المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تدبر القرآن.. لماذا وكيف - مجلة البيان - جـ ١٤٤

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌تدبر القرآن.. لماذا وكيف

دراسات في الشريعة والعقيدة

‌تدبر القرآن.. لماذا وكيف

؟

إبراهيم بن عبد الرحمن التركي

القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها، ما من شيء يحتاجه

البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً، عَلِمه مَنْ عَلِمه، وجهله من جهله.

ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعوهم تلاوة وحفظاً

وفهماً وتدبراً وعملاً. وعلى ذلك سار سائر السلف. ومع ضعف الأمة في

عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر عند غالب

المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه ومراداته،

وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك، (وقد أنزل الله القرآن وأمرنا

بتدبره، وتكفل لنا بحفظه، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره) [1] .

وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده؛ ففي ذلك أجر كبير؛

لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر. ومن

ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -.

ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب والسنة

وسيرة السلف الصالح.

أما التدبر فهو كما قال ابن القيم: (تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع

الفكر على تدبره وتعقله) [2] .

وقيل في معناه: (هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه

البعيدة) [3] .

أولاً: منزلة التدبر في القرآن الكريم:

1-

قال الله - تعالى -: [كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر

أولوا الألباب] [ص: 29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس

من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها.

قال الحسن البصري: (والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى

إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل) [4] .

2-

قال - تعالى -: [أفلا يتدبرون القرآن....][النساء: 82] .

قال ابن كثير: (يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن

الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: أفلا يتدبرون

القرآن) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب.

3-

قال - تعالى -: [الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك

يؤمنون به] [البقرة: 121] .

روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: (والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن

يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله) [6] .

وقال الشوكاني: (يتلونه: يعملون بما فيه)[7] ولا يكون العمل به إلا بعد

العلم والتدبر.

4 -

قال - تعالى -: [ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم

إلا يظنون] [البقرة: 78] .

قال الشوكاني: (وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة

دون تفهم وتدبر) [8]، وقال ابن القيم: (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا

يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) [9] .

5 -

قال الله - تعالى -: [وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا

القرآن مهجورا] [الفرقان: 30] .

قال ابن كثير: (وترك تدبره وتفهمه من هجرانه)[10] .

وقال ابن القيم: (هجر القرآن أنواع

الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة

ما أراد المتكلم به منه) [11] .

ثانياً: ما ورد في السنة في مسألة التدبر:

1 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا

نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن

عنده) [12] .

فالسكينة والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر.

أما واقعنا فهو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها.

2 -

روى حذيفة رضي الله عنه: (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه

وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ) [13] .

فهذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.

3 -

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه

وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها: [إن تعذبهم فإنهم عبادك

وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم] ) [المائدة: 118][14] .

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية

واحدة فقط في ليلة كاملة.

4 -

عن ابن مسعود قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن

حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) [15] .

فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم الصحابة القرآن: تلازم

العلم والمعنى والعمل؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق والعمل به.

5 -

لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم في

قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال: (لا يفقه من قرأ القرآن في

أقل من ثلاث) [16] .

فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود بتلاوته لا مجرد التلاوة.

6 -

وفي الموطأ عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله

عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال: يا فلان! هل أسقطت

في هذه السورة من شيء؟ قال: لا أدري. ثم سأل آخر واثنين وثلاثة كلهم يقول:

لا أدري، حتى قال: ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما يدرون ما تلي منه مما

ترك؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت أبدانهم وغابت

قلوبهم؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه) .

ثالثاً: ما ورد عن السلف في مسألة التدبر:

1 -

روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (تعلم عمر البقرة في اثنتي

عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً) [17] .

وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن؛ فما بقي إلا أنه

التدبر.

2 -

عن ابن عباس قال: (قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل عن الناس

فقال: يا أمير المؤمنين! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، فقلت: والله ما أحب أن

يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة. قال: فزبرني عمر، ثم قال: مه!

فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً؟ قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا: كلٌ يقول الحق عندي -

ومتى يحتقوا يختصموا، ومتى اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، فقال

عمر: لله أبوك! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها) [18] ، وقد وقع ما خشي

منه عمر وابن عباس رضي الله عنهما فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن؛ لكنه لا يجاوز تراقيهم.

3 -

عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كان الفاضل من أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة

ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي

والأعمى ولا يرزقون العمل به. وفي هذا المعنى قال ابن مسعود: إنا صعب علينا

حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن

ويصعب عليهم العمل به) [19] .

4 -

قال الحسن البصري: (إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم

بتأويله، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن

أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله! - أسقطه كله

ما يُرى القرآن له في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في

نَفَسٍ! والله! ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت

القراء مثل هذا؟ لا كثَّر الله في الناس أمثالهم) [20] .

5 -

وقال الحسن أيضاً: (نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته

عملاً [21] . أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به) .

6 -

كان شعبة بن الحجاج بن الورد يقول لأصحاب الحديث: (يا قوم! إنكم

كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة

أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه.

7 -

عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: (لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح

بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثراً) [23] .

8 -

قال ابن القيم: (ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن

وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها

وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز

السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة

والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع

العبر، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما

يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها

ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم

وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.

فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز

له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به

بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً

فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه

بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء

والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره

بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه

كلما فترت عزماته: تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ

الرحيلَ) .

فاعتصم بالله واستعن به وقل: (حسبي الله ونعم الوكيل)[24] .

وحتى نتدبر القرآن فعلينا:

1-

مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة

وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن

والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.

2-

التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة.

3-

الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة.

4-

النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها - معناها - نزولها - غريبها- دلالاتها.

5-

ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته

وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.

