الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 12
فهرس المحتويات
1-
ابن هشام الأنصاري وآثاره: بقلم الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع
2-
أحب الأعمال إلى الله: بقلم الشيخ محمد الطاهر النيفر
3-
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم: بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
4-
أضواءٌ على العالم الإسلامي:نداء من: محمد عبد القيوم خان رئيس دولة كشمير وجامو الحرة إلى جميع المسلمين في العالم
5-
أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
6-
الاقتصاد العالمي بين الاشتراكية والإسلام: بقلم الشيخ محمد المجذوب
7-
الإمام أحمد ودفاعه عن السنة: بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
8-
المثل العليا للشباب: للشيخ محمد المهدي محمود
9-
المسئولية في الإسلام (2) : بقلم الشيخ عبد الله قادري
10-
المقصود من الجهاد: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
11-
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
12-
سيراليون: بقلم الشيخ: أحمد صالح محايري
13-
شبَابُ الأمة عنوان مستقبلها: بقلم الشيخ محمد أبو فرحة
14-
شعر أهل الحديث (3) : بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
15-
لقاء صحفي مع سعادة الدكتور محمد محسن خان: إعداد أحمد عبد الحميد عباس
16-
هل يشترط لكاتب القصة التاريخية الإلمام باللغات الأوربية?: بقلم الطالب: عبد الرحمن الأنصاري
17-
يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
ابن هشام الأنصاري وآثاره
بقلم الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع: المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
نسبه:
هو عبد الله أبو محمد جمال الدين. وفق عبارة ابن مالك:
واسما أتى وكنية ولقبا
وأخرن ذا أن سواه صحبا
واسم أبيه يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري أرومة ومحتدا، المصري نشأة ومولدا.
وهذا النسب قد جاء في كتابي السيوطي (بغية الوعاة وحسن المحاضرة) كما جاء في (شذرات الذهب) لأبي الفلاح عبد الحميد بن العماد، وفي (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) للعلامة الشوكاني، وفي (دائرة المعارف الإسلامية) .
وقد أثبته الزميل المحقق الأستاذ محمد شريف الزئبق في نشره حديثا أثرا هاما من آثار المترجم له صغير الحجم وفير العلم ظل رهين الغربي من المكتبات دفين المنسى من المخطوطات حتى أذن الله للأخ الشريف أن يبرزه في ثوب قشيب وضاح الجبين ذلك هو (الجامع الصغير) الذي ازدانت به المكتبات العربية وتسامع به عشاق تراث ابن هشام فأقبلوا إليه يزفون، وإنها لمكرمة تذكر فتشكر لأبي خالد؛ لأن فضيلة النشر في البقاع لا تقل عن فضيلة الاختراع زاده الله توفيقا في إحياء المخطوطات من ثمرات قرائح الراسخين في العلم.
ومن الأمانة العلمية في نسب ابن هشام أن نسجل ما ذكره الإمام ابن حجر في كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) فقد جاء فيها أنه عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري.
فجعل جده الأدنى عبد الله وجد أبيه يوسف على حين قد أجمع غيره على أن جده أحمد وجد والده عبد الله.
وإذا علمنا أن العلامة ابن حجر قد سبقهم في الترجمة لابن هشام ساغ لنا أن نقول إن الحق معه حيث ذكر النسب كاملا ويكون غيره على حق إذا روعي الاختصار في السلسلة النسبية بحذف ما يدل عليه مثله وهو هنا (عبد الله بن يوسف) فلا منافاة إذن بين النسبين.
وبدهي أنه من سلالة الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه فسماهم من أجل ذلك أنصارا.
والأنصار ينتمون إلى الأوس والخزرج من قبائل الأزد بن الغوث بن ثبت بن مالك ابن زيد بن كهلان بن سبأ أخي جرهم وحضرموت أبناء قحطان.
وقد قرر بعض الشيوخ أن ابن هشام من الأوس ورأى آخرون أنه من الخزرج وهو الذي أيده العلامتان عبادة والأمير، وإلى الأخير أميل وأرجح.
مولده ووفاته:
ولد ابن هشام بالقاهرة يوم السبت الخامس من ذي القعدة في العام الثامن من القرن الثامن سنة ثمان وسبع مائة هجرية بإجماع الروايات.
واختاره الله لجواره ليلة الجمعة الخامس من شهر ذي القعدة في العام الأول من العقد السابع في القرن الثامن (سنة 761هـ) سنة إحدى وستين وسبعمائة هجرية عن ثلاثة وخمسين عاما لم تنقص ولم تزد فيما تضافرت عليه الروايات، ولم يشذ من بينها إلا ما ذكره صاحب (كشف الظنون) حاجي خليفة في غير موضع من كتابه أن وفاته كانت سنة اثنتين وستين وسبعمائة هجرية (762هـ) .
وأيا ما كان فلقد بورك له في عمره حيث أربت مؤلفاته وفيها البسيط والوجيز والوسيط على بضع وثلاثين من أمهات المراجع التي وهب الله لها ما وهب من قبول ورواج في شتى الآفاق. فإذا كان قد بلغ أشده واستوى في مستهل العقد الثالث من حياته المفعمة بالجد والعمل فيكون قد أتحف القراء في كل علم بكتاب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.
كشف اللثام عمن أطلق عليه (ابن هشام)
يتسامى إلى ابن هشام جماعة كثيرة وعتهم (بغية الوعاة) في طبقات اللغويين والنحاة اشتهر من بينهم تسعة المترجم له واسطة عقدهم غير منازع لما جبل عليه من مواهب وتوافر لديه من مناقب جعلته في علوم العربية عامة وفنون الأدب خاصة صاحب البحر المسجور والروض الممطور إلى ما تطامن له في اللغويات وبلغ الغاية فيه من الشواهد النحوية وتخريجها وفق القراءات السبعة وخطها بيمينه بأحرف من نور في كتاب مسطور هو بحق كما قال فيه الكرام الكاتبون كالشهاب الخفاجي في حاشيته، وابن خلدون في غير موضع من مقدمته.
قال الخفاجي:
مغنى اللبيب جنة
أبوابها ثمانية
أما تراها وهي لا
تسمع فيها لاغية
وقد أخذه من قول العلامة الأمير في شرحه على (مغنى اللبيب)
ألا إنما مغنى اللبيب مصنف
جليل به النحوي يحوي أمانيه
وما هو إلا جنة قد تزخرفت
ألا تنظر الأبواب فيه ثمانية
وقال التاريخ المحقق بعد البيان المتدفق لابن خلدون:
ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه وقديما قيل:
إنما يقدر الكرام كريم
ويقيم الرجال وزن الرجال
حقا لقد كان ابن هشام موسوعة مطبوعة في البحث العميق والتحليل الدقيق ختمت به دولة المجتهدين في النحو ومن جاء بعده من فحول العلماء أما شارح لكلامه أو ناقل عنه وعن غيره شاهد له بطول الباع ورسوخ الأقدام وليس نبوغه وقفا على النحو بل وصل إلى الأعماق في كل ما يمت إليه من أدب ولغة وقراءات.
وكان من الفنون بحيث يقضى
له في كل فن بالجميع
وكأن الله تعالت آلاؤه وجلت نعماؤه قد أدخر للغة قرآنه وتوجيه بيانه من الراسخين في العلم الملهمين في الفهم من يستوعب لغة الضاد أصولها وفروعها معنيا بها موغلا فيها متوفرا على أجلها.
وإذا أردت من العلوم أجلها
فأجلها منها مقيم الألسن
فكانت تلك الخصال بعض خلال ابن هشام الذي أنجبه القرن الثامن ليكون صاحب العلم في ميادين العلوم مستعينا بالصبر معتصما بالنهي شعاره تنطق به حكمته:
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله
ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلا
يعش دهرا طويلا أخا ذل
وإنها لنصيحة مجرب أخلق بكل طالب علم أن يأخذ نفسه بها ليسير في درب ابن هشام فيصل بعون الله، وفي مقال تال بيان عن بقية الأعلام ممن يطلق عليه ابن هشام.
المقصودُ مِنَ الجِهَاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
الجهاد جهادان: جهاد طلب، وجهاد دفاع، والمقصود منهما جميعاً هو تبليغ دين الله ودعوة الناس إليه وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإعلاء دين الله في أرضه وأن يكون الدين كله لله وحده كما قال عز وجل في كتابه الكريم من سورة البقرة:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ، وقال في سورة الأنفال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، وقال عز وجل في سورة التوبة:{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل" متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". وفي صحيح مسلم عنه أيضا رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به". وفي صحيح مسلم أيضا عن طارق الأشجعي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه
وحسابه على الله عز وجل". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وفي هذه الآيات والأحاديث الدلالة الظاهرة على وجوب جهاد الكفار والمشركين وقتالهم بعد البلاغ والدعوة إلى الإسلام، وإصرارهم على الكفر حتى يعبدوا الله وحده ويؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ويتبعوا ما جاء به، وأنه لا تحرم دماؤهم وأموالهم إلا بذلك وهي تعم جهاد الطلب وجهاد الدفاع، ولا يستثنى من ذلك إلا من التزم بالجزية بشروطها إذا كان من أهلها عملا بقول الله عز وجل:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من مجوس هجر، فهؤلاء الأصناف الثلاثة من الكفار وهم اليهود والنصارى والمجوس ثبت بالنص أخذ الجزية منهم فالواجب أن يجاهدوا ويقاتلوا مع القدرة حتى يدخلوا في الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أما غيرهم فالواجب قتالهم حتى يسلموا في أحد قولي العلماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم – قاتل العرب حتى دخلوا في دين الله أفواجاً ولم يطلب منهم الجزية، ولو كان أخذها منهم جائزا تحقن به دماؤهم وأموالهم لبينه لهم، ولو وقع ذلك لنقل، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز أخذها من جميع الكفار لحديث بريدة المشهور في ذلك المخرج في صحيح مسلم، والكلام في هذه المسألة وتحرير الخلاف فيها وبيان الأدلة مبسوط في كتب أهل العلم من أراده وجده، ويستثنى من الكفار في القتال النساء والصبيان والشيخ الهرم ونحوهم ممن ليس من أهل القتال ما لم يشاركوا فيه فإن شاركوا فيه أو ساعدوا عليه بالرأي والمكيدة قوتلوا كما هو معلوم من الأدلة الشرعية، وقد كان الجهاد في الإسلام في أطوار ثلاثة، الطور الأول: الأذن للمسلمين في ذلك من غير إلزام لهم به كما في قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، الطور الثاني: الأمر بقتال من قاتل المسلمين والكف عمن كف عنهم، وفي هذا النوع نزل قوله تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} الآية. وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} . وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . في قول جماعة من أهل العلم، وقوله تعالى في سورة النساء: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً، إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} والآية بعدها، الطور الثالث: جهاد المشركين مطلقا وغزوهم في بلادهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ليعم الخير أهل الأرض وتتسع رقعة الإسلام ويزول من طريق الدعوة دعاة الكفر والإلحاد وينعم العباد بحكم الشريعة العادل، وتعاليمها السمحة وليخرجوا بهذا الدين القويم من ضيق الدنيا إلا سعة الإسلام، ومن عبادة الخلق إلى عبادة الخالق سبحانه، ومن ظلم الجبابرة إلى عدل الشريعة وأحكامها الرشيدة، وهذا هو الذي استقر عليه أمر الإسلام وتوفي عليه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وأنزل الله فيه قوله عز وجل في سورة براءة وهي من آخر ما نزل:{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية. وقوله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} . والأحاديث السابقة كلها تدل على هذا القول وتشهد له بالصحة، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الطور الثاني وهو القتال لمن قاتل المسلمين والكف عمن كف عنهم قد نسخ لأنه كان في حال ضعف المسلمين فلما قواهم الله وكثر عددهم وعدتهم أمرهم بقتال من قاتلهم، ومن لم يقاتلهم حتى يكون الدين لله وحده أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها، وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن الطور الثاني لم ينسخ
بل هو باق يعمل به عند الحاجة إليه، فإذا قوي المسلمون واستطاعوا بدء عدوهم بالقتال وجهاده في سبيل الله فعلوا ذلك عملا بآية التوبة وما جاء في معناها، أما إذا لم يستطيعوا ذلك فإنهم يقاتلون من قاتلهم وتعدى عليهم، ويكفون عمن كف عنهم عملا بآية النساء وما ورد في معناها، وهذا القول أصح وأولى من القول بالنسخ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وبهذا يعلم كل من له أدنى بصيرة أن قول من قال من كتاب العصر وغيرهم أن الجهاد شرع للدفاع فقط قول غير صحيح والأدلة التي ذكرنا وغيرها تخالفه، وإنما الصواب هو ما ذكرنا من التفصيل كما قرر ذلك أهل العلم والتحقيق، ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم في جهاد المشركين اتضح له ما ذكرنا وعرف مطابقة ذلك لما أسلفنا من الآيات والأحاديث، والله ولي التوفيق.
وجوب الإعداد للأعداء:
وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يعدوا للكفار ما استطاعوا من القوة وأن يأخذوا حذرهم كما في قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} وذلك يدل على وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة والأبدان، كما يدخل في ذلك إعداد جميع الوسائل المعنوية والحسية وتدريب المجاهدين على أنواع الأسلحة وكيفية استعمالها وتوجيههم إلى كل ما يعينهم على جهاد عدوهم والسلامة من مكائده في الكر والفر والأرض والجو والبحر وفي سائر الأحوال لأن الله سبحانه أطلق الأمر بالإعداد وأخذ الحذر ولم يذكر نوعاً دون نوع ولاحالا ًدون حال وما ذاك إلا لأن الأوقات تختلف والأسلحة تتنوع، والعدو يقل ويكثر ويضعف ويقوى والجهاد قد يكون ابتداءا وقد يكون دفاعا فلهذه الأمور وغيرها أطلق الله سبحانه الأمر بالإعداد وأخذ الحذر ليجتهد قادة المسلمين وأعيانهم ومفكروهم في إعداد ما يستطيعون من القوة لقتال أعدائهم وما يرونه من المكيدة في ذلك، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الحرب خدعة" ومعناه: أن الخصم قد يدرك من خصمه بالمكر والخديعة في الحرب ما لا يدركه بالقوة والعدد وذلك مجرب معروف، وقد وقع في يوم الأحزاب من الخديعة للمشركين واليهود والكيد لهم على يد نعيم بن مسعود رضي الله عنه بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من أسباب خذلان الكافرين وتفريق شملهم واختلاف كلمتهم، وإعزاز المسلمين ونصرهم عليهم وذلك من فضل الله ونصره لأوليائه ومكره لهم كما قال عز وجل:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . ومما تقدم يتضح لذوي البصائر أن الواجب امتثال أمر الله والإعداد لأعدائه وبذل الجهود في الحيطة والحذر، واستعمال كل ما أمكن من الأسباب المباحة الحسية
والمعنوية مع الإخلاص لله والاعتماد عليه والاستقامة على دينه، وسؤاله المدد والنصر، فهو سبحانه وتعالى الناصر لأوليائه والمعين لهم إذا أدوا حقه، ونفذوا أمره وصدقوا في جهادهم وقصدوا بذلك إعلاء كلمته وإظهار دينه، وقد وعدهم الله بذلك في كتابه الكريم وأعلمهم أن النصر من عنده ليثقوا به ويعتمدوا عليه مع القيام بجميع الأسباب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، وقال سبحانه:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقال عز وجل:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} ، وقال عز وجل:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} الآية. وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وقال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وقد سبق في هذا المعنى آية سورة الصف وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولما قام سلفنا الصالح بما أمرهم الله به ورسوله وصبروا وصدقوا في جهاد عدوهم نصرهم الله وأيدهم وجعل لهم العاقبة مع قلة عددهم وعدتهم وكثرة أعدائهم كما قال عز وجل:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ، وقال عز وجل:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، ولما غير المسلمون وتفرقوا ولم يستقيموا على تعاليم ربهم وآثر أكثرهم أهواءهم أصابهم من الذل والهوان وتسليط الأعداء ما لا يخفى على أحد، وما ذاك إلا بسبب الذنوب والمعاصي، والتفرق والاختلاف وظهور الشرك والبدع والمنكرات في غالب البلاد، وعدم تحكيم أكثرهم الشريعة كما قال سبحانه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ، وقال عز وجل:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، ولما حصل من الرماة ما حصل يوم أحد من النزاع والاختلاف والإخلال بالثغر الذي أمرهم
النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه جرى بسبب ذلك على المسلمين من القتل، والجراح والهزيمة ما هو معلوم، ولما استنكر المسلمون ذلك أنزل الله قوله تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ولو أن أحداً يسلم من شر المعاصي وعواقبها الوخيمة لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام يوم أحد وهم خير أهل الأرض ويقاتلون في سبيل الله ومع ذلك جرى عليهم ما جرى بسبب معصية الرماة التي كانت عن تأويل لا عن قصد للمخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتهاون بأمره، ولكنهم لما رأوا هزيمة المشركين ظنوا أن الأمر قد انتهى وأن الحراسة لم يبق لها حاجة وكان الواجب عليهم أن يلزموا الموقف حتى يأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركه، ولكن الله قد قدر ما قدره وقضى ما قضى لحكمه بالغة وأسرار عظيمة، ومصالح كثيرة قد بينها في كتابه سبحانه وعرفها المؤمنون وكان ذلك من الدلائل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقا، وأنه بشر يصيبه ما يصيب البشر من الجراح والآلام ونحو ذلك وليس بإله يعبد وليس مالكا للنصر، بل النصر بيد الله سبحانه ينزله على من يشاء، ولا سبيل إلى استعادة المسلمين مجدهم السالف واستحقاقهم النصر على عدوهم إلا بالرجوع إلى دينهم والاستقامة عليه وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتحكيمه في أمورهم كلها، واتحاد كلمتهم على الحق وتعاونهم على البر والتقوى كما قال الإمام مالك بن أنس - رحمة الله عليه -:"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها "، وهذا هو قول جميع أهل العلم والله سبحانه إنما أصلح أول هذه الأمة باتباع شرعه والاعتصام بحبله والصدق في ذلك والتعاون عليه، ولا صلاح لآخرها إلا بهذا الأمر العظيم، فنسأل الله أن يوفق المسلمين للفقه في
دينهم وأن يجمعهم على الهدى وأن يوحد صفوفهم وكلمتهم على الحق وأن يمن عليهم بالاعتصام بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وتحكيم شريعته والتحاكم إليها، والاجتماع على ذلك والتعاون عليه إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
سورة مريم
قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أن كل الناس لابد لهم من ورود النار وأكد ذلك بقوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن بعض الناس مبعد عنها لا يسمع لها حساً وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} الآية.
والجواب هو ما ذكره الألوسي وغيره من أن معنى قوله: {مُبْعَدُونَ} : أي عن عذاب النار وألمها. وقيل: المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبا منها، ويدل للوجه الأول ما أخرجه الإمام أحمد والحكيم الترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سمية قال:"اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن وقال آخر: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر ابن عبد الله رضي الله عنه فذكرت ذلك له، فقال- وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه-: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى أن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجي الله الذين اتقوا". وروى جماعة عن ابن مسعود أن ورود النار هو المرور عليها"؛ لأن الناس تمر على الصراط وهو جسر منصوب على متن جهنم. وأخرج عبد بن عبد حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن الورود: المرور عليها من غير دخول. وروى ذلك أيضا عن قتادة قاله الألوسي.
واستدل القائلون بأن الورود نفس الدخول كابن عباس بقوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} وقوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} وقوله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، فالورود في ذلك كله بمعنى الدخول واستدل القائلون بأن الورود القرب منها من غير دخول بقوله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} ، وقول زهير:
فلما وردن الماء زرفاً جمامة
وضعن عصى الحاضر المتخيم
سورة طه
قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} هذه الآية الكريمة يتوهم منها أنه جل وعلا لم يخفها بالفعل ولكنه قارب أن يخفيها؛ لأن (كاد) فعل مقاربة. وقد جاء في آيات أخر التصريح بأنه أخفاها كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن المراد بمفاتح الخمس المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية. وكقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وقوله: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} إلى غير ذلك من الآيات. والجواب من سبعة أوجه:
الأول: وهو الراجح، أن معنى الآية أكاد أخفيها من نفسي أي لو كان ذلك يمكن وهذا على عادة العرب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم والواحد منهم إذا أراد المبالغة في كتمان أمر قال كتمته من نفسي أي لا أبوح به لأحد، ومنه قول الشاعر:
أيام تصحبني هند وأخبرها
ما كدت أكتمه عني من الخير
ونظير هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". وهذا القول مروي عن أكثر المفسرين، وممن قال به ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح كما نقله عنهم ابن جرير وجعفر الصادق كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ويؤيد هذا القول أن في مصحف أُبيّ (أكاد أخفيها من نفسي) كما نقله الألوسي وغيره وروى ابن خالويه أنها في مصحف أبي كذلك بزيادة (فكيف أظهركم عليها) وفي بعض القراءات بزيادة (فكيف أظهرها لكم) وفي مصحف عبد الله ابن مسعود بزيادة (فكيف يعلمها مخلوق) كما نقله الألوسي وغيره.
الوجه الثاني: أن معنى الآية أكاد أخفيها أي أخفي الأخبار بأنها آتية والمعنى أقرب أن أترك الأخبار عن إتيانها من أصله لشدة إخفائي لتعيين وقت إتيانها.
الوجه الثالث: أن الهمزة في قوله: (أخفيها) هي همزة السلب لأن العرب كثيرا ما تجعل الهمزة أداة لسلب الفعل كقولهم شكا إلي فلان فأشكيته أي أزلت شكايته وقولهم عقل البعير فأعقلته أي أزلت عقاله وعلى هذا فالمعنى أكاد أخفيها أي أزيل خفاءها بأن أظهرها لقرب وقتها كما قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} . الآية. وهذا القول مروي عن أبي علي كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ونقله النيسابوري في تفسيره عن أبي الفتح الموصلي ومنه قول امرئ القيس ابن عابس الكندي:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه
وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
على رواية ضم النون من لا نخفه وقد نقل ابن جرير في تفسير هذه الآية عن معمر بن المثنى أنه قال: أنشدنيه أبو الخطاب عن أهله في بلده بضم النون من لا نخفه ومعناه لا نظهره أما على الرواية المشهورة بفتح النون من لا نخفه فلا شاهد في البيت إلا على قراءة من قرأ أكاد أخفيها بفتح الهمزة وممن قرأ بذلك أبو الدرداء وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وحميد وروي مثل ذلك عن ابن كثير وعاصم وإطلاق خفاه يخفيه بفتح الياء بمعنى أظهره إطلاق مشهور صحيح إلا أن القراءة به لا تخلو من شذوذ ومنه البيت المذكور على رواية فتح النون وقول كعب بن زهير أو غيره:
داب شهرين ثم شهرا دميكا
باريكين يخفيان غميرا
أي يظهرانه. وقول امرئ القيس:
خفاهن من إنفاقهن كأنما
خفاهن ودق من عشى مجلب
الوجه الرابع: أن خبر كاد محذوف والمعنى على هذا القول أن الساعة آتية أكاد أظهرها فحذف الخبر ثم ابتدأ الكلام بقوله: {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} ، ونظير ذلك من كلام العرب قول ضابئي ابن الحرث البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله
يعني وكدت أفعل.
الوجه الخامس: أن كاد تأتي بمعنى أراد وعليه فمعنى أكاد أخفيها أريد أن أخفيها وإلى هذا القول ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم كما نقله عنهم الألوسي وغيره قال ابن جني في المحتسب ومن مجيء كاد بمعنى أراد قول الشاعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة
لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
كما نقله عنه الألوسي. وقال بعض العلماء أن من مجيء كاد بمعنى أراد قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي أردنا له كما ذكره النيسابوري وغيره ومنه قول العرب لا أفعل كذا ولا أكاد أي لا أريد كما نقله بعضهم.
