا بِالطَّعَامِ والشَّرَابِ، ففَقَدْتُ الغُلام سَاعَةً، ثم إذا به قدْ جَاء مِنَ الحَمَّام، بجبينِ مُشْرق، وكأَن
وَجْهَهُ بَدْرٌ زَاهِر، وقدَّه غُصْنٌ نَاضِر، فقلت:
جَرَّدَهُ الحمامُ عَنْ دُرَّةٍ
…
تَلُوحُ فيها عُكَنٌ غَضَّهْْ
كأنَّمَا الرَّشْحُ على خَدِّهِ
…
طَلٌّ على تُفَّاحَةٍ عَضَّهْ
يَالَيْته زوَّدَني قُبْلَةً
…
أَوْ لا فَمِنْ وَجْنَتِهِ عَضَّهْْْ
فقال لي الحسن: قد عمل فيك النبيذ، فقلت:
سقِّيَاني وَصرِّفا
…
بِنْتَ حَوْلَيْنِ قَرْقَفا
واسْقِيَا المُرْهفَ الغرِي
…
رَ سَقى اللَّهُ مرْهَفا
بِأبي مَاجنُ السَّرِي
…
رَةِ يبْدِي تعطُّفا
فَإِذا رُمتُ ذَاك مِنْ
…
هـ تَأَبى وَعنَّفا
وإذا هبَّ لِلْمنا
…
مِ فَقِدْماً تَخَفَّفا
فتغاضب الغُلام، وقام وقعد، واشتدَّ حَنَقُه ووعبد ثم قال لي الحسن: أَقْبل على شرابك. وقام، فناولني
الغلام قَدَحاً، والحسن قد خرج، فشربتُ وأعطاني نَقْلا فقلتُ: اجْعَلْ لي عِوَضه قُبلة، فَأبى، فقال له
فَرَج، غلام
الحسن، وكان يتصرفُ علينا: بحياتي، يَابنيَّ، اسعفه بما طلب، فضحك، ثم دَنامِنِّي، كأنه
يُعطيني نَقْلا، وتَغَافَل، فاخْتَلَسْتُ منه قبلة، فقال: هي حرام: فقلت:
هَوَّنَ الأمْر عليه فرَجْ
…
بِتَأبِّيهِ فَسقْياً لفَرَجْ
وَبِنَفْسي نَفْس مَنْ قال وَقدْ
…
كان ما كان حرامٌ وحَرَجْ
وبتُّ تلك الليلة ناعمَ بالٍ بذلك الغزَال، فلَّما أصبح، انصرفتُ، ثم عدتُ الى الحسن، حين طَلعَ
النَّهار، فقال لي: كيف مَبيتُكَ البارحة؟
فقلتُ:
تأَلَّفْتُ طَيْفَ غزال الحَرَمْ
…
فواصلني بعدما قد صَرَمْ
فَغَضَّ الجفون على غَفْلَةٍ
…
وأعرض إعراضة المحتشمْ
فمازلت أبسطه مادحاً
…
وَأُفْرِطُ في اللهو حتى ابتسمْ
وحكمني الريم في نفسه
…
بشئٍ ولكنه مكتَتمْ
فقال لي الحسين: يافاسق! أظن ما ادَّعيت في النوم كان في اليقظة. وأصْلَحُ الأشْيَاءِ بِنَا، أن نُزِيلَ
العَارَ عَنَّا، بِهِبَتِهِ لَكَ. فَخُذْهُ، لا بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فيه.
قال: وكان ابن الضحاك هذا، شديد الكَلَف بالغلمان، ومُغلِّباً حجة اللُّوطي على الزَّان. وهو القائل في
بِشْر غلام أبي عيسى بن الرشيد، حين حجبه، ووَكَل
به حافظه، ومراقبهُ، لَمَّا بَلغَهُ أن أخاه عيسى يتعشقه. واشتدَّ لذلك حنقهُ، وقَلَقه.
وكان ذلك الغلام بِشْر يَفْضُلُ رَبَّاتِ الحجال، في الحُسْن والجَمَال، فقال:
ظَنَّ مَنْ لَا كانَ ظناَّ
…
بحبيبي بحماهُ
أرصَدَ البابَ رقيبَيْ
…
نِ بهِ فاكْتَنَفاهُ
فإذا ما اشتاق وُدِّي
…
ولقائي مَنَعَاهُ
جَعَلَ اللَّهُ رقيبَيْ
…
هـ من السُّوءِ فِدَاهُ
وحكى أبو بكر بن الاشبيلي قال:
حضرت مجلس أُنْس الوزير الكاتب أبي بكر بن عمّار بقصر الرشيد، فلما تمكن منَّا الأنْسُ، ودارتْ
بيننَا الكأْسُ، ارتجل أبو بكر أبياتاً من الشعر، وقام ينشدها، وجعل يرفع بها صوته، ويرددها وهي:
ما ضَرَّ أَنْ قيل إِسْحَاقٌ ومُوصِلُهُ
…
ها أنت أنتَ وذي حِمْصٌ وإسْحاقُ
أنت الرَّشيدُ وَدَعْ مَا قدْ سَمِعتَ
…
به وإنْ تَشابَهَ أَخلَاقٌ وأعرَاقٌ
للَّهِ دَرُّكَ دَارِكها مشَعْشَعة
…
واحْضُرْ بِسَاقيكَ مَادَامَتْ بناسَاق
وحكى الكاتب أبو نصر في كتاب (القلائد) له قال:
دُعيت يوماً الى منية المنصور بن أبي عامر ببلنسية، وهي منتهى الجمال ومُزْهَى الصَّبا والشمال،
وعلى وهْيِ بنائها وَسُكُونِ الحَوَادِث بُرْهَةً في فِنَائها، فوافيتها، والصُّبْحُ قد ألبسها قميصه، والحُسْنُ قد
شرح بها عويصه. وَبِوَسَطِهَا مجلسٌ، قد تفتحت للروضة أبوابُه، وتوشحت بالأُزْرِ المبهجة أثوابُه.
يخترقه جدول كالحسام المَسْلُول، وينساب فيه انسياب الأيم بين الطلول. وضفتاه بالأدواح محفوفة،
وهو يروق كالخريدة المزفوفة.
وفيه يقول علي بن أحمد أحد شعرائها وقد دخله مع لمة من وزرائها:
قُمْ فَاسْقِني والرِّياضُ لَابسَةٌ
…
وَشْياً من النور حَاكهُ القَطْرُ
والشمسُ قد عُصْفرتْ غَلائِلُهَا
…
والرَّوْضُ تَنْدَى ثيابه الخُضْرُ
في مجلس كالسماء لَاحَ لنا
…
مِنْ وَجهِ من قدْ هَوِيتُهُ بدْرُ
والنهرُ مثلُ الفجر حفَّ به
…
من الندَامى كوَاكبٌ زُهرُ
فحللتُ في ذلك المجلس، وفيه أخْدَانٌ، كأنهم الولْدَان وهُمْ في عيش لَدْن، كأنهم منه في جَنَّةِ عَدْن.
فأنختُ لَدَيْهم رَكَائبي وعَقَلْتُها، وقلّدت بهم رغائبي واعتقلْتُها. وأقمنا نتنعَّم بحسنه، طول ذلك اليوم.
ووافى الليل، فذُدْنا عن الجفون، طروقَ النوم. وبِتْنَابليلة كأن الصُّبْحَ منها مَقْدُود؛ والاغصان تميد
كأنها قدود. والمجرةُ تبصرها نَهراً؛ والكواكبُ تخالها في الجَوِّ زَهْراً. والثريا، كأنها راحة تشير؛
وعُطَارِِدُ، لنا بالطرب مشير. فلمّا كان من الغد، وافيتُ الرئيس أبا عبد الرحمن بن طاهر زائراً.
فأفضينا في الحديث، حتى انتهينا إلى ذكر منتزهنا بالأمس؛ وما نلنا من المسرات والأنس. فقال لي
الرئيس: وما بهجة مكان، قد بان قطينُه وَذَهَبَ؛ وسَلَبَ الزَّمَانُ بَهْجَتَه وانْتَهَبَ، وباد فلم يبقَ إلَاّ
رَسْمُهُ؛ ومحاه الحَدَثَان، فما يكاد يلوح وَسْمُه. عهدي به عندما فرغ من تشييده، وَتُنُوهي في تنميقه
وتنضيده.
وقد استدعاني اليه المنصور، في يوم حلت فيه الشمس بيت شرفها، واكتست الأرض بزخرفها.
فحللت به، والدُّوحُ تميس معاطفه؛ والنور يخجله قاطفه. والمدام تطلع فيه كواكبها وتغرب؛ وقد حلَّ
فيه قحطان ويَعْرب. وبين يدي المنصور، مائة غلام؛ ما يزيد أحدهم على العشر، غير أربع؛ ولا
يحل سوى الفؤاد من مربع. وهم يديرون رحيقا، خِلْتُهَا وكؤوسها دُرّاً
وعقيقا. فأقمنا به، والشهب تغازلنا؛ والأفلاك تنازلنا؛ ووهب المنصور في ذلك اليوم ما يزيد على العشرين ألفاً، من صلات
متصلات، وأقطاع ضياع. ثم توحش الرئيس لذلك العَهْد وأفصح ما بين ضلوعه من الوَجْد. وأنشد:
سَقْياً لمنزلة الحِمَى وكثيبها
…
إذ لا أرى زمنا كأزماني بها
وحكى الأستاذ أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي قال: دُعِيتُ إلى مَجْلِسِ أُنْسٍ؛ في
ليلة كأن سَمَاءها روضة، تفتحت النجومُ وسطها زُهراً؛ وتفجرت المجرّة خلالها نهراً. وشاحها اليُسْر؛
وسِوارُها البدْر. والمجلس قد احتشد به الأنس والطرب، وقرع فيه نبعُ السُرور بالغَرَب. فكان
كالشمس ضياء، وبدر التمام بهجة وبهاء، قد فَاحَ نَسيمُ رَنْدِهِ وَآسِه، ولَاحَ سِرَاجُ تَوَقُّدِ أَكْوَاسِه، وأبدت
سرور أباريقه أسرارها، وضمت عليه المحاسن أزرارها، والرَّاحُ يديرها غزال أَوْطَف، وَزَهْرُ
الأماني يُقْطَف، والحَدَثَان قد غَضَّ طَرْفه، والسرورُ قد نَشَرَ سَجْفه، فقلت مرتجلا:
يا رُبَّ لَيْلٍ قدْ هَتَكْتُ حِجَابهُ
…
بزجاجة وَقادَةٍ كَالكَوْكَبِ
يَسْعى بها ساقٍ أَغَرَّ كَأَنها
…
من خَدِّهِ وَرُضَابِ فيه الأشْنَبِ
بَدْرَانِ بدرٌ قد أمنْتُ غروبهُ
…
يسعى ببدر جانح للمغربِ
فإذا نعمتَ برَشْفِ بدرٍ غاربٍ
…
فانعمْ بِلَثْمِكَ نيِّراً لم يَغرُبِ
حَتَّى تَرى زُهر النجوم كَأَنها
…
حول المجرَّةِ رَبْرَبٌ في مشربِ
واللَّيْلُ منْحَفِزٌ يَطيرُ غُرَابهُ
…
والصُّبْحُ يتبعه بِبَازٍأشهب
وقد ذكر أبو محمد معنى هذا البيت الأخير، حين وصف مجلس أنس، فأحسن في صفة سقاته،
والصبح قد أقبل بميقاته. فَسَمَّى الخمرَ بأحسن أَسْمِائها، وأَثْنى عليها بآلائها. ونَبَّه النُّدَمَاء من نَوْمهم.
وحضَّهُم على اصطباح يومهم. فقال:
صَاحِ نبِّهْ كلَّ صَاحٍ نَصطَبحْ
…
فَضْلَةَ الزِّقِّ الذي كان اغْتَبَقْ
قهوةً تحكى الذي في أضلعي
…
من جَوَى الحُبِّ ومن نَفْح الحُرَقْ
مِنْ يَدَيْ سَاقٍ بَدَا منْ خَدِّهِ
…
بدْرَ تمٍّ تحت فَرعٍ كَالغسَقْ
خِلْتُها إِذْ غَرَبتْ في ثَغْره
…
شَمْسَها أَلْقَتْ بِخَدَّيه شَفَقْ
وَكأَن الصُّبحَ عينٌ فُجِّرَتْ
…
وكأنَّ الليلَ زِنجيٌّ غرقْ
وكأن النَّجْمَ سرْبٌ لِمَهاً
…
رَاعَهُ السِّرحَانُ صُبْحاً فافْترقْ
وهذا المعنى، قد تَدَاوَلَهُ الأُدَبَاء، وحَامَ على مسرعه الخطباء منهم والشعراء. وقصدوه قَصْدَ الظمآن
للنهر المُطرد، وشَدَوْا على أفنانه شَدْوَ الطائر الغَرِد. أخذه أبو أحمد المنفتل فقال:
بتنا كأن حداد الليل شَمْلَتُنَا
…
حَتَّى غَدَا اللَّيْلُ في ثوبٍ سَحُولي
كأنَّ لَيْلَتنا والصُّبْحُ يتْبَعُها
…
زِنجِيَّةٌ هَرَبَتْ قدّامَ رومي
قوله: (في ثوب سَحُولي) أي: في ثوب منسوب الى سَحُول، وهو موضع باليمن، تنسب إليه الثياب،
والسَّحْل: الثوب الأبيض، وكل ثوب من قطن أبيض، يقال له سَحْل، وهو معروف عند العرب. ومنه
قول طرفة:
وذالت كما ذَالَتْ وليدةُ مَجْلِسٍ
…
تُِري رَبَّها أَذْيَالَ سحلٍ مُمَدَّدِ
ومنه أيضاً قول الهذلي يصف حمر وحش:
غَدَرْنَاها وكانت في مصامٍ
…
كأنَّ سَرَاتهَا سحْلٌ نَسيجُ
قال هذا الأصمعي وأبو عبيدة.
وفي الحديث، فيما روى مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما مات، كُفنَ في ثلاثة أثواب بيضٍ سُحُوليَّةٍ، ليس فيها قَميصٌ ولا عمامة.
وقد اختلف أهل العلم في كَفَنِهِ صلى الله عليه وسلم. فروى هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب
عن أبي هريرة قال: كُفِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربطتين، وثوب نَجْرَانِي. وعن ابن
عباس أنه قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء، وقميصه الذي مات فيه. وعن
جعفر ابن محمد، عن أبيه، أنه كفن في ثوبين صَحَارِيَيْن وثوب حبرة.
قال: والصُّحْرَةُ، حُمْرَةٌ خفية الغُبْرَة. يقال: ثَوْبٌ أَصْحَرَ، وَصُحَارِيّ. ومُلَاءةٌ صَحْراء وصَحَارِيَّه.
وقال بعض أهل اللغة: الأصْحَرُ ما كان لونه لون الصَّحْراء من الأرض.
وقال الأصمعي: الأصْحَرُ قريبٌ من الأصْهَب ويقال: إن الصُّحَاريّ منسوب الى صُحَار: وهي قرية
باليمن. وروى معمر عن الزهري، عن أبي سلمة: أن أبا بكر أتى النبي صلى الله عليه وسلم في
البيت الذي توفي فيه؛ فكشف عن وجهه بُرْدَ حِبَرَة، ثم أكب عليه فقبله.
قال أبو سليمان الخطابي: وأصحِّ هذه الأخبار حديث عائشة؛ لأنها أَعْلمُ بباطن أمره. إذ كان حجب
عنه الناس، ووليه نساؤه، وأهل بيته. وقد مات صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وفي حِجْرِها،
ودفن في حُجْرَتِها
لم يَخْفَ عليها شيء من أمره. ويشبه أن يكون - والله أعلم - لما مات سُجِيَ بِبُرْدٍ،
فمن رآه سُجِي ظن أنه قد كفن فيه.
قال: وقد جاء عن عائشة، ما رفع الإشكال في هذا الباب أخبرنا ابن داسة، أخبرنا أبو داوود، أخبرنا
أحمد بن حنبل، أخبرنا الوليد بن مسلم أخبرنا الأوزاعي، عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن
عائشة قالت: أدرج رسول الله صلى اللله عليه وسلم في ثوب حبرة، ثم أخر عنه.
قال أبو إسحاق: ومما يؤيد قول أبي سليمان، حديث مالك عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن أبا بكر
الصديق، قال لعائشة، وهو مريض: في كم كُفِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: في ثلاثة
أثوابٍ بيضِ سُحُولِيَّةٍ والحديث بطوله في (الموطأ). وفيه أيضا عن هشام بن عروة،
عن أبيه، عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفن في ثلاثة أثواب،
بيض سحولية، ليس فيها قميص، ولا عمامة.
رجع
وأخذه أبو بكر بن ظَهَار فقال:
عَلِّلاني فَإِنَّمَا أنا حَيْثُ
…
جَادَ رَوْضَ الهَوَى من الوَصْلِ غَيثُ
وَكَأَنَّ الظَّلَامَ لَما تَوَلى
…
نَمِرٌ رَاعَهُ منَ الفَجْرِ لَيثُ
وإنما ألمَّ الأستاذ أبو محمد في قوله:
والليل مُنْحَفِزٌ يطير غرابُه
البيت.
بقول الأمير تميم بن المعز، في لفظه ومعناه. حيث يقول:
وكَأَنَّ الصَّبَاحَ في الأُفْقِ بازٌ
…
والدُّجَى في مَخَالِبَيْهِ غُرَابُ
وقد كرره تميم في قوله أيضا:
وانْظُرْ إِلَى اللَّيْلِ كَالزَّنْجِي مُنْهَزِماً
…
والصُّبْحُ في إِثْرِهِ يَعْدُو بِأشْهَبِهِ
وأخذه أبو الحسن التهامي فقال:
أُحْيِي لَيالي بِتُّهَا وتُميتُنِي
…
ويمُيتُهُنَّ تَبَلُّجُ الأَنوَارِ
حتى رأيت الفَجْرَ ترفع كَفَّه
…
بالضوءِ رفرفَ خيمةٍ كَالقارِ
والصبحُ قد غَمَرَ النُّجُوم كَأنهُ
…
سَيْلٌ طَمَا فَطَفَا عَلَى النُّوَارِ
وأخذه أبو محمد الصقلي فقال:
مَازِلْتُ أشْرَبُ كأسهُ من كفِّهِ
…
ورُضَابُهُ نَقْلٌ عَلى مَا أَشربُ
حتَّى انْجَلَى الإِصْبَاحُ عن إظْلامِهِ
…
كالسَّتْرِ يُرْفَعُ عن مليك مُحْجَبُ
وأخذه الآخر فقال:
في ليلةٍ أكل المِحَاقُ هلالها
…
حتَّى تََبَدّى مثلَ وَقْفِ العاجِ
والصُّبْحُ يَتْلو المشتري فَكَأَنهُ
…
عُرْيَانَ يَمشي في الدُّجَى بسراج
وأخذه أبو جعفر بن الأبار فقال:
والصبح ينشر من سَنَاهُ صوارما
…
والليلُ يرفعُ منْ دُجَاهُ سُدُولا
وكَأَنَّ جُنْحَ اللَّيْلِ طرْفٌ أَدْهمٌ
…
متَضَمِّنٌ من صُبحه تحجيلا
وما أحسن قول ابن المعتز في هذا المعنى وهو:
فَإنْ شئتُ غادَتْني السُّقَاةُ بكَأسها
…
وقد فتح الإِصْبَاحُ في ليلهِ فَما
فَخلتُ الدُّجَى والليلُ قد مدَّ خَيْطهُ
…
رداءً مُوَشّىً بالكَواكبِ مُعْلماَ
وفي هذا المعنى من قول ابن المعتز؛ أنشد أبو بكر ابن دريد، عن عبد الرحمان، عن عمه، عبد
الملك الأصمعي لرجل من العرب:
كَأَنَّ بَقَايَا الليل في أخريَاته
…
مُلَاءٌ تُنَقَّى من طَيَالِسَةٍ خُضْرِ
تَخَالُ بَقَايَاهُالتي أَسْأَر الدجى
…
تَمُدُّ وشيعاً فَوْقَ أَرْدِيةِ الفَجْرِ
شبهها بالوشيع، لما تراءى في خلاله، من خيوط بياض وسواد
قال: وَلِهَذَيْنِ البَيْتَيْن، خبرٌ عجيب، ونبأٌ غريب، يَجْنَحُ لسماعه كل أديب. ويُستَحْسَن موقعه في
القلوب. حكاه أبو علي البغدادي عن أبي بكر بن دريد، عن أبي حاتم، وعبد الرحمان، ابني أخي
الأصمعي عن الأصمعي.
قال: نزلت بقوم من غَنِيٍّ مجتورين، هم وقبائل من بني عامر بن صعصعة فحضرتُ ناديا لهم،
وفيهم شيخ طويل الصمت، عالم بالشعر وأيام الناس. يجتمع إليه فتيانهم، ينشدونه أشعارهم. فإذا سمع
الشعر الجيد، قرع الأرض قرعة، بمحجن في يده، فَيَنْفذُ حكمهُ على من حضر، بِبَكْرٍ للمنشد. وإذا
سمع ما لا يعجبه، قرع رأسه بمحجنه، فينفذ حكمه عليه، بشاة، إن كان ذا غنم، وابن مخاض، إن كان
ذا إبل فإذا أُخِذَ ذلك، ذبح لأهل النَّادي.
فحضرتهم
يوماً، والشيخ جالس بينهم. فأنشده بعضهم بيتين في وصف قطاة:
غَدَتْ في رَعِيلٍ ذي أَدَاوَى مَنُوطَةٍ
…
بِلَبَّاتِها مدبوغَةٍ لَمْ تُمرَّخِ
إِذَا سَرْبَخ عَطَّتْ مَجَالَ سَرَاته
…
تَمَطَّتْ فَحَطَّت بين أَرْجَاءِ سَرْبَخ
فقرع الأرض: بمحجنه وهو لا يتكلم، ثم أنشده آخر في وصف ليلة:
كأن شميطَ الصُّبح في أخرياتها
مُلاء ...........
البيتين المذكورين.
قال: فقام الشيخ كالمجنون، مصْلتا سيفه حتى خالط البرْكَ، فجعل يضرب يمينا وشمالا وهو يقول:
لاِ تُفْرِغَنْ في أذُنَيَّ بَعْدَها
…
مَا يَسْتَفِزُّ فَأُريكَ فَقْدَها
إنِّي إذا السيف تولى ندَّها
…
لا أستطيع بعد ذاك رَدَّها
وهو معنى مشهور. وفي الأشعار منه كثير.
