المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التطور التاريخي لتدوينالعقيدة الإسلامية - مجلة البيان - جـ ٥٣

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌التطور التاريخي لتدوينالعقيدة الإسلامية

‌التطور التاريخي لتدوين

العقيدة الإسلامية

عثمان جمعة ضميرية

إن من أكثر الكلمات والألفاظ تداولاً على الألسنة بين الناس كلمة (العقيدة)

وما يقاربها ويتفق معها في الاشتقاق، كالاعتقاد والعقائد.. وعلى كثرة استعمال هذه

الكلمة التي غدت مصطلحاً شائعاً، فإننا لا نجد لها استعمالاً في القرآن الكريم وفي

الحديث الشريف.

ولذلك يرى بعض الباحثين: أنها مستحدثة في العصر العباسي للمعنى الذي

استعملت فيه، وأن اللفظ المستعمل في القرآن الكريم والحديث الشريف هو

(الإيمان) . وقد استعمل لفظ (العقيدة) أجيال من المسلمين، بمعنى: الأفكار الأساسية التي يجب على المؤمن بدينٍ أن يقبلها ويصدق بها. واستعمال السلف. من العلماء والأئمة لهذه الكلمة دليل على جواز ذلك وإطلاقها على هذا الجانب من

جوانب الدين [1] .

ولعل هذا يدعونا إلى استقراء المصطلحات الفنية، بعد تدوين العلوم الإسلامية، التي بحثت هذه الأفكار العقدية من خلالها؛ لنبينِّ أصل استعمال كل منها في اللغة العربية، وفي لسان الشرع بعامة، ثم كيف أصبح ذا مدلول خاص بعد ذلك. وقد يترتب على استعمال مصطلح من المصطلحات آثار معينة، إيجابية أو سلبية، قد نُلْمِح إلى شيء منها دون تفصيل.

والاستقراء - وقد لا يكون تاماً - على حسب الوسع والطاقة، وبمقدار ما

أتيح لي من اطلاع على ما كتبه علماؤنا في جانب العقيدة، يرشدنا إلى

المصطلحات الآتية - والتي نعرضها تباعاً - وقد رتبتها بحسب أولية ظهورها

واستعمالها تاريخياً، حيث أذكر أول من استعمل اللفظ أو كتب فيه، ثم أتبعه بمن

تابعه على ذلك ولو في عصور متأخرة، مرتباً ذلك حسب وفيات المؤلفين، دون

استقصاء أو استيعاب.

وأول ما نجده من هذه المصطلحات عنواناً على الجانب العقدي من الدين هو

مصطلح (الفقه الأكبر) .

1-

الفقه الأكبر

* قال العلامة اللغوي ابن فارس، في (معجم مقاييس اللغة)

(4/242) : (فقه - الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح، يدل على إدراك

الشيء والعلم به. تقول: فقهت الحديث أفقهه. وكل عالم بشيء فهو فقيه.. ثم

اختص بذلك علم الشريعة، فقيل لكل عالم بالحلال والحرام: فقيه. وأفقهتك الشيء، إذا بيَّنته لك) .

* وقال ابن منظور في (لسان العرب)(13/522) :

(الفقه: العلم بالشيء والفهم له. وغلب على علم الدين، لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم كله..) .

* وقال الراغب الأصفهاني في (مفردات القرآن) ص (384) :

الفقه: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد. فهو أخص من العلم، قال

...

تعالى: [فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً]، وقال: [ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ

لا يَفْقَهُونَ] إلى غير ذلك من الآيات.

والفقه العلم بأحكام الشريعة. يقال: فَقُه الرجل فقاهة، إذا صار فقهياً.

وفقه - أي فهم - فقهاً، وفقهه، أي فهمه، وتفقَّه: إذا طلبه فتخصّص به. قال تعالى: [لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ] .

