الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خواطر في الدعوة
الفرصة المتاحة
محمد العبدة
إن ما يحدث على الساحة العالمية هذه الأيام شيء يحتاج إلى وقفة تأمل وتدبر، فموجة المطالبة بالحريات الديمقراطية في الحكم تجتاح أعتى الدول دكتاتورية
وقبضة حديدية، أمريكا الجنوبية ترجع شيئاً فشيئاً إلى طريق الانتخابات، الدول
الشيوعية وعلى رأسها روسيا تقوم فيها المظاهرات مطالبة بإعادة الاعتبار للشعوب
المقهورة، هل كان أحد يتوقع أن تقوم مظاهرة في موسكو؟ ! والروس هم الذين
سحقوا الشعوب التي طالبت بشيء من الحرية، وما يحدث في الصين أعجب، لقد
تظاهر المسلمون أيضاً يطالبون بحقوقهم، رغم أن العسكر رجعوا إلى عادتهم
القديمة في قمع هذا الاتجاه.
لقد أفلست الشيوعية ومن قبلها الرأسمالية رغم أن الغرب يحاول الآن استغلال
هذا الانهيار في الجانب الشيوعي ليقول للناس: إن البديل هو الليبرالية الرأسمالية، ولكن فعلهم هذا كمن يحاول تجميل وجه قبيح، أو إرجاع الشباب إلى عجوز
شمطاء، فالغرب وإن كان فيه بقية من قوة وحيوية سيتشبث بها وينفخ في نفوس
أهله النزعة الاستعمارية المتأصلة، إلا أن الخلل والانحطاط في الحضارة الغربية
باد واضح للعيان، إذن ما هو البديل العقائدي أو الفكري الذي يطرح نفسه في هذه
الأيام؟ .
إن الإنسان لا يستطيع العيش في فراغ، لابد من شيء يملأ جوانحه، لابد أن
يعبد شيئاً ما، وأصدق الأسماء على الإنسان كما قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «حارث وهمام» فلا بد له من هم يشغله، وليس هناك سوى الإسلام.
وإذا كانت اليابان سترث الغرب اقتصادياً ومالياً، كما يتوقع بعض كتاب
الغرب المعاصرين، فإنها لا تستطيع أن تملأ الفراغ، اليابان لا تملك فكراً متميزاً
تقدمه للناس.
فهل يعي المسلمون خطورة مكانهم ومكانتهم ودورهم المهيأ لهم؟ وهل
يستطيع المسلمون إعطاء صورة صادقة عن هذا الدين مما يجعل بعض النفوس
التي أراد الله لها الهداية أن تقبل على الإسلام؟ إن الأخلاق الإسلامية العالية،
واتحاد الكلمة ووضوح الفكر، من أكبر الأسباب التي تؤثر في هؤلاء الناس، إنها
فرصة متاحة لنشر الدعوة، وتوعية المسلمين الذين كانوا مقهورين تحت الحكم
الروسي أو الصيني، وتوعية الجاليات الإسلامية في كل مكان.
وإذا كان الجهاد من أساسيات الدعوة، فإذا انعقدت سوقه وفتح بابه فهو من
أسباب إظهار قوة الإسلام وعظمته والتبشير به فكذلك إذا أتاح السلام في بعض
المناطق فرصة للدعوة فيجب أن تستثمر وتستغل كما حدث في صلح الحديبية حيث
أعطيت فرصة كبيرة للمسلمين في التنقل وجلب أنصار جدد، إن الفرص كثيرة،
والمهم هو أن يهتبلها المسلمون في الوقت المناسب.
من أعلام أهل السنة والجماعة
عبد الله بن المبارك العالم المجاهد
د. محمد بن مطر الزهراني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فان الله اصطفى من خلقه أنبياء ورسلاً، وجعل خاتمهم أفضلهم، وإمامهم
محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعل رسالته خاتمة الرسالات، ودينه ناسخاً لما
قبله.