وأرى أبا جعفر التطيلي إليه أومأ، وعليه نبَّه، وبه أنبأ، حيث يقول:
كمْ لَيْلَةٍ جُبْتُ مَثنى طُولها بفَتىً
…
شَتَّى التََّسَالك بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّررِ
حَتىَّ بدَا ذَنَبُ السِّرحان لِي وَلها
…
كَأنَّمَا هُو زَنْدٌ بالصَّباحِ يرِِِي
وفي قوله أيضا، من قطعة، هي ثابثة في مكانها من هذا الكتاب:
وَالصُّبْحُ يَقْدَحُ فِي الظَّلْمَاءِ نَائِرَةً
…
كَأَنَّهَا نَفْثَةُ المَصْدُور عَن حَنقِ
والشَّرْقُ يَفْهَقُ وَالآفاقُ وَارِدَةٌ
…
وَأَنْجُمُ اللَّيْلِ قَدْ أَيْقَنَّ بِالبَلقِِ
وقد أخذ الوزير الأجل أبو عمرو بن غياث شيخنا بيت تميم: وانظر الى الليل كالزنجي البيت، فقال
من قصيدة له طويلة:
يَا سَارياً ملَّ السُّرى الكَوْكبُ
…
وَأَنْتَ تَسْرِي كَمْ وَكَمْ تدْأَبُ
كَأَنْ لَمْ تُبْصِرْ كُمَيْتَ الدُّجى
…
يَرْهَقُهُ مِنْ صُبْحهِ أَشهَبُ
وَمِنْ قَوْلِي فيهِ من قَصِِيدَةٍ فِي التغزل:
كَمْ لَيْلَةٍ بِتُّها حَرَّانَ مُكْتَرثاً
…
رَهْنَ الأَسى وَظَلامُ اللَّيلِ معْتَكرُ
ما بين ضدَّين من نارٍ مُؤجَّجةٍ
…
ودمعُ عَيْني بماءِ الشوقِ يَنْهمرُ
ما بين خدين لا والله ما اجتمعا
…
إلَاّ لأمر كبار ليس يُحْتَقَرُ
حتى رأيت كُمَيْتَ الليل منهزماً
…
وأَشهبَ الصبح قد وافى به السَّحَرُ
وفيما أثبتُ منه كفاية، وَمَنِ الَّذي في وُسْعهِ أن يُحيِط بالغاية؟
والأستاذ ابو محمد بن السيد رحمه الله في أدباء (الأندلس) وأعْلامِها مشهور؛ وله من النحو والأدب
حظ موفور. وكان منفردا في فهمه ونُبْلُه؛ ومعروفا بالصحة في حكايته ونقله وله (شروحات)
وتواليف دلَّت على ذكائه، وبراعته، وتهذيبه، وفصاحته: منها كتابه على (أدب الكتاب) المسمى
بكتاب (الاقتضاب) وشرحه
(لسقط الزند) للمعري، جوَّد فيه وأتقن، وبالغ في الإيضاح وأحسن. وبلغ
في (المثلث) الغاية؛ بل زاد علي النهاية. الى رقة الطبع والمنزع؛ وحلاوة المعاني والمشرع. سريع
الارتجال؛ مليح الوصف لأهل الحسن والجمال. وله في التغزل مُعَشَّرات، أحسن إيات من الشمس،
وأجرى من النَّفْسِ في النَّفَسِ. عارض فيها أبا الحسن الحصري فما قصر عنه، وان لم يكن ساواهُ،
فلقد دنا في الإبداع منه.
مولده سنة أربع وأربعين وأربع مائة. وتوفي ببلنسية في رجب الفرد سنة إحدى وعشرين وخمس
مائة. رحمة الله عليه وبركاته. ذكر مولده ووفاته ابن الصيرفي في تاريخه وحكى أنه حضر مع ابن
ذي النون، المتسمى من الألقاب السلطانية بالقادر بالله رئيس طليطلة. أحيا الله بنور الإيمان رمقها
ووسمها، وأعاد
في ديوان المسلمين رسمها، مجلس أنس في (المنية) المتناهية في البهاء والإشراق،
الجامعة لمحاسن (اليمن) و (العراق) التي تتفجر أبدا وتقطر، وتكاد من الغضارة تمطر، والقادر بالله
قد التحف بالوقار، وَارتداَه، وحكم العقار في جوده ونداه، والدولاب يئن كناقة اثر الحُوار، أو كَثكْلى
مِنْ حَرِّ الأُوار، والمجلسُ قد راق في أعين الناظرين، ونغماتُ العود والقيان تَنْحَرُ السَّامعين، فكأنه
لحُسْنِهِ الشمس في الحَمَلِ، وأَهله قَد ابتهجوا بِنَيْلِ الأَمل، والجَوُّ قد عنبرته أنواره، والروضُ قد ذهبته
أنداؤه. والأسْدُ قد فغرت أَفْوَاهَهَا، ومجَّتْ أََمْوَاهَهَا. فقال: أبو محمد مرتجلا:
يا منظراً إِنْ رَمَقْتُ بَهْجَتَهُ
…
أَذْكَرَنيِ حُسْنَ جنَّةِ الخلْدِ
تُرْبَةُ مسكٍ وَجَوُّ عَنْبرَةٍ
…
وَغَيْمُ ندٍّ وطشُّ ما وردِ
وَالماءُ كاللَاّزَوَرد قد نُظِمَتْ
…
فيِه اللآلي فواغِرَ الأُسدِ
كَأَنما جَائِلُ الحبابِ بِهِ
…
يَلعَبُ في حافَتَيْهِ بالنرْدِ
تراهُ يُزْهَى إِذا يَحِلُّ به ال
…
قادرُ زَهْوَ الفتاةِ بالعقدِ
تَخَالُهُ إَنْ بَدا لِناظِرِهِ
…
بَدْراً بداَ فِي مطالع السَّعْدِ
كأَنَّما أُلبِسَتْ حَدائِقُه
…
ما حَازَ مِنْ شيمَةٍ وَمِنْ مجدِ
كَأنّمَا جادَها فَرَوَّضهاَ
…
بنائلٍ من يمينه رغْدِ
الرَّغْْدُ، النَّفْعُ الواسِعُ الكثير، الذي ليس فيه تعب ولا عناء.
وقال أبو بكر ابن دريد الرَّغْد: السعة في العيش والمرعى.
يقال: عَيْشٌ راغِدٌ، وَرَغْدٌ وَرَغيِد.
وقالَ صَاحبُ العين عَيْشٌ رَغَدٌ رَغيِدٌ: رَفيِهٌ.
وقال أبو عبيدة: الرَّغْدُ، الكَثيرُ الذي يقيك من ماء، أو عيش، أوكلاء، أو مال. يقال: قد أرْغدَ فلان،
اذا أصاب عيشا واسعاً.
وأرغد الرجل ماشيته، إذا تركها وَسوَْمَهَا فى المرعى. والرَّغِيدَة، الزُّبْدَةُ فى بعض اللغات.
وقال الأعشى يصف نيل مصر، بالرَّغَد والكثرة:
زبِداً بِمِصْرٍ يَوْمَ يَسْقيِ أَهْلَهَا
…
رَغْداً تُفَجِّرُهُ النَّبيطُ خِلَالَهَا
وقال الله سبحانه (وكُلَا منها رَغَداً حيث شئتما).
قرأ النخعي، ويحي بن وثاب، رغدا، بإسكان الغين، وفتحها الجمهور من القراء. وهي اللغة
المستعملة الفصيحة. ويقال: قوم رَغَدٌ، ونساء رَغَدٌ.
وحكى بعض الرواة: أن المعتمد بن عباد اختص ذات يوم، بجواريه
وكرائمه، وشرب حتى أخذت منه الحميّا ثارها؛ وأبدت له الاماني اسفارها. فمشت بين يديه جارية، من تلك الجواري؛ وهي
كالشمس تحلت بالدراري، وعليها غلالة، لا تُخفي نضرة جسمها، وقد أسلبت ذوائب، يخفى ضوء
الشمس في مدلهمها. فسكب المعتمد عليها إناء ماء وَرْد، كان بين يديه. فامتزج الدَّلُّ ليناً واسْتِرْسَالاً؛
وتشاكل طيبا وجمالا. فأدركت المعتمد أريحيةُ الطرب؛ ومالت به راح الأدب فقال:
وَهَوِيتُ سَالِبَةَ النُّفُوسِ غَرِيرَةً
…
تَخْتَالُ بين أسنّةٍ وبَوَاتِر
ثم تعذر عليه المقال؛ أو شغلته عنه تلك الحال. فأمر بعض الخدم، أن يسير إلى النَّحْلي، ويأمره
بإجازة البيت. فلما بلغ الرسول إلى النحلي، وأعلمه بالحال، وأضاف إلى البيت من حينه:
راقَتْ مَحَاسِنُهَا ورَقَّ أَدِيمُها
…
فَتكَادُ تُبْصِرُ بَاطِناً من ظَاهرِ
وتَمَايلَتْ كالغُصْنِ هَزَّتْهُ الصَّبا
…
والتَفَّ في وَرَقِ الشَّبَابِ الناضِر
يَنْدَى بِمَاء الوَرْدِ مُسْبِلُ شَعْرِهَا
…
كالطلِّ يَسْقُطُ من جَنَاحِ الطَّائرِ
تَزْهَى بِروْنَقِهَا وحسنِ جَمَالها
…
زَهْوَ المؤيَّد بالثَّنَاء العَاطرِ
مَلِكٌ تضَاءلَتِ المُلوكُ لقدْرهِ
…
وَعَنَا لهُ صَرْفُ الزَّمَانِ الجَائرِ
وإذا لَمَحْتَ جَبِينَهُ وَيَمِينَهُ
…
أَبْصَرْتَ بَدْراً فَوْقَ بحرٍ زَاخرِ
فلما وصلت الأبيات الى المعتمد ولمحها، استغربها واستملحها. وتعجب من موافقة الغرض،
واستعذاره. وأمر في الحين بإحضَارِه. فلما وصل إليه، قال له: أصبتَ وأحسنت. أَوَ معَنا كنت؟ فقال
له النحلي: يا قاتل المحْل أو ما تلوت (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ). فزاد المعتمد هذا الجواب عجبا؛ واهتز له استغرابا وتعجبا.
وقرَّبَ النحلي وأدناه، ووهب له من المال ما أرضاه به، وأغناه.
وحكى الفقيه الكاتب، أبو محمد بن عبدون، أنه ساير المتوكل على الله أبا المظفر بن الأفطس إلى
مدينة (شنترين)، أعاد الله للمسلمين مُلْكها؛ وزين
بنور الإيمان سِلْكَها؛ وطهر بالهدى رِجْسَهَا وإِفْكَهَا
وهي عَلَى ضفة نهر، استدار بها استدارة القُلْبِ بالسَّاعِدِ؛ فحكت واسطة عقد، على نَحْرِ كَاعِبٍ نَاهِد.
قد أطلت على خَمَائِلِها إطلال العروس من منصتها، واقتطعت في الجو أكثر من خصتها. ولها جَنَابٌ
خَصيب، يروق منه مرأى عجيب. فمروا بقصر يلبش، وقد سالت جداولُه، واخْتالت خَمَائلُه. فما
تجول به العينُ إلا في مدينة غشاء، أو بقعة أنيقة زهراء. فتلقاهم الأديب أبوزيد بن مقانا، قاضي
حضرته. فأنزلهم، وأوْرى بالمبَرَّة زنده لهم، وقدم لهم طعاما، واعتقد قبوله منه، منّاً عليه وإنعاما.
فطعموا، وقَعَدَ القاضي بباب المجلس رقيبا لا يبرح، وعين المتوكل حياء منه لا تجول ولا تَمْرح.
فخرج أبو محمد، وقد أضرمه بتثقيله، وحرمه راحة رواحه ومقيله، فلقي ابن خيرون منتظرا له، وقد
أعد لحلولهم منزله، فصار معه أبو محمد إلى مجلس، قد ابتسمت ثُغُورُ نُوَاره، وخَجِلَت خُدُودُ وَرْدِه
من زوَّارِه. وأبدتْ صُدُور أباريقِه أسرَارَها، وضمت عليه المجالس أزرارها. وحين حضروقت
الأنس وحينه، وتأرَّجتأزْهَارُه ورياحينه، وجه مَن يَرْقُب المتوكل حين يقوم جليسه، ويَزولُ موحِشُه لا
أَنِيسُهُ. فأقام الرسول، والقاضي بمكانه لا
يَرِيمُهُ، قد لازَمَهُ كَأَنَّهُ غَريمُهُ. فما انفصل، حتى ظن أن
عارِضَ الليل قد نَصَل. فلما علم أبو محمد بانفصال القاضي عن المتوكل، وقد أضَرَّ به من شدَّة
التثقل، بعث إليه قطيع خَمْر، وطبق وَرْد، وكتب إليه:
إليكَهَا فَاجْتَلِهَا مُنيرَةً
…
وقَد خَبَا حتّى الشِّهَابُ الثَّاقِبُ
وَاقِفَةً بالبابِ لَمْ يُؤْذَنْ لَها
…
إلَاّ وَقَدْ كَادَ يَنامُ الحَاجبُُ
فَبَعْضُها من المَخَاف جَامدٌ
…
وَبَعْضُهَا من الحَيَاءِ ذَائبُ
فلما رآها المتوكل، وضعها أمامه، وكتب إلى أبي محمد ببيتين هما:
قَد وَصَلَتْ تِلْكَ التي زَفَفْتَهَا
…
بِكْراً وَقَدْ شَابَتْ بِهَا ذَوائبُ
فَهُبََّّ حتى نستَردَّ ذَاهِبا
…
من يَوْمِنَا إن استُردَّ ذَاهبُ
فصار إليه أبو محمد، ونقل ما كان في المجلس، فوضع بين يدي المتوكل، وباتا ليلتهما، لا يَريمَان
السَّهَر؛ ولا يشيمَان برقا إلا الكأس والوَتَر.
قال واصطبح المعتمد في بعض أيام مُلْكه، وسعدُه مستقيم على فلكه، والدهر من خُدَّامه، والنصر
مُلازِمٌ لأعلامه والأرضُ قد نَشَرَت مُلَاءَها؛ وَسَحَبَتْ رِدَاءَها وَجَرَّتْ فوقها ذُيُولَ السَّحَابِ؛ فاكتَسَتْ
أحْسَن جِلْبَاب. واهتَزَّ الرَّوْض لتغريد حَمَامه؛ وبرز الوردُ من كِمَامه، والأشجارُ قد نشرت شعرها؛
والاماني قد أماطت عُبُوسها، وأبدت بشرها، وهو إذ ذاك في قصره الذي طويل الوصف فيه قصير،
والواصف دون بلوغ مداه حسير.
فدخل عليه ابنه الرشيد فأمره بإحضار أَهْلِ أُنْسِه، المختصين بمشاهدة مَجْلِسِه؛ من الوزراء الكِرام،
والكتاب، والأدباء المشاهير الأعْلام، ممن اشتهر بالذكاء والفَصَاحَة، وسُمِّيَ بالجزالة والرَّجاحة، فلما
كَمُلَ أُنْسُ المَجلس ورَاقَ، وقام السُّرُور به على سَاق. قال لهم المعتمد: قلت البارحة بيت شعر وهو:
بعثنا بالغَزَال إلى الغَزَالِ
…
وبالشمسِ المنيرةِ لِلْهِلَالِ
وأحبّ أن يذَيّل عليه. وذلك أنه، كان قد أمر بصناعة غَزَالَيْن من ذهب، فصنعا معا من سبع مائة
مثقال خالصة. فأهدى أحدهما إلى ابنه الرشيد. والآخر إلى الحرة المصونة ابنة ابن مجاهد. وقال
البيت المذكور. فذيله الأديب أبو القاسم بن مَرْزُقان فقال:
فَذَا سَكَني أُسَكِّنُهُ فؤادي
…
وذا َنجْلي أقَلِّدُهُ المَعَالي
شَغَلْتُ بذَا وذا خَلَدي ونفسي
…
ولكني بذَاكَ رَخيُّ بالِ
دَفَعْتُ إلى يدَيه زمام مُلكي
…
مُحَلَّى بالصَّوَارِمِ والعَوَالي
فَقَامَ يُقرُّعَيْنِي في مَضاءٍ
…
ويَسْلُكُ مَسْلَكِي في كُلِّ حال
فَدُمتَ للعَلاء ودَامَ فينَا
…
فَإنّا للكفَاح وللنزال
فَسُرَّ المعتمد بهذا القول واستحسنه، وقرب أبا القاسم من نواله ومكنه، واستغرب إصابته الغرض،
وأثبت له راتباً جَزْلاً وَفَرْض وأَمَرَه ألا يغيب عن مجلسه؛ وأدناه زيادة على ما كان في يومه وأمسه.
قوله: (فذا سَكَني) قال أبو بكربن دريد السَّكَنُ، صَاحِبُكَ الذي تَسْكُن إليه. فقال: فلان سَكَني وقال الله
تبارك وتعالى: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) أي تسكن فيه الحركات. والسكَنُ أيضا، الرَّحْمَة والبركة، قال الله تعالى وجلّ (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف بن هشام في اختياره، وحفص عن عاصم بالتوحيد،
وقرأ سائر القراء بالجمع لأنها صلوات جماعة. والإفراد لأنه مصدر يقع على القليل والكثير. وقد وافق حمزة والكسائي
وحفصا عن التوحيد، جماعة من غير السبعة، منهم الأعمش وحُمَيْد وابن وثاب.
والتّوحيد اختيار أبي عبيد. وقال: الصلاة بالتوحيد عندي، أكثر من الصلوات. ألا تسمع قول الله
تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) للصلوات، لا يتكلم بها إلا على العدد، كقولك: ثلاث صلوات، وأربع وخمس.
وقال صاحب العين سَكَنَ يَسْكُنُ سُكُوناً، إذا ذهبت حركته. ويقال: سَكَنَتِ الرِّيح، وَسَكَنَ المَطَر،
وسَكَنَ الغَضَب وسَكَنَ في معنى سَكَتَ. وهو المستعمل في أشياء كثيرة وفي كتاب الله تعالى (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ)، أي
سَكَنَ. شبّه سُكُوت الغضب، بسكوت الناطق، من حيث كان ثُؤْرُهُ، كالناطق، وسُكُونُه كالسُّكُوتِ، وقيل
هو من المقلوب. والمعنى ولما سكت موسى عن الغضب فهو كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي
والسَّكْن بسكون الكاف، هو العيال، وهم أهل البيت، ومنه قول الشاعر:
لَيْسَ بِأَسْفَى ولا أَقْنَى ولا سَعَلٍ
…
يُسْقَى دَوَاءَ قَفِيِّ السَّكْنِ مَرْبُوبِ
والسَّكَن أيضا المنزل، والسَّكْن السُّكانُ، والسَّكينة الوداعة والوقار. يقال: فلان ساكن هاديء وقور
وفي حديث أبي هريرة فيما روى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه، إذا ثُوِّبَ بالصلاة، فلا تأتوها
وأنتم تسعون، واتوها وعليكم السكينة. أي: الوقار. فهي فعيلة، من السكون الذي يراد به الوقار، لا
السكون الذي هو ضد الحركة.
فأما قوله تعالى: (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) فاختلف أهل العلم فيه. فقال علي رضي الله عنه: السَّكِينَةُ رِيحٌ هَفَّافَةٌ، لها وجه
كوجه الانسان رواه سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الاحوص عن علي.
والهفافة السَّرِيعَةُ المَرِّ، يقال: هَفَّتْ، تَهِفُّ، هفيفا.
ومنه قول ذي الرمة:
إِذَا مَا نَعِسْنَا نَعْسَةً قُلْتُ غَنِّنَا
…
بِخَرْقَاءَ وارْفَع من هَفِيفِ الرَّواحِلِ
وقال مجاهد: لها رَأْسٌ وذَنَبٌ، كرأس الهرِّ وَذَنَبِه. وكذا قال ابن عباس، إلا أنه قال: لها عينان، لهما
شعاع، اذا الْتقى الجمعان، أخرجت رأسها، ونظرت إليهم، فينهزم الجيش من الرعب، وعنه أنه قال:
هي طَسْتٌ من ذَهَب، كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء.
قوله: (هي طَسْتٌ) فالطَّسُّ مؤنثة أعجمية معربة. يقال: الطَّسُّ، والطَّسْتُ، والطَّسَّة بفتح الطاء،
والطِّسَّة بكسرها
وتصغيرها طُسَيْسَة والجميع طِسَاسُ، وَطَسَّاة ٌ، وَطُسُوسٌ، وطُسُوتٌ أيضا، وطسيسٌ. وهو من الجمع
الشاذ، مثل كلب وكليب، وفحل وفحيل.
وقال وهب هي روح من الله، يكلمهم، اذا اختلفوا في شىء بيَّنه لهم. الضحاك: هي الرَّحمة. عطاء:
هي ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها.
وقال الحسن كانت سكينة بني إسرائيل، ما في التابوت من ميراث الأنبياء، وكان فيه عصا موسى،
وعمامة هارون الصفراء، ورصاص اللوحين اللذين رفعا. جعل الله لهم ذلك سكينة. لا يفرون عنه
أبدأ، وتطمئن قلوبهم إليه.
وقال مقاتل في تفسيره: كان في التابوت رأس كرأس الهِّرَّة، إذا صاح كان الظفر لبني اسرائيل.
والسَّكْنُ أيضا: الناروالجميع الإسكان. قال الراجز:
قُوِّمَنْ بالدُّّهْنِ وبالإسكان
والمسكينُ الذى لا شيء له. وربما جعل الناس المسكين في غير موضعه، فيجعلونه الفقير قال أبو
عبيدة وليس كذلك، لأن الفقيرالذي له شىء، والمسكين الذي لا شيء له. وأنشد أبو عبيدة:
أَمَّا الفقير الذي كانت حَلُوبتُهُ
البيت.
فأما قوله تعالى: (أما السَّفينة فكانت لمساَكِين يَعْمَلونَ فيِ البَحْر) فقال أبو حاتم أحسبه أنهم كانوا
شركاء في سفينة لا يملكون سواها فخالف أبا عبيدة.
والمسكنة مصدر فعل المسكين. يقال: تَمَسْكَنَ الرجُل إذا صار مسكينا ووزنه مِفْعِيل. والسُّكَّان، ذَنَبُ
السفينة الذي تعدل به. والسِّكّين، فِعِّيل من قولهم:
ذَبَحْتُ الشيء، حتى سَكَنَ اضطرابه. يذكر ويؤنث وجمعه السَّكاَكين وأصل الباب كله السُّكُون. وهو
ضد الحركة، لأن السكون، والهدوء، والثبوث، نظائر وكذلك الاستقرار والاطمئنان والثبات والمسكن
والمأوى والمثوى نظائر.
وقال الله تبارك وتعالى (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي: اجعلها تأوي فيه، وتسكن إليه. ويقال: اسْكُنْ؛ أي استقر في مكانك،
ولا تتحرك. ويقال: سَكَنَ يَسْكُن سُكُونا، وأَسْكَنَهُ إِسْكَاناً. وسَكَّنَهُ تَسْكِيناً، وسَاكَنَهُ مُسَاكَنَة. وفلان
يَتَمَسْكَنُ لربه.
رجع
وحكى إبراهيم الموصلي قال: جمع الرشيد ذات يوم بين المغنين، فلم يبق أحد من الرؤساءإلا
حَضَر. وكنت فيهم. وحضر معنا أبو صدقة
مسكين المدني، وكان يوقِّع بالقضيب، مطبوعا حاذقا،
طيب العشرة، مَليح النادرة. فاقترح الرشيد حين عمل فيه النَّبيذ، صوتا. فأمر ابن جامع، صاحب
الستَّارة أن يغنيه إياه، ففعل؛ فلم يطرب عليه. ثم فعل ذلك بجماعة ممَّنْ حضر، فلم يحرك منه أحد.
