الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - ومنها ضَمُّ العَقِبَيْنِ في السجود:
مَضَى في: «المسأْلة الثالثة» سياق بعض هدي النبي صلى الله عليه وسلم في السجود، وأَرى قبل بيان حكم هذا التسنن بضم العقبين في السجود، الاستيعاب ما أمكن لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في السجود، زيادة في الخير، ودلالة على المراد من هديه العام صلى الله عليه وسلم في سجوده، فأَقول: ثَبَتَ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في السجود: السجود على سبعة آراب - أعضاء - وهي: الوجه، والكفان، والركبتان، والقدمان. وكان هديه صلى الله عليه وسلم العام في سجوده على هذه الأَعضاء السبعة وهيئته ساجداً صلى الله عليه وسلم:
الاعتدال، حتى يطمئن كل عضو منها إِلى موضعه.
وتمكين هذه الأعضاء السبعة من الأَرض، بالاعتماد والادِّعَام، والتحامل عليها.
والتوسط في البدن بين الانفراش وبين القبض والتقوس،
كما تقدم في: «3» .
والتجافي، والتفاج بين الأَعضاء، والتفريج بينها حتى يستقل كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأَعضاء على الآخر. قال ابن
المنيِّر في حكمة ذلك (1): «الحكمة فيه أن يظهر كل عضو بنفسه، وَيَتَمَيَّز؛ حتى يكون الإِنسان الواحد في سجوده كأنه عَدَدٌ، ومقتضى هذا أن يستقل كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض في سجوده، وهذا ضد ما ورد في الصفوف، من التصاق بعضهم ببعض؛ لأَن المقصود هناك إظهار الاتحاد بين المصلين حتى كأنهم جسد واحد» انتهى.
والوصف التفصيلي لكل عضو من أعضاء السجود كالآتي:
كان صلى الله عليه وسلم يُمَكِّنُ جبهته وأنفه من الأَرض على السواء؛ ولذا اعتبر السجود على الجبهة والأَنف عضواً واحداً.
وكان صلى الله عليه وسلم يضع كفيه حذو منكبيه وأذنيه، في مقابلة خديه - صفحتي الوجه -.
وكان صلى الله عليه وسلم يبسط يديه، مضمومة الأَصابع، غير مُفَرِّجٍ بين أصابعه، موجهاً لها إِلى القبلة، معتمداً على راحتيه، رافعاً مرفقيه وذراعيه عن الأَرض، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن فرش الذراعين على الأَرض افتراش السبع، وفي رواية:«افتراش الكلب» ،
(1) عون المعبود: 3/ 169.
مُجَافِياً، ومُنَحِّياً ضبعيه - عضديه - عن جنبيه وإبطيه حتى يُرى بياضهما.
وروى الترمذي والبيهقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ إن طال السجود بالاعتماد بالمرفقين على الفخذين.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «استعينوا بالركب» . قال الترمذي بعده: «كأن رواية الإِرسال أصح» . وقال البيهقي: «قال البخاري: إرساله أصح» .
وكان صلى الله عليه وسلم يمكن ركبتيه من الأَرض، ويُفَرِّجُ بين فخذيه، ويُقِلُّ بطنه عنهما، غير حامل بطنه على شيء من فخذيه.
وكان صلى الله عليه وسلم ينصب قدميه، ويمكنهما من الأَرض،
مستقبلاً بأَطراف أَصابع قدميه القبلة، مفتحاً لها، أي: عاطفاً لأَصابعه نحو القبلة.
هذا محصل ما وقفت عليه في السنة من صفة السجود وهيئته إجمالاً وتفصيلاً.
• ويتعلق بهيئة السجود مسألتان:
• المسألة الأولى: ضَمُّ الفخذين حال السجود: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سجد أحدكم فلا يفترش يديه افتراش الكلب وليضم فخذيه» رواه أبو داود في: «باب صفة السجود» وابن خزيمة
وترجمه بقوله: «باب ضم الفخذين في السجود» والبيهقي تحت هذه الترجمة: «باب يفرج بين رجليه ويقل بطنه عن فخذيه» وساق حديث التفريج بين الفخذين، ثم ذكر حديث أبي هريرة في ضمهما، ثم قال بعده:«وَلَعَلَّ التفريج أَشبه بهيئة السجود، والله أعلم» انتهى.
وهذه اللفظة: «وليضم فخذيه» ضعيفة؛ لضعف دَرَّاج في سندها، فلا تصح، وهي مخالفة لما جاء في حديث أبي حميد الساعدي، رواه أبو داود، وغيره.
قال الشوكاني - رحمه الله تعالى -: «والحديث - أي حديث أَبي حميد الساعدي - يَدُلُّ عَلَى مشروعية التفريج بين الفخذين في السجود، ورفع البطن عنهما، ولا خلاف في ذلك» انتهى.
• المسألة الثانية: ضم العقبين في السجود: هذه المسألة يُتَرْجَمُ لها بذلك، وبلفظ:«رَصُّ العقبينِ في السجود» وبلفظ: «جمع العقبين» وبلفظ: «جمع القدمين» .