الوجه السادس: أن كاد من الله تدل على الوجوب كما دلت عليه عسى في كلامه تعالى نحو {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} أي هو قريب وعلى هذا فمعنى أكاد أخفيها أنا أخفيها.
الوجه السابع: أن كاد صلة وعليه فالمعنى أن الساعة آتية أخفيها لتجزى الآية. واستدل قائل هذا القول بقول زيد الخيل:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
فما أن يكاد قرنه يتنفس
أي فما يتنفس قرنه. قالوا: ومن هذا القبيل قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي لم يرها وقول ذي الرمة:
إذا غير النأي المحبين لم يكد
رسيس الهوى من حب مية يبرج
أي لم يبرح على قول هذا القائل، قالوا ومن هذا المعنى قول أبي النجم:
وإن أتاك نعي فاندبن أبا
قد كاد يطلع الأعداء والخطبا
أي قد اطلع الأعداء.
وقد قدمنا أن أرجح الأقوال الأول والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} لا يخفى أنه من سؤل موسى الذي قال له ربه أنه آتاه إياه بقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وذلك صريح في حل العقدة من لسانه، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على بقاء شيء من الذي كان بلسانه كقوله تعالى عن فرعون:{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} .
وقوله تعالى عن موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} . الآية.
والجواب أن موسى- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لم يسأل زوال ما كان بلسانه بالكلية وإنما سأل زوال القدر المانع من أن يفقهوا قوله كما يدل عليه قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} . قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} ما نصه: وما سأل أن يزول ذلك بالكلية بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ولو سأل الجميع لزال، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ولهذا بقيت بقية، قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال:{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} أي يفصح بالكلام. قال الحسن البصري: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} قال:"حل عقدة واحدة ولو سأل أكثر من ذلك أعطى"وقال ابن عباس:"شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه؛ فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون ردءا له ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فأتاه سؤله فحل عقدة من لسانه"، وقال ابن أبي حاتم:"ذكر عن عمر بن عثمان حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال: أتاه ذو قرابة له فقال له: ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك ولست تعرب في قراءتك فقال القرظي: يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك؟ قال نعم، قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل قوله ولم يزد عليها". انتهى كلام ابن كثير بلفظه وقد نقل فيه عن الحسن البصري وابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ما ذكرنا من الجواب ويمكن أن يجاب أيضا بأن فرعون كذب عليه في قوله: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} كما كذب على الله في إدعاء الربوبية وأن قوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} يدل على اشتراكه مع هارون في الفصاحة فكلاهما فصيح إلا أن هارون أفصح وعليه فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} . الآية. يدل على أنهما رسولان وهما موسى وهارون وقوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، يوهم كون الرسول واحد. والجواب من وجهين:
الأول: أن معنى قوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي كل واحد منا رسول رب العالمين كقول البرجمي: فإني وقياراً بها لغريب.
وإنما ساغ هذا لظهور المراد من سياق الكلام.
الوجه الثاني: أن أصل الرسول مصدر كالقبول والولوع فاستعمل في الاسم فجاز جمعه وتثنيته نظرا إلى كونه بمعنى الوصف وساغ إفراده مع إرادة المثنى أو الجمع نظرا إلى الأصل من كونه مصدرا ومن إطلاق الرسول على غير المفرد قول الشاعر:
ألكنى إليها وخير الرسول
أعلمهم بنواحي الخبر
يعني وخير الرسل، وإطلاق الرسول مرادا به المصدر كثير ومنه قوله:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
بقول ولا أرسلتهم برسول
يعني برسالة.
قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} .
قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا} يقتضي أن المخاطب اثنان وقوله: {يَا مُوسَى} يقتضي أن المخاطب واحد والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن فرعون أراد خطاب موسى وحده والمخاطب أن اشترك معه في الكلام غير مخاطب غلب المخاطب على غيره كما لو خاطبت رجلا اشترك معه آخر في شأن والثاني غائب فإنك تقول للحاضر منهما ما بالكما فعلتما كذا والمخاطب واحد وهذا ظاهر.
الوجه الثاني: أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لكونه الأصل في الرسالة.
الثالث: أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لمطابقة رؤوس الآي مع ظهور المراد ونظير الآية قوله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} ويجاب عنه بأن المرأة تبع لزوجها وبأن شقاء الكد والعمل يتولاه الرجال أكثر من النساء، وبأن الخطاب لآدم وحده والمرأة ذكرت فيما خوطب به آدم بدليل قوله:{إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} فهي ذكرت فيما خوطب به آدم؛ والمخاطب عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} . ظاهر هذه الآية أن آدم ناس للعهد بالنهي عن أكل الشجرة؛ لأن الشيطان قاسمه بالله أنه له ناصح حتى دلاه بغرور وأنساه العهد وعليه فهو معذور لا عاص. وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} .
والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: هو ما قدمنا من عدم العذر بالنسيان لغير هذه الأمة.
الثاني: أن نسي بمعنى ترك، والعرب ربما أطلقت النسيان بمعنى الترك ومنه قوله تعالى:{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} . الآية. والعلم عند الله تعالى.
سورة الأنبياء
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} . هذه الآية تدل على أن جميع المعبودات مع عابديها في النار.
وقد أشارت آيات أخر إلى أن بعض المعبودين كعيسى والملائكة ليسوا من أهل النار كقوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} الآية، وقوله تعالى:{ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . الآية.
والجواب من وجهين:
الأول: أن هذه الآية لم تتناول الملائكة ولا عيسى لتعبيره بما الدالة على غير العاقل، وقد أشار تعالى إلى هذا الجواب بقوله:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، لأنهم لو أنصفوا لما ادعوا دخول العقلاء في لفظ لا يتناولهم لغة.
الثاني: أن الملائكة وعيسى نص الله على إخراجهم من هذا دفعا للتوهم ولهذه الحجة الباطلة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآية، قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، عبر في هذه الآية الكريمة بلفظ (إنما) وهي تدل على الحصر عند الجمهور وعليه فهي تدل على حصر الوحي في توحيد الألوهية وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه أوصى إليه غير ذلك كقوله:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ} الآية، وقوله:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ، وقوله:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية.
والجواب أن حصر الوحي في توحيد الألوهية حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع لأن شرائع كل الأنبياء داخلة في ضمن لا إله إلا الله لأن معناها خلع كل الأنداد سوى الله في جميع أنواع العبادات وإفراد الله بجميع أنواع العبادات فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية.
سورة الحج
قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} ، هذه الآية الكريمة تدل على أن قتال الكفار مأذون فيه لا واجب وقد جاءت آيات تدل على وجوبه كقوله:{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية، وقوله:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} الآية، إلى غير ذلك من الآيات. والجواب ظاهر وهو أنه أذن فيه أولا من غير إيجاب ثم أوجب بعد ذلك كما تقدم في سورة البقرة، ويدل لهذا ما قاله ابن عباس وعروة ابن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد كما نقله عنهم ابن كثير وغيره من أن آية {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} هي أول آية نزلت في الجهاد والعلم عند الله تعال.
قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
ظاهر هذه الآية أن الأبصار لا تعمى، وقد جاءت آيات أخر تدل على عمى الأبصار كقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} ، وكقوله:{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} .
والجواب: أن التمييز بين الحق والباطل وبين الضار والنافع وبين القبيح والحسن لما كان كله بالبصائر لا بالإبصار صار العمى الحقيقي هو عمى البصائر لا عمى الأبصار ألا ترى أن صحة العينين لا تفيد مع عدم العقل كما هو ضروري وقوله: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} يعني بصائرهم أو أعمى أبصارهم عن الحق وإن رأت غيره.
قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
هذه الآية الكريمة تدل على أن مقدار اليوم عند الله ألف سنة وكذلك قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى في سورة سأل سائل: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} الآية، إعلم أولا أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل ابن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلاً من ابن عباس وسعيد ابن المسيب سئل عن هذه الآيات فلم يدر ما يقول فيها ويقول لا أدري.
وللجمع بينهما وجهان:
الوجه الأول: هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، ويوم الألف في سورة السجدة هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى. ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة.
الوجه الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر؛ ويدل لهذا قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان. والعلم عند الله.
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} . الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أن كل رسول وكل نبي يلقى الشيطان في أمنيته أي تلاوته إذا تلا ومنه قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه:
تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخرها لاقى حمام المقادر
وقول الآخر:
تمنى كتاب الله آخر ليلة
تمني داود الزبور على رسل
ومعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال:"إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه". وقال بعض العلماء: "إذا تمنى أحب شيئا وأراده فكل نبي يتمنى إيمان أمته والشيطان يلقى عليهم الوساوس والشبه ليصدهم عن سبيل الله، وعلى أن (تمنى) بمعنى قرأ وتلا كما عليه الجمهور، فمعنى إلقاء الشيطان في تلاوته إلقاؤه الشبه والوساوس فيما يتلوه النبي ليصد الناس عن الإيمان به، أو إلقاؤه في المتلو ما ليس منه ليظن الكفار أنه منه، وهذه الآية لا تعارض بينها وبين الآيات المصرحة بأن الشيطان لا سلطان له على عباد الله المؤمنين المتوكلين، ومعلوم أن خيارهم الأنبياء كقوله تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} ، وقوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} ، وقوله:{فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ، وقوله:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} ، ووجه كون الآيات لا تعارض بينها أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء:
الأول: أن معنى السلطان الحجة الواضحة، وعليه فلا إشكال إذ لا حجة مع الشيطان البتة كما اعترف به فيما ذكر الله عنه في قوله:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} .
الثاني: أن معناه أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه، فإلقاء الشيطان في أمنية النبي سواء فسرناها بالقراءة أو التمني لإيمان أمته لا يتضمن سلطانا للشيطان على النبي بل هو من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق كقوله:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الآية، فإن قيل: ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم بمكة فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} ألقى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى) فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظنا منهم أن قومهم أسلموا فوجدوهم على كفرهم، وعلى هذا الذي ذكره كثير من المفسرين فسلطان الشيطان بلغ إلى حد أدخل به في القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الكفر البواح حسبما يقتضيه ظاهر القصة المزعومة.
فالجواب: أن قصة الغرانيق مع استحالتها شرعا لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من العلماء كما بيناه بيانا شافيا في رحلتنا، والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومعلوم أن الكلبي متروك، وقد بين البزار أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله، وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره لثبوت هذه القصة بأن طرقها كلها إما منقطعة أو ضعيفة إلا طريق سعيد بن جبير، وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير لم يروها بها أحد متصلة إلا أمية بن خالد، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها؛ فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ثم ساق حديث القصة المذكورة، وقال البزار:"لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور"، وقال البزار:"وإنما يروى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس والكلبي متروك". فتحصل أن قصة الغرانيق لم ترد متصلة إلا من هذا الطريق الذي شك راويه في الوصل، وما كان كذلك فضعفه ظاهر، ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره أنه لم يرها مسندة من وجه صحيح، وقال العلامة الشوكاني في هذه القصة:"ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله كقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} الآية، وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، وقوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} الآية، فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون"، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل وعن البيهقي أنه قال:"هي غير ثابتة من جهة النقل"وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة أن هذه القصة من وضع الزنادقة وأبطلها عياض
وابن العربي المالكي والفخر الرازي وجماعات كثيرة، ومن أصرح الأدلة القرآنية في بطلانها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذلك في سورة النجم قوله تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فلو فرضنا أنه قال تلك الغرانيق العلى ثم أبطل ذلك بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} فكيف يفرح المشركون بعد هذا الإبطال والذم التام لأصنامهم بأنها أسماء بلا مسميات وهذا هو الأخير وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم بمكة وسجود المشركين ثابت في الصحيح ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق وعلى القول ببطلانها فلا إشكال وأما على القول بثبوت القصة كما هو رأي الحافظ ابن حجر فإنه قال في فتح الباري: "إن هذه القصة ثبتت بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض؛ لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة من أحسنها وأقربها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات فلما قرأ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} قال الشيطان لعنه الله محاكيا لصوته صلى الله عليه وسلم: (تلك الغرانيق العلى الخ..) فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس، وقد بينا هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتنا فلذلك اختصرناها هنا فظهر أنه لا تعارض بين الآيات والعلم عند الله تعالى.
سيراليون
بقلم الشيخ: أحمد صالح محايري
خريج كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
ومبعوث دار الإفتاء السعودية إلى سيراليون
أخي المسلم، هناك بلد جميل هواءه عليل يقع في أفريقا الغربية على ساحل المحيط الأطلسي يحده شمالا وشرقا غينيا، وجنوبا ليبيريا، وغربا المحيط الأطلسي مساحته 27000 ميل مربع.
استعمره الإنكليز ثمانين سنة وأجبر على منحه الاستقلال في 27 أبريل 1961م. عاصمته " فريتاون"أي مدينة الحرية، سميت كذلك لأن بريطانيا أخذت من أفريقيا أناسا أحرارا واستعبدتهم ونقلتهم إلى داخل المملكة البريطانية وسمتهم عبيدا واستخدمتهم مجانا في مصانعها وموانيها في الوقت الذي كانت تدعي فيه أنها الدولة المثالية العادلة، ولما كثرت نسبتهم في بريطانيا، اتخذ البرلمان البريطاني قرارا بتحرير العبيد (تخلصا منهم) وذلك في عام 1800م، وهكذا تم ترحيل أولئك المستعبدين من بريطانيا إلى إحدى مستعمراتها سيراليون وأنزلتهم في مدينة سميت مدينة الحرية (فريتاون) لأنهم في حين وصولهم تلك المدينة أصبحوا أحرارا وكان ذلك على دفعات بلغت الدفعة الأولى حوالي 480 رجلا وامرأة.. هؤلاء العائدون رجعوا إلى البلاد بلغة إنكليزية محرفة سميت لغة الكريول. وأصبحت هذه اللغة هي اللغة التي يتفاهم بها الناس عامة. وعدد سكان سيراليون ثلاثة ملايين نسمة ينتمون لقبائل شتى أكثرها عددا "التمني"ثم تليها قبيلة "الليمبا"ثم " المندي"وذلك بالاضافة إلى رعايا نزحت من قبائل مجاورة لسيراليون مثل الفلا، والسوسو، والهوسو، واليوروبا، والماندينكا.
نسبة المسلمين في سيراليون في تزايد مستمر حتى بلغت حسب الإحصاءات الرسمية الأخيرة إلى 70% من مجموع السكان في حين أن هذه النسبة كانت قبل أربعين سنة لا تتجاوز 40%.. ومن هنا أخي المسلم أبدأ معك بالحديث عن سيراليون والإسلام فيه وذلك لأن هذا التزايد المستمر وهو الذي نلفت انتباه كل مسلم حريص على تتبع إسلامه وإخوانه المسلمين في كل مكان كما لفتت وأدهشت غير المسلمين.. حقا إنها لعظمة تدركها يا أخي المسلم إذا علمت أن عدد الجمعيات التبشيرية في سيراليون في ازدياد كل يوم مع ازدياد إمكانياتها المادية.. وأنا علمت أن السياسة المفروضة على المسلمين منذ دخول الإنكليز تلك المنطقة هي منعهم من اتصالهم بإخوانهم المسلمين خارج سيراليون، وذلك بمنع خروج أي مسلم لتلقي علوم الإسلام في أي بلد إسلامي، ثم يمنع دخول أي مبشر إسلامي إلى سيراليون غير (القادياني) صنيع الإنكليز الذي هيأله جو العمل ودفعه إليه منذ عام 1915م. إذا علمت هذا ثم علمت أن المسلمين في ازدياد حتى بلغت نسبتهم 80% أدركت الدعوة الإسلامية أشرقت في سيراليون ليقيم الحجة على أن الإسلام دين الفطرة والتبشير لغير الإسلام هو بعيد غريب عن الفطرة.
والكلام عن المسلمين في سيراليون سيكون إن شاء الله تعالى شاملا للنقاط التالية:
1 – تاريخ دخول الإسلام إلى سيراليون، 2- الجمعيات الإسلامية ونشاطها ومشاريعها، 3- رجال الدعوة والمخلصين من أبنائه، 4- مساجد سيراليون وطريقة تمويلها، 5- الأخطار الرهيبة والمخططات العدوانية ضد المسلمين في المنطقة، 6- حالة المسلمين الثقافية والاقتصادية، 7- الطريقة المتبعة لنقل الإسلام وتبليغه من جيل إلى جيل، 8- الحركة (القاديانية) ونشاطها ومدارسها وتحالفها المكشوف مع بريطانيا على تحريف معاني الإسلام بنسخ الجهاد وبالتبشير برجل يوحي إليه من قبل الله تعالى اسمه الغلام أحمد القادياني وتكفيهم ضلالا عقيدتهم بوجوب الإيمان بهذا الغلام وكل من لم يؤمن به كافر عندهم لا يصلى عليه ولا تؤكل ذبيحته. 9- النشاط الصهيوني ضد الإسلام في سيراليون وبث الفتن والحزازات بين الجماعات الإسلامية هناك، 10- عدد الجماعات (القاديانية) النصرانية التي تنتمي لأكثر من عشر دول أوروبية، 11- تحالف (القاديانية) مع إسرائيل لتفريق جميع المسلمين.
أخي المسلم، في الأعداد القادمة إن شاء الله تعالى ستقرأ على صفحات هذه المجلة الغراء النقاط السابقة الذكر.. علك تتعرف على إخوة لك في سيراليون أشد تحمسا لدينك من كثير من المسلمين.. ولعلك تحقق في هذا قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
وإلى لقاء آخر أخي المسلم. والسلام عليكم.
قالوا وقلنا
قالوا:
المسلمون ثلاثة أعيادهم
الفطر والأضحى وعيد المولد
فإذا انقضت أفراحهم فسرورهم
لا ينقضي أبدا بحب محمد
(مجهول)
وقلنا:
عيدان عند أولي النهي لا ثالث
لهما لمن يرجو السلامة في غد
الفطر والأضحى، وكل زياد
بغي على شرع الحبيب محمد
(المجذوب)
شبَابُ الأمة عنوان مستقبلها
بقلم الشيخ محمد أبو فرحة
المدرس في الجامعة
شباب كل أمة هو موضع رجائها، ومعقد آمالها، فإذا أردت أن تعرف مستقبل أمة.. ومصير دولة.. دقق النظر في شبابها فهم عدة المستقبل وهم رجاله، منهم الوجهون والقادة، ومنهم المربون والآباء..
فإن رأيت شبابا صلب الإرادة، قوي العزيمة، مخلصا لدينه، ومحبا لوطنه، شبانا ينهضون بأعمالهم، وموظفين يهتمون بمصالح أمتهم وعمالا يحسنون عملهم، ويتقنون صناعاتهم، وتجارا أمناء في بيعهم وشرائهم، ومدرسين يعملون جادين في بناء جيل صالح من تلاميذهم، جيل يؤمن بمبادئ الخير والعدل، كما قررها الإسلام، ورأيت طلابا يحرصون على التعليم وعلى التفوق في تعليمهم، فاعلم أن الأمة بخير، وأن مستقبلها إن شاء الله تعالى، سيكون زاهرا، المجد ينتظرها، والقوة تحرسها، والعلم يخدمها، والأخلاق تصونها من الانهيار.
أما إذا رأيت شبابا متسكعا في الطرقات، وشابات جاهلات لاهيات، ورائحات غاديات، ولا هم للجميع إلا الإسراف والتباهي بالمأكل والملبس والمسكن، ورأيت تجارا صار الغش ديدنا وعمالا أصبح الإهمال لهم دستورا، لا يحرصون على تعلم الجديد، ولا يحسنون ما تعلموه، ولا يتقنون صناعته، ولا يحاولون أن يسايروا ركب الحياة السريع في شئون الحياة، ورأيت شبانا ملأهم الغرور، وسيطرت عليهم الغفلة، فجهلوا واقعهم وواقع الناس، ولم يتنافسوا في السبق إلى معالي الأمور: فاعلم أن الأمة على خط الضلالة، وهي على شفا جرف، لابد وأن ينهار بها، فتنتكس على أعقابها، وتخسر ما كسبته بجهادها وتضحياتها، ويصدق في شبابها قول القائل:
شباب خنع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحينا
من أجل هذا طالب الإسلام أولى الأمر: حكاما وآباء ومربين أن يدرسوا بعقل الفاحص المدقق، حياة أممهم، ومظاهر شبابها، وخاصة الجيل الصاعد من الأبناء والبنات، لأن أولياء الأمور، هم الأمناء على مستقبل الأمة، وهم القوامون على شؤونها والمسئولون عن توجيهها، كل في دائرة اختصاصه، والشعب أمانة بين أيديهم، وهم رعاته استرعاهم الله إياه، فناظر ماذا يفعلون:"إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع "، "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
…
الحديث "
إن صبيان اليوم وشباب الساعة، هم رجال المستقبل القريب وزعماؤه، وآباؤه وموجهوه، فإن نشئوا على العقيدة الصحيحة، والأمانة الحقة، وعلى الاعتزاز بالدين، وعلى حب الأمة، وعلى النظر للأمور والمشاكل بعين التعقل والروية، وحسبان العواقب، لا بعين العاطفة الهائجة، والرغبة الثائرة، فسيقودون الأمة إلى العزة والكرامة، وإن ألمت بها الخطوب، وأحاطت بها الأمواج، أخذوا بيدها إلى بر السلامة وشاطئ الأمان.
أما إن تركوا من غير توجيه حقيقي، وأهملوا بلا تعليم موضوعي، أو رتعوا في النعيم، ولانت أظافرهم، أو شعروا بالحرمان من قومهم، تعقدت نفوسهم، وانحرفوا عن سنن الحق واستهانوا بالقيم العالية، وسهلت عليهم المبادئ فداسوها. فإذا ما سلمت إلى هذا الشباب قيادة الأمة، ليوجه دفتها، وأسند إليه زمام الجيل اللاحق ليرود له الطريق وهو لا يحسن عملا، تنازعته الأهواء وسار بمجتمعه إلى الهاوية، فتنتكس الأمور، وتضيع المكاسب، وتظهر المخاسير، وترتد الأمة على أعقابها، ويحل بها الدمار، تحقيقا لسنة الله في الوجود {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} . وتلك من السنن التي لا تتخلف مهما اختلفت الأزمان والأجيال، ولا تتغير مهما تغيرت الأماكن والأوطان {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} .
ولأمر ما كان الإسلام هو الدين الوحيد، الذي عني بالأجنة، قبل أن تكون خيالا يمر على فكر الأبوين، وقبل أن يلتقي عنصر الذكورة بعنصر الأنوثة، فأمر بأن يتخير الرجل المزرعة الصالحة لنطفته، لأن العرق دساس؛ فقال صلى الله عليه وسلم:"تنكح المرأة لمالها وجمالها وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه، وكان الواقع تصديقا لخبر الرسول وأمره على طول صفحة التاريخ الممتدة عبر القرون.
كما وجه الأنظار، إلى ما يستقر في الأصلاب، مما يتحول مع الليالي والأيام إلى عيال وأجيال فعلم الزوجين، في أول اللقاء بينهما، ووقت جوعهما الجنسي، ولذتهما الغامرة وغفلتهما عن كل شيء، علمهما أن يستعيذا بالله في خشوع ودعاء، وأن يرددا في وعي وقصيد ورجاء:"اللهم جنبنا وجنب الشيطان ما رزقتنا" ليحصنا من الشيطان ما عساه يتكون من جنين في هذا اللقاء.
