الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال أبو اسحاق: والولوع بالجمال، سجية ركبها الله في الظرفاء، وفطنة خصّ الله بها أهل الفهم والذكاء. وليس
بأريب عندهم من خرج عن حد الهوى. وفي هذا المعنى قال أحدهم:
إذا أنت لم تَعْشَقْ ولم تدْرِ ما الهوى
…
فكُنْ حجراً من يابِسِ الصَّخْر جَلْمَدا
وقال الآخر:
وما الناس إلا العاشِقونَ ذَوُو الهوى
…
ولا خيرَ فيمنْ لا يُحبُّ ويعشقُ
وهو مذهب جوهري، ومنهج علي، يخص الله سبحانه به من شاء من عباده، ولا ينكر الميل إلى
الجمال، إلا جاف فدْم. قد عزب عنه الفهم، وعرته من الجهل نوائبه؛ وادلهمت في جوانحه غياهبه.
وقد قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأحب الجمال حتى في شراك نعلي.
وفي الحديث (أن الله عز وجل جَمِيلٌ يُحِبُّ الجمال). وسُمِّي الباري
سبحانه جميلا، لانتفاء النقص عنه. والمعروف عندنا أن الجميل من بني آدم، من له صورة حسنة، تامة الصفات. وحسن الصورة، مبعدٌ للنقص والشين عنها. وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يجعل جميل في هذا الحديث بمعنى
مجمل. كما يقال كريم للرجال المكرم. فكريم بمعنى مكرم. وقيل: إنَّ الحُسْن أول سعادة المرء، ورائد
اليُمْن، وسائق النجح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أُعْطي حسن خلق وحسن صورة وحسن زوجة فقد أعطي
خير الدنيا والآخرة). وقال عليه السلام: "اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه" ونظم هذا بعض الشعراء
فقال:
حُسْنُ ظَنِّي اليكَ أَصْلَحَكَ الل
…
هـ إِذْ قالَ مُفصِحٌ إفْصَاحَا
ودعاني اليك قولُ رسولِ الل
…
هـ دَعَاني فَلا عدمت النَّجاحا
إنْ أردتم حوائِجاً عند قوم
…
فتلقوا بها الوجوهَ الصِّباحا
وقال الآخر:
سَلُوا الحاجات أصبحهم وجوها
…
ولا تسلو اللئام وَلا القباحا
وقال الآخر:
حَدَّثَنَا عن خَلَدٍ خَالِدٌ
…
وَخَالِدٌ حَدث عن عامرِ
إن رسول الله في مجلس
…
قد قَالَ للبادي وللحاضرِ
إذا أردتم حاجة فاقصدوا
…
كل صبيح حسن الناظر
وقال:
لقد صدق الرسولُ وقال حقّا
…
وَخَيْر القول ما قال الرَّسولُ
إذا الحاجاتُ عَزَّتْ فاطلُبُوها
…
إلى مَنْ وجهُهُ حَسَنٌ جَمِيلُ
وقال عليه السلام: "ان الله لا يعذب حسان الوجوه سود الحدق". والله تعالى وجل بلطف حكمته،
وشريف صنعته، لم يخلق الصورة مختارة الصفات، سالمة من الشين والآفات، إلا عن فضل منه
كامل؛ وعز شامل. ولا خص أهل الجمال بالصفات السنية؛ والأخلاق الرضية، إلا وقد استوجبوا ذلك
منه. والدليل على ذلك، أن الله تبارك وتعالى لم يخلق نبيا قط، إلَاّ وقد بهر أهل زمانه، بسماحته
وحسنه وإحسانه.
والتخلق في سنن الحب بالعفاف، دأب الفضلاء والأشراف، والمنهج الذي سلكه منهم الأتقياء، وأهل
الورع والأولياء.
ورأينا في كتاب (الوشاح) لأبي القاسم المواعيني رحمه الله: العشق إذا تزين بالعفاف، فهو
معنى شريف.
وقال بعض المفسرين في قول الله تبارك وتعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي من اتقى الله في خُلَّتِه: يعني في صداقته،
فهو خليل وإلا فهو عدوّ.
وجاء عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما، أن أهل المعاصي في الدنيا، يعادي بعضهم بعضاً يوم
القيامة.
وفي هذا المعنى، يقول القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي رحمه الله: وكُلُّ مَوَدَّة في الله تبقى
على الأيام من سعة وضيق، وكل مودة فيما سواه فكالحلفاء في لهب الحريق.
وقال أبو الحسن التهامي في معناه:
شَيْئانِ ينقَشِعانِ أَوَّلَ وهْلَةٍ
…
ظِلُّ الشَّبابِ وخُلَّةُ الأَشْرَارِ
وعن أبي الدرداء أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَفْضَلُ أَهْلِ
الوَرَع، مَنْ أتَتْه جاريةٌ حسناء، ذات وجهٍ جَميل، وحَسَبٍ كريم، وَرَاوَدَتْه عن نفسه، فقال: إِنِّي أخاف الله رب العالمين".
وقال كعب الاحبار. في بعض ما أنزل الله على موسى عليه السلام: "إنَّ الشَّاب العَابِد التَّارك شَهْوَتَهُ
من أَجْلِي، أَوْ مِنْ خشيتي، أُبَشِّرُهُ بِكَرامتي، وَعِزَّتي وَجَلالي، لَوْ أقسمَ عَلَيّ أن أزيل له الجبال من
أماكنها لفعلتُ".
وحكى يحي بن عمر أن عبد الرحمان بن القاسم خرج إلى الحج، فبينما هو قاعد بالأَبْوَاء، إذْ أتته
جارية كأحسن ما يكون من الجواري، فجلست اليه، فمدّ يده ليعطيها شيئا، فقالت: لا واللهِ، ما أريد
هذا منك، وإنما أيد منك ما يكون من الرجال إلى المرأة. فأدخل رأسه بين ركبتيه وجعل يبكي، فجاء
أصحابه فوجدوه على تلك الحال، فسألوه فأخبرهم بالقصة، فجعلوا يبكون فقال لهم: وما يُبْكيكُم؟
فقالوا: نبكي لأنّا لو ابْتُلِينا بمثل ما ابْتُلِيتَ به، لم نأمن على أنفسنا الفتنة. فبينما عبد الرحمن ابن
القاسم نائم، اذ رأى في منامه رجلاً حسن الصورة، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا يوسف بن يعقوب.
فقال له ابن القاسم: لقد كان شأنك مع امرأة العزيز عجبا. فقال له يوسف عليه السلام: وأنت شأنك
مع صاحبة الأبواء أعجب، لأني هممت، وأنت لم تهمّ.
قال: وسليمان بن يسار أخا عطاء. اتفق له مثل ما اتفق لابن القاسم رحمة الله عليهما.
وحكى أن أعرابيا عًَشِقَ جارية، ذات حسن وجمال، واشتدّ بها كَلَفُه. فقيل له: ما كنت تصنع بفلانة،
لو ظَفِرْت بها في مكان لا يراكما أحد؟ فقال: كنت، والله، أفعل ما أفعله، بحضور أهلها؛ شكوى
وحديث عذب، واجتناب ما يُسْخِط الرّب. ورحم الله أبا عبد الله نفطويه في قوله:
ليس الظَّريفُ بِكامِل في ظرفه
…
حتّى يكُونَ عن الحَرامِ عَفيفَا
فإذا تَعفَّف عن مَحَارمِ ربّه
…
فَهُناك يُدْعَى في الأَنَامِ ظَريفَا
وقال أيضا:
وَكمْ ظَفِرْتُ بمن أَهْوى فَيَمْنَعُنِي
…
منه الحياءُ وخوفُ الله والحَذَرُ
وكَمْ خَلَوْتُ بِهِ يوماَ فَيَقْنَعُنِي
…
منه الفكاهةُ والتّقْبيلُ والنظرُ
أَهْوَى المِلَاحَ وأهْوَى أَنْ أُجالِسَهُمْ
…
ولَيْسَ لي في حَرَامٍ مِنْهُمُ وَطَرُ
كذلك الحُبُّ لا إِتْيَانُ فَاحشةٍ
…
لا خَيْرَ في لذّةٍ من بعدها سقَر
قوله (من بعدها سقر). يعني النار أَعَاذَنا اللهُ مِنْها. وسُمِّيت سَقَر، لشدة
ايلامها. من قولهم: سَقَرَتْهُ الشمسُ تَسْقُرُهُ سَقْراً؛ إذا آلمت دماغه. ومنه السَّقْرُ بالسين والصاد، لشدة ألمه في صيده. والسين
الأصل. والصاد مبدلة منها من أجل القاف. وقرأ زكرياء بن يحى بن عباد في سورة لقمان (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) بالصاد
من أجل الغين، ولا تنصرف سَقَر للتأنيث والتعريف.
