المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل جملة من شعر القاضي أبي الحسن رحمه الله في أوصاف - كنز الكتاب ومنتخب الأدب - جـ ٢

[البونسي]

الفصل: ‌ ‌فصل جملة من شعر القاضي أبي الحسن رحمه الله في أوصاف

‌فصل

جملة من شعر القاضي أبي الحسن رحمه الله في أوصاف شتى. قال:

نشَرَتْ ثلاثَ ذوائِبٍ من شَعْرها

لِتُظلَّني حَذَرَ الوُشاةِ الرُّمَّقِ

فكأَنَّني وكَأَنَّها وكَأَنه

صبْحانِ باتَا تحت ليلٍ مُطْبِقِ

وقال في معنى العِناق:

لا مِثْلُ ضمِّى عليّاً وهو يُتْحِفُني

سُلافَةً هيَ بُرْءُ العاشِق الدَّنِفِ

عانقْتُهُ ورِداءُ الوصْلِ يَجْمَعُنا

حتَّى الصَّباحِ عناقَ اللَاّمِ للأَلِفِ

أخذ هذا من قول الآخر:

يامنْ إذا قرأَ الإنْجِيلَ ظَلَّ لَهُ

قلْبُ الحنيفِ عن القُرآنِ مُنْصَرِفا

رأيْتُ شخصكَ في نومي يُعانِقُني

كما يُعانِقُ لامُ الكاتِبِ الألِفا

وقال في الجَلَم:

ص: 815

وَمُعْتَنِقَين ما اتُّهما بِعِشْقٍ

وإنْ وُصِفَا بضمٍّ واعتناقِ

لعَمْرُ أبيك ما اجتمعا لمعنىً

سِوى حَالِ القطيعة والفراقِ

وفي الخطَّاف:

أهْلا بِخُطَّافٍ أتانا زائرٍ

غردٍ يذكِّرُ بالزمان الباسِمِ

لَبِستْ سرابيلَ الصَّباحِ بُطُونُهُ

وظُهُورُه ثوبَ الظَّلامِ العاتِمِِ

وقال يصف الشيب:

بكَتْ دَمي أنْ رأتْ مشيبي

يضحكُ في مفْرِقِ الجَبينِ

نَوَّرَ غُصْنَ الشَّبابِ مِنِّي

هلْ يُنْكَرُ النَّوْرُ في الغصونِ

فقلتُ لا تحزني أُسَيْمَا

ونَشِّفِي أدْمُعَ الجُفُونِ

كأنه أشار في البيت الثالث إلى قول ابن الرومي، أومأ إليه بالإيماء الخفي:

قدْ يَشيبُ الفتى وليس عجيباً

أنْ يُرى النورُ في العشيب الرَّطيبِ

وفي هذا المعنى يقول الآخر أيضا:

ص: 816

فلا تُنْكري منهُ المشيبَ فإنَّه

غُبارُ صروفِ الدَّهْر فوقَ قُرونِهِ

هَبِيهِ كمثل الرَّوْض لمَّا تَأَزَّرَتْ

رُباهُ، بَدَا نُوارُهُ في غُصُونِهِ

وقال القاضي أيضا:

قَوَّسَ الشِّيبُ قَناتي

بَعْدَ أنْ كانتْ سَوِيَّهْ

وغدا يَشدُو برَأْسِي

أنَا عنوانُ المَنِيَّهْ

وقال أيضا في المعنى:

تَعَجَّبَتْ أنْ رأَتْ مَشيبي

يضحكُ في مفرقي سُمَيَّهْ

لا تعْجَبي فالبياضُ زِِِيٌّ

مِنْ زِيِّ قوْمي بني أُمَيَّهْ

وقال يصف البدر:

أُنظُرْ إلى البَدْرِ في السماء وقدْ

حَفَّتْ بحَقْوَيْهِ الأَنْجُمُ الزُّهْرُ

كأَنَّهُ بركةٌ مُفضَّضَةٌ

حُفَّ بها منْ جَنابِها زهْرُ

وقال أيضا:

يا مَنْ أتَى يَخْرُصُ الزَّيتونَ فارغةً

ويَستدِلُّ على ما فاتَ بالوَرَقِِ

أتَعْلَمُ الغيبَ دونَ الناسِ كُلِّهمُ

لا والذي خلق الإنسانَ منْ عَلَق

وإنَّما أتَتْ فيما تَسْتدلُّ بهِ

كثاقِبِ الدُّر في داجٍ منَ الغسَقِ

فَتُبْ إلي اللهِ واحْذَرْ منْ عواقِبِهِ

(منْ يَرْكبِ البحرَ لا يَأمَن من الغرقِ)

ص: 817

وسأله سائل عن أكل لحم ابن آدم مَيِّتاً. أيجوز للمضطر إليه أم لا؟ فقال:

وإذا اضْطُرِرتَ لآدمِيٍّ مَيٍّتٍ

فلْتَهْرَبَنْ منه هُرُوبَ الآبِقِ

فالما لكيُّ يرى سواءً أَكْلُهُ

مع قتْلِهِ هذا كَلامُ الصَّادِقِ

والشافِعيُّ يرى مباحاً أكْلُهُ

للبائِس المضطر خِيفة عائقِ

يَعْتاقهُ منْ جُوعهِ فلَرُبَّما

يغْتالُهُ فيَمُوتُ مِيتَةَ فاسِقِ

وقال أيضا:

هاكَ منِّي بيتا سيَكْثُر إن م

تُّ على أَلْسُنِ الرُّواة اختلافُهْ

إنَّما تنْظُر العيونُ لِشَخْصيْ

ن لِمنْ ترتجيه أوْ منْ تَخافُهْ

وقال أيضا: وكلف ذلك في فتى وسيم جزار، كأنه كوكب دريّ من كواكب الأسحار. قد أطلعه

الحُسْنُ شمسا في فلكه؛ وأوْمَأَ كل من رآه اليه بِتَمَلُّكه. لا يَنْفكُّ دمْعُ عاشِقِه عن أنْ يَنْهَلَّ أوْ يَنْسكِب،