كما حرم الإجهاض وقرر المسئولية على من يصيب الجنين بأضرار، وطالب ولي الأمر، عندما تشرق طلعة الضيف الجديد في أفق الحياة أن يسمعه أول صوت في الوجود "الله أكبر الله أكبر"تأكيدا لزرع بذور الدين في نفس الوالدين والوليد وأن يطعمه حلو الطعام عسى أن يكون عذب الكلام، وأمر العقيقة وقص الشعر والصدقة والختان واختيار أحسن الأسماء والتعليم لم يغفل عنها الإسلام.
أبعد أن يعني الإسلام بأفلاذ أكبادنا هذه العناية، وبعد أن تتفتح براعمهم نتركهم في مهب الرياح؟ أو نسلمهم لخادمة جاهلة تعقد نفوسهم وتفسد أخلاقهم؟ أو نبعث بهم إلى مدارس الأجانب - كما في بعض دول الإسلام - ليعلموهم: كيف يحتقرون أهليهم وذويهم، وكيف يسخرون من دينهم. وكيف يتعلقون بـ "يسوع المسيح "من دون الله؟؟!!!
إنه لا يصلح لتربية الجيل الذي ينتظر منه أن يعيد للإسلام مكانته: إلا مدرسون ومدرسات وأمهات، درسوا نفسية الأطفال، وأصول التربية الإسلامية "لا الزائفة البراقة المستوردة فليس كل ما يلمع ذهبا"، يفتتح الواحد منهم أعماله كلها أمام أبنائه ببسم الله الرحمن الرحيم ويفتح أذهانهم على كون الله الفسيح، ويطلق بأضوائه الكاشفة على عظمة الإسلام، ويشيد بأبطاله، ويكون هو قدوة في العمل والجد لهؤلاء، فلا يترك أمرا أو حادثة للإسلام فيها جانب، إلا أكد بها إيمان الأطفال والناشئين بربهم.
إن كل أب وكل أم وكل مدرس وكل مدرسة مسئول مسئولية شخصية عن أولاده وعمن يوكل إليهم أمر تعليمهم، ولا يقبل منه اعتذار بمشغوليته بتجارة أو غيرها.
فيا أيها المشغول بحاضره عن مستقبله، وبأمواله عن أبنائه، وبلذاته عن بناته، ماذا تنتظرون من ربكم إلا أن يجري عليكم سنته فيمن كان قبلكم؟ إن ابنك وصل لماضيك بحاضرك، ووصل لحاضرك بمستقبلك، وامتداد لحياتك بعد وفاتك، فإما أن تجعل هذا المستقبل سعادة وهناءة، أو تجعله شقاء ومهانة.
إن الصبي أمانة بين يديك، وقلبه الطاهر جوهرة نقية، وصحيفة خيرة بيضاء وعجينة لينة تشكلها كما تحب أن تكون، فإن عوّدته الخير، تعوّده وانطبع عليه، ومال إليه، وسعد في دنياه وأخراه، وانتفع به دينه، وفرحت به أمته، وشاركه الثواب أبواه، وكل من أدبه وعلمه ورباه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " - أبو داود والترمذي والنسائي والبخاري في المفرد -.
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
وإن عودته الشر تعوده ومرن عليه، واستساغه ومال إليه، وإن أهملته تولى الشيطان تربيته، وكان الهلاك محققا، وكان الوزر عليك مؤكدا، وبقيت المسئولية تلاحقك، وتأخذ بتلابيبك حتى تقف بين يدي الله، فإن "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
علموا أولادكم وبناتكم واقع حياتهم، ليعرفوا عيوبهم فيتحاشوها، ويعرفوا محاسنهم، فيستزيدوا منها، وادفعوهم إلى العمل الجاد المثمر، واغرسوا في نفس الجيل الناشئ أمامكم ألا يحتقر عملا، ما دام لمصلحة الأمة، وإن عليه أن يملأ أماكن الأعمال كبيرها وصغيرها، وألا يترك لدخيل ثغرة ينفذ منها إلى ثروة أمته، أو إلى التحكم في مواردها تجارية كانت أو زراعية أو صناعية.
أشعلوا جمرة الإيمان بالله في نفوس الأولاد وصدورهم، البنين والبنات على السواء واشرحوا لهم عزة الإسلام، وبطولة أبطاله، في قصص يقرءونها، وتحكيها الأمهات والمربيات وتنشدها لهم مع الصباح وفي المساء، بأسلوب يجعل معانيها تصل إلى القلب ثم تجري مع الدماء.
علموهم أن هذا العالم الإسلامي، كان ولا يزال مركزا "استراتيجيا"للقوة ومشعلا للهداية والنور، تضافرت عليه عوامل الفساد والضعف، من يوم أن جاست فيه جيوش الاحتلال غازية، يوم أن انصرف قادة المسلمين عن دين الله، وتهاونوا في حق الأمة.
علموهم أن حكم أنفسهم بأنفسهم اليوم في بعض الدول، لم يكن منحة ولا هبة، ولكنه ثمرة من ثمرات ذلك الجهاد المتواصل، ضد الظلم الذي تحمله الآباء والأجداد في جلد، وجاهدوه في عنف، وبعد أن ظل الوطن يئن تحته ومنه العديد من السنوات.
علموهم أن من الخطوة البالغة على كل أمة، أن تقعد عن مواصلة الجهاد كما أمر الله، حتى ولو بعد الوصول إلى الاستقلال، إن العدو الذي ذاق طعم خيراتنا وتمتع بالسيطرة علينا فترة من الزمن، لا يزال يحلق فوق رؤوسنا، عساه يجد فرصة ينقض علينا لامتصاص دمائنا وإذلالنا من جديد، وإنه كذلك من الخطورة على أية أمة، ألا تعمل في كل يوم على كسب الجديد من أساليب الحياة، ترقي به مستواها، وتصل به إلى الجديد من العلوم والاكتشافات بما يرفع شأنها ويقوي جيشها وعزمها، وتستغل بنفسها خيراتها، وإلا تجمدت حياتها وأصبحت عالة وتابعة لغيرها، مهما كثرت أعدادها وأموالها، ثم تصبح فريسة من جديد.
نشئوا أولادكم على الخشونة والجلادة، وتحمل المسئولية، وتحمل شدائد الحياة ومكارهها، وعلموهم أن من يطلب معالي الأمور لابد أن يتحلى بعناصر الرجولة الرشيدة، حتى يستطيع التغلب على مشاكل الحياة، التي لا تنتهي، وأزماتها المتتابعة التي تساير همم الرجال صعودا وهبوطا والأمثل فالأمثل.
لقد فتق الرسول صلى الله عليه وسلم أذهان الصبيان والشباب من أبناء المهاجرين والأنصار، فكانوا الفئة القليلة التي غلبت الفئة الكثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين، لكنهم لما خرجوا عن الأمر ولو متأولين أطبقت عليهم الهزيمة من كل أفق فلما أن عادوا إلى ربهم أعاد الله نصره إليهم، فجعل منهم رعاة الدول بعد أن كانوا رعاة الشاة والإبل، وغدوا يخططون لدهاقنة السياسة والحكم، في عريق الأمم، بعد أن كانوا كالبهم السائمة، فوق رمال الصحراء يتيهون في فدافد الأرض، لا مرعى يجود لهم، ولا راع يجمع شملهم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
يا أولياء الأمور، بين أيديكم خامات إنسانية قيمة وغير محدودة أهملت كما أهمل الجيل السابق عليها ردحا طويلا من الزمن عن قصد وعمد، وأمامكم عناصر طيبة، من الأبناء والبنات، فلا تتركوها في مهب الرياح معرضة للتيارات المتلاحقة، من الدعايات المغرضة، والأفكار المسمومة، التي تدرس وتخطط لنا ولأبنائنا في الشرق والغرب على السواء، والتي يراد بها صرف الشباب المسلم عن مستقبله، ولتنأى به عن دينه ولتزعزع عقيدته، ولتباعد بينه وبين إخوانه ولتفقده الثقة في أمته حتى يتقبل ما يرد عليه من أفكار، ويعتنق ما يزيف له من مبادئ.
كونوا قدوة لأبنائكم في كريم الفعال وجميل الخصال، فإن ألف قول لا تساوي في موازين التربية عملا واحدا، واحذروا أن يطلعوا منكم على قبيح ابتليتم به أو نقيصة أصبتم بها؛ لأنه "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " رواه مسلم.
أخي القارئ، إن الحياة جادة لا تهزل، سائرة لا تقف، تهزأ بالغافل، وتسخر من اللاهي وتتوعد الكسول، ولن تترك النائم حتى يستيقظ، ولا المهمل حتى يجد {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
شعر أهل الحديث (3)
بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
ما أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعر:
وهو كثير ومناسباته مختلفة وأكثره ما كان مدحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهره قصيدة كعب بن زهير، قال ابن إسحاق:
"ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وأن من بقي من شعراء قريش: ابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاءه مسلما تائبا وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجاتك، وكان كعب قد قال:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة
فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
فبين لنا إن كنت لست بفاعل
على أي شيء غير ذلك دلكا
على خلق لم تلف أماً ولا أباً
عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف
ولا قائل أما عثرت لعالكا
سقاك بها المأمون كأساً روية
فأنهلك المأمون منها وعلكا
قال: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجير كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها فقال رسول الله:"سقاك بها المأمون، صدق وهو كذوب، أنا المأمون" ولما سمع: على خلق لم تلف أماً ولا أباً عليه. قال: "أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه" ثم قال بجير لكعب:
من مبلغ كعباً فهل لك في التي
تلوم عليها باطلا وهي أحزم
إلى الله - لا العزى ولا اللات_وحده
فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت
من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شيء دينه
ودين أبي سلمى علي محرم
فلما بلغ كعباً الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان في حاضره من عدوه فقال: هو مقتول. فلما لم يجد من شيء بداً قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت - بينه وبينه معرفة - من جهينة فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح فصلى مع رسول الله ثم أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه - فذكر لي - أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه فوضع يده في يده وكان رسول الله لا يعرفه فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائباً مسلماً فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟. قال رسول الله: نعم. قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه وثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه. فقال رسول الله: دعه عنك فقد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه. قال: فغضب كعب بن زهير بن كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم وذلك أنه لم يتكلم به رجل من المهاجرين إلا بخير فقال قصيدته اللامية التي يصف فيها محبوبته وناقته والتي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم أثرها لم يفد مكبول
وفي رواية البيهقي:
وما سعاد غداة البين إذ ظغنوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنها منهل بالكأس [1] معلول
تمشي الوشاة بجنبيها [2] وقولهم
إنك يا بن أبي سلمى لمقتول
وقال كل صديق كنت آمله
لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم
فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل بن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب ولو كثرت في الأقاويل
لقد أقوم مقاما لو يقوم به
أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل ترعد من خوف بوادره
إن لم يكن من رسول الله تنويل
حتى وضعت يميني ما أنازعها
في كف ذي نقمات قوله القيل
فلهو أخوف عندي إذ أكلمه
وقيل إنك منسوب ومسئول
من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه
في بطن عثر غيل دونه غيل
يغدو فيلحم ضر غامين عيشهما
لحم من الناس معفور خراديل
إذا يساور قرنا لا يحل له
أن يترك القرن إلا وهو مغلول
منه تظل سباع الجو نافرة
ولا تمشي بواديه الأراجيل
ولا يزال بواديه أخو ثقة
مفرج البتر والدرسان مأكول
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف
عند اللقاء ولا ميل معازيل
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم
ضرب إذا عرد السود التنابيل
شم العرانين أبطال لبوسهم
من نسج داود في الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق
كأنها حلق الفقعاء مجدول
ليسوا مفاريح أن نالت رماحهم
قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم
وما لهم عن حياض الموت تهليل
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة قال: فلما قال "السود التنابيل"وإنما أراد معشر الأنصار لما كان صاحبهم صنع وخص المهاجرين من قريش من أصحاب رسول الله بمدحته غضبت عليه الأنصار فبعد أن أسلم أخذ يمدح الأنصار ويذكر بلاءهم مع رسول الله وموضعهم من النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
من سره كرم الحياة فلا يزل
في مقنب من صالحي الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر
إن الخيار هم بنو الأخيار
الباذلين نفوسهم لنبيهم
يوم الهياج وفتنة الأجبار
الذائدين الناس عن أديانهم
بالمشرفي وبالقنا الخطار
والبائعين نفوسهم لنبيهم
للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكا لهم
بدماء من علقوا من الكفار
وإذا حللت ليمنعوك إليهم
أصبحت عند معاقل الأغفار
ضربوا علياً يوم بدر ضربة
دانت لوقعتها جنود نزار
قوم إذا خفت النجوم فإنهم
للطارقين النازلين مقاري
لو يعلم الأقوام علمي كله
فيهم لصدقني الذين أمارى
هكذا أورده الحافظ بن القيم في زاد المعاد، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9: 393) وقال رواه الطبراني ورجاله إلى ابن إسحاق ثقات. قلت وابن إسحاق الكلام فيه كثير إلا أن أكثر أئمة الجرح والتعديل يوثقونه ويردون من يجرح فيه وغاية ما يمكن أن يقال فيه إنه صدوق مدلس إلا أنه هنا صرح بالسماع من عاصم.
وقد ذكر قصة كعب ابن حجر في الإصابة عن أبي عاصم بسنده إلى الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير عن أبيه عن جده. وذكرها عن ابن قانع من طريق الزبير بن بكار عن بعض أهل المدينة عن يحي بن سعيد عن سعيد بن المسيب [3] وقد روى عن سعيد بن المسيب بسند متصل عند محمد بن سلام الجمحي في طبقات الشعراء.. وقد روى قصة كعب بن زهير من الأئمة أيضا الحاكم في المستدرك [4] والبيهقي في سننه [5] .
ومما أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه أحمد عن عبد الرحمن بن بكرة عن الأسود بن سريع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني قد حمدت ربي بمحامد ومدح وإياك فقال رسول الله:" أما إن ربك يحب المدح هات ما امتدحت به ربك"قال: فجعلت أنشده، فجاء رجل فاستأذن أو لم أصلع أعسر أيسر قال: فاستنصتني له رسول الله، ووصف لنا أبو سلمة كيف استنصته قال: كما صنع بالهر، فدخل الرجل فتكلم ساعة ثم خرج ثم أخذت أنشده أيضا ثم رجع بعد فاستنصتني رسول الله، ووصفه أيضا، فقلت: يا رسول الله من ذا الذي استنصتني له؟ فقال: "هذا رجل لا يحب الباطل هذا عمر بن الخطاب"[6] .
ومنه ما روى عن النابغة الجعدي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته من قولي:
علونا العباد عفة وتكرما
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: الجنة. قال: "أجل إن شاء الله".
ثم قال: أنشدني، فأنشدته قولي:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
قال: "أحسنت لا يفضض الله فاك".
قال الهيثمي: "رواه البزار وفيه يعلى بن الأشدق ضعيف"[7] .
قلت: لكنه توبع، وقد ذكر ابن حجر في الإصابة هذا الحديث بست طرق عن النابغة الجعدي [8] .
وذكرها كذلك ابن عبد البر في الاستيعاب والقصيدة حوالي مائتي بيت أورد منها ابن عبد البر ما يلي:
خليلي عوجا ساعة وتهجرا
ولو ما على ما أحدث الدهر أو ذرا
تذكرت والذكرى تهيج للفتى
ومن حاجة المحزون أن يتذكرا
نداماي عند المنذر بن محرق
أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرا
تقضي زمان الوصل بيني وبينها
ولم ينقض الشوق الذي كان أكثرا
وإني لأستشفي برؤية جارها
إذا ما لقاؤها علي تعذرا
وألقى على جيرانها مسحة الهوى
وإن لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا
ترديت ثوب الذل يوم لقيتها
وكان ردائي نخوة وتجبرا
حسبنا زمانا كل بيضاء شحمة
ليالي إذ تغدوا [9] جذاما وحميرا
إلى أن لقينا الحي بكر بن وائل
ثمانين ألفا دارعين وحسرا
فلما قرعنا النبغ بالنبغ بعضه
ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها
ولكننا كنا على الموت أصبرا
بنفسي وأهلي عصبة سليمة
يعدون للهيجا عناجح ضمرا
وقالوا لنا أحيوا لنا من قتلتم
لقد جئتم إداً من الأمر منكرا
ولسنا نرد الروح في جسم ميت
وكنا نسل الروح ممن تيسرا
نميت ولا نحي كذاك صنيغا
إذا البطل الحامي إلى الموت أهجرا
ملكنا فلم نكشف قناعا لحرة
ولم نستلب إلا الحديد المسمرا
ولو أننا شئنا سوى ذاك أصبحت
كرائمهم فينا تباع وتشترى
ولكن أحسابا نمتنا إلى العلى
وآباء صدق أن نروم المحقرا
وانا لقوم ما نعود خيلنا
إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
وتنكر يوم الروع ألوان خيلنا
من الطعن حتى تحسب الجون أشقرا
وليس بمعروف لنا أن نردها
صحاحا ولا مستنكرا أن تعقرا
أتينا رسول الله إذ جاء بالهدى
ويتلو كتابا كالمجرة نيرا
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
ومما أنشد بين يديه صلى الله عليه وسلم أيضا حديث الأعشى المازني واسمه عبد الله بن الأعور كانت عنده امرأة يقال لها معاذة وخرج في رجب يمير أهله من هجر فهربت امرأته بعده ناشزا عليه فعاذت برجل منهم يقال له مطرف بن نهضل فجعلها خلف ظهره.. فلما قدم لم يجدها في بيته وأخبر أنها نشزت عليه وأنها عاذت بمطرف فأتاه فقال: يا ابن عم عندك امرأتي معاذة فادفعها لي، قال: ليست عندي، ولو كانت عندي لم أدفعها إليك، قال: وكان مطرف أعز منه فخرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فعاذ به وأنشأ يقول:
يا سيد الناس وديان العرب
إليك أشكو ذربة من الذرب
كالذبية العلساء في ظل السرب
خرجت أبغيها الطعام في رجب
فخلفتني بنزاع وهرب
أخلفت العهد ولطت بالذنب
وقذفتني بين عيص مؤتشب
وهن شر غالب لمن غلب
قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "وهن شر غالب لمن غلب"
قال الهيثمي: "رواه عبد الله بن أحمد ورجاله ثقات".
ومنه ما رواه ابن عبد البر وابن حجر في الإصابة "أن قتيلة بنت النضر بن الحارث وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أباها صبرا يوم بدر كتبت إليه:
يا راكبا إن الأثيل مظنة
من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتا فإن تحية
ما إن تزال بها الجنائب تخفق
مني إليه وعبرة مسفوحة
جاءت بواكفها وأخرى تخنق
هل تسمعن النضر إن ناديته
بل كيف تسمع ميتا لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تشقق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا
رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمدا ولدتك خير نجيبة
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
النضر أقرب من أسرت قرابه
وأحقهم إن كان عتقا يعتق
قيل: فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق حتى دمعت عيناه وقال لأبي بكر: "يا أبا بكر لو سمعت شعرها لم أقتل أباها".
- للبحث صلة -
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
ويروى "بالراح ".
[2]
ويروى "جنابيها "ز
[3]
الإصابة 3: 279، وقد ذكر ابن حجر القصة بطريق أخرى فقال: ووقعت لنا بعلو في جزء إبراهيم بن ديزيل.
[4]
في باب معرفة الصحابة.
[5]
السنن الكبرى 10: 244 وقد كتب الشيخ إسماعيل الأنصاري بحثا جيدا حول هذه القصيدة والطرق التي رويت بها وقد استفدت منه ونشر بحثه في جريدة الرياض بتاريخ 13 جمادى الآخرة 1391هـ.
[6]
المسند 3: 435.
[7]
مجمع الزوائد 8: 126.
3: 509.
[8]
[9]
يروى " نغزو"وهو أوضح معنى (المجلة) .
لقاء صحفي مع:
سعادة الدكتور محمد محسن خان
مدير مستوصف الجامعة الإسلامية بالمدينة
أعده: أحمد عبد الحميد عباس
مدير العلاقات العامة في الجامعة
* سعادة الدكتور نرجو إعطاءنا فكرة ملخصة عن تاريخ حياتكم؟
ولدت عام 1345هـ في إقليم البنجاب (باكستان الغربية) وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة البنجاب بلاهور وكان ترتيبي الثاني في الاختبار النهائي في الطب وحصلت على الميدالية الفضية وعملت في المستشفى الجامعي بلاهور مع أستاذ الطب الدكتور إلهي بخش ثم سافرت إلى انجلترا ومكثت تقريبا ثلاث سنوات ونصف وحصلت على دبلوم في الأمراض الصدرية من جامعة ويلز بإنجلترا ثم عملت في وزارة الصحة وكان آخر عملي مدير المصح السداد بالطائف ومكثت مدة حوالي 14سنة في وزارة الصحة ثم انتقلت للعمل مديرا لمستوصف الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
* متى بدأتم العمل في الجامعة الإسلامية؟
- انتقلت للعمل في الجامعة كمدير للمستوصف منذ أربع سنوات تقريبا.
* رأينا والحمد لله صحيح البخاري مترجما إلى اللغة الإنجليزية من قبلكم، والحقيقة أن هذا مجهود تشكرون عليه نسأل الله لكم مزيدا من التوفيق، نرجو الإفادة متى قررتم ترجمة صحيح البخاري، وما سبب ذلك؟
- السبب في ترجمة صحيح البخاري أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤيا في المنام فصح عزمي على كتابته فسألت العلماء الموجودين حولي في ذلك الوقت عن خير كتاب يجمع أصح أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم لكي أترجمها إلى اللغة الإنجليزية لتقوم حجة الإسلام على جميع الناطقين باللغة الإنجليزية في العالم أجمع، وحتى لا يقول أحد يوم القيامة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تبلغني رسالته.
وقال لي العلماء إن أصح كتب الحديث هو البخاري فبدأت في ترجمته عام 76 واستغرقت تقريبا 12سنة (أي عام 88) ثم عرض الكتاب على صاحب المعالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، فكوّن لجنة لتدقيق الكتاب من قبل الدكتور محمد أمين المصري رئيس قسم الشريعة والدراسات الإسلامية في مكة المكرمة والحاصل على الدكتوراه من جامعة كامبردج بانجلترا، والأستاذ شاكر نصيف العبيدي ماجستير في اللغة الإنجليزية من جامعة فاندزيلت الأمريكية وأستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة بغداد واستغرق تدقيق الكتاب مدة سنتين ثم بعد ذلك عرضنا الكتاب على فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي دكتوراه من جامعة برلين وأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وزميلنا من السودان سعادة الدكتور محمود نصر بمستشفى الملك بالمدينة المنورة.
وقد استغرقت هذه المراجعات أكثر من عام وأنجزناه بفضل الله سبحانه وتعالى وحسن توفيقه وتبني فضيلة الشيخ محمد يوسف سيتي بالباكستان طبع هذا الكتاب بمطبعته حتى لا يكون حق الطباعة والنشر لمصلحة مادية وأن يكون خالصا لوجه الله تعالى وأن تكون قيمته هي قيمة الورق والحبر وعمال الطباعة والتجليد وليس مكسبا ماديا لأي فرد يشترك في هذا العمل الإسلامي الخير.
* في كم مجلد سيظهر الكتاب؟
- سوف يكون بإذن الله هذا الكتاب في عشر مجلدات كل مجلد تقريبا بين 400 إلى 500 صفحة.
* ما عدد المجلات التي تمت حتى الآن وهل وصلت إلى السوق أم لا؟
- ظهر إلى الآن الجزء الأول فقط (عربي إنجليزي بالأسانيد كاملة باللغة العربية) وراوي الحديث مباشرة من الرسول صلى الله عليه وسلم والحديث الكامل باللغة الإنجليزية لأنه إذا نقلت الأسانيد باللغة الإنجليزية يصبح الكتاب كبيرا جدا، وهي موجودة في الوقت الحاضر في أسواق المدينة المنورة بالمكتبات للبيع.