نظرت في جملة من مشهور كتب المذاهب الفقهية الأَربعة، عن وَصْفٍ لحال القدمين في السجود من ضم أو تفريق؛ فلم أر في كتب الحنفية والمالكية شيئاً.
ورأيت في كتب الشافعية: والحنابلة، استحباب التفريق
بينهما، زاد الشافعية: بمقدار شبر.
قال النووي - رحمه الله تعالى - في: «الروضة: 1/ 259» : «قلت: قال أصحابنا: ويستحب أن يفرق بين القدمين. قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: يكون بينهما شبر» انتهى.
وقال الشيرازي في: «المهذب» : «ويفرج بين رجليه؛
لما روى أبو حميد. . .» إلخ.
وذكر النووي في: «المجموع: 3/ 373» نحو قوله في: «الروضة» .
وعند الحنابلة، قال البرهان ابن مفلح م سنة 884 - رحمه الله تعالى - في:«المبدع: 1/ 457» :
تَحَصَّل من هذا: أنه لا ذكر لجمع العقبين حال السجود في شيء من المذاهب الأَربعة، وأن نهاية ما فيها: ما ذكره ابن مفلح الحنبلي، عن ابن تميم وغيره:«أنه يجمع عقبيه» . وقد نظرت في كتب الرواية في المذهب، فلم أرها رواية عن الإِمام أَحمد، بل إِن المرداوي في:«الإِنصاف» لم يعرج على كلمة ابن تميم هذه، والمقرر في مذهب الحنابلة هو التفريج بين
القدمين، إلحاقاً لسنة التفريج بين الركبتين والفخذين.
فما ذكره ابن تميم فرع غريب، لم يذكره رواية عن الإِمام أحمد، ولم يذكر سلفه فيه، ولا يمكن أن يكون
فرعاً مخرجاً في المذهب، يبقى أنَّا لا نعلم من أَين أَتى به ابن تميم وغيره؟
والخُلف سهل؛ إِذْ السنة هي الميزان، وإليها المآل.
وإِذا كان ابن تميم وغيره مِمَّن لَمْ يُسَمَّ قد انفرد بذكر - هذا الفرع في المذاهب الأَربعة، فإن إِمام الأَئمة ابن خزيمة - رحمه الله تعالى - قد انفرد - فيما اطلعت عليه من المحدثين - بالترجمة في:«صحيحه: 1/ 328» بقوله: «باب ضم العقبين في السجود» وساق بسنده تحت هذه الترجمة حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معي على فراشي، فوجدته ساجداً، راصاً عقبيه، مستقبلاً بأَطراف أَصابعه القبلة، فسمعته يقول. . . . .» الحديث.
ومن هُنا سَلَّكَ بعض المعاصرين هذه الرواية في الحديث الصحيح، وَقَرَّرَها سُنَّة عملية من سُنن السجود، فاقتضى الحال تحرير النظر في هذا الحديث، وفي هذه اللفظة منه:«رَاصّاً عقبيه» ؟
فأَقول: أَصل هذا الحديث في صحيح مسلم: (1/ 352)
بسنده عن عبيد الله بن عمر العمري، عن محمد بن
يحيى بن حَبّان، عن الأَعرج، عن أَبي هريرة، عن عائشة قالت:«فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم أعوذ برضاك من سخطك. . .» الحديث.
ورواه أحمد: (6/ 58، 201)، وأبو داود:(1/ 547)، والنسائي:(1/ 102)، والدارقطني:(1/ 143)، وابن عبد البر في:(التمهيد: 23/ 349).
وله طريق أخرى، عن يحيى بن سعيد الأَنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عائشة رضي الله عنها قال:«كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل، فلمسته بيدي، فوضعت يدي على قدميه، وهو ساجد، يقول:. . .» الحديث.
رواه مالك في: «الموطأ 1/ 214» والترمذي: (5/ 489)، والنسائي:(2/ 222)، والطحاوي في:«شرح معاني الآثار 1/ 234» ، والبغوي في:«شرح السنة: 5/ 166» .
هذا مجمل ما صح في رواية حديث عائشة رضي الله عنهم وهذه اللفظة عند مسلم وغيره: «فَوَقَعَتْ يَدَيْ على
بطن قدميه» وعند مالك ومن معه: «فَوَضَعْتُ يَدِيْ على قدميه» .
لم يترجمها أَحَدٌ فيما أَعلم؛ للدلالة على ضَمِّ الساجد عقبيه، وما هذا - والله أعلم - إلا لأَن وقوع اليد، أو وضعها على القدمين، لا يلزم من ذلك التصاق العقبين وضم القدمين، والسنن لا تؤخذ بمثل هذا التمحل؟ لا سيما سنة عملية في أعظم شعائر الإِسلام الظاهرة.
