المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صناعة القرار السياسي الأمريكيعرض - مجلة البيان - جـ ١٤٤

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌صناعة القرار السياسي الأمريكيعرض

قراءة في كتاب

‌صناعة القرار السياسي الأمريكي

عرض

وتلخيص: حسن الرشيدي

(دعونا ألَاّ ننشر غسيلنا القذر) .

بهذه الكلمات المريرة ختم المتحدث باسم البيت الأبيض الأمريكي تصريحاته

إلى الصحفيين، وكان يرد على سؤال وُجِّه إليه عن التناقض في تصرفات الإدارة

الأمريكية حينما أعلنت عن عودة الدبلوماسيين الأمريكيين إلى السفارة الأمريكية في

الخرطوم، وبعد 24 ساعة عادت الإدارة لتتراجع عن كلامها السابق مما حدا بكثير

من المراقبين إلى إرجاع ذلك إلى اختلاف وجهات نظر المسؤولين عن صناعة

القرار داخل دوائر السياسة الأمريكية، وهو الأمر الذي جعل وزير خارجية

السودان يصرح قائلاً: إن مستوى صناعة القرار في الولايات المتحدة قد تدنى إلى

أقل درجة.

إنه منذ عام 1945م لم يعد القرار السياسي الأمريكي شأناً داخلياً خاصاً

بأمريكا فقط؛ إذ امتد ليشمل دول العالم خاصة بعد الحرب الباردة وانتهاء معادلة

القطبين ليسود ما يعرف بالقطب الواحد؛ وهو أيضاً قرار غير محايد؛ فهو يعتمد

مبدأ أساساً هو المصلحة العليا للولايات المتحدة على حساب كل دول العالم وشعوبها؛ بل إن الولايات المتحدة قد تسلمت الراية: راية الصليب؛ لتقود الحملة الصليبية

الجديدة على عالمنا الإسلامي، ولذلك تَحَتَّم دراسة هذا القرار ليس من الخارج ولكن

من الداخل، أي: دراسة صنع القرار وليس القرار نفسه، وهو ما يعني الحركة

التي تتحكم بخلفية السياسة التي تقود إلى إصدار هذا القرار.

ومن هنا جاءت دراسة منصف السليمي (صناعة القرار السياسي الأمريكي)

وهي في الأصل رسالة نال بها المؤلف درجة دبلوم الدراسات العليا ومنحتها له لجنة

مكونة من أربعة أساتذة وفقهاء مرموقين بحقول معرفية متعددة.

يقول المؤلف: ولقد تطلبت هذه الدراسة نَفَساً طويلاً؛ لأننا توخينا تجاوز

الحالة الساكنة للمؤسسات والهيئات التي تشارك في صناعة القرارات وإن كانت هي

الوعاء الذي تجري داخله العملية بحثاً عن السياقات التي تجري فيها العلاقات

والاتصالات بين المؤسسات والأشخاص، وهي مسألة حفتها مصاعب وحواجز

معرفية وأخرى منهجية جمة لا تقل عن تعقيد الشروط الموضوعية والتاريخية

والنفسية التي تشكل بيئة القرار السياسي، ولا عن الغموض والسرية المقصودة

وغير المقصودة التي تحيط بعمل المؤسسات والأشخاص والاتصالات.

اعتمد المؤلف المستويات الآتية في بحثه:

يركز الباب التمهيدي من هذا الكتاب على تعقب الإنجازات التي تحققت حول

الموضوع في مختلف حقول المعرفة ومتابعتها: الفكر السياسي، والأنتروبولوجيا.

وخصص الباب الأول لرصد حصيلة إنجازات العلوم الحديثة بفروعها

الاجتماعية والقانونية، وأخيراً علم السياسة، كما يتضمن محاولات نقدية لهذه

الإنجازات.

وفي الباب الثاني يعرض المؤلف السياقين: التاريخي، والنظري لعملية

صناعة القرار السياسي في الولايات المتحدة ليؤسس عليهما في الباب الثالث اجتهاده

في تحليل الكيفية التي يجري بها صناعة القرار السياسي متسلحاً بأسلحة البحث

السابقة.

وسوف نقوم بعرض تلخيص للباب الثالث الذي هو لب البحث وغايته:

في هذا الباب يحاول الكاتب توظيف الحصيلة النظرية التي استفاد بها في

البابين الأول والثاني لدراسة مظاهر صناعة القرار الأمريكي، فيقول: ضمن

السياق التاريخي والمجتمعي الذي يميز العملية السياسية الأمريكية يمكن فهم صناعة

القرار السياسي؛ فهي نظام مركب من جملة الأدوار السياسية التي تقوم بها البنيات

الدستورية والسياسية من أجل إيجاد حلول للقضايا السياسية.

ثم يطرح الباحث السؤال الرئيس في هذا الباب: ما هي عناصر عملية

صناعة القرار السياسي الأمريكي وخصائصه؟

يقول: هي إشكالية نحاول الإجابة عنها من خلال ثلاثة محاور أساسية:

البنيات السياسية والدستورية (الفصل الأول) ، الأجهزة التنفيذية (الفصل

الثاني) ، الهيئات والجماعات المؤثرة (الفصل الثالث) .

الفصل الأول: البنيات السياسية والدستورية:

يقول الباحث: تبنى مرجعية هذه البنيات على أسس متعددة: إما باعتبار

صلاحيتها الدستورية والقانونية أو باعتبارها مصدر سلطة ونفوذ سياسي أو

لاعتبارات تخصصية وظيفية تؤديها داخل النظام السياسي، ويمكن تعيين هذه

الوحدات وفق التصنيف التالي:

1-

الرئاسة:

يعتبر رئيس الدولة هو الممسك الفعلي بزمام السلطة التنفيذية حسب الدستور

الأمريكي في المادة (2) وبحكم رئاسته للدولة والحكومة فهو يرسم السياسة العامة،

وله سلطة البت والتقرير في مجموع خططها وبرامجها؛ ونظراً لبنية النظام

الرئاسي فإنه لا وجود لمجلس وزراء يهيمن على مصالح الدولة، ولا وجود لمبدأ

التضامن الوزاري عن القرارات والسياسة العامة، وهكذا فإن السلطة التنفيذية

الفعلية تبقى في يد الرئيس، وأنه إذا استشار رئيس الدولة وزراءه فإن آثار

الاستشارة تنحصر في مجرد المناقشة وتبادل الرأي، أما القرار النهائي فيتخذه

رئيس الدولة بمحض اختياره وإرادته، ويستشهد الباحث بقول أبراهام لنكولن عندما

لاحظ مخالفة وزرائه السبعة له: (إن سبعة في هذا المجلس يقولون: لا، وإن

واحداً يعني نفسه يقول: نعم! إذن نعم تغلبت على لا) .

ورغم أن الكونجرس يتمتع بسلطة إعلان الحرب فإنه لم يعلن الحرب إلا في

خمس مناسبات، بينما نفذت القوات الأمريكية عشرات العمليات العسكرية بأوامر

من السلطة التنفيذية (الرئيس) دون إعلان رسمي عنها من قِبَلِ الكونجرس.

وفي مجال الإدارة يرأس الرئيس فعلياً الإدارة الفيدرالية، ويعين كبار

موظفيها بعد إقرار الكونجرس. ويبلغ عدد موظفي الإدارة الفيدرالية حوالي ألفي

موظف من كبار مسؤولي الدولة ورؤساء الوكالات والمصالح الإدارية، ونتج عن

تضخم الجهاز التنفيذي تضخم كبير في سلطات الرئيس مقابل الكونجرس.

وفي المجال الدبلوماسي يخول الدستور الرئيس سلطات واسعة؛ فهو الذي

يحدد برامج السياسة الخارجية، ويعقد الاتفاقيات والمعاهدات، ويقوم بعملية

التفاوض مع الدول وتعيين السفراء؛ ولكن في مجال المعاهدات فإن الدستور يقيد

القرار الدبلوماسي للرئيس بموافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ في حالة عقد

المعاهدات.