* سعادة الدكتور، كم طبيبا يعملون الآن بمستوصف الجامعة؟
- يعمل الآن بمستوصف الجامعة ثلاثة أطباء.
* هل يوجد في الجامعة قسم للأشعة أم لا؟ وما هي أقسام المستوصف الأخرى؟
- نعم يوجد قسم خاص للأشعة في المستوصف، أما أقسام المستوصف فهي كالتالي:
الصيدلية. الأشعة. المختبر. الضماد.
وفي ختام حديثنا هذا نشكركم ونسأل الله لكم التوفيق.
هل يشترط لكاتب القصة التاريخية الإلمام باللغات الأوربية
بقلم: عبد الرحمن الأنصاري
الطالب بالسنة الثالثة بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
"غروب الأندلس"و "شجرة الدر"دراسة نقدية وتطبيقية مبسطة للمسرحية الشعرية، والقصة التاريخية..
هذا عنوان كتاب أصدره الدكتور عبد الكريم الأشتر سنة 1965م عن المكتبة الحديثة بدمشق. هذا ولا يهمني ما ذكره عن مسرحية عزيز أباظة الشعرية، فإن خطواته فيها خطوات حثيثة، وطبيعية. وموضوع حديثي إذن حول ما ورد عن دراسته لقصة محمد سعيد العريان التاريخية " شجرة الدر".
ذكر الدكتور في ص 57 أنه: "لا يشترط في القصة التاريخية أن تكون أحداثها كلها حقيقية مذكورة في التاريخ، وأن يكون أبطالها كلهم معروفين مذكورين في التاريخ".
"وإنما يجوز لكاتب القصة أن يتخيل بعض الحوادث، وأن يخلق بعض الشخوص.. ولكنه يشترط في القصة التاريخية أن تكون الحوادث الكبيرة والهامة حقيقية غير مختلفة ولا مهوشة، حتى لا تكذب هذه القصة حقائق تاريخية ثابتة فتفقد بذلك اعتبارها وصلتها بالتاريخ".
وأنا أوافق الدكتور إلى حد ما على كلامه السالف الذكر، ثم يتطرق الدكتور إلى الدور الذي لعبه جرجي زيدان في تشويه بعض حقائق التاريخ الإسلامي عن طريق قصصه التاريخية فيقول في ص 58:" ولعل بعض القصص التاريخية التي كتبها جرجي زيدان في (أدبنا الحديث) لم تتقيد بهذه الشروط، وقصته التي كتبها عن الملكة شجرة الدر مثل على ما نقول، فقد أحال أحداثها مجموعة مؤامرات وعلاقات غرامية مشبوهة، وجعل من أعظم أبطالنا في التاريخ رجالا يركضون وراء شهواتهم ومكاسبهم الخاصة، وقلل من روعة الانتصارات التي أحرزناها على أعدائنا، ووضع لها أسبابا تهون من شأنها".
قلت: بل الحقيقة التي لا مراء فيها ولا تقبل التجزئة أو التشكيك هي: أن جرجي زيدان الصليبي إنما سلك ذلك المسلك المشين تجاه قادة الإسلام في كل العصور انتقاما منه للصليبية التي دوخها أولئك الأبطال الفاتحون، وحقدا على الإسلام والمسلمين، وإلا لماذا اختار التاريخ لتشويهه بالذات؟.
وفي صفحة 60 يدرج المؤلف الفاضل أسماء بعض كتاب القصة التاريخية في أدبنا العربي الحديث، ويدرج في القائمة طائفة من الصليبين، ومن بينهم جرجي زيدان، وفي نفس الوقت هم لا يقلون عنه حقدا على الإسلام والمسلمين، ثم يختم كلامه عنهم بهذه العبارة:"ولا شك أن هؤلاء الكتاب دفعوا إلى كتابة القصة التاريخية بدوافع كثيرة لعل أبرزها رغبتهم في إعادة تصوير ماضينا الزاهي تصويرا يثير العزائم، ويحرك الهمم للاقتداء بسير أبطالنا الكبار، وتقدير تضحياتهم".
قلت: من بين أولئك الكتاب الذين أشار إليهم المؤلف طائفة من النصارى لم يكن هدفهم - فيما ظهر لي مما كتبوه - إلا تقويض الإسلام، ومحاولة تشويه تاريخه النير بجعل أولئك المجاهدين الذين نشروا دين الله: رجالا يركضون وراء شهواتهم، وهمهم حبك المؤامرات، كما ذكر المؤلف قريبا، ومع ذلك أسماءهم في قائمة المدافعين عن أمجادنا!!
وكنت أود أن لا يقع المؤلف الفاضل في هذا التناقض، وفي هذه المحاباة المقيتة. ثم يتحدث المؤلف عن البواعث التي حملت الأستاذ محمد سعيد العريان على كتابة القصة التاريخية، ويقول في معرض كلام سابق:"
…
ولعله - أي العريان - غضب للمنحى الذي نحاه زيدان في عرض التاريخ العربي الإسلامي فخالجته الرغبة في أن يعيد عرض بعض جوانبه في نحو آخر يحفظ له كرامته، ويجلو مثله، ويغسل عن رجاله ما رماهم به زيدان - تحت ستارة التصوير الفني - سرا وعلانية. فمن هنا أعاد كتابة قصة شجرة الدر التي كان زيدان كتبها قبله بأكثر من ثلاثين سنة".
قلت: غضبه لذلك صحيح، كيف لا، وأستاذه الرافعي عليه الرضوان ما تجرأ الكاتبون على الإسلام وتاريخه مسخا وتشويها إلا بعد أن علاه التراب..
وفي صفحة 53 يعزو المؤلف ضعف قصص العريان التاريخية.. إلى عدم اتصاله بالآداب والعلوم الإنسانية اتصالا مباشرا ، وهذه - في نظري - مغالطة صريحة ومكشوفة من الكاتب، ومفادها: أن السبب الذي حمل العريان وأستاذه الرافعي على الأصالة الأدبية العربية الحقة، إنما هو الجهل باللغات الأوروبية.
وما كان من نقص يلحقهما في هذه السبيل إنما هو عائد إلى ما ذكره من جهلهما باللغات الأوروبية.
وإذا كان ذلك كذلك فلماذا أجاد مصطفى لطفي المنفلوطي [1] ، وحافظ إبراهيم في هذا المجال مع جهلهما باللغات الأوروبية.
وإذا كانت معرفة اللغات الأوروبية هي التي تحول بين المرء وبين الأصالة الأدبية فلماذا أجاد شكيب أرسلان في هذا المجال حتى استحق بجدارة لقب: أمير البيان العربي.
ولعل خير ما أختم به كلمتي هذه أسطر كتبها العريان في ترجمة أستاذه وصديقه الرافعي نقلها المؤلف وأوردها في صفحة 92 من كتابه لتكون ردا على من يحاولون النيل من الأدب العربي القديم ممثلا في الصفوة المباركة من وعاته، قال رحمه الله:
"في الأدب العربي القديم نوايات كثيرة لم يتنبه لها الذين يدعون إلى العناية بأدب القصة في العربية، ولو قد تنبهوا لوجدوا معينا لا ينضب كان حريا بأن يمدهم بالمدد بعد المدد لينشئوا في العربية فنا جديدا من غير أن يقطعوا الصلة بين ماضينا وحاضرنا في التاريخ الأدبي. وبمثل هذا تحيا الآداب العربية وتتجدد، وإلى مثل هذا ينبغي أن تكون دعوة المجددين، لا إلى الاستعارة والاستجداد من أدب الغرب، والجري في غبار كتابه وشعرائه".
غزة.. الصامدة!
"ودحر الشباب الفلسطيني المجاهد في غزة جموع الغاصبين وبنت جثث الأبرار منهم صرحا لا ننساه عنوانا على تضحية الشهداء وغدر الدخلاء".
قد هزمنا كل جبار عنيد
وكتبنا صفحات من خلود..
وغدت غزة رمزا للفدا
بوسام، سال من صدر الشهيد
وغدا العدوان في "طغيانه"
لعنة الأجيال في كل صعيد..
فلتدل راياته ولتندحر
دول البغي، وأعلام اليهود..
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
قصص المنفلوطي المترجمة غير ملتزمة الأصل، والمؤلفة ناقصة التكوين الفني ولعل هذا ما أراده الدكتور الأشقر. وأما شكيب فقد عرف عالما ومؤرخا وأديبا كبيرا ولم يعرف كاتب قصة "المجلة".
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
س - رجل عنده امرأتان يريد أن يطلق واحدة منهما، هل إذا طلق واحدة منهما تطلق الأخرى؟
ج - إذا طلق الرجل إحدى زوجاته بالتصريح أو بالنية لم يطلق منهن إلا المطلقة المعينة أو المنوية وأما بقية زوجاته فلا يطلقن بذلك لأن الطلاق إنما يقع على من أوقع عليها خاصة دون غيرها وإذا كانت المطلقة لم تعين باسمها وإنما نواها بقلبه لم يطلق غيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وأما قول بعض العامة أن الرجل إذا كان له زوجتان أو أكثر فطلق إحداهما أو إحداهن طلق الجميع فهو قول باطل لا أصل له وهكذا قول بعض العامة أن الرجل إذا كان عنده أكثر من زوجة وأحب أن يطلق إحداهن فإنه يوكل على ذلك ولا يباشر الطلاق بنفسه فهذا الكلام وأشباهه لا أصل له ولا ينبغي أن يعول عليه.
س - أنا مدرس وتزوجت بمدرسة منذ أربع سنوات ورزقنا بطفلة، ونحن خلال المدة المذكورة نعيش في مشاكل بسبب أهلها وأقاربها وأصحابها ولا أرى حلا سوى منعها عن العمل، هل يجوز لي ذلك؟
ج - يجوز لك منع زوجتك من العمل وإلزامها بالقرار في بيتها والتفرغ لتربية أولادها والعناية بأمرك وليس لها أن تعمل خارج المنزل إلا برضاك وإذنك إذا قمت بما تحتاج إليه لأنك القيم عليها كما في الآية من سورة النساء {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية، ولأنها مأمورة بالقرار في بيتها كما في الآية من سورة الأحزاب {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} الآية والأحاديث في إطاعة المرأة لزوجها في المعروف مشهورة معلومة إلا إذا كانت قد شرطت عليك عند العقد عدم منعها من العمل المذكور، ولا شك أن خروج النساء إلى معترك الأعمال المختلطة وتقليدهن لنساء الإفرنج في ذلك من أعظم الأسباب التي أدت إلى تفكك الأسر وفساد المجتمع، نسأل الله للجميع الهداية للسبيل القويم إنه خير مسئول.
س - هل تجب في ثلث الميت الزكاة أم لا؟
ج - ليس في الثلث الموقوف زكاة لأنه قد خرج بذلك عن ملك الميت وملك الورثة وصارت غلته للجهة التي عينها الموصي من الضحايا أو غيرها من وجوه البر.
وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه أنه خير مسئول، والسلام عليكم ورحمة الله.
أحب الأعمال إلى الله
بقلم الشيخ محمد الطاهر النيفر
الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بتونس
في البخاري حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة قال الوليد ابن عيزار أخبرني: قال سمعت أبي عمرو الشيباني يقول:"أخبرنا صاحب هذه الدار (وأومأ بيده إلى دار عبد الله [1] ) قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال:"الصلاة على وقتها"، قال: ثم أي؟ قال:"ثم بر الوالدين"، قال ثم أي؟ قال:"الجهاد في سبيل الله"، قال حدثني بهن ولو استزدته لزادني".
اشتمل هذا الحديث على خصال ثلاث هي أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى: أولاهما: الصلاة في وقتها، وقد دلت النصوص الكثيرة على عظم فضل من أوقعها في الوقت كما تضافرت الأدلة الشرعية على عظم جرم من أخرجها عن وقتها ويكفينا في التدليل على ذلك ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله": أي كأنما أصيب بأهله وماله.
وهذا التفسير للحديث يندرج على رواية النصب لكلمتي: أهله وماله، وروى بالرفع لهما وفسره مالك بقوله كأنما انتزع منه أهله وماله وكلمة (على) هاته: التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الصلاة على وقتها هي دالة على الاستعلاء حسب أفضل التفاسير، والاستعلاء هاهنا يراد به التمكن من أدائها في جزء من أجزاء الوقت، ويؤخذ منه: التنصيص على أن هاته الأفضلية تخص بأدائها في جميع أجزاء الوقت.
وقال ابن بطال: "المراد البدار إلى أداء الصلاة في أول الوقت لأن ذلك هو الأحب إلى الله فيؤخذ من هذا أن اداء الصلاة في أول الوقت هو الأحب إلى الله". قال ابن دقيق العيد: ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولاً ولا آخراً وإنما المراد به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء". وتعقبه بعضهم بأن لفظ أحب أفعل تفضيل يقتضي المشاركة والزيادة وعليه فيقتضي ذلك أن المحترز عنه محبوب وليس أداء الصلاة بعد وقتها بمحبوب لله تعالى بل هو محرم، فلا ينبغي أن يكون محترزا عنه وهذا يقتضي أن المحترز عنه إنما هو أداؤها في آخر الوقت.
والخلاصة أن أحب الأعمال إلى الله هو أداء الصلاة في أول وقتها.
وثانيها: بر الوالدين والمراد به الإحسان إليهما وامتثال أوامرهما في غير ما يؤدي إلى معصية الله تعالى ورعايتهما رعاية تامة مثل ما رعياه من قبل، مع ترك الإساءة إليهما ولو بما لا يسئ عرفا إذ كانا سبباً في وجوده ورعياه صغيراً جاهلاً محتاجاً فآثراه على أنفسهما، وسهرا ليلهما وأناماه، وجاعا وأطعماه وعريا وكسواه.
لذا لا يملك لهما الجزاء ولو ولي منهما ما ولياه منه، لما لهما من فضيلة التقدم بالنعمة على المكافي عليها وهذا المعنى قد أشار له الله تعالى في كتابه العزيز فأرشدنا إلى أن المرء لا يطمع بمجازاة والديه عما قدماه إليه، وحسبه أن يتوجه بالدعاء لهما عسى أن يتفضل الله عليهما بأحسن الجزاء وأجز له فهو الكفيل بإعطائهما جزاء ذلك العمل. قال جل من قائل:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} .
قال ابن العربي في تفسيره:"معناه ادع لهما في حياتهما وبعد مماتهما بأن يرحمهما الباري كما رحماك ويرفق بهما كما رفقا بك، فإنه تعالى هو الكفيل بجزاء الوالد عن الولد، إذ لا يستطيع الولد مكافأة والديه أبدا، وفي الحديث: "لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" فيخلصه من أسر الرق كما خلصه من أسر الصغر.
وكما يطلب البر بالوالدين شرعا في حالة الحياة كذلك بعد الممات. ففي الحديث الصحيح: "أنه جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله: هل بقي من بر والدي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال له صلى الله عليه وسلم:"نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم الذي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقي عليك".
ومما يروى من الأحاديث الدالة على بلوغ بعض الموفقين درجة عليا في الإحسان إلى الوالدين ما روي من أن البرامكة لما حبسوا كان منهم جنب في حاجة الاغتسال فقام ابنه بإناء ماء ليلة كاملة على السراج حتى دفئ فاغتسل به والده، فهذا لعمري منتهى البر بالأبوة.. فليعتبر شبابنا اليوم بأعمال أسلافهم ليفوزوا برضى الله وبره.
وثالثها: الجهاد في سبيل الله لحماية بيضة الإسلام وإعلاء كلمته وكسر شوكة الكفر وإذلاله.
وإذا كان هذا من بعض فضائل الجهاد فأحرى به أن يتبوأ المقام المحمود من بين الأعمال الصالحة، ويحسن بنا أن نذكر كلمة قررها عمنا المرحوم الشيخ محمد النيفر في تأليفه: حسن البيان في حكمة مشروعية الجهاد. وبها تقطع ألسنة بعض المتخرصين من الملاحدة الذين ضلهم الله على علم وفيها موعظة وذكرى لقوم يفقهون.
قال رحمه الله: "إن شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تأسست على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودرء المفسدة قبل جلب المصلحة حتى أنه إذا توقع ضرر أن يرتكب أخفهما".
ولذلك كانت دعوى الكافر أولا إلى الإسلام؛ لأن الكفر أعظم مفسدة ينبغي أن يدرأ عنهم وعن العالم أجمع لما فيه من كفران النعمة للخالق المستحق للعبادة لذاته قبل جلب مصلحة جزية يدفعونها كل سنة مع بقائهم على الكفر، ولذلك إذا لم يقبلوا الإسلام ودار الأمر بين ضرر القتل العظيم ودفع الجزية الخفيف يرتكب أخفهما فتطلب منهم الجزية ثاني مرة فإذا لم يكن ارتكاب أخفهما يصار إلى أثقلهما وهو القتل، والقتل أيضا بالنظر إلى استصلاح من بقي وكسر شوكة الكفر فيه ارتكاب أخف الضررين أيضا.
هذا وفي الحديث المذكور أن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله هي الخصال الثلاث وهي مرتبة على حسب فضلها لكن ربما يعارض هذا ظواهر كثيرة من أحاديث أخر دلت على أمور أخرى، هي أفضل الأعمال منها ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قال:"إن إطعام الطعام خير أعمال البر"، ومن ذلك ما روي عنه أيضا من قوله عليه الصلاة والسلام:"أحب العمل إلى الله أدومه".
وجاء في حديث آخر: "إن الجهاد أفضل الأعمال". وثبت في حديث أبي هريرة: "إن أفضل الأعمال: إيمان بالله تعالى".
ولابن دقيق العيد كلام يحصل به التوفيق، قال رحمه الله: "إن الأحاديث الأول محمولة على الأعمال البدنية والحديث الأخير من عمل القلوب لأن الإيمان منه.. وأما وجه التوفيق بين الأحاديث المتقدمة عليه. فللعلماء في ذلك أجوبة كثيرة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أجاب كل سائل بما يوافق غرضه الذي علمه منه، أو بما هو محتاج إليه، فاختلفت الأجوبة باختلاف حالة المخاطبين أو باختلاف الأوقات فإن العمل قد يكون أفضل في وقت غير وقته الأول.
فالجهاد مثلا هو أفضل الأعمال في ابتداء الإسلام والصدقة أفضل من الصلاة في وقت مواساة المضطر مع تضافر النصوص على أن الصلاة أفضل منها.
والظاهر أن الحديث الأول لا يدل على أن الخصال الثلاث هي أفضل الأعمال على الإطلاق في جميع الأزمان والأحوال وإنما الأمر الذي يؤخذ منه أن الخصال الثلاث هي من أفضل الأعمال إلى الله تعالى ومما يكون الجزاء عنها بالعطاء الوفير وإنما وقع الاختصار عليها لأن من حفظها يكون لغيرها أحفظ ومن ضيعها فهو لغيرها أضيع. فالصلاة مثلا التي هي عماد الدين من ضيعها فهو لغيرها أضيع وكذا بر الوالدين فهو من الحقوق التي من أضاعها فهو لحق الله أضيع.
وخلاصة القول أن المسلم عليه أن يحافظ على أداء الصلاة في وقتها وطاعة والديه والإحسان إليهما وإن كانا كافرين ما لم يأمراه بما لا يرضي الله، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. قال الله تعالى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} . وكما قال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} وأن يكون في نصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله مجاهدا في سبيله بماله وبدنه وعلمه وتفكيره وأن يأخذ بيد المتعثر فيطعم الطعام ويواسي الضعيف ويأخذ بيد المحتاج مستديما لذلك ما دامت له الحياة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
وعبد الله هذا الذي روى الحديث عنه أبو عمرو الشيباني: هو عبد الله ابن مسعود المشهور رضي الله عنه الشيباني.
والشيباني هذا نسبة إلى شيبان بن ثعلبة واسمه: سعد بن أبي إياس وقد أدرك الجاهلية والإسلام وطعن في السن حتى بلغ مائة وعشرين سنة. وقد روي عنه أنه قال:"أول ما سمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنا أرعى إبلا لأهلي بكاظمة". قال:"وتكامل شبابي يوم القادسية فكنت ابن أربعين سنة".
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
5 – نصحه صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى دين الله
لما بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين القويم قام بأعباء هذه المهمة على الوجه الأكمل وصبر على ما اعترضه في هذا السبيل من أذى. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الاخشبين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا".
إنّ هذا لهو الخلق العظيم يناله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الأذى وتحف به المصائب فينطلق على وجهه مهموما ثم تعرض عليه ملائكة الله القضاء على أعدائه بأن يطبقوا عليهم الاخشبين – وهما جبلا مكة – فلا يستجيب لهذا العرض ويجيب بالإجابة التي تبرهن على تمام نصحه ومحبته لأن يعبد الله وحده فيقول: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا".
وقد ترك صلى الله عليه وسلم الناس على محجة بيضاء واضحة كفيلة لمن سلكها بعز الدنيا وسعادة الآخرة جاء ذلك نتيجة لاتصاف الرسول صلى الله عليه وسلم بكمال النصح وقوة البيان ونهاية الأمانة فما من شيء يقرب إلى الله إلا دل عليه أمته ورغبها فيه كما حذرها مما يخالف ذلك فلم يقصر في صلى الله عليه وسلم في إبلاغه شرع الله ولم يقصر في بيانه عند الإبلاغ. أخرج مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قيل له: "قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، قال فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو عظم".
وقد أعلن صلى الله عليه وسلم قيامه بواجب التبليغ في أعظم جمع لقيه وذلك في حجة الوداع واستشهد الناس على أنفسهم فشهدوا الشهادة الحق بإبلاغه رسالة ربه وتأديته ما أمر به على أكمل وجه ونصحه في ذلك في حديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس يوم عرفة: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكثها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات".
ولم يدع صلى الله عليه وسلم وسيلة فيها إيضاح وإفهام للناس وحفز للهمم إلى القيام بطاعة الله والبعد عن معصيته إلا سلكها في سبيل دعوته إلى الله وتحذيراً منه من النكوب عن الشرع القويم الذي جاء به صلى الله عليه وسلم فكان يضرب الأمثلة التي تجعل الشيء المبين في صورة المحسوس المشاهد، ففي مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق"، وفي صحيحه أيضا عن جابر رضي الله عنه قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي"، واتفق البخاري ومسلم على إخراج هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء وكانت الأهمية لغير المسؤول عنه لفت نظر السائل برفقه وحكمته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الأهم. ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: "متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت". إلى غير ذلك من الوسائل التي اتبعها صلى الله عليه وسلم في هدايته وإرشاده.
6 – قوته وشجاعته صلى الله عليه وسلم
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه. وقد جمع الله أنواع القوة في عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، جمع له إلى القوة الإيمانية الكاملة القوة البدنية فاستعمل هذه القوة في عبادة الله وطاعته والسعي الحثيث إلى كل ما يقربه إليه وهو الأسوة والقدوة لأمته في كل خير. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه. قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا؟ ".
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
وفي الصحيحين أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: لم ترعوا لم ترعوا وهو على فرس لأبي طلحة عرى ما عليه سرج في عنقه سيف فقال: لقد وجدته بحرا أو أنه لبحر".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقدم أصحابه في الجهاد في سبيل الله وقد شج وجهه وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وفي غزوة حنين ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم الكثير ممن معه ففي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رجلا قال له: "يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، إن هوازن كانوا قوماً رماة فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا سفيان بن الحارث آخذ في لجام بغلته البيضاء وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب".
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره بعد سياق هذا الحديث: "قلت وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوعي وقد انكشف عنه جيشه وهو مع هذا على بغلة وليست سريعة الجري ولا تصلح لفر ولا كر ولا هرب وهو مع هذا يركضها إلى وجوههم وينوه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين وما هذا كله إلا ثقة بالله وتوكلا عليه وعلما منه بأنه سينصره ويتم ما أرسله به ويظهر دينه على سائر الأديان".