6-

العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها.

7-

الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية.

8-

النظرة الكلية الشاملة للقرآن.

9-

الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن.

10-

الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له.

11-

معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه.

12-

الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة.

13-

العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛

فالمعاني تتجدد.

14-

ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة.

15-

التمكن من أساسيات علوم التفسير.

16-

القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد

الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي،

وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل لعبد الرحمن حبنكة الميداني،

وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب [25] .

وبعد: فما درجة أهمية تدبر القرآن في عقولنا؟ وما نسبة التدبر في واقعنا

العملي فيما نقرؤه في المسجد قبل الصلوات؟ وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على

التدبر في حِلَق القرآن؟ أم أن الأهم الحفظ وكفى بلا تدبر ولا فهم؛ لأن التدبر

يؤخر الحفظ؟

ما مقدار التدبر في دروس العلوم الشرعية في المدارس، خاصة دروس

التفسير؟ وهل يربي المعلم طلابه على التدبر، أم على حفظ معاني الكلمات فقط؟

تُرى: ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق العلم في المساجد: هل هي في رأس

القائمة، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً؟

ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ؟

لماذا يكون همُّ أحدنا آخر السورة، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن

ذلك؟

ومتى نقتنع أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر؟ أسئلة تبحث

عن إجابة؛ فهل نجدها لديك؟

(1) حول التربية والتعليم، د عبد الكريم بكار، ص 226.

(2)

نضرة النعيم، ص 909.

(3)

قواعد التدبر الأمثل للميداني، ص 10.

(4)

تفسير ابن كثير، 7/64، ط: طيبة.

(5)

تفسير ابن كثير، 3/364، ط: طيبة.

(6)

تفسير ابن كثير، 1/403.

(7)

فتح القدير، 1/135.

(8)

فتح القدير، 1/104.

(9)

بدائع التفسير، 1/300.

(10)

تفسير ابن كثير 6/108.

(11)

بدائع التفسير 2/292.

(12)

رواه مسلم، ح/2699.

(13)

رواه مسلم، ح /772.

(14)

رواه أحمد، ح /20365.

(15)

رواه الطبري في تفسيره، 1/80.

(16)

رواه الدارمي والترمذي برقم 2870، وصححه ورواه أحمد وأبو داود بلفظ: لم يفقه.

(17)

نزهة الفضلاء، تهذيب سير أعلام النبلاء، 1/35/أ.

(18)

نزهة الفضلاء، تهذيب سير أعلام النبلاء، 1/279.

(19)

الجامع لأحكام القرآن، 1/39-40 وانظر مجلة المجتمع عدد 1216.

(20)

الزهد 276 وانظر مفاتيح للتعامل مع القرآن للخالدي، ص 46.

(21)

مدارج السالكين، 1/485.

(22)

نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء، 2/582.

(23)

الزهد لابن المبارك، 97، وانظر نضرة النعيم، 913.

(24)

مدارج السالكين، ج1، ص 485، 486.

(25)

انظر كتاب مفاتيح للتعامل مع القرآن للخالدي، ص 66.

ص: 20

دراسات في الشريعة والعقيدة

أعياد الكفار وموقف المسلم منها

إبراهيم بن محمد الحقيل

في الحلقة الأولى: تحدث الكاتب عن معرفة المسلم لأعياد الكفار، ثم عرض

لبعض هذه الأعياد عند: الفراعنة، واليونان، والرومان، واليهود، والنصارى.

وفي هذه الحلقة يستكمل بقية الموضوع من خلال عناصره.

- البيان-

تشبه المسلمين بالكفار في أعيادهم:

تعريف التشبه:

الشبه في اللغة المثل، وشابهه وأشبهه: ماثله وتشبه فلان بكذا وتشبه بغيره:

ماثله وجاراه في العمل. والتشبيه: التمثيل. وفي اللغة ألفاظ مقاربة للفظ التشبه،

منها: المماثلة، والمحاكاة والمشاكلة، والاتباع، والموافقة، والتأسي، والتقليد [1] ، ولكل منها معنى يخصه، ولها اشتراك مع لفظ التشبه.

وأما في الاصطلاح فعرّف الغزي الشافعي التشبه بأنه: عبارة عن محاولة

الإنسان أن يكون شبه المتشبه به، وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته وهو عبارة

عن تكلّف ذلك وتقصده وتعمله [2] .

حكم التشبه بالكفار:

إن من الأصول العظيمة التي هي من أصول ديننا الولاء للإسلام وأهله،

والبراءة من الكفر وأهله، ومن مُحتِّمات تلك البراءة من الكفر وأهله تميز المسلم

عن أهل الكفر، واعتزازه بدينه وفخره بإسلامه مهما كانت أحوال الكفار قوة وتقدماً

وحضارة، ومهما كانت أحوال المسلمين ضعفاً وتخلفاً وتفرقاً، ولا يجوز بحال من

الأحوال أن تتخذ قوة الكفار وضعف المسلمين ذريعة لتقليدهم ومسوغاً للتشبه بهم

كما يدعو إلى ذلك المنافقون والمنهزمون؛ ذلك أن النصوص التي حرمت التشبه

بالكفار ونهت عن تقليدهم لم تفرق بين حال الضعف والقوة؛ لأن المسلم باستطاعته

التميز بدينه والفخر بإسلامه حتى في حال ضعفه وتأخره.

والاعتزاز بالإسلام والفخر به دعا إليه ربنا تبارك وتعالى واعتبره من

أحسن القول وأحسن الفخر؛ حيث قال: [ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله

وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين] [فصلت: 33] .

ولأهمية تميز المسلم عن الكافر أُمر المسلم أن يدعو الله - تعالى - في كل

يوم على الأقل سبع عشرة مرة أن يجنبه طريق الكافرين ويهديه الصراط المستقيم:

[اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا

الضالين] [الفاتحة: 6 - 7] ، وجاءت النصوص الكثيرة جداً من الكتاب والسنة

تنهى عن التشبه بهم، وتبين أنهم في ضلال؛ فمن قلدهم فقد قلدهم في ضلالهم.