ولا قلْبُه عن غرام ونَصَب. يخلط جده باللعب، ويضحك بين العَجَبِ والعُجْب:

يا هِلالا قدْ تَبَدَّى

فوقَ أَزْرارِ الجُيُوبِ

وقضيباً يَتَثَنى

فوقَ أحْقافِ الكَثيبِ

كُنْ كمَا شِئْتَ وَدَعْني

فيكَ منْ قوْلٍ كَذُوبِ

لسْتَ جَزَّاراً ولكنْ

أنتَ جَزَّارُ القُلوبِ

ولمَّا وَرَدَ عليه الخبرُ بتَأخيره عن القَضاء، واستراحه من أمر وَلْيه، ولم يزل فيه مُبْغِضاً، حَمِدَ الله

سرّا وَجَهْرا، ومَلأَ الأسماع ثناء عليه وشكراً، كأنه كان خائفا مذعورا، فجاءتْهُ بالآمان البُشْرى، أوْ

فقيرا بائسا بالمنزل الرَّحْبِ والقِرى. وسُرَّ

ص: 818

بذلكَ سُرُورَ حاتِم طىء بالضيْف؛ أو العاشِق المهجور

بإلمامِ الطَّيْفِ. فعادَ بعْدَ اكتئابه مُستبشراً جَذِلاً. وأنشأ يقول بِلِسانِ السُّرور مُرْتجلا:

حُملْتُ على القَضاءِ ولمْ أُرِدْهُ

وكانَ علَيَّ أثْقَلَ منْ ثبيرِِ

فلَمَّا أنْ عُزلْتُ جَعَلْتُ أَشْدُو

لقدْ أُنْقِذْتُ من شَرٍّ كبيرٍ

وهذا المصراع الثاني من قصيدة مهلهل التي أولها:

أَلَيْلتنا بِذي جُشُمٍ أَنِيري

إذا أنْتِ انْقَضَيْتِ فلا تَحُوري

وأنْقدني بياض الصبح منها

لقد أنقذتِ منْ شَرٍّ كبيرٍ

شهدت جنازته - رحمة الله عليه وبركاته - في اليوم الثالث، وهو يوم الثلاثاء من شهر ذي القعدة

سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة وأنا يومئذ غلام يافع بين يَدَيْ أُسْتاذي خاضِع مُتَواضعٌ. مُولَعٌ بالأدَبِ

وجَمالِهِ؛ ومَقْتَبِسٌ أنْوارَ العِلْم منْ رجالِه:

أقُولُ لسَائِلٍ عنِّي مُلِحّ

طِلابُ العِلْمِ رَيْحاني وراحِي

فخرجت خارج المدينة بعد صلاة العصر، وهي قد ألقت من فيها من أهلِها وساكنيها؛ واجتمع

قاصيها إلى دانيها. والناس بينَ باكٍ ملء عينيه، ومسْتَرجعٍ عاضٍّ على يَدَيْه. وصُلي عليه، ثم دُفِن

الحلمُ والوَرَعُ معه في قبره، وتعطَّلَ جيدُ الزّمانِ منْ نظْمِه ونَثْرِه.

ص: 819

رجع

وحكى محمد بن عرفة عن نفسه قال: دخلتُ على محمد بن داوُود الأصبهاني في مرضِه الَّدي ماتَ

منهُ. فقلت له: كيفَ تَجِدُكَ يا سيدي؟ فقال: حُبُّ منْ تَعْلَم أوْردني ما تَرى. فقلت له: كيفَ بالاستِمتاع

به مع القُدْرة عليه. فقال: الاستمتاع به علي ضربين:

أحدهما: النَّظرُ المُباحُ، والاخر: اللَّذَّةُ المَحْظُورةُ، يَمْنَعْنيها ما حَدَّثَني به أبي، عن أشياخه عن ابن

عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، انه قال:"منْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ ومَاتَ فهو شهيد".

وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري، انه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. (العِشْقُ في

غير ريبَة كَفَّارةٌ للذُّنوبِ).

وكانَ يحي بن معاذ يقول: لو كان لي من الأمر شيء ما عذبت العشاق؛ لان ذنوبهم ذنوب

اضطرار، لا ذنوب اختيار.

وروى عن النبي عليه السلام، قال: "الصبْرُ ثلاثة: صَبْرُكَ عن المَعْصية، وصبْرُكَ علي المُصيبَة،

وصبْرُك على الطََّاعة، فالصبر على المصيبة ثلاث مائة درجة. والصبر على الطاعة ستمائة درجة.

والصبر عن المعصية تسعمائة درجة".

وقيل ان الله تبارك وتعالي يُمَحِّصُ خطايا أهل الهوى، ويكفر سيئاتهم لطول محنتهم، بطول محبتهم.

ص: 820

وفي هذا المعنى قال المؤمل:

يكفي المُحبينَ في الدُّنيا عذابهمُ

والله لا عذَّبتْهُم بَعْدَها سقرُ

وقال بعض الحكماء: (اغلقْ أبوابَ الشَّهواتِ بأَقْفال الزَّهادةِ، وافتح أبوابَ البِرّ بمفاتيح العبادة؛ فإنَّ

ذلك يُدْنيكَ من السعادة، وتستوجبُ به من الله الزيادة).

