الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 14
فهرس المحتويات
1-
أخبار الجامعة
2-
الإسلام دين التكافل الاجتماعي: للشيخ علي بن ناصر فقيهي
3 -
الإعجاز النفسي في القرآن: بقلم الشيخ إبراهيم الحنفي الناغي
4-
التشريع الإسلامي تشريع للعزة والكرامة: بقلم الشيخ محمد الخضراوي
5-
المسؤولية في الإسلام: بقلم الشيخ عبد الله قادري
6-
النور الفائض في مخالفة أهل السنة من أهل البيت وغيرهم للروافض: بقلم الشيخ: محمد حسن الغماري
7-
إن الدين عند الله الإسلام: بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
8-
بدر الكبرى: للشيخ محمد عطية سالم
9-
إلى المدخنين: للشيخ محمد المجذوب
10-
خيَام وجمَار: للشاعر أحمد العموري
11-
دراسات في السنَّة النبوِيَّة: بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمان الأعظمي
12-
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
13-
رجل عرف الحق ببصيرته: للدكتور طه الزيني
14-
رسالة المرأة في ظلال السعادة: بقلم الشيخ محمد المهدي محمود على
15-
رسالة مفتوحة: رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
16-
شعر أهل الحديث: بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
17-
عقيدة أهل السنة والأثر في الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم: بقلم الشيخ عبد المحسن العباد
18-
من الصحف والمجلات: نشرت مجلة المجتمع الكويتية في عددها 91: إعداد العلاقات العامة
19-
من تاريخنا في الأندلس: إعداد العلاقات العامة
20-
نحن والقمر: للطالب محمد محمود جاد الله بالسنة الأولى
21-
يستفتونك: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
أخبار الجامعة
- قام وفد من الجامعة الإسلامية يضم الأمين العام فضيلة الشيخ محمد ابن ناصر العبودي ومساعده الأمين العام الشيخ عمر محمد وفضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي وفضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بالسلام على ضيف جلالة الملك فيصل فخامة اللواء محمد زياد رئيس جمهورية الصومال، وقد أهدت الجامعة لسيادته مجموعة طيبة من الكتب الإسلامية النادرة تقبلها شاكراً.
هذا وقد قام الطلاب الصوماليون الدارسون في كافة أقسام الجامعة بالاستعداد للمشاركة في استقبال فخامة الضيف، وفعلاً شاركوا في الاستقبال في المطار ثم اجتمع فخامته بالطلاب الصوماليين وقدموا إليه مصحفاً شريفاً هدية لفخامته.
- الأستاذ عبد القدوس الأنصاري الكاتب والأديب المعروف قام بزيارة للجامعة الإسلامية وتفقَّد منشآتها وكليّاتها، وقد تفقّد المكتبة التابعة للجامعة وأبدى إعجابه بما شاهده فيها.
- تتلقى رئاسة الجامعة يومياً فيضاً من الرسائل والبرقيات من طالبي الالتحاق في شتى الأنحاء يبلغ عددها ما يقارب الـ (500) طلب شهرياً، وعلى ذلك فإن لجنة القبول في الجامعة توالي اجتماعاتها بمعدل ثلاثة أيام في الأسبوع.
- زار الجامعة الإسلامية الأستاذ (البروفيسور) زين العابدين فكري رئيس الجامعة الحكومية في سومطرا الجنوبية بإندونيسيا، ومندوب معالي وزير الشئون الدينية هناك مزوداً بكتاب تعريف من سعادة سفير إندونيسيا في جدة وذلك للإطلاع على سير الدراسة في الجامعة الإسلامية والتعرُّف على المسئولين فيها، وقد كان في استقباله فضيلة الأمين العام الذي بحث معه في توطيد العلاقات بين الجامعتين، ثم تجوَّل الضيف برفقة مدير العلاقات العامة بالجامعة في كليَّات الجامعة ومعاهدها وفي ختام زيارته قدَّمت الجامعة له بعض الكتب هدية منها.
- زار الجامعة السيد سردار محمد إبراهيم رئيس حكومة كشمير الحرة سابقاً التابعة لباكستان، وقد كان في استقباله فضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي ومساعد الأمين العام الشيخ عمر محمد، ومدير العلاقات العامة الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس، وبعد استراحة قصيرة بمكتب الأمين العام تناول البحث في الشئون الإسلامية توجه الضيف إلى كلية الدعوة وأصول الدين حيث تفقَّد القاعات ثم ألقى كلمة موجزة في السنة الثانية من الكلية، وبعد أن زار كلية الشريعة واجتمع مع بعض المدرسين ألقى كلمة موجزة في السنة الرابعة، وقد تكلم فضيلة عميد كلية الشريعة فشكر الضيف على كلمته، وفي النهاية الوقت زار المكتبة العامة.
-كما زار الجامعة أيضاً السيد أمين مدني الكاتب المعروف، وكان لقاؤه مع الأمين العام للجامعة حيث تبادلا الأحاديث العلمية المتعلقة بتاريخ المدينة.
- عين الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس مديراً للعلاقات العامة في الجامعة من بداية شهر شوال، هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن الأستاذ أحمد سبق أن شغل منصب مدير شئون الطلبة بالجامعة مدَّة ثلاث سنوات وكان خلالها موضع تقدير الجميع لقيامه بعمله، وإخلاصه في أداء واجبه، وهو أحد خريجي كلية الشريعة بالجامعة في الفوج الثالث عام 68-87هـ.
- قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة:
أنهت المؤسسة المسئولة عن عملية التكييف والتدفئة منها، ومن المتوقع أن ترسو عملية الديكور على أحد المتعهدين، ومن المتوقع أن تكون القاعة المذكورة جاهزة لاستقبال الموسم الثاني القادم إن شاء الله، والجدير بالذكر أن القاعة المشار إليها تتسع حوالي (1050) مقعد وستكون مجهَّزة بأحدث الآلات اللازمة.
خيَام وجمَار
للشاعر أحمد العموري
للرؤى الغُر في الصفا والبقيع00
رعشة القلب وانهمار الدموع
أين منها طلاقة للمذيع!!
