الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال عاصم الأحول:" مرَّ الأعمش بالقاسم بن عبد الرحمن فقال: هذا الشيخ أعلم الناس بقول عبد الله بن مسعود"(1).
وبلغ هذا التنعت مبلغه في مطلع القرن الثالث الهجري لما استقرت الروايات وعرفت الطرق المحفوظة، وبان ضعف كثير من الروايات التي يستدل بها بعض الفقهاء، ولاسيما في كتاب الترمذي الماتع (الجامع) الذي علل روايات كبار الفقهاء، فراح بعض هؤلاء المتعصبين يحطُّ من قدر المحدثين؛ ليصلح عور رواية ما أو يقوّم اعوجاج دليله في مسألة من المسائل، حتى قال قائلهم (2):
إنّ الرُواةَ على جَهْلٍ بما حَملوُا
…
مثلُ الجِمَال عليها يُحْمَل الوَدَعُ
لا الوَدْعُ يَنفْعهُ حَمْلُ الجمالِ له
…
ولا الجمالُ بِحَمْل الوَدْع تنتفعُ
فانتهض بعض أهل الفضل للدفاع عن أئمة الحديث، وعلى رأسهم أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي ت (360هـ)،فصنّف كتابه (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) وهو من أنفس الكتب التي صنفت في بابها، قال الذهبي:"وما أحسنه من كتاب! "(3).
وقد بين سبب تأليفه فقال في أوّل سطر منه بعد حمد الله تعالى:" اعترضت طائفة ممن يشنأ الحديث ويبغض أهله، فقالوا بتنقص أصحاب الحديث والإزراء بهم، وأسرفوا في ذمهم والتقول عليهم، وقد شرف الله الحديث وفضل أهله، وأعلى منزلته ...... وقد كان بعض شيوخ العلم ممن جلس مجلس الرياسة واستحقها لعلمه وفضله، لحقه بمدينة السلام من أهل الحديث جفاء، قلق عنده، وغمه ما شاهد من عقد المجالس ونصب المنابر لغيره، وتكاثف الناس في مجلس من لا يدانيه في علمه ومحله، فعرّض بأصحاب الحديث في كلام له، يفتتح به بعض ما صنف
…
" (4).
وهكذا تعرف أنّ
من أهم أسباب ظهور تواليف علم مصطلح الحديث هو الدفاع عن أهل الحديث
، وصد هجمة أهل الأهواء والبدع.
(1) تاريخ بغداد 10/ 5.
(2)
أورده ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 1032،والطبقات السنية في تراجم الحنفية، الغزي 38.
(3)
سير أعلام النبلاء 16/ 72.
(4)
المحدث الفاصل ص162.
وبنحوه قال الخطيب في مقدمة كتابه الكفاية:" قد استفرغت طائفة من أهل زماننا وسعها في كتب الأحاديث والمثابرة على جمعها من غير أن يسلكوا مسلك المتقدمين، وينظروا نظر السلف الماضين في حال الراوي والمروي، وتمييز سبيل المرذول والرضي، واستنباط ما في السنن من الأحكام، وإثارة المستودع فيها من الفقه بالحلال والحرام، بل قنعوا من الحديث باسمه، واقتصروا على كتبه في الصحف ورسمه، فهم أغمار، وحملة أسفار
…
فجر هذا الفعل منهم الوقيعة في سلف العلماء، وسهل طريق الطعن عليهم لأهل البدع والأهواء، حتى ذم الحديث وأهله بعض من ارتسم بالفتوى في الدين .. " (1).
ولما كان لأهل الفقه والأصول السبق في تصنيف كتب مصطلح الحديث، ولاسيما الشافعية منهم، فقد ظهر منهجهم الفقهي بسطوع في غالب أبواب هذه الكتب، ثم أدخلوا فيها مباحث فقهية أصولية بحتة، لم يتعرض لها أهل الحديث البتة، كمبحث المتواتر والآحاد، وإطلاق قبول الزيادة من الثقة، وغيرها من المباحث الأخرى، ومن يقرأ كتاب الكفاية يجد الخطيب يرجح صنيع الفقهاء في أكثر من موضع، مع أنه يكتب في مصطلح أهل الحديث!
فقال -مثلاً-في مبحث زيادة الثقة بعد عرض الأقوال المختلفة:" والذي نختاره من هذه الأقوال أنّ الزيادة الواردة مقبولة على كل الوجوه"(2).