قال الله - تعالى -: [ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء

الذين لا يعلمون] [الجاثية: 18]، وقال تعالى: [ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما

جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق] [الرعد: 37] وقال تعالى:

[ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات][آل عمران: 105]

ويدعو الله - تعالى - المؤمنين إلى الخشوع عند ذكره - سبحانه - وتلاوة آياته،

ثم يقول: [ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم

وكثير منهم فاسقون] [الحديد: 16] .

وما من شك أن مشابهتهم من أعظم الدلائل على مودتهم ومحبتهم، وهذا

يناقض البراءة من الكفر وأهله، والله - تعالى - نهى المؤمنين عن مودتهم

وموالاتهم، وجعل موالاتهم سبباً لأن يكون المرء - والعياذ بالله - منهم؛ يقول

الله - تعالى -: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم][المائدة: 51]، وقال - تعالى -:[لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم][المجادلة: 22] ، يقول شيخ الإسلام ابن

تيمية - رحمه الله تعالى -: (المشابهة تورث المودة والمحبة والموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر)[3]، وقال - أيضاً - تعليقاً على آية المجادلة: فأخبر - سبحانه - أنه لا يوجد مؤمن يواد كافراً؛ فمن واد الكفار فليس بمؤمن؛ والمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة [4]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من تشبه بقوم فهو منهم)[5] .

قال شيخ الإسلام: (وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم

وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى: [ومن يتولهم منكم

فإنه منهم] ) [المائدة: 51][6] .

وقال الصنعاني: (فإذا تشبه بالكافر في زيٍّ واعتقد أن يكون بذلك مثله كَفَر،

فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال يكفر، وهو ظاهر الحديث،

ومنهم من قال: لا يكفر؛ ولكن يؤدب) [7] .

ويذكر شيخ الإسلام: (أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر

والمعاصي التشبه بالكافرين، كما أن أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء

وشرائعهم) [8] .

والحديث عن التشبه بالكفار يطول؛ ولعل فيما سبق إيراده من نصوص

ونُقُول يفي بالغرض المقصود.

صور التشبه بالكفار في أعيادهم:

للكفار على اختلاف مللهم ونحلهم أعياد متنوعة: منها ما هو ديني - من

أساس دينهم أو مما أحدثوه فيه - وكثير من أعيادهم ما هو إلا من قبيل العادات

والمناسبات التي أحدثوا الأعياد من أجلها، كالأعياد القومية ونحوها، ويمكن حصر

أنواع أعيادهم فيما يلي:

أولاً: الأعياد الدينية التي يتقربون بها إلى الله - تعالى - كعيد الغطاس

والفصح والفطير، وعيد ميلاد المسيح عليه السلام ونحوها، ومشابهة المسلم

لهم فيها تكون من وجهين:

1 -

مشاركتهم في تلك الأعياد، كما لو احتفلت بعض الطوائف والأقليات

غير المسلمة في بلاد المسلمين بعيدها فشاركهم فيها بعض المسلمين، كما حدث في

وقت شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي، وهو ما يحدث الآن في كثير من بلاد

المسلمين، وأقبح منه ما يفعله بعض المسلمين من السفر إلى بلاد الكفار بقصد

حضور تلك الأعياد والمشاركة في احتفالاتها، سواء أكانت دوافع هذا الحضور

شهوانية أم كانت من قبيل إجابة دعوة بعض الكفار كما يفعله بعض المسلمين

الحالِّين في بلاد الكفار من إجابة تلك الدعوات الاحتفالية بأعيادهم، وكما يفعله

بعض أصحاب رؤوس الأموال ومُلاك بعض الشركات الكبرى من إجابة تلك

الدعوات مجاملة لأصحاب الدعوة أو لمصلحة دنيوية؛ كعقد صفقات تجارية، ونحو

ذلك؛ فهذا كله محرم ويخشى أن يؤدي إلى الكفر لحديث (من تشبه بقوم فهو منهم)

وفاعل ذلك قصد المشاركة فيما هو من شعائر دينهم.

2 -

نقل احتفالاتهم إلى بلاد المسلمين؛ فمن حضر أعياد الكفار في بلادهم

وأعجبته احتفالاتهم مع جهله وضعف إيمانه وقلة علمه، فقد يجعله ذلك ينقل شيئاً

من تلك الأعياد والشعائر إلى بلاد المسلمين كما يحصل الآن في أكثر بلاد المسلمين

من الاحتفال برأس السنة الميلادية، وهذا الصنف أقبح من الصنف السابق من وجه

وهو نقل هذه الأعياد إلى بلاد المسلمين؛ حيث لم يكتف أصحابه بمشاركة الكفار

في شعائرهم؛ بل يريدون نقلها إلى بلاد المسلمين.

ثانياً: الأعياد التي كان أصلها من شعائر الكفار، ثم تحولت إلى عادات

واحتفالات عالمية وذلك مثل الأعياد الأولمبية عند اليونان (الأولمبياد) حيث تظهر

في هذا العصر على أنها مجرد تظاهرات رياضية عالمية، والمشاركة فيها تكون

على وجهين أيضاً:

1 -

حضور تنظيماتها ومراسمها وشعائرها في بلاد الكفار كما تفعله كثير من

الدول الإسلامية من إيفاد وفود رياضية للمشاركة في ألعابها المختلفة.

2 -

نقل هذه الأعياد إلى بلاد المسلمين كما لو طلبت بعض الدول الإسلامية

تنظيم الألعاب الأولمبية في بلاد المسلمين.