7 – حقه صلى الله عليه وسلم على أمته وحق أمته عليه:
ولعل أن أختم هذه المحاضرة المشتملة على نماذج من أخلاقه صلى الله عليه وسلم بالإشارة إلى مجمل حقه على أمته وحق أمته عليه صلى الله عليه وسلم فأقول:
من حقه على أمته – وقيامهم بهذا الحق عنوان سعادتهم – أن يشهدوا بأنه رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس وأن شريعته باقية إلى قيام الساعة وأنها عامة لكل أحد فلا يسع أحد الخروج عنها. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.." وأن شريعته صالحة لكل زمان ومكان وأنه لا سعادة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا لمن سلك سبيله وسار على نهجه وأنه هو الأسوة والقدوة لأمته وأنه الصادق المصدوق في أخباره غائبها وماضيها ومستقبلها وأن تكون القلوب عامرة بحبه محبة أعظم من محبة النفس والوالد والولد والناس أجمعين، ومن محبته صلى الله عليه وسلم محبة شريعته وتعظيمها وتحكيمها والتحاكم إليها كما قال الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وأن تكون العبادة لله خالصة وعلى وفق الخطة التي رسمها رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يعبد الله إلا بما شرع كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، وما أحسن قول أبي عثمان النيسابوري إذ يقول:"من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة".
وقد جمع هذه الأمور في عبارة وجيزة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث قال في بيان المراد بشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع".
ومن حقه على أمته صلى الله عليه وسلم أن تكون الألسنة رطبة بالثناء عليه بكل ما يليق به مع الحذر من الغلو الذي لا يرضاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالثناء على سنته وإيضاح محاسنها وبيان ضرورة الناس إلى التمسك بها وأن تكون الألسنة رطبة بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان، والبخيل حق البخيل من ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه، وأرغم الله أنف من ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه، وأبخل ممن يبخل بالدرهم والدينار من يبخل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره صلوات الله وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما حق الأمة عليه فهو إبلاغهم رسالة ربهم وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، وقال تعالى:{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .
روى البخاري في صحيحه عن ابن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: "من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم". انتهى. وقد من الله على المؤمنين بإرسال رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الرسالة على أكمل الأحوال وأتمها وأنزل الله تعالى عليه في أواخر حياته في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} .
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات" رواه مسلم، فالذي من الله وهو الرسالة والذي على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو البلاغ كل منهما قد حصل على التمام والكمال أما الذي على الأمة وهو التسليم فالسعيد من وفق للقيام بذلك قولا وفعلا واعتقادا والشقي الطريد المخذول من كان بخلاف ذلك.
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقنا جميعا للتأدب بآداب هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وأن يمن علينا بالتوفيق لاقتفاء آثاره والسير على نهجه وأن يميتنا على سنته ويحشرنا في زمرته ويجعلنا من الفائزين بشفاعته إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا به. ربنا تقبل منا إنك السميع العليم، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
الله أكبر
من مئذنة الأقصى السامقة.. انطلق المؤذن يوقظ الغفاة.. ويحي الموات..
ردد الكون نداءات الأمان أجمل الألحان في سمع الزمان..
دعوة للحق في أجوائنا
كلها خير وبر وحنان
لو عرفنا الله ما شطت بنا
سبل التضليل.. أو ذقنا الهوان..
غير أنا أمة قد أصبحت
خير ما فيها.. حديث ولسان..
أضواءٌ على العالم الإسلامي
نداء من: محمد عبد القيوم خان رئيس دولة كشمير
وجامو الحرة إلى جميع المسلمين في العالم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ومن دعا بدعوته وعمل بسنته. وبعد:
أرى من الواجب علي كرئيس منتخب لدولة كشمير وجامو الحرة أن ألفت أنظار الشعوب الإسلامية إلى الكفاح التحريري الذي يكرسه الشعب الكشميري في سبيل تحرير بلاده، وأقول بصراحة وبدون أن أخاف لومة لائم: أن الدول الإسلامية لا تقدر جيدا الظلم الذي أصاب خمسة ملايين من المسلمين في كشمير: (جنة الله في الأرض) مع أنهم كانوا يتوقعون بحق أن ينالوا عطفا عميقا ويكسبوا اهتماما كبيرا بنضالهم وكفاحهم من إخوانهم، ولكن لا أسئ الظن بإخواني المسلمين لأني أعرف بأن عدم اهتمامهم بهذه القضية مرجعه قلة معلوماتهم عنها وإني على ثقة تامة أن أي فرد من المسلمين إذا فهم ما هو تاريخ كفاح الشعب الكشميري وما هو غايته فإنه بدون ما ريب لا يقصر في تركيز عنايته بهذه القضية على بعد الدار ونأي المزار، وعلى كل فأنا في غمرة من الاطمئنان والارتياح حينما أرى أن العالم الإسلامي أصبح يدرك بأن قضية كشمير ليست قضية محلية أو ليست نزاعا يقتصر على قطعة من الأرض بل إنها من أهم قضايا المسلمين وهذا هو الشعور الذي أبداه كثير من قادة المسلمين في مناسبات عديدة، وأنا أبذل جهدي المستطاع لأشرح هذه القضية ومفاهيمها الصحيحة وغاياتها الأصلية على صعيد عالمي.
ومما لا ريب فيه أن كشمير ترتبط بالعالم الإسلامي بعلاقات وثيقة وأواصر عديدة، منها أن الشعب الكشميري يتمسك بالإسلام ويعض عليه بنواجذه، ومنها أن كفاح الشعب الكشميري ينصب تماما على نظام يخلو من أبسط مبادئ العدل والإنصاف، لأن عدونا الحقيقي هو نظام يقول بأن قطعة من الأرض أفضل من البشر وكرامته ولذلك قمنا نحارب ذلك النظام الغاشم.. النظام الذي يفضل طبقة خاصة الناس على عامة الجماهير.. وهذا النظام بدون ما ريب يقوم على قواعد الكفر ومبادئ الإلحاد.
إن الهند تحاول أن تقنع الدنيا بأنها دولة ديمقراطية لا دينية، مع أن هذا الادعاء أمر يخالف الواقع ويعاكس الحقيقة، لأن قادة الهند وحكامه على رغم هذا الادعاء الكاذب ليسوا بمستعدين لأن يتخلوا عن طبيعتهم الهندوسية الشرسة غير القابلة للإصلاح. إن الديانة الهندوسية نفسها أكبر مدعاة لعدم المساواة في الحياة البشرية، ويتضح لكل من يدرس هذه الديانة أنها في صميم أفكارها ومبادئها وتعاليمها تحارب الكرامة البشرية، وهذا الأمر بعينه هو روح الكفر ومغزاه. إن الرجل الهندوسي حسب تعاليم كتبه الدينية (شاستر) يقسم مجتمعه إلى أربع طبقات: الطبقة الأولى: البرهما، والثانية: كشترى، والثالثة ويش، والرابعة: شودر (المنبوذ) ؛ أما الطبقة الأولى أي البرهما فهي تحتل أعلى مكانة في المجتمع بل تحتل مكانة الإله، وبكلمة أخرى أن البرهما يحتل مكانة أبرز من المكانة التي كان يحتلها الكهنة ورجال الدين في بابل ومصر إلى ما قبل أربعة أو خمسة آلاف سنة. وبموجب الديانة الهندوسية أن أي فرد من أفراد الطبقة الثانية (كشترى) والثالثة (ويش) مهما استفرغ الجهود واستنفد الإمكانيات لا يصل أبدا إلى درجة البرهما، وهكذا فإن الشودر (المنبوذ) ولد ليبقى أحط أنواع المجتمع الهندوسي وأسوأها حظا وأنه أي (المنبوذ) إذا وقع ظله على البرهما فإنه ينجس، وكذلك المنبوذ خلق ليقوم بأعمال تنظيف الأوساخ والأرجاس وأنه إذا صادف أن سمع آيات من كتاب الهندوس الديني يجب أن يفرغ في أذنه الرصاص عقوبة لهذه الجريمة، ولا تزال تتحكم هذه الأفكار في كثير من أقطار الهند، وقد حدث إلى ما قبل مدة أن جماعة من المنبوذين من جنوب الهند أحرقوا وهم أحياء لأنهم ربّوا شواربهم كما يربيها البرهما وتجاسروا بهذه الطريقة على مماشاة النوع الأعلى من الهندوس – أي البرهما –.
والقانون الذي كان يسود كشمير في الفترة الماضية كان يعاقب كل من يذبح البقرة بعقوبة الموت ثم استبدلوا هذا القانون الغاشم بعقوبة سجن لمدة عشر سنوات، لأن الديانة الهندوسية تقدس البقرة لدرجة تقديس الإله، كما أنها تقدس شجرة (بيبل) من الشجرات المنتشرة في الهند ولا يخفى على كثير من الناس ما حدث في الهند من آلاف من المذابح والمجازر على المسلمين بجريمتهم أنهم ذبحوا البقرة أو قطعوا غصنا من أغصان الشجرة (بيبل) .
وأما فيما يتعلق بالمسلمين فإن الهندوس يطلقون عليهم لقب (الماليش) وهذه الكلمة معناها النجس والمنحط، والهندوس يعتبرون مسلمي الهند أجانب لا يستحقون أن يعيشوا في القارة الهندية، وهذا هو الشعور المتمرد الذي لحمته الكراهية وسداه عدم التسامح دفع المسلمين إلى أن يطالبوا بإقامة وطن مستقل يعيشون فيه أحرارا. وفي النهاية تمخضت هذه المطالبة عن تأسيس باكستان ولكن بتضحيات جسام ومحن قاسية لا عد لها ولا حصر.
وأرى من اللازم في هذه المناسبة أن أذكر بعض الجوانب من مطامع الشعب الهندوسي العدوانية والاستعمارية. إن قادة الهند ورجال الفكر من الهندوس تمكنوا من إقناع شعبهم بأنه كان هناك مملكة هندوسية كبيرة الشأن إلى ما قبل بضعة آلاف من السنين تمتد حدودها من نهر جيحون (تركستان الغربية) إلى المحيط الهادي فهو مدعو إلى أن يبعث هذه المملكة من جديد ويعطي لها الأهمية الأولى. والهندوس كانوا يعتبرون باكستان عقبة كأداء في سبيل تحقيق هذه الرغبة ولأجل ذلك أنهم عارضوا فكرة قيام باكستان بكل عنف وبشعور مشبع بروح العصبية الدينية، ولا يخفى على أحد أن باكستان تأسست في النهاية على أشلاء مليون من المسلمين رجالا ونساء وشيوخا وشبابا قتلهم الهندوس والسيخ، حتى أن هؤلاء الهمجيين لم يرحموا الصغار فذبحوهم ورفعوا جثثهم فوق نصال أسنتهم وألقوهم في الزيت المغلي أمام أمهاتهم
…
مناظر رهيبة من قساوة القلب لم يشاهدها عين السماء في تاريخ البشرية.
ولكن الذي يؤسفنا أن زعماء الهند وسفرائه، الذين يتشبعون بهذا النوع من التفكير ويؤمنون بهذا الضرب من نظام الحياة يتجشمون في البلاد الإسلامية دعاة إلى التسامح وحاملين لواء السلام والأمن، بلغت بهم الوقاحة لدرجة أنهم حاولوا أن يندسوا إلى مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد في الرباط في شهر سبتمبر 1969م بينما تعيش الأقلية المسلمة في الهند منذ ثلاثة وعشرين عاما عيشة المنبوذين تقام عليهم بين آونة وأخرى المجازر الرهيبة وتسام بسوء العذاب. والذي حدث قبل سنة ونصف في مدينة حيدر آباد ليس ببعيد إذ قتل في هذه المدينة العريقة خمسة آلاف من المسلمين العزل أو أحرقوا وهم أحياء وها قد قامت قبل مدة يسيرة في مدينة (بهوبال) مذبحة ذهبت ضحيتها عشرات من المسلمين، وأريد أن أطلع الصحافة العالمية على هذه الأحداث الرهيبة الهمجية، وإني على مثل اليقين أن المسلمين في أنحاء العالم يعتبرونني محقا في ضوء هذه الحقائق التاريخية إذا صرحت لهم أن القيام بالجهاد ضد هذا النوع من الكفر فريضة واجبة على كل مسلم ومسلمة.
إن عدونا له براعة فائقة في أساليب التضليل والخداع والمناورة، إنه يستطيع أن يجعل قضية بسيطة واضحة المعالم تتشوه وتختفي عن أعين الناس بمكره ودهائه وبواسطة جهازه الجبار للدعاية والنشر، وهذا ما فعله مع قضية كشمير على كونها قضية واضحة المعالم لا غبار عليها. وحقيقة هذه القضية ليست إلا أن الشعب الكشميري يريد أن يمارس حقه في تقرير مصير بلاده بينما الاستعمار الهندي يحاول أن يحرم هذا الشعب من هذا الحق الإنساني باستخدام جميع أساليب العنف والتنكيل، أما نحن الكشميريين فإننا نرفض مبدئيا أن تحتل بلادنا قوة بدون رضانا. ولذلك لما أرادت الهند أن تحتل كشمير بمجرد أن نالت الهند الاستقلال عام 1932م قمنا ننظم الحرب التحريرية ضد الهند، ونتيجة لهذا الجهاد تحررت المناطق التي تنضم الآن في دولة كشمير الحرة. ولما أوشكنا على الانتصار الكامل وتحرير جميع الأراضي الكشميرية تدخلت الدول الاستعمارية الغربية واستخدمت نفوذها في وقف إطلاق النار.
ومن الواضح جليا أن هدفنا من هذا الجهاد هو الإسلام ونطلب من الإخوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يساعدونا ويشدوا أزرنا ويدعموا كفاحنا ماديا ومعنويا.
ونتمنى أن نقيم في بلدنا نظاما يقوم على العدل والتساوي، وينطلق كفاحنا من الفكرة الإسلامية، وصممنا العزم على أننا إذا فشلنا في تحقيق تحرير بلادنا بوسائل سليمة فإننا سنشرع في الكفاح المسلح بإذن الله، وإنا نعتبر هذا الكفاح جهادا إسلاميا خالصا لأن من مقتضيات الفكرة الإسلامية للحياة أن لا نستسلم أمام الجور والظلم بل نقارعه بكل ما نملك من الإمكانيات والوسائل، وإن الشعب الكشميري لن يستسلم أبدا في كفاحه ضد الغاصب الغشوم، إن الشعب الكشميري يعتمد في حد كبير في كفاحه التحريري على ما لديه من الإمكانيات ولكن مع ذلك إنه بحاجة ملحة إلى تأييد العالم الإسلامي ومساندته ودعمه خاصة والدول المحبة للحرية عامة.
إن مؤتمر الحج يشكل اجتماعا إسلاميا دوليا لا بديل له من حيث كون هذا المؤتمر مجالا فسيحا لدراسة المشكلات الإسلامية في العالم الإسلامي وأخذ موافقة الشعوب الإسلامية على تأييدها، وأي اجتماع يا ترى يكون أفضل من اجتماع الحج لدراسة مشكلة كشمير وقضية فلسطين، وأحب أن أشير إلى الناحية التي يلتقي فيها الشعب الفلسطيني مع الشعب الكشميري وهي تتجسد في القلق الذي يقض مضجع الشعبين المسلمين في تحرير وطنهما.
وهناك تشابه كبير بين مشكلتي كشمير وفلسطين، والتاريخ يشهد بأن الاستعمار البريطاني هو الذي لعب دورا خطيرا في جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود وتسليمه لليهود الذين هاجروا إلى فلسطين من أنحاء العالم، وكما أن الاستعمار البريطاني هو الذي خلق مشكلة كشمير وذلك حينما فشل في منع قيام باكستان عام 1932م، ووضع الملايين من المسلمين تحت نير الهندوس، فسلم منطقة جورداسبور – المنطقة الحساسة التي كانت تعيش فيهما الأغلبية الإسلامية – للهند، ومنطقة جورداسبور هي الطريق الوحيد الذي تنفذ منه الهند إلى كشمير لأن تتلاصق حدودها من جميع الجهات بباكستان. وهكذا مهد الاستعمار البريطاني طريقا لاحتلال كشمير، ولو لم يكن الأمر هكذا لم يكن للهند أي اتصال جغرافي بوطننا كشمير ولم تحدث مشكلة كشمير التي نحن فيها اليوم، وكان هدف الاستعمار الغربي من زرع هذا التصادم بين الهند وكشمير هو نفس الهدف الذي كان يهدف إليه الاستعمار الانكليزي من تسليم فلسطين لحثالة العالم وشذاذ الآفاق أي طعن خنجر في قلب الإسلام وكما أن الصهاينة في فلسطين أداة مؤثرة بيد المستعمرين كذلك الهند تقوم بنفس الخدمة للمستعمرين في منطقة الجنوب الشرقي الآسيوي، والاستعمار الهندوسي في الهند، أسوة بالصهاينة، مصاب بداء جوع الأرض، وهذا الجوع من شأنه أن يدفع الإنسان إلى ارتكاب ظلم وطحن البشرية، ولا أتمالك إلا أن أطلع إخواننا المسلمين في العالم على أننا أصبحنا نعي الآن
مطامع الهندوس بعد أن بقينا عرضة لها مدة من الزمن ولذلك نستطيع أن نقول على أساس تجاربنا أن البلاد الإسلامية وبعض البلدان في الشرق الأوسط وأفريقية ستكون عرضة للمطامع الهندوسية، ولا ألقي هذا القول على عواهنه، ولا لأجل الدعاية فقط بل إنكم إذا تشكون في ذلك فلكم أن تطالعوا المبادئ الأساسية التي يحتضنها الاستعمار الهندي الغاشم.
ومزايا الدبلوماسية الهندوسية تلتقي مع مزايا الدبلوماسية الصهيونية بقضها وقضيضها وهي الدعوة إلى السلام، كذبا وزورا، ثم اللجوء إلى العدوان المسلح، وتتكشف أكاذيب الفكرة الهندوسية كما تكشفت أكاذيب الفكرة اليهودية في العالم، وقليل من الناس في الدنيا الذين يثقون فيما يعلنه الصهاينة والهندوس من دعوتهم إلى السلام العالمي وينشرون من المخططات البناءة المزعومة بواسطة أجهزة الدعاية، فبينما كانت إسرائيل تدعي السلام وتطالب بإقامة السلام العالمي شنت هجوما عدوانيا على البلاد العربية، والهند كذلك تحذو حذوها وتتبع خطواتها، ومن سوء الحظ أن بعض زعماء الهند نجحوا في إقناع بعض البلدان العربية بأن الهند صديق مخلص وفيٌّ لها، ولكنه مع ذلك يوطد صداقتها مع إسرائيل، ولكن هذه الصداقة هي في حقيقتها لا تختلف عن تصريحات موشى دايان بأن إسرائيل صديقة للعرب.
وكذلك من أبرز وجوه التشابه في هذين العميلين الاستعمار الغربي اللذين يتجشمان على قلب الدول الأفرو آسيوية عُدُولهما عن الإيفاء بالمواثيق حيث أن الهند نكثت مرارا مواثيقها التي أبرمتها لحل قضية كشمير ولا تختلف تجارب البلاد العربية مع إسرائيل في هذا الباب عن تجارب أهل كشمير مع الهند لأن إسرائيل كذلك لا تزال تنكث وعودها وتمزق مواثيقها التي أبرمتها في المنابر الدولية لحل قضية فلسطين، وإذا أضفنا على الهند لقب – إسرائيل الآسيوية – فلا نتجاوز الحقيقة أبدا.
وأنا في هذه المناسبة السعيدة وفي هذا الاجتماع العالمي أناشد جميع الأمم الإسلامية أن تدرس بنظرة عميقة لا مسألة كشمير فقط بل جميع المسائل التي يواجهها اليوم العالم الإسلامي، وسيكون هذا التضامن والتلاحم في العواطف والمشاعر خدمة جليلة يسديها الإسلام نحو الكتل البشرية.
وأدعو الله تعالى من صميم قلبي أن يوفق جميع المسلمين الذين جاءوا هذه البقعة المباركة من كل فج عميق إتباعا لسنة سيدنا إبراهيم عليه السلام يوفقهم لمعالجة مشاكل وآلام مسلمي فلسطين وكشمير وإريتريا وقبرص خاصة.
وهذه نماذج من المواثيق التي نكثت بها الهند على مرأى من العالم ومسمعه:
نص البرقية التي بعثها البانديت جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند إلى رئيس وزراء بريطانيا ورئيس وزراء باكستان بتاريخ 27 أكتوبر عام 1937م:
"أريد أن أوضح أن دعمنا لكشمير لا يعني أبدا تمهيد الجو لضم ولاية كشمير مع الهند، وإن نظريتنا التي تكرر إعلانها من قبلنا أن لا يجوز حل قضية المنطقة المتنازع عليها أو قضية انضمام ولاية من الولايات إلا بما يرضى به عامة الناس، ولا نزال قائمين على هذه النظرية بكل قوة".
وهذا مقتبس من الكلمة التي ألقاها رئيس وزراء الهند من إذاعة الهند بتاريخ 2 نوفمبر 1937م:
"أعلنا أن تقرير مصير كشمير لا يتم إلا بواسطة أهل كشمير، هذا ما أعطينا عليه التعهد القائم على اليمين، التعهد الذي أبداه المهاراجا حاكم كشمير أيضا والذي لا يتعلق بأهل كشمير فقط بل يتعلق بسائر الدنيا، ولا نستطيع أن نحيد عن هذا التعهد، ونحن على استعداد بأنه إذا ساد جو الأمن والسلام نقوم بإجراء الاستفتاء العام تحت إشراف منظمة دولية كمنظمة الأمم المتحدة، ونود أن نتوصل إلى رأي عامة الجماهير بطريق سليم وأمين، ونقبل كل ما يقررون ولا أتصور بعد ذلك هل هناك من عرض أكثر صحة وأمانة من هذا العرض".
وهذا تصريح وزير هندي كرشنا مينان في لندن المنشور في جريدة "استيتمين "بتاريخ 2 أغسطس عام 1951م:
"لا تريد حكومة الهند أبدا أن تعدل عن وعودها، إذ نحن قائمون على ما وعدنا من إجراء الاستفتاء العام في كشمير بكل حزم، ووثقنا هذه الوعود مع الشعب الكشميري لأنه يؤمن بالنظام الديمقراطي، ولا نعتبر كشمير بضاعة للتجارة والمساومة".
وهذا إعلان مشترك لكل من رئيس وزراء الهند وباكستان صدر بتاريخ 20 أغسطس 1953م:
"جرت المباحثة حول قضية كشمير بصفة خاصة وهما على رأي أكيد بأن هذه القضية يلزم أن تحل وفق رغبة عامة الناس ليعيشوا في جو الرفاهية والرخاء ولا تأخذ الفوضى سبيلها إلى حياة كشمير، وأحسن طريق لمعرفة رغبة عامة الناس إجراء الاستفتاء العام بصورة نزيهة وأمينة ومحايدة، واقترح إجراء هذا النوع من الاستفتاء قبل بضعة سنوات، ثم كرِّس الاتفاق عليه ولكن لم تتخذ لحد الآن أي خطوة إلى الأمام في هذا الباب لوجود الخلاف في بعض المسائل الابتدائية، واتفق الرئيسان أنهما سيتباحثان في هذه المسائل الابتدائية مباشرة لكي يصلا إلى تقرير اتفاق بينهما ويجب أن يوضع هذا الاتفاق حيز التنفيذ قبل كل شيء، وتتبعها خطوة إلى تعيين مدير للاستفتاء العام".
أضواء من التفسير
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد: المدرس بكلية الشريعة
المناسبة:
هذه الآيات حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما حكاه الله من استكبارهم وعنادهم، فبعد أن أخبر عنهم أنهم في غزوة وشقاق أردف بما صدر عنهم من تعجبهم منه، ونسبتهم السحر والكذب إليه.