رجع
وحكى عن العتبي أنه قال: سألت عن الظَّرْف. فقيل لي: الظَّرْفُ في أربع: الحياءُ والكرمُ، والعِفَّةُ
والنَّزاهة.
وقال بعضهم: الظَّرْفُ في أربع: كَلَفُ النفس، وسخاء الكَفِّ، وعِفَّةُ الفَرج، وكِتْمانُ السِّر.
وقال بعضهم: الظَّرْفُ في ثلاثة: كَلَفُ النفس، وعفة الفرج، وكتمان السر. وكان أبو حاتم رحمه الله
يختم القرآن في كل أسبوع، ويتصدّق كل يوم بدينار.
وحكى أبو عمرو البصري، قال: سمعت أبا عثمان الخزاعي يقول لأبي حاتم: كنت البارحة بين
النائم واليقظان، كأني في المحراب، اذ سمعت قائلا يقول:
أَبُو حَاتِمٍ عالِمٌ بالعُلومِ
…
وأَهْلُ العلومِ لَهُ كالخَوَلْ
عليكم أبا حاتمٍ إنه
…
له بالقراءةِ عِلْمٌ جَلَلْ
فإن تَفْقدوه فلن تُدركوا
…
لَهُ مَا حَيِيتُم بعلمٍ بَدَلْ
فبكى أبو حاتم سروراً بما قال. وفيه يقول أبو عمر والبصري:
إلى مَنْ تَفْزَعُونَ إذا فُجِعْتُم
…
بسهلٍ بعده في كل بابِ
وَمَنْ ترضونه منْ بعد سهلٍ
…
إذا أودَى وَغُيِّب في التُّرابِ
وقال مروان بن عبد الملك: سمعت الرياشي، ونحن على قبر أبي حاتم نَتَرحّمُ عليه، وهو يقول:
ذَهَبَ معه بعلم كبير فقال له بمحضر أصحابه: كتبه. فقال العباس: الكتب تودي ما فيها ولكن صدره.
ومع عِلْمِه الفائق، وفِعْلِه الجميل، كان يميلُ إلى أبي العباس محمد بن يزيد المبرد. إذْ كان يَلْزَمُ
حلقته، وهو غلام. وكان أبو العباس وسيماً جميلا، وفيه يقول أبو حاتم، وقد اشتد به هيامه:
ماذا لقيتُ اليومَ منْ
…
متمجِّن خنثِ الكَلَامْ
وَقَفَ الجمالُ بخده
…
فَسَمتْ لَهُ حَدَقُ الأنامْ
حَرَكاتُهٌ وسُكُونُهُ
…
نَجْني بها ثَمر الأثامْ
وإذا خَلَوْتُ بمثلهِ
…
وعزمتُ فيه على اعتزامْ
لم أَعد أَفْعَالَ العَفَا
…
فِ وذاكَ وَكْدٌ للغرامْ
نفسي فِداؤك يا أبا العب
…
اس حلَّ بكَ اعتصامْ
فارْحَمْ أَخَاكَ فإِنَّهُ
…
نَزْرُ الكَرى بادي السَّقَامْ
وَأَنِلْهُ مَا دُون الحَرا
…
مِ فليس يرغَبُ في الحرامْ
وحكي أن أبا العباس أحمد بن عمرو بن سُريج الشافعي، وأبا بكر بن داوود القياسي اجتمعا يوماً في
مجلس الوزير أبي الحسن على بن عيسى بن الجراح، فتناظرا في الإيلاء فقال أبو العباس بن سُريج
لأبي بكر بن داوود: أنت بقولك: (مَنْ كَثُرتْ لحظاته، دامَتْ حَسَراتُه) أبصر منك بالكلام في الإيلاء
فقال له أبو بكر: لئن قُلتَ ذلك، فإني أقول:
أُنَزِّهٌ في رَوْضِ المحاسِنِ مُقْلَتي
…
وأمنعُ نفسي أنْ تَنَالَ مُحَرَّما
وأَحْمِلُ مِنْ ثِقْلِ الهوى ما لَوَ انَّهُ
…
يُصبُّ على الصّخْر الأَصَمِّ تَهَدَّما
وَيَنطِق طَرْفي عنْ مترجمِ خاطري
…
فلولا اختلاسي رَدَّهُ لَتَكَلَّمَا
رأيت الهوى دعوى من الناس كُلِّهِمْ
…
فَلَسْتُ أرى حُبّاً صحيحاً مسلّما
فقال له أبو العباس: لِمَ تفتخر عليَّ؟ لو شئتُ أيضا أنا لقلت:
ومطاعمٍ للشَّهْدِ مِنْ نغَماتِهِ
…
قَد بِثُّ أمنعُه لَذيذ سِنَاتِه
صَبّاً بِحُسْنِ حَديثه وكلامه
…
وأكرّرُ اللّحظاتِ في وَجناته
حتى إذا ما الصُّبحُ لاحَ عَمُودُهُ
…
ولّى بخاتم رَبّه وَبَراتِهِ
فقال أبو بكر: يُحْفَظ عليه ما قال، حتى يقيم شاهِدَيْ عَدْل، على أنه ولى بخاتم ربِّه. فقال له أبو
العباس: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك:
أُنَزّه في روض المحاسن مُقْلتي
فضحك الوزير أبو الحسن، وقال: لقد جمعتما ظَرفا ولُطفا.
قال: وكان القاضي شريح بن الحارث رحمه الله من كبار التابعين والفضلاء، والمتورعين والعلماء
المتقدمين. استقضاه عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم،
ومعاوية رحمه الله. فكانت مدة ولايته القضاء ستين سنة. وكان ذا فطنة، وذكاء وعقل، وأعلم الناس
بالقضاء. وكانت زوجه زينب امرأة من بني تميم. وكان يحبها حباً شديداً. فأخذها ذات يوم في شيء
غاظه، وعتب عليها فيه، واشتد احتدامه حتى ضربها بالسوط. فلما عاين حالها ندم على ضربها،
ورقّ لها، وبكى شفقا عليها ثم قال:
رأيت رِجالاً يضربون نِسَاءهُمْ
…
فَشُلَّتْ يميني يَوْمَ أضْرِبُزينبَا
أَأَضْرِبُها في غير ذنب أتتْ بهِ
…
فما العدلُ مني ضربُ مَنْ ليسَ مُذْنِبَا
فزَينبُ شَمْسٌ والنساءُ كَواكبٌ
…
إذا طلَعَتْ لم تُبقِ مِنْهُنَّ كوْكَبَا
وهذا البيت الثالث لفظ النابغة حيث يقول:
أَلَمْ تَرَ أنّ الله أعْطاك سَوْرَةً
…
تَرى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ
بِأنكَ شمسٌ والملوكُ كواكبٌ
…
إذا طلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنهنّ كَوْكَبُ
ومن هذا المعنى جرى المثل في قولهم: (السراج لا يضيء بالنهار).
ومنه أخذ إبراهيم بن العباس قوله:
مَا كُنْتُ فيهن إلا كنْتَ واسطة
…
وكُنَّ دُونكَ يُمْناها ويُسْراها
واليه أشار بشار في قوله:
ولكن جواري الحيّ اذ كنتِ فِيهِمُ
…
قباحٌ فلمّا غِبْتِ صِرْنَ مِلاحَا
ولبعض شعراء (كندة) في معنى قول النابغة
يمدح عمرو بن هند:
تَكَاد تَمِيدُ الأرضُ بالنّاسِ أنْ رَأَوْا
…
لعمرو بن هندٍ غَضْبَةً وَهْوَ عاتب
هُوَ الشّمْسُ وَافَتْ يومَ سعدٍ فَأَفْضَلَتْ
…
على كُلِّ ضَوْءٍ والملوكُ كواكبُ
وأخذه نصيب فقال:
هو البدرُ والنّاسُ الكواكبُ حَوْلَه
…
وهَلْ تُشْبِهُ البدْرَ المضيء الكواكبُ
وإلى هذا المعنى أشار أبو تمام الطائي في قوله:
وَقالتْ أتَنسَى البَدْرَ قُلْتُ تجلدا
…
إذا الشَّمْسُ لم تَغْرُبْ فلا طلع البدْرُ
قال أبو اسحاق:
ولا شك في أنّ الصَّالحين، مالِكُون لِشَهَوَاتِهِم، مُرَاقِبُون الله تعالى في خَلَواتِهِمْ، مُتَيقِّنُون أن الله عز
وجل مُجَازيهمْ على أعمالهم. فلا يخطر نَزْغُ الشيطان ببالهم.