فقال صاحب الستارة لمسكين المدني: يأمرك أمير المومنين، إنْ كُنت تُحسن هذا الصوت تُغَنيِّه. قال
إبراهيم: فاندفع فَغَنَّاه، فَأَمسكنا جَميعا متعَجِّبين، من جرأةِ مِثْله على الغِنَاء بحضرتنا، في صوت، قد
قصرنا فيه، عن مراد الخليفة.
قال إبراهيم: فلما فرغ منه، سمعت الرشيد يقول، وقد رفع صوته: أحسنت - والله يا مسكين -
وأجملت، أَعِدْه! فأعاده بِقُوَّة ونَشَاط، واجتماع قلب، فأحسن فيه كل الإحسان، فقال الرشيد: أحسنت -
والله يا مسكين وأجملت. ثم أمر برفع الستارة بيننا وبينه، فقال له مسكين: ياأمير المومنين، إن لهذا
الصوت خبرا عجيبا. قال: وما هو؟ قال: كنت عبدا خياطا لبعض آل الزبير، وكانت لمولاي عليَّ
ضريبة أدفع إليه كل يوم درهمين، فإذا فرغت من ضريبتي، تصرفت في حوائجي وكنت مولعا
بالغناء، ومحبا له. فخِطتُ يوما قميصا لبعض الطالبيين، فدفع إلي درهمين، وتغذيت عنده، وسقاني
أقداحا،
فخرجت، وأنا فرحان جذلان.
فلقيتني سوداء، على عاتقها جرة، وهي تغني هذا الصوت؛ فأذهلتني عن كل مهم، وأنساني ما
سمعت منها كل حاجة. فقلت لها: بحق صاحب القبر، أَلَا أَلْقَيْتِ عَلَيَّ هذا الصَّوت. فقالت: وحقِّ
صاحب القبر، لَا أَلْقَيْتُهُ عليك، إلا بدرهمين. فأخرجت - والله يا أمير المومنين - الدرهمين اللذين
أعددتهما للضريبة، ودفعتهما إليها فحدَّرَت الجَرَّة عن عاتقها، وقعدت تُوَقِّع عليها، واندفعت تغنيه. فما
زالت تردده عليّ، حتى كتب في صدري. وانصرفت إلى مولاي؛ فلما رآني، قال: هَلُم خراجك
فقلت: كان وكان. فقال يا ابن اللخناء ألم أتقدم إليك، إني لا أقبل لك عذرا، في حبة تكسرها، ثم
بَطَحَني، فضربني خمسين جريدة، بأشد ضرب يكون. وحلق رأسي، ولحيتي. فبت - يا أمير
المومنين - أسوء خلق الله حالا. وأنسيت الصوت، من حرارة ما نالني من الضرب. فلم يكن شيء،
هو أشد عليّ من نسيان الصوت فلما أصبحت، غطيت رأسي، وأخذت جَلَمي في كمي، ومضيت نحو
الموضع الذي لقيت فيه السوداء. فبقيت كالمتحيِّر، لا أعرف لها إسما، ولا منزلا، فلم أبرح على تلك
الحال، حتى بصرتُ بها مقبلة؛ فأنسيت كل ما نالني عند رؤيتها، وملت إليها، فقالت: أنسيت، ورب
الكعبة، الصوت. فقلت لها: الأمر كما ظننت. وعرفتها ما اتفق
لي، وما كان من حلق رأسي،
ولحيتي، بعد ضربي. وقلت: أرعى في الأجر وردديه علي فقالت: وحق القبر، ومن فيه، لارددته
عليك الا بدرهمين، فأخذت جَلَمي، فرهنته على درهمين، دفعتهما إليها. فحدرت الجرة عن رأسها،
وفعلت كما فعلت بالأمس، واندفعت تغني؛ فَسَاعة مَرَّت في الصوت، قلت لها: رُدِّي عليّ الدرهمين،
لا حاجة بي في غنائك.
فقالت: والله، لا تراهما، ولا تطمع في ردهما إليك أبدا ثم قالت: كأني بك، وقد أخذت مكان الأربعة
دراهم، أربعة آلاف دينار من الخليفة. ثم جعلت تغنيه، وتوقع على جرتها، وتردده عليّ، حتى رسخ
في قلبي ثم مضت عني، وانصرفت إلى مولاي حَذِراً، وَجِلاً منه. فلما رآني، قال: هلم خراجك،
فلويته لساني، فقال: يا ابن اللخناء! ألم يكفك ما مر عليك في أمسك؟ فقلت: أصدقك ولا أكذبك. إني
اشتريت بخراجي، أمس واليوم، هذا الصوت، ثم اندفعت أغني، فقال لي: ويحك معك مثل هذا
الصوت، منذ يومين، ولم تعلمني، امرأته طالق، لو كان يملك شيئا سواك لأعتقتك وأما حلق الرأس
واللحية فلا حيلة لي فيهما، وأما خراجك، فقد وهبه الله لك إلى أن ينبت شعرك. قال: واستضحك
الرشيد، وقال له: ما أدري أيها أحسن، أحديثك أم غناؤك؟ وقد أمرت لك بما حكمت به السوداء. ولم
يبرح من مجلسه، حتى قبض الأربعة آلاف دينار.
قال: وكان الشعر المذكور:
قف بالمنازل ساعة فتأمل
…
هل بالديار لزائر من منزل
مَا بالدِّيار منَ البِلَى وَلَقَد أرى
…
أن سوف يحملني البِلى في مَحْمَلِ
وحكى بعض الوزراء بإشبيلية، قال: خرج المعتمد في بعض الأيام، يريد (لورقة) ليتطلع على
أحوالها، ويتفقد جميع أعمالها. فاشتد وجده بمن كان يهوى، وتحقق أنه على البعد ليس يقوى. وألم به
شغفه وهيامه، وغلب على قلبه غرامه فوصل (لورقة) ليلا، واستدعى القائد أبا عيسى بن اليَسَع في
ساعة لم يخف فيها زائر من مراقب، ولم يبد في الأفق غير نجم ثاقب فَريعَ القائد أبو عيسى لذلك،
وجَزِعَ جَزَعاً شديدا هنالك، حتى ودع من تَخَلَّف؛ وَأَوصى بِمَا خَلَّف، وسار إلى المعتمد فوصل، وما
للأمن إلى قلبه وُصول، وهو يتخيل أن الجوّ صَارمٌ وَنُصُول. فلما مَثُلَ بين يديه، وسَلَّم عليه، قرَّبَه
المعتمد وآنسه، وسكَّن رعبه وتوَجُّسَه،
وأخذا في الحديث ساعة. وليس للمعتمد في كتمان حاله استطاعة
فقال للقائد: خرجت من (اشبيلية)؛ فحدث في النفس غرام طوته ضلوعي؛ وكفكفت به غَرْب دموعي
بفتاة هي الشمس، أو كالشمس إخالها: لا يجول قُلْبُها ولا خلخالها. وفيها أقول عند وداعها، يوم تفطر
كبدي وانصداعها:
ولما التقينا للوداع غديةً
…
وَقَدْ خَفَقَتْ في ساحة القصر راياتُ
بكينا معاًً حتى كأن عيوننا
…
بِجَرْي الدموع الحُمرمنها جِراحاتُ
وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي؛ وأبرأتني من توجعي وأمكنتني من عناقها، وبردت كبدي من
إحراقها لما سقتني سلسال رُضابها ومتعتني من دلالها وخضابها. فقلت:
أبَاحَ لَطيفي طَيْفُها الخَدَّ والنَّهْدَا
…
فعض بها تفاحةً وجنى وردا
ولو قدرت زارت على حال يَقْظةٍ
…
ولكنْ حِجَابُ البَيْنِ ما بيْنَنَا مدَّا
أَمَا وَجَدَتْ عَنَّا الشُّجُون ُمُعَرَّجا
…
وَلَا وَجَدَتْ منا خَطوبُ النَّوَى بُدَّا
سقى اللهُ صَوْبَ القطر أُمَّ عُبَيْدة
…
كَمَا قد سَقَتْ قَلْبِي على حَرِّهِ بَرَدَا
هي الظَّبْيُ جيداً والغَزَالَةُ مَنظَراً
…
وَرَوْضُ الرُّبَا عَرْفاً وغُصْنُ النَّقا قَدَّا
فأكثر القائد استعادتها، وكرر استجادتها؛ فأمر له المعتمد بخمس مائة مثقال، وولاه (لورقة) من حينه.
قال أبو إسحاق:
أجاد المعتمد في قوله وانطبع، وأحسن ما شاء وإن لم يكن اخترع، وشكر للطيف حين زاره ما صنع
وقوله: برّدت كبدي. فيه لغتان: بَرَّدْتُ بالتشديد، وبَرَدْتُ بالتخفيف.
وينشد قول الراجز:
قد علِمَتْ أنِّي مُرَوِّي هَامِهَا
…
وبارد الغَليل منْ أُوَامِها
إذا عقدتُ الدَّلْوَفي خِطَامِهَا
خِطَامُها: رشاؤها.
وأنشد أبو زيد:
قد وَرَدَتْ من بحر ذِي عَدوق
…
خَوامِصاً جاءتْ من العَقِيقِ
ترتشفُ الماء ارتِشَافَ الريقِ
…
كأنما يَبْرَدْنَ بالغَبوقِ
قال هذا قاسم في (الدلائل). وحكى عن الحسين، عن أحمد بن يحيى عن ابن الاعرابي. قال: تقول
العرب: وَسْقني وَأَبْرِد.
ومعناه: ايتني به باردا. وأسقني وأَبْرِدْ غليلي. قال: وزعم بعض أهل العربية أنك تقول: برَّدت
الماء: من الإِبْراد، وبرَّدته من الإسخان وقال: هو من الأضداد. وكان ينشد في ذلك بيتا يغلط فيه:
عابت الماء في الشتاء فَقُلْنَا
…
بَرِّديهِ تُصَادِفِيهِ سَخِينَا
وإنما هو: بَلْ رُدِّيهِ فأدغم اللام في الراء كما يقرأ (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
قال: وفي الحديث، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فتح (خيبر)، وهي مخضرة من الفواكه؛
فواقع الناس للفاكهة؛ فمغثتهم الحمى، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها
الناس إن الحمى رائد الموت، وسِجْنُ الله في الأرض. فبرِّدوا لها الماء في الشِّنانِ؛ ثم صبوه عليكم
فيما بين الصلاتين".
قال: يعني المغرب والعشاء الآخرة: قال: ففعلوا فذهبت عنهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الَّله لم يخلق وعاءً مُليءَ شراً من بطن، فإن كان لا بدّ فاجعلوا ثُلُثاً للطعام وثلثاً للشراب وثلثاً
للريح". وكذلك الحديث الآخر في الحمّى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرنا أن نُبْرِدَها
بالماء. وأن نُبَرِّدهَا. والرجلُ مُبَرَّدٌ وبارِد. والأَبْرَدان: الغَدَاةُ والعَشِيُّ. والأبردان أيضا: الظِّلُّ والفَيْءُ،
سُمِّيَا بذلك لِبَرْدِهِمَا، وطيب الهَوَاءِ فيهما. ويقال لهما أيضا: البَرْدَان.
فأما الحديث المروي عن أبي هريرة في (الموطأ)، وغيره: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"إذا اشتدَّ الحرُّ، فَأَبْرِدوا عن الصلاة، فإنَّ شِدَّة الحرّ من فَيْح جَهَنَّمَ" فليس من بَرْدَي النّهار اللذين هما
الغداة والعشى، ولا من بَرْدَي الظِّلِّ وَالفَيْء. وإنما الإِبراد في هذا الحديث يراد به انكسار وَهَج
الشمس بعد الزوال. وسمي ذلك إبْرَادا، لأنه بالإضافة، إلى حر الهاجرة بَرْدٌ. قاله أهل العلم: أبو
سليمان وغيره.
وحكى عن محمد بن كعب القُرظي أنه قال في قوله: "أَبْرِدُوا بالصَّلاة" قال: كلام العرب، إذا كان
القوم في سفر، فزالت
الشمس، وهبت الأرواح، تنادوا: أَبْرَدْتُمْ، أَبْرَدْتُمْ بالرواح. وكان يعد إِبْراداً حين
تزول الشمس وقول المعتمد في صفة الجارية: لا يجول قُلْبُهَا ولا خلخالها فالقُلْبُ بضم القاف هو
السِّوارُ. قال فيه الشاعر، وهو خالد بن يزيد بن معاوية من أبيات له:
تَجُولُ خَلَاخيل النِّساءِ وَلَا أَرى
…
لِرَمْلَةَ خَلْخاَلاً يَجُولُ وَلَا قُلْبَا
وبعده:
فَلَا تُكْثِروا فيهَا المَلَامَ فَإِنَّنِي
…
تَخَيَّرْتُهَا مِنْهُم زُبَيْرِيَّةً قَلبا
أُحِبُّ بني العَوَّامِ طُراً لِحُبِّها
…
وَمن أَجْلِهَا أَحْبَبْتُ أَحْوَالَهَا كَلْبا
إِذَا نَزَلَتْ أَرْضاً تَحَبَّبَ أَهْلُها
…
إِلَيْهَا وإِنْ كَانَتْ منازِلُهَا جَدْبا
فَإِنْ تُسْلِمي أُسْلِم وَإِنْ تَتَنصَّرِي
…
يُعَلِّقْْ رِجَالٌ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ صُلْبا
ويروى: (أُحِبُّ بني العوام طُرّاً بِحُبِّهَا).
َوقُلْبُ النخلة بالضم أيضا، وهي شطبة بيضاء، تخرج في وسطها، كأنها قُلْب فضة. سميت بذلك،
لبياضها. والجميع قُلُوب.
وقوله في هذه القطعة:
تخيرتُها منهم زبيريَّةً قَلْبَا
هو بفتح القاف. يقال: هو عربيٌّ قَلْبٌ، وعربيةٌ قَلْبٌ.
قال أبو عبيدوَ إِنْ شئتَ قُلْت: عربيةٌ قَلْبَة. وإن شئت ثَنَّيْتَ، وهوالمحض.
قال ابن الاعرابي يقال: إنه لعربيٌّ مَحْضٌ، وَقَلْبٌ، وهو الخالص المحض.
وتجوز التثنية فيها. فإذا جمعت وحَّدْتَ.
وفي حديث علي رضي الله عنه، فيما روى سفيان، عن أبي رزين عنه، أنه كان يقرأ:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وكان
قرشياً قَلْباً يعني قرشيا خالصا محضا والذي يراد من هذا الحديث، أن عليا كان يقرأ إياك بالهمز وهو
قرشي، والقرشيون ليس من لغتهم الهمز وفي الحديث، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بأسير
يرعد، فقال: ادْفُوهُ يريد أدفئوه، من الدِّفْء. فَذَهَبُوا بِه، فَقَتَلُوهُ، فوَدَاهُ رسول الله صلى الله
عليه وسلم
قال أبو سليمان: ولو كان يريد معنى القتل، لقال دافوه، أو دافّوه، بالتثقيل. يقال: َدافَيْتُ الأسير،
وِداففته، إذا أجهزتَ عليه. ويقال: دافوه بالتخفيف لغة جُهَيْنة.
قال ابو بكر بن دريد ويقال دَأفتُ الأسير بالدال، وذَأفْتُ بالذال معجمة، إذا أجهزت عليه.
وقرأ أبو سوَّار الغنوي "هِيَّاك نَعْبد وهياك نستعين" بالهاء فيهما بدلآ من الهمز. قالوا: وهي لغة قليلة
الإستعمال، وأكثر ما تجيء في الشعر.
أنشد أبو حاتم عن الأخفش:
فَهِيَّاكَ والأمرُ الذي إن توسَّعَتْ
…
مواردُه ضاقت عليه مصاِدرهُ
وأنشد إسماعيل الأسدي، عن يموت بن المزَرِّع البكري البصري.
قال: أنشدتني أم الهيثم القبرية لنفسها:
دَعَوْتُ عِيَاضاً يَوْمَ صَعْدَةَ دَعْوَةً
…
وَعَالَيْتُ صَوْتي يَاعِيَاضَ بنَ طَارِق
وقُلْتُ لهُ هِيَاكَ والبُخْلَ إنهُ
…
إذَا عُدَّتِ الأَخْلاقُ شَرُّ الخَلَائقِ
وحكى الحسن بن أبي مهران عن أحمد بن يزيد الحلواني عن عيسى بن مِينَا قَالُون، أنه قال: كان
أهل المدينة لا يهمزون، حتى همز ابن جندب فهمزوا. وابن جندب هو مسلم بن جُنْدَب الهذلي،
القاص، يكنى أبا
عبد الله. أخذ القراءة عرضا عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وسمع ابن عمر
وأسلم مولى عمر. وروى عنه القراءة نافع بن أبي نعيم، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد الأنصاري،
وابن أبي ذيب.
قال مالك رحمه الله: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب فقال: يا أبا محمد أيُّ الأيام خَيرٌ، فقال: سل
عن ذلك القاضي مسلم بن جندب فذهب فسأله فقال: يوم النحر، ثم رجع إلى سعيد، فأخبره بما قال له
مسلم، فقال سعيد: أعرابي يعظم الدماء. أعظم هذه الأيام يوم الجمعة.
رجع
ونذكر هنا بعض ما قيل في طيف الخيال. إذ الشيء يذكر بالشيء، للشبه والمثال.
قال: أبو القاسم الشريف:
إنَّ طَيْفَ الخَيَالِ زارَ طروقاً
…
والمطايا بيْنَ القِنانِ وَشِعْبٍ
زارني واصلاً على غير وعْدٍ
…
وانثنى هاجراً على غير ذَنْبِ
كان قلبي إلَيْهِ رائِد عَيْني
…
فَعَلى العَيْنِ منه مُنَّةُ قَلْبي
وقال أيضا:
أَلَمَّ خَيَالٌ من أمَيْمةَ طَارقٌ
…
وَمِنْ دُونِ مَسْرَاهُ الِّلوَى والأَفَارِقُ
أَلَمَّ بِنَا لَمْ نَدْرِ كيْفَ لمامهُ
…
وَقَدْ طَالَ ما عَاقَتْهُ عَنَّا العَوَائقُ
نَعِمْنَا بِهِ حَتَّى كَأَنَّ لقاءَنا
…
وَمَا هُوَ إلَاّ غَايَةُ الزُّور صادِقُ
وهذا كقول الطائي الصغير وهو البحتري:
وَيَكْفيكَ منْ حَقٍّ تَخَيُُّلُ بَاطِلٍ
…
تَرُدُّ بِهِ نَفْسَ اللَّهيفِ فَتَرْجعُ
وقال الشريف أيضا:
وَسَّدنِي كَفَّهُ وَعَانَقَني
…
وَنحْنُ في سَكْرَةٍ من الوَسَن
وبات عِنْدي إلى الصَّبَاحِ وما
…
شاع التقاءٌ لَنا وَلم يَبِنِ
خَادَعني ثم عَدَّ خَدْعَته
…
بمقلتي مِنَّةً من المِننِ
وقال أبو الحسن التُّهَامِي:
أَهْدَى لَنا طَيفهاُْ نَجْداً وَساكِنهُ
…
حتَّى اقْتَنَصْنَا ظِبَاءَ البَدْوِ والحَضر
فَبَاتَ يَجْلُو لَنَا من وَجْهِهَا قَمراً
…
من البَرَاقع لولا كُلْفَةُ القَمَر
وَرَاعَها حَرُّ أَنْفَاسي فَقُلْتُ لَها
…
هوَايَ نَارٌ وَأَنْفَاسي من الشَّرَرِ
وَزَادَ دُرُّ الثَّناَيَا دَرُّ أَدْمُعِها
…
فَالْتَفَّ منتظِمٌ منه بِمُنْتَثِرِ
فَمَا نَكِرْنَا من الطَّيْفِ المُلِمِّ بنَا
…
مِمَّنْ هوينَاهُ إلا قِلةَ الخفرِ
فَسرتُ أَعْثُر في ثَوْبِ الدُّجى وَلَها
…
والجَوُّ رَوْضٌ وَزُهْرُ الشُّهْبِ كالزَّهَرِ
وللمَجَرَّةِ فوق الأرض مُعْتَرِضٌ
…
كَأَنَّهَا حَبَبٌ يَطْفُو على نَهَرِ
وللثّريا ركودٌ فوق أَرْحُلِنَا
…
كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ من فَرْوَةِ النَّمِرِ
قوله:
أهدى لنا طيفُها نجداً وساكِنَهُ
نَجْدُ: بلد، سمي نجْداً لعلوه عن انخفاض تِهَامَة، وأصل النَّجْد العلوّ. يقال: لكل مرتفع من الأرض؛
نَجْدَة. ورجل نَجْدِيِّ؛ منسوب إلى نَجْد، ورجل نَجْد، بيِّن النجدة، إذا كان جَلْداً قويا. قيل له ذلك.
لاستعلائه على قرنه.
ويقال: اسْتَنْجَدْتُ فلانا، فَأَنْجَدَنِي؛ أي: اسْتَعَنْتُه على خصمي فأعانني.
كما يقال: استرشدته، فأرشدني. قال الشاعر:
إذا استنجدتُهُمْ ودعوتُ بكراً
…
لتَنْصُرَني كسرتُ بهم همومي
وقال أبو عبيدة: يقال: نَجَدْتُ الرجل، أَنْجُدُهُ. إذا غَلَبته وَأَنْجَدْتُه إذا أعنته ومنه حديث معاوية أنه
قال: إني لألقى الرجل، أعلم أن في نفسه علي شيئا، فأستثيره، فيثورني بقدر ما يجد في نفسه،
فيوسعني شتما وأوسعه حلما. ثم ألقاه بعد ذلك صديقا، استنجده فينجدني، وأريده، فيقبل إلي.
والنَّجْدُ أيضا، الكَرْبُ والغَمُّ، لِعُلُوِّه على صاحبه.
والنِّجَادُ: مَا عَلَا على العاتق من حمالة السَّيف. وفي كتاب الله تعالى (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) أي: الطَّريقَين: طريق
الخير، وطريق الشر. سُمِّيِا بذلك، لظهور الإنسان فيهما.
والنَّجْدُ أيضا، ما يزين به البيت، من أنواع البسط والثياب.