* من هذه النصوص اللغوية وغيرها، نستنبط أمرين اثنين:

الأول: أن الفقه في اللغة وهو الفهم والعلم بالشيء، أو هو فهم غرض

المتكلم خاصة. ومنهم من يجعله خاصاً بفهم وعلم الأمور الخفية الدقيقة التي تحتاج

إلى نظر وتأمل واستدلال [2]

والثاني: أن العرف قد خصَّ الفقه بعلم الدين، أو العلم بأحكام الشريعة كلها.

وهذا المعنى الشرعي العام هو الذي كان معروفاً عند السلف في العصور المتقدمة،

قبل أن يخصصه المتأخرون بمعرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها

التفصيلية، كما هو المشهور في تعريفه عند الفقهاء والأصوليين.

* وقد أوضح الإمام الغزالي هذا التخصيص لكلمة (الفقه) في حديثه عما بُدِّل

من ألفاظ العلوم إلى غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول، قال:

كان الفقه يطلق في العصور الأولى على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق

آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف

على القلب. ويدلك على هذا المعنى قول الله عز وجل: [لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ] [التوبة: 122] .

وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه، دون تفريعات الطلاق

والعتاق واللّعان.. فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل إن التجرد لهذه

التفريعات، والاشتغال بها على الدوام - دون أي ملحظ آخر - يقسّي القلب وينزع

الخشية منه، كما نشاهد من المتجردين له.

وقال تعالى: [لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا][الأعراف: 179] وأراد به معاني

الإيمان دون الفتاوى. ولعمري إن الفقه والفهم في اللغة اسمان بمعنى واحد. وإنما

يتكلم في عادة الاستعمال به قديماً وحديثاً، قال تعالى: [لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي

صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ] [الحشر 13] ، فأحال قلة خوفهم من

الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه. وليس ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات

الفتاوى، وإنما هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم.

ولست أقول: إن اسم الفقه لم يكن متناولاً للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن

كان متناولاً لها بطريق العموم والشمول، أو بطريق الاستتباع. فكان إطلاقهم له

على علم الآخرة أكثر [3] .

وكان تخصيص (الفقه) بمعرفة فروع الأحكام بعد أن ذهب أهل القرون

الفاضلة الأولون، وانقلبت العلوم كلها صناعات بعد أن كانت مقاصد وغايات! [4] .

* وعلى هذا المنهج في عموم كلمة (الفقه) جاء التعريف المنقول عن أبي

حنيفة رحمه الله بأنه:

(معرفة النفس ما لها وما عليها) . أي: ما تنتفع به النفس وما تتضرر به

الآخرة. أو ما يجوز لها وما يجب عليها وما يحرم. وهذا يتناول الأحكام الاعتقادية، كوجوب الإيمان ونحوه، والأحكام الوجدانية الأخلاقية، مما حثَّ عليه الإسلام

كالصدق والأمانة والوفاء ونحوها، ويشمل أيضاً الأحكام العملية كالصلاة

والصوم.. والبيع ونحوها [5] .

* ويُفَضَّل في هذا الاستخدام لكلمة (الفقه) بهذا المعنى، فإن كان للاعتقاديات سمي (الفقه الأكبر) لأنه أكبر بالنسبة للأحكام العملية الفرعية، التي تسمى (الفقه الأصغر) ؛ كما أن شرف العلم إنما يكون بشرف المعلوم، والاعتقاد يبحث في الإيمان بالله ووحدانيته وصفاته، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى، ولذلك سمي بالفقه الأكبر.

أ- وأول من استخدم مصطلح (الفقه الاكبر) ، هو الإمام أبو حنيفة النعمان

ابن ثابت (ت 150 هـ) فقد روي عنه كتاب بهذا الاسم، وهو مشهور عند أصحابه -

كما يقول ابن تيمية رحمه الله رووه بالإسناد عن أبي مطيعٍ، الحكم عبد الله

البلخيّ.

وهو متن صغير يقع مطبوعاً في بضع ورقات، حدد فيه عقائد أهل السنة

تحديداً منهجياً [6] ، وردَّ فيه على المعتزلة والقدرية والجهمية والشيعة. ويشتمل

على خمسة أبواب في القدر والمشيئة والرد على من يكفرِّ بالذنب، والباب الأخير

في الإيمان.