ومن هذا المعنى يقول أحد البلغاء منهم، أظنه نابغة بني شيبان:
إِنَّ من يركب الفواحش سرّاً
…
حين يَخْلو بفعله غير خالي
كيف يخلو وعنده كاتباه
…
شاهداه وربنا ذو الجلال
وقال الآخر:
إذا ما خَلَوْتَ الدهرَ يوماً
…
خَلوتَ ولكنْ قُلْ عَلَيَّ رقيبُ
ولا تَحْسَبَنّ اللهَ يغفل ساعة
…
ولا أَن ما يخْفَى عليه يَغيبُ
وقال الآخر في المعنى:
ياراكبَ الذّنب أما تستحي
…
الله في الخُلوة رَائِيكَا
غَرَّكَ منْ ربّك إمهاله
…
وَسَتْرُهُ طول مَسَاويكَا
وقد قال الله في كتابه العزيز المنير (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). فالعَبْدُ الوَرِع الدَّيَّان، يخاف من عقاب الرحمان، يخشى الله
تعالى في غيبة الناس عنه، أشد من خشيته، إذا شاهدوه وتدانوا منه.
وأثبت هنا من كلامهم في معنى العَفَاف، قطعاَ من النَّظْم السري، واللفظ الأدبي؛ ضَمَّنُوها معنى
العفاف، وأباحوا اللَّثْم والارتشاف، تَعَلُّلاً للنفوس الصَّادِية والمُهَج، ولم يروا في ذلك من بأْسٍ وَلا
حَرَج.
فمنها قطعة للأديب الكامل أبي الوليد بن حزم يقول فيها:
وكَمْ ليلة كادَ المنى يَسْتَفِزُّني
…
ولا رِقْبَةٍ دون الأمَاني ولا سَتْرُ
وفي ساعدي بدرٌ على غُصن بانةٍ
…
يَودّ مكاني بين لبّاتِه البَدْرُ
وفي لحْظِهِ كالسُّكْر لا مِنْ مُدَامةٍ
…
ولولا اعتراضُ الشكِّ قُلتُ هو السكْرُ
وقد سلَبتْهُ الراحُ سَورة كبْره
…
وَمَالَ على عطفيه وانقطع العُدْر
وبين ضُلُوعي، يعلمُ الله، حَاجةٌ
…
طواها عفافي لا كما زعم الغَيْرُ
فَلَمْ يكُ الا ما أباحَ لي التُّقى
…
ولم يبق إلا أن يحلّ لي الخمرُ
وقال أبو الوليد أيضا:
وكم ليلةٍ ظافرت في ظلها المنى
…
وقد طَرفَتْ من أعين الرُّقَباءِ
وفي ساعدي حُلْوُ الشَّمائل مترفٌ
…
لعوبٌ بِيَأسي تارة ورجائي
أُطارِحُهُ حُلْوَ العتابِ وربما
…
تَغَاضَبَ فاسْتَرضَيته بِبُكَائِي
وفي لحظه من سورة الكأسِ فَتْرَةٌ
…
تَمُتُّ إلى ألحاظه بِوَلاءِ
وقد عابَثَتْهُ الرَّاحُ حتَّى رَمَتْ به
…
لَقى بين ثِنْيَي بُرْدَتِي وَرِدَائِي
على حاجةٍ في النفسِ لو شِئْتُ نِلْتُهَا
…
ولكن حمتني عِفَّتِي وَحَيَائِي
وقال أبو الحجاج الرمادي:
ولَيلةٍ راقبتُ فيها الهوى
…
على رقيبٍ غير وسْنانِ
والرّاحُ ما تنزل من راحتي
…
وقتاً ومن راحة نُدْمَاني
وَرُبَّ يومٍ قَيْظُه مُنضِجٌ
…
كأنه أحشاءُ ظَمآنِ
أَبْرزَ في خدًَّيه لي رَشحَهُ
…
طَلاً على وَردٍ وَسَوْسَانِ
وكان في تحليل أَزْرارِه
…
أَقْودَ لي منْ أَلِف شَيْطانِ
فُتِّحت الجنَّةُ من جَيْبه
…
فَبِتّ في دَعوة رِضوانِ
مُرُوَّةٌ في الحبِّ تنهى بأنْ
…
يُجَاهَرَ اللَّهُ بعصيان
وقال أيضا:
لَيَالِيَ بِعْتُ العاذلينَ أمانتي
…
بفتكي وَوَلّيْتُ الوشاة آذَانِي
وإذ لي نَدْمَانان سَاقٍ وَقينة
…
رشيقان بالأرواحِ يَمْتزجانِ
أَمدّ الى الطّاوُوس في تارةٍ يدي
…
وفي تارَةٍ آوي إلى الورشان
فكُنْتُ أديرُ الكأسَ حتّى أراهما
…
يميلان من سُكْرٍ ويعتدلان
ونفضي إلى نومٍ فإن كُنتَ جاهلاً
…
مكاني فَوُسْطَى العقد كانَ مكاني
فكانا لما في الجسم من رقَّةِ الضَّنَى
…
يكادانِ عند الضَّمِّ يَلتقيان
فَلَو تُبصِرُ المضنى وبدراهُ حَولهُ
…
لقُلْتَ السُّها من حَوْله القمران
وما بِيَ فخرٌ بالفُجُور وإنما
…
نَصيبُ فجوري الرشْفُ والشفتان
وما أبدع قول البحتري في هذا المعنى حيث يقول:
بَاتَ نَديماً لي حتّى الصَّبَاحْ
…
أغيدَ مجدول مكانِ الوشاحْ
كأنَّما يَضحكُ عَنْ لُؤْلؤٍ
…
منضدٍ أوْ بَرَدٍ أو أَقَاحْ
تَحْسَبُهُ نًَشْوَانَ مَهْمَا رَنَا
…
لِلْفَتْر منْ أجفانِهِ وهو صاحْ
بِتُ أفدِّيهِ ولا أرعوي
…
لِنهي نَاهٍ عنهُ ولَحْي لَاحْ
أَمْزُجُ كأسي بِجَنَا رِيقِهِ
…
وإنما أَمْزُجُ راحاً بِرَاحْ
يُسَاقَطُ الوَرْدُ عَلَيْنا وقد
…
تَبَلَّجَ الصُّبْحَ نسيمُ الرِّياحْ
أغضيتُ عن بعض الذي وقد يُتَّقَى
…
من حرج في حُبِّه أَو يُباحْ
سِحْرُ العُيُونِ النُّجْلِ مُسْتَهْلِكٌ
…
لُبِّي وتَوْرِيدُ الخدود المِلَاحْ
ومثل هذا في الحسن وتضمين المعنى قول أبي جعفر بن الأبار:
عاطيته كأساً كأنَّ سُلافها
…
مِنْ رِيقه المعْسُولِ أووَجَنَاتِه
حتّى إذا ما السُّكْرُ مالَ بِعِطْفه
…
وَعَنَا بِحُكْمِ الوَصْلِ في نشواتِهِ
هَصَرَتْ يَدِي منهُ بِغُصْنٍ ناعم
…
لمْ أَجْنِ غَيرَ الحِلِّ منْ ثَمَرَاتِهَ
وأَطَعْتُ سلطانَ العَفافِ تكَرُّماً
…
والمَرْءُ مجبولٌ على عاداتِهِ
ومثله أيضا قول ابن فرج الجَيَّانِي:
وطائِعةِ الوِصَالِ عَفَفْتُ عَنْها
…
ومَا الشيطانُ فيها بِالمُطَاعِ
بَدَتْ في الليل سافرةً فَهانتْ
…
دَياجي اللّيل سافِرةَ القِناعِ
ومَا مِنْ لحظَةٍ إلا وَفيها
…
إلى فِتَنِ القُلُوبِ لها دَوَاعي
فَمَلكْت الهَوى جمحاتِ شوْقي
…
لأجْريَ في الَعَفَافِ على طِبَاعي
وبِتُّ بِها مَبيتَ السَّقْبِ يَظْمَا
…
فَيَمْنَعُه الكَعَامُ عَنِ الرَّضَاعِ
كذاكَ الرَّوْضُ ما فيه لمثلي
…
سِوَى نَظرٍ وشمٍّ منْ مَتَاعِ
ولستُ من السُّوائِمِ مُهْمَلَاتٍ
…
فأَتَّخِذَ الرِّياضَ منَ المرَاعِي
وفي هذا المعنى الشريف، يقول أبو الحسن الحُصْري الكفيف:
قَالَتْ وَهَبْتكَ مُهْجتي فَخُذْ
…
وَدَعِ الفِراش ونَمْ على فَخِذِي
وثَنَتْ إلى مِثْلِ الكَثيبِ يَدي
…
فَأَجَبتُها نِعْمَ الأريكةُ ذي