وحُكيَ أن رجلا راوَد امرأةً عن نفسها، فقالت له: أما أنّكَ قدْ سَمِعْت الحديث، وقرأت القرآن فأنت

أعلم؟ فقال لها: اغلقي أبواب القصر. فأغلقتها، فدنا منها، فقالت له: بقي بابٌ لم أُغْلِقْهُ. قال: أيُّ بابٍ؟

قالت: البابُ الذي بينكَ وبينَ الله، فزالَ عنها وانْصرفَ.

وحكى أن رجلا من العرب قال: خرجت في طلب ضالَّة، فاذا أنا بجارية كأنها عَلَم، فراوَدْتُها عن

نفسها، فقالت: ويلك. أمالَكَ زاجِرٌ منْ عَقْلٍ، إذْ لمْ يكن لكَ ناهٍ من دينٍ. فقلت لها: والله ما ترانا إلاّ

الكواكبُ. فقالت: فأين مُكَوْكِبُها؟ فوالله، لقد زال بِكَلامِها عن نفسي ما كان خَطَرَ بِها.

وحكي أن رجلا من أهل (البصرة) عَشِقَ جاريةً مملوكة وكان يعْلمُ ذلك، فعاتبها يوما على ذلك،

فقالت له: والله يا مولاي ما كان الَاّ الجميل. ثم انه كَمَن لهما بحيث لمْ يعلمهما، فَسَمِعَهُما يتحدثان

ويتشاكَيان، ثم انتحبَ الرجل مَلِيا، وبكى حُبّاً لها. فقالت له لجارية: أكَلُّ هذا الذي بك من حبِّي؟ فقال:

أيْ والله فقالت: فَلْيَفْرخْ رَوْعك، ولْتَطِبْ نفسُك؛ فإن الله فرَّجَ عنك، فاصنع بي ما شئت، فانه لا مانع

لك. فاشتد بكاؤه، لما سمع قولها

ص: 821

وأنشأ يقول:

أمَّا الحرام فلستُ أركب محرما

وطِلابُ مِثلك في الحلال شديدُ

إنَّ امرءاً أمسيت مِلك يمينه

يقْضي عليك بحكمه لَسَعِيدُ

قال: فلما تفرقا من مكانهما، مشي اليه مولاها، وقال له: اني قد وهبت لك فلانة. وسأله عن خبرهما.

فقال له: ما كان بيننا يعلم الله. ألا ما قال الشاعر:

لا والذي تسجد الجِبالُ لهُ

مَالِي بما تحت ثوبِها خَبَرُ

ولا بِفيها ولا هَمَمْتُ بها

ما كانَ إلاّ الحديثُ والنظرُ

قال: وأحبَّ رجل امرأة، فأفرط في حبها، فلقيها في بعض الأيام. فأعلمها يذلك، فأخبرته أنَّها تجد بِهِ

أكثر ممَّا يَجدُ بِها. ثمَّ الْتقيا بعد مدّة، فلم يكن بينهما الا ما أحلَّ الله. ثم بقيا على تلك الحال مُدَّةً طويلة،

الى أنْ ماتت المرأة منْ شِدَّة حُبِّ ذلك الفتى. فكان يجيئ إلى قبرها ويُصلِّي عليه. فجاء ذات يوم،

وصلى وَقَعَدَ متفكرا، فغَلَبَتْهُ عيناه وهو قاعدٌ عند القبر، فرآها في منامه. فقال لها؛ كيفَ أنت؟ وما

لَقِيتِ بعد الموت. فقالت: لَقيتُ خيراً وأنشأتْ تقول:

نِعْمَ المحبة يا حَبِّي ونعم هوىً

حبّ يقود إلى خيرٍ وإحسانِ

ص: 822

فقال: علي ذلك إلى ما صرت إليه. فقالت:

إلى نعيمٍ وخيرٍ لا زوال له

في جنة الخُلْد مُلكٌ ليس بالفاني

ثم قال لها أذكريني فإنِّي لست أنساك. ثم قالت: لا والله ما أنْساكَ، ولقد سألتُ الله تعالى قُرْبكَ،

فأَعِنِّي على ذلك بالإجْتهاد ثم ولَّتْ عنه. فقال لها: مَتى أراك؟ فقالت له سآتيكَ عن قريب إن شاء الله.

فلمْ يعِشْ الفتى بعد ذلك إلَاّ سبعة أيام ومات يرحمه الله.

قال: ورأيت في كتاب (الأغاني) عن ابراهيم بن عثمان العُذْري، قال: رأيت عمر بن ميسرة، وهو

كهيئة الخيال لا يكلم أحداً. وكان أهله يرون أنه عاشق، فيسألونه عن علته، فيبكي ويقول:

يُسائلُني ذُو اللُّبِّ عنْ أصْل عِلَّتي

وما أنا بالمُبْدي إلى النَّاس علَّتي

سأكْتُمُها صَبْراً على حرِّ جَمْرِها

وأسترها إذ كان في السَّتْرِ راحتي

إذا كنتُ قدْ أبْصَرْتُ موضع عِلَّتي

وكان هَوانيفي مواضِعِ لذتي

صبرتُ على ما بي احتسابا ورغبةً

ولم أكُ أُحْدُوثاتِ أهلي وَخُلَّتِي

قال: فما ظَهر فحوى أمره، ولا عَلِم أحدٌ بقصته حتى حضره الموت. فقال: إنَّ التي كان بي من

أجْلِها هذا الألمِ، هي فلانة ابنة عمي. والله ما حجَبَني عنها

ص: 823

وألزمني الصبر على الضُّر إلَاّ خوفُ الله تعالى. فمن ابتلى في هذه الدنيا بما ابْتُليتُ به، فلا يكن أحد أوثق عنده بسِرِّه من نفسه. ولولا أن الموت نزل بي هذه الساعة، ما أُعْلِمكم بقصتي، فاقْرؤُوها منِّى السلام. ومات في الحين رحمه الله.