وكلا الأمرين: المشاركة فيها، أو تنظيمها محرم في بلاد المسلمين لما يلي:

أ- أن أصل هذه الألعاب الأولمبية عيد وثني من أعياد اليونان كما سبق ذكره، وهو أهم وأعظم عيد عند الأمة اليونانية، ثم ورثه عنهم الرومان، ثم النصارى.

ب - أنها تحمل الاسم ذاته الذي عرفت به لما كانت عيداً لليونان.

وكونها تحولت إلى مجرد ألعاب رياضية لا يلغي كونها عيداً وثنياً؛ باعتبار

أصلها واسمها؛ والدليل على ذلك ما رواه ثابت بن الضحاك رضي الله عنه

قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة،

فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي

صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا،

قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوفِ بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن

آدم) [9] .

فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الأصل، وأصل هذه الدورة الرياضية عيد.

قال شيخ الإسلام: (وهذا يقتضي أن كون البقعة مكاناً لعيدهم مانع من الذبح

بها وإن نذر، كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك، وإلا لما انتظم الكلام وحسن

الاستفصال، ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو

لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها، ونحو ذلك؛ إذ ليس إلا

مكان الفعل أو الفعل نفسه أو زمانه

، وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذوراً

فكيف عيدهم نفسه؟) [10] .

ومسألتنا هنا في عيد الأولمبياد ليست في زمان العيد أو مكانه، بل هو العيد

عينه على أصل تسميته وما يجري فيه من أعمال، كإشعال الشعلة الأولمبية، وهي

شعار العيد، وهو زمانه أيضاً؛ لأنه عند اليونان يقام كل أربع سنوات، وكذلك هو

الآن يقام كل أربع سنوات؛ فهو عيد بأصله وتسميته وأعماله وزمانه؛ فالاشتراك

فيه اشتراك في عيد وثني ثم نصراني، وطلب تنظيم تلك الألعاب الأولمبية في بلاد

المسلمين هو نقل لذلك العيد الوثني إلى بلاد المسلمين.

ثالثاً: الأيام والأسابيع التي ابتدعها الكفار وهي على قسمين:

1 -

ما كان له أصل ديني عندهم ثم تحول إلى عادة يرتبط بها مصلحة

دنيوية، وذلك مثل عيد العمال الذي أحدثه عُبَّاد الشجر، ثم صار عيداً وثنياً عند

الرومان، ثم انتقل إلى الفرنسيين وارتبط بالكنيسة إلى أن جاءت الاشتراكية فنادت

به، وأصبح عالمياً ورسمياً حتى في كثير من الدول الإسلامية؛ فلا شك في حرمة

اتخاذه عيداً وتعطيل الأعمال فيه لما يلي:

أ - كونه عيداً دينياً وثنياً في أصل نشأته.

ب - ثبوته في يوم من السنة معلوم وهو الأول من مايو.

ج - علة التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم.

2 -

أن لا يكون له أصل ديني، كيوم الصحة العالمي؛ ويوم مكافحة

المخدرات، ويوم محو الأمية، ونحوها من الأيام والأسابيع المحدثة؛ فلا يخلو

حينئذ من أحد حالين:

أ - أن يكون يوماً أو أسبوعاً ثابتاً معلوماً من السنة للعالم كله، يعود إذا عاد

ذلك اليوم بعينه وذلك كعيد البنوك وما شابهه من الأيام الثابتة وهذا فيه علتان:

كونه ثابتاً يعود كلما عاد ذلك اليوم بعينه.

علة التشبه بالكفار؛ حيث هو من إحداثهم.

وهل يتسامح في الأيام التنظيمية العالمية التي فيها خير للإنسانية كلها، ولا

مفر للمسلمين من مشاركة العالم فيها؛ إذ لهم مصالح تفوت بعدم المشاركة كيوم

الصحة العالمي ويوم مكافحة المخدرات، وهي ليست من باب الديانات بل هي من

قبيل التنظيمات وإن أخذت صفات العيد في كونها تعود كل عام وفي كونها محل

احتفال واحتفاء؟ هذا فيما يظهر لي محل بحث واجتهاد تُقَدَّر فيه المصالح والمفاسد؛ إذ لا مشورة للمسلمين فيها ولا اعتبار لرأيهم؛ بل هي مفروضة على العالم كله،

والمسلمون من الضعف والذلة بما يُعلم.

ب - أن لا يكون يوماً أو أسبوعاً ثابتاً في السنة وإنما متنقل حسب تنظيم

معين أو مصلحة ما، فهذا انتفت عنه علة العيد وهي العَوْد في يوم محدد، ولكن

بقيت فيه علة التشبه فيما إذا كان مبتدعه الكفار ثم نقله عنهم المسلمون، فهل ذلك

من التشبه المحرم؟ أم هو من التشبه الحلال فيكون كسائر التنظيمات الإدارية

ونحوها وكأيام الجرد السنوية بالنسبة للشركات والمؤسسات ونحوها؟ هذا أيضاً

محل بحث ونظر، وإن كان الظاهر لي ابتداءاً أنه لا بأس بها لما يلي:

- عدم ثباتها في أيام معينة تعود كلما عادت؛ فانتفت عنها صفة العيد.

- أنها لا تسمى أعياداً ولا تأخذ صفة الأعياد من حيث الاحتفال ونحوه.

- أن الهدف منها تنظيم حملات توعية وإرشاد لتحقيق أهداف نافعة.

- أنه يلزم من منعها منع كثير من التنظيمات والاجتماعات التي تعود بين

حين وآخر، ولا أظن أحداً يقول بهذا؛ وذلك مثل الاجتماعات الأسرية والدعوية

والوظيفية ونحوها.

- ليس فيها علة تحرمها إلا كون أصلها من الكفار وانتقلت إلى المسلمين،

وعَمَّت بها البلوى وانتشرت عند الكفار وغيرهم، فانتفت عنها خصوصية الكفار

بها بانتشارها بين المسلمين.