وهَمَمْتُ لكن قال لي أَدَبي
…
بالله منْ شَيْطانِك اتَّعِذِ
قَالَتْ عَفَفْتَ فَعِفْتَ قُلتُ لها
…
مُذْ شِئْتُ بِاللَّذَّاتِ لَمْ أَلُذِ
وفي هذا المعنى يقول الأديب أبو جعفر الأعمى التطيلي من قصيدة له:
فَلَو تراني قد اسْتَسْلَمتُ مُرتَقباً
…
مِنْها حنانَ الرضى أو جَفوةَ الغَضَبِ
حتّى إذا ما ألانَتْ تلك جانبها
…
والقلبُ مهما أرُمْ تَسكينَه يَجِبِ
طَفقتُ أَلثمُ كفّيْها وقد جنحت
…
إِليَّ تَضحكُ بين العُجْب والعَجَبِ
ثم افترقنا وقد ساءت حَفائظنا
…
إن اجْتَمَعْنا ولم نَأثمْ ولم نحب
لله مِثليَ ما أدنى سَجيتَه
…
من المعالي وأَنآها من الرِّيَبِ
كَمْ مأثمٍ مُستلذٍ قد هَمَمْتُ به
…
فلم يَدعني له ديني ولا حَسَبِي
وقد كرّر أبو جعفر هذا المعنى أيضا حيث يقول:
سَرَتْ وَقَدْ وَقَعَ السّاري بجانبه
…
والشمسُ تَضْربُ دُهْمَ اللّيل بالبلقِ
بَدْرٌ لمُلتَمِسٍ، غُصنٌ لِمُعْتَنِقٍ
…
خَمرٌ لمغتَبقٍ، مِسْكٌ لمُنَتِشِقِ
وَأَقْبَلَتْ تَحسبُ الظّلْمَاءَ تَكْتُمها
…
وقَدْرَمَتْها نُجُومُ الليل بالحَدَقِ
والصُّبْحُ يَقْدَحُ في الظلماءِ نائرةً
…
كأنها نفْثةُ المصدُورِ عنْ حَنَقِ
والشرق يَفْهَقُ والآفاقُ وَاردةٌ
…
وأَنْجُمُ الليلِ قد أَيْقَنّ بِالغَرقِ
كأنَّما الروضُ أهْداها وَشِيعَهَا
…
فاستصحبت لمةً من طيب العَبَق
تَتَوَّجَتْ بِالدُّجى فَالشَّعْرُ مِنْ غَسَقٍ
…
والخدُّ من شَفَقٍ والثّغر من فَلَقِ
أَلْهُو بِمِسْكِ شَذَاها لا أُحَاوِلُ مَا
…
وَرَاءَ ذاكَ وَلَوْ حَاوَلْتُ لَمْ أُطِقِ
فَبِتُّ أَحْسِبُ أنِّي قَد طرقتُ بِها
…
رَوْضاً شَمَمْتُ لها طيباً ولم أَذُقِ
وعلى هذا الروي أثبت هنا لأبي الحسن بن الزقاق بعض قصيدة له:
زارتك من رقْبةِ الواشي على فَرَق
…
حتى تبدَّى وميضُ المرهَفِ الذَّلِق
فخفّض الجَأشُ منها أن ملك يَدي
…
نهر يَغَصُّ به الواشون مِنْ شَرَق
سكَّنتها بعدما جالت مدامِعُها
…
بِمُقْلَتيها فِرنْداً في ظُبا الحَدَقِ
فَأَقبلتْ بينَ صَمْتٍ مِنْ خَلاخِلها
…
وبين نطق وشاح جَائلٍقَلقِ
وأَرسَلَتْ منْ مُثنَّى فرعِها غَسَقا
…
في ليلةٍ أَرسلتْ فرعاً من الغَسَقِ
تبدو هلالا وَيبْدو حَليُها شُهُباً
…
فما تُفَرِّقُ بين الأَرْضِ والأُفقِ
غازلتُها والدُّجَى الغربيبُ قد خُلعَتْ
…
منهُ على وَجْنتيها حلة الشَّفقِ
حتى تقلص ظلُّ الليل وانفجرتْ
…
للْفَجْر فيه يَنَابيع من الفلقِ
فودعت وعيونُ المزنِ تُسعده
…
عند الفراقِ بِدمعٍ واكفٍ غدق
وقال أبو الحسن أيضا:
مُذْرَقَّ الصُّبْحُ رَاقني الغَسَقُ
…
أْحْسَن حَالِي في الدُّجَى الأَرَقُ
قدْ ذَهَبَتْ دولةُ العِتَابِ وَقَدْ
…
جاءتْ خُيُولُ الأَعْتابِ تَسْتَبقُ
وأَشْرَقَ الدَّهْرُ حِينَ أَسْفَر مِنْ
…
أُمِّ سُلَيْمان خَدّها الشَّرِقُ
جَاريةٌ: بَعضُها، إِذا بَرَزَتْ
…
ضَوْءُ صَبَاحٍ، وبَعْضُها غَسَقُ
إنْ وَصَلَتْ فالسُّرُور متَّصلٌ
…
أَوْ فَارقَتْ فالعَزَاءُ مُفْتَرقُ
مَمْشُوقَةٌ القَدِّ بِتُّ مُعْتَنِقاً
…
لَهَا، وبَعْضُ الغُصُونِ يَعْتَنِقُ
لَمْيَاءُ تَأْسُو ببردِ ريقَتها
…
ما أثرت في فؤادي الحدقُ
أَرشفُ منْها مُقَبِّلاً رَتْلاً
…
كأَنَّ ماءَ الكُرُومِ أَغْتَبِقُ
عَايَنْتُ مِنْ خَصْرِ المهفهف مَا
…
أَخْبَر عنهُ وِشَاحُها القَلِقُ
وَذُقْتُ منْ ثَغْرها المنظم ما
…
حدَّث عنه مِسْواكُها العَبِقُ
تقُولُ لي موهناً وقد عَلِمَتْ
…
أَنَّ فؤادي منْ هَجْرهَا فَرِقُ
لا تَخَف الكاشحين إنْ نَطقُوا
…
فيك بِمَيْنٍ وَهَبْهُمُ صَدَقُوا
أنت من القلب بالسوادِ فَثِق
…
بِحَبْل مَنْ بِالوُشاةِ لا يَثِقُ
فَبِتُّ أنهى الهمومَ عن خَلَدي
…
بِلَثْمِ خَدٍّ كأَنَّهُ شَفَقُ
في جُنْح ليلٍ يكاد يحسدهُ
…
في حسْنِه أَو ضِيَائِه الفَلَقُ
أَطلع بَدْري وَبدر غَيْهبه
…
فاستوت الأرضُ فيه والأفقُ
قوله: راقَني الغَسَقُ أي: أعجبني. تقول: راقني الشيء ويرُوقني روقا: إذا أعجبك.
قال العُتبيّ: ذكر أعرابي امرأة فقال: تَبْسمُ عن حُمْش اللّثات كأَقاح النبات، فالسعيدُ من ذاقه، والشقي
من راقه. أي من أعجبه ولم ينله. وقال ذو الرمة:
وسَاعَفَتُ حَاجَاتِ الغَوَاني وَرَاقني
…
عَلَى البُخْلِ رَقْرَاقَاتُهُنَّ البلائحُ
وقوله: (لمياء) يريد أن لها لَثّةً لَمْيَاء. واللَّمَى: سُمْرَةٌ تضرب إلى السَّواد،
وليست بحمراء وهي الحُوَّةُ، والحُمَّةُ. ولَثَّةٌ حَوَّاء وحَمَّاء. ويكون اللَّمَى أيضا في الشفتين؛ فإذا كان فيهما فهو سُمْرة تخالطها
حُمْرة. وقال ذو الرمة:
لَمْيَاءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ
وقد شرحنا هذا البيت في مكانه، من الجزء الثاني من هذا المجموع، ونبهنا على معناه البديع.
وقوله:
أَرْشُفُ منها مُقَبَّلاً رَتلاً
.....................
يعني؛ فما حسن الثغر مليح الصفة معجبا لمن رآه؛ وإنما يوصف بالرَّتَلِ: الكلامُ السَّهْلُ السَّالمُ من
التَّقْعير، الحَسَنُ التَّأليف. يقال:
تَرتَّلْ في كَلَامِكَ: أي حُسْنُه وسهله في بيان. وقال امرؤ القيس:
رَاعَتْ فُؤَادكَ إذْ عَرَضْتَ لها
…
بدلالِها وَكَلامِها الرَّتْلِ
وقال أيضا:
مُبَتَّلَةٌ هيْفَاءُ زان حَديثها
…
بَهَاءٌ وَتَأْييدُ الخَطِيب المرتلِ
فاستعار أبو الحسن الرَّتْل للفم؛ إذ الكلام منه يبين.