وقد نال هذا الكتاب عناية كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين شرحاً له

ودراسة. وإن كانت بعض هذه الشروح محل نظر بالنسبة لأصحابها.

وأشير إلى أن الروايات للكتاب مختلفة، فمثلاً الرواية التي شرحها ملا علي

القاري (ت 1014هـ) تختلف عن الرواية المنسوب شرحها للماتريدي (ت 332 هـ) .

مما جعل بعض الباحثين يتردد أو يشك في نسبة الكتاب للإمام أبي حنيفة.

ولكن شهرة الكتاب ونسبته قد تغني عن الإسناد، وإن كان ذلك لا ينفي أن بعض

المسائل ألحقت به في عصر متأخر، أو كانت من بعض الشارحين لم تتميز عن

أصل الكتاب. ولا يزال الأمر بحاجة إلى دراسة متأنية. وقد يطمئن بعض العلماء

إلى نسبة الكتاب أو إلى أن ما فيه يعبِّر فعلاً عن رأي أبي حنيفة فينقل منه مذهبه

في بعض المسائل كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[7] .

ب - وينسب كذلك للإمام الشافعي رحمه الله (204 هـ) كتاب بالاسم نفسه

(الفقه الاكبر)، يقول عنه حاجي خليفة في (كشف الظنون) : وهو جيد

جيداً، مشتمل على فصولٍ، قرأه بعض أهل حلب على الشيخ زين الدين الشماع، لكن في نسبته إلى الشافعي شك. والظن الغالب أنه من تأليف بعض أكابر العلماء.

ويرجح بروكلمان في (تاريخ الأدب العربي) أنه يرجع إلى أوساط إسرائيلية

متأسياً في ذلك بالمستشرق اليهودي غولدزيهر الذي يرجع كل أثر إسلامي إلى

أصول إسرائيلية!

وقد طبع الكتاب قديماً في القاهرة سنة (1900م) ، وتقع مخطوطته في ثلاث

وعشرين ورقة، تجد فيها أحياناً أسلوب الشافعي رحمه الله، ولكن تقف عند

بعض العبارات التي لم تكن مستعملة في عصره، مما جعل بعضهم ينسبه للفخر

الرازي، أو يقول عنه: (فيه أسلوب عصر فخر الدين الرازي، وإن كانت آراؤه

تمتُّ إلى كثير من آراء الشافعي في أصوله) .

وأراني قد أطلت في بيان هذا المصطلح لأنه أول مصطلح في التطور

التاريخي للتدوين والتأليف في العقيدة. فلننظر في مصطلح آخر يليه مباشرة.

2-

الإيمان

* قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة)(1/133-35) :

...

(أمن - الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان، أحدهما للأمانة التي هي

ضد الخيانة. ومعناها: سكون القلب. والآخر: التصديق والمعنيان متدانيان..

وأما التصديق فمنه قول الله تعالى: [ومَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا][يوسف 17] أي

مصدق لنا. وقال بعض أهل العلم: إن (المؤمن) في صفات الله تعالى، هو أن

يَصْدُقَ ما وَعَدَ عَبْدَه من الثواب. وقال آخرون: هو مؤمن لأوليائه يؤمنهم عذابه

ولا يظلمهم. فهذا قد عاد إلى المعنى الأول

) .

* وقال الأزهري في (تهذيب اللغة)(2/451-52) :

(وأما الإيمان: فهو مصدر آمن يؤمن إيماناً. واتفق أهل العلم من اللغويين

وغيرهم على أن الإيمان معناه التصديق..) ، ثم قال: (وهذا موضع يحتاج الناس

إلى تفهيمه وأين ينفصل المؤمن عن المسلم وأين يستويان؟) وشرح ذلك باستفاضة.

