الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقابلة
لقاء مع فضيلة الشيخ
محمد ناصر الدين الألباني
فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من أعلام الدعوة الإسلامية في هذا
العصر، ومن كبار علماء الحديث، أمضى عمره في تعلم الحديث وتعليمه
والتصنيف فيه، ووضع السنة بين يدي الأمة، وكان لكتبه ودروسه ولقاءاته الفضل
والأثر الكبير في التوجه نحو السنة الصحيحة والابتعاد عن الضعيف والموضوع.
ولا يزال -حفظه الله- صاحب همة عالية في التحقيق والبحث والإجابة على
الأسئلة الواردة من شتى بلدان العالم الإسلامي وإن شغفه بالعلم ودأبه العجيب
ليذكرنا بالعلماء السابقين.
وقد كانت رغبة قديمة عند (البيان) في اللقاء به والاستفادة من علمه،
وتعريف القراء بعلمائنا البارزين الذين لا ينكر دورهم التجديدي في هذا العصر وقد
جاءت الفرصة المناسبة والتقاه رئيس التحرير وكان معه هذا الحوار.
س: فضيلة الشيخ عندما قمتم بتدريس مادة الحديث في الجامعة الإسلامية في
المدينة النبوية كان لكم دور بارز في إيجاد تيار من الشباب المتعلم الذي يبحث عن
الدليل الشرعي، ويهتم بالحديث، والبحث عن تخريجه وتمييز الصحيح من
الضعيف، هل أنتم راضون عن هذا التيار، وهل هو في ازدياد وانتشار؟
ج: ليس لي صلة بالجامعة، ولما تركتها أو تركتني، كنت أتردد ما بين
آونة وأخرى في سبيل مراجعة بعض المحاضرات هناك.
لم تعد الظروف تساعدني على التردد عليها لذلك لا أعرف واقعها الآن. ولكن
بصورة عامة لا تزال قائمة بواجبها في نشر الثقافة الإسلامية السلفية، ولا شك أن
بعض إخواننا من الطلاب الذين كانوا يوم كنا ندرس هناك مادة الحديث، هم الآن
أساتذة ودكاترة، ولا أدري هل التأثير ما يزال مستمراً كما كان في العهد الأول أم
ازداد، هذا مما لا سبيل لنا إلى معرفته إلا بالتردد على الجامعة والاطلاع على
مسيرتها.
س: ولكن هناك ملاحظة، على بعض هؤلاء التلاميذ أو تلامذتهم، عندهم
خشونة أو قسوة في عرض المنهج، ألا ترون أنّ هذا يجب أن يصحح؟
ج: نعم، نحن نقول كما قال رب العالمين [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] وهذا يجب أن يوجه إلى جميع الدعاة.
س: هل لكم ملاحظات على التيار السلفي في البلاد العربية والعالم الإسلامي؟ وما هي؟
ج: باعتقادي أن التيار السلفي والحمد لله اكتسح الأجواء الإسلامية كلها،
وأكبر دليل على ذلك أن الذين كانوا بالأمس القريب يعادونه أصبحوا يتزلفون إليه،
ويتبنون اسمه، هذا يبشر بخير، لكن في الواقع أرى أن الدعوة السلفية والتي يعود
إليها الفضل فيما يسمى اليوم بالصحوة الإسلامية، وإن كان كثير من الدعاة
الإسلاميين يتجاهلون هذه الحقيقة، ولا يربطون الصحوة بالدعوة السلفية الحقة،
لكن الحقيقة هي أن الصحوة الموجودة اليوم والتي يعبر عنها بالرجوع إلى الأصل
(الكتاب والسنة) ، ونحن نعبر عن هذا الرجوع بعبارة أدق كما هو معلوم من
محاضراتنا.
إن الدعوة إلى الكتاب والسنة يجب أن يقرن بها الدعوة إلى منهج السلف
الصالح في فهم هذين المصدرين الوحيدين، وإن كان الآخرون لا يدندنون حول هذا
المنهج مع أنه ضروري جداً، إذ عدم الاهتمام به هو سبب الفرقة القديمة المعروفة
تاريخياً، والفرق الحديثة الموجودة اليوم، ولم يكن سبب هذا وذاك إلا عدم الرجوع
إلى فهم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح.