يقال: نَجَدْتُ البيت تَنْجِيداً. وقال ذو الرمة:
حتى كَأَنَّ رياضَ القُفِّ أَلْبَسَهَا
…
منْ وَشْيِ عَبْقَرَ تَجْلِيلٌ وَتَنْجِيدُ
والنَّجَّادُ، هو الذي يفرش البيوت، وهو أيضا المُنَجِّد رجع:
وقال أيضا:
وَأَرَادَ الخيال لَثمي فصَيَّرْ
…
تُ لِثَامي دُون المَرَاشِفِ سَتْرَا
اصرفي الكَأْسَ من رضابِكِ
…
عَنِّي حاشَ للَّهِ أَنْ أُرَشَّف خَمرَا
ولوَ اَنَّ الرُّضَابَ غيرُ مدَامٍ
…
لم تكوني في حَالَةِ الصَّحّوِ سَكرَى
وقال أيضا:
عَبَسْنَ مِنْ شَعَرٍ في الرَّأسِ مُبْتَسمٍ
…
مَا نَفَّرَ البيضَ مِثْلُ البيضِ في اللَّمَمِ
وقَبَّلَتْني تَوْدِيعا فَقُلْتُ لَها
…
كُفِّي فَلَيْسَ ارتِشَافُ الخَمْرِ من شِيَمي
لَوْ لَمْ يَكُنْ رِيقُهَا خَمْراً لمَا انْتَطَقتْ
…
بِلُؤْلُؤٍ من حبَابِ الثَّغْرِ مُنْتَظمِ
ولو تيقنت غيرالرَّاحِ في فَمِهَا
…
ما كُنْتُ ممَّنْ يَصُدُّ اللَّثْمَ باللَّثمِ
وزَادَ ريقَتَهَا بَرْداً تَحدُّرُها
…
على حَصَى بردٍ من ثَغْرِهَا شَبِمِ
والبيت الثاني من هذه القطعة، يشبه قول الرضي:
وقَبَّلْتُهُ فَوْقَ اللِّثَامِ فَقَالَ لي
…
هي الخَمْرُ إلَاّ أَنَّهَا بِفِدَام
وقال الإيَادِي علي بن محمد:
طَيْفٌ يَزُورُكَ من حَبيبٍ هَاجرٍ
…
أَهْلاً بِهِ وبِطَيْفِهِ من زَائرِ
شَقَّ الدُّجَى وَسَرَى فَأَمْعَنَ في السرَى
…
حتَّى أَلَمَّ فَبَاتَ بينَ مَحَاجري
يَحْدو به هَيْفَ القَضِيبِ المَنْثَني
…
نَحْوِي وَسَالِفَةَ الغِزَال النَّافِر
للَّهِ دَرُّكَ من خَيَالٍ وَاصلٍ
…
أسْرَى فَأَنْصَفَ منْ حَبِيبٍ هَاجرِ
عَلَّلْتُ غُلَّةَ قَلْبٍ صَبٍّ هائِمِ
…
وَقَضَيْتُ ذِمَّةَ فَيْضِ دَمْعٍ مَاطِرٍ
وقال أبو الحجاج الرمادي:
لا شُكْرَعندي للحَبيب الهَاجِرِ
…
بل كلُّ شكري للخَيَالِ الزَّائر
فكَأنَّمَا يخشى العيونَ نَهَارَه
…
فيزورني تحت الظلامِ السَّاترِ
نَوْمي يُريهِ لِنَاظِري فَكَأنهُ
…
قبل المَنَامِ قد اختفى في نَاظِري
وقال أبو العباس بن سيد:
إن التي بَخِلَتْ عَلَيَّ بِوَصْلِها
…
شُحّاً، وأََغْرَتْنِي بها اللوامُ
بَعِدَتْ فَقَرَّبَهَا التَّذَكُّرُ والكرى
…
حتى تساوتْ يَقْظة ومنامُ
فَلِذَاكَ أعْتَقِدُ التَّخَيلَ وصلةً
…
والطَّيْفَ، إذْ لا يمكن الإلمامُ
وَلَرُبَّ ممنوعٍ تَضِنُّ به النَّوَى
…
فتجُودُ لي بِوِصالهِ الأحلامُ
وقال أبو إسحاق الخفاجي:
يا حبَّذَا والطَّيْفُ ضَيْفٌ طَارقٌ
…
طَيْفٌ علَى شَحَطٍ أَجَدَّ مَزَارَا
تَلْوي الشَّمُولُ به قَضيباً رُبَّما
…
عَاطَى بِسُوسَانٍ هُنَاكَ عَرَارَا
فَلثَمتُ فيمَا قَد لَثَمتُ عَلَاقَةً
…
خَدّاً يَسِيلُ مَعَ العُقارِعُقَارَا
مَا إِنْ دَرَيْتُ وقَدْ نَعِمْتُ بِلَثْمِهِ
…
ماذا رَأَيتُ أَجَنَّةً أَمْ نارَا
وقال الأستاذ أبو محمد بن صارة:
وَزَائرَةٍ واللَّيْلُ مُلْقٍ جِرَانه
…
أتَاني بِهَا وَجْدِي وَفَرْطُ وَلُوعي
فَبَاتَتْ تُعَاطِيني سُلَافَ رُضَابِها
…
وَبِتُّ أُهَادِيها جُمَانَ دُمُوعِي
فَأَيُّ مَهَاةٍ بِتُّ مُقْتَنِصاً لَها
…
وَلَكِنْ بِقَلْبِي في كِنَاسِ ضُلُوعي
وأنشدني بعض الأدباء:
ضَنَّ بالقُرْبِ إذْ أَنَا يَقْظَا
…
نُ وَأَعْطَى كَثيرَهُ في المَنامِ
فالتقينا كما اشتَهَيْنا ولا عَيْ
…
بَ سِِوى أَنَّ ذَاكَ فِي الأَحلَامِ
وَإِذَا كَانَتِ الملَاقَاةُ لَيلاً
…
فَاللَّيَاليِ خَيْرٌ مِنَ الأَيامِ
وهذا كقول أبي تمام الطائي:
اللياليِ أَحْفىَ بِقَلْبِى إِذاَ ما
…
جَرَّحَتْهُ النَّوىَ مِنَ الأَياَم
يا لَهَا لَذَّةً تَنَزَّهتِ الأَر
…
واحُ فِيهَا سِرّاً مِنَ الأَجْسامِ
مَجْلِسٌ لمْ يَكنْ لَنَا فِيهِ عَيْبٌ
…
غَيْرَ أَنا فِي دَعْوةِ الأَحلامِ
قال أبو إسحاق:
وَطَيْفُ الخَيَال، ما عرض للإنسان، وخطر بباله، من كل شىء. والطَّيْف مصدر من قولهم: طاف
يَطِيفُ، وقِيل: هو من الواو.
وأصله: طَيْوِفٌ
قال أبو اسحاق الزجاج: يقال: طُفْتُ عليهم أَطُوفُ. وَطَافَ الخَيال يَطيِفُ.
وَقَالَ أَبوُ الحَسَن الكِسائي: الطَّيْفُ: اللَّمَم ُ، وَالطَّائِفُ: ما طاف حول الإنْسان.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الطَّيفُ: الوَسْوَسَة. وأنشد غيره:
أنَّى ألَمَّ بكَ الخَيَالُ يَطِيفُ
وقال أبو الحسن الرماني: الطَّائفُ؛ طَائفُ الجن والشيطان:
وكل شيء يَغْشَى القلب من وسواسه فهو طيفه، وأنشد:
أَرَّقَني زَائرُ طَيْفٍ أَرَّقا
يعني أنه رأى خيالها في منامه.
وأنشد نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو بن العلاء، قول حسان بن ثابث:
مَا هَاجَ حسَّانَ رُسُومُ المَنَامْ
…
ومَظْعَنُ الحيِّ ومبنَى الخِيَامْ
جِنِّيةٌ أَرَّقَني طَيْفُها
…
تذهبُ صُبْحاً وتُرَى في المَنامْ
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، والكسائي ويعقوب "إذا مسَّهُم طَيْفٌ من الشيْطَانِ تَذَكَّروا" بغير ألف ولا
همز
وقرأ سائر السبعة: نافع، وغيره (طَائِفٌ) على وزن فاعل وقرأ ابن عباس، وابن جبير، طيِّفٌ
بتشديد الياء مكسورة
ومعنى قراءة أبي عمرو ومن وافقه؛ أنهم جعلوه مصدر طاف الخيال، يَطِيفُ طَيْفاً. مثل كال يَكِيلُ
كَيْلاً، وبَاعَ يَبِيعُ بَيْعاً. ويحتمل أن يكون مخففا من طَيِّفٍ، كَمَيْتٍ من مَيِّتٍ
ومعنى قراءة نافع، ومن وافقه؛ أنهم جعلوه أيضا مصدراً كالعاقبة والعافية. قاله أبو محمد مكي. قال:
وفَعْل أكثر في المصادر من فَاعِل.
ومعنى قراءة ابن عباس وابن جبير. ومن وافقهما، أنهم جعلوه، من طاف يطوف. فالأصل فيه
طَيْوِف.
حكى أبو زيد: طَاف الرجل، يَطُوفُ طَوْفاً: إذا أقبل وأدبر. وأَطَافَ يُطِيفُ إذا جعل يستدير بالقوم،
ويأتيهم من نواحيهم ويشهد لهذا القول، قول امرىء القيس:
أطافَتْ بِهِ جِيلَانُ .....
وقيل: الطَّائفُ، ما طَافَ به من وسوسة الشيطان. والطَّيْف من اللمم. والمَسُّ: الجنون.
وقال أبو بكر بن دريد طَافَ يَطُوفُ طَوْفاً: إذا دَارَ حول الشيء.
وأَطَافَ به، يُطِيفُ إِطَافَةً: إذا ألم به.
ويقال: أطاف فلان بهذا الأمر: إذا أحاط به. والطَّوَّافُون: المماليك. لقوله تعالى (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ).
والطَّوْفُ، خشب يُجْمَع بعضه إلى بعض، ويركب عليه في البحر
والطَّوَفَان؛ مصدر لطَافَ يَطُوفُ.
فأما قولهم طَافَ بالبيت. فتقول فيه: فهو طَوَّاف. قال: والطَّائِف الذي بالغَوْر؛ إنما سمي طَائفاً
بالحائط الذي بنوا حوله في الجاهلية؛ حصنوها به. وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت:
نحن بَنَيْنَا طَائِفاً حَصِينا
…
نُقَارِعُ الأعداءَ عن بَنِينا
وأصل الباب كله، الدَّور، والطائف. والدّائر، والحائل نظائر.
والطائفة من كل شيء: قطعة منه. يقال: طائفة من الناس، ومن الليل.
وقال صاحب العين الطُّوفَان؛ الماء الذي يغشى كل مكان. كما قال تعالى وجل (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) وكان سَيْلاً عظيماً.
وطُوفانُ الليل: شدةُ سواده. وهو مُشَبَّهٌ بالماء الذي يَغْشَى كل شيء. ومنه قول العجاج:
وعم طُوفانُ الظلام الأثأبا
والأثأب: شجر شبه الطَّرْفَاء إلَاّ أنه أكبر.
وحكى بعض وزراء (اشبيلية) أن المعتمد بن عباد وجه ابنه المعتدّ بالله إلى (شِلْب) والياً؛ وكانت
بُلْغَة شبابه؛ ومَأْلَفَ أحبابه التي عمر نجُودَها غلاما؛ ويذكر عهودها احلاما. فقال يخاطب ابا بكر بن
عمار:
ألا حَيِّ أَوْطَاني بِشِلْبٍ أبا بَكْرِ
…
وَسَلْهُنَّ هل عهْدُ الوَِصال كَمَا أدري؟
وَسَلِّمْ على قصر الشَّراجيب عن فَتًى
…
له أبداً شوْقٌ إلى ذلك القصر
منازلُ آسادٍ وبيضٍ نواعمٍ
…
فناهيك من غِيلٍ وناهيك من خدْرِ
فَكَم ليلةٍ قد بتُّ أنعمُ جُنْحَها
…
بِمُخْصِبَةِ الأردافِ مُجْدِبَةِ الخَصرِ
وبيضٍ وسُمْرٍ فاعِلاتٍ بمُهْجتي
…
فعالَ الصِّفَاحِ البيضِ والأُسُلِ السُّمْرِ
وَلَيْلٍ بِسَدِّ النَّهْرِ لَهْواً قَطَعْتهُ
…
بِذَاتِ سِوارٍمثل مُنْعَطَفِ النَّهرِ
نَضَتْ بُرْدَهَا عَن غُصْنِ بان مُنَعَّمٍ
…
نَضِيرٍكما انشق الكِمامُ عن الزَّهرِ
وقصر (الشَّراجيب) الذي ذكر؛ كان متناهيا في الإشراق؛ مباهيا لزوراء
(العراق). ركضت فيه جياد راحاته؛ وجرى الدهر مطيعا بين بُكَرِه وروحاته. أيام لم تحلّ عنه تمائمه،
ولا خلت من أزهار الشباب كمائمه. وكان يَعْتَدُّها مَجْبَى مالِه؛ ومنتهى اعماله، الى بهجة جنباتها؛ وطيب نفحاتها وهباتها،
والتفاف حمائلها؛ وتقلدها لنهرها مكان حمائلها، وفيها يقول أبو بكر الداني:
ألا عَلِمَ المعتدُّ بالله أنّني
…
بِحَضْرَتِهِ في جنَّةٍ شَقَّها نَهْرُ
وما هو نهر أعشَبَ النبتُ حوله
…
ولكنه سيف ٌحمائله خُضرُ
فلما صدر عنها، وقد حسنت آثاره في تدبيرها؛ وانسدلت رغائبه على صغيرها وكبيرها. نزل
المعتمد عليه مشرفا لأوبته؛ ومعرفا بسمو قدره لديه ورتبته. فأقام يومه عنده مستريحا؛ وجرى في
ميدان الأنْس بطلا مشيحا.
وكان المعتمد واجِداً على ابنه الراضي؛ فذكَّرَتهُْ الحُميّا بُعْدَهُ عنه ونَواه؛ فَحَنَّ عند ذلك لِلُقْيَاه، وزال ما
كان يَجِدُ عليه؛ فأمر بإحضاره بين يديه. فلمْ ياتِ ابنُهُ الراضي إلا وقد مَالت بالمعتمد نَشْوَتُه؛ بعدما
ازدهته من الطَّرب أَرْيَحِيَّتُه. فلما وصل ابنه الراضي؛ أَلْفاه قد أغفى في مُنْتداه؛ وهو
طريح في منتهى مداه. فأقام تُجَاهه؛ ينتظر انتباهه. وصنع في أثناء ذلك شعراً؛ أتقنه وجوّده. فلما استيقظ أبوه
من نومه، أنشده:
ألآنَ تعودُ حياة الأملْ
…
ويدْنو شفاء فؤادٍ مُعلْ
فقد وعدَتْني سَحابُ الرِّضا
…
بِوابِلِها حين جادت بطلْ
ويُورقُ للعزِّ عُصنٌ ذَوَى
…
وَيَطْلُعُ للسَّعْدِ نجْمٌ أفلْ
أيا ملكاً أمْرُهُ نافذٌ
…
فَمَنْ شَا أعزَّ ومَنْ شَا أَذَلْ
وَلا غَرْوَ إن كان منك اغْتِفَارٌ
…
وإن كان منا جميعا زَلَلْ
فمثلك وَهْوَ الذي لم يزَلْ
…
يعود بحلمٍ على من جَهِلْ
وحكى أبو الحسين بن سراج أنه حضر الكتاب والوزراء، مجلس أنْسٍ (بالزهراء)؛ في يوم غفل
عنه الدَّهر، فلم يرْمُقْه بِطَرْف؛ ولم يطْرُقْه بصرْف. أرَّخت به المسراتُ عَهْدَها؛ وأبرزت له الأماني
خَدَّها. وأباحت للرائدين حماها؛ وأرشفتهم لَمَاهَا فلم يزالوا ينتقلون من قصر الى قصر؛ ويبْتَدِلون
الغُصون بِجَنْيٍ وهَصْر. ويتَوقَّلون في تلك الغرفات؛ ويتعاطون الكؤوس بين تلك الشرفات. حتّى
استقروا بالرّوض، بعدما قضوا من تلك الآثار
أوطاراً؛ ورَمَقُوا بالاعتبار أقْطَارا فحلّوا منه في درَانيك
رَبِيع مُفَوَّفَة بالأزهار؛ مُطَرَّزَةٍ بالجداول والأنهار. والغصون تختال في أَدْواحها؛ وتَنْثَني في أكُفِّ
أرواحها. وآثار الديار قد أشرفت عليهم، كثكالى ينحن على خرابها؛ وانقراض أطرابها. والوَهْي
بمشيدها لاعب؛ وعلى كل جدار غُرَابٌ نَاعِبٌ. وقد مَحَت الحوادث ضِيَاءَهَا؛ وَقَلَّصَت ظِلَالَهَا
وَأَفيَاءَهَا. وَطَالَ ما أشرقت بالخَلائف وابتهجت، وفاحت من شَذَاهم وتَأَرَّجت أيام نزلوا خلالها؛
وتَفَيَّؤُوا ظلالها، وعَمَروا حدائقها وجناتها؛ ونبهوا الآمال من سِنَاتِها، وراعوا اللُّيوث في آجامها؛
وأخجلوا الغُيُوثَ عند انسجامها. فأضحت ولها بالتَّدَاعي تلفع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نُؤَي
وأحجار، وقد وهت قبابها، وهرم شبابهاوقد يَلينُ الحديد؛ وَيَبْلَى على طَيِّهِ الجديد. فبيناهم يتعاطونها
صغارا وكبارا؛ ويُديرُونَهَا تأنسا واعتبارا، إذا برسول المعتمد قد وَافَاهم برقعة فيها مكتوب:
حسد القصر فيكم الزهراء
…
وََلَعَمْرِي وَعَمْرُكُم ما أَساءَ
قَد طَلَعْتُمْ بِهَا شُمُوساً صَبَاحا
…
فَاطْلَعُوا عندنَا بُدُوراً مسَاءَ
فعند ذلك، صاروا إلى قصر البستانَ بباب (العطارين)؛ فَأَلْفَوْا مجلساً يَحَارُ فيه الوَصْف؛ قد احتشد
فيه اللهو والقصف، وتوقدت نجوم مُدَامه؛ وتأوَّدَت قدود خدامه. وَأَرْبَى على الخَوَرْنَقِ والسَّدير؛
وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير. فأَقاَموا لَيْلَتَهُمْ لم يطرقهم نوم؛ ولَا عَدَلَهُمْ عن طيب اللذات سَوْم
وَحَكَى بعض الأدباء أن الوزراء الثلاثة بني القَبْطُورْنَة، باتوا في أيام الصِّبَاحِينَ، استطابوا الهوى؛
بين الجنوب والصَّبَا، في (المنية) المسماة (بالبديع)؛ وذلك في أوان الربيع. وبروضَ كان المتوكل
كَلِفاً بِمُوَافَاته؛ مُبْتَهجاً بحسن صِفَاته. وكان يستفزه الطَّرَب مَتى ذَكَرَه، وينتهز الأُنْسَ منه، روحاته
وبُكَره؛ ويدير حُمَياه على ضفة نهره؛ ويخلع فيه سره لطاعة جهره، ويقطف رياحينه وَزَهْرَه، ويقف
عليه اغفاءه وسهره. فطردوا خيل اللذات حتى أَنْضَوْهَا؛ ولَبسوا برود السرور وما نَضَوْهَا. حتى
صدعتهم العُقَار؛ وطلحتهم تلك الأوتار فلما هَمَّ رداء الفجر أن يُبْدَى؛ وجبين الصُّبح أن يُتَبدَّى،
استيقظ أبو محمد وقال:
يَا شَقِيقي أَتَى الصَّبَاحُ بِوَجْهٍ
…
سَتَرَ اللَّيْلَ ضَوؤُهُ وبَهاؤُهُ
فاصْطبِحْ واغْتَنِمْ مَسَرَّةَ يَوْم
…
لَسْتَ تَدْرِي بما يَجيء مَسَاؤُهُ
ثم استيقظ أبو بكر فقال:
يَا أخي قُمْ تَرَ النَّسيمَ عَليلا
…
باكِر ِالرَّوْضَ والمُدَامَ شَمولاً
لا تَنَمْ واغْتَنِمْ مَسَرَّةَ يوْمٍ
…
إنََّ تَحْتَ التراب نَوما طَويلَا
ثم استيقظ أبو الحسن فقال:
يَا صَاحِبَيَّ ذَرَا لَوْمي وَمَعْتَبَتي
…
قُمْ نَصْطَبِحْ خَمْرَةً ما خير ما ذَخروا
وَبَادرا غَفْلَةَ الأَيامِ وَاغْتَنِما
…
فاليومَ خُبْرٌ ويبدو في غَدٍ خَبَرُ
وفي معنى هذه الأبيات يقول أبو بكر الغساني من أبيات له:
سَقِّني يا غلام فالعيش عضٌّ
…
وعُيُونُ الخُطُوبِ عَنَّا رَقودُ
لَا تَبِعْ عَاجل السُّرور وبَادِرْ
…
فعساه يَعُودُ أولَا يَعودُ
وقرأت في النوادر لأبي علي البغدادي مثل هذا المعنى:
لَا تَدَعْ لذَّةَ يوْمٍ لغدٍ
…
وَبِعِ الغَيَّ بِتَعْجِيل الرَّشدْ
إنهَا إن أخرَتْ عن وَقْتِها
…
باخْتِدَاعِ النَّفْسِ يَوْماً لَم تُعدْ
فاشْغَلِ النفسَ بها عن شُغْلِها
…
لَا تُفَكِّر في حَمِيمٍ وَوَلدْ
أَوَمَا خُبِّرْتَ عَمَّا قيلَ في
…
مَثَلٍ بَاقٍ على مَرِّ الأبدْ
إِنَّمَا دُنْيايَ نَفْسِي فإِذَا
…
تَلِفَتْ نفْسي فلَا عاشَ أَحَدْ
قال: وكان أبو محمد، أحد هؤلاء الثلاثة أعجوبة ذلك العصر؛ وفارس ميداني النظم والنثر. وقد
تَرَدَّى من الفصاحة برداء كبريائها؛ وتزين بتاج بهائها؛ وقعد على ثبج جوزائها، وتصرف في
ساحاتها وأرجائها وهو القائل:
وَمُنكرة شَيْبي لعرفانِ مَوْلدي
…
تُرَجِّعُ والأجْفَانُ ذات غروبِ
فقلت يسوق الشيب من قبل وقته
…
زوال نعيم أو فراق حبيبِ
وهو القائل أيضا:
إذا ما الشوقُ أرقني
…
وبات الهَمُّ من كَثَبِ
فضَضْتُ الطينَة الحمرا
…
ء عن صفراءَ كالذهبِ
وقال أيضا:
يا خليليّ لقَلبٍ
…
نيلَ من كُلِّ الجهاتِ
إنْ هَامَ بِلَيْلَي
…
وبِرَيَّا والبنات
وبِأَنْ صادَتْهُ أَسمى
…
بَين بيضٍ خَفرات
بِلحاَظٍ ساحِراتٍ
…
وَجُفُونٍ فاتراتِ
وَبِجِيدِ الظَّبْيَة ارتا
…
عتْ فَظَلَّتْ في التفاتِ
وَبِعَيْني مغزل تر
…
عى غزالاً في فلاة
تَتَمَشَّى بين أترَا
…
بٍ لهَا حورٍ لات
وَعليها الوَشْيُ والخ
…
زُّوَبُرْدُ الحبرات
رَاعَهَا لمَّا التقينا
…
ما دَرَتْ من فَتكات
عَثَرتْ ذُعْراً فَقُلْنا
…
وَالَعا للْعَثرات
ضَحِكَتْ عُجْباً وقالتْ
…
لأخصِّ الفتيات
راجعيه ثم قولي
…
ائتنا في السَّمراتِ
وارْقَب الأَعداءَواحْذَرْ
…
من عُيُونٍ نَاظراتِ
فَإذا أَعْلَقَ فيها النْ
…
نومُ أشراك السناتِ
وعلَا البَدرُ جَلَابي
…
بُ لِباس الظلمات
فَاطْرَق الحَيَّ تَجِدْنا
…
من وراء الحُجرات
فالتقينا بعد يأْسٍ
…
بدليل النفحات
وتَلَازَقْنَا اعْتِنَاقا
…
كَالْتِوَاءِ الألفاتِ
ونَفثنا بيننا شَجْ
…
واً كَنَفْثِ الراَّقِيَاتِ
وَبَرَدْنا لوْعةَ الحُ
…
بِّ بمَاء العبراتِ
وَتشاغلنا ولم نَعْ
…
لمْ بأنَّ الصبحَ آتِ
وَبَدَتْ فيه تباشي
…
رُ مشيبِ في شواتِ
قوله: (بينِ أَتْرَاب لها حور لِذَات). لِدَةُ الرجل؛ الذي وُلِدَ معه، أَوْ قَرُبَ من ميلاده، والجمع لِدَاتٌ
ولِدُونَ أنشد يعقوب:
صفواءُ أعجلها الشبابُ لِدَاتَها
…
موسومةٌ بالحسن غير قَطُوبِ
تخطو على فَرْديتين غَدَاهُمَا
…
غَدَقٌ بساحة حائر يَعْبُوبُ
يقول: سبقت أقرانها في الشباب. ومنه قول ابن قيس الرقيات:
لم تَلْتَفِتْ لِلِدَاتِها
…
وَمَضَتْ عَلى غُلَوَائها
يقال: كان ذلك في غُلَوائه؛ أي حين يَغْلُو فيطول. وغَلَا النَّبْت، يغْلُو غُلُوّاً: إذا طال، وكذلك غَلَا
الصبي: إذا شَبَّ.