هذا، والإيمان في لغة العرب يستعمل متعدياً ولازماً؛ فإذا استعمل لازماً كان

معناه أنه صار ذا أمن. وإذا استعمل متعدياً؛ فتارة يتعدى بنفسه فيكون معناه

التأمين. وتارة يتعدى بالباء أو اللام، فيكون معناه التصديق [8] .

وفي الاصطلاح الشرعي: كثيراً ما ترد كلمة الإيمان، ويراد بها المعنى

اللغوي نفسه، فتطلق على مطلق التصديق، سواء كان تصديقاً بحق أو باطل.

وكثيراً ما يراد معنى أخص صار في العرف الشرعي حقيقة جديدة، فيراد بها

خصوص التصديق بخبر السماء المنزل على الأنبياء.

وضابط ذلك: أن ننظر في استعمالها؛ فإن كانت متعلقة بشيء، كأن قيل:

إيمان بكذا، كانت بمعناها اللغوي البحت، أي مطلق التصديق. وأما إذا

ذكرت بدون متعلَّق فالمراد بها تلك الحقيقة الشرعية الخاصة، وهي التصديق بالحق

والانقياد إليه [*] .

وعندئذ فالإيمان عبارة عن ثلاثة أشياء:

الأول: هو الاعتقاد الجازم بكل ما ثبت بالضرورة أنه جاء من عند الله تعالى

على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا بد مع هذا من الرضى والارتياح

النفسي.

الثاني: إعلان هذه العقيدة بالقول أو غيره، من كل ما يدل عليها ظاهراً.

والثالث: العمل بكل ما أمر الله به من فريضة أو نافلة والانتهاء عمَّا نهى الله

عنه من حرام وشبهة صغيرة وكبيرة في سره وعلانيته بقلبه وجوارحه.

هذا، وكلمة الإيمان ومشتقاتها من أكثر الكلمات استعمالاً في القرآن الكريم

والسنة النبوية، والحديث عن الإيمان فيهما يتميز بأسلوب حيّ مؤثر يملك على

الإنسان جوانب نفسه، ويحمله على الطاعة والالتزام، فيكون له أثر في الفرد

والجماعة، ويختلف هذا الأسلوب عن أسلوب المتأخرين فيما بحثوه وشغلوا به

حول حقيقة الإيمان وأجزائه، وارتكاب الكبيرة وحكمها وأثرها على الإيمان.

وحسبنا هنا هذه الإشارة الموجزة..

* وتحت عنوان (الإيمان) بحث علماؤنا رحمهم الله جوانب من العقيدة

كما نجد ذلك في أبواب الإيمان من كتب الحديث، كما نجد ذلك في بعض كتب

التفسير، وخصص بعضهم كتباً مفردة للإيمان، نذكر أهم ما وصل إلينا منها، أو

ما عُرف منها حسب الترتيب التاريخي لوفيات مؤلفيها:

أ- (كتاب الإيمان ومعالمه وسننه واستكمال درجاته) للإمام أبي عبيد القاسم

بن سلَاّم، البغدادي الهروي (ت 224 هـ) .

ب- كتاب الإيمان، للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة (225 أو235 هـ) ،

وكلاهما مطبوع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.

ج- كتاب الايمان للإمام أحمد بن حنبل الشيباني (241 هـ) وحقق رسالة

جامعية في المدينة النبوية.

د- ثم هناك كتب أخرى تحت هذا الاسم، لمحمد بن أسلم الطوسي (242 هـ) والعَدَنيّ (243هـ) ، والطحاوي (321 هـ) ، وابن منده (395 هـ) وأبي يعلى

الفرّاء (458 هـ) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية.

وفي مقدمة التحقيق لهذه الكتب أو لما طبع منها محققاً، نجد دراسة عن كل

كتاب ومنهجه وميزاته. وفي العصر الحديث ظهرت كتب كثيرة تحت هذا العنوان

تعالج جوانب من العقيدة الإسلامية وآثارها في الحياة، وتدرس الإيمان دراسة نفسية

تحليلية، وفيها ما هو نافع ومفيد.

(1) انظر الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية، للأستاذ محمد المبارك ص (75) .

