الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملفات
القضية الفلسطينية.. مآس متجددة
بين القومية العربية والقومية اليهودية
عبد الناصر الشعراني
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده.. وبعد:
فقد خلق الله سبحانه وتعالى آدم أبا البشر عليه السلام ثم خلق من
آدم حواء، ثم جعل في ذريتهما البنين والبنات، وذلك مذكور في القرآن الكريم،
في قوله سبحانه وتعالى: [يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس
واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به
والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا] [النساء: 1] ، فالنفس الواحدة هي آدم،
والزوج هي حواء، أما الرجال فهم الأبناء والأحفاد، والنساء هن البنات والحفيدات.
وقد سار آدم - ومَن بعده - على تقوى من الله، ثم بدأت الفُرقة التي نفث
فيها الشيطان - لعنه الله - بعدما كثر الناس، وانتشروا في الأرض، وبدأ التعصب
للقبائل في الظهور، حتى أدى إلى الاقتتال بحميَّة الجاهلية، والافتخار بالانتساب
إلى المفهوم القبلي الضيق، ولكن الله لم يرضَ عن تلك الجاهلية العمياء التي تجعل
الانتماء الفردي للجماعة الصغيرة، أو المجتمع الكبير هو أساس كل شيء، فلا
تتعدى ذلك إلى الانتماء الرحب، الذي يتعدى الفرد والجماعة الصغيرة إلى الدولة
الكبرى التي تضم الأفراد والجماعات والقبائل؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير] [الحجرات: 13] ، فالتعارف وسيلة من
وسائل عمران الدنيا، وأكرم الخلق أتقاهم.
وبدا ذلك جلياً في دولة الإسلام الفتيَّة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه
وسلم عندما كان يخاطب الأمة كلها، ولم يفرق بين أوس وخزرج ومهاجرين،
ويمن وحبشة، بل الكل عباد الله، ولم يترك للشيطان مجالاً أو ثغرة ليجتالهم،
وكان خير مثال غضبه من الفتنة التي أُثيرت بين جناحي الأنصار الأطهار (الأوس
والخزرج) ، واعتبرها دعوة جاهلية، وكذلك نجد الخطاب القرآني موجهاً إلى
الناس جميعاً، وإذا خص المؤمنين خاطبهم جميعاً، ولم يؤلب طائفة ضد أخرى،
ولم يرفع قبيلة أو جماعة، ويخفض أخرى، بل هي دعوة نورانية تسعى لتوحيد
الناس تحت راية التوحيد، وتعتبر أن التعصب الأعمى - للجنس أو العرق أو
غيرهما - جاهلية مقيتة، ودعوة مُنْتنة يجب أن توضع تحت أقدام المؤمنين.
ولقد حفل تاريخنا الإسلامي بصور مدمرة ورهيبة للدعوات الجاهلية، التي
أرادت تدمير أمة الإسلام، وقد أطلق عليها كلمة:(الشعوبية) ، التي كانت في
بدايتها شعوبية فارسية، ثم تعددت أصولها، وهي نزعة - في العصر العباسي -
تنكر فضل العرب، وتحاول الحطّ منهم، فتخفَّت تلك الدعوة الجاهلية خلف
العلويين والعباسيين؛ لتقوض حكم العرب الذين هم مادة الإسلام كما قال عمر بن
الخطاب؛ فقد كان وجود العرب المسلمين حاكمين من أكبر العوامل المحافظة على
انتشار الإسلام، وانتشار اللغة العربية (لغة القرآن الكريم) ، وإن حدث منهم
تعصب فذلك مردود عليهم، ولا يقره الإسلام.
بل لم يجد المسلمون حرجاً - في الماضي - من أن يقولوا: (نحن عرب) ،
وذلك بمفهوم الاعتزاز بالإسلام، وليس بغرض الانسلاخ منه، كما تدعو القومية
العربية والدعوات القطرية الجاهلية.
بل خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم محذراً إياهم من قرب خروج
…
(يأجوج ومأجوج)، قائلاً:(ويل للعرب من شر قد اقترب) .
إن الإسلام عندما أشرق على شعوب الأرض جمع بين أمرين قد يبدوان
متناقضين:
الأمر الأول: إذابة كل الأعراق والأجناس والانتماءات في رسالة واحدة،
وهي الإسلام.
والأمر الآخر: عدم إلغاء انتماء الأفراد والجماعات للقبائل والأعراق
والأجناس واللغات، فهذا عربي وهذا بربري، وهذا كردي
…
، لهم لغاتهم
ولهجاتهم وأصولهم الموروثة، ولكن كل ذلك في إطار الإسلام، ولا فرق بينهم إلا
بالتقوى.
وقد استمرت تلك السُّنَّة في الخلافة الإسلامية، حتى بدأ الوهن يدب في الدولة
العثمانية - آخر دول الخلافة الإسلامية - فانقضَّت جماعة (الاتحاد والترقِّي)
التركية اليهودية على الدولة العثمانية، فقضت عليها، وأعلنت الجاهلية الطورانية
التركية، فكانت دعوة لإحياء التعصب الجاهلي للجنس التركي على حساب العرب
والأكراد وغيرهم، فكان رد الفعل في الطرف الآخر (العرب) - المدعوم باليهود
والأوروبيين - هو إحياء الجاهلية العربية في النصف الآخر من القرن التاسع عشر
الميلادي؛ اتباعاً للأوروبيين الذين قد تعصبوا - في الماضي - لجنسهم، ثم أُزيل
التعصب ظاهرياً، وصار تعاوناً على الإثم والعدوان، والله عز وجل يقول:
[تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون][الحشر: 14] .
وفي الوقت نفسه الذي كان العرب ينْقضون عُرى الخلافة الإسلامية عُروة
عروة - كان اليهود يواصلون مخططاتهم التي بدأت منذ العودة من السبي البابلي
(586 - 538 ق. م)، وسميت الحركة التي تنفذها حركة:(المكابيين) ، وأول أهدافها العودة إلى صهيون، وبناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد
الأقصى (الأسير) .
وبعد القضاء على الخلافة الإسلامية ظهرت بوضوحٍ الدعوة القومية العربية
الجاهلية، وتقابلها الدعوة القومية اليهودية الجاهلية، وإن كانت تلك دعوات،
وليست دعوة واحدة لكلتيهما؛ لأن داخل القومية العربية قوميات صغيرة (وطنية أو
قُطرية) ، وقد تُختزل تلك الدعوات، حتى نرجع إلى نظام القبائل، الذي صهره
الإسلام كما ذكرت سالفاً.
وكذلك نجد تفرق الجماعات اليهودية، وقد ذكر الرسول - عليه الصلاة
والسلام - افتراقهم إلى إحدى وسبعين فرقة، وقال الله - تقدست أسماؤه - عنهم:
[تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون][الحشر: 14] ، ولكنني
أذكرهما بصفتهما كتلتين خاضتا معارك حامية الوطيس، فخسرت الأولى خسراناً
مبيناً، أما الآخرة فانتصرت انتصاراً عظيماً - لضعف الأولى - حتى يقضي الله
أمراً كان مفعولاً.