أقول: إن الدعوة السلفية - مع انتشارها وما نتج عنها من هذه الصحوة
…
العصرية - مجملة تحتاج إلى علماء يبينون أولاً تفصيل الكلام حولها، وتوسيع
دائرة الدعوة السلفية، إنها هي الإسلام بكل تفاصيله تجمع كل شؤون الحياة.
هذا التعميم في البيان للدعوة السلفية بحاجة إلى علماء عاشوا حياتهم يدرسون
الكتاب والسنة ويدعون الناس قولاً وكتابة وعملاً، فإن كثيراً من الشباب الذين
يتبنونها، يستعجلون الدعوة إليها قبل أن يفهموا تفاصيلها، ومن آثار ذلك كثرة
الرسائل والمؤلفات التي تطبع في العصر الحاضر من مؤلفين عديدين جداً، ولا
تكاد تجد في هذه الكثرة الكاثرة من هؤلاء من يشار إليه بأنه شيخ، وأعني بكلمة
شيخ المعنى اللغوي (مسن وكبير) وأعني أيضاً المعنى العرفي: أنه متمكن في علمه، هذا الشباب المتحمس لم يدرس الإسلام دراسة على الأقل تسوغ له أن يؤلف وأن
يدعو الناس سواء بكتاباته أو بمحاضراته.
* ظاهرة الكتب الكثيرة الآن ظاهرة غير صحية؟
ج: أبداً أبداً تنبئ بصحوة، وتنذر بآن واحد، ومن نتائج هذه الظاهرة كثرة
الناشرين والطابعين مع قلتهم في الزمن السابق، القلة السابقة وإن كانوا اتخذوا
الطباعة والنشر مهنة للعيش -وهذا لا بأس به شرعاً - ولكن كانوا في الغالب
يشكلون لجاناً علمية، لا يطبع الكتاب إلا بعد مروره على هذه اللجنة. أما الآن مع
الأسف الشديد نجد الأمر أن النشر هو للتجارة وليس لخدمة العلم، وتجد لافتات
ضخمة يقال أن هذا الكتاب قام على تحقيقه أو التعليق عليه لجنة من أهل
الاختصاص وحينما تقرأ تحزن لكثرة الأخطاء المطبعية، مع شعورك بأنه لم يحقق!
تعاون المؤلفون المحدثون مع الناشرين في غزو المكتبات بشتى المؤلفات،
تجد رسائل متعددة في موضوع واحد، هذا يأخذ من هذا وهذا يأخذ من ذاك وليس
هناك علم جديد.
قبل أمس اتصل بي أحد الجزائريين، أعجبتني لغته. مع أن لغة الجزائريين
صعبة فلهجتهم غير لهجتنا ولكن هذا الأخ كانت لهجته عربية فصحى لا يلحن،
ماذا سألني، قال: أنا بصدد جمع أوهام الحافظ الذهبي في تلخيصه للمستدرك التي
أشرت إليها في كتبك حيث تقول أنت مثلاً: أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط
مسلم ووافقه الذهبي، فما رأيك؟ قلت له: لا تفعل، ولئن فعلت فاجمع لنفسك، لأني
أريدك ألا تكون إمعة، ولا مقلداً، لا لبكر ولا لزيد ولا لناصر، نريد منك أن تنشر
جهدك واجتهادك وكل إنسان يستطيع أن يجمع قول فلان مع قول فلان ويؤلف
رسالة، ماذا يستفيد الناس من هذا المجهود هكذا أقول لطلاب العلم، لا تتسرعوا
في التأليف والنشر وأضرب لهم مثلاً: عندي كتاب هو أول كتاب يمكن أن يقال أنه