إلا أن الرئيس يفلت في الواقع من مراقبة مجلس الشيوخ لقراراته في مجال

السياسة الخارجية باللجوء إلى الاتفاقيات التنفيذية، ويعني الاتفاق التنفيذي اتفاقاً

بين الرئيس ودولة أجنبية له قوة القانون وتشكل هذه الاتفاقات النسبة الغالبة من

الاتفاقيات التي تبرمها الولايات المتحدة مع الدول الأجنبية، والمثال الواضح في

عهد ريجان عام 1986م، وفضيحة إيران جيت.

أما في المجال التشريعي فلا يمنح الدستور الأمريكي الرئيس صلاحية التقدم

بمشاريع القوانين؛ لكنه يتمتع بحق الاعتراض (الفيتو) على القوانين التي يقرها

الكونجرس، ولا يسقط الاعتراض إلا في حالة التصويت مرة ثانية عليه بأغلبية

الثلثين بعد قراءة جديدة، ويمكن للرئيس لفت نظر الكونجرس لقضايا تشريعية

معينة وذلك من خلال النواب الذين يمثلون الحزب في المجلسين بحكم الوضع

القيادي الذي يتوفر عليه الرئيس داخل الحزب.

ويؤكد الباحث أن تكوين شخصية الرئيس تمكنه من توسيع مجالاته في إصدار

القرار:

كما أن للتكوين الديني والمسيحي تأثيراً على تقييم الأحداث؛ ويبدو ريجان

مثالاً واضحاً لذلك؛ إذ كان يطلق عبارات وتقييمات أخلاقية على الأحداث؛ مثلاً:

يصف الاتحاد السوفييتي بأنه الشر، وعرفت فترته صدور عدة قرارات على

مستوى داخلي وخارجي لتشجيع النشاط الأصولي المسيحي، وكان يرفع الإنجيل

خلال حملته الانتخابية.

كذلك أثرت شخصية كلينتون وكونه من الطبقة الوسطى في تركيزه على

القضايا الاجتماعية والاقتصادية؛ وهي القضايا التي تشكل محور اهتمام هذه الطبقة.

والواقع أن العوامل الشخصية والظروف السياسية لها دور كبير في اتخاذ

الرئيس الوضع الأقوى داخل صنع القرار؛ إذ إنه بالنظر إلى 43 رئيساً لأمريكا

منذ عهد جورج واشنطن إلى عهد كلينتون نجد أوضاعاً متباينة بالنسبة لسلطة

الرئيس في قراره السياسي.

2 -

الكونجرس:

يتألف الكونجرس من مجلسين: الشيوخ، والنواب.

يمثل مجلس النواب السكان على أساس التمثيل العددي، ويضم 435 عضواً، وتدوم ولايته النيابية سنتين. أما مجلس الشيوخ فيتساوى فيه تمثيل الولايات؛

حيث ينتخب الناخبون في كل ولاية نائبين بغض النظر عن عدد السكان. وعدد

أعضاء مجلس الشيوخ مائة عضو، وتدوم مدة العضوية ستة أعوام يجدد ثلثهم كل

سنتين.

ويخول الكونجرس صلاحيات في مجالات عديدة:

فالمجال التشريعي يختص به الكونجرس ويقدم مشروع القانون أحد أعضاء

الكونجرس إلى المجلسين، ولكن مشاريع القوانين المتعلقة بالزيادة في الواردات يتم

تقديمها إلى مجلس النواب فقط.

ويحال مشروع القانون إلى لجنة منبثقة من الكونجرس التي تقوم بدراسته

والموافقة عليه ثم يقدم إلى كل مجلس للموافقة عليه ليقدم في النهاية إلى الرئيس من

أجل التوقيع، ويمنح مهلة عشرة أيام للتوقيع، ويمكنه استخدام النقض حق (الفيتو)

خلال هذه المدة بإعادة النص إلى الكونجرس لمراجعته، وفي هذه الحالة يقتضي

الحصول على ثلثي الأصوات في كل مجلس ليتفادى نقض الرئيس.

لقد شكل الكونجرس حتى بداية القرن الحالي محور النظام السياسي الأمريكي

والمرجع التقريري الأول في السياسة العامة للدولة مع وجود استثناءات في حال

ظهور أدوار قيادية لبعض الرؤساء كالرئيس أبراهام لنكولن.

والسنوات الخمسون (1920-1970م) شهدت تراجعاً في دور الكونجرس

مقابل ظهور دور المؤسسة الرئاسية؛ ولكن الإصلاحات التي أقرها الكونجرس

عامي 1972، 1974م أعادت له نسبياً مركزه داخل النظام السياسي؛ إذ أصبح

يتوفر على إمكانيات وتقنيات تمكنه من المشاركة في قرارات الرئيس ومراقبة

قرارات الجهاز التنفيذي؛ إذ أصبح عدد الموظفين والخبراء ثلاثة آلاف موظف

وخبير، بينما يبلغ عدد المستخدمين لحساب النواب والشيوخ بشكل خاص أربع

أمثال هذا العدد، ويتوفر للكونجرس أرشيف ومكتبة تضم ملايين العناوين، وتعد

من أكبر المكتبات في العالم، ويبقى الجدل الذي يثور في أمريكا دائماً عن مدى

استقلالية قرارات الكونجرس إزاء التحويلات المكثفة التي يتلقاها من جماعات

الضغط التي تمارس نفوذها المباشر على البرلمانيين.

3 -

الجهاز القضائي:

يتألف الجهاز القضائي في الولايات المتحدة من المحكمة العليا باعتبارها في

أعلى هرم السلطة القضائية، ومحاكم الولايات - وهي محاكم عادية - تتولى النظر

في قضايا القانون العام. كما توجد بعض المحاكم الفيدرالية المتخصصة مثل محكمة

الادعاءات وهي محكمة فيدرالية مختصة بالنظر في الجرائم المرتكبة ضد الدولة،

ومحكمة التجارة الدولية، ومحكمة الضريبة.

وتتلخص وظيفة المحكمة العليا في البت في القضايا التي تنشأ بسبب النزاع

أو الخلاف بين الولايات والحكم الفيدرالي على الخصوص، أو فيما يتعلق بتطبيق

الدستور؛ لكنها لا تقوم بمراجعة قرارات محاكم الولايات المتعلقة بالقوانين الداخلية

للولايات، ومنذ عام 1803م أصبح النظام القضائي الأمريكي هو الحكم الفصل بين

السلطات ومساوياً لها.

ففي نهاية القرن التاسع عشر وإلى غاية منتصف الثلاثينات لعبت المحكمة

العليا دوراً هاماً تجلَّى في منع تنفيذ قرارات حكومية كثيرة، وفي عام 1917م قال

القاضي هيرز: نحن محكومون من قِبَلِ دستور؛ ولكن هذا الدستور هو ما نقول:

إنه هو.

وفي عام 1936م ألغتْ المحكمة العليا عدداً من القوانين البرلمانية والتنظيمات

التي سُنت في عهد الرئيس روزفلت، وعندما أثيرت فضيحة ووترجيت عام

1974م كان لاجتهاد المحكمة العليا بعدم أحقية الرئيس الاحتفاظ بأسرار ومعلومات

يكون لإعلانها أثر على سير العدالة ودورها في مجريات هذه القضية التي أدت إلى

استقالة الرئيس نيكسون.

الفصل الثاني: الأجهزة التنفيذية:

تنبثق هذه الأجهزة من الرئاسة؛ فهي امتداد لها، ولقد أدى تشعب

المسؤوليات الرئاسية إلى بروز دور هذه الأجهزة في صياغة القرار السياسي

الأمريكي.

