الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة صغيرة
مفارقة عجيبة
زعماء الدين النصارى في لبنان كيان كبير، له وزنه الرسمي، من احترام
الدولة لهم، ومراعاة توجههم في كل مناسبة، تقديراً لثقلهم في الساحة، ولذلك:
حينما طلب هؤلاء الزعماء من الرموز النصرانية عدم المشاركة في انتخابات
1992م؛ أحجم كثيرٌ من هؤلاء عن المشاركة، استجابة لهم، ولما رأوا أن ذلك
عاد عليهم بالخيبة، ووصول رموز جدد لا سيما من الإسلاميين؛ عادوا ليعطوا
الضوء الأخضر لنوابهم بالمشاركة النيابية، مع تحفظهم المعلن عن الانتخابات
المقبلة.
غريب جدّاً دور (رجال الدين) النصارى في لبنان، وتدخلهم في العمل
السياسي، وهم الذين جاء في كتابهم المقدس «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» .
والأعجب أن يحجم كثير من علماء دين الإسلام ودعاته وهو دين يشمل الحياة
جميعها؛ والحكم فيه لله [إنِ الحُكْمُ إلَاّ لِلَّهِ] عن المشاركة الفعالة في الحياة العامة، ويُضرب على يد دعاته في كثير من البلاد الإسلامية، وتصدر قوانين تحرم
الدخول في (اللعبة الانتخابية) للإسلاميين، بدعوى أنه لا يصح أن يدخل فيها ذوو
الانتماء الديني عموماً، مع اعتقادنا الجازم أن نصرة هذا الدين لن تأتي عن طريق
تلك الأساليب المحدودة الأثر.
إلا أن المقارنة بين المنهجين مثيرة للعجب والتساؤل، وتنبئ عن واقع أليم
للأمة؛ لاضطراب موازينها
…
والله المستعان.
الافتتاحية
يا دعاة الإسلام: لنتجرد ولنصدق
التحرير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله
وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فالدعوة الصادقة إلى الله هي سبيل كل داعية مخلص لتبليغ هذا الدين وتبصير
الناس بأخلاقه وآدابه وأحكامه [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] .
والدعوة إلى المنهاج الصالح الصحيح هي رسالة الأنبياء ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ
المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) .
فكلما كانت الدعوة منطلقة من تجريد الإخلاص لله (تعالى) وتجريد المتابعة
للرسول كلما كانت آثارها إيجابية ونتائجها موفقة.
وفي ظل الإحباطات التي تعيشها الدعوة في بعض البلدان؛ نتيجة لنقص العلم
الشرعي، ولفقدان التأصيل الصحيح لمسائل الخلاف: تشتد حاجتنا إلى الرجوع
لمنهج الأنبياء عليهم السلام في الدعوة: من البدء بالعقيدة، وتحقيق العبودية لله
(تعالى) ، وتجريد القصد والمتابعة للرسول، والعض على ذلك بالنواجذ.
فكثيراً ما نشاهد في الواقع الدعوي من الأخطاء والتجاوزات ما يمكن إرجاعه
إلى النقص في تلك المؤهلات الآنفة الذكر؛ مما قد يتسبب في فقد تأثير الدعوة في
بعض المجتمعات، وربما أدى إلى تعطيلها.
فقد نشاهد أحياناً من يظن أنّه قد بلغ الآفاق بقوله وفعله، بعبادته ودعوته،
وينتفش بكبرياء واستعلاء، ويتكلم بعجب وأستاذية، حتى يظن أنّ النّاس، كل
النّاس يشيرون إليه بالبنان.
إذا شارك بكلمة أو درس أو خطبة، تسلل العجب إلى قلبه، وشعر أنه
الداعية النشيط، والمجاهد المبارك، والعامل المنتج.. ويقول لنفسه بقوة: نعم،
ولم لا أكون كذلك..؟ ! ، ألم أتحرك حينما تقاعس الناس، وأتكلّم حينما سكت
الناس، وأنتج حينما عجز الناس..؟ ! عملي لا يُلحق شأوه، ودعوتي لايُشقّ لها
غبار.. نظراتي مسددة، وأعمالي موفقة
…
وتلك هي الهاوية..! ! إن الكبر والعجب يقودان في الغالب إلى الأمن من
مكر الله، وهذا داءٌ خطير مقعد، يحطم همة الإنسان، ويقعده عن التضحية والبناء، ويجعله يتآكل من الداخل.. وكيف يصح ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (إنّ قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلبِ واحدٍ
يصرفه حيث يشاء) ، وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في
دعائه: «اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك» (رواه مسلم) .