العنصر الأول: الأسس النظرية لكل قومية.
العنصر الثاني: البرامج والشعارات.
العنصر الثالث: حصاد كل قومية.
أولاً: الأسس النظرية:
قبل الحديث عن هذه الأسس لا بد من تمهيد لُغوي ومصطلحي لمعرفة هاتين
القوميتين.
يقول صاحب (القاموس المحيط) : (القوم: الجماعة من الرجال والنساء
…
معاً، أو الرجال خاصة، أو تدخله النساء على تبعية، ويؤنَّث، (ج) أقوام، (جج) أقاوم وأقاويم وأقائم، وقام قوماً وقومةً وقياماً وقامةً - انتصب، فهو قائم من قُوَّم وقُيَّم وقُوَّام وقُيَّام،.. والقَوَام - كسَحَاب - العَدْل، وما يُعاش به،
وبالضم: داء في قوائم الشاء، وبالكسر: نظام الأمر وعماده..) [1] .
إن القومية هي مصدر صناعي من (قوم)، وهي: (وعي قومي يمجد أمة
معينة، ويضع التوكيد على تعزيز ثقافتها ومصالحها) [2] ؛ فهي دعوة لتمجيد أمة
معينة من خلال الاعتزاز بكل ماضيها القائم على الباطل، بل هناك قوميات تحارب
غيرها؛ لتعيش على أنقاضه، ولا تكتفي بإبراز هويتها، كاليهود والصرب
والهندوس والروس والبوذيين والأوروبيين والأمريكيين، أو باختصار: كل الكفار
والمشركين والملحدين والمنافقين.
وكما يقول د. محمد السيد سعيد: (القومية تنتمي إلى طائفة من الظواهر
التي تتعلق بعملية تحديد هوية أو انتماء جماعات من الناس؛ فالناس قد يحددون أو
تتحدد هويتهم على أساس مجموعة من العوامل والعلامات مثل الدين والعنصر
العرقي واللغة والمنطقة الجغرافية والحضارة، أو أي تفرعات من هذه
العوامل) [3] ، وإذا فحصنا تلك العوامل، التي ذُكرت سالفاً فسنجد أن تطبيقها - في غياب الإسلام - يعني القضاء على القومية الأخرى المقابلة، وقد ضربت بعض الأمثلة للقوميات المتعصبة فيما سبق؛ ولذلك يخبرنا التاريخ والواقع أن كل دعوة غير الإسلام وبال على المسلمين، وأفضل مثال على غرابة فكرة القومية قول أحد كبار الدارسين لها - وهو فردريك هرتز -: (ما الذي منح القومية تلك
…
القوة الكبرى في العصر الحديث؟ !) ، ويجيب: (نحن - في الحقيقة - لا
…
نعلم!) [4] ، ولكننا - نحن المسلمين - في الحقيقة نعلم أنهم اليهود!
1-
القومية العربية:
إن القومية العربية هي: (حركة سياسية فكرية متعصبة تدعو إلى تمجيد
العرب، وإقامة دولة موحدة لهم على أساس من رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين، وهي صدى للفكر القومي، الذي سبق أن ظهر في
أوروبا) [5] .
وكانت تلك الدعوة الجاهلية الجامحة تدبر وتخطط منذ عام 1847م؛ ولذلك
نجد أنها تآمرت من ذلك العام إلى عام 1914م، من خلال خمس عشرة جماعة
سرية وعلنية، وكان يقودها الكافرون - وبعض مَن ينتسبون إلى الإسلام - أمثال
ميشيل عفلق النصراني الذي أسس حزب البعث العربي الاشتراكي في إبريل
(نيسان) عام 1947م في العراق وسورية، وهناك صراع بين جناحيه على حساب
البلدين الشقيقين، ومن أكبر دعاة القومية العربية ومنظِّريها ساطع الحصري
(1880 - 1968م) ، وهو من أصل سوري.
وقد برزت تلك الدعوة - بشدة - في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر
الذي استغل بها مشاعر الناس، ثم سقط - وهي معه - سقوطاً مروعاً، وهناك مَن
يحاول إحياءها، ولكن هيهات هيهات!
ولم تقم تلك الدعوة إلا على أسس ومبادئ تقوم على محاولة القضاء على
الإسلام دون غيره من المِلَل والنِّحَل السابقة، ومن هذه المبادئ:
1 -
إعلاء الفكر القومي من شأن رابطة القربى والدم على حساب رابطة
الدين.
2 -
يرى دعاة الفكر القومي - على اختلاف بينهم في ترتيب مقومات هذا
الفكر - أن أهم المقومات التي تقوم عليها القومية العربية هي: اللغة والدم والتاريخ
والأرض والآلام والآمال المشتركة.
3 -
أن العرب أمة واحدة لها مقومات الأمة، وأنها تعيش على أرض واحدة
هي الوطن العربي الواحد الذي يمتد من الخليج إلى المحيط.
4 -
كما يرون أن الحدود بين أجزاء هذا الوطن حدود طارئة ينبغي أن تُزال، وينبغي أن تكون للعرب دولة واحدة وحكومة واحدة تقوم على أساس من الفكر
القومي اللاديني.
5 -
يدعو الفكر القومي إلى تحرير الإنسان العربي من الخرافات والغيبيات
والأديان - كما يزعمون.
6 -
يتبنَّى الفكر القومي شعار (الدين لله، والوطن للجميع) ! ، والهدف من
هذا الشعار إقصاء الإسلام عن أن يكون له أي وجود فعلي من ناحية، وجعْل أُخوّة
الوطن مقدَّمة على أخوة الدين من ناحية أخرى.
7 -
يرى الفكر القومي أن الأديان والإقليميات والتقاليد الموروثة عقبات
ينبغي التخلص منها؛ من أجل بناء مستقبل الأمة.
8 -
يقول عدد من قادة هذا الفكر: نحن عرب قبل عيسى وموسى ومحمد! ، من أجل إقصاء مبادئ الإسلام التي جاء بها هؤلاء الرسل - عليهم الصلاة
والسلام -.
9 -
يقرر الفكر القومي أن الوحدة العربية حقيقة، أما الوحدة الإسلامية فهي
حُلم!
10 -
أن فكرة القومية العربية من التيارات الطبيعية التي تنبع من أغوار
الطبيعة الاجتماعية، لا من الآراء الاصطناعية التي يستطيع أن يبدعها الأفراد.
ويتمثَّل دعاة الفكر القومي كثيراً قول الشاعر القروي:
هبوني عيداً يجعل العرب أمة
…
وسيروا بجثماني على دين بَرْهَمِ
سلام على كفر يوحد بيننا
…
وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ!
11-
يقول بعض دعاة الفكر القومي: إن العبقرية العربية عبرت عن نفسها
بأشكال شتى، فمثلاً عبرت عن نفسها بشريعة حمورابي، ومرة أخرى بالشعر
الجاهلي، وثالثة بالإسلام! (وكأن الإسلام دين من وضع البشر!) .