قوله:

سأكتمها صبراً على حرِّ جمرها

كَتْمُ الشيء؛ إخفاؤُه مع الدَّاعي إلى اظهاره. ولا يقال لمن أخفى أمراً لا يدعو إليه داعٍ: كاتِمٌ. ونظيرُ

الكِتْمان؛ الإخْفاء والإسرار.

يقال: كَتَمَ زيدٌ الأمر يكْتُمُهُ كتْماً، واستَكْتَمَه استكتاماً، وكاتَمَهُ مُكَاتَمَةً، وتَكاتَمَ القوم تكتُّماً.

وقال صاحب العين: الكِتْمانُ: نقيض إعلان السِّرِّ.

ورجل مِكْتامُ السِّر؛ إذا كان معروفا بذلك. وناقة كَتُوم؛ وهي التي لا ترْغُو إذا ركبها صاحبها: أي لا

تَصيح. والجميع الكواتم. وإنما تفعل ذلك لصبرها على السَّير، وإنها لا تضْجَرُ منه، ولا تَسِيمُهُ. وقال

الشاعر:

ولم تبق إلاّ كل ادماء حرّة

كواتم لم تضجر ولم تتبلدِ

والكَاتِمُ من القِسِيِّ: التي لا ترن. والكاتِمُ أيضا: الخارز.

قال الشاعر:

فسالتْ دموعُ العين ثم تحدَّرَتْ

فلِلّه دمعٌ ساكتٌ ونمُومُ

ص: 824

فما شَبَّهَتْ الاّ مزادة كاتم

وَهَتْ أوْ وَهى منْ بينهن كتُومُ

فكاتِم بمعنى خارِز، وكَتُوم بمعنى خَرُوز.

وتقول: أكتَمْتُ الرَّجُل؛ إذا وجدْته كاتما لسرِّك. كما تقول: أَحْمَدْتُه. وقال الشاعر:

لأ كتمت عبد الله والله عالِمٌ

بمُستَوْدَعاتٍ ما لهن كَتومُ

فمعنى أَكْتَمْتُه: وجدته كَاتِما. ومستودعات يعنى: كلمات مستودعات. وقال الشاعر:

لئن كتمت أسماء فينا صنيعة

فقد تكتم الأرضون والزرع فاسدُ

والكثْمانُ يحسُنُ على أحوال، ويقبح علي أحوال أُخَر. فكتمانُ السِّرِّ الذي تضرُّ إذَاعتُه ضرراً لا

يستحق بجرم، ولا يُقْصَدُ به نفع واجب حسن. وكتمان السر الذي تعتدل فيه الأمور، يَحْسُنُ فِعْلُهُ

وتَرْكُه.

وكِتْمانُ العلم والشهادة قبيح في الجملة.

وفي الحديث عن عبد الرحمان الحُبُلِّي عن عبد الله بن عمر بن العاصي ان رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال: "من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار"

ص: 825

وفي الحديث أيضا عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه

وسلم "من سئل عن علم يعلمه فكتم الجم بلجام من نار".

وقيل: من ورَعِ العالم أن يَتَكَلَّم، ومن ورَعِ الجاهل أن يَسْكت.

وعن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم. وتَلا قول الله تبارك وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). وهذا

تغليظ للحال في كتمان علوم الدين.

وذكر أبو الحسن الرماني في قوله تبارك وتعالى (ويلعنهم اللاعنون) أربعة أقوال:

أولها: أن اللَّاعِنين هم الملائكةُ والمومنون.

وعَزَا هذا القول إلى قتادة والربيع وغيرهما. قال: وهو الاختيار لقوله تعالى في وعيد الكفار (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)

فلعنة الله الكاتمين كلعنة الكافرين.

القول الثاني: قيل اللَاّعنون دواب الأرض وهوامّها يقول: منعنا المطربمعاصي بني آدم. قال: وهو

قول مجاهد وعكرمة. والقائل أن يقول، كيف جاز أن يقال للبهائم وهوام الأرض اللاعنون. وجوابة

أنه لما أضيف إليها

ص: 826

فعل من يعقل، عوملت معاملة من يعقل. كما قال (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).

القول الثالث: اللَاعنون كل شيء، سوى الثَّقَلَيْن والإنس والجن. كذا روى عن ابن عباس فيما حكاه

الفراء.

القول الرابع: قال ابن مسعود إذا تلاعن المتلاعنان، ويروى الرجلان، رجعت اللعنه على المستحق

لها، فان لم يستحقها أحد منهما، رجعت عى اليهود الذين كتموا ما أنزل الله.

والمعنى بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا).

الآية. في قول أكثر أهل العلم: أهل الكتاب؛ من اليهود والنصارى. قاله ابن عباس ومجاهد والربيع

والحسن وقتادة والسِّدِّي، وجماعة سواهم. وقيل يعني بها كل من كتم ما أنزل الله. وكل من كتم شيئا

من علوم الدين. فالوعيد لازم له، لأنه قد فعل مثل فعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

روى عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار، سألوا نفراً من اليهود عمّا في التوراة، فكتموهم اياه،

فكان ذلك من فعلهم سبب نزول الآية. وقيل: نزل هذا الوعيد فيهم. إذ معلوم من حالهم الكتمان.

والكتاب المذكور في الآية. قيل:

ص: 827

هو التوراة والانجيل. وقيل: كل كتاب أنزله الله. وأصل اللَّعْن الابعاد على جهة الطرد.

قال الله سبحانه (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ) أي أبعده الله. فإذا أخبر الله تعالى أنه لعن عبداً فمعناه الاخبار، فإنه أبعده من

رحمته. إذا قيل: لعنه الله، فمعناه الدعاء، كأنه قيل: أبعده الله. ولا يجوز لعن من لا يستحق العقوبة.