بقي لفظ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: «فوجدته ساجداً رَاصّاً عقبيه» وهو نص في رص الساجد عقبيه حال السجود، لكن ما هي درجة هذه اللفظة، وهل هي من طريق من ذكر عند مسلم وغيره أم من طريق أخرى؟ فأقول:
الحديث بهذه اللفظة من طريق أخرى، أخرجه: ابن خزيمة: (654) وترجمه بقوله: «باب ضم العقبين في السجود» ومن طريقه: ابن حبان: (1933) والطحاوي في: «شرح معاني الآثار: 1/ 234» وفي: «مشكل الآثار / 111» والحاكم في: «المستدرك: 1/ 228» والبيهقي في: «الكبرى: 2/ 116» وابن عبد البر في: «التمهيد: 23/ 348» .
ولم يترجمه واحد ممن ذكر في محل الشاهد منه هنا.
…
وإسناده عند جميعهم من طريق: سعيد بن أبي مريم، أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني عمارة بن غزية، سمعت أبا النضر، سمعت عروة، قال: قالت عائشة: «فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وكان على فراشي، فوجدته ساجداً، راصاً عقبيه، مستقبلاً بأَطراف أصابعه القبلة، فسمعته يقول:. . . .» الحديث.
قال الحاكم بعده: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، لا أَعلم أحداً ذكر ضم العقبين في السجود غير ما في هذا الحديث» انتهى.
ووافقه الذهبي في: «تلخيصه» .
وهذه الموافقة غريبة من الذهبي - رحمه الله تعالى -؛ إذ أَعَلَّ أحاديث أُخر بيحيى بن أيوب في تلخيصه للمستدرك، كما في: «2/ 201، 3/ 97، 4/ 44، 4/ 243).
ويحيى بن أيوب - رحمه الله تعالى - وإن أخرج له الجماعة إلا البخاري استشهاداً، فإن كلمة الحفاظ اختلفت فيه اختلافاً كثيراً، بين مُوَثِّق، ومُجَرِّح، ومُعْتَدِلٍ، بأَنه يقع في حديثه غرائب، ومناكير، فَتُتقَّى.
ومن أَعدل ما رأيته في منزلته كلمة الإِمام أحمد - رحمه الله تعالى - إذ قال كما في: «الضعفاء» للعقيلي: (ص / 211): «وقال أحمد بن محمد: سمعت أبا عبد الله، وذكر يحيى ابن أيوب المصري، فقال: كان يحدِّث من حفظه، فذكرت له من حديثه: يحيى بن أيوب، عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها -
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر، فقال: هاء، من يحتمل هذا؟» انتهى.
• والخلاصة: أن حديث عائشة رضي الله عنها أصله صحيح في صحيح مسلم، وغيره، وليس في لفظه الصحيح عند مسلم ومن معه «رص العقبين حال السجود» ، ولم يأت لها ذكر في أحاديث الصحابة الطوال المشهورة في وصفهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد وصفوا تفتيخ أصابع رجليه نحو القبلة، وضم أصابع يديه حال سجوده صلى الله عليه وسلم.
وأن هذه اللفظة: «رص العقبين وهو ساجد» شاذة، انفرد بإِخراجها ابن خزيمة ومن أتى من طريقة، ابن حبان فمن بعد، وأن الحال مما ذكر الحاكم في قوله:«لا أعلم أحداً ذكر ضم العقبين في السجود غير ما في هذا الحديث» انتهى.
وهذه كلمة استقرائية مفيدة شذوذ هذه
اللفظة ونكارتها، وأن ترجمة ابن خزيمة لهذه الرواية بقوله:«باب ضم العقبين في السجود» تعني فقه هذه الرواية التي أَسندها، مع صرف النظر عن صحتها من عدمها، لا أنها صحيحة في نفس الأَمر، ويقع هذا كثيراً في تراجمه، فتدبر.
ومنها ما تقدم قريباً من ترجمته لما أسنده في ضم الفخذين حال السجود، وقد تحرر شذوذها، فكذلك رواية
رص العقبين هنا.
وأنه لا يعرف في رص الساجد عقبيه آثار عن السلف عن الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم، وأنه لم يتم الوقوف على تفريع لأَحد من الفقهاء بمشروعية رَصِّ العقبين حال السجود، سوى كلمة ابن تميم ومن معه ممن لم يُسَمَّ من الحنابلة، ولَعَلَّها من شاذ التفقه.
فبقي أن يُقال: المشروع للساجد: هو تفريج القدمين؛ استصحاباً للأَصل حال القيام في الصلاة، قال المرداوي في:«الإِنصاف: 2/ 69» : (فوائد منها: يستحب أن يفرق بين رجليه حال قيامه. . وقال في المستوعِب: يكره أن يلصق كعبيه) انتهى.
ولأَن سنة السجود: الاعتدال في الهيئة، والمجافاة، والتفاج، وتفريق الأَعضاء، أعضاء السجود، ومنها التفريق بين الركبتين، والفخذين، والقدمان، تابعان للفخذين، فتكون السنة فيهما كذلك.
فثبت بهذا: أن السنة في القدمين حال السجود هو التفريق باعتدال على سَمْتِ البدن، دون غلو في التفريج، ولا جفاء في الإِلصاق {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
…
والله تعالى بأَحكامه أَعلم.