…
12 -
قال أحد مشاهيرهم: لقد كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب
محمداً!
13 -
يرى دعاة الفكر القومي أن من الإجرام أن يتخلى العربي عن قوميته،
ويتجاوزها إلى الإيمان بفكرة عالمية أو أممية.
14 -
يقول بعض مفكري القومية العربية: إذا كان لكل عصر نبوته المقدسة
فإن القومية العربية هي نبوة هذا العصر!
15 -
ويقول آخرون منهم: إن العروبة هي ديننا نحن العرب المؤمنين
العريقين - من مسلمين ومسيحيين - لأنها وُجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية،
ويجب أن نغار عليها كما يغار المسلمون على قرآن النبي، والمسيحيون على إنجيل
عيسى.
16 -
يقرر بعضهم الآخر أن المرحلة القومية في حياة الأمة مرحلة حتمية،
وهي آخر مراحل التطور، كما أنها أعلى درجات التفكير الإنساني.
17 -
التعاون مع الشيوعيين لمقاومة الرأسمالية الغربية، والعكس صحيح،
(عبد الناصر وغيره) .
18 -
مساعدة أي ثورات أو تمردات أو انقلابات من أي اتجاه.
19 -
قمع الإسلاميين ومحاربة الأنشطة الإسلامية.
20 -
الاستسلام لليهود (الضفة الغربية، سيناء، الجولان..) .
ولتلك الأسس النظرية الكفرية جاء وصف الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه
الله - في (نقد القومية العربية (أنها) دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة
الإسلام، والتخلص من أحكامه وتعاليمه) و (هي دعوة باطلة، وخطأ عظيم،
ومكر ظاهر، وجاهلية نكراء، وكيد سافر للإسلام وأهله) [6] .
2-
القومية اليهودية:
اختلطت اليهودية - وهي دين سابق دخله التحريف - بالصهيونية، التي هي:
…
(حركة سياسية عنصرية متطرفة ترمي إلى إقامة دولة لليهود في فِلَسطين، تحكم
من خلالها العالم كله) ، واشتُقت الصهيونية من اسم (جبل صهيون) في القدس،
حيث تطمع الصهيونية أن تشيد فيها هيكل سليمان، وتقيم مملكة لها تكون القدس
عاصمتها، وقد ارتبطت الحركة الصهيونية بشخصية اليهودي النمساوي (تيودور
هرتزل) الذي يعد الداعية الأول للفكر الصهيوني الذي تقوم على آرائه الحركة
الصهيونية في العالم [7] ؛ ولذلك يلقى هذا الاختلاط بين اليهودية والصهيونية قبولاً
وتأييداً من أحبار اليهود، لكل مَن شارك في إقامة الكِيان المغتصب على أرض
فلسطين المحتلة، ولو كان من الملحدين! فالصهيونية هي الجناح السياسي
…
والعسكري لليهود.
وقد ظهرت تلك القومية - الممثِّلة للدين المحرَّف - منافسة للقوميات الأُخرى؛ ولذا فكلمة (يهودي) في أي دولة أوروبية أو أمريكا - تعني (قومية) ، أي تقابل
كلمة (أمريكي، فرنسي، بريطاني.. الخ) ، ولا يشعر اليهود بأدنى حرج من
إظهار هويتهم، وتعصُّبهم الأعمى لتلك الحركة الصهيونية، وإن كان هناك مَن
يعارضها؛ في انتظار عودة مسيحهم المنتظر!
وتنطلق تلك القومية اليهودية الصهيونية من العهد القديم (التوراة المحرفة
وأسفار الأنبياء) والكتابات الأخرى (المزامير والأمثال وأيوب..) ، والتلمود،
وهو روايات شفوية تناقلتها الحاخامات، حتى جمعها الحاخام يوضاس سنة 150م
في كتاب سماه: (المشنا) ، أي الشريعة المكررة لها في توراة موسى كالإيضاح
والتفسير، ثم أضاف إليها يهوذا سنة 216م تدويناً وزيادات شفوية، وقد تم شرح
هذه المشنا في كتاب سمي: (جمارا) ، ومن هذه المشنا والجمارا يتكون التلمود،
وله منزلة مهمة جداً تزيد على منزلة التوراة المحرفة [8] .
إن الأسس النظرية لليهود تحدد تعاملهم الوحشي مع غيرهم، ولكنهم فيما
بينهم يختلفون تماماً؛ مصداقاً لقوله - تعالى -: [ومن أهل الكتاب من إن تأمنه
بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك
بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون]
…
[آل عمران: 75] .
ومن الأسس النظرية للقومية اليهودية ما يلي:
يقول د. عبد المالك خلف التميمي عن بعض أهداف القومية اليهودية:
(بدأت فكرة الاستيطان الصهيوني في فلسطين منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي
عُقد في بازل في سويسرا عام 1897م؛ حيث حدد هذا المؤتمر الأهداف
الاستيطانية - أقول: وهي من الأسس النظرية للقومية اليهودية، التي بدأت
بالسيطرة على مراكز اتخاذ القرارات العالمية، ثم الاستيلاء على فلسطين (مركز
الحلم اليهودي) ، واتخاذها نقطة انقضاض على العالم كله - على النحو الآتي:
1 -
العمل على استعمار فلسطين بواسطة العمال الزراعيين والصناعيين
اليهود وفق أسس مناسبة.
2 -
تنظيم اليهودية العالمية، وربطها بواسطة منظمات محلية ودولية تتلاءم
مع القوانين المتبعة في كل بلد.
3 -
تقوية الشعور والوعي القومي اليهودي وتغذيته.
4 -
اتخاذ الخطوات العملية التمهيدية للحصول على الموافقة الحكومية
الضرورية لتحقيق غايات الصهيونية.
5 -
جعْل اللغة العبرية لغة رسمية للتخاطب بين اليهود في جميع ربوع
العالم [9] .
6 -
تعتبر الصهيونية جميع يهود العالم أعضاء في جنسيةٍ هي الجنسية
الإسرائيلية.
7 -
تهدف الصهيونية إلى سيطرة اليهود على العالم، كما وعدهم يَهْوَه [10] ، وتعتبر المنطلق لذلك هو إقامة حكومتهم على أرض الميعاد التي تمتد من نهر
النيل إلى نهر الفرات.
8 -
يعتقدون أن اليهود هم العنصر الممتاز الذي يجب أن يسود، وكل
الشعوب الأخرى خدم لهم (نظرية نقاء النوع) .
9 -
الاستعانة بالثورات والانقلابات لتحقيق أطماعهم.
10 -
يرون إقامة الحكم على أساس التخويف والعنف.
11 -
تسخير الحرية السياسية من أجل السيطرة على الجماهير.
12 -
انتهاء سلطة الدين، وظهور سلطة الذهب (المال) .
13 -
السياسة نقيض الأخلاق، ولا بد فيها من المكر والرياء، أما الفضائل
والصدق فهي رذائل في عرف السياسة؛ لذلك يغرقون غيرهم في الرذائل.