والخلاصة: أنها ليست من دين الكفار ومعتقداتهم، وليست من خصائص

عاداتهم وأعرافهم، ولا تعظيم فيها ولا احتفال، وليست أعياداً في أيام معلومة تعود

كلما عادت فأشبهت سائر التنظيمات على ما فيها من مصلحة راجحة.

رابعاً: من صور التشبه بالكفار قلب أعياد المسلمين إلى ما يشبه أعياد الكفار: فإن أعياد المسلمين تميزت بكون شعائرها تدل على شكر الله - تعالى - وتعظيمه

وحمده وطاعته، مع الفرح بنعمة الله - تعالى - وعدم تسخير هذه النعمة في

المعصية، وعلى العكس من ذلك أعياد الكفار فإنها تميزت بأنها تعظيم لشعائرهم

الباطلة وأوثانهم التي يعبدونها من دون الله - تعالى - مع الانغماس في الشهوات

المحرمة، ومع بالغ الأسف فإن المسلمين في كثير من الأقطار تشبهوا بالكفار في

ذلك، فقلبوا مواسم عيدهم من مواسم طاعة وشكر إلى مواسم معصية وكفر للنعمة

وذلك بإحياء ليالي العيدين بالمعازف والغناء والفجور وإقامة الحفلات المختلطة وما

إلى ذلك مما يعبرون به عن بهجة العيد، على غرار ما يفعله الكفار في أعيادهم من

فجور ومعصية.

وجوب اجتناب أعياد الكفار:

أ - اجتناب حضورها:

اتفق أهل العلم على تحريم حضور أعياد الكفار والتشبه بهم فيها؛ وهو

مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة [11] لأدلة كثيرة جداً منها:

1 -

جميع الأدلة الواردة في النهي عن التشبه وقد سبق ذكر طرف منها.

2 -

الإجماع المنعقد في عهد الصحابة والتابعين على عدم حضورها؛ ودليل

الإجماع من وجهين:

أ - أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية

يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس، ثم

لم يكن على عهد السابقين من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك، فلولا قيام

المانع في نفوس الأمة كراهة ونهياً عن ذلك لوقع ذلك كثيراً؛ إذ الفعل مع وجود

مقتضيه وعدم منافيه واقعٌ لا محالة، والمقتضي واقع، فعلم وجود المانع؛ والمانع

هنا هو الدين، فعلم أن الدين - دين الإسلام - هو المانع من الموافقة وهو

المطلوب [12] .

ب - ما جاء في شروط عمر رضي الله عنه التي اتفق عليها الصحابة

وسائر الفقهاء بعدهم أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار

الإسلام: فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها فكيف يسوغ للمسلمين

فعلها؛ أوَ ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهراً لها؟ [13] .

3 -

قول عمر رضي الله عنه: (لا تَعَلَّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا

على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم؛ فإن السخطة تنزل عليهم) [14] .

4 -

قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (من بنى ببلاد الأعاجم

فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم

القيامة) [15] .

قال شيخ الإسلام: وهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة

عليهم يوم عيدهم؛ فكيف بفعل بعض أفعالهم، أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟

أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟ أوَ ليس عمل بعض أعمال

عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟ وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم

عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه؛ أليس قد تعرض لعقوبة

ذلك؟ [16] .

وعلق على قول عبد الله بن عمرو: (حشر معهم) فقال: وهذا يقتضي أنه

جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار

وإن كان الأول ظاهر لفظه [17] .

ب - اجتناب موافقتهم في أفعالهم:

قد لا يتسنى لبعض المسلمين حضور أعياد الكفار لكنه يفعل مثل ما يفعلون

فيها، وهذا من التشبه المذموم المحرم. قال شيخ الإسلام: (لا يحل للمسلمين أن

يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا

إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك، ولا يحل فعل وليمة

ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان

ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة. وبالجملة: ليس لهم أن

يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر

الأيام) [18] .

وقال الذهبي: (فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا

يشركهم فيه مسلم، كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم) [19] .

وذكر ابن التركماني الحنفي جملة مما يفعله بعض المسلمين في أعياد

النصارى من توسع النفقة وإخراج العيال، ثم قال عقب ذلك: (قال بعض علماء

الحنفية: من فعل ما تقدم ذكره ولم يتب فهو كافر مثلهم، وقال بعض أصحاب مالك: من كسر يوم النيروز بطيخة فكأنما ذبح خنزيراً) [20] .

ج - اجتناب المراكب التي يركبونها لحضور أعيادهم:

قال مالك: (يكره الركوب معهم في السفن التي يركبونها لأجل أعيادهم

لنزول السخطة واللعنة عليهم) [21] .

وسئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى

أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخطة عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه [22] .

د - عدم الإهداء لهم أو إعانتهم على عيدهم ببيع أو شراء:

قال أبو حفص الحنفي: (من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد

كفر بالله - تعالى -) [23] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكره ابن القاسم للمسلم يهدي للنصارى شيئاً

في عيدهم مكافأة لهم، ورآه من تعظيم عيدهم وعوناً لهم على مصلحة كفرهم؛ ألا

ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئاً من مصلحة عيدهم؟ لا لحماً

ولا إداماً ولا ثوباً ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيءٍ من عيدهم؛ لأن ذلك من

تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن

ذلك، وهو قول مالك وغيره: لم أعلمه اختلف فيه) [24] .

وقال ابن التركماني: (فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح وطبخ

وإعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم) [25] .

هـ - عدم إعانة المسلم المتشبه بهم في عيدهم على تشبهه:

قال شيخ الإسلام: (وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يعان المسلم المتشبه

بهم في ذلك؛ بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب

دعوته، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر

الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته؛ خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها

على التشبه بهم كما ذكرناه، ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم

في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك؛ لأن في ذلك إعانة على المنكر) [26] .