المفردات:
{عَجِبُوا} .. استغربوا وأنكروا أشد الإنكار. {جَاءَهُمْ} أتاهم. {مُنْذِرٌ} أي رسول يبلغهم عن ربه ويعلمهم ويخوفهم. {مِنْهُمْ} أي من جنسهم في البشرية، ونوعهم في العربية والأمية. {الْكَافِرُونَ} الجاحدون. {سَاحِرٌ} متعاط للسحر وهو ما لطف ودق وخفي مأخذه، فالخوارق والمعجزات التي يأتي بها محمد صلى الله عليه وسلم من قبيل السحر عند هؤلاء. {جَعَلَ} بمعنى صير وهي من التصيير في القول والزعم لا في الخارج والوجود.
{إِلَهاً} أي معبودا مألوها مقصودا محبوبا. {وَاحِداً} متفردا بالألوهية ليس له شريك فيها. {عُجَابٌ} بناء مبالغة من العجب أي هذا بليغ في النكارة والغرابة لا يحتمل الوقوع. {انْطَلَقَ} ذهب.
{الْمَلأُ} الأشراف ووجوه القوم، منهم أبو جهل والعاص بن وائل والأسود بن المطلب بن عبد يغوث وعقبة بن أبي معيط.
{امْشُوا} أمر بالمشي وهو نقل الأقدام وقيل الأمر بالمشي هنا لا يراد منه نقل الخطى إنما معناه سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم، والانطلاق الاندفاع في القول، والأول أظهر للسياق وهو الذي يدل عليه سبب النزول.
{وَاصْبِرُوا} احبسوا أنفسكم على عبادة آلهتكم وتمسكوا بها. {يُرَادُ} أي يطلب منا الانقياد له، أو أن هذا من نوائب الدهر مراد منا فلا انفكاك عنه، أو أن دينكم يطلب ليؤخذ منكم. {بهَذَا} بالتوحيد. {المِلَةَ} الشريعة. {الآخِرَةِ} ملة النصارى، أو قريش، أو اليهود والنصارى، أو الملة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان إذ لم يذكر لهم أنها تدعو إلى التوحيد. {إِنْ} بمعنى ما. {هَذَا} أي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. {اخْتِلاقٌ} أي كذب وافتراء.
التراكيب:
الواو في قوله: {وَعَجِبُوا} للاستئناف، والضمير في عجبوا يعود إلى كفار قريش المفهومين من المقام.
وأن مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر مقدر بمن أو اللام و {مِنْهُمْ} في محل رفع صفة لمنذر والتنوين في {مُنْذِرٌ} للتعظيم كمثله في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَاّ نُفُوراً} . والواو في قوله: {وَقَالَ} للعطف أي عطف جملة على جملة. وأصل السياق يقتضي أن يقال: (وقالوا) ولكنه عدل عن ذلك ووضع الظاهر موضع الضمير فقال: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ} تنبيها على الصفة التي أوجبت لهم العجب، حتى نسبوا من جاء بالهدى ودين الحق إلى السحر والكذب وإيذاناً بأنه لا يتجاسر على مثل هذا إلا المتوغلون في الجحود والكفران. وجملة {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} في محل نصب مقول القول، وكذلك الجملتان بعدها. وإنما ترك العطف بين جملة {هَذََا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} وجملة {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الأولى خبرية والثانية إنشائية. وكذلك ترك العطف بين جملة {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} وجملة {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} لنفس الحال، فالأولى إنشائية والثانية خبرية وترك العطف لا يوهم خلاف المراد. والهمزة في أجعل الآلهة للاستفهام التعجبي معنى كيف.
والواو في قوله {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} للاستئناف و {مِنْهُمْ} في موضع نصب على الحال من الملأ، وأن امشوا يجوز أن تكون أن مصدرية أي انطلقوا بقولهم أي امشوا ويجوز أن تكون مفسرة لانطلق لأنه ضمن معنى القول لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم أن يتكلموا، وقيل بل هي مفسرة لجملة محذوفة في محل نصب على الحال من الملأ أيضا والتقدير وانطلقوا يتحاورون أي امشوا. وقيل لا حاجة إلى التقدير ولا التضمين لأن الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام نحو انطلق لسانه فأن مفسرة له، وقوله:{عَلَى آلِهَتِكُمْ} أي عبادتها، فهي على حذف المضاف. وقوله:{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} تعليل للأمر بالصبر والإشارة راجعة إلى ظهور محمد صلى الله عليه وسلم وتأليه إله واحد المفهوم من السياق.
المعنى الإجمالي:
واستغرب هؤلاء وأنكروا أشد الإنكار لمجيء رسول عظيم يبلغهم عن ربه، ويعلمهم ويخوفهم، وهو من جنسهم في البشرية ومن نوعهم في العربية والأمية، وقال هؤلاء الجاحدون: هذا يأتي بالخوارق بواسطة تعاطي السحر وهو مغتر كثير الكذب، كيف يصير المعبودات الكثيرة معبودا واحدا فينفي الألوهية عنها. ويقصرها على إله واحد، إن تأليه إله واحد لشيء بليغ في العجب.
واندفع أشراف قريش من مجلس أبي طالب يتحاورون أي امشوا وسيروا – أو اندفعوا في الكلام – أي امشوا واثبتوا على طريقتكم، واحبسوا أنفسكم على عبادة معبوداتكم، إن ظهور محمد صلى الله عليه وسلم لأمر يطلب منا الانقياد له، أو أن هذا من نوائب الدهر ابتلينا به، وهو مراد منا فلا انفكاك لنا عنه، أو أن دينكم يطلب ليؤخذ منكم، ما سمعنا بالتوحيد في شريعة النصارى، أو في دين آبائنا أو في شريعة اليهود والنصارى، أو في الشريعة التي حدثنا بها الأحبار فإنهم لم يذكروا لنا التوحيد، وإنما ذكروا أن نبينا يبعث آخر الزمان، ما هذا الذي جاء به محمد إلا كذب وافتراء.
ما ترشد إليه الآيات:
1 – استغراب الكفار لمجيء الرسول منهم.
2 – وأن سبب الاستغراب هذا هو الكفر.
3 – وأن الكفر لا يأتي بخير.
4 – وأن الدين الشائع عند ظهور الرسول هو الشرك.
5 – مبالغة الكفار في إنكار التوحيد.
6 – تواصي الكفار للتمسك بالشرك.
7 – تكذيب القرآن ودعواهم أنه سحر.
8 – اضطراب الكفار في وصف محمد صلى الله عليه وسلم.
المناسبة:
0 بعد أن بين الله تعالى ما صدر من هؤلاء الكفار نتيجة استكبارهم بين هنا استبعادهم اختصاص محمد بالذكر والشرف دون أشرافهم بدعوى أنه ليس من أصحاب الأموال، ثم بين سبب هذا الاستبعاد وهددهم وتوعدهم.
المفردات:
{أُنْزِلَ} ألقى. {الذِّكْرُ} القرآن. {شَكٍّ} ريب. {ذِكْرَى} كلامي يعني القرآن.
{لَمَّا} حرف نفي لما يتوقع حصوله. {يَذُوقُوا} يحسوا ويختبروا طعم العذاب. {عَذَابِ} عقاب.
{خَزَائِنُ} كنوز. {الْعَزِيزِ} الغالب القاهر. {الْوَهَّابِ} الواسع العطاء الكثير المواهب. {فليرتقوا} فليصعدوا. {الأََسْبَابِ} المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم. {جُنْدٌ مَا} أي جمع حقير. {مَهْزُومٌ} مكسور مقهور. {الأَحْزَابِ} الكفار الذين تعصبوا في الباطل.
التراكيب:
الهمزة في قوله: {أَأُنْزِلَ} للاستفهام الإنكاري. وقوله {مِنْ بَيْنِنَا} يشير إلى سبب الإنكار وهو الحسد الذي طحن صدورهم حتى أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم، كما حكى عنهم في سورة الزخرف إذ قالوا:{لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . وبل في قوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} للإضراب الإبطالي عن مقدر يفهم من السياق تقديره: "ليس إنكارهم للذكر عن علم بل هم في شك منه". والإِخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم: إن هذا إلا اختلاق. وبل في قوله {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} للاضراب الانتقالي لبيان الحال الذي يزول فيه شكهم. ويذوقوا مجزوم بلما، والتعبير بلما للدلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع. وقوله {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} للرد على قولهم أأنزل عليه الذكر من بيننا، وأم فيه منقطعة بمعنى همزة الاستفهام الإنكاري، وإنما قدم الظرف لأنه محل الإنكار. وإضافة الرب إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم للتشريف واللطف به. ولما استفهم استفهام إنكار في قوله:{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} وكان ذلك دليلا على انتفاء تصرفهم في هذه الخزائن أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ} "أي ليس لهم من ذلك شيء ". والفاء في قوله {فَلْيَرْتَقُوا} فصيحة. و {جُنْدٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هم جند وما صفة لجند لإفادة التحقير، وهنالك صفة ثانية له، و {مَهْزُومٌ} خبر ثان. وقيل: جند مبتدأ وما صلة، وهنالك نعت ومهزوم الخبر. قيل إن الإشارة بهنالك إلى الارتقاء في الأسباب أي هؤلاء إن راموا ذلك جند مهزوم. وقال مجاهد وقتادة:"الإشارة إلى مصارعهم في بدر".
المعنى الإجمالي:
ننكر أن يلقى على محمد القرآن وأن يختص بالشرف من بين أشرافنا، وليس بأكثرنا مالا، ولا أعظمنا جاها وليس إنكار هؤلاء للذكر عن علم بل هم في ريب من القرآن، وهم كذبة في قولهم إن هذا إلا اختلاق، بل هؤلاء لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، وسأنزل بهم قريبا، وهذا هو الحال الذي يزول فيه ريبهم وشكهم، أعند هؤلاء كنوز رحمة ربك يتصرفون فيها كيفما يشاءون حتى يصيبوا بها من شاءوا، ويصرفوها عمن شاءوا، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم، وأهوائهم، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم، ليس لهم ذلك، فالنبوة عطية من الله تعالى يتفضل بها على من يشاء من عباده – وهو أعلم حيث يجعل رسالته – لا يمنعه مانع، ولا يقهره قاهر، وهو الغالب الواسع العطاء. بل ألهؤلاء سلطان العوالم العلوية والسفلية؟ إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه، ويدبروا أمر العالم، هؤلاء القوم إن راموا ذلك جمع مقهور وجند مكسور من هؤلاء الجماعات التي تحزبت على أنبيائها في الباطل فقهرناهم وعندما تمت تحزباتهم كانت مصارعهم.
ما ترشد إليه الآيات:
1 – حسد الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم.
2 – إنكارهم القرآن بسبب الحسد.
3 – ميلهم إلى التحكم في رحمة الله.
4 – إنكارهم القرآن ليس عن علم.
5 – استغراقهم في الشك.
6 – هؤلاء لا يؤمنون إلا عند عقاب رادع.
7 – سيحل بهم العقاب قريبا.
8 – لا عطاء إلا من مالك.
9 – تبكيتهم وتوبيخهم.
الاقتصاد العالمي بين الاشتراكية والإسلام
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
بعض هذه الفصول طالعتها إبان صدورها في مجلة البعث الإسلامي، وكنت أتشوق لمتابعتها وقراءتها مجتمعة، ثم شاء الله أن أكتب مقدمتها – في الترجمة العربية – فتفرغت للاطلاع عليها جميعا، وكانت تلك فرصة ماتعة للإحاطة بمبادئها وغاياتها وهي متصلة الحلقات، يوضح بعضها بعضا، ويمهد بعضها لبعض.
وعلى الرغم من أنها كتبت قبل الكثير من التطورات الأخيرة التي اعتورت الأوضاع الدولية، والأفكار العالمية، والتنبهات الإسلامية في أوساط المثقفين وأولي العلم، فقد اشتملت على الكثير من الحقائق الأساسية الكشافة لحقيقة الفروق القائمة بين الإسلام والاشتراكية.. وإنما نظمت هذه البحوث – فيما يبدو لي – لمناقشة المخدوعين بأضاليل الاشتراكية من أبناء المسلمين، الذين أخذوا ببريقها الخادع ودعاياتها النفسية المركزة، وبخاصة في شبه القارة الهندية، وهم، كما يستخلص من إشارات الكتاب، يقبلوا على هذه المذاهب الدخيلة كفرا بدينهم أو إيثارا لها عليه – في بادئ الأمر – بل كانوا مدفوعين إلى ذلك بباعث الجهل لحقيقة الإسلام أولا، ثم امتلاء الذهن بالأحلام الزائفة التي صورت لهم تلك النحل الشيطانية في قمة الحلول العادلة لمشاكل البشرية.. ولهذا عني المؤلف المؤمن – رحمه الله – بعد المقارنات الدقيقة بين واقع الاشتراكية – على اختلاف ألبستها – ومثاليات الإسلام العملية التي تهدي دائما وأبدا للتي هي أقوم.. وليست هذه الفصول في تقويمها الحق سوى ظاهرة رائعة من النشاط الفكري الحي، الذي ينهض به العقل الإسلامي في تلك الربوع، ممثلا في التراث الواسع الذي يكتبه علماء الإسلام هناك، فلا يلبث أن ينتشر في جوانب العالم الإسلامي كلها كأشعة الشمس، تشرق على جانب من الأرض، ثم تمضي في طريقها لتعمها جميعا..
لقد دسست الدعوة الاشتراكية على المسلمين، وهم يتخبطون في أشراك الاستعمار الذي حطم طاقاتهم، وسد في وجوههم سبل الحياة الكريمة، وغشى أعينهم بطلاء حضارته المشككة في كل فضائل الوحي.. وكان حملة هذه الدعوة الدخيلة شديدي الحرص على عرضها في صورة القوة المنقذة من أغلال الذل والتخلف، إلى جانب حذقهم في التركيز على النفوس الخاوية من حصانة المعرفة الصحيحة لحقائق الإسلام، فكان طبيعياً أن يكثر ضحاياها في أوساط الجاهلين وأشباه المتعلمين، ولا سيما أولئك الذين تأثروا بأساليب التفكير الغربي الذي لا يتجاوز نطاق المادة.. ومن هنا فتحت الثغور في صفوف المسلمين لهذه السموم، حتى بات من غير المستغرب أن تجد إنسانا يجمع قلبه بين النقيضين، فيزعم أنه مسلم وماركسي معاً، بل بات مألوفاً أن تقرأ وتسمع بذلك الشيء الطريف العجيب الذي يسمونه "اشتراكية الإسلام"فتؤلف فيه الكتب، وتذاع فيه الأحاديث، وتلقى حوله المحاضرات والمناقشات.. وفي بعض هذه البحوث علم وفقه ودين، وبين مؤلفي هذا الضرب من المصنفات رجال لم تشب إخلاصهم للإسلام شائبة فيما نعلم.. فهم لم يريدوا بما كتبوه نصرة الماركسية وفراخها الإبليسية، معاذ الله، ولكنهم رأوا انخداع الشباب حولهم بما نسب إليها من صفات العدالة والإنصاف، فسارعوا إلى عرض عدالة الإسلام العليا، تحت الاسم الذي فتنوا به، ليقرعوا أبواب قلوبهم بحقائق الشريعة الغراء. ولكنهم مع ذلك مؤاخذون بخطأ التسمية، لأن شياطين الماركسية، المزودين بكل وسائل الخداع والاستغلال والتضليل، قد عرفوا كيف يستفيدون من هذه العنوانات، فيوهموا أولئك السذج بأن اشتراكيتهم هي غاية الإسلام، لأنها السبيل الوحيدة لبناء (مجتمع الكفاية والعدل) و (الديمقراطية الاجتماعية) !.. ولا يزال كثيرون من الناس يتذكرون تلك الدعاية المركزة التي استمرت على بثها لمدة طويلة إذاعة إحدى الحكومات العربية التي أوقعتها الديكتاتورية في حبائل
الماركسية باسم (الاشتراكية العلمية) .. مستغلة اسم أحد هذه المؤلفات وشهرة مصنفه الإسلامية، تقتطع منه نصا من هنا ونتفة من هناك، وعبارة من هنالك لتعمق في صدور المضللين من مستمعيها شعور التصديق بهذه الانحرافات الخبيثة، ولم يمنعها من ذلك احتجاج المؤلف – غفر الله له – يومئذ وتسفيهه تصرفها غير الشريف على صفحات الصحف!..
ولقد كان الجهل بحقيقة الاشتراكية ولا يزال من أكبر المساعدات على انتشارها في غمار العامة وأشباههم.. إذ كان كل ما يعرفونه من أمرها أنها تنظيم اقتصادي بحت، يصون للعمال والفقراء حقوقهم في الحياة وفي ثمرات كدهم من عبث الظالمين من ملاك المال ووسائل الإنتاج.. لا يتجاوز ذلك إلى أي شيء من مقدسات الناس وكرامتهم الإنسانية وتطلعاتهم الروحية.. ولكنهم ما إن أسلموها ثقتهم حتى وجدوا أنفسهم مقطورين بعجلتها إلى أعماق الظلمات، وإذا هم أخيرا في أقصى القاع، لا يملكون قدرة حتى على رفع أبصارهم إلى ما فوق مواقع أقدامهم، وهناك فقط علموا أن الاشتراكية ليست تنظيما اقتصاديا صرفا كما أوهموا من قبل، ولكنها (دين شيطاني) يريد أن يفرض نفسه على كل مقدرات الإنسانية خلقا وفلسفة وفنا وأدبا وعلما وسلوكا.. ثم يحبسها ضمن أغلال المادة فلا يسمح لها بالتفكير في ما وراء هذه القضبان من روحانية وألوهية وحشر وحساب!.. ثم كان عاقبة ذلك ما نراه من أقدام هؤلاء المضللين على تخريب الحياة كلها بإغراقها في سيول من الكوارث لا يكاد يتصورها الخيال، لولا بروزها في كل مكان تغلغلت إليه سموم هذه الدعوة اليهودية المدمرة!. ولا جرم أن المؤلف رحمه الله لو امتدت به السن إلى اليوم، وأتيح له أن يشهد ما شهدناه وتسامعنا به من جنون هذه النحلة الشيطانية وزوابعها المتبرة في الصين، حيث قامت زحوف الثورة الثقافية بما عجزت عنه كل الثعابين والجرذان والسباع الضواري في سائر أنحاء العالم، إلى جانب عملها في المجر حيث سحقت أربعة عشر
ألف دبابة روسية أجساد مئات الألوف من الناس الذين جرؤا على المطالبة بحقوقهم الإنسانية، ثم في تشيكوسلوفاكية، حيث اقتحمت مئات ألوف الجنود الحمر بآلياتهم الجهنمية أنحاء البلاد، التي حاولت تحرير نفسها من بعض قيود التبعية الشيوعية.
وأخيراً ما صرنا إليه من هزائم حزيران التي توجب بها الاشتراكية المذلة جرائمها في تحطيم الطاقات الإسلامية، والحيلولة بينها وبين الدفاع عن بقية الوطن الإسلامي في قلب الديار العربية، ثم ما نواجهه اليوم من عدوان صارخ تحتاج به الوثنية – ومن ورائها أعوانها الطغاة من موسكو وواشنطن وتل أبيب – حرمات الأرض الطاهرة – باكستان – التي أقامها الإسلام لتكون مجال التطبيق العملي لنظامه الأمثل في العالم الضائع، فأبى حكامها الزائفون إلا أن يجردوها من كل المقومات الإسلامية، حتى فتحوا حصونها للاشتراكية الهدامة، فإذا هي تقتحم القلوب الفارغة من معانيه العليا، ليكونوا الأدوات المنفذة لأهداف الوثنية الهندية والبلشفية الصينية والروسية، فيعملوا في أمتهم من ألوان الفتك ما لم يخطر حتى في تصورات وحوش السيخ! .. أجل.. لو أتيح له أن يرى ذلك وأشباهه من مذابح ومحارق الاشتراكية في قلب الوطن الإسلامي وما حوله.. لما اكتفى بصفحاته هذه، ولوجد المجال متسعا لأضعاف ما كتب، ولا يراد أضعاف ما عرض من شواهد بل فضائح هذه النحلة الشيطانية، التي لم يعرف التاريخ قط وسيلة أنجع منها في الهبوط بمكانة الإنسان إلى أدنى دركات الحيوان.
ومن مقتضيات المقارنة بين الإسلام والاشتراكية أنها تسوق إلى الكلام عن الجانب الآخر من الجاهلية العالمية الجديدة، وكذلك فعل المؤلف إذ تناول بالنقد العلمي نفسه معايب الرأسمالية وعواقب بغيها الرهيب، وأبرز بإنصاف العالم الدقيق دورها في التمهيد لذلك الطغيان، الذي هدم السدود الخلقية، التي أقامها الوحي والحضارة وتجارب عشرات الأجيال من حكماء البشر، في وجه الغرائز المنحطة، التي فجرتها التحريضات الاشتراكية في صدور الطبقة العاملة، فجعلت منها ألغاما تنسف كل ما بنته الإنسانية من مشاعر الاستقرار والمودة والخير.. وبذلك كشف الستار الموهوم عن مدى القرابة بين الاشتراكية وأختها الفوضوية الكافرة، فكانت هذه المذاهب التي أتمت دور الرأسمالية الغربية في تخريب الحياة البشرية.. لأن من طبيعة الوباء أن يوقظ أقصى طاقات الجسم الموبوء، فيكون رد الفعل لكل صدمة متناسبا مع ثقلها.. وهكذا قوبل نزوع الرأسمالية خلال الإسلام إلى التهام كل شيء بالاشتراكية التي تستهدف تجريد الإنسان من كل الوسائل التي تمكنه من السيطرة على أي شيء..
وبإزاء هذا النقد الموضوعي الرصين لكلا النظامين الهدامين، يأتي مجهود المؤلف الموفق في عرض عظمة الإسلام واحتوائه كل الأسباب التي من شأنها حماية الجنس البشري من الانحرافات المهددة لأمنه.. فبينما تعطي الرأسمالية الفرد كل الحرية في تسخير القوى الإنسانية لمصلحته بكل الوسائل الممكنة حتى القانون والاحتكار والاستعمار.. والتحكم في مختلف المرافق الحيوية دون تحديد.. وبينما تقيد الاشتراكية حريته حتى تمسخ إنسانيته، وتلغي فطرته، لتجعل منه أداة إنتاج لمصلحة الطبقة الحاكمة وحدها.. بينما يحدث ذلك يتقدم الإسلام بحلوله العملية المبرأة من كل نقيصة، إذ يقيم كيان الإنسان على أساس الإيمان بالله رب كل شيء وخالق كل شيء، فيجمع بذلك أفراد المجتمع البشري على دستور الأخوة، الذي يحدد للفرد مجاله الحيوي ضمن مصلحة الجنس كله، فالفرد في ظل هذا النظام الرباني مطلق الطاقات، يضرب في مناكب الأرض للحصول على الثروة ولكنه ملزم الوقوف عند حدود مصادرها المشروعة التي لا ضرر فيها ولا ضرار، وملزم المشاركة في تأمين كيان الجماعة بأداء حقها من جهده، ثم بترك ثمار مساعيه أخيرا لتأخذ طريقها إلى التوزع، فلا تجتمع في يد واحدة على حكم القانون الإنجليزي أو الوثني. ولا توقف على الكلاب والقطط على طريقة الحماقة الأميركية.. وفي أثناء ذلك يحرم عليه استغلال درهم واحد من ماله في امتصاص جهود الآخرين عن طريق استخدامهم لإنماء ثروته بالربا الذي لا يشارك في أي جهد، كما يحرم عليه احتكار ضروريات الحياة للحصول على المزيد من الربح، ويعتبر مجرد كنزه المال، بعزله عن مجال النشاط، المساعد على توسيع دائرة النفع العام، جريمة تستحق العقاب الأليم.. إلى آخر ما هنالك من عوامل التضامن الأخوي، الذي يضع الثروة على اختلاف صورها في مكانها الطبيعي، وسيلة للسعادة التي يستأهلها المخلوق، الذي أكرمه الله فأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه.