وقال بعض المتأخرين:
ألا حبَّذا خِلٌّ عزيز وَحَبَّذَا
…
كلامٌ لبِنتِ السَّالمي رَتِيلُ
وقال أبو الحسن أيضا:
وَمِفْتًَانٍ قتولِ الدلِّ ريّا
…
يجاذبُ خَصْرَها ردفٌ رداحُ
سرت إذْ نَامَتِ الرقباءُ نحوي
…
ومسكُ الليل تُمريه الرياحُ
وقد غنى الحلِيُّ على طلاها
…
بوسواسٍ فجاوبه الوشاحُ
يحاذر من عمود الصبح نوراً
…
مخافةً أن يُلِمّ به افتِضَاحُ
فلم أرقبلها والليلُ داجٍ
…
صباحاً بات يَذْعَرُه صَبَاحُ
وقال أبو الحسن أيضا رحمه الله:
دَعَوْتُ وراء السِّجْفِ منها جِدايَةً
…
مَرَاتِعُهافي أضْلُعٍ وَقُلُوبِ
تُمسِّحُ عَنْ أجْفَانِها سِنَةَ الكَرى
…
بِرَاحَةِ فِضيّ البنانِ خضيبِ
فَغَازلتُها والليلُ مُلقٍ جِرانَه
…
إلى أن تَمادى نَجْمُهُ لِغُرُوبِ
ونَازَعتُها شًكْوى ألذّ من الكرى
…
تُسَكِّنُ من لَذْغٍ بنا وَوَجيبِ
فَيَا ليتَ أنَّ النَّسر قُصَّ جَنَاحُهُ
…
وًَيَالَيتَ أَنَّ الصُّبحَ غيْرُ قريبٍ
قوله:
دَعوتُ وراء السَّجفِ منها جِدايةً
فالجداية من أولاد الظباء بمنزلة الجدي من أولاد الغنم. يقال للذكر والأنثى جداية. قاله أبو علي،
وأنشد لِعنترة:
وكَأَنَّمَا التفَتَتْ بِجِيدِ جَدَايَةٍ
…
رَشأ مِنَ الغِزْلانِ حُرٍّ أَرثَمِ
وقال أبو جعفر بن الأبار:
وَمُنعَّمٍ غَضِّ القطافْ
…
عَذْبِ الغروب للارتشافْ
قد صيغَ من دُرِّ الجَما
…
لِ وَصِينَ في صَدَفِ العَفَافْ
وسَقَتْه أنديةُ الشبا
…
بِ بمائها حتى أنَافْ
فَتَرَوَّضَتْ منه الريا
…
ضُ وسُلِّفَتْ مِنهُ السُّلَافْ
مَهْما أردتُ وفاقهُ
…
يوما تعرّضَ للخِلافْ
لَمَّا تَصَدَّى للصُّدُو
…
دِ وَمَالَ نحو الإنحرافْ
هيَّأتُ مِنْ شَرَكي له
…
فِعل اللِّطافِ مِن الظِّرافْ
فَسَقَيْتُهُ ماءً بها
…
وأدرتُ صافيةَ بِصَافْ
حتّى تَرنَّحَ مَائلاً
…
كالغُصن مال بِهِ انعِطَافْ
فوردتُ جَنَّةَ نَحْره
…
وَنَعيمُها داني القِطافْ
وضَممتُ نَاعِمَ قَدِّهِ
…
ضَمّ المضاف إلى المضافْ
فورِعْتُ في حين الجَنَى
…
وكفَفْتُ عن فرق الكَفافْ
وَعَصِيتُ سلطانَ الهوى
…
وأَطَعتُ سُلطانَ العَفَافْ
وقال أبو جعفر أيضا وأحسن:
لم تدرِ ما خَلَّدَتْ عَيْناكَ في خَلَدي
…
من الغَرامِ وَلا ما كابدْت كبدي
أفديك من زائرٍ رَامَ الدنُوَّ فَلم
…
يَسْطِعْهُ من غرق في الدَّمْعِ مُتّقد
خَافَ العُيونَ فوَافاني عًَلَى عًَجَل
…
مُعطّلَا جيدَهُ إلا مِنَ الغَيَدِ
عاطَيْتُهُ الكأسَ فاستحيتْ مُدامتها
…
من ذلك الشَّنَبِ المعسولِ والبَرَدِ
حتّى إذا غازلَتْ أجفانَهُ سِنةٌ
…
وَصَيَّرَتْهُ يد الصَّهْبَاءِ طَوْعَ يَدي
أردت توسيدهُ خَدِّي وَقَلَّ لهُ
…
فقال كفُّكَ عندي أفضلُ الوُسُدِ
فَبَاتًَ في حَرَمٍ لا غَدْرَ يَذْعَرُهُ
…
وبِتُّ ظَمآنَ ولم أصدُرْ ولمْ أرِد
بَدرٌ ألَمّ وبدرُ التّمِّ ممتحقٌ
…
والأفق مُحْلَوْلِكُ الأرْجاء من حسد
تَحيّر الليل فيه أين مطلعه
…
أمادرى الليلُ أنَّ البدرَ في عضدي
وتروى هذه القطعة لادريس بن اليماني، وهي لمن كانت منهما، بديعة
متقنة في معناها، رفيعة مزجت من العفاف، بعذوبة وحلاوة، ولاح عليها من الإبداع نضارة وطلاوة.
وقوله في أول القطعة: (ولا ما كابدت كبدي). يقال منه: كَابَدَ يُكابِدُ مُكَابَدَةً. والكَبَد: المشقّةُ والشدة.
قال الله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ). قال ابن عباس: معناه في شدة من حمله وولادته، ورضاعته ونبت أسنانه، وقيل:
يُكَابِدُ أمر الدنيا والآخرة. وهذا قول قتادة، ومعناه ما ذكرنا. وقال الشاعر:
لَقيتُهُمْ والمنايا غَيْرُ دافِعَةٍ
…
لما أمرت به والمُلْتَقَى كَبَدُ
أي شديد، ويقال للخصوم: إنهم لفي كَبَدٍ من أمرهم، وبعضهم يُكَابِدُ بعضا. والرجل يُكَابِدُ الليل، إذا
بات ساهراً مغموما.
قال الشاعر:
أُكَابِدُ هَذا اللّيل حَتَّى كأنما
…
عَلَى نجمه أَلَاّ يَغُورَ يَمِينُ
وتقول: كابَدْت الليل بِكَابِدٍ شديد؛ أي بِمُكَابَدَة شديدة، قال العجاج:
وَلَيْلَةٍ من اللّيالي مَرَّتِ
…
كَابَدْتُهَا بكابِدٍ وَجَرَّتِ
وقال لبيد:
عينيّ هَلَاّ بَكيتِ أرْبَدَ إِذْ
…
قُمْنَا وقام النِّساءُ في كَبَد
ويروى (وقام الخصوم في كبد) أي؛ في حزن شديد ومشقة. وأنشد الأصمعي لبعض الخوارج:
أَلَا في اللَّه لَا في النَّفسِ شالت
…
بِداوُدٍ وأسرته الجُذُوعُ
إِذَا ما اللّيْل أظلمَ كابدوهُ
…
فَأَسْفَر عَنْهُمُ وهمُ رُكُوعُ
أطارَ الخوف نومَهم فقاموا
…
وأهلُ الأمْنِ في الدنيا هُجُوعُ
وحكى بعض الرواة، قال: خرج ذو الرمة، ومزاحم العقيلي من (الجفر) وأخرجا معهما روايا
لأهلهما، وكانوا (بالدّهْناء). فجن عليهما الليل، فباتا الى رجل من بني عدي، يقال له جزء بن عبد
الله. فلما كان في وسط الليل، أخذ ذو الرمة وجع في بطنه، فمات منه قبل أن يصبح. فخرج
جزء بالروايا حين أصبح، فطرق أهلهما عند العتمة، فنعاه اليهم، فقال مسعود أخو ذو الرمة:
نعى لي جزء ذا الرميمة موْهنا
…
فبتُّ بِلَيْل إذْ نَعَاه أكابدُه
ألا سَوفَ أَبْكي ذا الرميمة حِقبة
…
كَمَا لَوْبي الأولى بَكَتْنِي أَوَابِدُهْ
إلى الله أشكو لا إلى النَّاس آنني
…
ولَيْلَى كانا موجعٌ مات وَاجِدُهُ
غَصصْتُ بِرِيقي حين جَاءَ نَعِيُّهُ
…
وَمَا المَاءُ حتى حَرَّ في الصَّدْرِ بَارِدُه
قول مسعود:
ألا سوف أبكي ذا الرميمة حقبةً
كقول لبيد يخاطب ابنتيه:
إلى الحول ثُمَّ اسمُ السَّلَامِ عليكما
…
وَمَنْ يَبْكِ حَولا كامِلاً فقد اعْتَذَرْ
وأخذه أبو تمام الطائي فقال:
ظَعَنوا فكان بُكَايَ حَوْلاً بَعْدَهُم
…
ثُمَّ ارعَوَيْتُ وذاكَ حُكْمُ لبيدِ
وفي حديث حذيفة بن اليماني فيما روى محمد بن قيس عن عمرو ابن مرة، قال: قال قوم لحذيفة:
إن خيارنا قوم يكابدون هذا الليل؛ فاذا
نعِسَ أحدهم، ربط جوزه إلى سماء البيت، ثم قام يصلي فقال:
حذيفة: قبَّح اللَه قوما أولئك خيارهم. خياركم من لم يترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه. وهذا الذي
قال حذيفة، هو قول النبي عليه السلام إلا أنه جاء على التقديم والتأخير.