هـ - عدم تهنئتهم بعيدهم:

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به

فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ

بهذا العيد ونحوه؛ فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن

يهنئه بسجوده للصليب؛ بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب

الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرْج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده

يقع في ذلك، وهو لا يدري قبح ما فعل. فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر

فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة

الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنباً لمقت الله

وسقوطهم من عينه) . ا. هـ[27] .

وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن

القيم؛ لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضى به لهم، وإن كان هو

لا يرضى بهذا الكفر لنفسه؛ لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو

يهنئ بها غيره؛ لأن الله - تعالى - لا يرضى بذلك كما قال - تعالى -: [إن

تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم]

[الزمر: 7] وقال - تعالى -: [اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي

ورضيت لكم الإسلام دينا] [المائدة: 3] وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا

مشاركين للشخص في العمل أم لا، وإذا هنؤونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك؛

لأنها ليست بأعياد لنا ولأنها أعياد لا يرضاها الله - تعالى - لأنها إما مبتدعة في

دينهم وإما مشروعة؛ لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله

عليه وسلم إلى جميع الخلق، وقال فيه: [ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل

منه وهو في الآخرة من الخاسرين] [آل عمران: 85] ، وإجابة المسلم دعوتهم

بهذه المناسبة حرام؛ لأن هذا أعظم من تهنئتهم به لما في ذلك من مشاركتهم فيها،

ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة أو تودداً أو حياءاً أو لغير ذلك من

الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم

بدينهم [28] .

مسألة: لو أراد المسلم أن يحتفل مثل احتفالهم لكنه قدّم ذلك أو أخره عن أيام

عيدهم فراراً من المشابهة؟

هذا نوع من التشبه وهو حرام؛ لأن حريم الشيء يدخل فيه، وحريم العيد ما

قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون فيها أشياء لأجله أو ما حوله من الأمكنة التي

يحدث فيها أشياء لأجله، أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال حكمها حكمه فلا

يفعل شيء من ذلك؛ فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم

كيوم الخميس [29] والميلاد، ويقول لعياله: إنما أصنع لكم هذا في الأسبوع أو

الشهر الآخر وإنما المحرك على إحداث ذلك وجود عيدهم ولولا هو لم يقتضوا ذلك، فهذا أيضاً من مقتضيات المشابهة [30] .

هـ - اجتناب استعمال تسمياتهم ومصطلحاتهم التعبدية:

إذا كانت الرطانة لغير حاجة مما يُنهى عنه لعلة التشبه بهم فاستخدام تسميات

أعيادهم أو مصطلحات شعائرهم مما هو أوْلى في النهي عنه، وذلك مثل استخدام

لفظ (المهرجان) على كل تجمع كبير وهو اسم لعيد ديني عند الفرس.

فقد روى البيهقي: (أن علياً رضي الله عنه أُتي بهدية النيروز، فقال:

ما هذه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! هذا يوم النيروز، قال: فاصنعوا كل يوم

فيروزاً، قال أبو أسامة: كره رضي الله عنه أن يقول: نيروزاً) [31] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما علي رضي الله عنه فكره موافقتهم

في اسم يوم العيد الذي ينفردون به، فكيف بموافقتهم في العمل) [32] . وقد مضى

بيان أن هذا اللفظ ليس بعربي، وفي العربية ما يغني عنه وما هو خير منه.

و حكم قبول هديتهم في أعيادهم:

تقرر سابقاً أن الإهداء لهم في عيدهم لا يجوز؛ لأنه من إعانتهم على باطلهم، وأيضاً عدم جواز هدية المسلم المتشبه بهم في عيدهم؛ لأن قبولها إعانة له في

تشبهه وإقرارٌ له وعدمُ إنكارٍ عليه الوقوع في هذا الفعل المحرم.

وأما قبول هدية الكافر إذا أهدى للمسلم في وقت عيد الكافر فهو مثل الهدية في

غيره؛ لأنه ليس فيه إعانة على كفرهم، والمسألة فيها خلاف وتفصيل ينبني على

مسألة قبول هدية الكافر الحربي والذمي.

علماً بأن هديتهم على نوعين:

1 -

ما كان من غير اللحوم التي ذبحت لأجل عيدهم كالحلوى والفاكهة

ونحوها فهذا فيه الخلاف المبني على مسألة قبول هدية الكافر عموماً، والظاهر

الجواز، لما مضى أن علياً رضي الله عنه قبلها، ولما ورد أن امرأة سألت

عائشة رضي الله عنها قالت: (إن لنا أطياراً من المجوس؛ وإنه يكون لهم

في العيد فيهدون لنا، فقالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا، ولكن كلوا من

أشجارهم) [33] .

وعن أبي برزة رضي الله عنه: (أنه كان له سكان مجوس، فكانوا

يهدون له في النيروز والمهرجان، فكان يقول لأهله: ما كان من فاكهة فكلوه، وما

كان غير ذلك فردوه) [34] .

قال شيخ الإسلام: (فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول

هديتهم؛ بل حكمها في العيد وغيره سواء؛ لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر

كفرهم) [35] .

2 -

أن تكون هديتهم من اللحوم المذبوحة لأجل عيدهم فلا يأكل منها؛ لأثَرَيْ

عائشة وأبي برزة السابق ذكرهما، ولأنه ذبح على شعائر الكفر.

ز - تخصيص أعياد الكفار بالصيام مخالفة لهم:

اختلف العلماء في ذلك:

1 -

فقيل بعدم كراهة صيام أعيادهم لأجل مخالفتهم وهذا ضعيف.

2 -

والصواب عدم جواز تخصيص أعيادهم بالصيام؛ لأن أعيادهم موضع

تعظيمهم فتخصيصها بالصيام دون غيرها موافقة لهم في تعظيمها.

قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: (وقال أصحابنا: ويُكره إفراد يوم

النيروز ويوم المهرجان بالصوم؛ لأنهما يومان يعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما

بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكُرِهَ كيوم السبت؛ وعلى قياس هذا

كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم) [36] .

(وهذا الحكم فيما إذا قصد تخصيصه بالصوم؛ لأنه عيدهم. أما لو وافق

نذراً أو صيام تطوع أو نحوه من دون قصد موافقة عيدهم فلا بأس به) [37] .

وضابط مخالفتهم في أعيادهم: أن لا يُحدِث فيها أمراً أصلاً، بل يجعل أيام

أعيادهم كسائر الأيام [38] ، فلا يعطل فيها عن العمل، ولا يفرح بها ولا يخصها

بصيام أو حزن أو غير ذلك.

وذكر شيخ الإسلام ما يمكن أن يضبط به التشبه فقال - رحمه الله تعالى -:

(والتشبه: يعم مَن فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه، وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل

لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير، فأما من فعل الشيء

واتفق أن الغير فعله أيضاً، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه؛ ففي كون هذا تشبهاً

نظر، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من

المخالفة) [39] .

وبناءاً على ما ذكره شيخ الإسلام فإن موافقتهم فيما يفعلون على قسمين:

1 -

تشبه بهم وهو ما كان للمتشبه فيه قصد التشبه لأي غرض كان وهو

المحرم.

2 -

مشابهة لهم وهي ما تكون بلا قصد، لكن يُبين لصاحبها وينكر عليه،

فإن انتهى وإلا وقع في التشبه المحرم، قال عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي

الله عنهما -: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال:

(إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها) وفي رواية فقال: (أأمك أمرتك بهذا؟) قلت:

أغسلهما؟ قال: (بل احرقهما)[40] .

قال القرطبي: (يدل على أن علة النهي عن لبسهما التشبه بالكفار)[41] .

فظاهر الحديث أن عبد الله رضي الله عنه لم يعلم بأنه يشبه لباس الكفار، ومع ذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وبيّن له الحكم الشرعي في ذلك.

هذا إذا كان أصل الشيء من الكفار، أما إذا لم يعلم أنه من أصلهم؛ بل

يفعلونه ويفعله غيرهم، فكأنه لا يكون تشبهاً؛ لكن يرى شيخ الإسلام ابن تيمية

النهي عنه سداً للذريعة وحماية للمسلم من الوقوع في التشبه، ولما فيه من قصد

مخالفتهم.

المنافقون وأعياد الكفار:

1 -

طالب حزب البعث الاشتراكي في إحدى الدول العربية بإلغاء الأضحية

بحجة الجوع والجفاف، ووضع دعاته لافتة كبيرة مكتوباً عليها: من أجل الجوعى

والفقراء والعراة تبرع بقيمة خروف الأضحية [42] ، ومضى عيد الأضحى بسلام

وضحى المسلمون في ذلك البلد، ثم لما أزف عيد الميلاد وعيد رأس السنة بدأت

الاستعدادات للاحتفالات، ثم جاء الميلاد ورأس السنة فكانت العطلات الرسمية في

ذلك البلد والحفلات الباهظة والسهرات الماجنة، وفي مقدمة المحتفلين قادة حزب

البعث الاشتراكي الذين أنستهم الفرحة بأعياد النصارى ومجونها حال الجوعى

والفقراء والعراة؛ فهم لا يتذكرون أحوالهم إلا في أعياد المسلمين! !

2 -

كتب أحدهم في زاويته الأسبوعية تحت عنوان (تسامح)[43] كلاماً

ينبئ عن مرض قلبه وضعف دينه، وهذا التسامح الذي يريده كان بمناسبة عيدي

الميلاد ورأس السنة النصرانييْن فكان مما قال هذا المتفيقه المتحذلق: (فهذه الأخوة

الإنسانية تعم البشر جميعاً ولا تكون التفرقة والمعاداة إلا عند الاقتتال وحين يناوئ

جماعة المسلمين جماعة أخرى عندئذ تكون المقاتلة والعداوة للدفاع المشروع عن

النفس رغم أن بعض المتشددين والجماعات الإرهابية تحاول إطفاء هذا الوهج

بإشاعة تفاسير وآراء تحض على الكراهية بين البشر ومقاطعة العالم، يضجون بها

في المناسبات العامة التي يحتفي بها العالم جميعه ويعتبرون تهنئة الآخرين بها

جنوحاً عن الإسلام؛ والصواب - لعمري - هو إشاعة المحبة لا البغض والتقريب

لا التنفير) ويمضي الكاتب في سلسلته التسامحية المتميعة المنهزمة والتي امتدت

على ثلاث حلقات لتغطي جميع أيام العيدين النصرانيين الذي أشرب قلبه حبهما

فيقول في الثانية منهما: (فالأصل هو البر أي التسامح والعدل؛ أما العداوة فهي

على الذين أعلنوا القتال علينا. أما الاختلاف في الأديان فالأمر فيه لعدل الله

ورحمته يوم القيامة، والقول بأن ذلك التسامح موالاة لغير المسلمين فقد ردّ عليه

العلماء بقولهم: إن الممنوع هو موالاة المحاربين للمسلمين في حرب معلنة فيكون

حينئذ خيانة عظمى، ولا يحل للمسلم حينذاك مناصرتهم واتخاذهم بطانة يفضي

إليهم بالأسرار) .

فهل هذا الكلام إلا عين الضلال، والشك في الإسلام، وتصحيح كفر الكفار؟ ! والعياذ بالله من ذلك.

ثم في حلقته الثالثة يكيل التهم الرخيصة المستهلكة من الإرهاب والتطرف

وسفك الدماء على كل من لم يوافقه على فقهه الصحفي، كما هي عادة هذه الذئاب

المتفرنجة في افتتاحيات مقالاتهم وخاتمتها.