(2)

انظر: الصحاح للجوهري: 6/2234، ترتيب القاموس المحيط: 3/ 513، تعريفات الجرجاني ص (216) .

(3)

انظر: إحياء علوم الدين للغزالي: 1/32-32.

(4)

شرح التوضيح على التنقيح للتفتازاني: 1/27-29.

(5)

انظر التوضيح للتفتازاني: 1/19-20، كشف الأسرار علي أصول البزدوي: 1/8، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: 1/41-42.

(6)

نشأة الفكر الفلسفي للنشار: 1/234.

(7)

انظر مجموع الفتاوى: 5/46-48، درء تعارض العقل والنقل: 6/ 263 - 264.

(8)

انظر المفردات للراغب ص (26) ، المختار من كنوز السنة للدكتور محمد عبد الله دراز ص (69) .

(*) نفى ابن تيمية أن يكون التصديق مرادفاً للإيمان، لا لفظاً ولا معنى، وأتى على ذلك بأدلة لغوية وشرعية، ورد على ما ينبني على هذه المقدمة أيضاً من أن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان، وفصل القول في مسألة مهمة بما لا مزيد عليه ولا أشفى منه وهي: هل في اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع عن مسماها في اللغة؟ أو أنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة، لكن الشارع زاد في أحكامها لا في معناها يراجع كتاب الإيمان لابن تيمية ص 247-259 ط دار الكتب العلمية وحوالي ص 272-276 ط المكتب الإسلامي - التحرير -.

ص: 8

كتب

الفرصة السانحة [*]

عرض: د. مالك إبراهيم الأحمد

يعتبر الكثير من النقاد والمحللين السياسيين كتاب نيكسون الأخير (الفرصة

السانحة) أهم كتبه التسعة على الإطلاق، ونظراً لما يمثله هذا الكتاب من أهمية بالغة سواء من حيث كاتبه وهو رئيس سابق للولايات المتحدة أو من حيث المادة

المعروضة وهي دراسة تحليلية لواقع العالم (ومن ضمنه العالم الإسلامي) ، رأينا

عرض هذا الكتاب للقارئ المسلم خاصة وأنه يعرض الفكر الغربي (الأمريكي على

وجه الخصوص) بشكل واضح وعميق، ولهذا أوصي أصحاب الاهتمام بقراءة هذا

الكتاب..

فصول الكتاب:

الكتاب يتكون من سبعة فصول، الأول بعنوان العالم الحقيقي ويقصد به العالم

الذي تسود فيه قوى الحرية بزعامة أمريكا. والفصل الثاني (الإمبراطورية

الشريرة السابقة 9 وهي إمبراطورية الاتحاد السوفييتي التي سقطت. وقد أشار في

توطئة الكتاب حول سقوط الاتحاد السوفييتي بقوله: منذ حوالي اثنين وثلاثين

عاماً قال لي خروتشوف في موسكو بشيء من الصلف: سوف يعيش أحفادك في

ظل الشيوعية، فأجبته قائلاً: سوف يعيش أحفادك في ظل الحرية) .

أما الفصل الثالث فهو بعنوان: (الوطن المشترك عبر الأطلنطي) أي أوربا.

والفصل الرابع عن المثلث الباسيفيكي. والفصل الخامس عن العالم الإسلامي

والسادس حول نصف الكرة الجنوبي (نظرة تفصيلية لدول العالم الثالث اقتصادياً

وسياسياً) ، ويختم الكتاب بفصل تجديد أمريكا.

وسوف نتوقف في استعراضنا هنا عند الفصول الأول والخامس والأخير لما

لها من أهمية خاصة لنا كمسلمين.

يتصدر الفصل الأول دعوة ساخنة كي تلعب الولايات المتحدة الأمريكية

دورها في العالم (نعيش الآن في عالم ليس به إلا قوة عظمى واحدة وهي الولايات

المتحدة، وعلينا الآن تشكيل سياستنا الخارجية لكي تتلائم مع الوضع الجديد.