14 -
بث الرعب في معارضي مؤامراتهم على العالم.
15 -
استخدام الشعارات الجوفاء الخداعة (الحرية والمساواة والإخاء) .
16 -
السيطرة على المال والعلم.
17 -
السيطرة على الصحافة والثقافة والنشر لتوجيه العالم من خلالها.
18 -
توسيع الشقة بين الحكام والشعوب؛ لكي يلجأ إليهم الحكام للدفاع عنهم
ضد ثورات شعوبهم.
19 -
جعل السلطة هدفاً مقدساً لكل القوى المتصارعة.
20 -
تشكيل أندية وروابط سرية كالماسونية وأذرعها الهدامة (روتاري
وليونز.. إلخ) .
21 -
إقامة مجتمعات منحلة مجردة من الإنسانية والأخلاق ناقمة على الدين.
22 -
إشاعة المتناقضات وإلهاب الشهوات وتأجيج العواطف.
23 -
تفكيك الأسرة، ونفخ روح الذاتية في كل فرد ليتمرد، والحيلولة دون
وصول ذوي الامتياز إلى الرُّتَب العالية [11] .
ثانياً: البرامج والشعارات:
تمثل البرامج ما يسعى الفرد أو الجماعة لتحقيقه، أما الشعارات فقد تكون
كلمات نظرية لغايات معينة (غسيل مخ، خداع، حرب نفسية) .
ومن النظرة السريعة للقوميتين العربية واليهودية نلاحظ أن القومية العربية
سعت لتحقيق أهداف وأعلنت عن برامج - حققت الكثير منها - ولكن كل ذلك في
الاتجاه المعاكس للإسلام، مع ملاحظة أن بعض الأسس قد استُخدمت برامج
وشعارات، وكذلك بروز الشعارات الناصرية القومية (الشيوعية) ، التي ما زالت
تداعياتها إلى الآن، وقد استحوذت على جانب كبير من الدعاية المكثفة، أما القومية
اليهودية فقد حققت الكثير من برامجها وأهدافها، وما شعاراتها إلا لخدمة الأهداف
اليهودية، وليست للاستهلاك المحلي، كما يقولون، ومن هذه الشعارات:
1 -
شعارات القومية العربية:
- الفكر القومي يعلو على الرابطة الدينية.
- الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج.
- القضاء على الرجعية.
- الدين لله والوطن للجميع.
- الحرية والاشتراكية والوحدة.
- القضاء على الاستعمار وأعوانه.
- إقامة جيش وطني قوي.
- معركتنا مع اليهود معركة عسكرية وضد ما يسمونه بالاستعمار، ولا علاقة
لها بالدين.
- إزالة آثار العدوان الصهيوني على فلسطين ومصر وسورية والأردن.
- حتمية الحل الاشتراكي.
- تحالف قوى الشعب العاملة.
- حرية المرأة.
2 -
شعارات القومية اليهودية:
- العودة إلى أرض الميعاد (فلسطين) .
- فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
- الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.
- ضرب أي قوى عسكرية تمثل تهديداً - ولو بعيداً - لكِيَانهم المغتصِب.
- العناية باليهودي في كل مكان.
- السيطرة على مراكز اتخاذ القرارات في العالم؛ لخدمة أهدافهم.
- إقامة صناعة حربية متقدمة بإدخال السلاح النووي في الصراع مع العرب.
- تحسين صورة اليهود أمام العالم وتكثيف الدعاية ضد العرب المتوحشين
…
الأشرار.
- إقامة الدعايات ضد النازية للزعم بأنها قتلت ستة ملايين يهودي في أفران
الغاز (المحرقة أو الهولوكُست) أثناء حكم هتلر، والمطالبة بالتعويضات الباهظة
الدائمة من ألمانيا، وكل مَن اعتدى عليهم، كما يزعمون.
- البراءة من الصلب - المزعوم - للمسيح عليه السلام لتخفيف كراهية
النصارى لهم، ولتجميع القوى ضد المسلمين.
- أن اليهود هم شعب الله المختار، وكل الشعوب الأخرى خدم لهم (نظرية
نقاء النوع) .
- مَن يعاديهم أو يحاربهم فهو معادٍ للسامية، ويجب محاسبته، أو قتله.
- الأخلاق قيد لا معنى له.
ثالثاً: حصاد كل قومية:
إن الحصاد الذي جنته أمتنا من القومية العربية هو حصاد الهشيم، حصاد
الدمار، حصاد السراب، حصاد التبعية والذل.
أما القومية اليهودية فقد أقامت لها دولة العلو والفساد، وسيدمرها الله، يقول- تعالى -: [فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا
خلال الديار وكان وعدا مفعولا] [الإسراء: 5] .
1-
حصاد القومية العربية:
- نشر الأفكار الإلحادية المناقضة للدين.
- تفرق الدول العربية، بل الحرب الشديدة بين الدول التي أسسها الأفراد
أنفسهم (العراق وسورية) .
- ولاء للكافرين وبراء من المسلمين ومحاربتهم وقتلهم.
- إعلاء شأن اليهود والنصارى.
- عزل الإسلام عن المعركة، بل محاربة أهله.
- الكبت والشيوعية والانفصال بين الدول المتحدة ظاهرياً وإجبارياً (مصر
وسورية) .
- تمكين الأعداء من بلاد المسلمين.
- الهزيمة الساحقة لقوة مصر في عام 1967م.
- احتلال سيناء والضفة الغربية (القدس) والجولان.
- الاستسلام للمخططات اليهودية.
- انتشار الأحقاد والعداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع والدول أيضاً بسبب
السياسات الشيوعية التي تحرض وتثير طبقات المجتمع بعضها ضد بعض.
- انتشار الرذيلة والدعارة بعد خروج النساء للعمل، وشعور المرأة بالقهر
وانتهاك كرامتها في الخارج.
2 -
حصاد القومية اليهودية:
- احتلال فلسطين.
- إقامة الجيش الإسرائيلي الذي استطاع إنهاك الجيوش العربية مراراً؛
بسبب ضعف العرب لبعدهم عن الإسلام وإبعادهم له عن المعركة.
- تدمير المفاعل النووي العراقي، وتهديد باكستان بضربها، وتحريض الهند
الهندوسية عليها؛ لإنهاك قوتها وإضعافها.
- السيطرة على مراكز اتخاذ القرارات في العالم؛ لخدمة أهدافهم.
- إقامة صناعة حربية متقدمة بإدخال السلاح النووي في الصراع مع العرب.
- تحسين صورة اليهود أمام العالم وتكثيف الدعاية ضد العرب المتوحشين
الأشرار.
- الحصول على التعويضات الباهظة الدائمة من ألمانيا، وكل مَن اعتدى
عليهم، كما يزعمون، ومحاربة من يشكُّون فيه (الرئيس النمساوي والأمين العام
للأمم المتحدة كورت فالدهايم - والمفكر الفرنسي رجاء غارودي) ، بل قتل واعتقال
مَن يشكون فيه.