يقول ذلك وهو سيد ولد آدم، الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. بل
يصلي حتى تتورم قدماه، ويقول:«أفلا أكون عبداً شكوراً؟ !» [رواه
…
البخاري] .
تربية تزكي النفس، وتدفعها إلى الاعتصام بالله، ولا تجعلها تركن إلى نفسها، فتعلق القلب لا يكون إلا بالله سبحانه وتعالى .
ولهذا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بذلك، فهو يقول
مثلاً لمعاذ بن جبل: «إني لأحبك يا معاذ، فلا تدع أن تقول في دبر كلِّ صلاة:
اللهم أعنِّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (أخرجه أبو داود) .
إن الخوف من الله، والانكسار بين يديه، والثقة به وحده، هو الذي يهذب
النفس الإنسانية ويروضها، ويطامن من كبريائها، ويحد من غرورها وعجبها،
فالمرء ينشط ويدعو، ويضحي بنفسه وماله، ويبذل قصارى جهده لخدمة هذا الدين.. ومع ذلك: فهو يلح في الدعاء، ويتضرع إلى الله بقلب مخبت منيب، يسأله القبول والرضا، ويشعر بضعفه وحاجته إلى عون ربه عز وجل ، ولهذا: قالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ][المؤمنون: 60] : أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ فقال: «لا يا بنت الصديق، هم الذين يصلون ويصومون، ويتصدقون، يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» [أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة] .. هكذا ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه.
فها هو ذا أبو بكر الصديق يأتيه قائلاً: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي،
فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت،
فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» (رواه البخاري) .
أبو بكر.. خير هذه الأمة بعد نبيها يقول: «رب إني ظلمت نفسي ظلماً
كثيراً» ، فكيف إذن يقول غيره..؟ ! كيف نقول نحن..؟ !
أما أبو بكر فيقول: «ودِدْتُ أني شجرة تعضد!» .
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الرجل الجبار القوي في دين الله، الذي أعز الله به الإسلام، وقوّى به المسلمين، الذي إذا سلك فجّاً سلك الشيطان
فجّاً آخر.. حينما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّم حذيفة بن اليمان
رضي الله عنه أسماء المنافقين، ذهب إليه وألح عليه في السؤال: هل سماني لك
رسول الله..؟ ! .
شيء عجيب جدّاً.. عمر الفاروق لا يأمن على نفسه النفاق..! ! فكيف يأمن
من كان دونه بمراحل..؟ ! .
وتأتي ثمرة هذه التربية العجيبة حينما طُعن رضي الله عنه وهو خليفة،
وجعل يألم، فقال له ابن عباس مواسياً: «يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد
صحبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك
راضٍ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم
صحبت صحبَتَهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنّهم وهم عنك راضون» ،
ما الظن بعمر بعد كل هذا الثناء..؟ ! .
هل أحس بالعجب والخيلاء والأمن..؟ ! هل أحس بالانتفاش وتعاظم في
نفسه..؟ ! أم أنّه أسند ذلك إلى فضل الله ومنته؟ .
قال عمر لابن عباس: «أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ورضاه: فإنما ذاك منّ من الله (تعالى) منّ به عليّ، وأما ما ذكرت من
صحبة أبي بكر ورضاه: فإنّما ذاك منّ من الله (جلّ ذكره) منّ به عليّ، وأما ما
ترى من جزعي: فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أنّ لي طلاع الأرض
ذهباً لافتديتُ به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه» ! (أخرجه البخاري) .