تأليفي وهو في مجلدين واسمه: (الروض النضير في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير) ألفته وكان عمري 25 سنة، حينما يراه الإنسان يتعجب من الجهد ومن العناية بالخط، أما الآن بعد أن بلغت من الكبر عتياً أستفيد منه كثيراً، ولكن لا أرى أنه صالح للنشر، لماذا؟ ، لأنني أستدرك على نفسي بنفسي، وهناك مثال واضح جداً، كنت أنا مع الجمهور الذين إذا رأوا حديثاً بإسناد كل رجاله ثقات إلا شخصاً واحداً وثقة ابن حبان، كنت أقول هذا إسناد صحيح، على هذا جريت في هذا الكتاب، لكن فيما بعد، رأيت أن توثيق ابن حبان لا يوثق به، والآن من فضل الله علي وعلى الناس أن كثيراً ممن عنوا بعلم الحديث أصبحوا يقولون كما صرت أنا أقول لا كما كنت أقول، ثم جدّ معي شيء عثرت عليه منذ بضع سنين أن وجه الصواب في الذي نشرته وانتشر عن ابن حبان، الصواب فيه أنه ليس على إطلاقه (يعني لا يقول أحد أن توثيق ابن حبان لا يوثق به) تبين لي هذا من الممارسة العملية، هذه نقطة لم تذكر في علم المصطلح، صرت أقول: توثيق ابن حبان لا يوثق به إلا إذا كان هذا الموثق له رواة كثيرون عنه، إذا كانوا ثقات، عندئذ تطمئن النفس إلى الاعتداد بتوثيق ابن حبان ثم حصلت عجائب، الناشئون الذين أخذوا تنبيهي الأول صاروا يردون علي: أنت لماذا تصحح هذا الحديث وفيه فلان، لم يوثقه إلا ابن حبان؟ ! طبعاً أبين لهم الآن أنه تكشف لي كذا وكذا.. وليس بشيء تفردت به، هذا غير مذكور في علم مصطلح الحديث، لكن يفهمه الإنسان بالممارسة..، الخلاصة، نحن نريد الآن من
…
الناشئ ألا يتسرع.
س: بعض الناس ينتقدون منهج الجامعات الإسلامية في طرق التعليم، وأنهم
لا يخرجون طلبة علم مؤهلين ليكونوا علماء، ما هي الطريقة المثلى للتعلم برأيكم؟
ج: الجامعات ليس بإمكانها أن تخرج علماء، لكن الجامعات تهيئ الطلبة
ليكونوا علماء، والحق أن الذين يتخرجون لا يقومون بواجبهم، لا يتابعون
الاستفادة من القواعد العلمية والتوجيهات التي تلقوها من أساتذتهم لينكبوا على العلم، ثم عند النضج العلمي كتابة ومحاضرة ونشراً، فأصبح جل هؤلاء المتخرجين
همهم أن يصبحوا أساتذة ومعلمين أو أن يصبحوا موظفين كبار في بعض الدول.
إن مصيبة العالم الإسلامي اليوم هي فقدان التقوى، فقدان التربية، وفي
اعتقادي أن الناس لا يختلفون في أن العلم وحده لا يكفي بل قد يضر صاحبه.
س: أعتقد أن هناك ضعفاً في طرق التعليم، وكذلك في المناهج المقررة، ما
رأيكم؟
ج: ليس عندي دراسة للمنهج حتى أفيدك، ولكن عليك أن تلاحظ في
الجامعات عدد السنين التي وضعوها والأوقات التي حددوها والتي لا تساعد على
دراسة العلم كما كانوا قديماً يدرسون، في بعض جامعات الهند أو في بعض الحلقات
على الطريقة القديمة كنت أسمع أنهم يدرسون الكتب الستة فعرفت فيما بعد أنهم
كانوا يدرسونها للبركة، الأوقات التي تنظم في الجامعات لا تساعد على التوسع في
المناهج، أضرب لك مثلاً بشخصي: أنا يوم كنت هناك بالجامعة، كان من
المقررات الجزء الأول من (سبل السلام) فأنا ما استطعت أن أنهي من المقرر إلا
أقل من الربع، لأني كنت أدرس الحديث الواحد في حصتين، ضاق الطلاب ذرعاً، فراحوا يشكونني إلى الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة يومها، وكنا نلتقي
بالرئيس والأساتذة فقال لي: إن الطلاب يشكون من تطويلك، فقلت له: صحيح،
لكن هناك أقوال وأحكام مختلف فيها بين المذاهب، لا بد أن أذكر دليل كل واحد
وأعمل تصفية، فقال لي: اكتف بما يحضرك، ولا تذكر كلام العلماء بالتفصيل.