- الحصول على براءة من الصلب المزعوم للمسيح عليه السلام من
الفاتيكان، وهي كبرى هيئات التنصير الكاثوليكي في العالم.
- بث الرعب في معارضي مؤامراتهم على العالم.
- سيطرة أندية وروابط سرية كالماسونية وأذرعها الهدامة (روتاري وليونز
.. الخ) .
وما ذلك الحصاد المُرّ إلا لأن المسلمين قد تناسوا أن (للأمة الإسلامية أربعة
أبعاد لا ينفصل أحدها عن الآخر:
بُعد عقَدي: وهو الأصل والمعيار؛ فكل المسلمين أمة واحدة.
بعد إقليمي: فكل الأرض التي سرت عليها أحكام الإسلام يوماً مَّا هي أرض
الأمة الإسلامية، وعلى المسلمين أن يعيدوا ما سُلب منهم، وإلا أثموا جميعاً حتى
تعود.
بعد شخصي: فكل مَن دخل الإسلام - أياً كان مكانه على أرض الله - صار
من أبناء الأمة الإسلامية، دون نظر لجنس أو عرق أو لون، ودون نظر لعقيدته
السابقة على دخوله الإسلام، أو موطنه السابق.
بعد تاريخي: يفيد استمرارية وجود هذه الأمة - دون انقطاع - في كل
عصور التاريخ البشري، يقول الحق - جل شأنه -: [شرع لكم من الدين ما
وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن
أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه] [الشورى: 13] .
ويصف الله - تعالى - الأنبياء ومن اتبعهم من لدن نوح عليه السلام
حتى بُعث محمد خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام
بوصف الأمة الواحدة، فيقول:[إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون][الأنبياء: 92][12] .
من أجل ذلك شاء الله - جلت قدرته - أن يعود الكثير من أبناء الأمة إلى
دينهم، ويبدؤوا المسيرة المباركة من جديد؛ لكي يسودوا العالم بحكم الإسلام
ورحمته وعدله [ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو
العزيز الرحيم. وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون]
[الروم: 4 - 6] .
(1) القاموس المحيط، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، مكبتة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، عام 1317هـ/ 1925م، ط2، 4/169.
(2)
قاموس المورد، منبر البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، عام 1993م.
(3)
الشركات عابرة القومية ومستقل الظاهرة القومية، د محمد السيد سعيد، سلسلة (عالم
المعرفة) ، وقم 107، الكويت، عام 1407هـ /1968م، ص 103.
(4)
المرجع السابق، ص127، نقلا عن القومية في التاريخ والسياسة، فردريك هرنز، المؤسسة العربية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، ب ت، ص 19.
(5)
الموسوعة الميسرة، مرجع سابق، ص401.
(6)
مرجع سابق، ص401، 406.
(7)
الموسوعة الميسرة، ص331.
(8)
مرجع سابق، ص659 75.
(9)
الاستيطان الأجنبي في الوطن العربي، سلسلة (عالم المعرفة) ، رقم 71، الكويت، محرم _ صفر عام 1404هـ، ص 107، نقل عن الملخص لكتاب العرب واليهود في التاريخ لجعفر
الخليلي، بغداد، عام 1997م، ط2، ص 108.
(10)
يهوه: هو اسم الإله عندهم.
(11)
الموسوعة الميسرة، مرجع سابق، ص332 337، وذلك نقلا عن كتاب بروتوكولات
(حكماء) صهيون وغيره، ويعمل اليهود - دائما- على زرع الشك من نسبة تلك البروتوكولات
إليهم، فمنهم من يؤكدها، ومنهم من ينفيها، ولكن الواقع يؤكدها.
(12)
كيف نفكر استراتيجيا؟ اللواء_أركان حرب_ الدكتور فوزي محمد طايل، مركز الإعلام العربي، الهرم، مصر، عام 1418هـ، ص134- 135.
ملفات
القضية الفلسطينية.. مآس متجددة
العلو الكبير (1/ 2)
من خيمة الذل
…
إلى حصن الجبروت
دور القوى الكبرى في التمكين لليهود
عبد العزيز كامل
قضى الله - تعالى - قضاءً لا مرد له، بأن تظل أمة اليهود في ذلة مقيمة
بعد أن حلَّت عليهم لعنة الله - تعالى - بسبب كفرهم وتكرار جرائمهم مع الأنبياء
والمصلحين، وتأكد هذا بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه الذلة
المقيمة معهم والمضروبة عليهم كالخيمة حيثما حلُّوا أُخضعت لاستثناءين أو حالتين
ترفع فيهما:
الحالة الأولى: أن يدخلوا في الإسلام فيستمدوا منه العزة المكتوبة لله ولرسوله
وللمؤمنين.
الحالة الثانية: أن تشملهم مظلة قوة من قوى الشر من البشر الذين يستغلونهم
أو يستعملونهم لأجل أغراض ومصالح مشتركة؛ وهذا ما قرره القرآن العظيم في
وضوح جليٍّ تام، في قوله عز وجل: [ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا
بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك
بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون] [آل عمران: 112] .
والمتأمل في تاريخ بني (إسرائيل) كله بعد عصور الاصطفاء يجد أن تلك
الأمة اليهودية لم تخرج عن هذا القضاء الإلهي قيد شعرة؛ فطوال عهود تمكين
الإسلام لم يحظ يهودي بعزة وأمان إلا بدخوله بصدق في الإسلام وانضمامه إلى
ركب المؤمنين، أو بخضوعه لحكم المسلمين والنزول تحت حمايتهم، وهذا ما كان
طيلة التاريخ الإسلامي، وخاصة خلال فترة وجود اليهود في الأندلس، ثم في
تركيا؛ حيث لم يجدوا الأمان إلا في كنف المسلمين. أما في عصور ضعف
المسلمين، وخاصة في العصر الحديث فقد انتقل اليهود إلى الاحتماء بقوى الطغيان
الكبرى التي كانت تسمى بقوى الاستعمار.
وقبل إبراز هذه الحقيقة من خلال استعراض دور القوى الكبرى في إيجاد
كيان اليهود ودعمه وتثبيته، تجدر بنا الإشارة إلى حقيقة أخرى مهمة، وهي أن
هناك قضاءاً إلهياً آخر يخص المسلمين في هذا الشأن، وهو أن الأصل فيهم أن
يكونوا أعزة، فكما ضربت الذلة على اليهود فقد كتبت العزة للمؤمنين، ونص
القرآن واضح في هذا. قال تعالى: [ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين]
[المنافقون: 8] وقال: [كتب الله لأغلبن أنا ورسلي][المجادلة: 21] والمقصود هنا الرسل وأتباعهم الناصرون لدينهم، كما قال - سبحانه -:
[ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز][الحج: 40] . فعزة المؤمنين
…
والمسلمين هي الأصل، ولكن قد يعرض استثناء من الذلة إذا تخلفت موجبات العزة، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(إذا تبايعتم بالعِينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم)[1] .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله
بالإسلام؛ فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله) [2] ، وصدق الفاروق،
فقد جرب العرب الاعتزاز بالقوميات والوطنيات وغيرها من الرايات، فما زادتهم
إلا ذلة وخبالاً.