وينادي كثير من الأمريكيين سواء من اليمين أو اليسار بأنه على الولايات المتحدة

أن تتراجع وتنطوي على نفسها بعيداً عن العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ولكن

الواقع يقول إنه يجب على أمريكا أن تقود العالم في السنين القادمة) .

ثم يشير إلى الحرب الباردة ويركز على دور الاتحاد السوفييتي الشرير في

العالم وما آل إليه أخيراً، ثم يرد على ثلاثة شعارات مطروحة:

الأول: التاريخ قد توقف وذلك بعد انهيار الشيوعية وأن السيطرة هي

للتكنولوجيا والاقتصاد والأفكار وليس للقوة العسكرية.

الثاني: القوة العسكرية ليس لها ضرورة وأنها لم تعد تشكل حجر الأساس في

السياسة الدولية.

الثالث: أمريكا في طريقها إلى التراجع بسبب الديون الضخمة والعجز

التجاري.

وفي رده المفصل على هذه الأطروحات يؤكد أن القوة الاقتصادية ليست بديلاً

بأي حال للقوة العسكرية ويضرب مثالاً على ذلك في أزمة الخليج حيث وقفت أكبر

قوتين اقتصاديتين وهما ألمانيا واليابان متفرجتين على الأوضاع بل اعتمدتا كلياً

على دور الولايات المتحدة. ثم يتساءل: (إذا لم تنعم الولايات المتحدة بقيادة العالم

فمن الذي يجب عليه ذلك؟ إن الدول الوحيدة التي تستطيع ذلك هي اليابان والصين

والاتحاد السوفييتي (سابقاً) وألمانيا. إن الولايات المتحدة ليس لديها فقط ما تملكه

هذه الدول، بل أيضاً ما لا تملكه، وهو عدم وجود تطلعات إمبريالية أو استعمارية

تجاه الدول الأخرى) .

ويحاول نيكسون أن يبرز إيجابيات تفرد الولايات المتحدة وحرصها على رفاه

وحرية العالم، وإن لم تكن لها مصالح من ذلك ويضرب لذلك مثال أزمة الخليج:

(لولا تدخل الرئيس بوش لكان صدام حسين يتحكم الآن في 50% من إنتاج البترول

العالمي، وبالرغم من أن أمريكا يمكنها الاستغناء عن نفط الخليج إلا أن أوربا

واليابان لا يمكنهما ذلك، ونحن نتأثر بما يصيب اقتصاديات البلاد الديمقراطية

الأخرى، ولذلك كان لا يمكننا أن نسكت على سيطرة العراق على نفط الخليج الذي

يمكن أن تتخذه وسيلة لتهديد العالم عن طريق التحكم في إنتاجه) .

ويناقش نيكسون بتفصيل القول الذي يدعو إلى انكفاء الولايات المتحدة على

نفسها ومحاربة مبدأ رجل البوليس الدولي مضيفاً عنصراً أخلاقياً - في زعمه -

لدورها: (إن انعزالنا يخالف مثلنا ومعتقداتنا الدينية التي تدعو إلى نشر الفضيلة في العالم أجمع، وهذا لا يعني أن علينا أن نتدخل في كل صغيرة وكبيرة في العالم، ولكن يجعل علينا التزاماً أدبياً في استخدام كل إمكاناتنا كدولة عظمى لحماية الحرية والعدل في البلاد التي يهمنا أمرها وهي مفيدة لنا) . ويشير إلى أن دور الأمم المتحدة - كحافظ للسلام الدولي - محدود جداً، ولا يمكن أن تحقق أي دور ما لم يتم اتفاق الدول الكبرى على رأي محدد سابقاً.

ويضرب لذلك أمثلة حيث لم تتخذ الأمم المتحدة موقفاً إيجابياً وعملياً من

حوالي مئة حرب في أنحاء العالم إلا في حالتين وهي الحرب الكورية وحرب

الخليج. وهذا بالطبع يدل على أن لا مناص من قيادة الولايات المتحدة للعالم.