ثم اختار لصحبته صفوة الخلق بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام،
وقد كانوا - بفضل الله - جديرين بذلك الاختيار، فحملوا الرسالة من بعده -صلى
الله عليه وسلم- وكانوا أمناء على أدائها على الوجه الأكمل، وكانوا المجتمع
الأنموذج والتطبيق الفعلي لمبادئ تلك الرسالة، ووسيلتهم في ذلك:
1-
السلوك العملي الذي هو تطبيق لمبادئ الرسالة.
2-
وتعليم الناس دين الله.
3-
والجهاد لإعلاء كلمة الله.
4-
والصبر على الأذى والمشاق في سبيل الله..
فتخرج على أيدي هؤلاء الأئمة الأعلام تلاميذ نجباء كانوا على حمل الرسالة
من بعد أشياخهم أمناء، وهكذا خرّج كل جيل جيلاً بعده يحمل الرسالة ويؤدي
الأمانة، وهذا من حفظ الله لهذا الدين الذي ختم به الأديان.
وكان من يهتدي بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده
ويسلك منهجهم في كل صغيرة وكبيرة يعرفون بأهل السنة والجماعة، ومن هؤلاء
أهل الحديث المشتغلون بالسنة النبوية وخدمتها قولاً وعملاً، ومن خالف منهج
الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام عرفوا بأصحاب الأهواء أو (المبتدعة) ، وكان على رأس هؤلاء الخوارج والروافض والجهمية والقدرية
والمرجئة والمعتزلة وغيرهم من تلك الطوائف المنحرفة عن ذلك المنهج القويم.
وكلمة أهل الحديث أصبحت علماً - في القرون الثلاثة المفضلة - على من
اتصف بهذه الصفات:
1-
الاشتغال بخدمة السنة النبوية سنداً ومتناً، حيث ظهر على أيديهم علم
الرجال، وعلم مصطلح الحديث الذي امتازت به الأمة الإسلامية عن غيرها من
الأمم.
2-
الالتزام بالكتاب والسنة قولا وعملاً، عقيدة وعبادة معاملات وسلوكاً،
سياسة واجتماعاً مع فهمها الفهم الصحيح على نهج رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وصحابته الكرام.
3-
عدم تأويل آيات وأحاديث الصفات، أو صرفها عن ظاهرها بغير دليل.
4-
عدم تحكيم العقل والهوى في النصوص بدون دليل صحيح، كما فعل
المبتدعة من جهمية ومعتزلة وغيرهم ممن انحرف عن منهج أهل السنة والجماعة.
5-
فضح أهل البدع والأهواء وبيان ضلالهم وانحرافهم وتحذير الأمة منهم
ومن ضلالاتهم، كل ذلك نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
6-
الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله وأن يكون الدين كله لله، وذلك بالسنان
والبيان، كما فعل سلفهم الصالح من الصحابة رض عنهم.
وقد وصف الحافظ ابن حبان في مقدمة صحيحه أهل الحديث، فقال:
(
…
ثم اختار طائفة لصفوته، وهداهم للزوم طاعته، من اتباع سبل
…
الأبرار، في لزوم السنن والآثار، فزين قلوبهم بالإيمان، وأنطق ألسنتهم بالبيان،
من كشف أعلام دينه وأتباع سنن نبيه بالدُّؤوب في الرحل والأسفار، وفراق الأهل
والأوطان في جمع السنن ورفض الأهواء، والتفقه فيها بترك الآراء، فتجرد القوم
للحديث وطلبوه، ورحلوا فيه وكتبوه، وسألوا عنه وأحكموه، وذاكروا به ونشروه، وتفقهوا فيه وأصلوه، وفرعوا عليه وبذلوه
…
) [1] .
وسأعرض تحت هذا العنوان (من أعلام السنة والجماعة) نماذج من أولئك
الأئمة الأعلام مبينا حسب الإمكان جهودهم العلمية والعملية في خدمة هذا الدين
وتعلمه وتعليمه للناس، لعل شباب الإسلام اليوم يجدون في الاقتداء بهؤلاء الأئمة
ويحذون حذوهم فيحيون منهج أهل السنة والجماعة بين الناس ويكونون الأنموذج
العملي لمبادئ تلك الرسالة كما كان أسلافهم من أهل القرون المفضلة.