الله أكبر! بهذه النفوس الحية الزكية التي تظهر الحاجة والافتقار لله (تعالى) ،
وتلتجئ إليه بصدق ويقين: تنجح الدعوة وتؤتي ثمارها، وبذلك أيضاً يثبت الرجال
على تحمل أعباء الدعوة وتكاليفها، ويشدون على لوائها وإن أصابهم ما أصابهم من
اللأواء والعنت.
ما أحوج الدعاة إلى التجرّد والصدق، والبعد عن حظوظ النفس وشهواتها،
فكم من الطاقات تهدر وتتآكل بسب التعالي والإعجاب بالنفس، وصدق الرسول
بقوله: «ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال
والشرف لدينه» (أخرجه أحمد والترمذي) .
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين.
دراسات شرعية
حقيقة الإيمان
(الحلقة الأخيرة)
بقلم: د.محمد أمحزون
قدم الكاتب الحلقة الأولى من الموضوع بالأسباب التي دعته إلى الكتابة فيه،
ثم الغرض من كتابته، ثم شرع في بيان مصطلح «الإيمان» في اللغة، وعلى
مستوى الدلالة في سياق القرآن والحديث، وكذلك مفهومه في الكتاب والسنة، ثم
تحدث عن ركني الإيمان: القول والعمل، ويفصل في هذه الحلقة الحديث عن
جوانب أخرى من الموضوع.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... - البيان -
من عرى الإيمان:
أ - إفراد الله بالحكم:
إن إفراد الله عز وجل بالحكم، أو تحكيم شريعته في شؤون الحياة كلها:
عروة من عرى الإيمان وأصل من أصول الاعتقاد، فقد جاءت الآيات القرآنية
مؤكدة أن الحكم بما أنزل الله من صفات المؤمنين، وأن التحاكم إلى غير شرع الله
من صفات المنافقين.
وإذا كان جوهر الإيمان هو الانقياد والخضوع والطاعة، فلا يتحقق ذلك إلا
بقبول أحكام الشرع والإذعان لحكم المخبر.
ولقد جاءت الآيات المحكمات الدالة على اتباع شريعة الله والتحاكم إليها وحدها
مذيلة بوصف الفلاح والخير لمن امتثل أمر الله وأطاع رسوله.
قال (تعالى) : [وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ
مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ] إلى قوله (تعالى) : [إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ]
…
... [النور: 47- 51] .
ففي الآية الأولى نفى الله (جل ثناؤه) الإيمان عمّن تولّى عن الطاعة والامتثال
وإن كان قد أتى بالقول، وفي الآية الثانية جعل (جل ذكره) تحكيم الشريعة شرط
الإيمان الذي لايتحقق إلا به.
وقال (تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
يقول أبو جعفر الطبري في تفسير هذه الآية: «يعني (جل ثناؤه) بقوله:
فليس الأمر كما يزعمون أن يؤمنوا بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت،
ويصدوا عنك إذا دُعُوا إليك يا محمد، واستأنف القسم (جل ذكره) فقال:[وَرَبِّكَ]
يا محمد [لا يُؤْمِنُونَ] أي: لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك [فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ] حتى يجعلوك حكماً بينهم فيما اختلط بينهم
من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه
…
ثم يفسر نفي الحرج بنفي الشك في طاعته
وأن الذي قضى بينهم حق لا يجوز خلافه» [1] .
وقال (تعالى) : [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً]
[الأحزاب: 36] .
يقول النسفي في تفسير هذه الآية: (
…
وإن كان العصيان عصيان رد،
وامتناع عن القبول فهو ضلال وكفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر
واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق) [2] .
ويستخلص مما سبق: أن تحكيم الشريعة في حياة الناس أصل من أصول
الاعتقاد؛ فمن ردّ الأمور إلى شرع الله (تعالى) فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن
لم يرض بتحكيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في أصول الدين وفروعه
فهو معترض على دين الله، ولا يكون مؤمناً وإن زعم ذلك كما قال (تعالى) :[أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاًً بَعِيداً][النساء: 60] .