قال الحارث بن خالد:
خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشَّحُها
…
رُؤدُ الشَّبَابِ غَلَا بِهَا عَظْمُ
رُؤدُ الشَّبَابِ؛ أى نَاعِمَة الشباب. ويقال للجارية، إذا شبت شبابا حسنا، وجاوزت لِداتِها؛ قد غَلَا بِهَا
عظم.
وأنشد أبو حاتم عن أبي زيد قول الراجز:
حَتَّى إذا غَلَا بُنَيَّ وَاحْتَجنْ
…
وَزَانَهُ الشَّحْمُ وللشحم زِيَنْ
وقول الشاعر: (موسومة بالحسن): أي عليها سمةٌ من الحسن. وقوله في
البيت الثاني: (على برديتين): أي على ساقين، كأنهما بَرْديَّتان، في بياضهما وصفائهما، واملساسهما.
قال العجاج:
كأنَّمَا عِظَامها برْدِيُّ
…
سَقَاهُ رِيَّاحائرٌ رَوِيٌّ
قال: والبرْدِيُّ أعقد له. ويقال: مكان حائر؛ إذا كان مطمئن الوسط مرتفع الحروف.
وفي حديث العباس بن عبد المطلب، رحمه الله قال: كنت لِدَةَ الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله وبَدَتْ فيه تَبَاشي
…
رُ مَشِيبٍ في شَوَاتِ
تَباشيرُ كل شيء: أَوَائِلُه.
قال أبو الحسن الرماني: ولم أسمع منه فعلا، ومنه تَبَاشِيرُ الصبح.
قال الشاعر:
تَبَاشَرُوا بعد ما طال الوجيفُ بهم
…
بالصُّبح لما بَدَتْ منه تباشيرُ
وقوله في شَوَات: أي في شعر رأسي النابت على شَوَاتي؛ وهي جِلْدَة رأسه. والجميع شَوىً. قال الله
تبارك وتعالى (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى). وقال الأعشى:
قَالتْ قُتَيْلَةُ مَالَهْ
…
قَدْ جُلِّلَتْ شَيْباً شَوَاتهْ
أَمْ لَا أَرَاهُ كَمَا عَهِدْ
…
تُ صَحَا وَأَقْصَرَ عَاذِلَاتهْ
وحكى عن أبي عبيدة أنه قال: أنشد الأخفش أبو الخطاب أبا عمرو بن العلاء، بيت الأعشى:
قَالَتْ قُتَيْلَةُ مَالهُ
…
قد جُللت شيبا شواتهْ
فقال أبو عمرو لأبي الخطاب: صحفت، إنما هي سَرَاتُه، ولكنك رأيت الراء منتفخة فصَيَّرتها واوا.
قال: فغضب أبو الخطاب، وأقبل علي وقال: إنما هيشواته، وهو الذي صحف، والله؛ لقد سمعت هذا
باليمامة من عدة من الناس.
قال أبو عبيدة: فأخذنا بقول أبي عمرو. فما مضت إلا أيام حتى قدم علينا رجل مُحْرِم، من آل
الزبير، فسمعته يحدثه بحديث فقال: اقشَعَرَّتْ شواتي، فعلمت أن أبا الخطاب وأبا عمرو أصابا
جميعا.
وسَرَاةُ كلِّ شيء: أعلاه. وقال أبو ذؤيب:
إذا هي قامَتْ تَقْشَعِرُّ شَوَاتُهَا
وقال أبو تمام:
خَضَبَتْ خَدَّهَا إلى لُؤْلُؤِ العِقْ
…
دِ دماً أنْ رَأَتْ شَوَاتي خَضيبَا
أي خضبت خدها بالدمع المشوب بالدم. والشَّوى أيضا إِخْطَاء المَقْتَل يقال: رماه فأَشْوَاه؛ إذا أخطأ
مَقْتَله. قال ابن مقبل:
أَرْمي النُّحورَ فَأُشْويها وَتَثْلِمُني
…
ثَلْمَ الإِنَاءِ فَأَعْدُو غَيْرَ مُنْتَصِرِ
وأنشد الأصمعي:
لا يُسْلِمُونَ قَريحاً حَلّ وَسطُهُمُ
…
يَوْمَ اللِّقَاءِ وَلَا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحوا
قال: ويقال أَشْوَاه؛ إذا لم يصب مَقْتَلَه. وشَوَاهُ؛ إذا أصاب منه المَقْتَل. والشَّوَى أيضا؛ اليَدَان
والرِّجْلَان.
يقال فَرَسٌ عَبْلُ الشَّوَى: أى غليظ القوائم. قال امرؤ القيس:
سَليم الشَّظَى عَبْلِ الشَّوَى شَيْجِ النَّسَا
…
لَهُ حَجَبَاتٌ مشْرِفاَتٌ على الفالِ
ويقال: كل مصيبة ما أخطأتك شَوىً، وكل ذلك شَوى ما سلم دينك: أي هَيِّن.
قال الشاعر:
وكنتُ إذا الايَّامُ أَحْدَثْنَ هَالكاً
…
أَقُولُ شَوىً ما لم يُصِبْنََ صَميمي
والشَّوى أيضا: رُذَالُ المال. قال الشاعر:
أَكَلْنَا الشَّوَى حتَّى إذا لم نَجِدْ شَوى
…
أَشَرْنَا إلى خَيْرَاتِهَا بالأَصابعِ
رجع
وأبو محمد القائل أيضا مخاطبا لأبي نصر الخاقاني:
أَبَا النَّصْرِ إنَّ الجَدَّ لَا شَكَّ عاثرُ
…
وإنَّ زَمَاناً شَاء بينك جَائرُ
فلَا تُوِّجَتْ من بعد بَيْنِك رَاحةٌ
…
براحٍ ولا حنت عليها المزامرُ
ولا اكتحلت من بَعْد نأيك مُقلةٌ
…
بنوم ولا ضُمَّت عليها المَحاجرُ
ولي رغبةٌ جاءتك وهي مُدِلَّةٌ
…
تسوق إليك المجد وهو أزاهرُ
لِتَعْلَمَ أَنِّي عن جوابك عاجزٌ
…
ومعتذرٌ فيه فقل أنا عاذرُ
وكيف أجاري سابقاً لم يقم له
…
هبوبُ الصبا والعاصفاتُ الخواطرُ
إذا قيل مَنْ هذا يقولون كاتبُ
…
وإن قيل من هذا يقولون شَاعِرُ
وإن أخذ التحقيقُ فيك بِحقِّه
…
فقيلَ وَمَنْ هذا يقولون سَاحرُ
تُشَيِّعُكَ الألبابُ وهي أَوَاسِفُ
…
وتتبعك الالحاظُ وَهْيَ مَوَاطرُ
وكتب الكاتب أبو الحسين بن جبير إلى أبي عبد الله محمد بن غالب الرُّصافي:
يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ يُقَصِّرَ بالعلَا
…
زَمَانٌ وَمَازَالَ الزَّمَانُ يُقَصِّرُ
عَجِبْتُ لِدَهْرٍ غَضَّ منكَ سَفَاهةً
…
لَقَدْ غَضَّ من عَيْنٍ بهَا كَان يُبْصِرُ
فأجابه أبو عبد الله بقوله:
أَيَا شَائِقِي ملءَ الضُّلُوع ودونَهُ
…
مها ويمدُّ الخَطْوَ فيها فَيَقْصرُ
ويَا عضُدي عند المُليمِ ونَاصِري
…
عَلى نُوَبِ الدُّنيَا ومثلك يَنْصُرُ
بصرت بحالي مُنْعَماً وَمَنِ الذي
…
يُحِسُّ بأَحْوَالِ الصديق ويبصِرُ
شَمَائلُ تُكْنِي عن إعانتك التي
…
تَناَهى بها في الطِّيب خِيمٌ وَعُنْصُرُ
ستقدم من شكري عليكَ عقيلةٌ
…
سِوَى مجدها يُحْصَى الثَّنَاء ويحصُر
يتيمةُ نظمٍ لا تزال بحُسنها
…
تَوارثها بعدي بلادٌ وأَعْصُرُ
وكتب إلى بعض إخوانه:
خَليلي أبا بكر فهَلْ تَمَّ حيلةٌ
…
يكون إليها في نَواكَ رُجُوعي
سَيُخبرك السلوان أني رُمته
…
فحال اشتياقي دونه ونزوعي
ولو كنت في غير الضلوع مخيما
…
عذرت على هذا الحنين ضلوعي
وكتب أبو محمد بن القبطورنة أيضا إلى أبي الحسين بن سراج (بقرطبة) وجماعة من إخوانه:
يا سيِّدي وأبي هُدىً وجَلالَةً
…
ورَسولَ وِدِّي إن طلبتُ رسولَا
عَرِّجْ بِقُرْطُبَةٍ إِن آنْتَ بَلَغْتَها
…
بأبي الحسين ونَادِهِ تَمْويلَا
واذا سَعِدْتَ بِنَظْرَةٍ في وَجْهِهِ
…
فَاهْدِ السَّلَامَ لِكَفِّهِ تَقْبيلَا
واذْكُرْ لَهُ شُكْري وشَوْقِي مُجْملاً
…
ولو استطعتُ شرحتُه تفصيلا
بِتَحِيَّةٍ تُهْدَى إِليه كَأَنَّما
…
جَرَّتْ عَلَى زَهرِ الرِّيَاضِ ذُيولَا
وَأَشِمَّ منها المُصْحَفِيّ على النوى
…
نَفَساً يُنَسِّي السَّوْسَنَ المَبْلولَا
وَإلى أبي مَروانَ منْهَا نفحة
…
تُهْدِي بها نَوْرَ الرُّبى مَطْلولَا
وإذا لقيتَ الأَصْبَحي فَسَقِّهِ
…
من صَفْوِ وِدِّي قَرْقَفاً وَشَمولَا
وأبو عَليّ بُلَّ منه رِيقَةً
…
مِسْكاً بماء غَمَامَةٍ محلولَا
واذْكُرْ لَهُم زمناً يَهُبُّ نَسِيمُهُ
…
أُصُلاً كَنَفْثِ الرَّاقيات عَليلَا
مولى وموليَ نعمةٍ وكرامةٍ
…
وَأَخَا إِخَاءٍ مخلصاً وخَليلَا
بالحَيْرِ لَا عَبَسَتْ هناكَ غمامةٌ
…
إِلَاّ تَضَاحَكَ إِذخراً وجليلَا
يوماً وليْلاً كان ذلك كلَّهُ
…
سَحَراً وهذا بكرةً وأصيلَا
لا أدركت تلك الأهلة دهرها
…
نقصاً ولا تلك النجوم أفولا
قال أبو إسحاق:
(الحير) الذي ذكره أبو محمد في هذه الأبيات؛ هو (حير الزجالي) معروف خارج (باب اليهود
بقرطبة). وفيه يقول أبو عامر بن شهيد:
لَقَدْ أَطْلَعُوا عِنْدَ بَابِ اليَهو
…
دِ شَمْساً أَبَى آلْحُسْنُ أَنْ تُكْسَفَا
تَرَاهُ آلْيَهُودُ عَلَى بَابها
…
أَميراً فَتَحْسِبُهُ يوسُفا
وفيه يقول ويصفه وكان في ذلك الأوان من أبدع المواضع وأجملها؛ وأتمها حسنا وأكملها، قد جعل
منه مرمرا صافي البياض؛ يخترقه جدول كالحية النضناض، وكانت به جَابِيَةٌ؛ كل لجة فيها كَابية. قد
قُرْبِسَتْ باللَاّزَوَرد سماؤه؛ وتأزرت به جوانبه وأرجاؤه، والرّوض قد اعتدلت أسطاره؛ وابتسمت عن
كمامها أزهاره. قد مَنَعَ الشمس أن ترمق ثراه؛ ويعطر النسيم بهبوبه عليه ومسراه. شهد به أبو محمد
بن القبطرنة المذكور مع الجلة؛ من أصحابه ليالي وأياماً؛ كأنما تصورت من لمحات الاحباب؛ أوقُدَّت
من صفحات الشباب،
وكانت لأبي عامر بن شهيد به مشاهد؛ أعطاه فيها الدهر ما شاء، ووالى عليه
الصحْووالانتشاء، وكان هو وصاحب الروض المدفون، بإزائه، أليفيْ صبوة؛ وحليفيْ نشوة. عكفافيه
على جِرْيَالِهِمَا؛ وتصرفا بين زهوهما واختيالهما، حتى رداهما الردى؛ وعَدَاهما الحِمَامُ عن ذلك
المدى؛ فتجاورا في الممات، تجاورهما في الحياة، حينَ تقلصت عنهما وارفات تلك الظلال؛ عند بلوغ
الآجال. وإلى ذلك العهد أشار أبو عامر، وبه عرّض، وبكثرة تشوقه إليه صحّ ومرض، حيث قال
عند موته مخاطبا لصاحبه المذكور، وأمر أن يدفن بإزائه، وتكتب هذه الأبيات عند قبره:
يَا صَاحبي قُمْ فَقَدْ أَطَلْنا
…
أَنَحْنُ طُولَ المَدَى هُجودُ
فقَالَ لي لَنْ تَقُومَ منْها
…
مَادَامَ منْ فَوْقِنَا الصَّعِيدُ
تَذْكُرُكُمْ ليلةٌ نَعِمْنا
…
بِظِلِّهَا والزَّمَانُ عِيدُ
وَكَمْ سُرُور هَمَى عَلَينا
…
سَحَابَةً ثَرَّةً تَجُودُ
كلٌّ كَأنْ لَمْ يَكنْ تقضى
…
وَشُؤْمُهُ حَاضِرٌ عَتيدُ
حَصَّلَهُ كَاتبٌ حَفيظٌُ
…
وضَمَّهُ صَادِقٌ شَهيدُ
يَا وَيْلَنَا إنْ تَنَكَّبَتنا
…
رَحْمَةُ مَنْ بَطْشُهُ شَد يدُ
يَا رَبِّ عَفْواً فأَنْتَ مَوْلًى
…
قَصَّرَ في حَقِّهِ العَبيدُ
أضيف هذا المنظوم، إلى كلام منثور في لوح، وغرز عند رأس قبره، رحمة الله عليه.
قال: وكان أبو عامر في ذلك الأوان؛ قُدْوَةَ الوزراء والأعْيان. وكان كلُّ شَاعر وكاتب، بَيْنَ صِلَةٍ منه
وَرَاتب، يحضرون مجالس آدابه؛ ولا يَنْفَصِلونَ عن بابه. وكان له بباب الصَّوْمَعَة من الجامع،
مَوْضِعٌ لا يُفارقه أكثر نهاره؛ وَلَا يخليه من نَثْر دُرره وأَزْهَاره. فبينما هو قاعدٌ فيه ليلة سبع
وعشرين من رمضان، مع جُملَة من الوزراء، والإخوان، وبهاء ذلك الزمان، وهم قد حَفُّوا به، وهو
يَخلطُ لهم الجِدَّ بالهزل؛ ولا يفرط في انبساط مستهتر، وانقباض جزل. وإذا بجارية من أعيان
المصر؛ وأهل العَفَاف في ذلك العصر، وهي في جملة من جَوَاريها؛ بين من يَسْتُرها ويُوَاريها؛ قد
جعلت تَرتَاد موضعاً لمناجاة رَبِّها؛ وتبتغي منزلا لاستغفار ذَنْبِها. وهي مع ذلك حذرة متنقبة؛ خائفة
ممن يرمقها مترقبة، وأمامها طفل لها، كأنه بدر على غصن آس؛ أو ظبي يمرح في كِناس. فما
وقعت عينها على أبي عامر ولت سريعة؛ وتولَّت وَجِلة مروعة؛ خيفة منها على نفسها أن يشبِّب بها
أو يشهرها باسمها، ويعرف بمنصبها. فلما نظر إليها ووقعت عينه عليها، وتحقق خبرها، قال قولا
فضحها به وشهرها:
وناظِرةٍ تحت طيّ القناع
…
دَعَاهَا إلى الله للْخَيرِ دَاعِي
سَعَتْ بِابْنِهَا تبتغي منزلاً
…
لِوَصْلِ التَّبَتُّلِ والانقِطاعِ
فَجَاءَتْ تَهَادى كمثلِ الرَّؤومِ
…
تُرَاعي غَزاَلاً بأَعْلى يَفاعِ
وَجَالَتْ بأَربعِنَا جَوْلةً
…
فحلّ الربيع بتلك البقاعِ
أتتنا تَبختر في مَشْيِها
…
فَحَلَّتْ بوَادٍ كَثيرِ السِّباعِ
وريعتْ حِذَاراً على طِفْلهَا
…
فَنَادَيْتُ يا هذه لا تُرَاعي
غَزَالُكِ تَفْرَقُ منه الليوث
…
وتنصَاعُ منه كماةُ المصاعِ
فَوَلَّتْ وللمسك من ذَيْلهَا
…
على الأرضِ خَطٌّ كَظَهْرِ الشجاعِ
وأخبار أبي عامر معْروفة، وَمَنَازِعُهُ شريفة. وقد أثبتَ ابن بسام في كتابه؛ من نوادره القصَار
والطِّوال؛ وتعريفَاته السائرة سير الأمثال؛ ما لا يُحَاطُ بإِحصائه؛ ولا يلحق غاية انتهائه. وفيه يقول:
كان أبو عامر بن شهيد (بقرطبة) ينبوع آماتها؛ ومادَّة حَيَاتِها، وحقيقة ذاتها، ومعنى أسمائها
ومُسَمَياتها. نادرة الفلك الدَّوَّار؛ وأُعجوبة اللَّيل والنَّهَار إنْ هَزَلَ؛ فَسَجْعُ الحَمَامِ؛ وإن جَدَّ؛ فَزَئيرُ الأسَد
الضرغام. له نظمٌ كما اتسق الدُّرُّ على النحور؛ ونَثْرٌ كما خُلِطَ المِسْكُ بالكافور.
وقد أثبتنا من مقطوعاته الغزليات في هذا التأليف، ما فيه أمنية الخالي، ولهو اللاهي؛ ويشهد له
بالتقديم والتناهي. ويجنح بالكبير إلى الصِّبا؛ ويكون حجة لمن صَبا.
حكى عن نفسه رحمه الله قال: لما قدم زهير فتى ابن عامر حضرة
قرطبة من (المرية)، ومعه وزيره أحمد بن عباس؛ وجه عن جماعة من الكُتَّاب، والأعيان، والمشاهير من الأصحاب، والإخوان؛ كأبي الاصبغ عبد العزيزالطبني، وأبي حفص بن برد، وأبي بكر بن الحناط وأبي عبد الله المرواني،
وغيرهم من الأكابر، وتخلفت أنا، فسأل عنّي، وأمر
بإحضاري، فوافاني رسوله بدابة، فركبت
وسرت إليه. فلما وصلت وجدت أحمد بن عباس غائبا عن المجلس، وألفيت كل من كان فيه مراقبا
لقدومه. فتحرك أهل المجلس لدخولي، ورحب بي الكل منهم عندَ حلُولي فَلمْ أَسْتَوِ قاعدا إلَاّ وابن
عباس قد أقبل يَجُرُّ ذَيْلَ الخيلاء؛ ويسبل رداء الكبرياء، وهو يَتَرَنم؛ والإِعْجَابُ يخامره؛ والزَّهْوُ
يسايره. فسَلَّمْتُ عليه تسليم من يعرف حقَّ الرجال، وجمعت في كلامي بين الإيجازِ والإِكماَل. فرمز
رمزا خفيفا، وردَّ علي السلام ردّاً ضعيفا. فعلمت أن في أنفه نَعْرةً؛ لا تخرج إلَاّ بِسَعُوطِ الكَلَامِ، ولا
تُرَامُ إلا بمثقب النظام فرأيت الأصحاب يصغون إلى تَهَمْهُمِهِ؛ ويصيخون إلى تَرَنُّمِه. فسألتهم عن
ذلك. فقال لي أبو عبد الله الحَنَّاطي وَكَانَ كثيرَ التَّعَصُّب علي؛ جالبا في المحافل ما يسوء الأولياء
إليّ: الوزيرحَضَرَهُ قَسيمٌ من شعره؛ وهو يسألنا إجازته فعلمت أنّي بذلك المراد؛ وعليَّ في الإجازة
الاعتماد فاستشهدته فقال مرضُ الجُفُونِ وَلَثْغَةٌ في المنطِقِ. فأخذت القلم مستعجلا؛ وكتبت مرتجلا
على القَسيمِ مذيلا ولما أمرت به ممتثلا:
مَرَضُ الجُفُونِ ولثغَةٌ في المَنْطِقِ
…
سَبَبَانِ جَرَّا عِشْقَ مَنْ لَمْ يَعْشقِ
مَنْ لي بألثَغَ لا يَزال حَديثهُ
…
يُذْكي على الأكبادِ جَمْرَةَ مُحْرقِ
يُنْبِي فَيَنْبُو في الكلام لِسانهُ
…
فكأَنَّهُ من خَمْرِ عَيْنَيْهِ سُقِي
لا تُنْعِشُ الألفَاظُ منْ عَثَرَاثِها
…
ولَو آنَها كُتِبَتْ لَهُ في مُهرَقِ
فأقمت ساعة، ثم سلمت، وَمَشيتُ عنهم إلى منزلي فلم أَلْبَثْ أن ورد عليّ بعضهم، وأعلمني أن ابن
عباس، لم يرض بما جئت به من البداية، ونسبني إلى التقصير فيه، وسألني أن أحمي عليه مكاوي
الكلام؛ وأن أقرع سمعه بضروب من الإقماع والإفحام. وذكرلي أن ادريس بن اليماني هجاه فأفحش؛
فلم أستحسن الإفحاش. فقلت فيه معرضا؛ إذ التعريضُ من محاسن القول:
أبو جَعْفَرِ رجلٌ كاتبٌ
…
مَليحُ شَبَا الخَطِّ حُلْو الخَطَابَهْ
وذُو عَرَقٍ لَيْسَ ماءَ الحَياءِ
…
ولَكِنَّهُ رشْحُ فضلِ الجَنَابهْ
جرى الماءُ في سُفْلِهِ جَرْيَ لِينٍ
…
فأَحْدَثَ في العُلْوِ منه صَلَابهْ
قوله:
وذو عرق ليس ماء الحياء
يشبه قول أبي الوليد بن زيدون؛ لكنه زاد فيه زيادة لطيفة، ونكتة ظريفة فقال:
مخَضَتْ في آسْتِهِ الأُيُورُ حَليباً
…
فَعَلَتْ عَيْنهُ من الزُّبْدِ نُقْطَهْ
وأَخَذَ هذا المعنى أبو الحسن بن الزقاق، فقال يهجو أزرق:
وأَزْرَقَ والأُمُورُ لَها اشْتِباهٌ
…
ويوُتَى العَيْنُ من قِبَلِ العجانِ
ولَماَّ شَكَّ أسفَلَهُ العَوالى
…
جَرَى في عينه زَرَقُ السِّنانِ
وقوله (فأحدث في العلو منه صلابة) البيت، كقول بعض الأدباء، في قريب من هذا المعنى:
صَلُبَتْ ولَانَ القَاعُ منها فَاسْتُهُا
…
لَوْلَا لِيَانَةُ قَاعِهَا لَمْ تَصْلُبِ
ومثله قول النابغة الذبياني:
جَفَّتْ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ نَدِي
وهذا الكلام كله إقذاع، ومرفوض بالإجماع.