أين منها بلاغة في يراع
لم نصف كل خفقة في الضلوع
لم نُبِن كل خلجة في الحنايا
رجفة الروع تلك آي الخشوع
قد عَجز وعُذْرنا أنَّ فينا
قد أتتك الجموع إثر الجموع
كعبة المسلمين في كل مصر
جئت أرجو حِماك جمّ الدموع
جئت أسعى إليك ربي جَزوعاً
وامتحى السَّوْء من جناني المزوع
واطمئنت نفوسنا وارتوينا
لاجئاً نادماً.. فهل من شفيع
جئت ألقاك تائباً من خطايا
راغب في العُلَى لشعبي الوجيع
غافر الذنب قابل التّوْبِ إنّي
ثالث القبليتين مهد اليسوع
يا فلسطين ليس لي إذ رزينا
أن تصافوا لخلق سد منيع
غير صيحات مستغيث لشعبي
كم مضى العمر في خيام وجوع
كم خرجنا من قمة في ضياع
لردى الشيخ أو لدوس الرضيع
لوثة العار لم يزلها بكاء
رمي أمثالها بذات الضلوع
قد رمينا الجمار لكن نسينا
دراسات في السنَّة النبوِيَّة
بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمان الأعظمي
السنة في اللغة: الطريقة حسنة كانت أمْ سيئة يقال فلان من أهل السنة قال نصيب:
من الناس إذ أحببت بينهم وحدي
كأني سننت الحب أوَّل عاشق
ومن معانيها: السيرة حسنة كانت أمْ سيئة قال خالد بن عتبة الهذلي:
فأوَّل راض سنة من يسيرها
فلا تجزعن عن سيرة أنت سرتها
ومن معانيها: الوجه أي الشيء البارز من الجسم قال ذو الرمة:
ملساء ليس بها خال ولا ندب
تريك سنة وجه غير مقرفة
وبهذا المعنى أنشد ثعلب:
في البيت تحت مواضع اللمس
بيضاء في المرآة سنتها
ومثله قول الأعشى:
معاوية الأكرمين السنن
كريماً شمائله من بني
ومن معانيها التصوير يقال أسنُّه سنّاً إذا صورته. قد أنشد عبد الرحمن ابن حسان:
تمشي في مرمر مسنون
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء
وقال في اللسان: "كل من ابتدأ أمراً عمل به قوم بعده هو السنة"[1] ويمكن أن نحمل قول نصيب الماضي على هذا.
قال شيخ الإسلام بن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) : "السنة هي العادة وهي الطريقة التي تبتكر لنوع من الناس مما يعدُّونه عبادة أولا يعدُّونه عبادة".
فهذه المعاني الكثيرة كلها تنطبق على السنة النبوية وهي متوفرة في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [2] . ومثل قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [3] يعني العذاب كما قال الزجاج: "سنة الأولين أنهم عاينوا العذاب فطلب المشركون إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"[4] .
ومنه قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [5] . ومنه قوله تعالى: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [6] . وغيرها من الآيات البينات فإنها تدل على معنى الطريقة والعادة والأمر والعذاب وما شاكل ذلك فالآن نرجع إلى الحديث النبوي لنرى فيه معاني السنة.
أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم". قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى قال: "فمن."[7] . وفيه عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة فعُمِل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء". [8]
ففي هذا الحديث الشريف حثٌّ على إبداع سنَّة حسنة محمودة وكذلك حثٌّ على إتباعها وهي بمعنى الطريقة والعادة والمنهاج القويم.
وفي اللسان: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على الصدقة فقال رجل قبيح السُنَّة: أي قبيح الصورة"[9] . وفي صحيح البخاري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكان خبيب هو الذي سنَّ الركعتين لكل امرئ مسلم" [10] . وفي موطأ الإمام مالك قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر المجوس: "سَنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب"[11] يعني خذوا منهم الجزية. وفي صحيح البخاري أيضا قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس مبتغ في الإسلام سُنَّة الجاهلية" [12] . وأخرج الترمدي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا: "يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط"، فقال عليه الصلاة والسلام: "سبحان الله.. هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم" [13] . أي لتتبعن البدعات والخرافات. وفيه أيضا عن ابن جرير بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سَنَّ سُنَّة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئاً ومن سن سنة شر فاتُّبِع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئاً" [14] . واللفظ للترمذي. إلى غيرها من الأحاديث الكثيرة المروية في الجوامع والسنن والمسانيد وكلها تشير إلى أن السنة قد استعملت بمعنى الطريقة والعادة والبدعة والخرافات والصورة والتقاليد وما شابه ذلك. فإن هذه المعاني كلها معانٍ لغوية لكلمة السنة في القرآن والحديث.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
- ج 13 ص 225.
[2]
- الفتح 32
[3]
- الكهف: 55
[4]
- اللسان ج 13ص 225.
[5]
- الأحزاب: 38.
[6]
- غافر: 85.
[7]
- مسلم كتاب العلم باب اتباع اليهود والنصارى ص 57 ج 8.
[8]
- مسلم كتاب العلم باب من سن سنة حسنة أو سيئة ص61 ج8.
[9]
- ج 13 ص 224.
[10]
- البخاري جهاد ص 170، مغازي 10، 27.
[11]
- الموطأ زكاة 43.
[12]
- ديات 9.
[13]
- الترمذي أبواب الفتن 18.
[14]
- الترمذي أبواب العلم 15، أحمد 2:505.
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
سورة لقمان
قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} . هذه الآية الكريمة تدل على الأمر ببر الوالدين الكافرين وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} الآية. ثم نص على دخول الآباء في هذا بقوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم} .
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه لا معارضة بين الآيتين. ووجه الجمع بينهما أن المصاحبة بالمعروف أعم من الموادة لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم فكأن الله حذَّر من الموادة المشعرة بالمحبة والموالاة بالباطن لجميع الكفار يدخل في ذلك الآباء وغيرهم وأمر الإنسان بأن لا يفعل لوالديه إلا المعروف وفعل المعروف لا يستلزم المودة لأن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح. ومما يدل لذلك إذنه صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق أن تصل أمها وهي كافرة وقال بعض العلماء أن قصتها سبب لنزول قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية..
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} الآية.
هذه الآية تدل بظاهرها على أن يوم القيامة لا ينفع فيه والد ولده وقد جاءت آية أخرى تدل على رفع درجات الأولاد بسبب صلاح آبائهم حتى يكونوا في درجة الآباء مع أن عملهم أي الأولاد لم يبلغهم تلك الدرجة إقرارا لعيون الآباء بوجود الأبناء معهم في منازلهم من الجنة وذلك نفع لهم وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية..
ووجه الجمع أُشير إليه بالقيد الذي في هذه الآية وهو قوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} وعين فيها النفع بأنه إلحاقهم بهم في درجاتهم بقيد الإيمان فهي أخص من الآية الأخرى والأخص لا يعارض الأعم. وعلى قول من فسر الآية بأن معنى قوله: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} لا يقضي عنه حقا لزمه ولا يدفع عنه عذابا حق عليه، فلا إشكال في الآية. وسيأتي لهذا زيادة إيضاح في سورة النجم في الكلام على:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} الآية إن شاء الله تعالى.