الطلاب الذين يتخرجون إن لم يتابعوا الخطأ في الدراسة ويتوسعوا فيها لانجد بينهم
علماء، والسبب أن الطالب عندما يأخذ شهادة الدكتوراه يصبح أستاذاً في الجامعة أو
يتوظف في دائرة من الدوائر، فهو لا يستثمر المفاهيم والقوانين التي تلقاها، كما لا
يتفرغ للعلم وللعلم فقط.
س: ألا ترون إحياء حلقات العلم إتماماً للدراسات الجامعية؟
ج: نعم، ولكن نعود إلى المشكلة، من الذي يدرِّس؟
س: نعود إلى بعض النواحي العلمية، سمعت من بعض الإخوة الدكاترة في
الجامعات الإسلامية وطلبة العلم نقداً لطريقتكم في تقسيم كتب السنن إلى صحيح
وضعيف يقولون: ربما يتبين لكم بعدئذ أن هذا الحديث ضعيف أو العكس، فما
رأيكم؟
ج: هذا ممكن وواقع وماذا يريدون؟
س: لو تبقى سنن أبي داود وتعلقون عليه في الهامش فيبقى الكتاب كاملاً كما
ألفه أبو داود؟
ج: هذه مشكلة، ولكن لنترك صحيح أبي داود وضعيفه.
أنا عندي الآن سلسلتان: الصحيحة والضعيفة كما تعلم، وكثيراً ما يقع أن
أنقل حديثاً من الصحيحة إلى الضعيفة، وبالعكس، وهذا مستنكر عند الجهلة،
ومقبول مشكور جداً عند أهل العلم؛ ما الفرق بين الصورة الأولى والصورة
الأخرى؟ ربما بعد سنوات نعيد طبع سنن أبي داود وأنا من فضل الله علي نادراً ما
أعيد طباعة كتاب إلا وأعيد النظر فيه، لأنني متشبع أن العلم الصحيح لا يقبل
الجمود، وأنا أتعجب من مؤلف ألف كتاباً من عشرين سنة خلت ويعيده كما هو لا
يغير ولا يبدل، ما هذا العلم، هل هو وحي من السماء؟ أم جهد إنسان يخطئ
ويصيب، ولنفرض أننا استجبنا لهؤلاء وأعدنا طباعة الكتاب وانتقلت أحاديث من
الضعيف إلى الصحيح وبالعكس فنعود لنفس القضية، ومن الممكن أن ننقل هذا
الاقتراح إلى مختصري للبخاري، ولكنهم لم يقولوا: دع البخاري كما هو؛ ولكنهم
يقرونه ولا ينكرونه، وأنا أقول الحقيقة انني لما بدأت بتقسيم سنن أبي داود من
نحو أربعين سنة إلى صحيح وضعيف، عرضت وجوه النظر أمامي تماماً، قلت:
أفعل هذا أو هذا، ثم ترجح عندي وأيدني في ذلك بعض الأدباء الحريصين على
العلم مثل الأخ حمدي عبيد، أيدني في جعل السنة قسمين، ترجح عندي وفي داخل
مشروعي تقريب السنة بين يدي الأمة من جهة، ومن جهة ثانية تقريب السنة
الصحيحة وليس الضعيفة، وبعدئذ لا خوف، لأن عامة الناس ليسوا بحاجة إلى
معرفة الضعيف، وإنما يحتاج ذلك خاصتهم، فإذا كان رجل من عامة الناس أقدم له
صحيح أبي داود وأقول هذا حسبه، أما الخاصة فيجب عليهم معرفة الضعيف،
فالمفروض أنهم موجهون للناس. لقد ترجح عندي ذلك وقدوتي في ذلك الأئمة:
أئمة الصحاح مثل البخاري
…
س: أستاذنا، هل هناك بعض الفتاوى الفقهية، قلتم بها من زمن ثم رجعتم
عنها لإطلاعكم على أدلة أقوى؟
ج: ربما بلغك عني إشاعة أني تراجعت عن القول بتحريم الذهب المحلق
على النساء، فهذا كذب، وربما هناك إشاعات أخرى وكلها ليس لها أصل.