وحاول الباحث التركيز على أهم هذه الأجهزة التي تتدخل بشكل ما في

صناعة القرار.

أولاً: الإدارة:

هناك جملة من المميزات التي يمكن القول: إنها تميز الحياة الإدارية

الأمريكية، وهي:

الاتساع العددي لطاقم الموظفين العاملين في الأجهزة الإدارية الفيدرالية

ليناهز الملايين، وكانت من ضمن أهداف كلينتون في حملته الانتخابية؛ حيث

قال: (إن الإدارة الفيدرالية تتخللها بيروقراطية قائمة على التسلسل القيادي والمصالح الخاصة منبعها السلطة المترسخة والمال) .

تسعى هذه البيروقراطية من خلال المعلومات التي تقدمها لدوائر القرار

والتعقيدات والملابسات التي تحيط بها وظائفها - تسعى لممارسة ضغوط على

الرئيس باتجاهات متعددة لتسير بالقرارات وفق آراء ومصالح معينة.

كذلك تنشأ علاقات بين موظفي الإدارة والخبراء الحكوميين وبين أعضاء

الكونجرس من جهة، ومن جهة أخرى مع المجموعات الصناعية والتجارية،

تتبادل فيها المصالح والصفقات مما يؤدي إلى نتائج خطيرة على مستوى عملية

صناعة القرار.

انسياب المعلومات وتدفقها من الأجهزة الإدارية وخصوصاً المؤسسات

الاستراتيجية في الدولة لدوائر تشريعية أو مؤسسات خاصة.

\يتجلى ثقل البيروقراطية في القرارات السياسية التي تعالج قضايا مزمنة

كالبطالة والإصلاح الاقتصادي؛ نظراً للوقت الذي تستغرقه بلورة الاختيارات

والبدائل التي تعتمد لاتخاذ القرار النهائي.

ثانياً: مجلس الأمن القومي:

أنشئ المجلس عام 1947م بمقتضى قانون الأمن القومي، وتتمثل وظيفته

الأساسية في تنسيق جميع أنشطة المصالح والمؤسسات المهتمة بالأمن القومي

وتحديد الأهداف العامة والخطط المتعلقة بقضايا الأمن القومي.

ويرأس رئيس الدولة بنفسه أعمال المجلس، ويضم وزير الخارجية والدفاع

والخزانة ورئيس هيئة الأركان العامة، ويمكن دعوة عدد من كبار الموظفين حسب

حاجة الموضوع محل الاهتمام.

ويتولى مستشار الأمن القومي عملية تنسيق الأعمال التي يقوم بها المجلس،

وخلال حرب الخليج كانت اجتماعات المجلس تضم في الغالب الرئيس بوش،

وسكراو كرونت مستشار الأمن القومي، وجيمس بيكر وزير الخارجية، وديك

تشيني وزير الدفاع، وكولن باول رئيس هيئة الأركان، ونائب وزير الدفاع ونائب

مستشار الأمن القومي، ومدير المخابرات، ومدير مكتب البيت الأبيض؛ ونظراً

لأهمية القضايا التي تطرح على مجلس الأمن القومي فهناك من يطلق عليه: مجلس

وزاري ضيق، أو مجلس الحرب.

وقد حدد مجلس الأمن القومي شروط قرار الأزمة من خلال جملة من

المؤشرات:

- ضيق الوقت وعدم إمكانية القيام بالإجراءات الروتينية لجمع المعلومات.

- التهديد باستخدام القوة والعنف.

- عدم توفر المعلومات الكافية للتوصل إلى حل أو تسوية.

وقد قال كلينتون بعد انتخابه مباشرة: إن السنوات الأربع المقبلة ينبغي أن

تكون حداً أقصى لوضع خطة جديدة لقيادة العالم، وإن انتهاء الحرب الباردة حتمت

الحاجة إلى فريق في البيت الأبيض ليس هدفه مقاومة التغيير بل تحديد شكل

التغيير ووضع سياسة جديدة للأمن القومي.

ثالثاً: وكالة المخابرات المركزية (C. I. A) :

تتلخص وظائف الوكالة في ثلاث وظائف رئيسة:

- تقديم المعلومات والمعطيات في الميادين الاستراتيجية: العسكرية

والسياسية والاقتصادية لمجلس الأمن القومي ولدائرة القرار في مجال السياسة

الخارجية.

- تقديم التحليلات والتقويمات والتقديرات للأوضاع السياسية والعسكرية

والاقتصادية والاستراتيجية في بلدان العالم بناء على طلب مجلس الأمن القومي أو

الرئيس، أو عندما تتبلور لدى مسؤولي الوكالة تقويمات بشأن أوضاع بلد أو منطقة

معينة في العالم.

- القيام بأعمال أو عمليات سرية في الخارج لتنفيذ أهداف استراتيجية أو

سياسية أو عسكرية محددة في إطار برنامج السياسة الخارجية الأمريكية.

وأنشطة المخابرات تخضع بالكامل لسيطرة الرئيس وجهازه التنفيذي؛ ولكن

الكونجرس يتابع هذه الأنشطة من مدخلين:

- الاعتمادات المالية المخصصة لها.

- التحقيق ومراقبة أعمالها، وذلك من خلال لجنة دائمة.

كذلك فإن المحكمة العليا أقرت عام 1973م أثناء فضيحة ووترجيت مبدأً وهو: أن الرئيس ليس مخولاً بالاحتفاظ بسرية معلومات من شأن الإعلان عنها التأثير

على مجريات وحيثيات العدالة.

إن قوة هذه الوكالة وتأثيرها على العملية السياسية الأمريكية تنبع من عاملين:

1-

الإطار السري الذي يحيط بعملها الذي يحميه التشريع الأمريكي.

2-

الميزانية الضخمة التي تتوفر عليها (30 مليار دولار سنوياً) وهذه

تتجاوز ميزانية دولة مثل المغرب.

ومن مظاهر تأثير الوكالة في صنع السياسة الخارجية:

في عام 1961م عندما كشفت عن وجود منصات الصواريخ الروسية في

كوبا وهو ما استند عليه الرئيس كنيدي في قراره بمحاصرة كوبا.

أخفقت الوكالة في تقديراتها بالنسبة لفييتنام مما أدى إلى تورط أمريكا في

حرب خاسرة.

وبالنسبة للتعامل مع الحركات الإسلامية يجري تنفيذ استراتيجية أعدتها

الوكالة، وقد فسر وليام كوانت مستشار الأمن القومي في عهد كارتر والمشرف على

قسم دراسات الشرق الأوسط في معهد بروكنز للدراسات الاستراتيجية بواشنطن

حالياً فسر هذه السياسة بقوله: (إن الاتصال بزعماء هذه الحركة لن يغير من

استراتيجية الولايات المتحدة سواء في مواجهة خطر هذه الحركات أو دعمها

للأنظمة الصديقة التي توجد بها، وغاية ما في الأمر أن الولايات المتحدة حريصة

على الاتصال بمخالفيها الرأي لمعرفة ماذا ينوون فعله (وكان كوانت يرد على

انتقادات مصرية وجهت للإدارة الأمريكية خلال عام 1993م بسبب اتصالات جرت

بين عناصر من الوكالة وزعماء إسلاميين مصريين.

وتقيم الوكالة علاقات اتصال دائمة في منطقة الشرق الأوسط مع كبار

المسؤولين في الدول.

يقول الملك الحسن في مذكراته: إذا كان حبل التفاهم موصولاً بين الدول

خارج القنوات الرسمية التقليدية بواسطة المخابرات فحينئذ يكون الاقتناع من أن

الرسالة ستصل مباشرة دون أن تكون موضع تعليق أو تصل إلى شخص آخر،

وتلك طريقة أمارسها مع عدد معين من البلدان.