سورة السجدة
قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ
…
} . الآية
أسند في هذه الآية الكريمة التَوَفِّي إلى ملك واحد وأسند في آيات أخر إلى جماعة من الملائكة كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَة} وقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ
…
} الآية وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو
…
} وأسنده في آية أخرى إلى نفسه جل وعلا وهي قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا
…
}
والجواب عن هذا ظاهر وهو أن إسناده التَّوَفِّي إلى نفسه لأن ملك الموت لا يقدر أن يقبض روح أحد إلا بإذنه ومشيئته تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} وأسنده لملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح وأسنده للملائكة لأن ملك الموت له أعوان من الملائكة تحت رئاسته يفعلون بأمره وينزعون الروح إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت والعلم عند الله تعالى.
سورة الأحزاب
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} لا منافاة بينه وبين قوله في آخر الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
…
} بصيغة الجمع لدخول الأمة تحت الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قدوتهم كما تقدم بيانه مستوفى في سورة الروم.
قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . هذه الآية الكريمة تدل بفحوى خطابها أنه لم يجعل لامرأة من قلبين في جوفها وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها خلاف ذلك وهي قوله تعالى في حفصة وعائشة: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا
…
} الآية فقد جمع القلوب لهاتين المرأتين.
والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزآه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية والإفراد وأفصحها الجمع فالإفراد فالتثنية على الأصح سواء كانت الإضافة لفظا أو معنى. فاللفظ مثاله: شويت رؤوس الكبشين أو رأسهما أو رأسهما أو رأسيهما والمعنى قطعت الكبشين رؤوسا وقطعت منهما الرؤوس فإن فرق المثنى فالمختار الإفراد نحو: {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وإن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه أي كان غير جزأيه فالقياس الجمع وفاقا للفقراء وفي الحديث: "ما أخرجكما من بيوتكما إذا أويتما إلى مضاجعكما
…
". و"هذه فلانة وفلانة يسألانك عن إنفاقهما على أزواجهما ألهما فيه أجر". و"لقي عليا وحمزة فضرباه بأسيافهما". واعلم أن الضمائر الراجعة إلى هذا المضاف يجوز فيها الجمع نظرا إلى اللفظ والتثنية نظرا إلى المعنى فمن الأول قوله:
فإن لها فيما دهيت به أسا
خليلي لا تهلك نفوسكما أساً
ومن الثاني قوله:
إذا منكما الأبطال يغشاهما الذعر
قلوبكما يغشاهما الأمن عادة
الثاني هو ما ذهب إليه مالك بن أنس رحمه الله تعالى من أن أقل الجمع اثنان. ونظيره قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَة
…
} أي أخوان فصاعدا.
قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} هذه الآية الكريمة تدل بدلالة الالتزام على أنه صلى الله عليه وسلم أب لهم لأن أمومة أزواجه لهم تستلزم أبوَّته صلى الله عليه وسلم لهم وهذا المدلول عليه بدلالة الالتزام مصرح به في قراءة أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه لأنه يقرأها: (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) وهذه القراءة مروية أيضا عن ابن عباس وقد جاءت آية أخرى تصرح بخلاف هذا المدلول عليه بدلالة الالتزام والقراءة الشاذة وهي قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} . الآية..والجواب ظاهر وهو أن الأبوَّة المثبتة دينية والأبوة المنفية طينية وبهذا يرتفع الإشكال في قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} مع قوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} . إذ يقال كيف يلزم الإنسان أن يسأل أمه من وراء حجاب؟. والجواب ما ذكرناه الآن فهنَّ أمهات في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام لا في الخلوة بهنَّ ولا في حرمة بناتهنَّ ونحو ذلك والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} الآية. يظهر تعارضه مع قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية. والجواب أن قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} منسوخ بقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} وقد قدمنا في سورة البقرة أنه أحد الموضعين اللّذين في المصحف ناسخهما قبل منسوخهما لتقدمه في ترتيب المصحف مع تأخره في النزول على القول بذلك. وقيل أن الآية الناسخة لها هي قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} . الآية. وقال بعض العلماء هي محكمة وعليه فالمعنى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} أي من بعد النساء التي أحلهن الله لك في قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} الآية. فتكون آية {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} محرمة ما لم يدخل في آية {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} كالكتابيات والمشركات والبدويات على القول بذلك فيهن وبنات العم والعمات وبنات الخال والخالات اللاتي لم يهاجرن معه على القول بذلك فيهن أيضاً والقول بعدم النسخ قال به أُبَيّ بن كعب ومجاهد في رواية عنه وعكرمة والضحاك في رواية وأبو رزين في رواية عنه وأبو صالح والحسن وقتادة في رواية والسدي وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير وغيره واختار عدم النسخ ابن جرير وأبو حيان.
والذي يظهر لنا أن القول بالنسخ أرجح وليس المرجح لذلك عندنا أنه قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم منهم علي وابن عباس وأنس وغيرهم ولكن المرجح له عندنا أنه قول أعلم الناس بالمسألة أعني أزواجه صلى الله عليه وسلم لأن حليَّة غيرهن من الضرات وعدمها لا يوجد من هو أشد اهتماما بهما منهن فهن صواحبات القصة وقد تقرر في علم الأصول أن صاحب القصة يقدم على غيره ولعل هناك تفريق بين ما إذا كان صاحب القصة راويا وبين كونه مستنبطا كقصة فاطمة بنت قيس في إسقاط النفقة والسكنى فالحجة معها والحديث يؤيدها ومع ذلك فعمر يرد قولها. ولذلك قدم العلماء رواية ميمونة وأبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال على رواية ابن عباس المتفق عليها أنه تزوجها محرما لأن ميمونة صاحبة القصة وأبا رافع سفير فيها فإذا علمت ذلك فاعلم أن ممن قال بالنسخ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "ما مات صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء". وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: "لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم". أما عائشة فقد روى عنها ذلك الإمام أحمد والترمذي وصححه النسائي في سننيهما والحاكم وصححه وأبو داود في ناسخه وابن المنذر وغيرهم. وأما أم سلمة فقد رواه عنها ابن أبي حاتم كما نقله عنه ابن كثير وغيره ويشهد لذلك ما رواه جماعة عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة وجويرية رضي الله عنهما بعد نزول {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء} . قال الألوسي في تفسيره أن ذلك أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والعلم عند الله تعالى.
سورة سبأ
قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} . هذه الآية الكريمة على كلتا القراءتين قراءة ضم الياء مع فتح الزاي مبنيا للمفعول مع رفع {الْكَفُورُ} على أنه نائب فاعل وقراءة {نُجَازِي} بضم النون وكسر الزاي مبنياًًًًً للفاعل مع نصب {الْكَفُورَ} على أنه مفعول به تدل على خصوص الجزاء بالمبالغين بالكفر. وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الجزاء كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} الآية.
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أن المعنى ما نجازي هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا المبالغ في الكفران.
الثاني: أن ما يفعل بغير الكافر من الجزاء ليس عقابا في الحقيقة لأنه تطهير وتمحيص.