ومنه قول عبد الله بن عمر (احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لأخراك كأنك تموت غدا).
والحرث والاحتراث؛ اصلاح المال وتثميره. وفي كتاب (الشهاب) للقضاعي: "أصلحوا دنياكم
واعملوا لأخراكم".
وقد نظم أبو القاسم الألبيري في هذا المعنى قوله، حيث يقول:
المالُ ذلٌّ وذُلٌّ
…
ألا يرَى لكَ مالُ
فاحرصْ كَأنك باقٍ
…
فما لِذي الفقْرِ حالُ
واقْنع فإنكَ فانٍ
…
غداً فكلٌ مُحالُ
وقوله: (ربط جَوْزه إلى سماء البيت)؛ أي وسطه. جَوْزُ كل شيء وسطه. والجميع أجْواز. قال
الشاعر:
باتَتْ تَنُوشُ الحوض نوشاً من عَلا
…
نَوشاً به تقْطع أجْوازَ الفَلَا
أي أوساطها. والنَّوْشُ: التَّنَاوُلُ.
قال يعقوب: يقال نَاشَ فلانٌ فلانا ليأخذ برأسه، ونَهَشَ إلى فلان ليأخذ برأسه. وهما سواء.
ومثله أيضا: التَْناوُشُ. يقال تَنَاوَشَ القوم: إذا تناول بعضهم بعضا في القتال، وهي المُنَاوَشَة
والمُهَاوَشَة.
في حديث قيس بن عاصم فيما روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عنه قال: "إذا متّ فَغَيِّبُوا قبري
عن بكر بن وائل، فإني كنت أُناوِشُهُم". أو قال (أهاوشهم في الجاهلية) وحقيقة المعنى في الهَوَشِ؛
الفَسادُ والاخْتِلاطُ.
قاله أبو سليمان الخطابي. ومنه هَوشاتُ الشوق. ومن المناوشة، قوله تعالى (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) وقرئ هذا الحرف
بالهمز، ويترك الهمز. قرأه نافع بن أبي عامر اليحصبي، وحفص عن عاصم ويعقوب بن خليفة
الأعشى،
ويعقوب بن اسحاق الحضرمي بغير همز،. جعلوه مشتقا من ناشَ يَنوشُ؛ إذا تناول. قال الشاعر:
كغزلان خذلن لجذع نخل
…
تَنُشْنَ الدَّانِيَاتِ من الغُصُونِ
وقرأه أبو عمرو. وحمزة والكسائي، وأبو بكر بن عياش عن عاصم بالهمز وتحتمل قراءتهم وجهين:
أحدهما: أن يكون من التَّناوُل كالقراءة الأولى. فلما انضمت الواو جاز همزها، كقولهم: أَدْوُرٌ في
جمع دار.
والوجه الثاني: أن يكون معناه: التَّأخُّر والرَّجُوع.
ومن ذلك قول الشاعر:
تَمَنَّى أنْ تَؤُوبَ إِلَيَّ ميّ
…
وليسَ إلى تَناوُشِها سبيلُ
أي: إلى رجوعها. وقال الآخر:
تَمَنَّى نئيشاً أن يكونَ أطاعني
…
وقد حدثتْ بعْدَ الأمورِ أُمورُ
وقرأت في (النوادر) لأبي علي قول أم ضيغم البلوية في معنى العفاف:
وبِتْنا فُوَيْق الحيِّ لا نحنُ منهم
…
ولا نحنُ بالأعداء مختلطان
وبتنا يقينا ساقطَ الطَّلِّ والنَّدى
…
من الليل بُرْدا يُمنة عِطرَانِ
نغذ بذكر الله في ذات بيننا
…
إذا كان قلبانا بنا يردان
ونصدر عن زي العفاف وربّما
…
نَقَعْنا غليل النفس بالرَّشَفانِ
وقال سعيد بن حميد:
زائرٌ زارَنا على غير وعد
…
مُخْطَف الكَشْح مُثْقَلُ الأرْدافِ
غالَبَ الخوف حينَ غالبه الشو
…
قُ وأخفى الهوى وليس بخافي
غَضَّ طرفي عنه تُقَى الله واختا
…
ر على بَذْلِه بقاء التَّصافي
ثم ولّى والخوف قد هزَّ عِطْفي
…
هـ ولم يَخْلُ منْ لِباس العفاف
والشَّريف الرضي ممن أوضح معنى العفاف وبيَّنه، وأبدى سره وأعلنه، حيث يقول من أبيات له:
بِتْنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى
…
يلفنا الشوق من قَرْنٍ إلى قدمِ
وبات بارقُ ذاكَ الثَّغْرِ يُوضِحُ لي
…
مَواقِعَ اللَّثْمِ في داجِ منَ الظُّلَمِ
وباتَت الرِّيح كالغبْرَا تُجاذِبُنا
…
على الكثِيبِ فُضولَ الرَّيْطِ واللَّمَمِ
وَأَكْتُمُ الصُّبْح عنها وَهْيَ غافلة
…
حتَّى تكلَّمَ عصْفورٌ على علَم
فقُمتُ أنفضُ بُرْداً ما تعلقه
…
غيرُ العفاف وراء الغيْبِ والكَرَمِ
قوله:
وباتَ بارق ذاك الثغر
البيت.
كقوله في قطعة أخرى:
أبكى ويبْسِمُ والدُّجَى ما بيننا
…
حتَّى أضاء بِثَغْرِهِ ودُمُوعي
وقوله: (وباتت الريح) البيت، كقول ابن المعتز:
والرِّيح تَجذبُ أطراف الرِّداء كما
…
أَفْضى الشَّفيقُ إلى تنْبيهِ وَسنانِ
وأخذه ابن نباتة فقال:
إذا ما الصُّبْحُ أسْفَرَ نبَّهَتْني
…
جَنُوبٌ مسَّها مَسَّ الشفيقِ
وأخذ بيت الرضي أبو بكر بن عمار فقال:
بحيثُ اتَّخَذْنا الروضَ جاراً يزورنا
…
هداياه في أيدي الرِّياحِ النَّواسِمِ
تُبَلِّغُنا أنْفاسُه فنَرُدُّها
…
بأعْطَرِ أْنْفاسٍ وَأَذْكى لِناسم
تسير الينا ثمَّ عنَّا كأنها
…
حواسدُ تسعى بيننا بالنَّمائم
وقال بعض المتأخرين:
فاجتنَيْنا من المُنى كلَّ غضٍّ
…
ووصلنا صَبُوحَنا بالغَبُوقِ
ثُم بِتْنا نُدير كأْسَ الحُمَيَا
…
ورِضاباً يُزْري بصرْف الرَّحيقِ
غير أنَّ العَفافَ لم يرضَ خِلَا
…
غيرَ مَصِّ الشفاه والتعنيق
قوله:
وصلنا صبوحنا بالغبوق
فالصَّبوح: شُرْبُ الغداة. والغبوق:
الشُّرْبُ بالعَشِيِّ. وفي نصفِ النَّهَار: القيل. وبين المغرب والعَتَمَةُ الصَّفْحُ والصَّفَحُ بفتح الفاء
وبتسكينها. وفي السَّحَر: الجَاشِرِيَّة. قال الشاعر:
وندّمانٍ يزيد الكأسَ طيباً
…
سَقَيْتُ الجاشريَّة أوْ سَقَاني
وهذا الذي قلنا، حكاه أبو العباس المبرد عن البصريين، وحكاه أيضا أبو العباس ثعلب عن الكوفيين،
قالا: وكلُّ شراب يُشْرَبُ في أي زمان كان فهو الصَّفْحُ. يقال: أتاني فصفَحْتُه أي فسقيته. وأتاني
فأصْفَحْتُهُ؛ أي حرمته وزودته. وسلك هذا المعنى المتقدم بَلَدِيُّنا القاضي أبو الحسن بن لبّال فانطبع فيه
حيث قال:
ومُهَفْهَفٍ عَبَثَ الشَّمولُ بِقَدِّه
…
عبَثَ الفُتُورِِ بِلَحْظِه الوَسْنانِ
عَضَّتْ خَلاخِلُهُ وَجالَ وشاحُه
…
ولَوى مَآزِرَهُ على كُثْبانِ
ما كنتُ أحسبُ قبل رُؤية وجْهِهِ
…
أنَّ البُدورَ تدورُُ في الأغصان
غازَلْتُهُ حتَّى بَدالي ثَغْرُهُ
…
فحسبْتُهُ دُرَّا على مَرْجانِ
كم ليلةٍ عانَقْتُهُ فكَأنما
…
عانقتُ منْ عِطْفَيْهِ غُصْنَ البانِ
يطْغى ويلعبُ تحت عقدِ سواعدي
…
كالمُهْرِ يلعبُ حتى ثَنْي عِنانِ
وهذا البيت، مليح المساق، بديع في معنى العناق.