ولعبت اتصالات وكالة المخابرات المركزية مع منظمة التحرير الفلسطينية

دوراً حاسماً في خلق أجواء الحوار الأمريكي - الفلسطيني التي كان من آثارها فيما

بعد القرارات المتعلقة بتسوية قضية الشرق الأوسط.

وإثر اغتيال كنيدي عام 1963م برزت في الساحة الأكاديمية والسياسية

الأمريكية نظرية تدعم اتجاه تحليل القرار السياسي الأمريكي من منطلق دورٍ رئيسٍ

تقوم به الوكالة وتتحكم من خلاله في مختلف أطراف العملية السياسية، ويطلق على

هذه النظرية: نظرية المؤامرة التي قوامها بناء الرأي عند تحليل الحدث أو الموقف

أو القرار السياسي على المعلومات أو التقارير السياسية التي تقف وراء الحدث أو

القرار، وأن المظاهر لا تعني سوى التمويه وإخفاء الفاعلين الأساسيين الحقيقيين

(أي رجال المخابرات) . وجرى استخدام هذه النظرية في تحليل القرارات السياسية

الأمريكية في عدد من مناطق العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط، ولكن - كما

يوضح الباحث - فإن هذه النظرية تضفي على الولايات المتحدة هالة أسطورية

خارقة من القوة تجعلها تتصرف في العالم كله، كما لو كان خاتماً في إصبعها.

وهذا لا يقلل من خطورة الوكالة؛ فلم يرصد لها المبالغ الطائلة والقوة البشرية

الهائلة لنشر النشاطات الثقافية في العالم؛ بل لتكون الجهاز التنفيذي الأكثر نجاعة

وفعالية داخل عملية صناعة القرار السياسي الأمريكي في مختلف مراحله: إعداداً

ودراسة وتقريراً ومتابعة وتنفيذاً.

رابعاً: وزارة الدفاع:

تتألف المؤسسة العسكرية من ثلاث وحدات رئيسة:

قسم وزارة الدفاع التي يرأسها وزير مدني وهو المسؤول الإداري المكلف

بشؤون الدفاع، ويخضع لرئيس الدولة مباشرة.

قسم هيئة الأركان التي تتولى تقديم المشورة العسكرية لرئيس الدولة،

وتشرف على هيئات وقادة جيوش البر والبحر وسلاح الجو.

قسم القيادات المتمركزة في جميع أنحاء العالم التي يشرف عليها قائد

القيادات وله صلة إدارية بوزير الدفاع ويخضع لإشراف واتصال من قِبَلِ رئيس

هيئة الأركان المشتركة.

وهي عشر قيادات: قيادة الأطلسي، القيادة المركزية، الأوروبية، قيادة

القوات، الباسفيك، القيادة الحكومية، الفضاء، العمليات الخاصة، الجوية

والاستراتيجية، النقليات.

وأثناء الهجوم على ليبيا عام 1986م صرح ريشارد ميرل مساعد وزير الدفاع

آنذاك: بأن الولايات المتحدة ستستخدم قواعدها العسكرية حسب ما ترتئيه القيادة

العسكرية دون الرجوع للحكومة.

أما اتخاذ القرار العام بشأن المناورات في خليج ليبيا فقد اتخذ على مستوى

آخر، وحسب صحيفة هيرالد تريبيون فإن البدء بالمناورات تقرر بناءاً على

مداولات بين مسؤولين من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع والـ C. I. A والبيت

الأبيض.

وإذا كانت مساهمة المؤسسة العسكرية في صناعة القرار العسكري تعتبر

محورية فإن دورها في القرارات السياسية ذات الطابع الدبلوماسي أو الاقتصادي لا

يقل أهمية؛ حيث إن القرار السياسي الأمريكي هو نتاج تحالف نخبة عسكرية

وبيروقراطية إدارية، وأصحاب الصناعات الكبرى الاستراتيجية تؤلف بمجموعها

ما يصطلح عليه في أمريكا بمركب صناعي عسكري بيروقراطي، وتفسر عدة

قرارات سياسية أمريكية على أساس صفقات عسكرية اقتصادية يبرمها تحالف

اللوبي الصناعي والتكنولوجي والقيادات العسكرية في البنتاجون مع الدول الأجنبية

فلا يكون أمام مسؤولي البيت الأبيض - وأحياناً وزير الدفاع نفسه - سوى

الإذعان والتواطؤ. ومن أمثلة ذلك: صفقة الأسلحة التي تمت بين إدارة ريجان

وإيران عام 1986م.

خامساً: الجهاز الدبلوماسي:

ينقسم عمل وزارة الخارجية حسب التوزيع الجغرافي إلى إدارات: إدارة

أوروبا، شؤون القارة الأمريكية، شؤون الشرق الأوسط وأدنى شرق آسيا،

الشؤون الإفريقية، المنظمات الدولية.

وحسب الناحية الفنية: الشؤون القانونية، الاقتصادية، المراسيم، الاتصال

والإعلام، التخطيط السياسي، الأبحاث والاستخبارات.

وتشكل سفارات الولايات المتحدة بالخارج حلقة أساسية لتنفيذ القرارات

المتعلقة بالبلد المعنيِّ ومتابعة سير العلاقات وتطورها، وتُعتمد تقارير السفارات

مصدراً رسمياً للمعلومات والتقييم والآراء.

وأكبر مثال على تأثير العملية الدبلوماسية في القرار هو دور جلاسبي سفيرة

الولايات المتحدة بالعراق؛ حيث أدى كلامها مع الرئيس العراقي قبل الغزو وقولها

بعدم ممانعة الإدارة الأمريكية من مطالبة العراق بحقوقه من الكويت والإمارات،

وأن الولايات المتحدة لا تتدخل في الصراعات العربية - العربية أدى هذا إلى

اعتبار الرئيس العراقي ذلك بأنه ضوء أخضر أمريكي لتحرشاته بالخليج؛ ولكن

مساهمة السفارات في تكوين الرأي لدى الإدارة المركزية يكون وفق معايير سياسية

تتحدد بناء على اختيارات وأولويات البرامج السياسية للحكومة. ومثال ذلك:

معيار حقوق الإنسان، ومعيار مكافحة الإرهاب والمخدرات؛ ولكن هذه

التقنية الدبلوماسية تحفها في الواقع بعض الشروط التي تبعدها عن أهدافها، وظهر

ذلك في عهد الرئيس بوش عندما خضع لضغط اللوبي اليهودي كي لا يُنشر تقرير

أعدته السفارة الأمريكية بتل أبيب عام 1991م عن الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق

الإنسان الفلسطيني.

ويتجلى المظهر الثاني في تطبيق المعايير من جانب الدول المعنية نفسها

عندما تنهج إلى تكتيك سياسي ودعائي يتطابق مع المعايير السياسية المعنية كأن

يركز الخطاب السياسي للدولة على حقوق الإنسان أو تثير الدولة مسألة الخصوصية

الثقافية والحضارية فتظهر الولايات المتحدة حينها بمظهر تدخلي في الشؤون

الداخلية للدولة.

ولعبت شخصية وزير الخارجية دائماً دوراً كبيراً في توجيه القرار الأمريكي،

ومثال ذلك: شخصية كيسنجر اليهودي الألماني الذي تولى منصب وزير الخارجية

في عهد نيكسون الذي اشتهر بمساعدته الدائمة لإسرائيل على الخروج من مآزقها

العسكرية والدبلوماسية.

الفصل الثالث: الهيئات والجماعات المؤثرة:

المبحث الأول: الأحزاب السياسية:

يسيطر على النظام الحزبي في الولايات المتحدة حزبان: الحزب

الديموقراطي معبراً عن فئات الطبقة الوسطى والاتجاه التحرري في القضايا

الاجتماعية والحزب الجمهوري معبراً عن نزوع الفئات الميسورة التي تجمع بين

السلطة الاقتصادية والنفوذ السياسي.