الثالث: أنه لا يجازى جميع الأعمال مع المناقشة التامة إلا الكافر ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب فقد هلك". وأنه لما سألت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} قال لها ذلك العرض. وبيَّن لها أن من نوقش الحساب لابد أن يهلك.
قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ} الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يسأل أمته أجرا على تبليغ ما جاءهم به من خير الدنيا والآخرة. ونظيرها قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} . وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} في سورة الطور والقلم. وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} . وعدم طلب الأجرة على التبليغ هو شأن الرسل كلِّهم عليهم صلوات الله وسلامه كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} وقال تعالى في سورة الشعراء: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وقال في سورة هود عن نوح: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية. وقال فيها أيضا عن هود: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} الآية. وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} .
اعلم أولا أن في قوله تعالى: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أربعة أقوال.
الأول: ورواه الشعبي وغيره عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم كما نقله عنهم ابن جرير وغيره أن معنى الآية {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذي الناس كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم. وكان صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ لأنه مبذول لكل أحد لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن أجرا على التبليغ لأنه لم يؤمن وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر تحقق أنه لا يسأل أجرا كقول النابغة:
بهن فلول من قراع الكتائب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم وهذا القول هو الصحيح في الآية واختاره ابن جرير وعليه فلا إشكال.
الثاني: أن معنى الآية {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسن وعليه فلا إشكال أيضا لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم وأحرى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وفي الحديث: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا. وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين تبين أنه غير عوض عن التبليغ وقال بعض العلماء: الاستثناء منقطع على كلا القولين، وعليه فلا إشكال. فمعناه على القول الأول لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي فيكم وعلى الثاني لكن أذكركم الله في قرابتي فاحفظوني فيهم.
الثالث: وبه قال الحسن: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي ألا تتوددوا إلى الله وتتقربوا إليه إلا بالطاعة والعمل الصالح وعليه فلا إشكال لأن التقرب إلى الله ليس أجر على التبليغ.
الرابع: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي ألا تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم. ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن القاسم وعليه فلا إشكال لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ فقد علمت الصحيح في تفسير الآية وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال. وأما القول بأن قوله تعالى: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} منسوخ بقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} فهو ضعيف والعلم عند الله تعالى.
سورة فاطر
قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} الضمير في قوله: {عُمُرِهِ} يظهر رجوعه إلى المعمَّر فيشكل معنى الآية لأن المعمَّر والمنقوص من عمره ضدان فيظهر تنافي الضمير ومفسره.
الجواب: أن المراد بالعمَّر هنا جنس المعمَّر الذي هو مطلق الشخص فيصدق بالذي لم ينقص من عمره وبالذي نقص من عمره فصار المعنى: لا يزاد في عمر شخص ولا ينقص من عمر شخص إلا في كتاب الله وهذه المسألة هي المعروفة عند العلماء العربية بمسألة عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر.
قال ابن كثير في تفسيره: "الضمير عائد على الجنس لا على العين لأن طويل العمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره إنما عاد الضمير على الجنس".انتهى منه.
قوله تعالى: {وَمَكْرَ السَّيِّئ} يدل على أن المكر هنا شيء غير السيئ أضيف إلى السيئ للزوم المغايرة بين المضاف والمضاف إليه. وقوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} يدل على أن المراد بالمكر هنا هو السيئ بعينه لا شيء آخر فالتنافي بين التركيب الإضافي والتركيب التقييدي ظاهر. والذي يظهر والله تعالى أعلم أن التحقيق جواز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلفت الألفاظ لأن المغايرة بين الألفاظ ربما كفت في المغايرة بين المضاف والمضاف إليه كما جزم به ابن جرير في تفسيره في غير هذا الموضع ويشير إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله:
حتما وإلا أتبع الذي ردف
وإن يكونا مفردين فأضف
وأما قوله:
معنى وأوِّل مُوِهماً إذا ورد
ولا يضاف اسم لما به اتحد
فالذي يظهر فيه بعد البحث أنه لا حاجة إلى تأويله مع كثرته في القرآن واللغة العربية فالظاهر أنه أسلوب من أساليب العربية بدليل كثرة وروده كقولنا هنا: {وَمَكْرَ السَّيِّئ} والمكر هو السيئ بدليل قوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ} الآية. وكقوله: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ} والدار هي الآخرة وكقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} والشهر هو رمضان على التحقيق. وكقوله: {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} والحبل هو الوريد ونظيره من كلام العرب قول عنترة في معلقته:
بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
ومشك سابغة هتكت فروجها
فأصل المشك بالكسر السير الذي تشد به الدرع ولكن عنترة هنا أراد به نفس الدرع وأضافه إليها كما هو واضح من كلامه لأن الحكم بهتك الفروج واقع على الدرع لا على السير الذي تشد به كما جزم به بعض المحققين وهو ظاهر خلافا لظاهر كلام صاحب تاج العروس فإنه أورد بيت عنترة شاهدا لأن المشك السير الذي تشد به الدرع بل المشك في بيت عنترة هذا على التحقيق هو السابغة وأضيف إليها على ما ذكرنا. وقول امرئ القيس:
غذاؤها نمير الماء غير المحلل
كبكر المقاناة البياض بصفرة
فالبكر هي المقاناة على التحقيق وأما على ما ذهب إليه ابن مالك فالجواب تأويل المضاف بأن المراد به مسمى المضاف إليه.
رجل عرف الحق ببصيرته
للدكتور طه الزيني
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
لقد درج في مدارج السالكين إلى الحق، حتى استقر أمره على الإسلام. كان مجوسيا، ثم مسيحيا، ثم مسلما من أكابر المسلمين، وناصرا من أعظم أنصار الإسلام ذلكم هو سلمان الفارسي رضي الله عنه، الصحابي الجليل وصاحب فكرة حفر الخندق حول المدينة يوم غزوة الأحزاب، وكان الخندق سببا في هزيمة المشركين وفشل خطتهم في غزو المدينة.
كان أبوه دهقان قريته (جي) من أعمال أصبهان ببلاد الفرس، وكان هو أحب خلق الله إلى أبيه، وكان أبوه يتمنى أن يشب حفيّاً بالنار عاكفا عليها، حتى يخلفه في وظيفته فكان يحبسه في بيت النار حتى لا يخرج، وحتى يعتادها ويألف الجلوس بجوارها ومناجاتها ولكن طبيعة الفتى أنفت من عبادة النار، وقال في نفسه:"لابد أن تكون هناك عبادة خير من هذه العبادة".