وما كنت أظن أن الحال بالأمة سيصل إلى هذا الحد المخزي، ولا أن التبعية

والانهزام سيصير إلى هذا الأثر المخجل، ولكن ماذا كنا نتوقع ما دام أن كثيراً من

المنابر الإعلامية والصحفية يتربع عليها أمثال هؤلاء الموتورين المهووسين، وإلى

الله المشتكى من أمة يقرر ولاءَها وبراءها ويرسم طريقها ومنهجها عبر الإعلام

والصحافة أناسٌ ما تخرجوا إلا من الملاحق الفنية والرياضية، جلُّ ثقافتهم أسماء

الممثلات والمغنيات والراقصات والرياضيين.

ثم يا ترى ماذا سيكتبون بعد أسابيع عن احتفالات نهاية الألفية الميلادية الثانية

التي توشك على الانتهاء؟ !

إنهم وكالمعتاد سيدعون جماهير المسلمين إلى المشاركة فيها حتى لا يتهم

الإسلام بالرجعية والظلامية، ولكي يثبتوا للعالم أنهم متحضرون بما فيه الكفاية حتى

يرضى عنهم عباد الصليب وعباد العجل، والويل ثم الويل لمن أنكر مشاركة

المسلمين في تلك الاحتفالات العالمية الألفية، إنه سيتهم بالأصولية والتطرف

والإرهاب وسفك الدماء.

ولن تعدم من منهزميهم فتاوى معممة جاهزة بجواز المشاركة، يتلقفها

صحفيون يكذبون عليها ألف كذبة لإقناع المسلمين أن الإسلام بلغ من تسامحه

وأريحيته إجازة المشاركة في شعائر الكفر؛ حتى لا نجرح مشاعر الكفار، ونكدر

عليهم صفو احتفالاتهم التي كانت خاتمة لقرن شهد دماءاً إسلامية غزيرة نزفت في

أرجاء المعمورة بأيدي اليهود والنصارى في حروب عقائدية دينية غير متكافئة،

وما أنباء كوسوفا عن تلك الاحتفالات ببعيدة؛ إذ هي في آخر عام من تلك الألفية

النصرانية المتسامحة! !

(1) انظر مادة (شبه) في القاموس (1610) ومعجم مقاييس اللغة (3/ 243) واللسان (13/503) .

(2)

انظر: التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي، لجميل اللويحق (32-34) .

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم (1/488) .

(4)

المصدر السابق (1/490) .

(5)

أخرجه أبو داود في اللباس (4021) وأحمد (2/50) وجود إسناده شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/240) وانظر الفتاوى (25/331) وعضده الحافظ في الفتح بمرسل حسن الإسناد (6/98) وحسنه السيوطي وصححه الألباني في صحيح الجامع (6025) .

(6)

الاقتضاء (1/237) .

(7)

سبل السلام (8/248) .

(8)

الاقتضاء (1/314) دروس الدين: اختفاء معالمه.

(9)

أخرجه أبو داود في الإيمان والنذور (3313) وفي رواية أخرى أن السائلة امرأة (3312) وأخرجه الطبراني في الكبير (1341) قال شيخ الإسلام: وهذا الإسناد على شرط الصحيحين وإسناده كلهم ثقات مشاهير وهو متصل بلا عنعنة، انظر الاقتضاء (1/436) وصححه الحافظ في البلوغ (1405) .

(10)

الاقتضاء (1/433) .

(11)

انظر الاقتضاء (2/524) وأحكام أهل الذمة لابن القيم (2/722- 725) والتشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي (335) .

(12)

الاقتضاء (1/454) .

(13)

المصدر السابق (1/454) .

(14)

مصنف عبد الرازق (1609) والسنن الكبرى للبيهقي (9/234) .

(15)

السنن الكبرى (9/234) وصححه ابن تيمية في الاقتضاء (1/ 457) .

(16)

الاقتضاء (1/458) .

(17)

الاقتضاء (1/459) .

(18)

مجموع الفتاوى (25/329) .

(19)

تشبيه الخسيس بأهل الخميس، ضمن مجلة الحكمة، عدد (4) ، ص 193.

(20)

اللمع في الحوادث والبدع (1/294) .

(21)

السابق.

(22)

الاقتضاء (2/526) .

(23)

فتح الباري بابن حجر العسقلاني (2/513) .

(24)

الاقتضاء (2/526-527) .

(25)

اللمع في الحوادث (1/294) .

(26)

الاقتضاء (2/519 - 520) .

(27)

أحكام أهل الذمة (1/441-442) .

(28)

مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد العثيمين - جمع وترتيب فهد السلمان (3/45-46) .

(29)

المقصود بالخميس هنا خميس العهد أو الصعود وهو من ضمن شعائر عيد القيامة (الفصح) عند النصارى ويسمونه الخميس الكبير.

(30)

انظر: الاقتضاء (2/513) .

(31)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/235) .

(32)

انظر: الاقتضاء (1/459) .

(33)

أخرجه ابن أبي شيبه في كتاب الأطعمة من مصنفه (5/125) برقم.

(24361)

وفي الاقتضاء (إن لنا آظارا) وهو جمع ظئر قال محقق الاقتضاء: ولعل المقصود به الأقارب من الرضاعة.

(34)

المصدر السابق برقم (24362) .

(35)

الاقتضاء (2/554-555) .

(36)

المغني (4/429) وانظر الاقتضاء (2/579) .

(37)

انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع (3/460) .

(38)

انظر: الاقتضاء (2/518) .

(39)

الاقتضاء (1/242) .

(40)

أخرج الروايتين مسلم في اللباس والزينة (2077) .

(41)

المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (5/399) .

(42)

انظر مجلة الاستجابة عدد (4) ربيع الثاني 1406هـ.

(43)

انظر صحيفة عكاظ (28/8/1418هـ)(5/9/1418هـ)(12/9/1418 هـ) .

ص: 24