ويرى بعض علماء السياسة أن السنوات الأخيرة اتسمت بتراجع دور

الأحزاب في تشكيل الفريق التنفيذي الذي يعينه الرئيس.

ويرى موريس ديفرجيه: (أن ظاهرة جديدة تميز الأحزاب الأمريكية: فبدل

أن يصبح تأثيرها على البرلمانيين المنتمين للحزب يصبح البرلمانيون مصدر تأثير

وتوجيه للحزب) .

ويمكن القول: إن القضايا الخلافية بين الحزبين تظهر في ميادين السياسة

الداخلية أكثر منها في حقل السياسة الخارجية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال

الاستمرارية التي طبعت قرارات الولايات المتحدة إزاء مفاوضات الشرق الأوسط

وأزمة الخليج.

المبحث الثاني: الجماعات الضاغطة (اللوبي) :

هي إطار تنتظم فيه مجموعة ذات مصالح ومنافع مشتركة وتستهدف التأثير

على صناعة القرار من أجل توجيهه بما يتوافق ومصالحها وأغراضها.

وهناك المجموعات المرتبطة بالأصول الدينية والعرقية كاليهود والسود وذوي

الأصول اليابانية والأسبانية، وهناك أيضاً جماعات المهن والبيئة ونقابات العمال

واتحادات رجال الأعمال.

وتستخدم هذه المجموعات مجموعة من أدوات النفوذ: القوة المالية، والقوة

العددية أو النوعية، وتتوفر جماعات اللوبي على وضع شرعي من الناحية الواقعية

والقانونية رغم أن عدداً من السياسيين والأكاديميين ينظرون إليها من منظور

أخلاقي بازدراء، وقد أخذت أشكال عمل اللوبي صيغاً أكثر دقة وتطوراً في

السنوات الأخيرة بحكم التقدم الحاصل في الميدانيْن التكنولوجي والتدبيري فأصبحوا

يعتمدون على المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة للوصول إلى أصحاب القرار.

وتذهب حقيقة العملية السياسية الأمريكية إلى أن هنالك جماعات ضغط قوية

جداً ذات تأثير قوي على القرار السياسي، وهنا يبرز دور اللوبي الإسرائيلي في

صناعة القرار السياسي الأمريكي الذي تتجلى قوته في مظهرين أساسين:

1 -

قوة موارده وضخامتها داخل الولايات المتحدة وخارجها: المالية منها

والإعلامية.

2 -

نفوذه داخل المؤسسات الأمريكية إلى أعلى قمة هرم الدولة (البيت

الأبيض) .

المبحث الثالث: المؤسسات الاقتصادية:

تمارس المؤسسات الاقتصادية دورها في صناعة القرار من خلال عدة مظاهر:

1 -

الارتباط بين المؤسسة العسكرية وشركات الصناعة.

2 -

بروز دور قوي للشركات المتعددة الجنسيات وتأثيرها على مجريات

الأوضاع داخل بلدان العالم الثالث ومن ثَمَّ على القرار في واشنطن.

3 -

ظهور دور المنظمات الدولية المتخصصة، وخاصة صندوق النقد

الدولي والبنك الدولي في توجيه القرار السياسي للبلدان النامية، وتعتبر الولايات

المتحدة من أقوى الفاعلين داخل هذه المنظمات وتؤدي أكبر حصة مالية فيها.

4 -

قيام الولايات المتحدة بأدوار دولية ترتكز على الاقتصاد مثل مشروع

مارشال في أوروبا؛ كما كان للعامل الاقتصادي الذي استخدمته الولايات المتحدة

أثره الكبير في إضعاف الاتحاد السوفييتي، ومن ثم سقوطه.

5 -

تمدد نفوذ العائلات الغنية في أمريكا داخل مؤسسات السياسة الأمريكية

مما جعلها ذات أثر في توجيه القرار الأمريكي بما يخدم المصالح الاقتصادية لهذه

العائلات.

مثلاً: عائلة روكفلر من أكبر مالكي شركات النفط وكان منها ريجينو

بريجنسكي مستشار كارتر للأمن القومي، وكذلك بوش الذي كان يشغل منصب

رئيس مجلس إدارة شركة (زاباتا أوفشور) النفطية في تكساس وهي التي مولت

حملته الانتخابية وظهر أثرها على اهتمامه بالنفط خاصة إبان أزمة الخليج.

المبحث الرابع: (الرأي العام) :

مع مطلع الثلاثينات قام (كنت كوبر) مدير الوكالة الأمريكية للإعلام بشن

حملة عنيفة على الإعلام العالمي؛ حيث كانت تحتكره حينذاك دول أوروبا فقال:

(إنها - أي الدول الأوروبية - تستخدم احتكارها للأخبار الدولية لتحديد ما يسمح به

من معرفة كل شعب عن الشعوب الأخرى واختيار ظلال المعاني التي يقدمون بها

هذه المعرفة

إن الروح الأمريكية الوثابة لم تظفر بحقها في العرض؛ وذلك بعد

تبلور الاتجاهات الدولية عن سلسلة من الانطباعات والانحيازات التي أثارتها

وكالات الأنباء) .

لقد أضحت العملية الإعلامية صناعة كبرى؛ فحسب الأرقام الرسمية: توجد

بالولايات المتحدة أكثر من عشرة آلاف صحيفة يومية أو أسبوعية، وعدد كبير من

القنوات التلفزيونية مثل NBC وتمتلك الدولة أغلب أسهمها، و CNN التي يمتلك

أسهمها القطاع الخاص، وقد حرصت الحكومة على أن لا يشمل الاتفاق التجاري

مع أوروبا مجال المنتجات السمعية البصرية؛ لأن للأوساط السياسية النافذة في

البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الخارجية علاقات استراتيجية كبيرة تمكنها من

تطويع القرار في أمريكا بحسب ما تريده هذه المؤسسات.

ويستطرد الباحث قائلاً: إن عصرنا الحالي يتميز بحجم التدفق الهائل

والخطير للمعلومات وتقنية تكاليف الحصول عليها؛ وفي آخر الإحصائيات أن

معالجة مليون عملية إعلامية أصبحت تكلف 0. 06 دولار وتستغرق 5، 0 ثانية

بعدما كانت تستغرق 5 دقائق بتكلفة قدرها 300 دولار. إن هذا الحجم الهائل من

التدفقات المعلوماتية جعلت العملية الإعلامية بيد الأكثر قدرة على التحكم في

مصادرها؛ فمثلاً في حرب الخليج كانت الصحافة والقنوات التلفزيونية تدعم الإدارة

الرسمية ومثلث البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الخارجية. ولتغيير وجه الحقيقة

يلجأ صناع القرار للتركيز على مظاهر معينة توحي بوجود توازن والأخذ بالرأي

المعارض؛ وبذلك فإن صناع القرار يستفيدون من المادة الإعلامية من خلال ثلاثة

مظاهر رئيسة:

الحصول على المعلومات المفيدة لصناعة القرار ومعرفة الآراء والمستجدات.

إعلان القرار ومتابعته.

تركيز الاهتمام وخلق مناخ مناسب لتلقي الآراء.

المبحث الخامس: الجامعات ومراكز الأبحاث:

تخصص الولايات المتحدة للأبحاث والتطوير سنوياً 100 مليار دولار؛ بينما

يقدر إنفاق الدول النامية بمجموعها في المجال نفسه بخُمس الإنفاق الأمريكي.

وقد لاحظ الدكتور سعيد سليمان (وزير تربية سعودي سابق وباحث بجامعة

عجمان) : أن الجامعات الأمريكية ودور العلم والبحث فيها أقرب في تكوينها

وتنظيمها إلى بيوت الخبرة منها إلى الجامعات التقليدية المألوفة، وقال معلقاً على

أحداث الخليج: إن الذي حارب في الخليج بشكل مباشر هي الجامعات ومراكز

البحوث؛ ولكن أي نوع من الجامعات، وأي نوع من مراكز البحوث؟

ويوجد بخلاف الجامعات معاهد ومراكز دراسات يتولى الإشراف عليها

سياسيون سابقون ومن أشهرها: معهد بروكنز بواشنطن الذي يشرف عليه وليام

كوانت مستشار الأمن القومي في عهد كارتر.