إذ اللعن في الحكم؛ الإبعاد من رحمة الله بإيجاب العقوبة. فدبره.

قال الشماخ:

دعوت له القطا ونفيتُ عنهُ

مَقام الذِّيبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ

أرادَ مَقامَ الذئب اللعين.

والكِتْمانُ؛ اختيارٌ من الكاتِم وقصد، وليس كالنسيان؛ لأن النسيان اضطرارٌ. وتعلّم العلم واجب ثم

العمل به، وهذه الآية التي استقصيت الكلام عليها، مضمنة الزجر عن كتمان علم الدين، والحض

عليه والترغيب فيه، وألزم شيء للعالم، بيان ما يعلمه، وافشاؤه وذكره عند من لم يوته الله منه شيئا

امتثالا لقوله تعالى (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) الآية.

ولقول الرسول عليه السلام لأبي هريرة: "يا أبا هريرة علم الناس القرآن وتعلَّمْه فإنك إنْ مِتَّ وأنتَ

كذلك زارت الملائكة قبرك كما يزار البيت العتيق،

ص: 828

وعلم الناس سُنَّتي وان كرهوا الحديث بطوله".

ومن أحسن ما يذكر هنا وألقيه بما ذكرته، حكاية الحسن بن أبي الحسن البصري مع الحجاج بن

يوسف.

حكى عبد الملك بن قريب الأصمعي في أخباره عن أبي نعامة، قال: كنا جلوساً ذات يوم عند الحسن

في المسجد الجامع؛ فإذا الحجاج بن يوسف قد أقبل على برذون أبيض، وحوله شُرْطُه يسعون، حتى

انتهى الى الحَلْقَة، فسلم ثم نزل فجلس بيني وبين الحسن.

قال أبو نُعَامَة: وكان الحسن يحدث حديثا فمضى في حديثه، ولم يقطعه من أجل الحجاج حتى فرغ

منه. ثم أقبل على الحجاج يسائله، فقال الحجاج: أيها الناس. ان هذا الشيخ مبارك معظم لأمر الله جلّ

وعز، عالم بحق أهل القبلة، ناصح لأهل هذي الملة، صاحب استقامة، ونصيحة للعامة. فعليكم بهذا

الشيخ. فألزموه واحضروا مجلسه. فان مجلسه مجلس يعرف فضله، وترتجى عاقبته. فلولا الذي

لزمنا من هذه البلية، وحق الرعية، لأ حببت مشاهدتكم، وحضور شيخكم. ثم نهض فانصرف؛ فما

لبثنا أن جاءت من عنده سفرة عليها أطعمة من كل ضرب. وجاءت أشربة وتحف فوضعت بيننا.

فأكل من أكل، ثم رفع ذلك. وقام شيخ كبير، فاستقبل الحسن بوجهه، فسلم ثم قال: يا أبا سعيد؛ شيخ

كبير من أهل، الديوان، وعطائى حقير زهيد. وانه لما خرج عطائي كلفت فيه فرسا وسلاحا. وما فيه

يحتمل ذلك، ولا فيه فضل من عيالي. وان عليّ لدينا ما أصل إلى الخروج منه. ثم بكى

ص: 829

بكاء شديدا. فرفع الحسن رأسه، فبكى أشد من بكائه، ثم قال: ان سلطاننا هذا أخفر ذمة الله، وتحول عباد الله،

وقتلهم علي الدينار والدرهم، وقطعهم عضوا عضوا. أخذه من كل خبيث، وأنفقه في كل سرف

مضغة قليلة، وندامة طويلة. أما إذا خرج عدوّ الله، فصاحب مراكب رفافه؛ وسرادقات هفافه؛ وإذا

خرج أخوه المسلم فطاويا، راجلا مهموماً، مالهم أراحنا الله منهم.

قال: فسعي هذا إلى الحجاج ووالله ما برحنا، حتى جاء حرسيّان، في أعناقهما سيفان. فقالا للحسن:

أجب الأمير. قال أبو نعامة: فخفنا والله. وكانت مخوفة. فانطلقت معه أنا وثابت حتى دخلنا على

الحجاج، وهو قاعد على سريره، وبيده قضيب يضرب به. والغضب ظاهر في وجهه، فانتهى إليه

الحسن، فسلم ووقف بين يديه. فقال له الحجاج: يا حسن. أنت صاحب الكلمات قبيل. قال: نعم،

أصلح الله الأمير. قال: فنكس الحجاج رأسه، وأطرق طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: أعدهن يا علي.

فاعادهن كلهن، ما أسقط منهنّ واحدة. فأطرق الحجاج أيضا طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: وما دعاك

إلى هذا. قال: ما أخذ الله تبارك وتعالى علينا في كتابه، في قوله (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) قال: وكان الحسن يفسرها:

لتتكلمن بالحق ولتصدقنه بالعمل فأطرق أيضا طويلا، ثم رفع رأسه فقال: اذهب أيها الرجل، فتكلم

بما بدا لك، فانما أنت والدٌ في أنفسنا، غير ظنين عندنا ولا متهم؛ بل ناصح لخاصتنا وعامتنا، فليس

مثلك يؤاخذ بقول ما كان؛ لأنك ما تريد إلا خيراً.

قال: فانصرف الحسن رحمه الله الى مجلسه. تمت الحكاية.

فهكذا يجب للعالم أن يكون حاله، وتصدق أقواله وأعماله.

ص: 830

قال: وذكر المدائني أن رجلا أحب جارية، فطلب منها قبلة، فأبت عليه، فأنشدها:

سألتُ عَطا المكيَّ هل في تَعانُقٍ

وقبلةِ مُشتاقِ الفؤادِ جُناحُ

فقال: معاذَ الله أنْ يُذهب التُّقى

لتخليص أكبادٍ بِهِنَّ جِراحُ

فقالت الجارية: أنت سمعت عطاء. يقول هذا. وسألته عنه فاجابك بهذا. فقال: نعم، فأباحت له ما

طلب. وقالت له: اياك أن تتعدى ما أمرك به عطاء.