وفي يوم اضطر والده إلى إرساله إلى ضيعته لينوب عنه في بعض شأنه، فمر بكنيسة من كنائس النصارى فسمع أصواتهم وهم يصلون، فدخل عليهم ينظر ما يصنعون، فأعجبته صلاتهم وأحب عبادتهم وقال:"هذا والله خير مما نحن عليه"، فلم يتركهم حتى غربت الشمس، وأهمل ضيعة أبيه فلم يذهب إليها وقال لهم:"أين أجد أصل هذا الدين؟ قالوا: "بالشام".
فلما رجع إلى أبيه سأله أين كان وكيف أهمل ما أرسله من أجله؟ فقال له: "يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فبقيت عندهم حتى غربت الشمس". فقال له أبوه: "يا بني ليس لك في ذلك خير، دينك ودين آبائك خير منه".
فقال له سلمان: "كلا والله إنه لخير من ديننا"، فخاف عليه أبوه من النصرانية فجعل في رجليه قيدا وحبسه في البيت.
فلما خرج والده، أرسل سلمان إلى النصارى الذين في الكنيسة يرجوهم أن يخبروه إذا قدم عليهم وفد من الشام. فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروه فأعد عدته للسفر وقال لهم:"إذا أردتم العودة مروا على بيت كذا". فمروا عليه وفكوا قيده ثم حملوه معهم إلى الشام.
فلما وصل إليها سأل: "من أعلم الناس بهذا الدين؟ " فقيل له: "هو الأسقف بالكنيسة"فجاءه وأخبره بأنه أحب النصرانية، وأنه يريد أن يكون خادما له في كنيسته، ويتعلم من علمه، ويصلي معه، فأذن له بذلك.
ولكن هذا الأسقف كما يقول سلمان الفارسي رجل سوء، يأمر الناس بالصدقة ويحثهم عليها فإذا جمعوا إليه شيئا اكتنزه لنفسه ولم يعط منه المساكين، حتى جمع سبع قلال من المال، فكرهه سلمان كرها شديدا وأراد فراقه، ولكن الله عجل له بالمنية فبعد وفاته دل سلمان الناس على كنزه وأخبرهم بحاله، وجاء بعده أسقف فاضل زاهد في الدنيا وراغب في الآخرة فأحبه سلمان وأنس به، وظلت حال سلمان رحلة واغترابا بين بلاد النصرانية يأخذ عن أساقفتها ويعمل في خدمتهم ويتعلم الدين منهم فانتقل في ذلك إلى الشام ثم إلى الموصل ثم إلى نصيبين ثم إلى عمورية من أرض الروم وكان كلما أراد ترك بلد من هذه البلاد سأل عن أعلم الناس بأفضل الأديان في شتى بقاع الأرض، يريد الوصول إليها مهما قاسى من المتاعب، ومهما لاقى من الصعاب، لأن الحق رائده، والدين الأعلى غايته، وفي عمورية لقي أسقفا صالحا عاش معه مغتبطا راضيا، وعمل وكسب حتى صارت له بقرات وغنمات، فلما حضرت الوفاة هذا الأسقف سأله سلمان عن رجل مثله فأخبره بأنه لا يعلم أحدا على مثل حاله ولكنه أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهبة ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، فمكث سلمان بعمورية بعد موت صاحبه ما شاء الله أن يمكث ثم مر به نفر من التجار من قبيلة كلب فسألهم أن يحملوه معهم إلى أرض العرب على أن يعطيهم بقراته وغنماته فقبلوا وحملوه معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى باعوه إلى رجل يهودي فبقي عنده حتى رأى النخل فأمّل أن تكون هذه البلاد بلاد النبي المبعوث ثم قدم على هذا اليهودي ابن عم له من بني قريظة من المدينة فاشتراه منه، وحمله معه إليها، فلما رآها سلمان عرفها بالعلامات التي ذكرها له صاحبه أسقف عمورية وعلم سلمان بأن النبي سيكون في المساء مع أصحابه بقباء وكان عند سلمان بعض الطعام فجمعه، وذهب به إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له سلمان: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، فقرَّب سلمان الطعام إلى النبي فقال لأصحابه:"كلوا منه". وأمسك هو فلم يأكل، فقال سلمان في نفسه: هذه واحدة من العلامات التي ذكرها أسقف عمورية، ثم عاد سلمان إلى بيته وجمع طعاما آخر وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه. فقال في نفسه: وهذه علامة أخرى.
ثم قابل سلمان رضي الله عنه بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد -مقبرة المدينة - فقص عليه قصته فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كاتب يا سلمان"، فكاتب سيده على إحياء ثلثماية نخلة بأرض الفقير وعلى أربعين أوقية.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أعينوا أخاكم"، فأعانوه، فكان الرجل يأتي بثلاثين والآخر بعشرين وبعضهم بخمس عشرة أو بعشرة إلى أن تم العدد المطلوب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اذهب يا سلمان ففقر لها ثم ائتني فأضعها بيدي"فذهب سلمان ففقر لها وأعانه أصحابه، فلما فرغوا حضر سلمان وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله معه، فجعل سلمان وأصحابه يقربون النخل من الرسول، وهو يضعه بيده، حتى فرغ منها، وقد حيت جميعها ولم تمت منها واحدة وبقي المال على سلمان، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاج من ذهب فقال له:"خذ هذه فأدها مما عليك" فأوفى سلمان ما عليه لسيده وأصبح حرا مسلما. وشهد مع رسول الله غزوة الأحزاب التي أشار فيها بحفر الخندق، ولم يفته مشهد بعد ذلك من المشاهد الإسلامية.
وفي هذه القصة عبر ينبغي ألا تفوتنا ملاحظتها:
1-
أن الرغبة الصادقة في الوصول إلى المطلوب مع الصبر والجلَد توصل إليه.
2-
أن الإنسان لا ينبغي أن يقعد عن البحث في دينه مستسلما لما عليه آباؤه وأجداده فقد يكونون على غير الحق.
3-
أن الذي يعشق الحق يهون عليه في سبيله الأهل والمال والأنس وجميع متع الحياة، فقد ترك سلمان رضي الله عنه أهله ووطنه، واشتغل أجيرا، واغترب وسافر حتى صار عبدا يباع ويشترى ولكن الله كافأه بما قدم في سبيله.
4-
الصورة الحية النابضة من تعاون المسلمين بأموالهم وأنفسهم بما فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
5-
شدة تواضعه صلى الله عليه وسلم الذي كان يمتاز به حيث وضع النخل بيده الكريمة وصبر حتى أتم ثلث مائة نخلة وهو راض مغتبط.
6-
وضوح سماحة الإسلام وحبه للوئام والسلام حيث طلب الرسول من سلمان أن يكاتب سيده، ولم يأمر أصحابه بخطفه، أو يأمره باللجوء إلى المسلمين ليحموه من سيده ولكن اتبع طريق الرضا والمسالمة وشارك بماله وجهده في استخلاص هذا العبد المؤمن من الشرك.