وفي حكومة كلينتون الحالية من أصل 22 منصباً تنفيذياً تم تعيين ثلثها من

شخصيات علمية وأكاديمية سبق لهم أن تولوا وظيفة التدريس بالجامعات، وفي

كتاب ألفه ستانفيلد تيرنر مدير الـ CIA في عهد كارتر قال: إن على المخابرات

المركزية أن تركز على غير السياسيين في عملية تحليل المعلومات وتقييمها

وخاصة من الأكاديميين؛ وذلك لأن المهم ليس جمع المعلومات بقدر ما هو تحليل

تلك المعلومات وطرق الاستفادة منها.

ص: 48

البيان الأدبي

في حوار مع الدكتور عبده زايد:

الأدب الإسلامي كان موجودا منذ أن نزلت سورة الشعراء

حاوره: علي محمد الغريب

لا يعرف كم كان عمره ندما انطلقت حنجرته مع الحناجر الصغيرة في كتاب

القرية تردد آي اذكر الحكيم، لكنه يعي جيدا أن أول شيء طرق أذنيه الصغيرتين

وقتئذ كان كلام الله سبحانه وتعالى فارتبط به منذ ذلك التاريخ وما زال فهو النموذج

الأعلى أسلوبا ومضمونا، ثم عرف بع ذلك الحديث الشريف، والشعر الرفيع

العالي الذي يمثل قيمه.

وعندما التحق بالأزهر لم تكن النقلة بعيدة؛ لأنها كانت امتدادا لما تقدم؛

فدراسة الفقه، والتوحيد، والتفسير، والحديث الشريف، والنحو كلها مرتبطة

ارتباطا وثيقا بالقرآن الكريم.

ولما ظهرت فكرة الأدب الإسلامي، واطلع عليها فكرة مطروحة بين الفكر،

لم تكن غريبة عليه أيضا؛ لأنه يعيش في هذا المناخ منذ نعومة أظافره.

ذلكم الدكتور أحمد محمد علي، الشهير بعبده زايد. ولد الدكتور عبده زايد

بقرية القرنة إحدى أشهر القرى التابعة لمدينة الأقصر بصعيد مصر.

أتم دراسته الأولية بالأقصر، والثانوية بمدينة قنا التي تبعد عن الأقصر عدة

كيلو مترات.

تخرج في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر؛ حيث حصل على الليسانس،

ثم تابع دراسته العليا فحصل على درجة الدكتوراه من الجامعة نفسها، والتي يعمل

بها الآن أستاذا للبلاغة والنقد الأدبي.

حول الأدب الإسلامي وعلاقته بغيره من الآداب، ودور الشاعر في المجتمع

المعاصر، والعديد من قضايا الأدب كان لنا معه هذا الحوار.

- كان لظهور مصطلح الأدب الإسلامي ردة فعل أثارت عددا من الإشكالات

حول مفهوم المصطلح ودلالته، بل إن بعضهم دفعتهم الغيرة على الأدب العربي إلى

أن قالوا: إنه لا داعي لوجود ما يسمى بالأدب الإسلامي فالأدب العربي جله أدب

إسلامي، فما حقيقة الأدب الإسلامي وما مسوغات طرحه؟

هناك فرق بين أمرين - ابتداء -: بين المصطلح، ودلالة المصطلح. دلالة

المصطلح قد تكون موجودة بشكل طبيعي دون أن نضع لها مصطلحا معينا أو اسما

معينا إلى أن أتى الوقت الذين نظر فيه المشتغلون بالتقعيد والتقنين ووضع الضوابط

لهذه الظالهرة فوضعوا لها الاسم المناسب، وهذا موجود في كل شيء: في الأدب،

وفي شؤون الحياة المختلفة. فالناس مارسوا الحياة بشكل طبيعي منذ أن وجدوا على

ظهر الأرض؛ لكن ما كانوا يسمون هذا كذا وذا كذا إلى أن جاء وقت سميت هذه

الأشياء التي كانوا يمارسونها بأسمائها، والأدب الإسلامي كان موجودا من حيث هو

واقع أدبي، منذ أن نزلت آية الشعراء [والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في

كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات

وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب

ينقلبون] [الشعراء: 224-227] . الآية قبل الاستثناء تتحدث عن الشعراء من

حيث هم، والآية بعد الاستثناء تتحدث عن الفئة المستثناة، وهي التي لا تدخل في

سياق النوع الأول، هي مشتركة مع الفئة الأولى في صفة الشاعرية لكن غاية شعر

الفئة الأولى غير غاية الفئة الثانية، والتصور الذي تنطلق منه الفئة الأولى غير

التصور الذي تنطلق منه الفئة الثانية.

- فما جاء بعد الاستثناء يمثل مرحلة النجاة، والشعراء من الصحابة خافوا

من الآية حينما نزلت، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون له: لقد

أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء، فقال: اقرؤوا ما بعدها [إلا الذين آمنوا] قال أنتم [وعملوا الصالحات] قال أنتم [وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد

ما ظلموا] قال أنتم. فهذه الفئة المستثناة لم تتحدث عن الشعر والشاعرية وإنما

تحدثت عن التصور الذي ينطلق منه الشاعر وهو قضية الإيمان؛ فهم ينطلقون من

منطلق غير الذي كان ينطلق منه الذين هم قبل الاستثناء الذين هم في كل واد

يهيمون ويقولون ما لا يفعلون. الكلام هنا لا يتحدث عن الشعر، وإنما يتحدث عن

التصور، وهؤلاء ما سموا شعراء إسلاميين، ولا سميي شعرهم شعرا إسلاميا؛

لأنه لم تكن هناك ضرورة لوضع الأسماء في ذلك الوقت واستمر الحال على ذلك لا

توضع له أسماء، لماذا؟ لأن قضية الأمة كانت كلها قضية الإسلام.

الذي يكتب شعرا والذي يكتب علما، والذي يكتب فقها، والذي يكتب أدبا.

كل نواحي الحياة كانت تسير في هذا السياق. لكن عندما جئنا في العصر الحديث،

ودخل الاستعمار أدخل معه تصورات جديدة، بعضها يتفق مع التصور الإسلامي

ولكن بعضها يتضاد ويصطدم مباشرة مع التصور الإسلامي، هنا بدأ الشعراء

والأدباء المسلمون يفزعون؛ لأن القضية أصبحت تأخذ مسارا آخر.

قديما كان الخروج هينا.. واحد يكتب غزلا فاحشا، واحد يهجو الآخر ويمدح

بالكذب، هذا أمر أخف، إنما في العصر الحديث بدأ الأمر يصل إلى صلب العقيدة

والشريعة، وبدؤوا يخوضون في الثوابت؛ هنا بدأ الخطر، فبدأ الأدباء المسلمون

يدعون إلى أن ينطلق المسلم من تصوره، لا ينجرف الأديب المسلم إلى تصورات

الآخرين؛ لأن له تصوراته، وما دامت له تصوراته فلينطلق منها، وهذا هو بداية

الحديث عن مصطلح الأدب الإسلامي.

وحكاية التسمية نحن مسبوقون فيها؛ لأنه وجد مصطلح الأدب المسيحي قبل

أن يوجد أو يطرح بيننا الأدب الإسلامي، ووجد مصطلح الأدب اليهودي، ووجد

أيضا مصطلح الأدب العلماني، كل هذه المصطلحات وجدت وطرحت في الغرب

وتعامل معها الناس.