س: نعود إلى النقطة التي ذكرتموها في أول الحديث، وهي أن منهج أهل
السنة يحتاج إلى تفصيل حتى يساعد المسلمين عل حل مشكلاتهم. هل نستطيع أن
نقول أن الخطوط العريضة لهذا المنهج، وأعني طريقة تفكير واستدلال أهل السنة
هو ما كتبه الشافعي في الرسالة أو الشاطبي في الموافقات أو ابن تيمية في كثير من
كتبه وخاصة (درء تعارض العقل والنقل) ؟
ج: نعم هؤلاء العلماء الذي ذكرتهم من نوادر علماء المسلمين، الذين يتمثل
المنهج العلمي السلفي في كتبهم.
س: أستاذنا هل عندكم زيادة عما كتبه الأخ الشباني بالنسبة لحياتكم الشخصية؟
…
ج: ليس عندي زيادة وما كتبه فيه الكفاية.
س: سؤال أخير، ما هي نصيحتكم للشباب المسلم في هذا العصر؟
…
ج: نصيحتي في ناحيتين: ربما فهمت الأولى من كلامي السابق، أن يتفقهوا
بالدين اعتماداً على قوله عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيراً يفقهه في
الدين» وأن لا يكتفوا بالعلم دون العمل، لأن الحقيقة التي ألمسها لمس اليد كما
يقال أن أكثر شبابنا الناهض اليوم همته في النواحي الفكرية دون الناحية العلمية
والعملية لذلك أنا أنصح هؤلاء أولاً أن يتوسعوا ما استطاعوا بمعرفة العلم الصحيح
المستقى من الكتاب والسنة إما بأشخاصهم إذا أمكنهم أو بالاستعانة بأهل العلم، وأن
لا يقدموا على شيء يصدر عنهم عن جهل اعتماداً على ثقافتهم القليلة الضحلة، هذا
من جهة، ومن جهة أخرى أن يهتموا بالعمل أكثر مما يهتمون بالعلم، لأننا نرى
مع الأسف الذين يهتمون بالعلم أكثرهم لا يعملون، وبالأولى أن الذين لا يهتمون
بالعلم ألا يعملوا، فليعكسوا الأمر، عليهم أن يهتموا بالعمل أكثر من العلم، فإذا كان
أهل العلم يتركون العمل، فالأحرى بغيرهم ممن لا يعلم أن يترك العمل أيضاً،
فعلى أهل العلم وطلبته أن يصرفوا جهودهم إلى العمل ويعكسوا الحال الحاضرة إلى
علم وعمل كثير لتتعدل كفة النقص في المجتمع.
فكما لا ينفع علم بلا عمل فكذلك لا ينفع عمل دون علم وهذه حقيقة - ولله
الحمد - متفق عليها بين علماء المسلمين، هذه نصيحتي للشباب المسلم الناشئ في
هذا العصر.
وشكرنا الشيخ على هذه الفرصة الطيبة. فجزاه الله خيراً ومد الله في عمره
وبارك فيه. ونرجو أن يكون لنا معه لقاء آخر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أحاديث الفتن والفقه المطلوب
د. مأمون فريز جرار
إننا نجد من النبي صلى الله عليه وسلم حرصاً على أن يظل المسلم بعيداً
عن الفتن، لا يشارك فيها بسيف، بل ينأى عنها إن استطاع، فهو يوصي المسلم
أن يتلف ما كان بين يديه من وسائل الفتن، بكسر السيف أو دق حده بحجر لكيلا
يستخدمه أحد في الفتنة، وكسر القسي وتقطيع الأوتار، ولننظر في هذا الحديث
الذي يرويه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون
فتن، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا
نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه،
ومن كان له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من
لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر،
ثم لينجو إن استطاع النجا. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟
قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد
الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال:
يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار [1] ) .