وفي معناه يقول أبو الحسن بن الزقاق:
ومُرْتَجَّةِ الأعطاف أمَّا قوامُها
…
فلَدْنٌ وأمّا رِدْفُها فرداحُ
ألمَّت فبات الليلُ من قِصَرٍ بها
…
يطيرُ وماغيرُ السُّرُور جَناحُ
فبِتُّ وقدْ زارَتْ بأَنْعَمِ ليلةٍ
…
تعانقني حتَّى الصَّباح صَباحُ
على عاتقي منْ ساعديْها حَمائلُ
…
وفي خصرها من ساعديَّ وِشاحُ
وهو القائل أيضا في المعنى:
وآنسةٍ زارتْ معَ الليلِ مَضْجَعي
…
فعانقتُ غصنَ البانِ منها إلى الفجرِ
أُسائلُها أينَ الوِشاحُ وقد سرَتْ
…
مُعَطَّلَةً منه مُعَطَّرة النشْرِ
فقالت وأوْمَتْ للسِّوارِ نَقَلْتُه
…
إلى مِعْصَمي لمَّا تقلْقَلَ في خَصري
وأحسن ما أذكر في معنى العناق، قول الشاعر، قرأته في (النوادر) لأبي علي:
خَلَوتُ فنادَمْتُها ساعَةً
…
على مثْلِها يحْسُدُ الحاسِدُ
كَأنَّا وثوبُ الدُّجى مُسْبَلٌ
…
علينا لمُبْصِرِنا واحدُ
أخذ هذا المعنى عبد الله بن المعتز، فقال:
ما أَقْصَرَ الليلَ على الرَّواقِدِ
…
وأهْوَنَ السُّقْمَ على العائدِ
يفديكَ ما أبقيتَ من مُهْجتي
…
لسْتُ لِما أوْليتَ بالجاحِدِ
كأنَّني عانقتُ رَيحانةً
…
تنَفَّسَتْ في ليْلها الباردِ
فلَوترانا في قميص الدُّجى
…
حَسبْتَنا منْ جَسَدٍ واحدِ
وقول علي بن الجهم أيضا في المعنى:
سَقَى اللهُ ليلا ضَمَّنا هَجْعةً
…
وأدْنى فُؤاداً من فُؤادٍ مُعَذَّبِ
فبتْنا جميعاً لو تُراقُ زُجاجةٌ
…
من الخمر فيما بَيْنَنَا لم تسَرَّبِ
وقرأت في (النوادر) قول علي بن العباس الرومي في المعنى:
أُعانِقُها والنَّفسُ بعدُ مَشُوقَةٌ
…
إليها وهَلْ بعدَ العِنَاق تدانِي
وألثمُ فاها كيْ تموتَ حرارتي
…
فيشتدُّ ما ألْقى منَ الهَيَمانِ
وَلَمْ يَكُ مِقْدَارُ الذي بي من الجوى
…
ليشفيَه ما ترشُفُ الشَّفتانِ
كأنَّ فؤادي ليس يَشْفِي غليله
…
سوى أنْ يرى الرُّوحَيْنِ يَمتزجانِ
وقال القاضي أبو الحسن رحمه الله:
ألَمَّتْ وما غيرُ الوِشاح وشاحُ
…
ولا غيرُ أطرافِ الثُّدِيِّ رِماحُ
ولا غيرُ ما فوقَ الروادفِ بانةٌ
…
ولا غيرُ ما فوقَ الجُيُوبِ صَباحُ
ولا وَرْدَ إلَاّ ما حَوتْ وجناتُها
…
ولا غيرَ منظومِ الثُّغورِ أقاحُ
فبِتْنا وما تحتَ الوِشاحِ مُحَرَّمٌ
…
علينا وما فوقَ الوِشاحِ مُباحُ
وكان القاضي أبو الحسن رحمه الله للعلياء سِمَاكاً وسُها، تتيه بمفاخره (شريش) على (حمص)
وَتَزْهَى، وكانت له سجايا أعذب من الرَّشفات، وأحلى من النمير والفرات، مبرأة من السهو، منزهة
من التكبر والزهو.
غذَّته الأصالة بزلالها؛ ورفَّته العفة تحت ظلالها، فرقى من المعالي أعلى هضابها، وبذَّ أتراب الإنابة
وجميع أربابِها، لم تعرف له قط صبوة؛ ولا خطت قدماه في زلة خطوة. أعفّ الناس باطنا وظاهرا؛
وأطهرهم أردانا ومآزرا. حامل فقه وآداب؛ متفننا في اللغات والإعراب. جليل المقدار؛ سليم الإعلان
والإسرار، عدلاً في أحكامه؛ جزًلا في نقضه وإِبرامه. محلّى بالسكينة والوقار؛ معلما بِسِيمَا الأخيار
والأبرار، ملتزماً للتواضع والتأنيس؛ برّا بالرَّائِد والجليس، ومهابة الحال، والصواب في المقال. وليَ
القضاء، وهو كاره لخِطته؛ خائف من وطأته، إبقاء منه على صيانته، وحفظا لديانته. وفي ذلك يقول:
كنت مذ كنت خائفاً
…
أنْ ألِي خُطَّةَ القضا
لم أُرِدْها وإنَّما
…
ساقها نَحْوِيَّ القضا
مع أنه كان رحمه الله قاصداً قصد المتورعين؛ سالكاً منهج المشرعين، عارفا بالأحكام
وحقائقها؛ حافظا لجلائلها ودقائقها، جاريا في
أحكامه على السنن القويم؛ سالكا لمنهج الشرع المستقيم.
صادق اللهجة؛ ساطع شهاب المقالة والحجة، مشكورا بكل لسان؛ مجيبا إلى كل ناء ودانٍ. تلوح أنوار
البر على أفعاله؛ وَيُقْتَدَى بصالح أعماله. وكان له نَظم كانتظام الجواهر، وابتسام الأزاهر. وله في
ميدان الكلام المطبوع سبْقٌ وظهور، وتصرُّفه في سُهُوله وحُزُونِه مشهور، وقد أثْبَتُّ في هذا
المجموع، ما ترتشفُه الأنفس الصَّادية ماءً نميراً، وتتخذه الآذانُ سميراً، ويملأ القلوب سرورا،
والعيونَ مهجة ونورا.
وله قصائد سلطانيات، ومقاطع إخوانيات، ومزدوجات من النظم والنثر مطبوعات، في أوصاف
شتى ومعانٍ مختلفات. طابَ نشرها، وفاحَ عنبرها. أشهر من الفجر إذا تمكَّن الإسفار، وأنور من
البدر ليلة الإبدار.