كما أن الذي لا ينقاد ويخضع لشرع الله وإن كان مصدقاً به فهو كافر؛ لأن
الكفر لا يختص بالتكذيب فقط، بل هو أنواع، منه: كفر إباء واستكبار، وكفر
استهزاء، وكفر إعراض، وكفر شك ونفاق [3] .
يقول الحافظ ابن عبد البر في هذا الصدد: «قد أجمع العلماء
…
أن من دفع
شيئاً أنزله الله
…
وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله: أنه كافر» [4] .
لكن إذا كان الحاكم يقرّ بالشريعة وينزل عند أحكامها، ثم حكم في قضية
بعينها بغير حكم الله، إما عن جهل بها أو حكم فيها هوى ومعصية، فهذا ذنب،
وهو الذي عناه ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: كفر دون كفر [5] ، ويدل
عليه قول الرسول: «لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة
تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهنّ الصلاة» [6] .
أما من يعتقد أفضلية القانون الوضعي على شرع الله أو مساواته له، أو
ينتقص أحكام الشريعة بقوله: إنما نزلت لزمان غير زماننا ولعلل وأسباب انقضت
فسقطت أحكامها، أو أنها لا تفي بمتطلبات العصر المستجدة، أو شرع ما لم يأذن
به الله؛ فأحل حراماً أو حرّم حلالاً، فهذا كافر مرتد لا إيمان له، وإن صام وصلى
وزعم أنه مسلم.
ب- إفراد الله بالولاء:
إن الولاء والبراء هو أوثق عرى الإيمان، ولازم من لوازم التوحيد، وهو
بهذا جزء مهم من العقيدة التي تعدّ معرفتها والعمل بها أمراً ضروريّاً بالنسبة للمسلم؛ ليكون ولاؤه، وبراؤه بحسبها، إذ من المحال أن يكون صحيحاً بدون تحقيق
الموالاة والمعاداة الشرعية.
والنصوص الشرعية التي تدل على أهمية هذا الأصل كثيرة، منها:
قول الله (جل ذكره) : [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ
فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ] [المجادلة: 22] .
وقال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ
اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [التوبة: 23] .
وقال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]
[المائدة: 51] .
وقال (تعالى) : [وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ
أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] [المائدة: 81] .
أما الأحاديث النبوية الواردة في الولاء والبراء، فمنها قول النبي -صلى الله
عليه وسلم-: «أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله» [7] ،
وقوله: «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله،
والبغض في الله» [8]، وقوله:«من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله: فقد استكمل إيمانه» [9] .
وفي العموم: إن الولاء للمسلمين بمحبتهم، ونصرتهم، والاهتمام بشؤونهم،
والنصح لهم، والدعاء لهم، ومواساتهم: من مقتضيات تحقيق الإيمان الشرعي،
كما أن البراءة من الكافرين والمنافقين ببغضهم، والحذر من التشبه بهم، ومخالفة
مناهجهم: من لوازم تحقيق الإيمان.
فالتميز والمفاصلة أمران ضروريان للمسلمين في هذا العصر، فليس هناك
أنصاف حلول ولا التقاء في منتصف الطريق مع أَعْداء الدين من اليهود،
والنصارى، ومن سار على دربهم من المنافقين.. إنما هو الاستمساك بالدين
الخالص في كل نواحي الحياة، والثبات على منهج الدعوة الأول، وإلا فهي البراءة
الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح:(لكم دينكم ولي دين)[10] .
التلازم بين الحكم بما أنزل الله والولاء والبراء في القرآن الكريم:
عندما تؤمن الأمة إيماناً كاملاً بأن الشريعة الإسلامية هي هويتها ودستور
حياتها، وأن مبادئها وقيمها هي منهاج تعاملها فيما بينها ومع الآخرين: فإنها
ستحرص على تطبيقها؛ لأنها مصدر عزتها وقوتها وكرامتها، ومن ثم: ستحافظ
عليها، وتعادي وتوالي من أجلها، وستعتبر أي مساس لسلطانها وسيادتها خيانة في
حق هذا الدين.