قوله: (مَعَاذَ الله)؛ أي أعوذ به معاذاً. والمعاذُ: المَلْجَأُ؛ لأن معنى: أَعُوذُ بِاللَّهِ: أَلْجَأُ إلى الله، وأستعينه

وأستجير به. ومَعَاذ الله منصوب على المصدر، كأنه وضع موضع عوْذاً وعِياذاً وعطاء المكي، هو

عطاء بن أبي رباح يكنى أبا محمد، وكان أسود أعور أفطس، أشل أعرج، ثم عمى يعد ذلك. وكان

أبوه أسود، وأمه سوداء. اسمها بركة. واسم أبي رباح أَسْلَم مولى آل ابن خثيم القرشي الفهري. قاله

البخاري وكان عطاء فصيح اللسان إذا تكلم، يستمع له ويقبل قوله.

وقال اسماعيل بن مسلم: كان عطاء يطيل الصمت؛ فإذا تكلم يخيل الينا أنه يؤيد. وكان من القراء.

سمع ابن عباس، وأبا هريرة، وأبا سعيد، وابن عمر وجابر بن عبد الله. وروى عنه عمرو بن دينار،

وقيس بن

ص: 831

سعد، وحبيب بن ثابث ومالك بن أنس.

وتوفي سنة خمس عشرة ومائة وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقال يحيى بن معين حج سبعين حجة

وتوفي وله مائة سنة.

فأما عطاء بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فمدني ويكنى أبا

محمد أيضا. وقيل أبا عبد الله، وأخوه سليمان بن يسار، وموسى، وعبد الملك، وعبيد الله أيضا

اخوته. وكلهم من أهل الفقه والحديث. أدرك زمان عثمان، وهو صغير. وكان صاحب قصص،

ولأبيه يسار عن رسول الله صلي الله عليه وسلم رواية، وكان عطاء من القراء أيضا. وسمع من أبي

هريرة وابن عمر وقد جاءت عنه روايات عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء. قال محمد بن يحي

بن الحذاء، في كتاب

ص: 832

"التعريف": ولا يعرف له، يعنى عطاء، ادراكهما. وتوفي عبادة سنة أربع

وثلاثين بالرملة من الشام، وهو ابن ثنتين وسبعين سنة. روى عن هشام بن عروة، أنه قال: ما رأيت

قاضيا خيرا من عطاء بن يسار. وقال مالك رحمه الله؛ بلغني أن عطاء كان يلبس ثوبين مصبوغين

بالزعفران. وروى عنه زيد بن أسلم، وعمرو بن دينار وتوفي سنة اثنتين ومائة. وقيل سنة ثلاث.

وقيل توفي سنة أربع وتسعين.

قال محمد بن يحيى: وهذا أقرب للصواب.

وأما عطاء بن السائب بن زيد الثقفي فكوفي، يكنى أبا زيد. أدرك على بن أبي طالب رضي الله

عنه، وروى عنه شُعْبَة بن الحجاج، وأبو بكر بن عياش، وحفص بن سليمان. حدث أبو بكر بن

عياش عنه، قال: مشيت أنا وأبي مع علي بن أبي طالب. فقال عليٌّ لأبي: منْ هذا؟ فقال: ابني.

فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة. فما زلتُ أَتعرَّف الخير.

وكان من القراء أيضا. أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمان السلمي.

وحدَّث قاسم بن أَصْبِغ

ص: 833

البَيَّانِي، عن أحمد بن زهير، عن أبيه عن جرير، عن واصل بن سليم. قال:

صحبتُ عطاء بن السائب في طريق مكة. فكان يقرأ القرآن في ليلتين. وتوفي رحمه الله سنة ست

وثلاثين ومائة.

وأما عطاء بن يزيد الليثي، فمدني ويكنى أبا محمد أيضا. وقيل أبا يزيد سمع أبا أيوب، وتميماً

الداري، وأبا سعيد الخدري، وأبا هريرة. ولم يذكره أبو عمرو في طبقات القراء.

وسمع منه الزهري، وروى مالكَ عن ابن شهاب، عن عطاء، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي

أيوب الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"

فذكر الحديث.

وروى مالك أيضا عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم. قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن".

ص: 834

وتوفي سنة سبع ومائة وهو ابن ثنتين وثمانين سنة وأما عطاء بن عبد الله الخرساني، ويقال عطاء

بن مَيْسَرَة. قاله أبو بكر البزاز وغيره، فهو مولى آل المهلب بن أبي صفرة. ويقال مولى المطلب.

ويكنى أبا عثمان وقيل أبا الوليد وقيل أبا أيوب.

ولد سنة خمسين وتوفي سنة خمس وثلاثين ومائة. وقيل سنة ثلاث وثلاثين ومائة. ودفن ببيت

(المقدس). وقال يحيى بن معين: قد روى مالك عن عطاء الخرساني، وعطاء ثقة، قد رأى ابن عمر

وسمع منه.

وقال عمرو بن علي الفَلَاّس: عطاء ليس به بأس. روى عنه مالك وغيره.

وكان عطاء كثير الجهاد إلى بلاد الروم، وكان يقوم من الليل في بلاد الروم، فينادي في خبائه: يا

يزيد بن يزيد، ويا عبد الرحمان بن يزيد، ويا هشام بن الغاز. ويا فلان ويا فلان، يعنى من كان حوله

ومعه. قوموا. فإن قيام الليل، وصيام النهار، أيسر من مقطعات الحديد، وشراب الصديد، النجا النجا.