ويتطرق في موضع آخر إلى قضية حيوية وهي: متى تتدخل الولايات

المتحدة في أزمات العالم. ويجيب بحسب مصالح الولايات المتحدة والتي يقسمها

إلى مصالح حيوية (ما كان يهدد مصالح الولايات المتحدة مباشرة) ومصالح هامشية

ومصالح حساسة (وهي التي تشكل تهديداً لإحدى النقاط الحيوية للولايات المتحدة) .

فالتدخل لازم في الحالة الأولى ومحتمل في الثالثة.

والولايات المتحدة - في نظر نيكسون - قادت العالم الحر ضد التهديد

الشيوعي سابقاً، وهي محل أنظار العالم لتقوده إلى الحرية والسلام والتقدم، وهي

قادرة على ذلك رغم ما يعتريها من مشاكل داخلية حادة من جريمة، مخدرات،

سوء تعليم، تفرقة عنصرية وغيرها. والفرصة سانحة لها لقيادة العالم فهل هي

فاعلة؟ ؟

في فصل العالم الإسلامي ينقل نيكسون التصور الخاطئ والمنتشر لدى

الأمريكان عن المسلمين والعالم الإسلامي مبيناً أنهم - في تصور الأمريكان -

أصحاب أشد الصور قتامة وأشد حتى من الصين الشيوعية.

ويشير إلى الصيحات والتحذيرات التي يطلقها البعض محذرين من الخطر

الداهم القادم من العالم الإسلامي، ذي الإمكانات البشرية الهائلة والمادية الضخمة،

ويرد على ذلك بأن الأمر أهون مما يتصورون، فالمسلمون - رغم إيمانهم بالدين

الإسلامي جملة - فإنهم يعانون تفككاً سياسياً ذريعاً ومشكلات مستعصية وتمزقاً

عقائدياً ومذهبياً.

ويتطرق في موضع آخر إلى الحضارة الإسلامية السابقة وإمكانية عودتها

مستقبلاً إذا استقرت الأمور في المنطقة بعيداً عن الحروب، (مع إسرائيل بالطبع) .

ويصنف الحركات السياسية في العالم الإسلامي إلى ثلاث مجموعات رئيسية:

1-

الأصوليون (كما يسميهم الغرب) : ويمثلهم بشكل خاص الثوار الشيعة في

إيران ولبنان.

2-

الرجعيون: وهم الدكتاتوريون الذين يؤمنون بالحزب الواحد أمثال صدام

العراق وقذافي ليبيا.

3-

التقدميون: الذين يرون ربط المسلمين بالغرب وليس لهم نظرة عدائية

للغرب مثل تركيا، باكستان، ومصر.

ونظرة نيكسون نحو هذه المجموعات هو دعم التقدميين لما فيه من مصلحة

متبادلة، وكي يستطيعوا مقاومة الأصولية والرجعية. ويبين طريقة التعامل مع

جميع المجموعات سواء كانوا أصوليين في السلطة (مثل إيران) أو تقدميين يمكن

أن يكونوا شركاء منطقيين للولايات المتحدة (تركيا - باكستان - مصر اندونيسيا)

نظراً لثقل بلدانهم الاستراتيجي ولمقوماتهم البشرية والمادية.

أما أسلوب التعامل معهم (فيجب ألا تصل العلاقة بين أمريكا والدول الشريكة

إلى حد الوصاية، ويجب ألا نتعامل مع الزعماء في الدول التقدمية كأنهم مراسلون

بيننا وبين شعوبهم، بل علينا أن نعاملهم كشركاء متساويين، لأن أسرع طريقة

ندفنهم بها هي معاملتهم كأنهم أبواق للدعاية الغربية) .

ويضيف قائلاً: (علينا أن نتقبل في بعض الأحيان رفض أصدقائنا في العالم الإسلامي لبعض تصرفاتنا، التي تسبب لهم حرجاً سياسياً في بلادهم. فعندما ألقت الولايات المتحدة القنابل على ليبيا انتقاماً منها لمهاجمتها بعض الجنود

الأمريكيين قام كثير من الزعماء في المنطقة بلعننا على الملأ، وبالثناء علينا في سرهم. فيجب ألاّ يزعجنا أن تضطر الظروف أصدقاءنا أن يتفوهوا ببعض

السباب ضدنا إرضاءً لأعدائنا) .