أما عندما يغيب التحاكم إلى شرع الله من حياة المسلمين، فإن الفراغ الرهيب
في حياتهم ستملؤه النظم والقوانين والمناهج المستوردة التي تعمل على صنع أجيال
متمردة على حكم الله بالسياسات الإعلامية والتعليمية والثقافية، ومن ثم: تذوب
الفواصل بينهم وبين أعدائهم، فيتشبهون بهم في وسائل العيش وطرق الحياة
المختلفة، لأن المغلوب لا يزال مقلداً للغالب في كل شيء.
ولهذا أمر الله (جل ثناؤه) في كتابه الكريم بعدم تتبع أهواء الذين كفروا من
أهل الكتاب والاحتكام إلى نظمهم الجاهلية، بما يقتضي عدم موالاتهم والبراءة منهم، وذلك في موضعين من القرآن الكريم، قال (تعالى) : [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ]
[المائدة: 49]، وقال (جل ذكره) : [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ] [الجاثية: 18] .
ج - إفراد الله بالنسك:
لم يجعل الله سبحانه وتعالى لأحد من المخلوقين سواءً أكان نبيّاً أو مَلَكاً أن
يستعان به، أو ينذر له، أو يستغاث به، أو يرغب إليه، أو يذبح له، أو يقسم
…
به...... فلا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين، فضلاً عن غيرهم من الصالحين [11] .
فالله (سبحانه) هو المعبود بحق، فلا يُحلف إلا به، ولا ينذر إلا له،
ولايدعى إلا إياه، ولا يستغاث ويستعان إلا به، ولا يذبح إلا باسمه، قال (تعالى) :
[فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ][الأنعام: 118] .
وقد كان المشركون يخوِّفون إبراهيم الخليل (صلوات الله وسلامه عليه)
بمعبوداتهم، فردّ عليهم بقوله: [وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]
[الأنعام: 81] .
وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت [الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ] قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّنا لم
يظلم؟ فأنزل الله: [إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ][12][لقمان: 13] .
وقال (تعالى) : [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ
(162)
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] [الأنعام: 162، 163] .
والمقصود بالإسلام هنا: الإيمان بالله، وعبادته وحده لاشريك له.
ولما كان النسك من أعظم العبادات وأجلها كما قال ابن تيمية رحمه الله فإن
خرم هذا الأصل من أصول الاعتقاد من ثلاثة أوجه يعد شركاً ونفياً للإيمان:
أن يتقرب إلى المخلوق بأنواع العبادات والقربات ليقربه إلى الله زلفى.
أن يتخذ عند الله شفعاء عنده بغير إذنه.
أن يدعو الموتى ويتوجه إليهم مباشرة بالدعاء والاستعانة والاستغاثة [13] .
مراتب الإيمان:
أ - الإيمان المجمل:
هو الإقرار بما جاء به الرسول جملةً، وتصديقه في كل ما أخبر به عن ربه
من: الكتب، والملائكة، والنبيين، ومقادير الخلق، وأحوال الآخرة.. إجمالاً؛
لقوله (تعالى) : [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ] [البقرة: 285] .
وهو أصل الإيمان؛ لقوله (تعالى) : [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إلَيْنَا وَمَا
أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأََسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أََحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] [البقرة:
136] ، فذكر (جل ثناؤه) الإيمان المجمل المتعلق بأصل الدين؛ وذلك لأن الإيمان
الواجب يستثنى فيه ولا يقطع به، والله أمرنا هنا بالقطع.
وكذلك: فهو الإقرار بالشهادتين (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ؛ لأن أول
واجب على المكلف هو التلفظ بهما إيماناً مجملاً بألا يعبد إلا الله، وأن يعبد بما
شرع على لسان رسوله.
ويعرّف ابن تيمية رحمه الله المجمل: «بما لا يكفي وحده في العمل وإن
كان ظاهره حقّاً» [14] .
ويدخل في الإيمان المجمل: الظالم لنفسه، كما في قوله (تعالى) :
…
[ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ](فاطر: 32) .
فالذين اصطفى الله عز وجل هم المسلمون بمراتبهم الثلاث: الظالم لنفسه
وهو من تحقق فيه الإيمان المجمل، والمقتصد من أهل الإيمان الواجب، والسابق
بالخيرات من المحسنين.