ونعود إلى الكلام عن ذلة اليهود؛ فقد شاء الله - سبحانه - أن يشهد عصرنا
علواً آخر كبيراً لهم، والعلو بالباطل ليس عزة في الحقيقة بل هو بغي وطغيان
وتجبر، ومع ذلك فإن هذا العلو، لم يرتفع اليهود إليه إلا فوق رافعات من قويً
أخرى غير يهودية كان لها الأثر الأكبر في ظهورهم وفجورهم.
إن الوقائع المعاصرة تصدِّق هذه السُّنَّة الإلهية التي نطق بها القرآن بشأن
اليهود، كما تصدق في أحوال المسلمين. ولكن الذي يعنينا في هذا المقال هو حال
اليهود من حيث خروجهم من دائرة الذلة: كيف خرجوا؟ وبم خرجوا؟ وعلى يد
مَنْ خرجوا؟ إن الجواب على ذلك كفيل بأن يكشف لنا ملامح المصير الذي سيؤول
إليه صراعنا معهم، وقمين بأن يبين مزيداً من معالم سبيل المجرمين في الكيد لهذا
الدين.
فرنسا الاستعمارية، والتجربة الأولى:
سبقت فرنسا إنجلترا في الاهتمام بشأن اليهود، ولفتت أنظارهم إلى إمكانية
العودة إلى الأرض المقدسة في فلسطين قبل مئتي عام، في ظل بوادر ضعف
إسلامي متزايد؛ فقد أطلق نابليون بونابرت دعوته لليهود بالهجرة إلى فلسطين في
إبريل من عام 1799م للميلاد، وعرض تعاون الحركة الاستعمارية الفرنسية معهم، لتمكينهم من السيطرة على أرض بيت المقدس؛ ولهذا فإنه بعد أن غزا مصر عمد
إلى غزو الشام، وخاض معارك كبيرة هناك، إلا أنها انتهت بهزيمته في عكا في
معركة أبي قير، مما أجهض مشروعه الإجرامي لتمكين اليهود في فلسطين في ذلك
الوقت المبكر الذي سبق ميلاد الحركة الصهيونية المعاصرة بنحو مئة عام؛ ولكن
فرنسا ظلت محتفظة بالتزامها بالتعاون مع اليهود بصور تظهر تارة وتختفي تارة،
وكان من أبرز صور التعاون معهم بعد إقامة دولتهم المشاركة في العدوان الثلاثي
على مصر عام 1956م، والأظهر من ذلك تمكين دولة اليهود من تصنيع القنبلة
النووية بتعاون فرنسي إسرائيلي وثيق منذ نهاية الخمسينات.
بريطانيا تشد الحبال الأولى:
جدلت بريطانيا لليهود حبل الخروج، فكانت أول (حبل من الناس) لنصرتهم
وانتشالهم من ذلتهم في القرون الأخيرة، وقد استفادت من إخفاقات نابليون في
تحقيق هذا الغرض، وسارت في خطوات حثيثة وخبيثة لإنجاح المشروع الذي لم
تفلح فيه فرنسا. وقد تكلل هذا المسعى المشؤوم بالنجاح - بكل أسف - في نهاية
المطاف، ووُلدت دولة اليهود على يد القابلة البريطانية بعد نحو مئة عام أخرى من
موعد بدئه؛ فالمشروع الإنجليزي لتمكين اليهود في فلسطين بدأ عام 1840م،
وأثمر قيام الدولة عام 1948م؛ فكيف كان ذلك؟
لقد بدأت بريطانيا مشروعها بتصدير رجال دين نصارى لهذه المهمة؛ حيث
رأت أن رجال السياسة لن يصلحوا لمرحلة البداية التي تحتاج إلى تحفيز روحيٍّ
وعقديٍّ، ولهذا فإن أول من أذنت له بريطانيا ببذل مساعيه لإحياء المشاعر الدينية
عند اليهود بخصوص العودة لفلسطين هو القس (وليام هشلر) الذي تحرك في دول
أوروبا من أجل الإقناع بهذا الهدف.
وبينما كان القس يهيئ الأجواء لقبول المشروع البريطاني، كان الساسة
يرتبون للتحرك على محاور أخرى لاستثمار نتائج مساعيه أولاً بأول، وأصبحت
بريطانيا تنادي علناً بحماية حقوق الأقليات الدينية في العالم، ولم يكن يهمها في
الحقيقة من هذه الأقليات سوى الأقليات اليهودية لجمع شتاتها المبعثر في العالم،
وحشْره في بيت المقدس.
وعندما آتت هذه المساعي شيئاً من أكلها بانتعاش الأقلية اليهودية في فلسطين
انتقلت بريطانيا في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر إلى جلب يهود آخرين إلى
أرض فلسطين من خارجها، واستغلت خبرتها العريقة في اغتصاب الشعوب باسم
(الاستعمار) لتضعها تحت تصرف اليهود باسم (الاستيطان) ، أي تحويل أرض
الغير إلى وطن.
وقد أرادت بريطانيا بذلك المسعى أن تضرب عصفورين بحجر واحد؛ فهي
من ناحية تحقق ذلك الهدف المشبوه من مشروع تمكين اليهود في بيت المقدس بعد
تيه قارب الألفي عام، ومن ناحية أخرى، تضع خنجراً في خاصرة العالم الإسلامي، لتكرس حالة الوهن التي وصل إليها بعد ضعف الدولة العثمانية، وذلك حتى لا
يقوم لهذا العالم كيان عالمي يحاول النهوض من جديد. وقد جعل وزير خارجية
بريطانيا (اللورد بالمرستون) مهمته الأولى هي السير قدماً في وضع السياسات
الكفيلة بتحقيق هذين الهدفين.
ولكن برامج (بالمرستون) ظلت مجمَّدة حتى انتهت الحرب العالمية الأولى
التي نتج عنها هزيمة الدولة العثمانية؛ حيث استغل الإنجليز نتائجها وسارعوا إلى
اغتنام فرصة الفراغ والبلبلة الناشئة عنها، ونادوا بضرورة فرض الحماية
البريطانية على فلسطين، ولم تكن هذه الخطوة إلا تطبيقاً لأفكار بالمرستون للإمعان
في تهيئة الأوضاع في فلسطين للتمكين لليهود فيها بالتنسيق مع فعاليات الحركة
الصهيونية العالمية التي كانت قد بلغت في ذلك الوقت مرحلة من النضج التنظيمي
الذي يؤهلها للقيام بدور فاعل في هذه التطورات المصيرية في المنطقة.
وهنا نقف وقفة مع (خيمة الذل) المضروبة على اليهود، فنتساءل: هل كان
بإمكان تنظيمات الحركة الصهيونية وحدها أن تقفز هذه القفزة، لولا (الحبل)
الإنجليزي، الذي أُلقي إليها لتتسلق عليه إلى الأرض المقدسة؟ !