فمن ذلك قوله يخاطب بعض إخوانه، وهو الأديب الكاتب أبو الوليد يونس ابن محمد القسطلي:
ياخليليَّ بالرِّكابِ سُحَيراً
…
عَرِّجَا بالجزيرة الخضراءِ
حيث هزَّ الغدِير عِطْفَيْهِ
…
مما أفْلَتَتْهُ أناملُ الحصباءِ
وانْبَرَى يستحيلُ بين شواطِي
…
هِ زُلالاً منْ دُرَّةٍ بيضاءِ
ووَشى القطرُ جانبيه فباهَى
…
بأزاهِيره نجومَ السَّماءِ
وانْثَنى مِعْطَفُ القضيبِ اخْتِيَالاً
…
لغناءِ الحَمامةِ الورْقاءِ
وتراءَى أبو الوليد فخرَّتْ
…
لِسَنَاهُ كواكبُ الجوزاءِ
ورَقَى رتبةَ الوزارَةِ حتَّى
…
حلَّ تاجاً بِمَفْرِقِ الوزراء
فهنيئا لك الجزيرةُ ماذا
…
حُزْت منه من السَّنا والسَّنَاءِ
فاحفظيه من الحوادث حتَّى
…
تنجلي بيننا وجوهُ اللقاء
وقال أيضا يخاطب الفقيه القاضي ابن أخيل:
سائِلْ بغُرته الهلالَ المُقْمِرَا
…
أَشَذىً تفاوحَ عَرْفُه أم عنْبَرَا
وسَلِ البَرَاعةَ في أنامِلِ كَفِّهِ
…
شذْراً يصوغُ بطِرسه أم جَوْهَرَا
أم حالتِ القِرطاسُ كافوراً بها
…
فسرَتْ تَمُجُّ عليه مسكا أذْفَرَا
أم صدْرُ غانيةٍ تمزَّقَ جيبُها
…
فغَدَتْ تحوكُ الوَشْيَ فيه مُصَوَّرا
ولعلَّها رأتِ الوشيجَ لدى الوَغَى
…
فحكتْ لراحته الوشيجَ الأسْمَرا
يامَنْ تََخَيَّلَ من كتابة أخْيَلٍ
…
... تَدَرْهَمَ نوره وتَدَنَّرَا
هلَاّ حسبت به السماء صحيفةً
…
والليلَ حِبْراً والكواكبَ أسْطُرَا
قاضٍ أتى والحقُّ غُصْنٌ ذابِلٌ
…
فسقاه ماء العدْلِ حتَى أثْمَرا
وقال يخاطب الأديب أبا العباس أحمد بن سَيِّد:
يا سيدي والزمانُ يَبْلَى
…
وعَهْدُ وُدِّي لكمْ جَدِيدُ
إنْ فرَّقتْ بيننا اللَّيالي
…
فوُدُّكُمْ في الحَشَا عتيدُ
وكتب إلى الحجاج صحبة الفقيه أبي بكر بن عبد الله بن حَبَاسَة الشريشي:
متَى أقولُ وقد كلَّتْ ركائبُنا
…
من السُّرى وارتكاب البيدِ في البُكَرِِ
يانائمين على الأكوارِ ويْحكمْ
…
شدُّوا المطي بذكر الله في السَّحَرِ
أما سَمِعْتُم بِحادينا وقد سَجَعتْ
…
وُرْقُ الحمائم فوق الأيْك والسَّمُر
هذي البشائِرُ يا حُجّاج قد وجبتْ
…
غداً تحطُّونَ بينَ الرُّكْنِ والحجَرِِ
وقال أيضا، وكتب بها إلى حمص، وقد حنَّ إلى أحبَّائه ومَعاهده، في ظلالِ أَمْنِها مع إخوانه
وأصحابه، وزمان جادَ له بالآمال، ولأيَّامهِ غُرَرٌ وحُجُول، تروقُ العيونَ في البُكر والآصال:
سلامٌ على حِمْصٍ وإنْ غيَّر البِلَى
…
معَاهِدَ منها نِلتُ فيها الأمانيا
وحُقَّ لَهَامِنِّي السَّلامُ لأنَّني
…
وردتُ بها ماء الشبيبَةِ صافيا
وفي وجَناتِ الدَّهْرِ إذْ ذاكَ رونقٌ
…
كما رونَقَ الصَّقْلُ الحُسامَ اليمانيَا
وقال أيضا:
إذا أبْصَرَ المحزونُ أرضَ شُذُونَةٍ
…
وحسْنَ محيَّاها أفاقَ منَ الحزْنِِ
كأنَّ على غيَطانِها ومُتُونِها
…
دَبابِيجَ خُضْراً أحْكمتْها يدُ المُزْنِ
مذانِبُ تنْدى في مُرُوجٍ كأنها
…
عِذَارٌ بِخَدَّيْ ذي جمالٍ وذي حُسْنِ
وفي هذا المعنى، من مدح المواطن، والثناء على مبهج الأقطار الأريضَةِ والأماكن كما يثني على
إخوان المودة والتصافي. قول معاصره ومراسله أبي عبد الله الرصافي، حيث يقول:
كم للصُّدُورِ بِبَرجَهْ
…
من انفِساحِ وفُرْجَهْ
قُطْرٌ عليه ضمانٌ
…
منْ حيثُ ما يُتَوَجَّه
إنْ يَبْسُطِ النَّفْسَ أُنْساً
…
ويَمْلإ العينَ بَهّجَهْ
وقول أبي عبد الله الرصافي أيضا:
خَلِيليَّ ما للرِّيحِ قدْ عَبَقَتْ نَشْرَا
…
وما لِرُؤُوسِ الرَّكْبِ قدْ رُنِّحَتْ سُكْرَا
هلِ المسكُ مفتُوقاً بِمَدْرَجَةِ الصَّبا
…
أمِ القومُ أجْروا منْ بَلَنسيةٍذِكْرَا
خليليَّ عُوجابي قليلا فإنَّه
…
حديثٌ كبرْدِ الماء في الكبدِ الحرَّى
قِفا غيرَ مَأموريْن ولْتَصْدَيَا بها
…
على ثقةٍ للمُزْنِ فاسْتَسْقيا القَطْرا
بجسر معانٍ والرُّصافة إنَّهُ
…
على القطْر أنْ يَسْقِيَ الرُّصافة والقُطْرا
بلادي التي ريشَتْ قُوَيْدِمَتي بها
…
فُرَيْخاً وآوَتْني قرارتها وكْراَ
ومنها:
وقالُوا هلِ الفِرْدَوسُ ما قدْ وَصَفْتَهُ
…
فقُلْتُ وما الفِرْدَوْسُ في الجنَّة الأخرى
بَلَنْسِيَةٌ تلكَ الزَّبَرجَدَةُ التي
…
تسيلُ عليها كلُّ لُؤْلُؤَةٍ نَهْراَ
هيَ الدُّرَّةُ البيْضاء من حيثُ جِئْتَها
…
أضاءتْ ومنْ للدُّرِّ أنْ يُشْبِهَ البَدْرَا
خَليليَّ إن أصدر إليها فإنَّها
…
هِيَ الوَطَنُ المحبُوبُ أوْ طَنْتها الصَّدْراَ
ولَمْ أطْوِ عنها الخَطْوَ هجراً لها إذَنْ
…
فلا لثَمَتْ نعْلي مناكِبَها الخَضْرا
ولكنَّ إجْلالاً لِتُربتها التي
…
تضُمُّ فتاها النَّدْبَ أوْ كَهْلَها الحرَّا
أكارِمُ عاثَ الدَّهْرُ ما شاءَ فيهِمُ
…
فبادَتْ لياليهم فهل أشتكي الدَّهْرا
تقَضَّوْا فمن نجمٍ هُنالك ساقطٍ
…
أَبى الله أنْ يرْعى السًّمَاكَ أو النَّسْرا
والقصيد كبير. وقد أثبت منه ما فيه منشرح للصدر.
وقال أبو عبد الله أيضا:
ولا كالرصافة من منزلٍ
…
سقتها الغمائمُ صوْبَ الولِي
أحنُّ إليها ومن لي بها
…
وأين السريُّ من المَوْصلِ
وفي بلنسية يقول الكاتب أبو نصر مثنياً عليها ومتشوقا إليها:
سَقى الله عهْداً سالفاً ومودعاً
…
أسالَ فُؤادي في المحاجِر أدْمُعَا
وحَادَكَ يا روضاً من المُزْنِ واكفاً
…
لِتُبْصِرَ عيني منْ نَبَاتكَ مُمْرِعَا
وخَصَّ بسُقْياهُ بلنسيةَ المُنى
…
وحيَّى مُراداً للأماني ومُرْبِعا
معاهدُ عادتْ للجَنائِب ملعباً
…
وكانتْ مَقيلاً للسُّرورِ ومربعا
زَمَانٌ بنو عبد العزيز وُلاتُها
…
وُجُودُهُمْ يحكي السَّحائبَ هُمََّّعا
وقد أرجت منهم وطاب نَسيمها
…
كأنَّ فتيق المسك عنهم تَضوَّعا
وقدْ كانَ هذا القَطْرُ أزْهَرَ مبْهَجاً
…
ترى الزَّهْر في بَطْحائه متضلعا
فعادَ ذراهُ مُوحشاً بعدَ أُنْسِهِ
…
وأَصْبَحَ منْهُمْ خاليَ الرَّبْع بلْقعَا
أطافَ بِهِمْ صرْف الزّمانِ فوَدَّعُوا
…
فلا مجْدَ إلَاّ قدْ تَوَلَّى وودَّعا
بكيتُ لهم حتَّى القيامة حسرةً
…
وحُقَّ لعيْني أنْ تفيضَ وتَهْمَعا
وقد كمل هذا الغرض في الجزء الثاني من هذا الكتاب ويا بعد ما بينه وبين قول أبي تمام ذي
الاصابة والصواب، في قصيدته الثائية التي ذم في آخرها المنازل المالكية، حيث يقول:
والمالكيةُ لم تكُنْ لي منزلاً
…
فمقابِر اللَّذاتِ منْ قُبْراثَا
لمْ آتِها منْ أيِّ وجه جِئتُها
…
إلَاّ حَسِبْتُ بُيُوتَها أجْداثا
بَلَدُ الفلاحةِ لو أتاها جرْوَلٌ
…
أعني الحطيئة لاغْتدى حرَّاثا
تصدَى لها الأذهان بعد صقالها
…
وتَرُد ذكْرَانَ العُقُول إناثا
أرضٌ خلعْتُ اللهو خَلْعي خاتَمي
…
فيما وطلَّقْتُ السُّرُورَ ثلاثا