والمناسبة التي بين قطعة أبي عامر وبينه، جرَّتني إليه؛ وأَحْوَجَتْني للتعريج عليه. فلذلك تَعَلَّقَ
بإطنابي؛ واثبتُّهُ في كتابي. وليس الهجاء مما يليق بهذا الديوان؛ لما فيه من الفُحش والبهتان. فلذلك
نبذته نَبْذَ الكُرَاع من الأديم؛ وحذفته حذف الهاء في الترخيم وقول أبي عامر في صفة الألثغ، مما
انطبع فيه، ولا سيما على البديه.
ومن جيِّد ما قيل في صفة الألثغ، قول أبي الحجاج الرمادي وهو:
الَّراءُ لا تَرْجُو الوصَالَ ولَا أنَا
…
الهَجْرُ يَجْمَعُنَا فَنَحْنُ سوَاءُ
فإذَا خَلَوتُ كتبتُهَا في رَاحتي
…
وبَكِيتُ منتحباً أَنَا والرَّاءُ
وفي هذا المعنى أيضا يقول الأديب الظريف الأستاذ أبو القاسم بن العريف:
أيهَا الألثغُ الذي شَفَّ قَلْبي
…
جُدْ بِحَرْفٍ ولَوْ نَطَقْتَ بِسَبِّي
هَجْرُكَ الرَّاءَ مثلُ هَجْري سَواءُ
…
فَكِلَانَا معذَّبٌ دونَ ذَنْب
فإِذَا شِئْتُ أَنْ أَرى لي مَثَلا
…
في هَوَاني خَطَطْتُ راَءً بِجَنْبي
وقال أبو نواس الحسن بن هانىء:
وَبِأبي أَلْثَغُ لَاجَجْته
…
فقالَ في غُنْجٍ واخْتِناثِ
لَمَّا رَأى منِّي خِلافي له
…
مَا لَقِي الناَّثُ من النَّاثِ
قارَعْتُهُ صَفْراءَ كَرْخِيةً
…
قَدْْ جُلِبَتْ منْ كَرْمِ حرَّاثِ
إِبْريقُنَا منتَصِبٌ سَاعة
…
وتَارةً مبتَرِكٌ جاث
وأخذ هذا المعنى أحد الظرفاء فقال:
اليوم يوم ثلاثا
…
فاسق النديم ثلاثا
في ود ظبي رخيم
…
يقول للكَأْسِ كاثا
وحكى أبو بكر محمد بن أحمد المصحفي قال: دخلت يوما على الوزير أبي عامر بن شهيد، أعُودُه
في العِلَّة التي مات منها؛ فَتَأَنَّسَ بي، وسألني عن حالي، وجرى الحديث بيننا إلى أن شكوت له تَجَنِّيَ
من كنت أهواه عليَّ، وتألفه من كان ينسب الخمول والتقصير إلي، ونفاره عني؛ وتماديه في البعد
مني. وأعلمته بما أنا من الاحتدام والقلق؛ وما أكابد من الأشجان والأرق، فقال لي سأسعى في صَلَاح
ذات البين؛ وأوضح له ما زخرف من الإِفك والميْن. ويزول الخلاف، وتؤولُ الحالُ إلى الائتلاف. ثم
خرجتُ عنه، وأنا مسرور عنا له داع إلى الله تعالى في صحته، وبُرْئِه من اعتلاله. فلقيتُ ذلك
المتجنى، مع بعض الأصحاب، فوليت عنهم، ولم أَدْنُ منهم فأنكر ما رأى منَّا ذلك الصديق؛ وسأل
المتجني عن السبب المُوجِبِ للانصرام والتفريق. فأخبره بما جرى واتفق، من التهاجر الذي سبق،
والسبب الموجب للإعراض. فجدّا في مشيهما، وأسرعا في الانتهاض، حتى لحقاني، وعزم علينا في
الكلام؛ فتكلمنا وتعاتبنا، ومشينا، حتى وصلنا دار أبي عامر، واستأذن عليه، فأذن لنا، ودخلنا. فلما
رآنا أبو عامر ضحك، وقال: من كان الذي تَوَلَّى إِصْلَاحَ مَا كُنَّا سُرِرْنَا بِفَسَادِه؟ فقلت: قد كان ما كان.
فأطرق قليلا ثم
أنشد:
مَنْ لَا أُسَمِّي وَلَا أَبُوحُ به
…
أَصْلَحَ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَهْوَى
أَرْسَلْتُ مَنْ كَابَدَ الهَوَى فَدَرَى
…
كَيْفَ تُدَاوَى مَوَاضِعُ البَلوَى
وَلي حُقُوقٌ في الحُبِّ ظَاهرةٌ
…
لكِنَّ إلْفي يَعُدُّهَا دَعوَى
يَارَبِّ إنَّ الرسولَ أَحْسَن لي
…
يَا رَبِّ فاحفَظهُ لي من الأَسْوا
وحكى بعض الوزراء بإشبيلية ممن عُنِيَ بالاخبار، والبحث على السير والآثار. أن أبا المطرف عبد
الرحمان بن هشام بن عبد الجبار، المتسمى من الألقاب السلطانية بالمستظهر بالله، أحد أمراء بني
أمية؛ خطب حبيبة، ابنة عمه المستعين سليمان بن الحكم، فَلَوَتْهُ أمها شَنَف، المدعوة بأم الحكم. وكان
بقلبه منها نار تتوقد؛ وشوق يتزيد، وجوى ناره لا تخمد، وََوَلُوعٌ يتجدد مع الاحيان ويتأكد. عافت
عيناه منه الكرى؛ وكاد النحولُ يخفيه فما يرى. وكانا قد نشأ معاً في وقت واحد؛ وعن طارف وتالد.
فلما اشتد بها كلفه؛ وأقلقه شغفه، وخامرت لوعات الأسى فكره؛ وأضاقت أسباب المنع والصدّ صدره
كتب إليها بقوله:
وَجَالِبَةٍ عُذْراً لتَصْرفَ رَغْبَتي
…
وتَأْبَى المَعَالي أَنْ نُجيزَلها عذْرَا
يُكَلِّفُهَا الأَهلونَ رَدِّي سَفَاهةً
…
وَهَلْ حسنٌٌ بالشمس أن تمنع البدرا
وماذا عَلَى أُمِّ الحبيبة إذْ رأتْ
…
جَلَالَةَ قَدْرِي أنْ أَكُونَ لها صِهْرَا
جَعَلْتُ لَهَا شَرطاً عليّ تَعَبدي
…
وسُقْتُ إِلَيْهَا في الهَوَى مُهْجَتي مَهرَا
تَعَلَّقْتُهَا من عبد شَمسٍ غَريرةً
…
مُحَدَّرَةً من صيد آبائها غرَّا
حمامةُ بنت العبشميِّين رفرفتْ
…
فَطِرتُ إليها من سَراتهمُ صَقرَا
لَقَدْ طالَ صومُ الحبّ عنك فما الذي
…
يَضُرُّكِ عنه أن تكوني له فِطرَا
وإني لأسْتَشْفي بِمَرِّي بداركمْ
…
هدوءا واسْتَسقى لساكنها قَطراً
وَأَلْصِقُ أَحْشائي ببَرْدِ تُرَابِها
…
لأُطْفِئ من نار الأسى بكمُ جَمراً
فإِنْ تَصْرفِيني يا ابْنَةَالعمِّ تصرفي
…
وَعَيْشِكِ كُفْؤاً مدَّ رَغْبَتَه سَتْرَا
وإني لأرجو أن أطوِّق مَفخريِ
…
بِمِلْكي لهَا، وَهْيَ التى عَظُمَت فَخْراً
وإِنِي لَطَعَّانٌ اذا الخَيْلُ أَقبلتْ
…
جَراَئِرُهَا حتى تَرَى جُونَها شُقراً
وإِني لأَوْلى النَّاس من قَوْمِهَا بها
…
وأَنبَهُهُم ذِكراً وأَرفَعُهُم قَدراً
وعِنْديَ ما يُصْبي الحَليمَة ثَيِّباً
…
وَيُنْسي الفَتاة الخَوْد عُذْرَتَهاَ البكرا
جمالٌ وَادابٌ وَخُلْقٌ موطَّأٌ
…
ولفظ إِذاَ ماَ شِئتِ أسمعكِ السِّحْرا
فَللْمُسْبِلِ النُّعْمىَ عَلَيَّ بِفَضله
…
حَقائق نُعْمى لا أملُّ لهاَ نَشرَا
وأبصرها ذات يوم؛ فأومأ إليها بالسلام؛ فلم ترد عليه خجلا منه فكتب إليها:
سَلَامٌ على مَنْ لَمْ يَجُدْ بِكَلامه
…
وَلَمْ يَرَني أهلاً لردِّ سَلَامه
سَلَامٌ على الظبي الذي كلما رَمى
…
أَصَابَ فؤادي عَامداً بسهامه
بنفسي حبيبٌ لم يَجُدْ لمحِبه
…
بطيفِ خَيالٍ زائرٍ في مَنامه
أَلَمْ تعلَمي يَاعذْبَةَ الماء أنني
…
فتىً فيك مخلوعٌ عِذَارُ لجامه
وإني وفيٌّ حافِظ لأَذِمَّتِي
…
إذا لم يقم غيري بحفظ ذِمامه
يُبَشر ذَاكَ الشِّعْرُ شِعْرِيَ أنه
…
سَيُوصل حبلي بعد طول انصرامه
وما شَكَّ طَرْفي أن طَرْفَكِ مُسْعِدي
…
ومُنْقِذُ قلبي من حِبَال غَرامه
عليك سلام الله مِنْ ذِي تَحيَّةٍ
…
وإن كان هذا زَائداً في اجترامه
ومن شعره أيضا فيها قوله:
تَبَسَّمَ عن دُرٍّ تَنَظَّمَ في الوَرْسِ
…
وَأَسْفَرَ عنْ وجهٍ يَنوبُ عن الشَّمسِ
غَزَالٌ بَراهُ اللهُ من نُورِ عَرْشِهِ
…
لِتَقْطيعِ أَنْفَاسي، وليس منَ الإنسِ
وَهَبْتُ له مُلكي وروحي ومُهْجَتي
…
ونفْسي ولا شَيءٌ أَعَزُّ من النَّفْسِ
وقال أيضا فيها:
طال عُمْرُ الليْلِ عندي
…
مُذْ تَوَلَّعْتِ بِصدِّي
يا غَزَالاً نَقَضَ الوُ
…
دَّ ولم يُوفِ بِعَهدي
أَنَسِيتِ العهد إذْ بتْ
…
نا عى مَفْرش وَرْدِ
واجْتَمَعْنَا في وشاحٍ
…
وانتظمنا نَظْمَ عِقْدِ
وَتَعَانَقْنا كَغُصْنيْ
…
نِ وقدَّانا كقدِّ
ونُجُومُ الليلِ تَحكي
…
ذَهبا في لَازَ وَرْدِ
وهذا تشبيه مصيب؛ ساقه في لفظ مختصر عجيب. ومثله في الحسن وانطباع الألفاظ والمعاني، قول
أبي بكر محمد بن أحمد الدِّمشقي الغسَّاني، وهو:
كَأَنَّ نُجُومَ الليْلِ حول مِجَرِّها
…
وقد حدَّ منها للْغُروب عَزَائمُ
جُفُونٌ حَمَاهَا الشوقُ أن تُطْعَمَ الكَرى
…
فَأَعْيُنُهَا مستيقظات نَوائمُ
وَوَصف النُّجوم وقد ظهرت في الماء، بعض الشعراء المجيدين فأحسن:
اُنْظُرْ إلى زُهْرِ النُّجُومِ وقَدْ بَدَتْ
…
في النَّهْر يعجبُ ذَاتُها من ذَاتِهَا
فَكَأَنَّهَا سِرْبُ الحِسانِ تَطَلَّعَتْ
…
لِترى منَ المرآةِ حُسْنَ صِفاتِهَا
وقال الأديب أبو تمام غالب بن رباح الأندلسي:
أَصِلُ السُّرَى والليل في خوضي له
…
بَحْر رَكِبْتُ عليه أَسْبَح زورق
وَالأفقُ قد نظمَ النجومَ كَأنَّها
…
دُرٌ تَنَاثر في بساط أزرقِ
وهذا لفظ أبي محمد بن وكيع حيث يقول:
حتَّى بَدَتْ زُهْر النجومِ كَأَنَّهَا
…
دُرّ نُثِرْنَ عَلى بساطٍ أَزْرَقِ
قال: وهنَّأهُ بعض الشعراء بالخلافة، يوم بويع في قصيد كتب به إليه؛ في رَقٍّ مبشور، واعتذر من
ذلك ببيتين وهما:
الرَّقُّ مبشورٌ وفيه بِشَارَةٌ
…
بِبَقَا الإمامِ الفاَضِلِ المستظهرِ
مَلِكٌ أَعَادَ العيش غَضّاً شَخْصُهُ
…
وكذَا يَكونُ بِهِ طَوَالَ الأَدْهرِ
فأَجزل صلته، ووقع على ظهر رقعته بهذه الأبيات:
قَبلنا العُذْرَ في بَشْرِ الكتابِ
…
لِمَا أَحْكَمْتَ مِنْ فَصْلِ الخِطابِ
وَجُدْنَا بالجَزَ مِمَّا لدينَا
…
على قَدر الوجُودِ، بلَا حِسابِ
فَنَحْنُ المنعمون إذا قَدَرْنَا
…
ونحنُ الغافرون أذى الذباب
ونحنُ المطْلعونَ بِلَا امْتِراءٍ
…
شُمُوسَ المَجْدِ من فلك الثواب
قوله: (أذى الذباب). الأذى، هو الضرر بالشيء. والأذى: كل ما تأذيت به. قال امرؤ القيس:
وإذا أُذيتُ بِبَلْدَةٍ ودَّعْتُها
…
ولَا أُقيمُ بِغَيْرِ دَارِ مُقامِ
يقال: أَذِيَ الرجل يأْذَى أذىً. ورجل آذٍ: إذا كان شديد التَّأَذِّي.
وحكي أن رجلا من بني أمية، وقف للرشيد على طريقه، وبيده كتاب، وفيه أربعة أبيات:
يا أمينَ الله إنِّي قَائلٌ
…
قولَ ذي صدق ولُب وَحَسَبْ
لَكُمُ الفضلُ علينا ولنا
…
بكمُ الفضلُ على كلِّ العربْ
عبدُ شَمْسٍ كانَ يَتْلُوهَا شِماً
…
وهُما بعْدُ لِأمٍّ وَلأَبْ
فصلِ الأرحامَ منا إِننا
…
عبدُ شَمْسٍ عَمُّ عبدِ آلمطلبْ
فاستحسن قوله الرشيد، وأمر له لكل بيت بألف دينار. وقال: لَوْ زِدْتَنَا لَزِدْنَاك.
قوله:
قول ذي صدق ولُبّ وحسب
اللُّبُّ: العقل. وهو مأخوذ من لُبِّ النخلة، على جهة التشبيه بريه وجمعه ألْبَابٌ.
قال أبو بكر بن دريد: اللُّبُّ العقل.
يقال: لَبَّ الرجل يَلَبُّ؛ إذا صار لبيبا.
ولُبُّ كل شيء؛ الخالص منه. وهو داخل الشيء الذي يركبه القشر. ويقال: لَبَّ بالمكان لَبّاً، وأَلَبَّ به
إلْباباً؛ إذا لزمه وأقام به.
واللَّبَّةُ من الصدر؛ موضع القلادة والجميع لَبَّات. قال امرؤ القيس:
كَأَنَّ عَلى لَبَّاتِهَا جَمْرَ مُصْطَلٍ
…
أَصَابَ غَضىً جَزْلاً وكُفَّ بِأَجْذَالِ
والتلْبيبُ؛ مجمع ما في موضع اللَّبَبِ من ثياب الرجل.
ومنه قولهم: أخذ فلان بِتَلابِيب فلان وكل من جمع ثيابه، وتحزَّم فهو متَلَبِّب. ويشبه به المتَسَلِّحُ
بالسلاحِ.
وقال صاحب العين اللَّبَب: البال. تقول: الأمر منه في لبَبٍ رخي: أي في بال رخي وسمى بذلك.
لأن فيه اللُّب. وقال أبو تمام:
سَأَشْكُرُ فُرْجَةَ اللَّبَبِ الرَّخِيِّ
…
ولِينَ أَخَادِعِ الدَّهْرِ الأَبيِّ
واللبب من الرمل؛ شبه حِقْفٍ بين معظم الأرض، وَجَلَدِهَا، وهو مُستَرَقُّ الرمل. قال ذو الرمة:
بَرَّاقَةُ الجِيدِ وَاللَّباتُ وَاضِحَةٌ
…
كَأَنَّهَا ظَبْيَةٌ أَفْضَى بِهَا لَبَبُ
وقال أبو تمام:
أَلْوَى بِصَبْرِك إِخّلَاقُ اللِّوَى وهَفَا
…
بِلُبِّكَ الشَّوْقُ لَمَّا أَقْفَرَ اللَّبَبُ
وسمي لَبَباً للزوم بعضه بعضا؛ كلزوم لُبِّ الشيء له، وكذلك المُتَلَبِّبُ المُتَحزِّمُ بثيابه، بعضها ببعض.
وأخذ بتلبيبه؛ إِذَا لزمه في ذلك الموضع. ومنه: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ: أي ملازمة لأمرك، وإسعاداً لك. وهو
مصدر. مثنى للتكثير والمبالغة في التأكيد، لا تثنية حقيقة؛ بمنزلة قوله تعالى (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) أي نعمتاه. على
تأويل اليد هنا على النعمة.
وذهب يونس بن حبيب البصري في لَبَّيْكَ؛ إلى أنه اسم مفرد، وليس بمثنى، وان ألفه إنما انقلبت
ياء لاتصالها بالمضمر على حد لَدَيَّ وعلَيَّ.
وذهب سيبويه؛ إلى أنه مثنى، بدليل قلب ألفه ياء مع المظهر، وأكثر الناس على مذهب سيبويه.
قال أبو بكر بن الانباري ثنوا لَبَّيْكَ كما ثنوا حَنَانَيْك: أي تحننا بعد تَحَنُّن.
وأصل لَبَّيْك: لَبَّبْكَ؛ فاسْتُثْقِل الجمعُ بين ثلاث باءات؛ فأبدل من الثالثة ياء، كما قالوا من الظَّنِّ
تَظَنَّيْتُ. والأصل تَظَنَّنْتُ.
قال الشاعر:
يَذْهَبُ بي في الشِّعْرِ كُلَّ فَنِّ
…
حَتَّى يَرُدَّ عَنِّي التَّظَني
أرادَ التظنن. ومثله تَسَرَّيْتُ سُرِيَّة. والأصل تَسَرَّرْتُ من السِّر؛ وهوالنكاح. ومثله لَبَّيْكَ. واشتقاقها
كما اختلف في صيغتها. فقيل: معنى لَبَّيكَ: اتِّجاهي وقصدي إليك؛ مأخوذ من قولهم: دارى تَلُبُّ
دَارَك: أيتواجهها. وقيل: معناها محبَّتي لك؛ مأخوذ من قولهم: امرأة لَبَّةٌ؛ إذا كانت مُحِبَّة لِوَلَدها،
عاطفة عليه وقيل معنى لَبَّيْكَ: إخلاصي لك؛ مأخوذ من قولهم: حَسْبُهُ لُبَاب؛ اذا كان خالصا محضاً.
ومن ذلك لُبُّ الطعام، ولُبَابه: أي خالصه.
وقيل معنى لبيك أي أنا مقيم على طاعتك. وإجابتك، مأخوذ من قولهم: قد لَبَّ الرجل بالمكان، وأَلَبَّ؛
إذا أقام فيه، ولزمه.
قال الشاعر:
مَحَلُّ الهَجْرِ أَنْتَ بهِ مُقيمُ
…
مُلِبٌّ ما تَزُولُ وَلَا تَريمُ
وقال الآخر:
لَبَّ بِأَرْضٍ مَا تَخَطَّاهُ العَنَمْ
قال أبو بكر بن الانباري: وإلى هذا المعنى، يذهب الخليل، وخلف الاحمر.
وفي حديث عبد الله بن عمر: أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ
لَا شَرِيكَ لَكَ). والمعنى؛ إجابة لك، وإقامة عندك وملازمة وعن ابن جريج، عن ابن شهاب قال:
كانت تلبية قريش، وأهل مكة في الجاهلية، تلبية إبراهيم خليل الرحمان عليه السلام؛ حتى كان
عمرو بن يحيى فزاد فيه بعد قوله له: (لَبَّيْكَ لَا شَريكَ إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك). قال: وتلبية
نزار، ومضر:(لَبَّيْكَ حقّاً حقّا تَعَبُّداً ورِقاً. جئناك للنصاحة ولم نأت للرَّقَاحة). وفي رواية أخرى:
(جئناك للرَّبَاحة) والنَّصَاحة؛ إخْلَاصُ العمل. والنَّاصِح؛ الخالص من كل شيء. يقال: نَصَحْتُ العسل؛
إذا صفيتها.
وقال: نفطويه نَصَحَ الشيء؛ اذا خَلَص. وأَنْصَحُ له القول؛ اذا أَخْلَصَه له. وفي كتاب الله تعالى (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ).