وأول ما أبداً به من هؤلاء الأعلام إمام أهال السنة في خراسان في زمانه،
وقدوة المتقين في وقته، العالم الرباني المجاهد: عبد الله بن المبارك أبو عبد
الرحمن التركي الأب، الخوارزمي الأم، ولد سنة ثماني عشرة بعد المائة وتوفي
سنة إحدى وثمانين ومائة [2] .
قال الإمام الذهبي: (
…
الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في
وقته، طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، سمع من هشام بن عروة، وإسماعيل بن
أبي خالد، وسليمان الأعمش، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، ويحيى بن سعيد
الأنصاري، وموسى بن عقبة، ومعمر بن راشد، وابن جريج، ومالك بن أنس،
والثوري، وشعبة، وخلق كثير.
وروى عنه داود العطار وابن عيينة، وأبو إسحاق الفزاري، ومعتمر بن
سليمان، ويحيى بن القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله وهب، وعبد
الرزاق الصنعاني وخلق غيرهم) [3] .
مكانته العلمية:
قال الخطيب البغدادي: كان ابن المبارك من الربانيين في العلم الموصوفين
بالحفظ ومن المذكورين بالزهد.
وقال عبد الرحمن بن المهدي: ما رأيت أعلم بالحديث من سفيان الثوري،
ولا أحسن عقلاً من مالك، ولا أقشف من شعبة، ولا أنصح لهذه الأمة من عبد الله
بن المبارك.
وقال الأسود بن سالم: كان ابن المبارك إماماً يقتدي به، وكان من أثبت
الناس في السنة إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام.
وقال سفيان بن عيينة: نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك فما رأيت
لهم عليه فضل إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه.
وقال العباس بن مصعب: جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام
الناس والشجاعة. والسخاء والتجارة.
وقال أحمد بن حنبل: لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه [4] .
هذه شهادات أئمة عدول تبين لنا تلك المكانة العالية التي كان يحتلها هذا الإمام
المجاهد، والعالم الرباني بين علماء الأمة، هذه المكانة لم يكن ينالها ابن المبارك لو
أنه آثر أن يعيش كما يعيش غيره من الناس على هامش الحياة آثر الدعة والراحة
على الجد والجهاد والتضحية والبذل..
بل كان همه رحمه الله وشغله الشاغل نصرة هذا الدين وإعلاء كلمة الله،
فكان يبذل في سبيل ذلك نفسه وماله وعلمه وصحته ووقته رحمه الله ورضي عنه.
جهوده في خدمة منهج أهل السنة والجماعة:
تلقى الإمام ابن المبارك هذا المنهج الصافي عن شيوخه من التابعين وهم تلقوه
عن الصحابة رضوان الله عليهم، فبذل رحمه الله في سبيل تأصيل ونشر منهج أهل
السنة والجماعة كل غال ونفيس لديه ولقد كانت حياته كلها خدمة لهذا المنهج،
وتطبيقا عمليا لمبادئ منهج أهل السنة والجماعة، وقد عبر عن ذلك الأسود بن سالم
فيما رواه الخطيب بإسناده إليه قال: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، وكان من
أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على
الإسلام [5] .
هكذا كان ابن المبارك، وهكذا كان السلف الصالح كل حياتهم وحركاتهم
وسكناتهم لدينهم الذي يدينون به لله لا مجال لغير ذلك في حياتهم كلها وليس في
حياتهم مجال لازدواج الشخصية.
وهذه نماذج من تلك الجهود التي قام بها ابن المبارك في سبيل تأصيل هذا
المنهج والدعوة إليه:
أولا: في مجال العقيدة:
كان لابن المبارك رحمه الله موقف من أهل البدع والأهواء، وهو موقف
المؤمن الواعي لما يدور حوله وما يحاك من الدس والتشويه والتحريف لعقيدة هذه
الأمة عقيدة أهل السنة والجماعة، لذلك نجده يوصى أحد تلاميذه فيقول: ليكن
مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة [6] .
وهذه بعض مواقفه:
- روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية بإسناده إلى
ابن المبارك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله تعالى من كثرة ما
أدعو على الجهمية، قال: لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس
بشيء [7] .