أكثر من هذا مصطلح أدب إسلامي ظهر في الغرب وطرح ف الغرب،

والذين أرخوا للأدب العربي ظهر عندهم مصطلح أدب إسلامي، واستخدموه لكن

استخدموه بغير الدلالة التي نعرفها الآن، إلا عند قلة استخدموه بمعنى الأدب الذي

ينطلق أو يعبر عن الحضارة الإسلامية وبروكلمان استخدم هذا المصطلح وأسماه

أدب عربي إسلامي في كتابه تاريخ الأدب العربي والمستشرق الأمريكي جرونبارم

استخدم مصطلح أدب إسلامي في دراسة اسمها: روح الإسلام كما تبدو في الأدب

العربي وأنا كتبت دراسة في هذا، وهي مفهوم الأدب الإسلامي عند المستشرق

الأمريكي جرونباوم، ونشرت في مجلة المشكاة المغربية، وهذا الرجل استخدم

مصطلح الأدب الإسلامي وبدلالة قريبة من الدلالة التي تستخدمها الآن.

فالأدب الإسلامي هو الأدب الذي ينطلق من التصور الإسلامي للإله والكون

الإنسان والحياة. الكون كلها في نظر الإسلام مسبح بحمد الله تعالى وكل المخلوقات

تنسجم في هذه الخاصية [وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون

تسبيحهم] [الإسراء: 44] .

- ما معيار نسبة أي عمل أدبي إلى الإسلام؟ وهل الأدب الصادر عن مسلم

أيا كان هذا المسلم يعد أدبا إسلاميا؟

- هذه القضية مطروحة منذ وقت طويل؛ لأن الذين عرفوا الأدب الإسلامي

قالوا: هو الأدب الموافق للتصور الإسلامي، فبقض الناس قالوا: ما دام موافقا

للتصور الإسلامي فهو أدب إسلامي أيا كان صاحبه.

- حتى إن لم يكن مسلما؟

- بعضهم قال هذا؛ لكن هذا التصور لو رددناه إلى الأصول التي نعرفها في

الإسلام، وهي أنه حتى يكون العمل صحيحا ومقبولا لا بد أن يكون مقرونا بنية

صحيحة، فإذا جاءني إنسان غير مسلم وكتب شعرا فيه معاني الإسلام، وأعماقه

غير هذا، فكيف أقول عنه إنه أدب إسلامي أو شعر إسلامي؟ لا يصح؛ لأنه حتى

يتسم الفعل بأنه إسلامي لابد أن بكون صاحبه مسلما، حينها نقول: نعم هو مسلم

وصدر عن تصور إسلامي، أما إذا كان غير مسلم فنقول عن شعره أو أدبه: إنه

أدب موافق للأدب الإسلامي.

والمشكلة أن الناس خلطت بين أمرين: بين قبول الأدب وبين كون الأدب

إسلاميا أو غير إسلامي. الأدب يقبل حتى ولو صدر من غير مسلم، إذا كان يعلي

من قيمة إنسانية رفيعة، وفيه إبداع حقيقي. من الممكن أن نتعامل معه، وممكن أن

نتعلم ونستفيد منه، وهذا لا يجبرنا أن نسميه بالأدب الإسلامي؛ بل هو أدب مقبول

ونمدحه أيضا، لصنعته وللقيمة الموجودة فيه لكن لا نسميه أدبا إسلاميا.

- يرجع بعض المحللين ضعف حركة الإبداع إلى تخلف النقد عن مواكبة

الإبداع، فيما يؤكد النقاد أنهم لا يجدون في كثير مما يسمى إبداعا أي مقومات للعمل

الأدبي فأين الخلل؟

- أولا أريد أن أقول لك شيئا: كلا التصورين محتاج إلى مراجعة؛ لماذا؟

لأن الزهرة حينما تعطي أريجها لا تحتاج إلى مهندس، ولا إلى خبير زراعي حتى

يعطيها الإذن لتعطي الأريج؛ هي تعطي الأريج لأنها بخلقتها يصدر عنها ذلك،

هناك أناس يقدرون قيمة الأريج فأهلا وسهلا، وأناس يستفيدون من هذا أريج،

وأناس لا يقدرون. هي تعطي أريجها لأنها مهيأة لهذا الأمر.

والشاعر صاحب الموهبة الحقيقية مثل الزهرة في عطائها، سوف يصدر

عنها الشعر بشكل طبيعي وبشكل تلقائي، صحيح أن الثقافة تزيده والتشجيع يزيده،

لكن حتى لو لم يوجد هذا التشجيع، وما دامت الشاعرية موجودة في داخله تؤرقه

وتقلقه فسوف يعطي وسيستمر. أما الشاعر الضعيف المحتاج إلى وخز بالإبرة

ومحتاج إلى تشجيع، هو الذين نقول عنه: إن النقد يوجهه، هذه هو فقط. أما

الشاعر الشاعر فيعطي ويتفوق وجد النقد أم لم يوجد. والناقد يختلف عن الشاعر؛

لأنه لا بد أن يكون هناك أدب حتى ينقد، إنما إذا لم يكن هناك أدب فماذا ينقد؟ لا

ينقد شيئا. الشاعر والأديب لا يحتاجان إلى وجود الناقد، أما الناقد فمحتاج إليهما.

- عرفنا الرمز في الأدب وسيلة لتجنب المباشرة والإيحاء بأكثر من مدلول

للنص الواحد، فما الذي حوله لدى بعض المبدعين إلى نوع من الطلاسم؟

- بعض الناس خرج عن طبيعة الأدب، ووظيفته ورسالته، والأصل في

الأدب أنه تعبير ذاتي الهدف منه أن يقوم بدور التواصل مع الآخرين، فليس هناك

إنسان يكتب لنفسه أو يكتب لجماعة محدودة مغلقة، هو يكتب للآخرين سواء وجدوا

أو لم يوجدوا.

والرمز كما فهمه القدماء هو الارتفاع بمستوى الأداء الأدبي عن المباشرة حتى

لا يكون شيئا مبتذلا بين الناس ويحتاج من الآخر أن يبذل جهدا حتى يفهم، لكن

هذا الجهد المبذول له ضوابط، لا يكون جهدا ضخما مع حصيلة تافهة، لا بد أن

يكون العمل نفسه له قيمة كبيرة تستحق الجهد المبذول في تحصيلها.

وهذا بالضبط كالإنسان الذي يفتش ف الأرض عن شيء ضاع منه، ويأتي

بالغربال ويغربل التراب ويقلب ويستمر على هذا ساعات طويلة جدا جدا فإذا ما

وصل إلى الشيء ونظر إليه وجده قطعة من الماس أو الذهب، إذا هذا الشيء

يستحق الجهد. لكن كان الذي وصل إليه بعد كل هذا الجهد عبارة عن خرزة مما

يباع في السوق بثمن بخس، فسوف يضرب كفا بكف ويتهم الرجل بأنه غير عاقل؛ لأن المجهود الذي بذله لا يتناسب مع الحصيلة التي حصلها.

والرمز ليس مطلوبا دائما؛ فالتعبير غير المباشر قد نحتاج إليه وربما لا

نحتاج إليه، والقدرة الفنية تتجلى في أن يكون ما تكتبه داني القطوف بالنسبة

للقارئ غير المتخصص، وفي الوقت نفسه يكون عميقا جدا جدا بالنسبة للقارئ

المتعمق، والمثل الأعلى في هذا هو القرآن الكريم وفي شأن القرآن قال الله عز

وجل [ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر][القمر: 32] ، والأديب الإسلامي

مطلوب منه أن يكتب كلاما عميقا، لكن ليس ملغزا ولا غريبا.

- بعض النقاد دعا إلى ضرورة وجود نظرية ترصد جماليات القبح فما قولك

في هذه الدعوة؟

- جماليات القبح! ! القبح الأصل فيه أن يتعلم الناس كيفية تجنبه وابتعادهم

عنه وهذا شيء جميل في حد ذاته.