وفي الحديث عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد الليثي عن
تميم بن أوس بن خارجة الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الدِّين النَّصيحة، إن الدِّينَ النصيحة، إن الدين
النصيحة" قال أبو عبد الله المازري في كتاب (المعْلِم) له: النَّصِيحَةُ تحتمل أن تكون مشتقة من
نَصَحْتُ العسل؛ اذا صفيتُه. وتحتمل أن تكون من النُّصْح؛ وهي الخياطة. ويقال للإبرة: المنْصحَةُ
والنَّصاَحُ: الخيط الذي يخاط به. والنَّاصِحُ الخَائط. فمعناه أنه يَلُمُّ شَعَتَ أخيه بالنُّصْح، كما تلم
المِنْصَحَةُ خَرَق الثوب. وهذا القول، وقول نفطويه، متفقان في المعنى، والاشتقاق؛ لأنه يصفو لأخيه،
كما يصفو العسل إذا نصحَ قال أبو سليمانوالرَّبَاحَةُ: الرِّبْحُ. يقال: رَبَحٌ ورِبْحٌ ورباح وَرَبَاحَةٌ.
والرَّقَاحَةُ: جمع المال، وكسبه. والرَّقَاحيّ: التاجر. وفلان يَرْقَحُ معيشته: معناه يصلحها. قال الحارث
بن حلزة:
يتركُ ما رقحَ مِنْ عَيْشِهِ
…
يَعيشُ فِيهِ هَمَجٌ هَامِجُ
ويروى يعبث فيه: أي يُعْبَدُ فيه.
قال: وكانت تلبية قيس عيلان، ومن وَالَاها، وكان بينهما، وبين بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكانوا لا
يستطيعون أن يدخلوا مكة متفرقين:
واللَّهِ لَوْلَا أَنَّ بَكراً دُونَكا
يبارك النَّاسُ ويَهْجُرُونَكَا
مَا زَالَ منَّا غنجٌ يَاتونَكا
العَنَجُ الجماعة في السفر، قال: وكانت تلبية عكّ:
أَتَتْكَ عَكُّ عَانيَهْ
عِبَادُكَ آمْ يَمَانِيَهْ
على قِلَاصٍ نَاجِيَهْ
العانيةُ: الخاضعة الأعناق، يقال: عَنَا الرَّجُل يَعْنُو: إذا خضع وذَلَّ. قال اللَّه تبارك وتعالى (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي
ذلت. قاله ابن عباس وغيره
ولذلك قيل للأسير: عَانٍ. وقوله: (عبادك أَمْ يَمانيَة) يريد اليمانية. جعل
أمْ بدلاً من اللام، وهي لغة لهم، كقول أبي هريرة:(طَاب أمْ ضَرْب) يريد: طاب الضرب؛ أي حلَّ القتال.
رجع
قوله: عبد شمس كان يتلوهاشما: يريد أنهما كانا أخوين، وأبوهما عبد مناف بن قصي. واسم هاشم:
عمرو. وفيه يقول الشاعر:
عُمْرو العُلَا هَشَم الثَّريدَ لِقَوْمه
…
ورِجَالُ مَكَّة مُسْنِتُونَ عِجَافُ
وبفعله ذلك سمي هاشما.
وحكى أبو المطرف عبد الرحمان بن فُتُوح، عن نفسه قال بينما أنا ذات ليلة في رمضان؛ أطوف
بالمسجد الجامع (بألمرية) وأردد قول العباس بن الأحنف:
وأحسنُ أيّامِ الهَوَى يَومُكَ الذي
…
تُروَّعُ بالتحريش فيه وبالعتْب
إذا لم يكن في الحبِّ سُخْطٌ ولا رِضىً
…
فَأَين حلاوةُ الرسائل والكَتبِ
وإذا بفتى وسيم، كما شب عقيق خديه؛ وتم شَاربه بالتذكير عليه، وكأنما طبعت الصوارم من عينيه،
واستعير اللين من عطفيه فسلم عليّ سلاما؛ ارتاحت له نفسي؛ وَتَنَسَّمتُ منه أُنْسي، فردَدْتُ عليه
السلام، رَدَّ مَنْ تَوَسَّمَ فيه سِمَةَ الفَهْمِ، مُتَحَقِّقاً بالاختبار لا بالوهم. فقال لي: بحرمة الأدب ألا ما أعدت
عليّ إنْشادك فأنشدته القطعة بجملتها. فقال لي: وَرِيَتْ بِكَ زِنَادي؛ وَسَقَتْكَ الرَّوَائح والغَوَادي. أخبرني
عن السبب الموجب لإنْشَادِك البيتين، وترْدِيدهما.
فقلت له: بُليتُ بخلّ مولعٍ بالخلاف؛ قَليلِ الإِنْصَاف. إن لا يَنْتُه غَضب؛ وإن استعتبته عَتب. وقد
يعلم الله اشفاقي لفرقته؛ وتشوقي لرؤيته. فقال لي: جنبك الله عتبه؛ وقلب لك قلبه. ثم ولَّى عني، وقد
غرس الله في قلبي ثمرة وِدِّه؛ وأَشْفَقْتُ من بعده. فبت ليلتي تلك مستأنسا بخياله؛ مسرورا بوصاله،
حتى بدت غرة الصبح لامعة، كأنها عجاجٌ سُلَّ من تحته مُنْصُل؛ وخليجه ينساب كأنه جدول فقمت
بانيا على قصده؛ فلم ألبث أن سمعته يَنْشُد، ويَطْلُب مَنْزِلي، فوصل، وقرع الباب، فأذنت له فدخل،
فقمتُ إليه، ورَحَّبْتُ به، فقال لي: يا ابن الكرام هذا يَوْمٌ قد تَكَاثف غَيْمُه؛ وتَجَهّم أُفْقُه، وخَفَق قلبُ
رعده، ولمع بَرْقُه. ونحن لا نجد السبيل إلى الخمر، فبم نقطعه. فقلت: الرأي إلى سيدي، أبقاه الله.
فقال لي: كيف ذكرُك لرجال مصْرك؛ ووُقوفك على نبهاء عصرك. قلت: خَيرذكر. فقال أخبرني من
أعذبهم لفظا، وارجحهم وزناً قلت: الرقيقُ حاشية الظَّرف، الأنيق ديباجة اللطف، أبو حفص بن برد.
قال: فمن أقواهم استعارات، وأصحهم تشبيهات، قلت: البحر العجاج، السراج الوهاج أبو عامر بن
شهيد. قال: فمن أَذكرهم للأشعار، وأقصهمْ للأخبار. قلت: الحلو الظريف، البارع اللطيف، أبو الوليد
بن زيدون. قال: فمن أكلَفُهم بالبديع، وأشْغَفُهُم بالتقسيم والتتْبِيع. قلت: الرَّاتع في روض الحَسَب،
المستظل بِمَرْخ
الأدب، أبو بكر يحيى بن إبراهيم الطبني. وأنشد:
وخاطب قُسّاً في عُكَاظٍ مُجَاوباً
…
على البُعْدِ سَحْبانٌ فألجمَهُ قسُّ
فَمَا رَأَيْتُ فَتى أظرف منه، على صِغَر سنه، فتذاكرنا بَقِية يوْمِنا، الى أن فَرقَ اقبالُ الليل بيننا.
فبقيتُ أُْنْشد بمَفَاخرِه، وأَذْكُرُ مَآثِرَه، وأرى أنّه في الدَّهْر إحْدَى غرائبه، وأُعْجوبة من عجائبه.
قال أبو إسحاق:
نسب أبو المطرف البيتين اللذين في أول الحكاية، للعباس بن الأحنف ونسبهما غيره، لأبي حفص
الشطرنجي، مولى المهدي. وقرأتهما في النوادر لأبي علي البغدادي لغيرهما:
تحبَّبْ فإن الحبَّ داعيةُ الحبِّ
…
وكَمْ منْ بعيد هو مُسْتَوجِبُ القُرْبِ
تَفكَّرْ فإن حُدِّثْتَ أَن أَخَا هَوىً
…
نجا سالماً فارجُ النجاةَ من الحُبِّ
وآحسنُ أَيام الهَوى يومُك الذي
…
تروَّعُ بالتَّحْريش فيه وبالعَتْبِ
إذا لم يكن في الحب سُخطٌُُ وَلَا رِضىً
…
فأين حَلَاوَةُ الرسائلِِ والكُتْبِ
هذا ما ثبت في (النوادر): لست أَدري، أكملت القطعة. أم بقي منها شىء؟ وأخذ المعنى الأخير منها
كشاجم فقال:
لولا اطراد الصَّْْْيد لم تَكُ لذَّةُ
…
فتطاردي لي بالوصَالِ قليلا
هو الشَّراب أَخُو الحَيَاة ومالَهُ
…
من لَذَة حتى يُصيب غَليلا
وأخذه الآخر، وضمنه اعتذار تأخير هدية. فقال:
أَخَّرَ ما عنده لتَطْلُبَهْ
…
ولَذةُ الصَّيد حينَ تطردهْ
وأخذه أبو بكر بن عمار فقال:
فلولاامتناعُ الفَتاةِ الكَعَا
…
بِ لَمَا كَمُلَتْ لَذَّةُ النَّاكِحِ
وهو معنى قد وُلِجَ بابُه، وتُجُوذ بت أهدابه، وأصله من المثل السائر:(تَمنَّعي أشْهَى لك).
وحكى إبراهيم بن المهدي عند نفسه قال: خرجت في بعض الأيام، من عند المامون، فطفت في أزقة
بغداد متنزها، حتى أتيت الى زقاق، وفيها دار بأعلاها شباك مطل. فنظرت إلى الشباك، فرأيت كفا
ومعصماً، دلَّه عقلي،
وكدت لا أتمسك على مركوبي فالتفت إلى خائط بمقربة من الدار، فمشيت إليه،
وسألته عن صاحب الدار. فقال لي: هو رجل من تجار البز. فسألته عن اسمه. فقال: فلان بن فلان.
فقلت: أهو ممن يشرب النبيذ؟ قال لي: نعم، وأحسب أن عنده اليوم راحة. فقلت:
ومن ينادمه؟ فقال: تجار مثله. فبينما أنا واقف مع الخَائط أسأله، إذْ أقبل فَتيان راكبان في أوَّلِ
الدَّرْبِ. فقال الخائط: هذان منادماه اليوم. فسألته عن أسمائِِهما. فقال: فلان وفلان. فقلت: أكون اليوم
طفيليا. فحركت دابَّتي، وداخلتهما. وقلت لهما: جعلت فداكما قد استبطاكما أبو فلان - أعزه الله -
أعني صاحب الدار. وسايرْتُهُماحتَّى بَلَغْنَا البَاب، فأَجَلَاّنِي وقدمانِي. فدخلْتُ، ودَخَلا. فلما رآني معهما،
لم يشك أني منهما، بسبيل أو قادم قدمت عليهما، فرحبَ بي، وأقْعَدَني في أجل المَراتب، ثم جيء
بالطعام، فأكلنا طعاما مختلف الألوان لا أدْرِِي، أطعمه طيب، أم رَائِحتَه. وكنت قبل أن أدْخل المنزل،
قد شممت رائِحَة تلْكَ الأَلْوَان، فَتَمَنَّيْتُها، وشَغَلَني عنها الكف والمعصم. فقلت حينئذ: هذه الألوان!
فمن لي بالكف والمعصم. ثم سرنا الى مجلس المنادمة، فحللنا في أحسن منزل فشربنا أقداحا، ثم
أقبلت جارية راعني جمالها، كأنها قمر، فسلمت، وقعدت، وجئ بعود، فوضع في حجرها، فجسَّتْه،
فاستبنتُ حذقها في جسها للعود، ثم اندفعت تغني:
توهَّمه طَرْفي فأصْبحَ خَدُّه
…
وفيه مكَانَ الوهم من ناظِري أُثَرْ
وصافحُه كفي فآلم كفه
…
فَمِنْ لَمْسِ كفي في أنَامِله عَقَرْ
ومَرَّ بِفِكري خاطراً فَجَرحته
…
ولم أرَ شيئا قَطُّ يَجْرَحَهُ الفِكَرْ
فهيجت بلابلي، وطربت بحسن شعرها، ثم غنت:
أشرتُ اليها هل عرفتِ مَوَدَّتي
…
فَرَدَّتْ بِطرفِ العيْن إني على العهد
فَجُدْتُ عن الإِظهَار حِفظاُ لِسِرِّهَا
…
وحادت عن الإِظهار أيضاً على عمْدِ
فصحْتُ: السِّلاحَ وفجأني من الطرب، ما لم أملك به نفسي، ثم اندفعت تغني:
أليس عجيباً أنَّ بيتاً يضمُّني
…
وإيَّاكِ لا نخلو ولا نتكلمُ
سِوَى أعْينٍ تَشكُو الهوى بجُفُونها
…
وَتَقْطيعِ أنفاس على النار تُضْرَمُ
إشَارة أفواه وغمز حواجب
…
وتكسيرُ أجفانٍ وكف يسلّم
فحسدتها - والله - على معرفتها بالغناء، وإصابتها المعنى، وأنها لم تخرج عن المعنى الذي ابتدأت
به غناءها. فقلت: بقي عليك يا جارية، فضربت بعودها الأرض، وقالت: متى كنتم تحضرون
مجالسكم البغضاء؟ فتغير القوم لذلك، فندمت على ما كان مني، ثم قلت: أما عندكم عودُ غير هذا؟
قالوا: بلى. فأتيت بعود، وأصلحت من شأنه، ثم غنيت:
ما للمنازل لا يُجبن حزينا
…
أَصَمِمْن أم بَعُد المدى فبلينا
رُوحُوا العشية روحة مذكورة
…
إِنْ متْنَ مِتْنا وإن حيينَ حَييناً
فما أتممت الغناء، حتى قامت الجارية، فأكبت على رجليّ تقبلهما. وقالت: معذرة يا سيدي. فوالله ما
سمعت أحداً يغني هذا الشعر غناءك. وقام مولاها، والرجلان، ففعلوا كفعلها وطربوا، واستحسنوا
الشراب، فشربوا بالطاسات، ثم اندفعت أغني:
أفي الحقِّ أن أُمسي ولا تذكرينني
…
وقد سجمت عيناي من ذكرك الدَّما
إلى الله أشْكو بُخلها وسماحتى
…
لها عَسَلٌُ مني وَتَبْذُلُ عَلْقما
فداوي مصاب العقل أنْتِ دواؤه
…
ولا تتركيه ذاهل العقل مُغْرَما
إلى الله أشكو أنها أجنبية
…
وإني لها بالوُدِّ ما عِشْتُ مكرما
فطرب القوم حتى خرجوا عن عقولهم، أو كادوا. فأمسكت عنهم ساعة، حتى تراجعوا ثم غنيت:
هذا مُحبك مَطوِيّاً على كمده
…
فاضَتْ مدامعه سحّا على جسَدِهْ
له يَدٌ تسأل الرحمانَ راحتَه
…
مما به ويدُ أحْرى على كَبِدهْ
فجعلت الجارية تصيح: هذا والله، هذا والله، لا ما كنا فيه. وسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن
الشرب، صحيح العقل. فأمر الغلمان أن
يخرجوا الرجلين الى منازلهما، وخلوت معه، فشربنا ساعة،
ثم قال لي: يا سيدي ذهب ما مضى من أيامي باطلا، اذ كنت لا أعرفك. فمن أنت يا مولاي؟ ولم
يزل يلحُّ علي، حتى أخبرته الخبر. فبادر اليّ، وجعل يقبل رأسي، ويقول: يا سيدي، ولا تكون هذه
المحاسن إلا لمثلك. وإني لجالس مع الخلافة، ولا أشعر.
ثم سألني عن قصتي، فأخبرته بما رأيت من الكف والمعصم. فقال للجارية: قومي، فقولي لفلانة
تنزل. فلم يزل ينزل إلي جواريه، واحدة بعد أخرى، فأنظر إلى كفها ومعصمها وأقول: ليس هي،
حتى قال لي: والله ما بقي غير أمي، وأختي. ووالله لأنزلتهما اليك. فعجبت من كرمه، وسعة صدره.
فقلت: جعلت فداك أبدأ بالأخت قبل الأم، فعسى أن تكون هي. فبرزت، فلما رأيت كفها ومعصمها.
قلت: هي هذه. فأمر غلمانه، فصاروا إلى عشرة من جيرانه، فأقبلوا معهم، وأمر ببدرتين، فيهما
عشرون ألف درهم. ثم قال للمشائخ: هذه أختي فلانة، أشهد كم أني قد زوجتها من سيدي ابراهيم بن
المهدي. وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم فرضيت، وقبلت النكاح. ودفع إليها البدرة، وفرق الأخرى
على المشايخ. وقال: انصرفوا راشدين، بارك الله عليكم. ثم قال: يا سيدي، أمهد لك في بعض
البيوت، فتنام مع أهلك. وأحشمني ما رأيت من كرمه. فقلت: بل أُحضر عمارية، وأحملها الى
منزلي. فقال: ذلك لك. فكان ما أمرت به. فوالله لقد تبعها من الجهاز ماضاقت عنه البيوت. فجاءني
منها ولد، يقوم رأس أمير المؤمنين، أيده الله.
حدث إبراهيم بن المهدي بهذه الحكاية، في مجلس: أبي العباس المأمون في اليوم الذي أذخل عليه
الزنادقة العشرة، والطفيلي معهم، ساعة جيء بالرجل الطفيلي فقال المأمون من هؤلاء القوم قد نفذت
عدتهم؟ فقيل له:
وجد مع القوم، فجيء به. فسأله المأمون عن قصته، فقال له: أنا رجل طفيلي.
وخبره مشهور. فأمر المأمون بتأذيبه، على فرط تطفيله، ومخاطرته بنفسه وكان إبراهيم بن المهدي
قائما، بين يدي المأمون. فقال: يا أمير المؤمنين هب لي ذنبه، وأحدثك بحديث عجيب في التطفيل
عن نفسي. قال: قل يا إبراهيم. فحدثه الحكاية المذكورة فتعجب؛ المأمون من كرم ذلك الرجل. وأطلق
الطفيلي، وأعطاه عطية سنية، وأمر ابراهيم باحضار ذلك الرجل فصار بعد ذلك اليوم من خواص
المأمون وأهل مودته ولم يزل معه على أحسن الأحوال في المنادمة وغيرها.
ومما يناسب هذه الحكاية، حدث أبو محمد الشعبي الوراق، وكان على باب (خراسان)، على الجسر
الأول، عن حماد بن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب الموصلي قال: بينا أنا ذات يوم عند المأمون، وقد
جلا وجهه، وطابت أنفاسُه، إذ قال: يا اسحاق هذا يوم خلوة وطيب. فقلت: طيب الله عيش أمير
المؤمنين، وأدام سروره وفرحه. فقال: يا غلمان صدوا علينا الباب، واحضروا الشراب. قال: ثم أخذ
بيدي، وأدخلني مجلساً غير المجلس الذي كنا فيه، واذا به قد نصب فيه كل ما يحتاج اليه، حتى كأنه
كل شيء كان قد تقدم الإذن فيه. فأكلنا وشربنا، وأخذنا في لذتنا، وأقبلت الستارات من كل ناحية،
بضروب من الغناء، وصنوف من اللهو. فلم نزل على ذلك، الى آخر أوقات النهار. قال: فلما غربت
الشمس، فقال لي: يا إسحاق! خير أيام الفتى أيام الطرب. قلت هو والله يا أمير المؤمنين. قال: فاني
فكرت شيئا. فهل لك فيه؟ قلت: يا سيدي أوَ أتأخَّر عن أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه. قال: لعلنا
نباكر الصبوح في غدوة غد، وقد عزمتُ على دخلة إلى دارالحرم، فكن
بمكانك، ولا ترمْ، فاني وافيك عن قريب. فقلت: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين!
ثم مضى الى دار النساء، فما علمت به خبراً إلى أن ذهب من الليل عامته.
قال إسحاق: وكان المأمون من أشغف خلق الله بالنساء، وأشدهم ميلا اليهن. فعلمت أن النبيذ قد غلب
عليه، وأنهن قد أنسينَه أمري، وما كان تقدم له من ذكري لسرعة رجوعه. فقلت في نفسي: هو -
أعزه الله - في لذته، وأنا هنا في غير شئ. وفي َّبقية، وعندي صبيَّة، قد كنت اشتريتها. وكانت
نفسي متطلعة إلى افتضاضها، فنهضتُ مسرعاً عند ذكرها. فقال الخدم: يا سيدي! أيَّ شئ عزمت،
وأين تريد. قلت: أريد الإنصراف. قالوا: فإنْ طلبك أمير المؤمنين. قلت: انه أدام الله سروره من لذة
طربه، واشتغاله، وما هو فيه يشتغل عن طلبي. وقد كان بيني وبينه موعد، قد جاز وقته، ولا وجه
لجلوسي قال إسحاق وكنت مصدقَ القول في دار المأمون، مسموع القول، لا أعارض في شئ.
فخرجت أبادر الباب، فلقيني غلمان الباب، وأصحاب النَّوبة. فقالوا: يا سيدي إن غلمانك قد انصرفوا،
وكانوا قد جاؤوك بدابة، فلما علموا بمبيتك في الدار انصرفوا. قلت: لأصبر، وأنا أتمشى الى الدار
وحدي. قالوا: نحضرك دابة من دواب النَّوبة. قلت: لا حاجة لي بذلك. قالوا: فنمشي بين يديك
بمِشعل. قلت: ولا أريد ذلك. ومضيت حتى اذا صرت ببعض الطريق، وجدت حركة البول، فعدلت
الى بعض الأزقة، لئلا يراني أحد من العوام أبول على الطريق فَبُلت حتى إذا قمتُ لبعض الحيطان،
اذا بشئ معلق من بعض ذلك الدور الى الزقاق. فما تمالكت أن تماسحت، ثم دنوت الى ذلك الشيء،
لا أعرف ما هو فاذا أنا بزنبيل معلق كبير، بأربعة آذان فاذا هو ملبس بديباح، وفيه أربعة أحبُل
إبريسم فلما نظرت إليه، وتبينته قلت: والله، إن لهذا لسبباً، وإن له امرا. وأقمتُ ساعة أروِّي أمره،
وأفكر فيه، حتى اذا طال ذلك، قلتُ: والله لأتجاسر، ولأجلسن فيه، يكون ذلك ما يكون. ثم لففت
رأسي بردائي، وجلست في جوف الزنبيل. فلما أحسَّ من كان على ظهر الحائط بثِقله جذبوا الزنبيل
اليهم، حتى انتهوا إلى ظهر الحائط، فإذا بأربعة جوار صغار، يقلن لي: انزل بالرحب والسعة.