وبمثل هذه الموازنة الرائعة يزيف المؤلف ادعاء أولئك المخدوعين والخادعين الذين يزعمون أن الإسلام هو الاشتراكية، أو أن في الإسلام شيئا من هذه الاشتراكيات التي تدمر هناءة الشعوب.
وأخيرا
…
إن المدقق في تضاعيف هذا الكتيب ليقدر للمؤلف المؤمن رحمه الله جهده المشكور في خدمة الحقيقة، ويتوقع مخلصا أن يكون عمله هذا أحد الميراث الثلاث التي إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا منها - كما ورد في الحديث الصحيح -.
وأما بالنسبة إلى مترجمه فإلى جانب مشاركته في الأجر الذي نرجوه له من الله على نقل هذا البحث النافع إلى قراء العربية، لا يسعنا إلا أن نستشعر الكثير من الغبطة إذ نعتبر عمله هذا إحدى ثمرات الجامعة الإسلامية التي نتوقع لها أخوات وراء أخوات بفضله تعالى ومنه، إنه نعم الموفق والمستعان، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على مصطفاه الأمين للناس أجمعين.
ملاحظة: كتب هذا البحث ليكون مقدمة لكتاب وضعه بالأوردية الكاتب الإسلامي المرحوم الأستاذ "مسعود الندوي" وترجمه خريج الجامعة الأستاذ صهيب عبد الغفار حسن.
الإمام أحمد ودفاعه عن السنة
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
ليس بخاف على أحد أن إسلامنا قد مر بأدوار مختلفة في عصور شتى بأزمات وعقبات لم تكن أخف وأسهل مما تعيش فيها اليوم أمتنا الإسلامية في جهات متعددة من العالم الإسلامي وغيره إلا ما شاء الله تعالى.
وليس غرضي في هذه المقالة المتواضعة أن أتعرض لتلك الأوضاع التي سدت طرق الخير والرشاد والتقدم في وجه العالم لأني لست ممن يضع الحلول السريعة لتلك الأوضاع المشار إليها، ولأن هناك بحمد الله رجالا مخلصين وهبهم الله تبارك وتعالى همة عالية وعزما أكيدا وإيمانا راسخا ولا تزال مساعيهم مبذولة لجمع الصفوف وتوحيد الكلمة وتثبيت الحق ورفع راية الحق عالية خفاقة وعلى رأسهم إمامنا المفدى حامي حمى الدين والداعية الإسلامي الكبير فيصل بن عبد العزيز آل سعود المعظم رعاه الله بعين رعايته ووفقه لكل خير، آمين.
نعم، قلت: قد مر الاسلام بأخطر أزمة وأشدها وأقساها وذلك في بداية القرن الثالث عندما تعرض لأكبر حملة شعواء من قبل تلامذة اليونان المتفلسفة وعلى رأسهم الخليفة العباسي عبد الله المأمون الرشيد القرشي.
قال الإمام ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية 10: 266 – 267: "ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين سنة 212. وفي ربيع الأول أظهر المأمون في الناس بدعتين فظيعتين إحداهما أطم من الأخرى وهي القول بخلق القرآن.
والثانية: تفضيل علي بن أبي طالب على الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أخطأ في كل واحدة منها خطأ كبيرا فاحشا وأثم إثما عظيما ".
قلت: هذا بداية الشر الذي بدأ في ذلك اليوم من تاريخ الاسلام ودعوة صريحة إلى الالحاد وإنكار صفات الباري جل وعلا، ثم تطورت هاتان الفتنتان، حتى أخذتا شكلا آخر من حيث القوة والنشر حتى أصبحتا دين الخليفة وروحه وامتزجتا بعروقه، وهكذا هما في كل يوم في شأن وقوة إلى أن بلغتا أوجهما في سنة 218، حسب ذكر عمدة المؤرخين الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى إذ يقول 10: 272:"وفي هذه السنة يعني سنة 218 كتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن وأن يرسل إليه جماعة منهم وكتب يستحثه في كتاب مطول". قلت: وكتب المأمون كتبا أخرى مماثلة إلى جميع نوابه في جميع البلدان وقد سردها الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه تاريخ الأمم والملوك 10: 284 – 292. ومن هنا نستنبط أن هذا المذهب المنكر الذي اتخذه المأمون كان مذهب الدولة الرسمي وكان مؤيدا بعصا السلطان القوية ولم يكن للناس بد من قبولهم إياه وإقبالهم عليه سواء أرضوا أم كرهوا فإذا كان الأمر كذلك فمن ذا الذي يواجه هذه القوة الباطلة وزد على ذلك أن الاكثرية الغالبة ممن كانوا يعيشون للبطون مع انتسابهم إلى العلم كانوا مع المأمون. قال أبو الفداء في نفس الصفحة:"والمقصود أن كتاب المأمون لما ورد بغداد قرئ على الناس وقد عين المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه وهم محمد بن سعد الكاتب"(قلت: صاحب كتاب الطبقات الكبرى ويعتبر كتابه من المراجع الهامة في تاريخ الرجال) ، "وأبو مسلم المستملى ويزيد بن هارون ويحي بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب وإسماعيل بن أبي مسعود وأحمد بن الدورقي فبعث بهم المأمون إلى الرقة، قلت: أما يزيد بن هارون فلا وجه لذكره هنا لأنه توفي في السنة السادسة بعد المائتين كما ذكره الحافظ في التقريب 2: 372 إذ يقول: "يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي ثقة متقن عابد من التاسعة
مات 206 وقد قارب التسعين". انتهى". قلت: قال ابن كثير: "فامتحنهم المأمون بخلق القرآن فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقته وهم كارهون فردهم إلى بغداد وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء ففعل إسحاق ذلك". قلت: هؤلاء الممتحنون جلهم من كبار المحدثين ومن أئمة الجرح والتعديل ومن شيوخ جبل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى الذي نحن بصدد ترجمته.
والبحث في ذلك طويل جدا وما قام به المأمون من حركة كبيرة لنشر هذه المذاهب الباطلة يطول ذكرها.
وقد سبق أن قلت إن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب نائب المأمون ببغداد أمر من قبل المأمون بامتحان القضاة والمحدثين. قال الإمام ابن كثير 10: 273: "فأحضر إسحاق جماعة من الأئمة وهم أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقتيبة وأبو حيان الزيادي وغيرهم كثيرون" ذكرهم ابن كثير. قلت: فامتحنهم واحدا فواحدا ولما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فقال له: أتقول إن القرآن مخلوق؟ فقال: القرآن كلام الله لا أزيد على هذا، فقال له: ما تقول في هذه الرقعة؟ - قلت: كانت تلك الرقعة التي كتب فيها بشر بن الوليد إقراره حول مسألة خلق القرآن وكان موافقا لما كان عليه مذهب السلف رضي الله تعالى عنهم وبشر هذا هو بشر بن الوليد الكندي وهو ثقة مأمون ذكره الخطيب في تاريخه 7: 74- قلت: قال الإمام أحمد مجيباً لإسحاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فقال رجل من المعتزلة: إنه يقول سميع بأُذن وبصير بعين فقال له إسحاق: ما أردت بقولك سميع بصير؟ فقال رحمه الله: أردت منها ما أراده الله منها وهو كما وصف نفسه ولا أزيد على ذلك فكتب جوابات القوم رجلا رجلا وبعث بها إلى المأمون، وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرها لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه وإن كان له رزق على بيت المال قطع وإن كان مفتيا منع من الإفتاء وإن كان شيخ حديث ردع من الأسماع والأداء.
ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء فلا حول ولا قوة إلا بالله.
قلت: أتعرض أولا لترجمته ثم لوقوفه بتلك الوقفة التاريخية التي تشبه وقفة الصديق رضي الله تعالى في أصحاب الردة، ثم أتعرض لتعريف كتابه العظيم علل الحديث ومعرفة الرجال، ثم الالتماس والرجاء من إمامنا المفدى وقائد مسيرتنا الإسلامية وأب المسلمين بأن يأمر بطبع هذا الكتاب القيم المبارك لرجل عظيم بارع أمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
فأما ترجمته فإنها ما شاء الله أفردت فيها تصانيف الأئمة رحمهم الله تعالى منهم الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفي سنة 597 فقد صنف في مناقب الإمام أحمد رحمه الله مجلداً لطيفاً بلغ ثلاث وثلاثين وخمسمائة صفحة وإنه كتاب حافل جواد ممتع كتب على طريقة المحدثين بإسناده إلى من أخذ العلم عن الإمام أحمد مباشرة وقد سبق الإمام ابن الجوزي شيخ الإسلام الهروي إلا أن كتابه مفقود وترجم له أيضا الخطيب البغدادي في تاريخه 4: 412 – 423 إذ يقول الخطيب:"الإمام الجليل أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسعر أبو عبد الله إمام المحدثين الناصر للدين والمناضل عن السنة والصابر في المحنة مروزي الأصل قدمت أمه بغداد وهي حامل فولدته ونشأ بها وطلب العلم وسمع الحديث من شيوخها ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة".
قال الخطيب بإسناده عن عبد الله بن أبي داود، قال:"أحمد بن حنبل من بني مازن بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ابن قاسط بن هنب بن أفضى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار أخي مضر بن نزار وكان في ربيعة رجلان لم يكن في زمانهما مثلهما لم يكن في زمن قتادة مثل قتادة".
قلت: لعله يقصد من ذلك قتادة بن دعامة السدوسى أبو الخطاب البصري ثقة ثبت يقال ولد أكمه وهو رأس الطبقة الرابعة مات بضع وعشرة ومائة وهو من رجال الكتب الستة قاله الحافظ في التقريب.
وقال بن أبي داود: "ولم يكن في زمان أحمد بن حنبل مثله".
قال الخطيب راداً على عباس الدوري وأبي بكر بن أبي داود بقوله:"قلت أحمد من بني ذهل بن شيبان غلط"، إنما كان من بني شيبان بن ذهل بن ثعلبة وذهل بن ثعلبة هذا هو عم ذهل بن شيبان".
قال الخطيب 4: 413:"حدثني من أثق به من العلماء بالنسب قال: مازن ابن ذهل بن ثعلبة الحصن هو ابن عكابة بن مصعب بن علي ثم ساق النسب إلى ربيعة بن نزار كما ذكرناه عن ابن أبي داود".
قلت: قد يكون الخطيب مصيباً فيما يقول، وأما قوله: حدثني من أثق به من العلماء بالنسب فهذا مما لا يحتج به علماء الحديث، وأما عند علماء الأنساب فأنا لا أدري والله تعالى أعلم.
وترجم لهذه الشخصية العظيمة الفذة الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفي سنة 327هـ في كتابه تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل 292 – 313.
مقدمات في المحنة
قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية 10: 331 – 332:"قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل".
قال البيهقي: "لم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له واتفق خروجه إلى طرطوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد كما مر بكم ذكره".
وقال الإمام ابن كثير:" واتفق للمأمون ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة 218". قلت: نسأل الله العفو والعافية عن سوء العاقبة. قال ابن كثير:"فلما وصل الكتاب كما ذكر استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين".
قلت: وكان من المجيبين الإمام يحي بن معين وابن أبي خيثمة ومحمد بن سعد وغيرهم وكانوا من المكرهين كما مرّ، وقال الإمام ابن كثير:"واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ومحمد بن نوح رحمه الله الجنديسابوري فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم يقال له جابر بن عامر فسلم على الإمام أحمد وقال له:"يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وإنك إن لم تقتل تمت وإن عشت عشت حميدا".
قلت: صدق الأعرابي رحمه الله ورب أحمد، وكيف لا؛ لأن محنة أحمد ووقفته تلك أعادت للقرآن الكريم – بعد الله عز وجل – حقيقته الكبرى وشرفه العظيم بأنه صفة من صفات الباري جل وعلا وكذا للسنة المحمدية قوتها ونضارتها وحجيتها.
قال الإمام ابن كثير:"قال أحمد وكان كلام الأعرابي مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك ما يدعونني إليه، فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت لو صح هذا فهو طامة كبرى لأن الحلف بغير الله شرك، ثم قال الإمام أحمد قيل لي: لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف قال: فجثي الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي عز حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فأكفنا مؤنته، قال: فجاهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، قلت وقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله:"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وكان أن شاء الله تعالى الإمام أحمد رحمه الله من أولئك العباد الصالحين الذين أشار إليهم الحديث.
وقال الإمام أحمد:"ففرحنا ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد والأمر شديد فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى ونالني منهم أذى كثير". قال الإمام ابن كثير:"وكان في رجليه القيود ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان فأودع في السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا وقيل نيفا وثلاثين شهرا ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم. وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه.
الإمام أحمد بين يدي المعتصم في حالة القيود
لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده قال أحمد فلم أستطع أن أمشي بها فربطها في التكة وحملتها بيدي ثم جاءوني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود وليس أحد معي يمسكني فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم فأدخلت في بيت وأغلقت علي وليس عندي سراج فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه ثم قمت ولا أعرف القبلة فلما أصبحت إذ أنا على القبلة ولله الحمد ثم دعيت فأخلت على المعتصم فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال المعتصم: أليس قد زعمتم أنه حديث السن وهذا شيخ مكهل؟
قال الإمام أحمد: فلما دنوت منه سلمت قال لي: أدنه فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ثم قال: اجلس فجلست وقد أثقلني الحديد فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلى ما دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قلت فإني أشهد أن لا إله إلا الله، قال ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه وذلك أني لم أتفقه كلامه"، قلت: كره كلامه أبو عبد الله رضي الله عنه أشد الكراهية وكيف يتفقه كلامه وعنده كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظا دون المعنى وقد كفياه عما سواهما لأنها علم ونور وبرهان وحجة وأما ما كان عند ابن أبي دؤاد وأضرابه فإنه جهل وغواية وضلالة وفساد ودمار نسأل الله العفو والعافية عن تعليقها للقلب فتفسده وتضره.
"ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك ثم قال: يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ قال أحمد: فقلت: الله أكبر هذا فرج للمسلمين ثم قال: ناظره يا عبد الرحمن كلمه".
قلت: لم أبحث عن عبد الرحمن هذا فإنه قد يكون فيما أظن أبا عبد الرحمن لأن كنيته أحمد بن أبي دؤاد بن جرير بن مالك الأيادي المعتزلي عليه من الله ما يستحق.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "فقال لي عبد الرحمن ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه فقال المعتصم: أجبه فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت: القرآن من علم الله ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله فسكت فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين كفرك وكفرنا فلم يلتفت إلى ذلك فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن فقلت: كان الله ولا علم فسكت فجعلوا يتكلمون من هاهنا وهاهنا فقلت يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟
فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما.
قلت: ثم جرت بين القوم وبين إمامنا رحمه الله تعالى مناظرات طويلة وقد تغلب حجته على حججهم، ويقول الإمام أحمد:"وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحداً يقولها وقد تكلم معي ابن غياث المريسي"- قلت: عليه من الله ما يستحق- بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول إلا أني أعلم أن الله أحد صمد ليس كمثله شيء، فسكت، وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا من بعض المحدثين كلاما يتسلقون به إلى الطعن فيه وهيهات وأنى لهم التناوش من مكان بعيد، وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول:" يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي فأقول: يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها".
-للبحث صلة-
فضل السكوت
قالوا سكت وقد خوصمت، قلت لهم
إن الجواب لباب الشر مفتاح
فالصمت عن جاهل أو أحمق كرم
أيضا وفيه لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي ساكنة
والكلب يخسى لعمري وهو نباح
المثل العليا للشباب
للشيخ محمد المهدي محمود
المدرس بدار الحديث بالمدينة التابعة للجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من اصطفاه الله رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي سعدت الدنيا ببعثته واستنارت برسالته واهتدت بنور الله تبارك وتعالى جل شأنه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
حمل هذا المصباح السماوي المبارك المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}
وهنا استنارت الدنيا بهذه المثل العليا الصادقة الربانية، المثل العليا التي تمثلت في هدي القرآن الكريم، في كتاب الله، وكتاب الله نور من الله لأهل الدنيا كي يهتدوا به في ظلمات الحياة، والحياة كلها ظلمات، ظلمات الشك والوهم، والظلم والانحراف، والخيانة والأنانية، والبخل وسوء الخلق. لذلك لابد من مصباح ينير الطريق يرسم الحياة على أجمل وأصفى ما تكون الحياة، يرسم الحياة الهادئة الآمنة الوديعة التي يستطيع الإنسان أن يحيا فيها مطمئنا يشعر بالسعادة الوارفة الظلال، الطيبة الثمار، وهكذا كان كتاب الله سبحانه وتعالى أحكمه الباري وهو العليم بما يصلح عباده وخلقه، فهداية القرآن جمعت مكارم الأخلاق السامية في أجمل صورة، وأبهى حلة، ونحن إذا بحثنا عن المثل العليا كأخلاق وصفات، فمصدرها الأول، وينبوعها الصافي، وروضها الوارف، وزهرها الجميل، ووردها الندي، وعطرها الشذي، إنما هو كتاب الخالق جل وعلا.
وإذا بحثنا عن المثل العليا في بني الإنسان بحثنا عن الأخلاق في أسمى صورها العملية الكريمة إنما نجدها في إنسان تمثلت فيه أخلاق القرآن في إنسان كامل أثنى عليه الخالق جل وعلا بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
وصدق الحق سبحانه وتعالى فلقد كانت عظمة أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه مستمدة من القرآن الكريم كما أوضحت ذلك الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها حينما سئلت عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن".
جاء القرآن بكل خير، ونهى عن كل شر، جاء بالتوحيد، والرحمة، والعدالة، والبر، والشفقة، والحلم، والإحسان، والأمانة في أدق صورها، والبر بالوالدين، والشفقة بالفقير والمسكين، ورعاية اليتيم، وإكرام الجار، والصدق في جميع الأقوال، والكرم، والجود والسخاء، والعفة، والمروءة، والنجدة، والحياء. أتى القرآن بكل خير، وبين ذلك خير بيان، في أسلوب جميل جذاب يسري إلى القلوب، فيستولى عليها ويوجه الإنسان إلى الحق والخير والفضيلة والسعادة في الدنيا والآخرة.
هذه بعض أمثلة مما جاء به القرآن من مكارم الأخلاق تصور المثل العليا في أجمل صورها، وقد أوردنا قطرة من بحار معاني آيات الله في كتابه التي لا يحصيها إلا الله جل وعلا، وتمثلت هذه الشيم العالية والأخلاق الربانية في أكمل صورة في أخلاق المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
وعلى هذا الأساس قامت الدولة الإسلامية الأولى تمسك بكتاب الله وأسوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتربى أبطال الإسلام وعظماؤه على هذه المأدبة القرآنية والأخلاق المحمدية.
لقد صاغ القرآن أبطال الرجال وجعل منهم أساتذة للعالم جعل منهم بدورا نيرة وشموسا ساطعة، فها هو أبو بكر رضي الله عنه في بره ولينه، وإيمانه القوي، وحرصه على المحافظة على أركان الإسلام، وها هو عمر رضي الله عنه الذي ضرب أعلى مثل في المحافظة على الرعية في خوف من الله وخشية من الله ثم ها هو عثمان عنوان الحياء والرحمة وسيدنا علي رجل البلاغة، والشجاعة، والقضاء، والعلم بكتاب الله.
إن سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرة عطرة شذية جميلة، هي عنوان الكمال المستمد من تعاليم القرآن الكريم، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، على أن تاريخ الإسلام مملوء بصور البطولة والعظمة، والشخصيات النبيلة الكريمة وأن سيرتهم العطرة تحمل عبيرا جميلا يسعد الإنسانية على ممر العصور والأزمان، وإن الشعوب العظيمة التي تريد أن تحيا حياة كريمة حياة العزة والكرامة، والسؤدد والمجد، حياة البطولة والقوة، تحرص كل الحرص على التمسك بالمثل العليا ونشر هذه المبادئ القويمة والأخلاق الكريمة ممثلة في الحكمة البالغة وممثلة في سلوك عظماء الرجال تحرص الدولة على أن يترسم شبابها هذه المثل العليا فتسمو نفوسهم إلى المجد، وتصبو إلى المعالي والرقي والفلاح.
إن الشباب عماد الدولة تعتمد عليه في مجدها وعظمتها، في نهضتها ورقيها، في حياتها السعيدة الرغيدة كي تأخذ مكانها في مصاف الدول العظمى التي تنشد المجد والعزة والكرامة.
ومن أولى بكل هذا من الشعوب الإسلامية ذات التاريخ المجيد يوم أن كانت مجتمعة تحت راية الخلافة الإسلامية تحت راية القرآن متحدة متعاونة تظللها عناية الله، ويصحبها نصر الله تبارك وتعالى.
إن الشباب حينما تتضح أمامه المثل العليا، فيتمسك بمكارم الأخلاق، ويهتدي بنبراس حياة عظماء الرجال، يسير في حياته على ضوء هذه المثل، فيستنير أمامه طريق الحياة الكريمة، ويعرف درب البطولة الحقة التي اهتدى بها السابقون من العظماء والرجال والأبطال.
وللوصول إلى هذا الهدف السامي والغاية النبيلة ينبغي أن نحرص على ما يأتي:
أولاً: دراسة السيرة النبوية دراسة مستفيضة دراسة من ورائها العبرة والقدوة الحسنة، دراسة نستلهم منها مدى ما كان عليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صور "بطولية"من عظمة الأخلاق الحقة كما أرشدنا ربنا سبحانه وتعالى بقوله المبارك:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .
ثانياً: إعادة دراسة التاريخ الإسلامي في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا دراسة مستفيضة مع إبراز الجانب الخلقي والتعبدي في حياة رجال الإسلام وعدم الاقتصار على الجانب السياسي.
ثالثاً: تطهير أجهزة الإعلام في جميع الدول العربية والإسلامية من آثار الانحلال الخلقي الذي يتمثل في إذاعة الأغاني الخليعة الفاجرة الداعرة، والأفلام والصور العارية والثقافات المنحرفة المنحلة.
رابعاً: تثقيف المرأة ثقافة دينية ثقافة هادفة لمكارم الأخلاق كي تدرك المرأة رسالتها الفطرية الطبيعية التي فطرها الله عليها، هذه الرسالة العظيمة التي تتخلص في الأمور الآتية:
أ - سعادة الزوج، ب - رعاية المنزل، جـ - العناية بالطفل.
وبذلك لا تكون المرأة معول هدم في أخلاق المجتمع الإسلامي وأداة لإهدار القيم الخلقية، وإننا حينما نؤرخ للغزو الثقافي والخلقي الذي قامت به الدول الغربية معتدية على بعض الدول الإسلامية في أيام ضعفها وتفككها، نجد أن الاستعمار حاول إبعاد الشباب عن المثل العليا ومكارم الأخلاق، وتوصل إلى ذلك بحذف دراسة الدين من المدارس الإسلامية والعمل على إضعاف اللغة العربية التي توصل إلى فهم الدين فهما صحيحا وجعل دراسة التاريخ الإسلامي دراسة صورية هزيلة منحصرة في الجانب السياسي وإبراز عنصر الخلاف بين المسلمين في الأيام الماضية.