7-
أن الزعيم أو الرئيس أو الحاكم ينبغي له أن يأمر القادرين من أتباعه بمعاونة غيرهم في حل مشكلاتهم فهذه سنة الإسلام.
أسأل الله أن يوفق المسلمين للبحث دائما عن الحق وللتعاون فيما بينهم.
رسالة المرأة في ظلال السعادة
بقلم الشيخ محمد المهدي محمود على
المدرس في دار الحديث بالمدينة التابعة للجامعة
اختار الله سبحانه وتعالى أن تكون المرأة سكناً للرجل، ومكملة لسعادته، ومساعدة له على أداء عمله، وآداب الإسلام بصفة عامة يظهر منها بوضوح وجلاء. أن للمرأة رسالة هامة في ثلاثة ميادين من أخطر العوامل في حياة المجتمع، واستقراره، وسعادته، وتتجلى هذه الميادين الهامة في النواحي الآتية:
1-
رسالة المرأة بالنسبة لزوجها.
2-
رسالة المرأة بالنسبة لبيتها.
3-
رسالة المرأة بالنسبة لطفلها.
فأما رسالة المرأة بالنسبة لزوجها فإن كتاب الله سبحانه وتعالى الذي هو نور الله لأهل الدنيا- عبَّر عن ذلك أجمل تعبير وأكمله راسماً الحياة السعيدة الهانئة فقال تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الروم) فالله جل شأنه جعل المرأة سكناً وأمناً وطمأنينة للرجل.
وإن موقف السيدة خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى مثل للمحبة الزوجية المثمرة. أعلى مثل للمودة والرحمة التي هي من صنع الله الحكيم. على أن سيرة أمهات المؤمنين وكرام المؤمنات في صدر الإسلام صورة مثالية لما ينبغي أن تكون عليه الزوجة المؤمنة التقيَّة من بر لزوجها وعطف عليه ومحبة له، وإزاء ذلك أوصى الإسلام بالمرأة كثيراً في الآداب الإسلامية عامة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
وأما رسالة المرأة في البيت:
فالمنزل هو عش السعادة، والمرأة هي التي ترعاه بعطفها وحنانها. تصيِّره جنة وارفة الظلال طيبة الثمار. دانية القطاف. تجعله جنَّة من جنَّات الدنيا.
إن المنزل مهد راحة زوجها وعش أطفالها، فيه قوام الحياة من مأكل وملبس ومأوى، وإن اليد الحانية التي تمتد إلى كل تلك النواحي في رفق ومحبة، وطهر وإخلاص، وصفاء وعطف، فتعدُّ من المأكل ما لذَّ وطاب، ومن الملبس ما حسن وكمل، تجعله مهد راحة وأنس للنفس. وبذلك ترفرف السعادة على الأسرة وتصبح الأسرة نواة لمجتمع سعيد يؤدي كل فرد فيه واجبه على أتمِّ ما يكون.
وأما رسالة المرأة مع أطفالها:
فأطفال اليوم هم سباب المستقبل هم رجال الغد، وإن السيِّدة الفاضلة الحكيمة العاقلة المهذبة الرشيدة. هي التي ترعى أولادها تُنَشِئُهم على الفضيلة، ومكارم الأخلاق، وتربيهم على الصفات الحسنة الجميلة. تغرس فيهم معاني البطولة بما تقص عليهم من قصص الأنبياء والرسل، وأهل الحكمة الإسلامية، وعظماء التاريخ وأبطال الإسلام، إن السيِّدة التي تجعل من المنزل داراً للحكمة، ومدرسة للتفقه في كتاب الله، وهدي الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وسير السلف الصالح المبارك. إنما تجعل من منزلها مركز إشعاعٍ يوجِّه الخير للمجتمع بما يخرجه من أفراد ممتازين علماً وخلقاً، ويصبح المنزل متعاوناً مع المدرسة. فتعاليم المدرسة متممِّة لبناء المنزل، وتربية المنزل مكمِّلة لرسالة المدرسة وأمام هذه الرسالة في هاتيك الميادين الهامة.
أمام رسالة المرأة المقدسة أمام رسالة المرأة الخطيرة. أمام رسالة المرأة التي تتناسب مع طبيعتها وتكوينها، مع عاطفتها وغريزتها مع ميولها ووجدانها مع أنوثتها وأمومتها مع فطرتها التي فطرها الله عليها.
أمام هذه الرسالة العظيمة التي عبر عنها الشاعر بقوله:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
أمام هذه الرسالة يتضح جليّاً أن أيّ انحراف للمرأة عن أداء رسالتها وأيّ شاغل يعوقها عن عملها الطبيعي الذي يتفق مع فطرتها وطبيعتها وتكوينها هو جناية كبرى:
أ - جناية على الحياة الزوجية.
ب- جناية على البيت.
ج- جناية على الطفل.
د- جناية كبرى على الأسرة والمجتمع.
فتفقد الحياة الزوجية سعادتها ويحرم البيت من الهدوء والاستقرار، ويتربى الطفل في أحضان الخدم، وتتفرق الأسرة وتحل الكوارث الهدَّامة بالمجتمع المفكَّك غير المترابط.
وما نراه اليوم من تمرد المرأة عن أداء رسالتها التي فطرها الله عليها والتي تتناسب مع طبيعتها وتكوينها. إنما هو تقليد أعمى للمدنية الغربية.
إن المرأة التي تتنكر لرسالتها وتحاول أن تهرب من سياج عِزِّها ومجدها وكرامتها تحاول أن تفر إلى تقاليد الغرب التي جعلت من المرأة سلعة للجمال الرخيص المدنس.
لقد أصبحت المرأة في بعض بلاد الكفار وفي إغرائها وإغوائها التردي إلى مهاوي الردى والفساد. ما أسعد المرأة في ظلال الإسلام وما أسعد الرجل بالمرأة الصالحة التقيَّة النقيَّة الطاهرة العفيفة وما أسعد المجتمع بالنساء المؤمنات الفاضلات اللاتي يوجِّهن النشء إلى الآداب الإسلامية المباركة، ويربين الجيل على الفضيلة، ومكارم الأخلاق. لأنَّهنَّ مصدر خير، ومنبع فضل ومشرق نور وهداية، والإسلام المبارك. الإسلام العظيم غني بالمثل العليا للسيدات المسلمات اللاتي تَرَبَيْن على مأدبة القرآن ونشأن في ظلاله وفي مقدمتهن أم المؤمنين الأولى السيدة خديجة التي حباها الله عقلاً راجحاً وحكمة بالغة فسعدت برسول الله وسعد بها الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم. حفظ الله المسلمين والمسلمات من التردي في مهاوي الهلاك، وظلمات الضلال، وكتب الله لأمة الإسلام عودة كريمة إلى كتاب الله الكريم مصدر النور، والخير، والهدى والفلاح، والسعادة التامَّة في الدنيا والآخرة.