ويروي أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إن
بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً،
ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من
الساعي، فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة فإن دخل
على أحدكم فليكن كخير ابنيّ آدم» [2] .
وبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم ما يفعله عند وقوع الفتن وهو
الاكثار من العبادة وذلك في قوله:
«العبادة في الهرج كهجرة إليّ» [3] .
ولم يقتصر تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن على توجيهات
تكف المسلم عن المشاركة فيها بالسيف، أو على الفرار منها بل نجد إلى جانب ذلك
تحذيراً من دعاة الفتنة الذين يدعون الناس إلى النار، ونجد بياناً بصفاتهم حتى
يحذرهم المسلم، وأمراً نبوياً لطريق التعامل معهم. قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «تكون فتن على أبوابها دعاة إلى النار، فأن تموت وأنت عاض على جذع
شجرة خير لك من أن تتّبع أحداً منهم» [4] .
وجاء في حديث آخر عن حذيفة فيه شيء من التفضيل عن هؤلاء الدعاة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون دعاة على أبواب جهنّم من أجابهم
إليها قذفوه فيها. قلت يا رسول الله، صفهم لنا. قال: هم قوم من جلدتنا، يتكلمّون
بألسنتنا. قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال فالزم جماعة المسلمين وإمامهم،
فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة
حتى يدركك الموت وأنت كذلك) [5] .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين ما سيطرأ عليهم من
الفتن من خارج مجتمعهم، وما سيكون بينهم وبين أعدائهم من الملاحم، فحدثهم عن
الدّجال وفتنته، ونصر اليهود له، وأن منهم سبعين ألفاً من يهود أصبهان، وبيّن
لهم من أين سيخرج، وأين سيبلغ من الأرض، وما الذي يفتن الناس به، وما الذي
يعصم منه
…
كل ذلك في تفصيل دقيق عجيب، يدل على مدى حرص النبي -
عليه الصلاة والسلام على تأمين السلامة للمؤمنين في عصره وفي العصور التالية
إلى يوم القيامة.
وسأورد لمحات منها ومن شاء التفصيل فليرجع إلى مواطنها [6] .
لقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مكان خروج الدجال فقال: «إنه
…
خارج خلّة بين الشام والعراق، فعاث يميناً، وعاث شمالاً، يا عباد الله
فاثبتوا» [7] .
ولنقف عند هذا النداء النبوي الكريم الذي يخترق القرون ليبلغ أسماع مؤمني
ذلك العصر يدعوهم إلى الثبات، ويدلّهم على ما يعصمهم من الدجّال بقوله: «فمن
رآه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف» [8] ويبطل لهم بنصائحه سحر الدجّال
الذي يخيّل إليهم الأشياء على غير حقيقتها فيقول: «لأنا أعلم بما مع الدجال منه،
معه نهران يجريان، أحدهما رأي العين ماء أبيض، والأخر رأي العين نار تأجج،
فإما أدركنّ أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمضّ ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه،
فإنه ماء بارد، وإن الدجّال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرأه كل مؤمن، كاتب وغير كاتب» [9] .
وحدّث المسلمين عمّا سيكون بينهم وبين اليهود في آخر الزمان وقبل قيام
الساعة من قتال: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم
المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر:
يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله. إلا الغرقد، فإنه من شجر
اليهود» [10] .
ويحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن صراع يقع بين المسلمين والروم
الذين يغزون بلاد الشام، ويغزوا المسلمون بلادهم، ويحدثنا عن فتح القسطنطينية، وهو فتح آخر غير الذي تم من قبل، وهذا القول ليس من عندي بل يدل عليه
هذا الحديث الصحيح الذي يربط بين ذلك الفتح وظهور الدجّال على أثره، ولنقرأ
هذا الحديث بإمعان: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق،
فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت
الروم: خلّوا بيننا وبين الذين سبوا منّا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله لا نخليّ
بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم، ويقتل ثلثهم،
أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية،
فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علّقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: (إن
المسيح قد خلفكم في أهلكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج،
فبينما هم يعدون للقتال يسوّون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم
عليه السلام، فأمهّم، فإذا رآه عدوّ الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه
لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته) [11] .