- وأخرج الذهبي بإسناده إلى على بن الحسن بن شقيق قال: سمعت ابن
المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام
الجهمية [7] .
-وعنه أيضاً قال: قلت لعبد الله بن المبارك: كيف يعرف ربنا عز وجل قال: في السماء على العرش، قلت له: إن الجهمية تقول هذا قال: لا نقول كما تقول
الجهمية: هو معنا هاهنا.. [8] .
قال الذهبي - معقبا - قلت: الجهمية يقولون: إن الباري في كل مكان،
والسلف يقولون: إن علم الباري في كل مكان، ويحتجون بقوله تعالى: [وهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ] [الحد يد: 4] ، يعني بالعلم، ويقولون: إنه على عرشه استوى، كما نطق به القرآن والسنة.
وقال الأوزاعي وهو إمام وقته: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله
تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفات وأحاديثها كما جاءت من
غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، فإن الكلام في الصفات فرع على
الكلام في الذات المقدسة، وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقة، لا
مثل لها، وكذلك صفاته تعالى موجودة، لا مثل لها [8] .
وأخرج أبو نعيم في الحلية بإسناده إلى عمار بن عبد الجبار قال: سمعت ابن
المبارك يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: الجهمية كفار، والقدرية كفار، فقلت
لابن المبارك: فما رأيك؟ قال: رأيي رأي سفيان [9] .
- وفي كتاب السنة للإمام أحمد عن إبراهيم بن شماس قال: سمعت ابن
المبارك يقول: الإيمان قول وعمل، الإيمان يتفاضل [10] ..
- وفي كتاب الصلاة لابن القيم عن يحيى بن معين قال: قيل لعبد الله بن
المبارك: إن هؤلاء يقولون: من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر به فهو مؤمن
مستكمل الإيمان، فقال ابن المبارك لا نقول نحن ما يقول هؤلاء، من ترك الصلاة
متعمداً من غير علة حتى أدخل وقتا في وقت فهو كافر [11] .
- وقوله هذا والذي قبله وما سيأتي هو رد على المرجئة القائلين: لا يضر
مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
روى أبو عثمان الصابوني عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - ابن راهويه -
قال: قدم ابن المبارك الري فقام إليه رجل من العباد - الظن أنه يذهب مذهب
الخوارج - فقال له: يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر، قال: لا أخرجه من الإيمان. فقال: يا أبا عبد الرحمن على كبر السن صرت
مرجئيا، قال: لا تقبلنا المرجئة، المرجئة تقول: حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة، ولو علمت أني قبلت منى حسنة لشهدت أنى في الجنة [12] .
هذا هو موقف عبد الله بن المبارك من أصحاب البدع والأهواء المنحرفة إنه
موقف العالم المجاهد العارف لدينه، والناقد البصير لتلك المبادئ الهدامة التي يدعو
إليها أصحاب الأهواء، والمتيقظ لخطر تلك العقائد الدخيلة على الإسلام والمسلمين، والتي أدخلها عليهم أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من اليهود
والنصارى والمجوس والصابئة، وما تؤدي إليه من فساد في الاعتقاد، وفساد في
الدين، وفساد في الأخلاق.
إنه يتبرأ من عقائد الرافضة والخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية
والفلاسفة، ويبين فساد مقالاتهم ومذاهبهم، وفيما نقلناه من النصوص عنه يصرح ببطلان هذه العقائد المنحرفة.
ثم هو في أثناء ذلك لا يغفل عن بيان منهج أهل السنة والجماعة في الإيمان
بالله بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله -صلى الله عليه
وسلم-، والوقوف عند نصوص الكتاب والسنة والتسليم لهما، وعدم تقديم العقل
عليهما أو تحكيمه فيهما، وفي احترام الصحابة والترضي عنهم وعدم الخوض فيما
جرى بينهم، وكان يحذر من الرواية عمن يسبهم رضى الله عنهم، روى ذلك الإمام
مسلم في مقدمة صحيحه عن على بن شقيق قال. سمعت ابن المبارك يقول على
رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف [13] .