لقد شهدت البدايات الأولى للقرن التاسع عشر تلاقياً ظاهراً بين أهداف الحركة
اليهودية العالمية وأهداف بريطانيا زعيمة العالم النصراني في ذلك الوقت؛ وكأن
أحقاد التاريخ كله قد اجتمعت على موعد لتصفية حسابات قرون مضت لليهود
والنصارى مع الإسلام في عقر داره.
لقد توَّجت بريطانيا هذا التلاقي بإصدار حكومتها وعداً رسمياً لليهود بإقامة
(وطن) - لا مستوطنات - ولم يكن هذا الوعد الصادر في نوفمبر عام 1917م
مجرد وعود تشجيعية، وإنما كان بمثابة حكم قضائي، سخرت لتطبيقه القوى
المتنفذة في ذلك الوقت، فوعد (بلفور) كان يعني بتعبير آخر، تعهد بريطانيا
بتحويل فلسطين إلى وطن لليهود، ولم يكن هذا التعهد قابلاً للتنفيذ عن بُعد، ولهذا
أقدمت بريطانيا على احتلال القدس بعد صدور الوعد بشهر واحد.
وهكذا، وبعد عشرين عاماً من اجتماع قادة الصهيونية في (بال) بسويسرا
فتحت لهم بريطانيا مصاريع أبواب فلسطين لكي يلج منها مشروعهم التآمري ضد
المسلمين، بل ضد البشرية جمعاء.
لقد سعى اليهود بعد ذلك من خلال منظماتهم النشطة سياسياً إلى تحويل وعد
بلفور إلى النطاق الدولي الواسع بدلاً من النطاق البريطاني الضيق، وذلك بعد أن
عرضت الحركة الصهيونية مشكلتها على مؤتمر السلام الدولي المنعقد في باريس -
1919م حيث أوجد هذا المؤتمر الأرضية المناسبة لقرار الحلفاء بوضع فلسطين
تحت الانتداب البريطاني، ومع تحول القضية إلى الصفة الدولية حرصت بريطانيا
على الاحتفاظ بدورها الخاص في إكمال مسعاها المشؤوم إلى نهايته؛ فإثر تسلمها
مهمة الانتداب عينت صهيونياً هو (هربرت صموئيل) مندوباً سامياً أول لبريطانيا
في فلسطين، وبوصفه يهودياً وبريطانياً فقد قام بما أُسند إليه بدقة وإخلاص، ولم
يضيِّع فرصة يمكن أن يستفيد منها اليهود.
كانت فترة الانتداب (1917- 1947م) كافية لتوفير المعطيات اللازمة وإعطاء
المسوغات الكافية للإعلان عن بلوغ الحركة اليهودية مرحلة التأهل الكامل لإعلان
الدولة، فعبر سياسات اغتصاب الأراضي وطرد أهلها أو التحايل لشراء الأراضي
منهم أو سن القوانين لنزع ملكيتها، تم تدبير العنصر الأول من عناصر الدولة وهو
(الأرض) .
وعن طريق تدبير الهجرة لليهود والتهجير للعرب، تم طبخ العنصر الثاني
من عناصر الدولة وهو (الشعب) ، وأصبحت أرض فلسطين مهيأة لتطبيق العنصر
الثالث من مقومات الدولة وهو (السيادة) وهو ما تم بإعلان الدولة فعلياً عام 1948م، بعد ثلاثين عاماً من العمل المتواصل والمتكامل بين يهود العالم ونصارى بريطانيا
تحت مظلة الانتداب الدولية.
وبميلاد دولة اليهود بدأت الإمبراطورية البريطانية في العالم تنحسر، وكأن
عمرها قد مُد فيه لتكون محلاًّ لسخط الله والناس بإنجاز هذا المشروع المعادي
للإنسانية (إسرائيل) . فقد أنهت وجودها في القارة الهندية في العام نفسه، ثم سحبت
جيوشها بعد ذلك من البلاد العربية التي كانت تحتلها.
لقد سلَّمت بريطانيا الشجرة الصغيرة التي زرعتها إلى من يرعاها وينميها
حتى تستوي على عودها، وتزاول مهمة إنتاج الثمرات الخبيثة.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الحاضنة الجديدة، حيث رعت دولة
اليهود وثبتتها في مراحلها المختلفة حتى بلغت الرشد، وشبت عن الطوق، بل
وخرجت عن السيطرة، ولهذا فقد كانت (الحبل) الثاني من حبال الناس التي خرج
بها اليهود من الذلة إلى حين.
ولكن الحبل الأمريكي كان أشد وثاقاً، وأحكم صنعة، حتى إنه جرَّ اليهود
جراً إلى مقدمة قوى الطغيان الدولي؛ ولكن قبل أن نبدأ في تفصيل ذلك لا بد من
وقفة مع (الأداة) التي استعان بها البريطان ومن بعدهم الأمريكان في بناء الحصون
التي احتمى بها اليهود طيلة سنوات الصراع الماضية، إنها (الأمم المتحدة) فإلى
جانب وضع الولايات المتحدة كل إمكاناتها تحت خدمة العلو اليهودي، فقد استغلت
الأممَ المتحدةَ المنظمة الدولية في القيام بدور آخر، لم تستطع الولايات المتحدة
نفسها، ولا بريطانيا القيام به، وهو دور إسباغ (الشرعية الدولية) على الوجود
والسيطرة اليهودية في بلاد المسلمين، ولهذا فلا بد لنا من وقفات مع هذا الدور
الذي قامت به وتقوم به تلك المنظمة في تمكين اليهود في منطقتنا الإسلامية؛ بحيث
أصبحت هي الأخرى حبلاً آخر مساعداً للخروج اليهودي الاستثنائي من خيمة الذل
الأبدي، وإن بدا للناس خلاف ذلك.
الأمم المتحدة.. وإرادة الكبار:
لا توجد إرادة مستقلة باسم (الأمم المتحدة) ولكن هذه المنظمة الدولية منذ
نشأت لا تعكس إلا إرادة القوى العالمية المتنفذة في تحديد العلاقات الدولية، وإن
كان لها سلطة فإنها موجهة من تلك القوى وليست نابعة من نظمها أو ميثاقها، ولذلك
فإنه فيما يتعلق بقضية فلسطين جرى فرض إرادة الدول الكبرى على معالجة الأمم
المتحدة لها، ولم تكن هذه المعالجة سوى تثبيت للخطط المسبقة والمتفق عليها من
تلك الدول؛ فقبل أن يتم إعلان قيام دولة اليهود مهدت الأمم المتحدة لقيامها بصدور
قرار الجمعية العامة التابعة لها في 29 نوفمبر 1947م برقم 181، وهو القرار
الذي أوصى بتقسيم فلسطين بين اليهود وعرب فلسطين بنسبة 51% إلى 49%.
ولم يضيِّع اليهود الفرصة، فراحوا يتسابقون لاستكمال اللمسات الأخيرة للدولة التي
قررتها لهم (الشرعية الدولية) في الأرض التي اغتصبوها بالاحتيال والإرهاب.