وللنظر في الحديث التالي وما فيه من (الفقه السياسي) ثم ما فيه من الأخبار
…
عن الملحمة الكبرى التي ستكون بين المسلمين والروم. قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (ستصالحكم الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً،
…
فتنتصرون وتغنمون وتسلمون، ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع رجل من أهل الصليب الصليب فيقول: غلب الصليب! فيغضب رجل من المسلمين فيقوم اليه فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم ويجتمعون للملحمة، وفي زيادة: فيجتمعون للملحمة حينئذ تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفا [12] ) .
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أنصار الدين في زمن الملاحم فيما
يرويه أبو هريرة (إذا وقعت الملاحم بعث الله بعثاً من الموالي هم أكرم العرب فرساً، وأجوده سلاحاً، يؤيد الله بهم الدين [13] ) .
أما بعد:
فإني لم أرد فيما أوردت من أحاديث الفتن أن أستقصي أو أن أستوعب، وإنما
هي شذرات منها أردت أن أستثير بها همم القادرين من أهل العلم إلى الكتابة في فقه
أحاديث الفتن وتقديم دراسات تستخلص ما فيها من الدروس التي تناسب عصرنا.
لقد ألفّ كثير من العلماء عبر العصور في أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة،
ولكنّ مجال فقهها ما يزال باباً مفتوحاً لكل من أوتي فهماً في حديث رسول الله -
صلى الله عليه وسلم، وبصيرة في أحداث التاريخ والواقع. لقد ربط ابن كثير
في البداية والنهاية بين أحاديث الفتن، ولكنه وقف في ذلك على عصره، وبقيت
العصور التالية تنتظر من يربط بين أحداثها ونبؤات النبي - صلى الله عليه
وسلم -.
ولعل قائلاً يقول: أي فائدة ترجى من هذا العلم ونحن في عصر التخطيط
والتنظيم الدقيق؟ أليس البحث في هذا نوعاً من الهروب من الواقع أو الاستنامة
على نبؤات؛ الله أعلم بها متى تقع؟
وأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل تلك الأحاديث عبثاً، ولم
يلحّ في الحديث عن الفتن لتسوّد بها صفحات من كتب الحديث، أو لتفرد في
مؤلفات تقرأ للبركة وتبيّن صدق نبوته عليه الصلاة والسلام فحسب! وإنما قالها
ليفقهها عنه المسلمون المعنيون بها في كل عصر من العصور، أنها جزء من
الرسالة التي حمّلها وأشهد عليها بقوله (ألا هل بلغت) والمطلوب من المسلمين
فهمها كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تفهم، والعمل بالوصايا التي
ضمّنها إياها.
إن كثيراً من الأحاديث إنما هي أشبه بالرؤيا! ولا يفقه الرؤيا على حقيقتها إلا
من آتاه الله علم تأويل الأحاديث، وهذا الصنف هو المرشّح لدراسة هذه الأحاديث
وفقه ما فيها وبث هذا الفقه بين المسلمين لتؤتي ثمارها الطيبة بينهم، ويعرفوا
مواطئ أقدامها، فيعرف المسلم متى يعتزل الناس ويتبع بغنمه شعب الجبال ومواقع
القطر يفر بدينه من الفتن، وعلينا أن نذكر أنه إذا كان بعض المسلمين ينعمون
بدينهم ولا يحول بينهم وبينه حائل، فكم من المسلمين في الأرض رفعت بينهم
وبينه السدود، وحالت بينهم وبينه القيود، فأين فقه أحاديث الفتن الذي يستنيرون
به؟
إن البحث في فقه أحاديث الفتن وأشراط الساعة لا يخص الفرد المسلم وحده،
بل يمتد إلى الجماعات العاملة للإسلام لتنظر في ضوئه في غاياتها ووسائلها، وأي
عمل اسلامي لا يستنير بفقه أحاديث الفتن يظل في رأيي غائم الوجهة والأساليب.