كالذي يعبر تعبيرا أدبيا ليحذر الناس من القبح ويبعدهم عنه، وهذا جمال

أيضا، بالضبط كما يأتي الطبيب الوقائي ليحذر الناس بالوقاية وليس بالعلاج. لكن

هل معنى هذا أن المرض المحذر منه أصبح جميلا؟ لا؛ فالذين يحذرون الناس من

القبح ويصونون أذواقهم، ويحجبون عيونهم عن أن تقع على قبيح هذا شيء حسن

وجميل.

لكن الذين يشيعون القبح ويمدحونه ويقلبون المقاييس، فهذا تأباه الفطرة؛ لأن

ذلك ليس جمالا وليس مصدرا للجمال أبدا، صحيح هناك أناس انتكست فطرتهم،

فيذمون الشيء الحسن ويمدحون الشيء القبيح لكن هذا يسمى شذوذا، والشذوذ لا

يقاس عليه، ولن يكون منهجا مطلقا.

- لماذا تراجع دور الشاعر في المجتمع العربي، إذ كان قديما قائدا للرأي

ومعبرا عن آمال أمته وآلامها، بل وعن روحها الساخرة، وهل يوجد من الشعراء

من يستطيع أن يضطلع بهذا الدور أم أن ذلك وزع على مؤسسات حديثة؟

- الشاعر العربي في العصر الجاهلي كان صاحب مكانة؛ لأنه كان وحيدا،

هو الوحيد الذي كان يعطي الفن الرائع، وكان يقوم بدور المدافع عن القبيلة،

المدافع عن الأخلاق والقيم التي تواضعت عليها القبيلة، وما كان أحد يخرج عن

القبيلة، وإذا خرج طردته القبيلة، ومن هنا نشأت جماعة الصعاليك.

والصعاليك هم الذين طردوا من قبائلهم؛ لأنهم لم يلتزموا بضوابط القبيلة

ومعايير القبيلة، وما كانوا موضع مدح من القبيلة وإنما كانوا منبوذين.

في العصور الحديثة لم يعد الشاعر هو المعبر الوحيد؛ فوسائل التعبير تعددت: وجدت القصة ووجدت المسرحية، وجدت وسائل كثيرة جدا جدا، ولذلك كان

هناك فرق بين أن تكون أنت الوحيد وبين أن يكون لك شركاء. حينما يكون لك

شركاء يصبح دورك أقل؛ لأن الأمر توزع، كان على كاهلك وحدك فأصبح لك

شركاء عديدون.

اليوم البرنامج التلفزيون يشاهده عشرات الملايين ومئات الملايين بسبب

القنوات الفضائية التي انتشرت ف كل البلاد، لكن الشاعر كم واحد يستمع إليه؟

قلة قليلة جدا؛ لكن دوره لم يسقط، وما زال موجودا؛ لأن ملايين الأطفال في

المدارس يقرؤون شعر الشاعر ويحفظونه، ويتأثرون به ويستقر في وجدانهم،

وبعض الشعر يبقى في عمق الذاكرة. الشعر موجود يتعلمه الأطفال، والأناشيد

الموجودة على شرائط الكاسيت في كثير منها شعر موزون مقفى. فالشاعر لم يغب، ولكنه وجد من يشاركه دوره.

- تميزت فترة الازدهار الأدبي في مصر خلال النصف الأول من القرن

العشرين بظاهرة تعدد الرابطات الأدبية، مثل أبولو والديوان

الخ. فهل

تطمحون إلى تمثل رابطتكم استمرارا لذلك التفكير بأثره الإيجابي على حركة

الإبداع؟

- إن كان المقصود الاستمرار والتأثير وإقامة روابط، نعم نطمح إلى أن تقوم

رابطة الأدب الإسلامي بأدوار كهذه وأعظم؛ لأن هذه الروابط كانت محلية في ذاتها

ومحدودة التأثير، نحن نطمح إلى ما هو أوسع؛ فرابطة الأدب الإسلامي موجودة

الآن وجودا فعليا على مستوى العالم سواء في الكليات الأكاديمية، أو بأعضائها؛

فالمكاتب الآن منتشرة على مستوى الوطن العربي والوطن الإسلامي، فهناك مكاتب

للرابطة خارج الوطن العربي، كتركيا وإندونيسيا وماليزيا وباكستان والهند،

وللرابطة الكثير من المجلات العربية وغيرها من اللغات، ولها الكثير من الندوات

والمؤتمرات الكثيرة جدا.

ولعلك تتعجب أن هذه الظاهرة وصلت إلى الجامعات الأوروبية، وبعض

الباحثين هناك جاء إلى هنا ليبحث عن هذا الشيء الذي يقال له: الأدب الإسلامي،

وفتش عن أهل الاختصاص، وسألهم وأخذ منهم بعض الكتب والمجلات ليعرف ما

هذه الظاهرة.

هذه الظاهرة جديدة؛ لأن الذي كان قبل ذلك كان تقليدا للأدب الغربي وأوروبا

وكان الشاعر يفخر بأنه امتداد لفلان وعلان من أدباء الغرب، إنما هذه الظاهرة

تنبع من البيئة الإسلامية وليست تقليدا لاتجاهات شرقية واتجاهات غربية، وعندهم

رسائل مسجلة حول هذا الموضوع، فنحن نطمح إلى ما هو أبعد مما حققته الروابط

التي ظهرت في بداية القرن العشرين.

- بالنسبة لإصدارات الرابطة سواء على مستوى الكتب أو المجلات نلحظ أن

عدد الكتب الصادرة قليل جدا والمطبوعة التي تصدر عن الرابطة تصدر بشكل

فصلي، وما يطبع منا لا يكفي القراء. ألا يوجد لديكم اتجاه لإصدار المجلة شهريا

وبأعداد أكثر مما تطبع الآن؟

- نحن نتمنى ما تتمناه ونرجو ما ترجو، ولكن المشكلة ليست فيما ترغب،

المشكلة في أمرين: في جانب الإعداد وجانب التمويل، ولعلك ولعل إخواننا لا

يعرفون أن هذه الرابطة التي شرق اسمها وغرب وشرق أتباعها وغربوا ووجدوا

في أماكن كثيرة من العالم، لعلك تعلم أو لا تعلم أنه لا يوجد شخص متفرغ لهذه

الرابطة؛ لأن جميع الجهود المبذولة تطوعية من أناس لهم أعمال ولهم أشغال

تشغلهم في البحث عن الرزق، ويعطون هذه الرابطة جزءا من وقتهم، يقتطعونه

احتسابا لوجه الله.

ومعنى أن يتفرغ شخص لها، فمن أين يأكل؟ ومن أين يعيش؟ فالرابطة لا

تعطي أحدا شيئا إلا مجموعة قليلة جدا من الموظفين والإداريين هي التي تعطيهم

أجرا.

ويوم أن يكون لهذه الرابطة دخل ذاتي يكفيها ساعتها ننظر في أن نفرغ لها

من يقوم على أمرها، أما الآن فمن الصعب جدا أن يتفرغ لها أحد، ولذا فنحن

نفعل ما نستطيع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

وأقول لك شيئا: إن الله يبارك في المجهود فيتحقق به النتائج ما لا نحلم به؛

لأن الجهد المبذول لا يتناسب مع النتائج، ولذلك النتيجة فيها توفيق من الله سبحانه

والله يعلم أن جهودنا لا نستطيع أن نفعل بها أكثر من هذا، فأعطانا التوفيق،

وأعطانا من عنده ما يسدد به عجز جهودنا. وكما يقول سبحانه [أفرأيتم ما

تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون] [الواقعة: 63-64] . فنحن نحرث؛ أما النتائج والحصاد فبيد الله وحده.

ص: 58