ص: 835

قال أبو اسحاق:

قد جئت بهذه الأسماء وبعض أخبارها، وإن لم تكن شرط كتابي تشريفا وتتميماً لفوائده؛ واستعذابا

لمصادره وموارده.

وأرجع إلى اكمال باب الحب، والنهي عن ارتكاب الذَّنْب، واجتنابِ ما فيه سَخْطُ الرَّب.

سُئل أبو هريرة عن تأويل قول الله تبارك وتعالى (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ). فقال: (النظرةُ والغَمْزةُ والقُبْلَةُ والمُباشَرةُ).

وعن ابن عباس؛ ان اللَّمم كل ما دون الزناء، وعنه أيضا أنه قال: والرجل يُلِمُّ بذنب ثم يَتوب.

وقال: ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:

إنْ تغفر اللهُمَّ تغْفر جَما

وأيُّ عبد لكَ لا أَلَمَّا

ص: 836

والشعر لأبي خراش الهذلي ومعنى ألماَ: أي لم يُلِمَّ بِذَنْبٍ. والعرب تدخل (لا) على الفعل الماضي،

وتقرنها به، فتنوب مناب (لَمْ) إذا قرنت بالفعل المستقبل.

قال الله تبارك وتعالى (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) أي؛ لم يصدِّق، ولم يصل. يريد فلا صدق بربه ولا صلى له. وقال تعالى

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي؛ لم يسلك الطريق الذي فيه النجاة. قاله ابن زيد وعن ابن عباس العقبة: جبل في جهنم وقيل:

هو تمثيل معناه: لم يفعل ما أمر به والاقتحام في اللغة: الدخول على شدة وضغط.

وقال ذو الأصبع العَدْوَانِي يخاطب ابن عم له:

لاهِ ابْنُ عمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ

عنِّي ولا أنتَ دَيَّاني فتَخزُوني

أي لم تفضل عليّ. (فلا) في هذه المواضع كلها بمعنى (لم)؛ لأن (لم) نفيٌ للفعل الماضي. وهو من

عوامل الجزم. والجازم لا يدخل على الفعل الماضي لأنه مبني.

رجع

وعن مجاهد والحسن أنهما قالا في معني الآية (إِلَاّ اللَّمَم). قالا: هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعود.

ص: 837

وعن أبي صالح: اللمم: الزنية ثم يثوب.

وقال بعض أهل العلم: اللمم صغار الذنوب

وقال نفطويه: اللمم: أن يأتي ذنبا لم بكن له بعادة.

وفي الحديث عن الزُّهْري عن سعيد بن المسيب عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال

لها: "يا عائشة إنْ كنتِ ألممتِ بذنْبٍ فاسْتَغْفري الله فإنَّ العبْدَ إذا ألمَّ بذنْبٍ ثمَّ تابَ واستغفرَ الله غَفَر

لَهُ".

وعن ابن عباس وسئل عن الآية (إلاّ اللمم) فقال ألستم أعراباً. أما سمعتم قوله:

وَمَنْ زِيارته لِمَامُ

قال سفيان: يريد قول الشاعر:

بأهلي منْ تَبْغَضُهُ عزيزٌ

عليَّ ومنْ زيارتُهُ لِمامُ

ويروى تحببه.

ومنْ أُمُسِي وأُصْبحُ لا أراهُ

ويطْرُقُني إذا هَجَعَ النِّيامُ

أتنْسى إذْ تُودِّعُنا سُلَيْمَى

بِفَرْعِ بَشَامَةٍ سُقِيَ البَشام

قال: ومثله الإلمام واللَّمة.

حكى أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: يقال: أَلْمَمْتُ به إلْماما. وماأتيته إلَاّ لِماما. وقال

الشاعر:

ص: 838

لئن آثرتْ بالحبِّ أهل بلادها

على نازِحٍ منْ أرْضِها لا ألُومُهَا

وهلْ يَسْتَوي منْ لا يَرى غيْرَ لَمَّةٍ

ومنْ هُوَ ثاوٍ عند ليلى مُقيمها

والعرب تقول: ما تأتينا إلاّ لِما ما وإلْماما؛ أي في الحين بعد الحين. وقال الشاعر:

رِياشي منكم وهَوايَ مَعَكُم

وإنْ كانت زِيارتكم لِمامَا

وقال جرير:

كِلَا يَوْمَيْ أُمامَةَ يومُ صدّ

وَإنْ لم تَأْتنا إلَاّ لِمَاما

وعن الحميدي عن سفيان عن أبي حُسَيْن: اللِّمَامُ: الفينة بعد الفينة.

قال صاحب العين: الفينة بعد الفينة. يريد الحين بعد الحين. قال: ولا يكون اللَّمم أن يهمَّ ولا يفعل؛

لأن العرب لا تقول: ألمَّ؛ إلاّ إذا فعل الإتيان؛ لا أنه همَّ به ولم يفعله.

قال: واللَّمَمُ في الاستثناء صحيح، لأن الإلمام بالفاحشة فاحشة. فاللَّمَمُ من جنس الفواحش، وهو

مستثنى من جملة الكبائر، وسائر الفواحش. وهو فاحشة مغفورة إذا لم يصرّ عليها فاعلها بدليل قوله:

(إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ). والمغفرة لا تكون إلَاّ عن ذنب.