بل إن فقه أحاديث الفتن ضروري للدولة التي تلتزم بالإسلام، وقد مرّ بنا من قريب
الحديث الذي بين أن المسلمين في آخر الزمان يتحالفون مع الروم في قتال عدو
مشترك! وإن من يفقه أحاديث الفتن يستطيع من خلال إدراكه لروح العصر أن
يمتلك وعياً سياسياً يتنبأ به بما يخالف الرأي السائد! ! . وأضرب عل ذلك مثلاً
سمعته من أحد الثقّات يحدّث عن رجل صالح كان في الأردن، هو الشيخ الدبّاغ،
لقد كان هذا الشيخ يقول للناس ويقسم أن بريطانيا وحلفاءها سينتصرون في الحرب
العالمية الثانية على ألمانيا! وكان الناس يعجبون من ذلك! بل لقد أسرّ إليه بعض
المقربين أن الشكوك بدأت تحوم حوله.. بأنه يقوم بالدعاية لبريطانيا: وقد بيّن
الشيخ رحمه الله الأساس الذي بنى عليه يقينه وهو أنه ربط بين حديث الرسول
صلى الله عليه وسلم الذي بين أن المسلمين سيقاتلون اليهود قبل قيام الساعة،
وبين أحداث عصره، فبريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين هي التي رعت فكرة
قيام الدولة اليهودية منذ وعد بلفور وما تلا ذلك من أحداث ولن تقوم لليهود دولة إلا
إذا انتصرت بريطانيا! ولو انتصرت ألمانيا لتبدد الحلم اليهودي في الدولة! وقد
كان ما فهمه الشيخ من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفسرّ به أحداث
عصره، بل تنبأ بالشيء قبل أن يكون! ! وأقول في ضوء هذا: إننا بحاجة إلى
مراجعة واعية للأحاديث التي ذكرت كثرة الروم (أي النصارى) في آخر الزمان،
وقتال المسلمين لهم، ومواضع هذا القتال، ثم فتح القسطنطينية ورومية، ونصر
اليهود للدجّال وقتل المسيح ابن مريم عليه السلام له في باب اللدّ في فلسطين،
ولنضع ذلك بين أيدي العاملين للإسلام أفراداً وجماعات ودولاً!
إن البحث في هذه الأحاديث وفقهها ليس من نافلة القول أو العمل وليس من
باب الترف العلمي، أو الخدر العقلي، بل هو جزء من التخطيط والتفكير والتدبير
المستهدي بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وللنظر في تلك التفصيلات الجزئية التي وردت في بعض الأحاديث وما فيها
من التوجيهات النبوية لتفادي آثار بعض الفتن. مما سبق ذكره ومما هو مفصل في
كتب الصحاح.. ولننظر بعد ذلك في شأننا هل نوكل إلى نفوسنا وتخطيط عقولنا أم
نستهدي بما صحّ من أحاديث الفتن؟ !
فهل نجد من أهل العلم والفقه في الحديث النبوي والتاريخ وفقه الواقع
المعاصر والتبصر فيه من يتصدى لهذا العمل ويضعه بين أيدي المسلمين ليكون
هداية لهم.. وليعرفوا مدى حب النبي صلى الله عليه وسلم لهم وحرصه على
نجاتهم من الفتن.. ويجدوا وهم يقرؤون ذلك تفسيراً عملياً لقول الله عز وجل
في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [التوبة: 128] .
(1) مختصر صحيح مسلم 531 - 532.
(2)
صحيح سنن ابن ماجة 2/356.
(3)
مسلم - النووي - 2/361 - 362.
(4)
مسلم - النووي - 2/361 - 362.
(5)
مسلم - النووي - 2/361 - 362.
(6)
اللؤلؤ والمرجان 3/311 - 314.
(7)
م صحيح مسلم 543.
(8)
صحيح ابن ماجة 2/386.
(9)
م صحيح مسلم 542.
(10)
مسلم - النووي - 535 - 536 - 537.
(11)
مسلم - النووي - 535 - 536 - 537.
(12)
صحيح ابن ماجة 2/389.
(13)
مسلم - النووي - 2/390.