والله الهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم وبارك على من اصطفاه الله رحمة للعالمين سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه وسلم.
رسالة مفتوحة
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اطلعت على كلمة منسوبة إلى الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف بعنوان: (هذه وصية من المدينة المنورة عن الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف) . قال فيها: كنت ساهرا ليلة الجمعة أتلو القرآن الكريم، وبعد قراءة تلاوة أسماء الله الحسنى فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم فرأيت صاحب الطلعة البهية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتى بالآيات القرآنية والأحكام الشريفة رحمة بالعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: يا شيخ، قلت: لبيك يا رسول الله يا أكرم خلق الله، فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة ولم أقدر أن أقابل ربي، ولا الملائكة لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفا على غير دين الإسلام، ثم ذكر بعض ما وقع فيه الناس من المعاصي، ثم قال: فهذه الوصية رحمة بهم من العزيز الجبار، ثم ذكر بعض أشراط الساعة إلى أن قال: فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه الوصية لأنها منقولة بقلم القدر المحفوظ، ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد، ومن محل إلى محل بني له قصر في الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن كتبها وكان فقيرا أغناه الله أو كان مديوناًًًًً قضى الله دينه أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية، ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة، وقال: والله العظيم ثلاثا هذه حقيقة وإن كنت كاذبا أخرج من الدنيا على غير الإسلام، ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار، ومن كذب بها كفر".
هذه خلاصة ما في هذه الوصية المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد سمعنا هذه الوصية المكذوبة مرات كثيرة منذ سنوات متعددة تنشر فيما بين الناس فيما بين وقت وآخر، وتروج بين الكثير من العامة، وفي ألفاظها اختلاف، وكاذبها يقول: إنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم في النوم فحمّله هذه الوصية، وفي هذه النشرة الأخيرة التي ذكرناها لك أيها القارئ زعم المفتري فيها أنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم حين تهيأ للنوم لا في النوم، فالمعنى أنه رآه يقظة، زعم هذا المفتري في هذه الوصية أشياء كثيرة هي من أوضح الكذب وأبين الباطل سأنبهك عليها قريبا في هذه الكلمة إن شاء الله، ولقد نبهت عليها في السنوات الماضية وبينت للناس أنها من أوضح الكذب وأبين الباطل، فلما اطلعت على هذه النشرة الأخيرة ترددت في الكتابة عنها لظهور بطلانها وعظم جراءة مفتريها على الكذب، وما كنت أظن أن بطلانها يروج على من له أدنى بصيرة أو فطرة سليمة، ولكن أخبرني كثير من الإخوان أنها راجت على كثير من الناس وتداولوها بينهم وصدَّقها بعضهم فمن أجل ذلك رأيت أنه يتعين على أمثالي الكتابة عنها لبيان بطلانها وأنها مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتر بها أحد، ومن تأملها من ذوي العلم والإيمان أو ذوي الفطرة السليمة والعقل الصحيح عرف أنها كذب وافتراء من وجوه كثيرة، ولقد سألت بعض أقارب الشيخ أحمد المنسوبة إليه هذه الفرية عن هذه الوصية، فأجابني بأنها مكذوبة على الشيخ أحمد وأنه لم يقلها أصلا، والشيخ أحمد المذكور قد مات منذ مدة، ولو فرضنا أن الشيخ المذكور أو من هو أكبر منه زعم أنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم في النوم أو اليقظة وأوصاه هذه الوصية لعلمنا يقينا أنه كاذب أو أن الذي قال له ذلك هو شيطان وليس هو الرسول- صلى الله عليه وسلم لوجوه كثيرة، منها أن الرسول- صلى الله عليه وسلم لا يرى في اليقظة بعد وفاته - صلى
الله عليه وسلم -، ومن زعم من جهلة الصوفية أنه يرى النبي- صلى الله عليه وسلم في اليقظة أو أنه يحضر المولد أو ما أشبه ذلك فإنه غلط أقبح الغلط ولبس عليه غاية التلبيس ووقع في خطأ عظيم وخالف الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم لأن الموتى إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدنيا، ومن قال خلاف ذلك فإنه كاذب كذبا بيِّناً أو غالط ملبَّس عليه لم يعرف الحق الذي عرفه السلف الصالح ودرج عليه أصحاب الرسول- صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، كما قال الله تعالى في صفة المؤمنين:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} فأخبر سبحانه أن بعث الأموات يكون يوم القيامة لا في الدنيا.
الوجه الثاني: أن الرسول- صلى الله عليه وسلم لا يقول خلاف الحق لا في حياته ولا في وفاته وهذه الوصية تخالف شريعته مخالفة ظاهرة من وجوه كثيرة - كما يأتي - وهو- صلى الله عليه وسلم قد يُرى في النوم، ومن رآه في المنام على صورته الشريفة فقد رآه لأن الشيطان لا يتمثل في صورته كما جاء بذلك الحديث الصحيح الشريف، ولكن الشأن كل الشأن في إيمان الرائي وصدقه وعدالته وضبطه وديانته وأمانته، وهل رأى النبي- صلى الله عليه وسلم في صورته أو غيرها، ولو جاء عن النبي- صلى اله عليه وسلم - حديث قاله في حياته من غير طريق الثقاة العدول الضابطين لم يعتمد عليه أو يحتج به أو جاء من طريق الثقاة الضابطين ولكنه يخالف رواية من هو أحفظ منهم وأوثق مخالفة لا يمكن معها الجمع بين الروايتين لكان أحدهما منسوخاً لا يعمل به، والثاني ناسخ يعمل به حيث أمكن ذلك بشروطه، وإذا لم يمكن ذلك ولم يمكن الجمع وجب أن تطرح رواية من هو أقل حفظ وأدنى عدالة والحكم عليها بأنها شاذة لا يعمل بها فكيف بوصية لا يعرف صاحبها الذي نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تعرف عدالته وأمانته فهي والحالة هذه حقيقة بأن تطرح ولا يلتفت إليها وإن لم يكن فيها شيء يخالف الشرع فكيف إذا كانت الوصية مشتملة على أمور كثيرة تدل على بطلانها وأنها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتضمنة لدين لم يأذن به الله، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم:"من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار"، وقد قال مفتري هذه الوصية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وكذب عليه كذبا صريحاً خطيرا فما أحراه بهذا الوعيد العظيم وما أحقه به إن لم يبادر بالتوبة وينشر للناس أنه قد كذب هذه الوصية على رسول الله- صلى اله عليه وسلم - لأن من نشر باطلا بين الناس ونسبه إلى الدين لم تصح توبته منه إلا بإعلانها وإظهارها حتى يعلم الناس رجوعه عن كذبه
وتكذيبه لنفسه لقول الله عز وجل لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فأوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن من كتم شيئا من الحق لم تصح توبته من ذلك إلا بعد الإصلاح والتبيين، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة ببعثه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما أوحى الله إليه من الشرع الكامل ولم يقبضه إليه إلا بعد الإكمال والتبيين كما قال عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية.