(1) 1/84-85 من مقدمة صحيح ابن حبان، ط مؤسسة الرسالة.
(2)
سير أعلام النبلاء 8/336، الطبعة الأولى.
(3)
تاريخ بغداد 10 /152- 153 طبعة المكتبة السلفية بالمدينة.
(4)
انظر تاريخ بغداد 10 /156 -163 سير أعلام النبلاء 8 /336 - 346، هذا وهناك أقوال كثيرة في الثناء وبيان مكانته آثرت الاقتصار هنا على أهمها وأجمعها.
(5)
تاريخ بغداد 10/167 -168 المكتبة السلفية بالمدينة.
(6)
سير أعلام النبلاء 8 / 353، ط الأولى.
(7)
سير أعلام النبلاء 8 / 353 -356، ط مكة المكرمة.
(8)
سير أعلام النبلاء 8 / 355 -356، ط مكة المكرمة.
(9)
حلية الأولياء 7 /28.
(10)
كتاب السنة 1 /5 7، ط السلفية بمكة سنة 1349 هـ.
(11)
كتاب الصلاة 63 ط المكتب الإسلامي.
(12)
عقيدة أصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني / 70.
(13)
مقدمة صحيح مسلم 1/ 16، وعمرو بن ثابت هو ابن أبي المقدام ضعيف رمي بالرفض مات سنة 172 هـ (التقريب / 257) ط الباكستانية.
من قضايا العلم والتعلم
حديث عن المقاصد
-1-
د. عبد العزيز القارئ
أول ما نفتتح به الكلام عن العلم والبحث، وقضايا التعلم والتعليم ومشكلات
العالم والمتعلم: هو الحديث عن المقاصد، وهو حديث ذو شجون، وأي شئون
المسلمين اليوم يخلو من الشجون؟ لِمَ نتعلم؟ تحديد الهدف والمقصد في مجال العلم
والتعليم هو المسألة الأولى، وعليها تبنى سائر المسائل، لأن كل شيء يصاغ على
ضوء الهدف والمقصد.
العلم في الإسلام يجب أن يكون لهدف واحد فقط: وجه الله والدار الآخرة،
وعلى ضوء هذا الهدف يقال: إن المؤمن إنما يتعلم ليعرف الله ويعبده ليعمر
الأرض بعبادته، حتى عمارة الأرض هي وسيلة لعبادة الله، فإذا أصبحت وسيلة
لغير ذلك أو أصبحت غاية فقد فسد المقصد. بعضهم يجلها غاية لأنه لم يفهم قوله
تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ][يونس: 14]، أو قوله تعالى:[هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا][هود: 61]، ومعنى الآيتين: أن الإنسان جعل خليفة في الأرض ليعمرها بعبادة الله، أما
عمرانها المادي فهو وسيلة، أي هو مطلوب بمقدار ما يخدم تلك الغاية ليس أكثر،
إذ لا يتصور أن يكون هدفاً شرعياً أن يضع حجر على حجر، أو مدراً على مدر
إذا كان هذا لا يحقق غاية أخرى.
نقول هذا لنؤكد على أن الهدف المذكور هو لمجمل عملية العلم والتعلم مهما
اختلفت مجالاتها، لا نفرق في هذا بين علوم الدين وعلوم المدنية، فإن ظاهرة (التمدن) أو (العمران المادي) تتطلب علوما يلهث وراءها أكثر المتعلمين، كما أن
ظاهرة (التدين) تتطلب علوماً أخرى يسعى لنيلها آخرون.
مجمل التعلم والتعليم في هذا المجال أو ذاك يجب أن يدور حول ذلك الهدف
ظاهرة التمدن أو (العمران المادي) لما انقلبت غاية بذاتها أصبحت مشكلة في حياة
المسلمين، لأنها أصبحت انحرافاً على ضوء ما قررناه آنفاً، وهي المشكلة التي
يعبر عنها أحيان بـ (الترف) .