فعصاة أهل التوحيد يدخلون في دائرة الإيمان المجمل؛ لقول النبي -صلى الله
عليه وسلم-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين
يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن» [15] فهذه
المعاصي تخرج فاعلها من دائرة الإيمان الواجب إلى دائرة الإيمان المجمل.
يقول ابن تيمية رحمه الله : «والخطاب بالإيمان [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا]
يدخل فيه الذين أسلموا ولم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن جزءاً من الإيمان
والإسلام يثابون عليه (الإيمان المجمل) ، لكن يعاقبون على ترك المفروضات
(الإيمان الواجب) ، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية (من سورة الحجرات)
وغيرهم، فإنهم قالوا:[آمنا] من غير قيام منهم بما أمروا به باطناً وظاهراً، فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في سبيل الله، وقد كان دعاهم
…
النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد، وقد يكونون من أهل الكبائر المعرّضين للوعيد، كالذين يصلون ويتركون، ويجاهدون، ويأتون الكبائر، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون (يقصد الإيمان المجمل) .
فدل هذا كله على أن هؤلاء من فساق الملة، فإن الفسق يكون تارة بترك
الفرائض، وتارة بفعل المحرمات، وهؤلاء لما تركوا ما فرض عليهم من الجهاد،
وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم: لم يكونوا من الصادقين الذين
وصفهم [16] ، وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام
…
فهكذا كان إسلام غير المهاجرين والأنصار: أسلموا رغبة ورهبة، كإسلام
الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإسلام المؤلفة
قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نجد. وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان المنافقين
الذين هم في الدرك الأسفل من النار، بل يدخلون في الإسلام والطاعة وليس في
قلوبهم تكذيب ومعاداة الرسول (الإيمان المجمل) ، ولا استنارت قلوبهم بنور الإيمان
ولا استبصروا به (الإيمان الواجب) » [17] .
وهناك قضية رئيسة ينبغي التنبيه عليها، وهي: أن الإيمان المجمل ليس
وحده طوق النجاة في الآخرة، بل هو الخطوة الأولى للدخول في الدين، إذ لا بد
من فعل الأمر وترك النهي لتحقيق الإيمان الواجب، فأهل السنة يقررون أن ترك
العمل بالكلية هو ترك لركن الإيمان الذي لا يكون إلا به؛ لأن الإيمان قول وعمل،
والعمل الصالح هو مناط النجاة في الآخرة.
أخرج أبو نعيم في «الحلية» بإسناده إلى عمرو بن عثمان الرّقي قال:
…
«قيل لابن عيينة: إن قوماً يقولون الإيمان كلام، فقال: كان هذا قبل أن تنزل الأحكام، فأمر الناس أن يقولوا (لا إله إلا الله) ، فلما علم صدقهم أمرهم بالصلاة ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار» فذكر الأركان، إلى أن قال:
…
«فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]
…
[المائدة: 3] ، فمن ترك شيئاً من ذلك كسلاً أو مجوناً أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحداً كان كافراً» [18] .
ويقول ابن تيمية: «ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه،
بأنّ الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله
سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي الزكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع،
ولا يصدر هذا إلا مع نفاق وزندقة، لا مع إيمان صحيح» [19] .
ب- الإيمان الواجب:
هو ما زاد عن الإيمان المجمل بفعل الواجبات وترك المحرمات [20] ، كما
في قوله (تعالى) : [الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ][الزخرف: 69] وقوله
(تعالى) : [فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ][الحج: 50] وقوله (عز من قائل) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] [البقرة:
208] ، يدعوهم باسم الإيمان المجمل ليحققوا الإيمان الواجب بالأخذ «بجميع
عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره» [21] ،
وقوله (جل ذكره) : [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا]
[الحجرات: 14] فهنا نفى الله عز وجل عنهم الإيمان الواجب، وأثبت لهم
الإيمان المجمل أو الإسلام العام، كما أن الإيمان المراد في الآية هو الإيمان
المستحب، وهو أعلى درجة من الإسلام.