ويمثل العالم الإسلامي - كما يرى نيكسون - واحداً من أكبر التحديات لسياسة

الولايات المتحدة في القرن القادم، وهناك قضيتان أساسيتان تمثلان حالة عدم

استقرار فيه، وهما النزاع العربي الإسرائيلي وأمن الخليج العربي.

ومن هذا المنطلق يحذر من محاولة وضع حل شامل للأمن في المنطقة، أو

محاولة وضع نظام للحد من الأسلحة، أو الانسياق وراء مقولة إعادة توزيع الثروة

بل يكتفي بوجود معاهدات أمنية ثنائية مشتركة مع دول المنطقة وتعاون على أوسع

نطاق أمام أية تحديات تواجهها هذه الدول. وعقدة المنطقة - أو أهميتها - كما يرى

نيكسون؛ هو وجود البترول الذي يجب أن يصل للغرب بانتظام وبأسعار معتدلة،

وإسرائيل التي يجب أن تكون في مأمن من أي اعتداء، مفصلاً ذلك بقوله: (إن

التزاماتنا نحو إسرائيل عميقة جداً. فنحن لسنا مجرد حلفاء، ولكننا مرتبطون

ببعضنا أكثر مما يعنيه الورق. نحن مرتبطون معه ارتباطاً أخلاقياً) .

وأنهم - أي أمريكا حكومة وأفراداً - لا يمكن أن يسمحوا لأحد - كائناً من

كان - بالتعرض لإسرائيل وتدميرها. ثم يفصل - من وجهة نظره - كيفية حل

الصراع العربي الإسرائيلي بشكل يضمن حقوق إسرائيل والفلسطينيين.

وننتقل إلى الفصل الأخير (تجديد أمريكا) الذي هو بمثابة خاتمة للكتاب

ويؤصل الكاتب فيه دور أمريكا القيادي للعالم وأهمية ذلك وأثره.

ويؤكد في بداية الفصل أن الدور الذي تقوم به أمريكا لا يمكن أن يقوم به

غيرها، نظراً لأنها تمتلك جميع مقومات القيادة وهي القوة العسكرية والاقتصادية

والسياسية، فضلاً عن المبادئ والمثل التي ترفع لواءها وتنتصر لها.

ويدعو نيكسون لمزيد من الاهتمام بالجانب الاقتصادي والتعليمي لأمريكا كي

تكون عند حسن ظن الآخرين وتوقعاتهم، ويتساءل خلال هذا الفصل: (هل

تستطيع الولايات المتحدة أن تقوم بدور القيادة للعالم؟ الجواب بكلمة واحدة: نعم،

ويمكن للعالم أن يتبع خطانا) .

أما كيف تقود أمريكا العالم فيبين أن: (الولايات المتحدة كأكبر قوة في العالم

من واجبها أن تقوده دون أن تفرض عليه آراءها أو مثالياتها. علينا أن نرعى نمو

الديمقراطية ما دام هناك مجال لها، وما دام الشعور القومي يتجاوب معها وتتجاوب

معها عاداته ومؤسساته، وعلينا أن نحذر من فرضها على أي شعب بالعنف) .

ويختتم بدعوته لأمريكا أن تتبوأ مكانها القيادي، وللعالم بأن يتبعها فهي منارة الأمن

والحرية والسلام في العالم أجمع وبدونها فالقطار قد يتوقف إن توقف ربانه،

والفرصة سانحة لقرن أمريكي ثان قادم فهل هم فاعلون؟

(*) Seize the Moment تأليف الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون ، ترجم بعنوان: الفرصة السانحة ، ترجمة: أحمد صدقي مراد ، الناشر دار الهلال 215 صفحة.

ص: 17