المؤمن يعمر من الأرض بمقدار ما يعينه ذلك على عبادة الله وأداء فرائضه
أي بمقدار ما يكنه ومعنى يكنه: أي يقيه مختلف الغوائل التي يمكن أن تعوقه عن
عبادة الله أو تعرض حياته للهلاك وبمقدار ما يستر عوراته وحرماته عن الأعين،
هذا على مستوى الفرد والمجتمع، وعلى مستوى المجتمع يضاف إلى معنى الإكنان
شيء آخر: هو الحاجة إلى ما يعينه على أداء رسالته العالمية التي تلخص في
كلمتين: الدعوة، والجهاد.
أنا أعلم أن قلمي وهو يسطر هذه الحقيقة يبتعد كثيراً عن الواقع لأن واقع
المسلمين في هذه المسألة ابتعد كثيرا عن المبدأ الإسلامي واقترب كثيرا من النظرة
الإفرنجية للحياة، و (الإفرنج) يتخذون (التمدن) غاية، لأنهم اتخذوا الحياة الدنيا
نفسها غاية، فهم لا يعرفون الله، ولذلك لا يبنون شيئاً للآخرة، [وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ
هُمْ غَافِلُونَ] [الروم: 7] ، إنما يبنون لحياتهم الدنيا فقط.
لهذا فإن عملية التعلم والتعليم في ظلال هذه النظرة (الإفرنجية) يكون هدفها
منقطع الصلة بالآخرة.
لو سألت هذه الآلاف المألفة المحتشدة في الجامعات: لماذا تتعلمون؟ فكم منهم
من يتذكر عبادة الله وكم منهم يذكرك بالآخرة؟ تأمين المستقبل الوظيفي هو هدف
السواد الأعظم، ولا يلزم أن يصرح بذلك بلسان المقال، فلسان الحال يهتف به.
أما على مستوى التخطيط العام في المجتمع فالهدف أكثر بريقا، لكنه يحمل
نفس المعنى. الإسهام في عملية بناء الوطن، والمقصود الأول البناء المادي، فهو
الذي يستغرق معظم برامج خطط التنمية، وهذه الخطط تخضع لها كل الجوانب بما
فيها العلم والتعلم.
لم أسمع في أي بلد من بلاد المسلمين أن خطة التنمية فيها وضعت لتحقيق
عبادة الله عز وجل، قد يسخر منك المخططون! ! تضع خطة خمسية أو عشرية
لتحقيق عبادة الله؟ هل هذا يحتاج إلى خطة؟ [إن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ
كَمَا تَسْخَرُونَ] [هود: 38] ، نسخر من هؤلاء الذين تدور حياتهم وخططهم
وبرامجهم وعلمهم وتعليمهم حول نفسها، تخططون من أجل الحياة؟ والحياة من
أجل ماذا؟ فلماذا لا تختصرون الطريق وتتخلصون من عقدة هذا الانحراف إلى
النظرة (الإفرنجية) فتخططون الحياة من أجل الذي وهبكم الحياة، وهو قد صرح في كتابه أنه إنما وهبكم الحياة لتعبدوه:[ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلَاّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ][الذاريات 56 - 58] ، لو جعل المخططون والمبرمجون الأساس والمنطلق هو هذا؛ كم تتغير خططهم وبرامجهم.
من المؤسف جداً أن نقول: إن فساد العلم والتعليم في حياتنا بدأ بفساد المقاصد، فإذا عدنا إلى مجال علوم الشريعة نجدها ألصق من غيرها بذلك الهدف. ابتغاء
وجه الله والدار الآخرة.
أليست علوم الشريعة إنما يتطلبها مبدأ (التدين) ؟ وهذا المبدأ في النفوس كلها
فطرة فطر الله الناس عليها، فهذا هو روح التدين: ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
فانظر كيف يكون قبح الانحراف عندما تتخذ علوم الشريعة وسيلة لغير هذا
الهدف، أي عندما تفسد النية ويفسد المقصد.
إن هؤلاء الذين اتخذوا علوم الشريعة مطية لتحقيق الرغبات الدنيوية
والشهوات الأرضية أقبح انحرافاً وأسوأ ذنباً من أولئك الذين اتخذوا علوم التمدن
مطية لذلك، لأن علوم الشريعة ألصق بذلك الهدف الشرعي من علوم المدنية.