وهذا مذهب الفقهاء لا مذهب أهل الحديث، بل لم يقبله بهذه الصورة أحد من أهل الحديث؟
وقال الخطيب في باب تعارض الوصل والإرسال:"قال أكثر أصحاب الحديث: إنّ الحكم في هذا أو فيما كان بسبيله للمرسل، وقال بعضهم: إنْ كان عدد الذين أرسلوه أكثر من الذين وصلوه فالحكم لهم، وقال بعضهم: إنْ كان من أرسله أحفظ من الذي وصله فالحكم للمرسل، ولا يقدح ذلك في عدالة الذي وصله، ومنهم من قال: لا يجوز أنْ يقال في مسند الحديث الذي يرسله الحفاظ: إنه عدل، لأن إرسالهم له يقدح في مسنده فيقدح في عدالته، ومنهم من قال: الحكم للمسند إذا كان ثابت العدالة ضابطا للرواية، فيجب قبول خبره، ويلزم العمل به، وإن خالفه غيره، وسواء كان المخالف له واحداً أو جماعة، وهذا القول هو الصحيح عندنا، لأن إرسال الراوي للحديث ليس بجرح لمن وصله ولا تكذيب له"(3).
(1) الكفاية ص3 - 4
(2)
الكفاية ص425.
(3)
الكفاية ص411
قال ابن الصلاح:" قلت: وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله"(1).
فالخطيب يرجح ههنا مذهب أهل الفقه والأصول على مذهب أهل الحديث، ثم يصحح ابن الصلاح ترجيحه، وهما يكتبان في كتاب مصطلح أهل الحديث!
وتأمل بعد قول النووي في حكم الإجازة بالمناولة المجردة:" بأنه يناوله مقتصراً على: هذا سماعي، فلا تجوز الرواية بها على الصحيح الذي قاله الفقهاء وأصحاب الأصول، وعابوا المحدثين المجوزين "(2).
ولذا قال الحافظ ابن حجر في مبحث شروط الخبر المتواتر:" وإنما أبهمتُ شروط المتواتر في الأصل-يريد نخبة الفكر-؛ لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد"(3) ..
ومنه: اعتراض ابن دقيق العيد الشافعي على قول ابن الصلاح في حد الحديث الصحيح (ولا شاذاً ولا معللاً) قال:" في قوله: "ولا شاذا ولا معللا" نظر على مقتضى مذاهب الفقهاء؛ فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء"(4).
وهكذا فإنّ كتب المصطلح لم تكتب في الغالب بأقلام المحدثين أنفسهم، وإنما بأقلام الفقهاء وأهل الأصول، فظهرت النكهة الفقهية في غالب أبواب المصطلح، وهذا ليس انتقاصاً من جهودهم الكبيرة أو تقليلاً لشأن الأئمة الكبار كالخطيب وابن الصلاح والنووي .. وغيرهم، ولكن من باب وضع الأمور في أنصبتها، ولمعرفة السبب الحقيقي وراء تأثر مصطلح الحديث بأراء الفقهاء غالباً، مما أثر ذلك على الميزان النقدي، والمنهجية العلمية في قبول أحاديث الأئمة المتقدمين أو ردها، فكم من حديث أعله متأخر أو معاصر على أساس قواعد المصطلح! التي هي في الأصل قواعد الفقهاء والأصوليين.
وقد قال الشيخ الألباني رحمه الله:" يلزم الفقيه أن يكون محدثاً، ولا يلزم المحدث أنْ يكون فقيهاً؛ لأنّ المحدث فقيه بطبيعة الحال، هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدرسون الفقه أم لا؟ وما هو الفقه الذي كانوا يتدارسونه؟ وما كانوا يأخذونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذن هم يدرسون الحديث؟ أما هؤلاء الفقهاء يدرسون أقوال العلماء وفقههم ولا يدرسون حديث نبيهم الذي هو منبع الفقه، فهؤلاء يقال لهم: يجب أن تدرسوا علم الحديث، إذ أننا لا نتصور فقها صحيحاً بدون معرفة الحديث حفظاً
(1) علوم الحديث الشهير بالمقدمة ص72. وقد تعقبهما الحافظ في النكت 2/ 604 فلينظر.
(2)
تقريب النوواي ص63.
(3)
نزهة النظر ص42.
(4)
الاقتراح ص5.