أصديق أم جديد؟ فقلت: لا بل جديد. فقلن: يا جارية قومي بين يديه بالشمعة وأبدرت بين يدي
بشمعة، حتى نزلت الى دار نظيفة بها من الحُسن والظرف والنظافة ما حِرْتُ له، ثم أدخلتني الى
مجالس مفروشة ومناصِّ مرصوصة، بصنوفٍ من الفرش الذي لم أر مثله إلا في دار ملك أو خليفة،
فجلستُ في أدنى مجلس من تلك المجالس، فما شعرت بعد ساعة إلا بضَجَّة وجَلَبَة وستُور قد رُُفِعَتْ
في ناحية من نواحي الدار، وإذا بوصائف يتَسَاعيْن، في أيدي بعضهنَّ الشمع، وبعضهن المجامر،
يسجر فيهن فيهن العود والعنبر، واذا بينهن جارية، كأنها قمر طالع على الغصون، فما تمالكت عند
رؤيتها أن نهضت فقالت: مرحبا بك من زائر، وليس تلك عادتك. وجلست، ورفعت مجلسي عن
الموضع الذي كنت فيه. فقلت: عن ما قصد: والله، الى ذلك، ولا أعلم كان وقع الي. فقالت: فعلى كل
حال أنسيت. قلت: انصرفت من عند بعض اخواني،
وظننت أني على وقت، فخرجت في وقت ضيق، فحركني البول، فعدلت إلى هذا الطريق فوجدت زنبيلا معلقاً،
فحملني النبيذ أن جلست فيه فان كان خطأ، فالنبيذ حملني عليه، وإن كان صوابا فالله ألهمنيه. قالت: لا ضير، إن شاء الله. وأرجو أن تحمد عواقب أمرك. فما صناعتك؟ قلت: بزاز قالت أين: مولدك؟ قلت: بغداد، قالت: وأيِّ الناس؟
قلت: من أوساطهم. قالت: حياك، وقرت دارك. فهل رويت من الأخبار شيئا. قلت: شيئا ضعيفاً
فقالت: ذاكرنا شيئا مما حفظت. قلت: جُعِلْتُ فداك، ان للداخل دهشة، ولكن تبتدئين بشئ من ذلك،
فأتأنس بالمذاكرة. قالت: لعمري، لقد صدقت. فهل تحفظ لفلان قصيدته التي يقول فيها كذا وكذا. ثم
أنشدتني لِجماعة من الشعراء الأقدمين، والمحدثين، من أحسن أشعارهم، وأقاوليهم، وأنا مستمع أنظر
من أي أحوالها أعجب: من ضبطها، أم من حُسن لفظها، أم من حسن اقتدارها على اللفظ، والنحو،
ومعرفة وزن الشعر. ثم قالت: أرجو أن نذهب عنك بعض ما بك من الإنقباض، فقلت: أي والله، قد
كان ذلك ثم قالت: فإن: رأيت أن تنشدنا من بعض ما تحفظ فافْعَلْ قال: فاندفعتُ أُنشد لجماعة من
الشعراء، فاستحسنتْ نشيدي، وأقبلت تسألني عن أشياء تمرُّ في شعري كالمختبرة لي، وأنا أجيبها بما
أعرف في ذلك، وهي مُصْغيّة اليَّ، ومستحسنة لما آتي به، حتى إذا أتيتُ على ما فيه مَقْنَعٌ، قالت:
والله ما قصَّرت، وما توهمت فيك ما ألفيت، وما رأيت في أبناء التجار وأبناء
السُّوقة مثلَ ما معك، فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس؟ قلت: قد نظرت في شئ من ذلك. فقالت: يا جارية أحضرينا ما
عندك. فما غابت عنا شيئا، حتى قدمت إلينا مائدة لطيفة، قد جمع عليها غرائبُ الطعام السريِّ،
فقالت: إن الممالحة أوَّل الرضاع، فدونك. فتقدمت، فأقبلت أعتذر بعض الاعتذار، وهي مع ذلك
تحثني وتضع بين يديِّ، وإني لمتقسَّم القلب لِمَا أرى من ظرفها وعقلها، وحسن خفرها، وكثرة أدبها،
حتى رُفِعت المائدة، وأحضرت آنيةُ النبيذ فوضعت بين يدي صينية وقنينة وقدح ومِغْسل، وبين يديها
مثلُ ذلك، وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه، مالم أره اجتمع لأحدٍ، إلا لوليِّ
عهدٍ أو سلطان، قد عُبِّئَ أحسن تعبئة، وهيءَ بأحسن تهيئة
وحكى نصر بن علي الجهضمي قال: كان رجل طفيلي يجاورنا، فكنت إذا دعيت إلى مكان، ركب
بركوبي، ومضى معي. فدعاني ذات يوم جعفربن سليمان أميرالبصرة، فركبت، وركب الطفيلي معي.
فقلت: والله، لأفضحنه اليوم. فلما حضرت المائدة، أقبلت على الطفيلي، فقلت: حدثنا ابن زياد عن
أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم. قال: "من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله"،
"ومن مشى الى طعام ولم يدع اليه فقد دخل سارقا وخرج مغيراً"، قال: فأقبل الطفيلي عليّ،
وقال أبا عمرو. وتروي هذا الحديث، على مائدة الأمير. ولعل لا يحضرها أحدٌ، إلا
وهو يظن بك أنك تقصده به. أما علمت أن ابن زياد هذا كذاب، متروك الحديث، وأن أبان بن طارق
كان يمشي في السكك، فيلعب به الصبيان. أين أنت من حديث أبي عاصم عن ابن جريح، عن أبي
الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: "طعام الواحد كافي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة"
قال نصر: فكأني لقمت حجراً في فمي. فلما خرجنا أقبل عليّ الطفيلي وجعل يقول:
ومَنْ ظَن مِمَّنْ يُلاقِي الحُروبَ
…
بألَاّ يُصابَ فقدْ ظَنَّ عَجْزَا
وحكى بعض الأدباء، قال: كان بسوسة إفريقية رجل أديب ظريف، فهام بغلام جميل من غلمانها،
يروق العين منظره، ويسترق الأحرار مخبره فلما استولى على ذلك الرجل غرامه، وكلفه، وتمادى به
أسفه وشغفه، عمد الى المدام، ليداوي بها بعض ما يجد من الآلام، فشرب منها فوق المقدار، وأسرف
حتى غلبت على عقله سورة العقار، وحمله السكر على خلع ثوب الوقار، فأخذ قبس نار، وجاء الى
دار ذلك الغلام ليحرقها؛ فرأى ذلك من فعله بعض الجيران، فأطفأ النار، وسلمت الدار، وبقي عليها
من السَّتر أوقى صَدار. فلما أصبح، جيء بالرجل إلى الحاكم، لما وشى به أهل النمائم،
فسأله لم فعل ذلك، فأنشأ يقول:
لمَّا تمادى على بِعَادي
…
وأضْرمَ النَّارَ في فُؤَادِي
ولم أجِدْ مِنْ هَوَاهُ بُدّاً
…
ولا مُعيناً عَلَى السُّهادِ
حَمَلْتُ نَفْسي عَلَى وُقُوفي
…
بِبَابِهِ حَمْلَةَ الجَوادِ
فَثَارَ مِنْ بَعْضِ نارِ قَلْبِي
…
أَقَلَّ مِنْ قَدْحَةِ الزِّنادِ
فاحترقَ الدَّارُ دونَ عِلْمي
…
ولم يكنْ ذاكَ منْ مُرَادِى
فاستظرفه قاضي البلاد، وتحمل عنه قيمة ما أفسد.
قال أبو عبد الله الحميدي: فكنت أظن أن هذه المعنى ممَّا تفرد به هذا الرجل حتّى أخبرتُ أن
نصربن أحمد دخل على أبي الحسين المثنى في
إثر حريق المربد فقال له: هل قلت في هذا شيئا؟ فقال: ما قلت شيئا ولكن أنشدك ارتجالا:
أتتكم شهود الورى تَشْهد
…
فَمَا يستطيعون أَنْ يَجْحدوا
فَيَامِرْ بَدِيُّونَ ناشدتكم
…
على أَنَّني مِنْكُمُ كَمِدُ
جَرَى نَفَسي صُعُداً نحوكم
…
فَمِنْ حرٍّه احترق المِرْبدُ
وهاجت رياحُ حنيني لكم
…
فظلت بها نارُكم توقدُ
فلولا دموعٌ جَرَتْ لم يكنْ
…
حَرِيقُكُمُ أَبَداً يَخْمُدُ
قوله:
وهاجت رياح حنيني لكم
البيت.
كقول أبي اسحاق الحصري:
وَلَقَدْ تَنَسَّمْتُ الريَاحَ لَعَلَّني
…
أَرْتَاحُ أَنْ يبعثن منك نسيما
فَأَثَرْنَ منْ حُرَقِ الصبابة كامناً
…
وأذَعْنَ من سِرِّ الهوى مكتوما
وكذَا الريَاحُ إذا مررنَ على لَظى
…
نارٍ خَبَتْ ضَرَّمْنَهَا تَضْريماً
وفي معناه يقول ابن هُذَيْلِ القرطبي:
رَوَّحَني عَائِدي فقلتُ له
…
مَهْ لا تَزِدْنِي على الذي أجِد
أَمَا تَرَى النَّارَ وَهْيِ خَامِدَةٌ
…
عند هُبوبِ الرّياح تَتَّقِدُ
قوله: (مَهْ) معناه: اكْفُف. يقال: مَهْمَهت بالرجل؛ إذا زجرته. ومثله صَهْ. ومعناه: اسكت.
وفي الحديث عن: ابن عباس، أن النبي عليه السلام دخل على عثمان بن مظعون حين مات. فأكب
عليه ثم رفع رأسه، فكأنهم رأوا أثر البكاء في عينيه، ثم جثا عليه الثانية؛ فرفع رأسه فرأوه يبكي، ثم
جثا عليه الثالثة، ثم رفع رأسه، وله شهيق فعرفوا أنه يبكي، فبكى القوم. فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "مَهْ. إنما هذا من الشيطان. ثم قال: استغفروا الله".
وفي الحديث أيضا، فيما روى معمر عن الزهري، عن صفوان بن
عبد الله بن صفوان، أنه قال: قام رجل يوم صفين. فقال: اللهم العن أهل الشام.
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: مَهْ. لا تسب أهل الشام جَمّاً غفيراً؛ فإن منهم الأبدال.
قول علي رضي الله عنه: (جَمَّاءٌ غفير) كلمة معناها: الوفور والكثرة.
وحكى أبو عمر المطرز فيها ثلاث لغات. يقال: جاء القوم جَمّاً غفيرا. وهذا أفصحها. وكذا جاءت
في حديث أبي ادريس الخولاني قلت: يا رسول الله: كم الرسل من ذلك؟ قال: ثلاث مائة وثلاثة عشر
جما غفيرا. الحديث.
وجاء القوم جَمَّاء الغفير، والجَمَّاء الغفير، وعلى هذه اللغة الثالثة جاء قول الشاعر:
كبيرُهم وطِفْلُهُم جَميعاً
…
هُمُ الجَمَّاءُ في اللَّوْمِ الغَفيرُ
وقال الكميت:
وقد كان جِلَّتُهُمْ والرَّعَا
…
عُ جَمَّاءَ في شَنآنِي غفيرا
وحكى غير أبي عمر وجاء القوم جَمَّا الغفير، بالإضافة. قال أبو عمر
وقد تناظر فيها أبو العباس أحمد بن يحيى ومحمد بن يزيد في الاعتلال لها، والاحتجاج لإلزامها، النَّصَفُ من الإعراب.
وحكى عن البصريين، ومن يقول بالاشتقاق. الجَمَّاء، مشتقة من قولهم بئر جَمَّة أي كثيرة الماء.
والغَفِير؛ مأخوذ من الغَفْرِ، وهو السَّتْر، ومنه سمى المِغْفَر، لأنه يُغَطي الرأس ويسْتُره. والمعنى أنهم
لكثرتهم يغطون وجه الأرض وحكى غير أبي عمر أن المعنى: جاءوا جميعا. والجَمَّاءُ الغَفير؛ بيضة
الحديد التي تجمع الشعر. والمعنى أنهم جاءوا مجتمعين، كاجتماع البيضة، وما تحتها من جَمَّة الشعر،
وهو اجتماعه. والغفير من قولهم: غَفَرْتُ المتاع، إذا غطيته وسترته. وانتصابه على الحال قال أبو
حاتم: تقول العرب: هم فيها الجَمَّا الغَفير بالنصب على توهم جَمّاً غفيرا. لأن الحال لا يكون معرفة.
قال: وهذا مثل قوله:
لا هَيْثَمَ الليلةَ للمطي
وهيثم معروف بعينه. وإنما تنصب في النفي النكرات، وترفع المعارف. ومثل قوله: لا هيثم الليلة
للمطي: قول معاوية: كان إذا أتته معضلة شديدة يقول: (مُعْضِلَةٌ ولا أبا حسن لها).
وحكى سلمة، عن الفراء أنه قال: هذه معرفة وضعت في موضع
النكرة، وأعطيت إعرابها. كأنه قال: معضلة ولا رَجُلٌ لها كأبي حسنٍ، يؤخذ عِلْمُهَا من قِبَلِهِ
وحق التبرئة أن تقع على النكرة كقولك: لا باكيةَ لخَمرة، ولا حامية للجيش.
وكقول الشاعر:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
رجع
وما أحسن قول ابن الرومي في المعنى المتقدم:
لَا تُغْرين جوىً بِلَوْمٍ إنَّهُ
…
كالريحِ لا يُغْري الناربالإحراق
وقول عبد المحسن أيضا:
قَبَّلْتُهَا أشْتَفي بِقُبْلَتِها
…
فَزَادَني ذَلك اللَّمَى أَلَمَا
ولأبي العشائر في المعنى وهو:
ما بالُ ريقك ليس مِلْحاً طَعْمُهُ
…
ويزيدني عَطَشاً إذا ما ذُقْتُهُ
وحكى أبو العباس محمد بن يزيد المبرد قال: ارتاح محمد بن عبد الله بن طاهر يوما للمنادمة، وقد
حضرهُ وزِيرُهُ ابن طالوت، وكان أخصَّ النَّاس به، وأَحْضَرَهُم لِخَلَوَاتِه. فَأَقْبَلَ عليه، وقال: لا بد لنا
في يومنا هذا، من ثالث تَطِيبُ بقوله المُعَاشَرَة، وتَلَذُّ بِمُؤَانَسَتِه المُنَادَمة. فَمَنْ تَرى أَنْ يَكُون؟ واعفنا
من شَرسِ، الأَخْلاق، أَوْ دنس الأَعراق، أَو طَاهِرِ الأَخلاق. فَأَعْمل ابن طالوت فكره، ثم قال: أيُّها
الأمير، خَطَر ببَالي رَجُلٌ، ليست علينا من مُجَالسته مؤُنة. قد خَليَ من إبْرَام المَجَالِس، وبَرِئَ من ثِقَلِ
المُؤَانس. خفيف الوطأة إذا أحببت، سريع الوثبة إذا أردت. قال: وَمَنْ ذلك؟ قال: ماني الموسوس.
قال: أَحْسَنْتَ واللهِ فلتتقدم إلى أصحاب الثمانية والعشرين في طلبه برقعة
رقعة. فما كان إلا هنيهة، واقتنصه صاحب الكرخ، وجاء به إلى باب الأمير فأخذ، وحذف ونظف، وأُدْخِل الحمام، وأُلْبِسَ ثياباً
نظافا، وأُدْخِلَ على الأمير. فقال: السلام عَليك أيها الأمير. فقال محمد: وعليك السلام ياماني. ألم يَأْنِ
لك أن تزورنا على حين شوقٍ منَّا إليك، ومنازَعَة قُلُوبٍ نحوك. فقال ماني الشوقُ شديدٌ، والحُب ُّ
عَتيدٌ، والمزَارُ بعيد، والحِجَابُ صَعْبٌ، والبوَّابُ فَظٌّ. فلو سَهَّلَ لَنَا في الإذن، لَسَهُلَتْ علينا الزِّيَارة
فقال الأمير: أَلْطَفْتَ في الاسْتِئْذَان، فَلْتُلْطِف لَك في الاذن، لا يُمْنَعَنْ ماني أيَّ وَقْتٍ جَاءَ، أو وَرَدَ، من
ليْل أَوْنهَار. ثم أَذِن له في الجُلُوسِ، فَجَلَسَ، ودَعَا له بالطَّعَامِ، فَأَكَلَ، ثم غَسَلَ يَدَيْهِ وأخذ مجلسه وكان
محمد قد تَشَوَّقَ إلى السَّمَاع منْ تنوسة جارية ابنة المهدي. فأُحْضِرت، فكان أول ما غَنَّتْ به:
ولستُ بناسٍ إذْ غَدَوْا فتحدرت
…
دُمُوعي على الخَدَّين من شدةِ الوَجْدِ
وَقَوْلي وقد زَالتْ بليلٍ حُمُولُهُمْ
…
بَوَاكِرُ تَخْدي لا يَكنْ آخر العهدِ
فقال لها ماني: أحسنت وبحق الأمير ألا ما زِدْتِ فيه:
وقمْتُ أنَاجِي الفِكْرَ والدَّمْعُ جَائِرٌ
…
بمُقْلَةِ مَوْقُوفٍ على الضُّرِّ والجَهْدِ
ولَمْ يُعْدِني هذا الأمير بِعِزَّةٍ
…
على ظالمِ قد لَجَّ في الهَجْرِ والصَّدِّ
فاندفعت الجارية تُغَنِّيه. فقال الأمير: أَعَاشِقٌ أنت يا ماني؟ فاسْتَحْيَى، وَغَمَزَ ابن طالوت أَلَاّ يَبُوحَ له
بشيء، فيسقط من عينه. فقال: مَبْلَغُ طَرَبٍ وشوق. كان كامنا فَظَهَرَ. وَهَلْ بَعْدَ المَشِيبِ صَبْوَة؟
ثم اقترح محمد على تنوسة بهذا الصوت:
حَجَبُوهَا عن الرِّيَاح لأنِّي
…
قُلت يا رِيحُ بَلِّغِيها السَّلَامَا
لَوْ رَضُوا بالحِجابِ كانَ ولكِنْ
…
مَنَعوها عندَ الرِّيَاحِ الكَلامَا
فَغَنَّتْه فَطرِبَ محمد، ودَعا برطل فشرب. فقال ماني: ما على قائل هذا الشِّعر، لوْ زَاد فيه:
فَتَنَفَّستُ ثُمَّ قُلتُ لِطَيْفِي
…
آهِ إن زُرتَ طيفَها إلْماماَ
خُصَّها بالسَّلَامِ سِرّاً وإِلَا
…
منَعوها لِشِقْوَتِي أَن تَنَاما
فكان أثقفَ لدبيب الصبابة بين الأحشاء؛ وألطفَ تغلغلا الى كبد الصَّدى من زُلَالِ الماء، مع حسن
تأليف نظامه، والانتهاء بالمعنى الى غاية تمامه. فقال محمد: أحسنت يا ماني. ثم أمر تنوسة بإلحاقهما
بالبيتين الأولين، والغناء بهما. ففعلت، ثم غنت بهذين البيتين:
يا خَليليَّ ساعةَ لَا تَرِيما
…
وعَلَى صَبَابَةٍ فأُقِيما
ما مَرَرْنا بِدارِ زَينبَ إلَاّ
…
هَتَكَ الدَّمعُ سِرِّي المَكْتوما
فاستحسنه محمد. فقال ماني: لولا رهبة التعدي، لأضفت إلى هذين البيتين، لا يَرِدان على سَمْعِ ذِي
لُبٍّ، فَيَصْدُرَان إلَاّ عن استحسان لَهُما فقال محمد: الرغبة في حسن ما تأتي به حائِلَةٌ دون كُلِّ رهبة.
فَهَاتِ ما عنْدَكَ. فقال:
ظَبيةٌ كالهلالِ لو تَلحُظ الصّخْرِ
…
بطَرْفِ لَغَادَرَتْهُ هَشِيما
واذا ما تبسَّمَتْ خِلتُ إيما
…
ض بُرُوقٍ أوْ لُؤْلُؤاً مَنْظومَا
فقال محمد: أحْسَنْتَ وَاللَّهِ يا ماني. فَأجِزْ هذا الشعر:
لِم تَطِبِ اللَّذَّاتُ إِلَاّ بِمَن
…
طابَتْ بهِ اللَّذَّاتُ تَنُّوسَهْ
غَنتْ بِصِوْتٍ أطلقتْ عَبْرةً
…
كانتْ بِحُسْنِ الصَّبْرِ مَحْبُوسَهْ
فقال ماني على البديه:
وكَيْفَ صَبْرُ النَّفْسِ عنْ غَادَةٍ
…
أظْلِمُهَا إن قُلْتُ طَاوُوسهْ
وَجُرْتُ إنْ شَبَّهْتُها بانَةً
…
في جَنَّةِالفِردوْسِ مغْروسهْ
وَغَيرُ عَدْلٍ إنْ عَدَلْنا بها
…
جَوهرة في البحْرِ مَغمُوسَهْ
ثم سكت، فقال محمد: عدافِي وَصْلِك لها، فقال ماني:
جَلَّتْ عن الوَصْفِ فَما فكرةٌ
…
تَلْحَقُها بالنَّعْتِ مَحْسُوسَهْ
فقال محمد: أحْسنت، فقالت تنوسة: وجب شكرك يا ماني، فَساعدك دهرُك، وعَطَفَ عليك إِلْفُك،
وقارنك سرورك، وفارقك محذورك. واللَّهُ يُديمُ لنا ذلك ببقاء مَن به اجْتمع شَمْلُنا فقال لها ماني عند
قولها: (وَعَطَف عليك إلفك) مجيبا:
لَيْسَ لي إِلْفٌ فَيَقْطَعُنِي
…
فَارَقَتْ نَفْسِيَ الأَبَاطِيلُ
ثم أنشأ يقول:
أَنا مَوْصُولٌ بِنِعْمَةِ منْ
…
حَبْلُهُ بِالمَجْدِ مَوْصولُ
أَنا مَغْبوطٌ بِزَوْرَةِ منْ
…
طَبْعُهُ بِالحمدِ مَأْمُولُ
ثم أومأ إليه ابن طالوت بالقيام فنهض وهو يقول:
مَلِكٌ قلَّ النَّظَيرُ له
…
زَانَهُ الغُرُّ البَهَاليلُ
طاهري في مركبه
…
عُرْفُهُ في النَّاسِ مَبْذُولُ
دَمُ منْ يَشْقى بِصَارِِمه
…
مَعَ هُبُوبِ الرِّيح مَطْلُولُ
يا أَبَا العباس صنْ
…
أَدَباً حَدُّهُ بِالدَّهْرِ مفْلُولُ
فقال محمد: وجب جَزَاؤك، لِشُكْرك على غير نعمة تقدمت. ثم أقبل على ابن طالوت فقال: ليْسَت
خساسةُ المرْءِ، ولا اتضاح المنظر، ولا نُبُوُّ العين عن الظَّاهر، بِمُذْهِبٍ جَوْهَرِيَّة الأدب المركبة في
الإنسان. وما أخْطأ صالح ابن عبد
القدوس حيث يقول:
لَا يُعْجِبَنَّك مَنْ يَصُونُ ثِيابَهُ
…
حَذَرَ الغُبارِ وَعِرْضُهُ مَبْذولُُ
ولَرُبَّما افْتَقَرَ الفَتَى فَرَأَيْتَهُ
…
دَنِس الثِّيَاب وعرْضُهُ مَغْسُولُ
قال ابن طالوت فما رأيتُ أحْضَرَ ذِهْناً منه؛ إِذْ تَقُولُ له الجارية: (عَطَفَ عليك إِلْفُكَ)، وإبعاده عند
قولها ذلك بقوله:
ليس لي إلفٌ فَيَقْطَعُني
…
فارقَتْ نفسِي الأباطيلُ
فلم يزل محمد بن عبد الله بن طاهر مُجرياً عليه رزقا سنِيّاً حتى توفي.