تصور واحداً يتعلم كيف يخبز ويعجن لإشباع شهواته أليس ذلك أخف قبحاً
ممن يستعمل الحديث والفقه من أجل الشهوات نفسها؟ ! كلاهما منحرف، لكن
الوعيد لهذا أشد من الوعيد لذاك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علماً مما يبتغى به وجه
الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» [1] .
أما كيف يقع طلاب علوم الشريعة في فساد المقاصد، فإذا بهم يتعلمون مما
يبتغى به وجه الله لا يتعلمونه إلا ليصيبوا به عرض الدنيا فإن لذلك عوامل كثيرة
من أهمها:
1-
ضغوط المجتمع الفاسد من حولهم:
طلاب علوم الشريعة جزء من المجتمع، فهل تكتب لهم النجاة والسلامة مما
أصاب الكل من تلف وفساد؟ .
المجتمع بمجموعه يلهث خلف الحياة الدنيا، إنه متشبث بها، والقلوب متعلقة
بزينتها، لا يكاد يسلم قلب منها-إلا من رحم الله-، ومن شدة تعلق القلوب بشهوات
الدنيا وزينتها أصبح هذا التعلق عبادة، وأصبحت هذه الشهوات آلهة تعبد من دون
الله. إليكم الدليل:
قد يجترئ زنديق على المساس بجناب الشرع والدين، وفي -بعض بلاد
المسلمين تصل الجرأة بالزنادقة إلى حد المساس بجناب الألوهية -ألوهية الله عز
وجل -، ومع ذلك لا يتحركون! ! المسلمون لا يتحركون حتى لو شتم الله تعالى،
قد يتململون، يستنكرون بقلوبهم، أحيانا بألسنتهم - على استحياء-، لكن لا تصل
قوة الدافع إلى الدرجة التي تحركهم، وتدفعهم إلى التعبير المؤثر عن غضبهم.
سبحان الله! ما هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية؟ ! هذا الشلل في العواطف، في الإيمان، في العقول، مرض خطير كيف أصيبت به هذه الأمة؟ ! .
أما إذا أحسوا أن شهوة من شهواتهم ستعاني من الحرمان -خاصة شهوة
البطون - لو اعتدى على جنابها فالويل ثم الويل لمن يمس جنابها يتحركون (غريزياً) وينفجرون.. الأمثلة على ذلك كثيرة في جميع بلاد المسلمين.
في بلد أفريقي مسلم، الإسلام فيه عريق، كم خرج للأمة من علماء، ثم لما
أصيب بالمرض تحكم في مصيره طاغية خبيث، من جرأته واستخفافه بعواطف
الأمة التي يحكمها، واستخفافه بإيمانها ودينها أغلق الجامعة الوحيدة الإسلامية فيها، وبقيت مغلقة ثلاثين عاماً، ثم أسقط الصيام عن العمال، وبدأ يدخله الزهو
والكبرياء بل بدأ يتوهم أنه أصبح إلهاً، يفعل ما يفعل والشعب يرضخ ولا يقول
شيئاً، لا يعترض ولا يتململ -لماذا لا يتململ؟ - لأنه مشلول، توهم ذلك الطاغية
أنه إله فتحدى الإله الحقيقي.
سأله مرة صحفي إيطالي: أتؤمن بوجود الله يا فخامة الرئيس؟ أجاب: إذا
كان الله موجوداً فسيغفر لي شاء أم أبى.
وقرأ ذلك الشعب هذا الكفر الشنيع، بل قل هذا الاستخفاف الشنيع بعواطف
الشعب ومقدساته، قرأوا هذا الكلام ولم يتحركوا، ولو حركة عفوية، فإنها كانت
على الأقل تدل على أن ذلك الشعب موجود لم يمت، لكنه لم يتحرك، لأنه وإن
كان موجوداً فقد كان مشلولاً، واستطاع ذلك الطاغية أن يجثم على صدر هذا
الشعب المسلم ثلاثين عاماً، أي والله ثلاثين عاماً، وبعد هذا العمر الطويل تحت
ذل طاغية زنديق تحرك ذلك الشعب، ولكن احتجاجاً على رفع أسعار الرغيف! ! .