ص: 839

رجع

ولله درّ القائل:

فيا نفسِ ما لَقيتِ منْ لاعِج الهوى

ويا قلبِ ما جَرَّتْ عليك النَّواظرُ

ويا عيني مالي ومَالَكِ كلمَا

هَمَمْتِ بَوَصْلٍ قام لي منك زاجرُ

وان الحجا والصونَ والحِلْم والتُّقى

لَدَيَّ لِرَبَّاتِ الخُدورِ ضَرائرُ

أقولُ وقدْ نَمَّ الحليُّ بحرْسِه

علينا ولا حتْ للصباحِ تَباشيرُ

أيا رَبِّ حتَّى الحليّ مما أخافُه

وحتَّى بياض الصُبح مما أُحاذِرُ

وبِتْنا وباتَ الناسُ ساءتْ

ظنونُهم وثوبي، ممَّا حرَّم اللهُ، طاهِرُ

قوله: (لربّات الخدور ضرائر). الضرائر: جمع ضَرَّة. ومنه قول امرئ القيس:

عنيفٍ بِتَجْمِيع الضَّرائر فاحِشٍ

وضَرَّةُ الإبْهام: لحمة تحتها، ومثلها ضرّة الضَّرْع. والضَّراء من الضُّرّ. وقومٌ أَضِرَّاء. والضِّرَارُ

مصدر ضارَّة. وفي الحديث (لا ضرَرَ ولا ضِرار). ومنه: الضِّرَارُ: أي الضُرُّ. وإذا أضرَّ بالرجل

المرض قلت: رجل ضرير، وامرأة ضريرة. والضرير: الرّجل الذَّاهب البصر.

والضَّرُورة: اسم لمصدر الاضطرار.

وقال صاحب العين: الضَّرُّ والضُّرُّ لغتان. يعني بفتح الضاء وضمها. فإذا

ص: 840

جمعت بين الضَّرِّ والنَّفع: فتحت الضاد. قال الله تعالى: (قُلْ لا أمْلك لِنَفسي نَفْعاً ولا ضَرَّا).

وقال ابن دريد الضُّرُّ: الهُزالُ بعينه.

وضريرَا الوادي: جانباه وكُلُّ شيء دَنا منك فزاحَمَكَ فقد أضرَّ بك. قال الشاعر:

لأمِّ الأرض وَيْلٌ ما أجنتْ

بحيث أضرَّ بالحَسَنِ السبيلُ

ونظير الضُرِّ: الأذى والألم. وأصل الباب: الانتقاض؛ لأن الضَّرَرُ انتقاض الحقِّ. والضريرُ البصر

منتقض النور. والضَّرَّتان المرأتان للرجل؛ سميتا بذلك: انتقاض كل واحدة منهما ما كان لضرتها.

لأن ما كان للواحدة صار مقتسماً بين الاثنتين.

وقوله:

أيارَبِّ حتَّى الحليّ مما أخافه

البيت.

أخذه ابن الزقاق، فقال من أبيات له:

وقدْ غَنَّى الحلي على طُلاها

بِوَسْواسٍ فجاوَبَهُ الوشاحُ

ص: 841

تحاذر منْ عَمود الصُّبحِ نوراً

مَخافَةَ أن يُلمَّ بنا افتضاح

وفي هذا المعنى من العفاف، يقول بعض أهل العصر من قصيدة له:

كم ليلة بتنا ونحنُ بمعزلٍ

عنْ كل واشٍ في الهوى يلْحانِي

والليلُ قدْ أرخى السّدول وجنحه

مذ كان مشتملٌ على الكِتْمانِ

وكواكبُ الآفاق تسري وُقْداً

والرَّاحُ تُطلعُ أنجُما بِبَنانِي

ومُنادمي عذبُ المراشفِ أحورٌ

بالأنْس منه وبالوصالِ حَباني

لما رأى ظمئي لخمرةِ ثغره

مَزَج الكُؤُوسَ بريقه وسَقَانِي

وسَقيتُهُ حتى تمايَل عِطْفُه

والقدُّ لينا مثل خوطِ البانِ

وتحيرتْ أجفانه وتمكنتْ

سنَة الكَرى منْ طرفِه الوسْنانِ

وسَّدْتُه عَضُدي وبات مُعانِقي

وبَرَّدْتُ حرَّ الوجدِ بالرَّشْفانِ

ورغبتُ عن فعل اللئام وعفَتي

تَنْهَى عن الآثام والعصيانِ

ما نلتُ إلا ما أباحَ لي التقى

لو حلت الصَّهباءُ للإنْسانِ

في أبيات غير هذه.

وفيما أثبتُّ من الحكايات والأخبار، ورقائق هذه الأشعار، ما فيه المقنع والكفاية. ولا يتسع هذا

الديوان لاستقصاء الغاية. ويجب على كل من ابتلى بالهوى أن يكتم هواه، ولا يبوح به إلي سواه،

وأن يُحذِّر نفسه عواقب ربه، ويشغل بخشيته تعالى شعاب قلبه. ومن ظفر بمن يهوى فليعف،

ويتجنب مالا يحل ويكفّ، ويعلم انّ التقى حبل الله؛ فمن تمسك به عصمه، ومن رغب عنه كبته

وقصمه. والرفيع من رفع نفسه عن الدنيات، والوضيعُ من مال مع النفس

ص: 842

الأمارة بالسوء الى الشهوات.

نسأل الله ربنا أن يعصمنا من الهوى، وأن يحفظنا من المكاره، ويجنبنا البدع والأهواء، ويسلك بنا

المحجة البيضاء، ويمنّ علينا بهداه، ويوفقنا الى ما يحبه ويرضاه، ويعمر قلوبنا بمحبته، ويدخلنا في

رحمته، ويختم لنا بجنته، بطوله وعزَّته.

كمل السفر الأول من النسخة الكبرى من كتاب "كنز الكتاب ومنتخب الآداب" بحمد الله وعونه

والصلاة على سيدنا ومولانا محمد نبيه المصطفى وعلي آله وصحبه وسلم تسليما.

وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر المحرم مفتتح عام ثلاثة وتسعين وتسعمائة عرف الله

بركته وخيره.

ص: 843