وبيّن الله (تعالى) الإيمان الواجب بعد ذلك في السورة نفسها بقوله (جل ثناؤه) : [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] [الحجرات: 15]، كما بيّنه في سورة الأنفال: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)
أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً] [الأنفال: 2- 4] .
والإيمان الواجب يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وإذا
ذهب بعضه بقي بعضه، خلافاً لرأي أهل البدع من الخوارج والمرجئة في
…
المسألة [22] ، ومن خرج منه بترك بعض الفرائض أو ارتكاب بعض المحرمات انتقل إلى دائرة الإيمان المجمل أو مطلق الإيمان.
ويعدّ الإيمان أعلى درجة من الإسلام عند الاقتران؛ ففي حديث أبي هريرة
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم
المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» [23] .
ففسر «المسلم» بأمر ظاهر، وهو سلامة الناس منه، وفسر «المؤمن»
بأمر باطن، وهو أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم، وهذه الصفة أعلى من تلك؛ فإن
من كان مأموناً سلم الناس منه، وليس كل من سلموا منه يكون مأموناً، فقد يترك
أذاهم وهم لا يأمنون إليه ويثقون به؛ خوفاً أن يكون ترك أذاهم لا لإيمان في قلبه،
بل لرغبة أو لرهبة في نفسه [24] .
وكذلك حديث عمرو بن عَبَسة مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له: ما الإسلام؟ قال: (إطعام الطعام، ولين الكلام)، قال:
فما الإيمان؟ قال: (السماحة، والصبر)[25] .
فإطعام الطعام ولين الكلام عملان ظاهران يفعلهما الإنسان لمقاصد متعددة،
وأما السماحة والصبر فخلقان في النفس، وهذا أعلى من ذاك [26] .
فالمؤمن لا يرتاب في المحنة أو الفتنة التي تزلزل الإيمان في القلب: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَاًتِكُم مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَاًسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ][البقرة: 214] .
وبما أن الريب ضد اليقين إلا من اطمأن قلبه علماً وعملاً فإن الإنسان لو كان
عالماً بالحق، لكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعاً: لم يكن صاحب يقين، ففي
مواطن الابتلاء والشدة تظهر حقيقة الإيمان بالصبر والثبات على المبدأ، والموفق
من وفقه الله عز وجل.
ج- كمال الإيمان (الإيمان المستحب) :
هو ما زاد عن الإيمان الواجب من الأعمال المستحبة والمندوبة، وهي
المرتبة التي ينال بها المسلم علو الدرجة والمنزلة العالية.
وكمال الإيمان يجمع كمال الإخلاص لله والإتيان بالفعل الحسن على الوجه
الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه، لقوله (تعالى) : [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ] [البقرة: 112] ،
وقال (تعالى) : [لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ][يونس: 26]
ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «أكمل المؤمنين إيماناً
أحسنهم خلقاً» [27] . وسئل عليه الصلاة والسلام : أي الإسلام خير؟ قال:
…
«تطعم الطعام، وتَقْرَأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» [28] ، وفي حديث
جبريل عليه السلام جعل مرتبة الإحسان أخص من مرتبة الإيمان [29] .
وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه قال: (ثلاث من كن فيه
فقد استكمل الإيمان وفي رواية: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف
من نفسه، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم «) [30] .
والوسيلة لبلوغ درجة الكمال: أن الإيمان كلما ازداد وقوي زاد معه العمل
الصالح، ولذلك: كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه:» اللهم زدنا
إيماناً ويقيناً وفقهاً « [31] ، وقال مالك بن دينار:» الإيمان يبدو في القلب
ضعيفاً ضئيلاً كالبقلة، فإن صاحبه تعاهده فسقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة
وأماط عنه الدَغَل وما يضعفه ويوهنه أوشك أن ينمو ويزداد، ويصير له أصل
وفروع، وثمرة وظل، إلى ما لا يتناهى، حتى يصير أمثال الجبال، وإن صاحبه
أهمله ولم يتعاهده، جاءه عنز فنتفتها، أو صبي فذهب بها، أو أكثر عليها الدغل،
فأضعفها أو أهلكها أو أيبسها، كذلك الإيمان « [32] .