والاستعمار يقصد من وراء كل هذا أن يحول بين شباب الأمة الإسلامية والعربية وبين المثل العليا التي اعتز بها الإسلام وساد بها المسلمون، ونجد المدرسة الاستعمارية تعمل جاهدة في نشر الثقافات الغربية العفنة الثقافة الإلحادية التي تشكك الشباب في العقيدة وفي الأديان وإذا انهارت العقيدة الصحيحة من نفوس الشباب انهار كل شيء في الحياة، ثم ها هو تيار التحلل الخلقي الذي يسير بعنف والذي يغزو الشعوب الإسلامية غزوا مروعا في الأفراد والأسر والجماعات وكان من آثاره ومظاهره ما نراه في بعض الشباب من ميوعة وتحلل، وهذه التقاليد التي يحاكيها، ومن حرص بعض النساء على تقليد الأجانب في الأزياء والعادات.
هذه كلها مظاهر تدل على ظلام التفكير وفقدان المثل العليا التي تبعث النور وتهدي إلى الخير والحق والفضيلة.
بل هذه المظاهر تدل على أن هناك مؤامرة واسعة النطاق على الأخلاق الإسلامية تتزعمها الشيوعية الملحدة والصهيونية العالمية تجتهد في نشر الثقافات والأفكار والمبادئ الهدامة وتروج لمظاهر التحلل والفسق والفجور في الفرد والأسرة والجماعة فتتعثر الحياة أمام الشباب الذي فقد المثل العليا التي تتمثل في مكارم الأخلاق فهو يتخبط في سيره في الحياة لا يعرف المبادئ الكريمة وليس أمامه صورة كريمة ومثال خلقي يسير على ضوئه ويقتدي به وينهج على منهاجه فهو يسير في درب مظلم مملوء بالوهاد والمتاهات سريع الزلل قريب الكبوة يتخبط في ظلمات الحياة والحياة أمامه كلها ظلمات بعضها فوق بعض فإلى أين يسير وقد فقد نور الله.
وللأسف الشديد أن الكثير من أجهزة الإعلام في بعض الدول العربية والإسلامية لا زال يتردى في خيوط هذه المؤامرة الكبرى الموجهة ضد الأخلاق الإسلامية وتتجمع خيوط هذه المؤامرة في إشاعة الإلحاد ونشر الإنحلال الخلقي تارة عن طريق كتب الجنس الفاضح المكشوف وتارة أخرى بطريق إرسال الأغاني الفاجرة الماجنة الداعرة التي تحطم أقدس معاني الشرف والحياء والفضيلة وتدعو إلى التحلل والفسق والفجور، ثم طريق الأفلام والروايات والمناظر السينمائية التي تجسم الرذيلة وتغري بالتردي في حياة الانحراف الخطير.
كل هذه المصائب من عدم التمسك بالدين وبالشرع الشريف الذي هو نور من الله وعصمة لبني البشر من التردي في مهاوي الظلام والهلاك.
أما طريق النور، طريق الخير والحق والفضيلة والسعادة فإنه طريق المثل العليا في الأخلاق والمثل العليا في القدوة الحسنة فإنها ترسم أمام الشباب صورة عظيمة من المجد العلمي والمجد الخلقي ترسم أمام الشباب الكمالات في كل صورها في وضوح واشراق ونور فيسير الشباب نحو المجد وقد ترسم أمامه الطريق واضحا، محفوفا بالأمل الحلو الباسم مزينا بالورود والرياحين والزهور ورود الحياة الكريمة وزهور السمو والنبل بالمثل العليا من مكارم الأخلاق وتاريخ الأبطال من الرجال الذين تمثلت فيهم صور العظمة الحقة يسير الشباب نحو المستقبل الزاهر الناجح المستقبل المثمر المشرف ومن الحكمة أن نردد أمام الشباب هذه الحكمة الغالية: إذا أردت أن تكون عظيما فاقرأ في سير عظماء الرجال واعمل بحكمهم:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالرجال فلاح
ومن هنا تسعد الأمة، فالشباب هو عماد الوطن وذخيرة المستقبل وحياة الشعوب.
إن عنف التيارات المنحلة يدعونا إلى مضاعفة الحرص على تربية الشباب تربية مثالية ولا نجد هذه التربية المثالية إلا في ظلال المثل العليا فالشاب حينما يقرأ كثيرا في تاريخ علماء الإسلام بعد قراءته عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سبيل المثال نذكر سيدنا عمر بن عبد العزيز والأئمة الأربعة الإمام أبا حنيفة والإمام مالكا والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهم ثم أهل الحديث وفي مقدمتهم الإمام البخاري والإمام مسلم ثم من أبطال الإسلام صلاح الدين الأيوبي.
رجال لهم تاريخ في صفحات من نور مثلهم كمثل كواكب السماء يهتدي بهم في ظلمات الحياة سيرة عطرة شذية تملأ صدر الإنسان إيمان بالأخلاق العالية العظيمة.
وإنما تربى كل هؤلاء الأبطال على هدي كتاب الله وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
وإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للأخلاق العظيمة إذا كان المصطفى صلوات الله وسلامه عليه الصورة العملية لأخلاق القرآن ينبغي أن نحرص ما حيينا على قراءة حديثه المبارك صلوات الله وسلامه عليه وكتب الحديث كروضة من رياض الجنة إنها رياض العلم والنور من توجيهات المبعوث رحمة للعالمين. ومن هذه الكتب التي ينتفع بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها كتاب رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين المصطفى صلى الله عليه وسلم جمعه الإمام المحدث الحافظ الشيخ المبارك والعالم الجليل الفاضل الشيخ النووي رضي الله عنه وأرضاه. وكتب في مقدمة رياض الصالحين خطبة للكتاب تعتبر منهجا كريما لمكارم الأخلاق يقول فيها بعد أن ذكر أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس لعبادته وذكر بفناء الدنيا ونبه على وجوب الاستعداد للدار الآخرة وأن الطريق للهداية هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رحمه الله ونفعنا بعلمه:"فرأيت أن أجمع مختصرا من الأحاديث الصحيحة مشتملا على ما يكون طريقا لصاحبه إلى الآخرة ومحصلا لآدابه الباطنة والظاهرة جامعا للترغيب والترهيب وسائر أنواع آداب السالكين من أحاديث الزهد ورياضات النفوس وتهذيب الأخلاق وطهارة القلوب وعلاجها وصيانة الجوارح وإزالة اعوجاجها وغير ذلك من مقاصد العارفين "وهذا الكتاب ينبغي أن يقرأه كل مسلم وأن يكون في كل بيت وأن يحرص أهل العلم على تعريف الناس به عملا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله".
على أن الشيخ النووي رضي الله عنه وأرضاه كان مثالا طيبا للعلماء العارفين بجلال الله فقد عاش رحمه الله للعلم ومن أجل العلم وأخذ عنه الكثير من العلماء الأعلام وترك ميراثا عظيما في العلم والتأليف ومن ذلك الكتب الآتية: شرح صحيح مسلم ورياض الصالحين والأذكار والأربعين والتبيان والمنهاج والروضة والفتاوى والإيضاح والإيجاز وتحرير ألفاظ التنبيه وطبقات الفقهاء وتهذيب الأسماء واللغات ومختصر أسد الغابة وكتب كثيرة موجودة في مقدمة كتاب رياض الصالحين، وعاش رحمه الله ورعا زاهدا مع التقوى والقناعة والورع والمراقبة لله تعالى في السر والعلانية. وكان يواجه الملوك والأمراء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكتب إليهم الرسائل ناصحا بالعدل في الرعية ومنع الظلم ورد الحقوق إلى أربابها.
قال أبو العباس بن فرج: "كان الشيخ النووي قد صارت إليه ثلاث مراتب كل مرتبة منها لو كانت لشخص شدت إليه الرحال: المرتبة الأولى: العلم والثانية: الزهد والثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
هذه لمحات عن كتاب رياض الصالحين وهو منبع صاف جميل المكارم والأخلاق التي تصور المثل العليا في أكمل صورها، ثم تعرضنا لقبس من سيرة هذا الإمام المبارك الشيخ النووي رضي الله عنه وأرضاه رجاء أن ننتفع بسيرته ونقتدي به، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
المسئولية في الإسلام (2)
بقلم الشيخ عبد الله قادري
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
.. ومما يجب التنبه عليه بهذه المناسبة أمران هامان:
الأول: تباين مناهج التعليم في معظم الشعوب الإسلامية – وإن شئت فقل الاختلاف الشديد بينها – حيث تدرس في بعض هذه المؤسسات مواد دينية ولا تعطى العلوم الأخرى فيها حظا كالحساب والهندسة والجغرافية ومبادئ الطب وأشباهها، من العلوم التي يسمونها بالعلوم العصرية، وهي في الواقع علوم قديمة، وطلاب هذه المؤسسة في حاجة إلى تلك العلوم في الوقت الذي تدرس العلوم العصرية في مؤسسة أخرى، وليس للعلوم الدينية فيها نصيب فيظهر طلابها طلاب مادة لا قيمة للغذاء الروحي عندهم، وتدرس في مؤسسة ثالثة العلوم العسكرية دون سواها فيظهر طلابها بمظهر الوحوش الضارية ليس لهم هم سوى الفتك والبطش، وعندئذ يحصل التصادم بين هذه الفرق فتصير كل فرقة حزبا له مبادئ خاصة، يناضل عنها ويحاول تحطيم مبادئ الآخرين و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} إذ ليس لهم غاية مشتركة ولا هدف موحد يجمع نشاطهم ويوحد سلوكهم.
ولا أريد من هذا أن أدعو إلى إلغاء تخصص كل طائفة في علم خاص.
الأمر الثاني: بعث طلاب من أبناء الشعوب الإسلامية إلى البلدان الأجنبية الكافرة، شرقية كانت أم غربية، وهم حدثاء الأسنان غير فاهمين دينهم فهما جيدا، ولم تتمكن العقيدة من قلوبهم تمكنا يؤمن معه ضلالهم، بل الكثير منهم لا يؤدي شعائر العبادة الظاهرة، وهو في بلاده بين آبائه وأجداده كالصلاة والصيام والحج، هؤلاء الأحداث - وللحداثة أهميتها في تلقي أي مبدأ - الجهال بدينهم - وللجهل أهميته كذلك في الانصياع السريع إلى أي فكر هدام، أقول هؤلاء الأحداث يرسلون إلى البلدان الأجنبية لأخذ حظ وافر من العلوم المفيدة لشعوبهم كالطب والهندسة وعلم طبقات الأرض والتدريبات الحربية والعسكرية والاقتصاد وغيرها إذ هي من الأمور المطلوبة لأن خلو الشعوب الإسلامية من هذه العلوم معناه الاستسلام للأعداء حيث يتقدمون في كل مجالات الحياة ونحن باقون على ضعفنا، وجهلنا بما يهمنا معرفته، وهذا أمر مذموم لا يقره الاسلام بل يأمر بالقوة والأخذ بأسباب العزة من علوم الدين والدنيا جميعا، وحسبنا أن أول آية نزلت على رسول الله بأكبر مفتاح للمعرفة والسعادة في الدارين وهي (القراءة) في قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ثم امتن بعد ذلك على الإنسان بأعظم وسيلة لحفظ ما يقرأ لجميع الأجيال ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وهي (الكتابة) كما قال تعالى:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} كما أشار إلى نعمة تعليم الإنسان ما يجهل على وجه العموم فقال: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وفي ذلك ما فيه من حفظ هذا الإنسان في التطلع إلى المعرفة وعلم ما يجهل وأولى بذلك (المسلم) لأن كتابه أمره بذلك في شخص نبيه صلى الله عليه وسلم في أول آية نزلت منه.
ومن أعظم الآيات الدالة على ذلك - أي حث المسلم على القوة- آية الحديد التي ذكر الله فيها أنه أرسل رسله إلى الناس بالكتب والبينات، وأنزل بجانبها الحديد، الذي وصفه بوصفين عظيمين.
وهل هناك دين من الأديان أشار هذه الإشارة الموجزة الجامعة كما أشارت إليه هذه الآية؟ ما أظن ذلك ومن عنده علم بالإيجاب فليتفضل علينا بعلمه. ومن الآيات الدالة على أنه يجب على المسلم أن يكون قويا قوة تقف في وجه عدوه وتخضعه حتى يخشى أن يمس الاسلام بسوء، قوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} والآيات كثيرة جدا في هذا المعنى وفي ما ذكر كفاية.
وكذلك الأحاديث النبوية الصحيحة تحث المؤمن على القوة وتكره منه الضعف والخنوع، كما قال صلى الله عليه وسلم:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" رواه مسلم.
فالمؤمنون وإن كانوا مشتركين في الخير بسبب الإيمان فإنهم يتفاضلون بالقوة، فمن كان أكثر قوة في إيمانه وفي الأسباب المؤدية إلى حماية الدين ونصره فهو خير وأحب إلى الله تعالى، فالطبيب المسلم الذي يؤدي شعائر دينه ويقوم بمداوة المسلمين من الأمراض العادية أو الجروح الناجمة عن المعارك الواقعة بينهم وبين أعدائهم أفضل من غيره في ذلك، والمسلم القوي في بدنه الذي يبذل نفسه للجهاد في سبيل الله خير من ضعيف البدن الذي لا يستطيع ذلك، وإن كتب الله له أجر نيته الحسنة، والمسلم الغني الذي يبذل ماله في مصالح المسلمين من بناء مساجد وتأسيس مدارس وإنشاء مستشفيات وتجهيز الغزاة في سبيل الله خير من الفقير الذي لا يستطيع ذلك، والتفاضل قد يكون نسبيا، كما ذكرت بأن يكون هذا أفضل من جهة وذلك أفضل من جهة أخرى كالطبيب غير المجاهد، والمجاهد غير الطبيب، وقد يكون مطلقا كالتفاضل بين مؤمنين، أحدهما ضعيف البدن ليس عنده مال يتصدق منه، بل هو في حاجة إلى الصدقة، ولا خبرة له بشيء من الأمور التي تعود على الإسلام بخير، وثانيهما قوي البدن يجالد الأعداء في الغزوات الإسلامية خبير بالطب يداوي جرحى المسلمين ومرضاهم، غني يتصدق ويجهز الغزاة في سبيل الله، وينفق في كثير من طرق البر والإحسان، فهذان المسلمان يشتركان في الإيمان ولكن أحدهما خير من الآخر لقيامه بكثير من مصالح المسلمين العامة. والسبب في ذلك القوة وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين على الرمي وأشار إلى أنه هو القوة، وقد ذم من رمى ونسي الرمي وأن معرفة الرمي نعمة من الله تعالى، ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم:" ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"، وفي صحيح البخاري:"ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا" وفي صحيح مسلم أيضا: "ارموا واركبوا وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا" وفي رواية: "فهي نعمة جحدها".
ومن حرص الاسلام على قوة المسلم ولا سيما في السلاح المتخذ ضد العدو جعل الرسول صلى الله عليه وسلم صانع السلاح في سبيل الله ومن جهز به غازيا مثل الرامي به، فقال:"إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به"، رواه أهل السنن.
كما حث الرسول صلى الله عليه وسلم على علم الطب وبين قبل أربعة عشر قرنا أن لا يوجد مرض في الأرض إلا أوجد الله له دواء معينا علمه من علمه، وجهله من جهله، ولا تزال الاكتشافات الطبية تظهر معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع، حيث يجمع كبار أطباء العالم اليوم أن مرضا ما لا دواء له، ثم يظهر غدا على يد بعضهم دواء يستأصل ذلك المرض. فسبحان خالق هذا الكون، وصلى الله على من أرسله رحمة للعالمين.
ومن أوضح الأمثلة على أن الدين الإسلامي دين قوة وعمل، وأنه يحث المسلم أن يعمل عملا يعود نفعه إليه في حياته ويبقى يدر عليه الحسنات بعد مماته، قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به" ومن تأمل هذه الأمور الثلاثة حق التأمل علم، علم اليقين أن ديننا ليس دين كسل، وخمول، ولكنه دين حركة ونشاط، وحيوية وعمل، فهو صلاة في المسجد وتعليم وتعلم في المدرسة، وجهاد ومجالدة في المعركة، وبيع وشراء في السوق، وصناعة في المصنع، بل إن النوم الذي يأخذ الإنسان به راحته يعتبر دينا عند خلص المؤمنين، كما قال بعض الصحابة:"والله إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"، ولننظر الآن في كل من الأمور الثلاثة التي نص عليها الحديث الشريف:
1 – "صدقة جارية" والمراد بها ما يوقفه الإنسان من الأموال لصرفها في بعض أوجه البر؛ كأن يبني مسجدا للصلاة أو مدرسة للتعليم النافع أو مستشفى لمعالجة المرضى أو بيتا يأوي إليه من لا مسكن له من المحتاجين كالطلاب والمهاجرين والفقراء، أو تمهيد طريق عام يسلكه الناس، أو حبس أرض تصرف غلتها في سبل نافعة كتجهيز الغزاة، وما أعظم شخصا رزقه الله مالا فجمع بين هذه الأمور وأشباهها، فإنه يتسبب في كثرة سبل الخير النافعة لإخوانه المسلمين، وفي الوقت نفسه يتسبب في كثرة الحسنات التي يضاعفها الله له.
نعم الاسلام يحث المسلم أن يكون من عمله صدقة جارية وأحب الأعمال إلى الله أدومها، فكل ما كانت الصدقة أدوم وأكثر، كانت أحب إلى الله وأعظم أجرا، وهل يستطيع المسلم أن يخلف صدقة جارية بدون عمل منه وكدح في سبيل جمع المال؟ إن الفقير لا يستطيع ذلك، وإنما الغني هو الذي يستطيع، فالاسلام إذن يحث المسلمين أن يكونوا أغنياء، لينفقوا من أموالهم في السبل النافعة، والمؤمن الغني أقوى من المؤمن الفقير، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
2 – "أو ولد صالح يدعو له" والولد الصالح لا يأتي بدون سبب بل لا بد من بذل جهود كثيرة لإيجاده، وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتزوجوا الودود الولود ليتكاثر المسلمون، حتى يكونوا قوة جبارة ضد أعدائهم وهذا ما دعا الأعداء إلى أن ينادوا بتحديد النسل متذرعين بالخوف من عدم كفاية الأرزاق في المستقبل، وهم في الحقيقة يخططون مخططات بعيدة المدى يهدفون من ورائها إلى إضعاف المسلمين في عددهم ومعنوياتهم حتى تتسنى لهم السيطرة التامة عليهم ولا يخشوا منهم غزوا ولا دفاعا عن أنفسهم، فوجود الولد من حيث هو متوقف على الزواج، وصلاح الولد يتطلب أمورا كثيرة، منها:
الأول: أن تكون أمه صالحة وصلاحها يقتضى تعليمها كل ما تحتاج إليه للقيام بمهام بيتها وزوجها وأولادها تنظيفا وتنظيما، وتهذيبا وتوجيها وتربية وتمريضا.
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
ولقد عرف أعداء الإسلام أهمية المرأة في البيت، وأنها إذا أعدت إعدادا حسنا، وبقيت في بيتها أعدت جيلا يعجز الأعداء أن يصرفوه عن دينه أو أن يقوموا في وجهه، فأخذوا يصرخون وينوحون على تلك المرأة، ويدعون أنها مظلومة يجب نصرها، بإخراجها من البيت إلى المصنع والسوق والمكتب والمسرح، والمدرسة المشتركة وغيرها لتختلط بالرجال ويختلطوا بها، في خلواتهم وجولاتهم. واستجاب لهم أعداء الدين المتسترون من أبنائه فكتبوا وأذاعوا منادين في شعوبهم بما نادى به الأعداء الصرحاء، وحصل ما أرادوا، فصارت المرأة مبتذلة تتخطفها الأيدي وقت طرواتها وشبابها فإذا ذهبت الطراوة لفظوها كما تلفظ نواة التمرة، هكذا فعلوا بالمرأة، وهكذا أرادوا لها خشية أن تربي أجيالا لا يصلون إلى مصالحهم الاستعمارية مع وجودهم، ألا فلينتبه المسلمون.
الثاني: أن يكون أفراد البيت صالحين حتى يكتسب الولد الجديد منهم الصلاح وهذا يقتضي جهدا في تعليم كل أهل البيت وتأديبهم وتمرينهم على أفعال الخير، وتنفيرهم من أفعال الشر.
الثالث: عناية الأب بالولد خارج البيت، وذلك يقتضي منه مراقبته بأن يكون اختلاطه بأهل الخير والصلاح وأن يختار له معلما، يكون له قدوة في سلوكه وعبادته ومعاملته، وأن يختار له المدرسة التي يغلب على ظنه خيريتها بالنسبة للمدارس الأخرى وهذه أمور شاقة على الأب مما يدل أن الإسلام يحض على التربية والتعليم وإعداد الصالحين من الأولاد، حتى يتسلموا من آبائهم زمام الحياة فيقودوها قيادة حكيمة ناجحة.
3-
"أو علم ينتفع به"، والمقصود من العلم قد يتبادر إلى الأذهان أن المراد تعليم القرآن أو الحديث أو الفقه، وما شابه ذلك من علوم الدين، ولا شك أن هذه العلوم داخلة في العلم الذي ينتفع به دخولا أوليا ولكن العلم المنتفع به غير مقصور على ذلك، بل هو عام يشمل كل علم ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم، فيدخل في ذلك ما يأتي:
1 – تعليم الناس علوم الدين على اختلاف طبقاتهم تدريسا ووعظا ورشادا.
2 – تأليف الكتب النافعة في ذلك وفي غيره من العلوم التي لها صلة بالدين كعلوم العربية والتاريخ وغيرها.
3 – تعليم المسلمين الصناعات النافعة، على اختلاف أنواعها، وكذا طرق الكسب والتجارة وعلوم الطب والعلوم العسكرية والخطط الحربية التي تفيدهم ضد عدوهم في داخل البلاد وخارجها، كل هذه الأمور إذا بذلها العالم لإخوانه المسلمين وبقيت متوارثة بينهم فإنها تبقى بعده تدر عليه الخير والحسنات، وكلما كثر المستفيدون منها ولو بالواسطة تضاعفت تلك الحسنات، وذلك يتطلب من المسلمين أن يلموا بكل العلوم النافعة في دينهم ودنياهم وأن يعلم بعضهم بعضا، وهو دليل قاطع على أن الاسلام يدعو المسلمين إلى العلم النافع مطلقا وإلى نشره بينهم ليبقى إلى يوم القيامة.
ولا أريد أن أطيل بكثرة الأمثلة من الوحيين للحث على قوة المسلمين في كل المجالات وإنما أريد أن أشير فقط إلى ذلك، ومن أراد الوقوف على صحة ما قلت، فليتجرد من الهوى وليدرس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بتعمق وتمحيص ليجد أن الأمر أعظم مما ذكرت، وذلك يقتضي منا أن نتعلم من غيرنا ما نجهله، ولا يعارض الدين الإسلامي ذلك إذا لم يوجد من المسلمين من يغنينا عنهم، ولكن لا يجوز أن نجعل تعلمنا منهم سببا لترك ديننا والتنكر له، وهذا ما أردت بيانه بالنسبة إلى ابتعاث أحداث الأسنان الذين يجهلون دينهم إلى البلدان الأجنبية، فإن المفاسد التي تنالها بلدانهم، من ابتعاثهم من الخروج على تعاليم الإسلام والعداء له ولأهله ولو كانوا آباءهم، أعظم من المصالح التي تحصل من ذلك بكثير، وما قيمة طبيب أو عسكري أو اقتصادي تعلم في الخارج ورجع ملحدا؟ ولذلك كانت المضار التي تحصل بسبب الابتعاث المذكور لا تحصى كثرة، ولا يعلم خطرها في مستقبل أمة الشعوب الإسلامية إلا الله، وإن كنا قد علمنا بعض تلك المضار وهي قسمان: مضار تلحق المبتعث في البلاد الأجنبية قبل أن يرجع إلى بلاده، وأخرى تلحقه وتلحق مجتمعه وأهله ودينه، بعد رجوعه إلى بلاده، والأولى أساس الثانية.
وسنتحدث عن ذلك كله في فرصة أخرى إن شاء الله.