وقرار التقسيم هذا هو الذي رفضته الدول العربية وقت صدوره، وهو نفسه
الذي يمثل الآن أقصى ما يحلمون بتحقيقه لإعلان الدولة الفلسطينية بعد أن اجتاح
اليهود في حروب تالية بقية فلسطين التي تسمى حتى الآن (الأراضي المحتلة) !
وقد أعلنت الأمم المتحدة قبول دولة (إسرائيل) عضواً فيها بعد عام من
إعلان ميثاقها، ولم يكن هناك بالطبع وجود لدولة أخرى على الشطر الثاني من
فلسطين، فتعاملت الأمم المتحدة مع قضية الشعب الفلسطيني على أنها مجرد قضية
(لاجئين) واكتفت بتشكيل وكالة إغاثة دولية لهم، وظلت القضية تعامل داخل أروقة
الأمم المتحدة على هذا الأساس مدة عشرين عاماً في ظل إصرار إسرائيلي على عدم
عودة أي لاجئ إلى أرضه، وظل الأمر على ذلك حتى حدثت حرب (النكسة)
1967م، فأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة [3] عدة قرارات تؤكد فيها حق
الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ومن ذلك ما صدر في 10-12-1969م،
حيث وصف القرار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بأنه غير قابل
للتصرف.
وعندما أعلن المجلس الوطني الفلسطيني قيام دولة فلسطين في نوفمبر 1988 م
…
مستثمراً نتائج انتفاضة الحجارة، اعترفت الجمعية العامة بهذا القرار، ولكن
مجلس الأمن الذي يفترض أنه جهة تنفيذية ظل متعاجزاً عن اتخاذ أي موقف عملي
لتنفيذ قراراته فضلاً عن قرارات الجمعية العامة بما في ذلك القرار 242 الداعي
إلى انسحاب (إسرائيل) من الأراضي التي احتلتها في عام 1967م، واكتفى هذا
المجلس بإصدار قرارات الإدانة والشجب لممارسات الدولة اليهودية المتصادمة مع
القرارات والمواثيق الدولية، تلك القرارات التي اتخذ الكيان اليهودي منها موقفاً
واحداً لا يتغير ولا يتبدل وهو: التعالي والازدراء، أو على الأقل التجاهل وعدم
المبالاة؛ ففي تحدٍّ ظاهر تجاهلت (إسرائيل) نحو خمسة وأربعين قراراً دولياً
بالإدانة أو الشجب أو الاستنكار، بين أعوام 1953م إلى 1995م، واستخفت
وسخرت من نحو خمسة وثلاثين مطلباً دولياً ومناشدة في تلك المدة.
وسأضرب مثالاً بقضية واحدة ضمن قضايا عديدة صدرت بشأنها القرارات
الدولية وهي قضية القدس؛ فقد صدرت بشأنها قرارات متعددة لم تنفذ (إسرائيل)
واحداً منها؛ ففي عام 1958م صدر القرار (127) يطالب (إسرائيل) بأن توقف
فوراً اعتبار القدس منطقة نفوذ إسرائيلية، ولكنها لم تذعن، وفي عام 1968م
صدر القرار 250 يدعوها إلى عدم إقامة عروض عسكرية فيها، فلم ترعوِ،
وصدر بعد ذلك مباشرة قرار بالإدانة لرفضها الإذعان فلم تأبه به، وفي القرار
252-
1968م، طالبت المنظمة الدولية (إسرائيل) بالعدول عن قرار اتخاذ
القدس عاصمة موحدة لها، فرفضت القرار، ثم صدر القرار 267 لعام 1969م
يطالبها بإيقاف عمليات تغيير معالم القدس، فلم تُلق دولة اليهود له بالاً، ثم أتبعته
المنظمة الدولية بقرار آخر برقم (271- 1969م) يدين عدم الإذعان، ويكرر
المطالبة بإيقاف تهويد القدس، ولكنها لم تلتفت إليه أيضاً، وبعد ذلك بعامين صدر
القرار (298- 1971م) يكرر الإدانة والمطالبة بشأن قضية القدس، ولكنه لحق بما
سبق من التجاهل الذي استمر طيلة عقد السبعينيات وجاء عقد الثمانينيات، فصدر
القرار (476-1980م) مطالباً حكومة اليهود بإلغاء خطواتها المتخذة بشأن تهويد
القدس بعد أن اعتبرتها الأمم المتحدة لاغية، ولكن أحداً من المسؤولين الإسرائيليين
لم يُصْغِ لهذا القرار، بل ردت عليه (إسرائيل) بأن أعلنت في قانونها الأساس أن
القدس عاصمة موحدة وأبدية لدولة (إسرائيل) مما جعل الأمم المتحدة تصدر قراراً
آخر هو القرار (478) لعام 1980م، تستنكر فيه بشدة عناد (إسرائيل) في تنفيذ
القرارات الدولية السابقة كلها!
وتتكرر القضية طيلة عقد الثمانينيات والتسعينيات، بشكل يصور المنظمة
العالمية بصورة هزلية وهزيلة؛ إذ إنها تطالب العالم كله باحترام (الشرعية الدولية)
والخضوع لقراراتها، وتسارع لفرض ذلك.
العقوبات وضرب الحصار، وحشد القوى الدولية ضد كل من يخرج عن
شرعيتها، باستثناء دولة واحدة، لم يصدر بشأنها إجراء عملي واحد لردعها هي
دولة (إسرائيل) ، ويحدث هذا كله تحت سمع وبصر الدول الكبرى التي ما كان
لدولة اليهود أن تتصرف على هذا النحو إلا بإغماض منها في الظاهر وتشجيع في
الباطن.
ولهذا كله؛ فإن من البلاهة والبلادة، بل من الحمق والغباء أن يُظن أن الذين
صنعوا لليهود دولة في عقر ديارنا، ومكنوهم من التفوق على مجموع قوتنا
وجيوشنا يمكن لهم في يوم من الأيام أن يقفوا معنا ضدهم أو يمكنونا من صدهم أو
إضعافهم، هيهات هيهات؛ فالله - تعالى - يقول: [والذين كفروا بعضهم أولياء
بعض] [الأنفال: 73] ، والعجيب أن كثيراً من العرب يتصورون أنه لا حل
للأزمة مع اليهود إلا بكسب صداقة (أصدقاء اليهود) والمراهنة على (الضغوط)
التي تمارسها ضدهم الدول الكبرى والمنظمات الدولية، وهذا وهم آخر، فالله -
تعالى - يقول: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم
أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين
في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي
بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين]
[المائدة: 51، 52] .
فاللهم ائت بالفتح أو أمرٍ من عندك
…
حتى تمكن للمؤمنين وتوهن كيد
الكافرين.. آمين.
(1) رواه أبو داود، ح/ 3003، وأحمد، ح/ 4765.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك، ك الإيمان، 1/62، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3)
الجمعية العامة للأمم المتحدة تمثل مجموع أعضاء المنظمة الدولية، أما مجلس الأمن، فتتحكم فيه فقط الدول التي تتمتع بنقض الفيتو، ولا تملك الجمعية العامة إلزام مجلس الأمن بشئ من قرارتها.