إذن: فحقيقة الإيمان الشرعية التي تقرر نصوص الكتاب والسنة بأنها مركبة
من ركني القول والعمل تشهد بالترابط بين مراتب الإيمان الثلاثة، كالترابط
الحاصل بين حلقات السلسلة، يشد بعضها بعضاً ويكمل بعضها بعضاً.
بل إن التلازم حتمي بين المرتبة الأولى والثانية في أن العمل لا ينفك عن
الإيمان الباطن، وأن كليهما مناط النجاة في الدنيا بعصمة الدم والمال واستحقاق
الأخوة من المؤمنين، وفي الآخرة بالنجاة من سخط الله وعذابه.
ويظل المعيار الحقيقي للحكم على حقيقة الإيمان هو معيار الصدر الأول
وواقع السلف الصالح قبل اختلاف الأمة، بل في حياة النبي -صلى الله عليه
وسلم- حين اكتمل الإيمان في واقع الجيل القدوة ونفوسهم قولاً وعملاً، فأنزل الله
(تعالى) في حجة الوداع في يوم الجمعة في عرفة قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً][33][المائدة: 3] .
(1) تفسير الطبري، الآية 65 من سورة النساء.
(2)
تفسير النسفي، الآية 36 من سورة الأحزاب.
(3)
حافظ بن أحمد حكمي: 200 سؤال وجواب في العقيدة، ص 96.
(4)
ابن عبد البر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ج 4، ص 226.
(5)
القاسم بن سلام: كتاب الإيمان، ص 45.
(6)
أخرجه أحمد في المسند (بترتيب الساعاتي) ، ج 1، ص 117.
(7)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الإيمان، ج 11، ص 41، وأحمد في المسند، ج 4، ص 286 وقال محقق كتاب الإيمان لابن أبي شيبة (الألباني) : أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعاً، وهو حسن، ص 45.
(8)
ذكره السيوطي في الجامع الصغير، ج 1، ص 69 وقال الألباني في صحيح الجامع الصغير: حديث حسن، ج 2، ص 343.
(9)
أخرجه الترمذي في السنن، وقال حديث حسن، انظر: جامع الأصول، ج 1، ص 240.
(10)
سيد قطب: في ظلال القرآن، م 6، ص 3993 (بتصرف) .
(11)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج1، ص 291295.
(12)
أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج 1، ص 14.
(13)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج1، ص 123، 124، 155، 158، ج3، ص105 106، ج 16، ص532.
(14)
ابن تيمية: الإيمان، ص 375.
(15)
أخرجه مسلم، ح/100، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان.
(16)
وصفهم في آية لاحقة من السورة: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا][الحجرات: 15] .
(17)
ابن تيمية: الإيمان، ص 228، 238.
(18)
نقلاً عن الحافظ في الفتح، ج1، ص 103.
(19)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج7، 611.
(20)
يعبر عنه ابن تيمية تارة بالإيمان الواجب، ص 350، 394، وتارة بالإيمان المطلق، ص 209، 228.
(21)
تفسير ابن كثير، الآية (208) من سورة البقرة.
(22)
ابن تيمية: الإيمان، ص 210، 211.
(23)
أخرجه النسائي في السنن، ج 8، ص 104.
(24)
ابن تيمية: الإيمان، ص 250.
(25)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الإيمان، ج11، ص 33، وأحمد في المسند، ج 4، ص 385، ج5، ص 243، 319.
(26)
ابن تيمية: الإيمان، ص 251.
(27)
أخرجه أحمد في المسند، ج2، ص 250، وأبو داود والترمذي، انظر جامع الأصول لابن الأثير، كتاب الخلق، ج4، ص 5.
(28)
أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 9.
(29)
سبق تخريجه.
(30)
أخرجه البخاري معلقاً في صحيحه: كتاب الإيمان، ج1، ص 12، وانظر: الإيمان لابن تيمية، ص 212.
(31)
ابن تيمية: الإيمان، ص 212.
(32)
المصدر نفسه، ص 213.
(33)
البخاري: الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، ج1، ص 16.