وفي بلد أخر اعتدي على جناب الدين في صفحات المجلات، وفي
المسرحيات، وفي ما أمكنهم من وسائل الإعلام، حتى سخروا من مقام النبوة ثم
صوروا سيدنا ونبينا محمداً بصورة ديك، ثم انقض فرعون ذلك الشعب المسلم على
نخبة من العلماء والشباب المسلم فصلبهم ونكل بهم، بينما الشعب يتفرج، ولا
يتحرك، كأنما هو مكبل موثق بالحبال، ولكني رأيته بنفسي عندما ثار فجأة كيف
فعل، لقد أصبحت العاصمة خلال بضع ساعات كأنها أطلال محترقة من التدمير،
لقد انطلقت الجموع تدمر كل شيء، ما هذا الذي أشعلها وأطلقها من عقالها؟ الحاكم
بأمره العصري أمر برفع أسعار الخبز والشاي والفول! ! .. لا أريد التشنيع على
هذه الشعوب، فإنها شعوب مسلمة لها تاريخ - وأي تاريخ -، ولا أريد بعث اليأس
والقنوط في نفس أحد، فإن كل متبصر يعلم ماذا يمكن أن تفعل هذه الشعوب
المسلمة، لو انطلق دافع الإيمان في القلوب، أو لو برئت تلك الشعوب من ذلك
الداء العضال، داء الشلل..
ولكن متى تشفى من هذا الداء العضال المزمن؟ الطواغيت الذين سلطوا على
رقاب هذه الشعوب المسلمة يتواصى كل منهم برعاية هذا الشلل، وبتدمير أي
محاولة لعلاجه، وبذلك أصبحت مهمة الإصلاح تتطلب جهوداً قوية ثابتة دائبة
طويلة قد تستمر أجيالا، المهم أن تكون منظمة على منهج سليم، وسائرة على
طريق مستقيم. وهل هناك إلا المنهج النبوي. والطريق القرآني؟ .
إذا كان هذا هو حال الشعوب المسلمة والمجتمعات المسلمة فكيف يكون حال
طلاب علوم الشريعة؟ الموقف الطبيعي أنهم ما داموا يعيشون في كنف المجتمع
وهم جزء منه أن يتأثروا به، أو يؤثروا فيه، ولكي يقدروا على التأثير فيه عليهم
أن يتحرروا من تأثيراته السيئة المرضية، وكيف يمكنهم ذلك؟ من هنا جاءت
الحاجة الضرورية إلى البديل، على هؤلاء أن يبحثوا عن البديل الذي يلجئون إليه
فراراً من الواقع الفاسد.
لابد أن يؤمن لهم مناخ تتوافر فيه الصحة والسلامة من عوامل التلف والشلل
الذي أصاب المجتمع الكبير، فإن لم ينشأ لهم هذا البديل، فالموقف الطبيعي الذي
تمليه سنن الله في خلقه أن ينشئوا هم البديل بأنفسهم.
وإنه لمن المستغرب أن يكون هناك عاقل يفضل إغماض عينيه ودس رأسه
في الرمال، فتراه يعيش في وهم الانتظار: انتظار أن يرق قلب الطاغوت فيتفضل
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما بالغ بعضهم في أوهامه فتوقع أن يرفع
الطاغوت راية الجهاد ضد الزنادقة والكفرة والملحدين.
إن كان هؤلاء لا يدرون فتلك مصيبة، وإن كانوا يدرون فالمصيبة أعظم،
هي سنن الله في خلقه لن تجد لها تبديلاً، أن الكافرين وعلى رأسهم الطواغيت لا
يعبدون ما نعبد، أفيبدل الله سننه من أجل جيل من الكسالى يدسون رؤسهم في
الرمال، مع أنه سبحانه لم يبدل سننه من أجل نبيه وخليله ومصطفاه محمد -صلى
الله عليه وسلم-؟ لا مطمع في ذلك.
من عليه إذن أن يتولى تهيئة هذا المناخ، حتى يأوي إليه طلاب علوم
الشريعة؟
(1) رواه احمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، كلهم في حديث أبي هريرة.