ومفتري هذه الوصية قد جاء في القرن الرابع عشر يريد أن يلبس على الناس دينهم ويشرع لهم دينا جديدا يترتب عليه دخول الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهذا من أقبح الكذب ومن أوضح الدلائل على كذب هذه الوصية وقلة حياء مفتريها وعظم جرأته على الكذب لأن من كتب القرآن الكريم وأرسله من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل لم يحصل له هذا الفضل إذا لم يعمل بالقرآن الكريم، فكيف يحصل لكاتب هذه الفرية وناقلها من بلد إلى بلد، ومن لم يكتب القرآن ولم يرسله من بلد إلى بلد لم يحرم شفاعة النبي- صلى الله عليه وسلم إذا كان مؤمنا به تابعا لشريعته، وهذه الفرية الواحدة في هذه الوصية تكفي وحدها للدلالة على بطلانها وكذب ناشرها ووقاحته وغباوته وبعده عن معرفة ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم من الهدى، وفي هذه الوصية سوى ما ذكر أمور أخرى كلها تدل على بطلانها وكذبها ولو أقسم مفتريها ألف قسم أو أكثر على صحتها، ولو دعا على نفسه بأعظم العذاب وأشد الأنكال على أنه صادق لم يكن صادقاً ولم تكن صحيحة بل هي والله ثم والله من أعظم الكذب وأقبح الباطل ونحن نُشهد الله سبحانه ومن حضرنا من الملائكة، ومن اطلع على هذه الكتابة من المسلمين شهادة نلقى بها ربنا عز وجل أن هذه الوصية كذب وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخزى الله من كذبها وعامله بما يستحق، ويدل على كذبها وبطلانها سوى ما تقدم أمور كثيرة، الأول منها قوله فيها:"لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفا على غير دين الإسلام"لأن هذا من علم الغيب والرسول- صلى الله عليه وسلم قد انقطع عنه الوحي بعد وفاته، وهو في حياته لا يعلم الغيب فكيف بعد وفاته لقول الله سبحانه:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْب} الآية، وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} ، وفي الحديث الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يذاد رجال عن حوضي يوم القيامة فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ".
الثاني من أمور الدلالة على بطلان هذه الوصية وأنها كذب قوله فيها: "من كتبها وكان فقيرا أغناه الله أو مديونا قضى الله دينه أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية" إلى آخره وهذا من أعظم الكذب وأوضح الدلائل على كذب مفتريها وقلة حيائه من الله ومن عباده لأن هذه الأمور الثلاثة لا تحصل بمجرد كتب القرآن الكريم فكيف تحصل لمن كتب هذه الوصية الباطلة وإنما يريد هذا الخبيث التلبيس على الناس وتعليقهم بهذه الوصية حتى يكتبوها ويتعلقوا بهذا الفضل المزعوم ويَدَعُوا الأسباب التي شرعها الله لعباده وجعلها موصلة إلى الغنى وقضاء الدين ومغفرة الذنوب فنعوذ بالله من أسباب الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.
الأمر الثالث من الأمور الدالة على بطلان هذه الوصية قوله فيها: "ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة"وهذا أيضا من أقبح الكذب وأبين الأدلة على بطلان هذه الوصية وكذب مفتريها كيف يجوز في عقل عاقل أن من لم يكتب هذه الوصية التي جاء بها رجل مجهول في القرن الرابع عشر يفتريها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعم أن من لم يكتبها يسود وجهه في الدنيا والآخرة، ومن كتبها كان غنيا بعد الفقر وسليما من الدَيْنِ بعد تراكمه عليه، ومغفورا له ما جناه من الذنوب سبحانك هذا بهتان عظيم، وأن الأدلة والواقع يشهدان بكذب هذا المفتري وعظم جرأته على الله، وقلة حيائه من الله ولا من الناس فهؤلاء أمم كثيرة لم يكتبوها فلم تسوَّد وجوههم، وههنا جم غفير لا يحصيهم إلا الله قد كتبوها مرات كثيرة فلم يقض دينهم ولم يَزُلْ فقرهم فنعوذ بالله من زيغ القلوب، ورين الذنوب، وهذه صفات وجزاءات لم يأت بها الشرع الشريف لمن كتب أفضل كتاب وأعظمه وهو القرآن الكريم فكيف تحصل لمن كتب وصية مكذوبة مشتملة على أنواع من الباطل وجمل كثيرة من أنواع الكفر سبحان الله ما أحلمه على من اجترأ عليه بالكذب.
الأمر الرابع من الأمور الدالة على أن هذه الوصية من أبطل الباطل وأوضح الكذب قوله فيها: "ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار ومن كذّب بها فقد كفر"وهذا أيضا من أعظم الجرأة على الكذب ومن أقبح الباطل يدعو هذا المفتري جميع الناس إلى أن يصدقوا بفريته، ويزعم أنهم بذلك ينجون من عذاب النار وأن من كذَّب بها يكفر، لقد أعظم والله هذا الكذاب على الله الفرية وقال والله غير الحق أن من صدَّق بها هو الذي يستحق أن يكون كافرا لا من كذَّب بها لأنها فرية وباطل وكذب لا أساس له من الصحة، ونحن نشهد الله على أنها كذب وأن مفتريها كذَّاب يريد أن يشرع للناس ما لم يأذن به الله، ويُدخل في دينهم ما ليس منه والله قد أكمل الدين وأتمه لهذه الأمة من قبل الفرية بأربعة عشر قرنا فانتبهوا أيها القراء والإخوان، وإياكم والتصديق بأمثال هذه المفتريات وأن يكون لها رواج فيما بينكم فإن الحق عليه نور لا يلتبس على طالبه فاطلبوا الحق بدليله واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم ولا تغتروا بحلف الكذابين فقد حلف إبليس اللعين لأبويكم على أنه لهما من الناصحين وهو أعظم الخائنين وأكذب الكذابين كما حكى الله عنه ذلك في سورة الأعراف حيث قال سبحانه:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} فاحذروه واحذروا أتباعه من المفترين فكم له ولهم من الأيمان الكاذبة والعهود الغادرة والأقوال المزخرفة للإغواء والتضليل، عصمني الله إياكم منها وسائر المسلمين من شر الشياطين وفتن المضلين وزيغ الزائغين وتلبيس أعداء الله المبطلين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويلبسوا على الناس دينهم والله متم نوره وناصر دينه ولو كره أعداء الله من الشياطين وأتباعهم من الكفار والملحدين.
وأما ما ذكره هذا المفتري من ظهور المنكرات فهو أمر واقع، والقرآن الكريم والسنة المطهرة قد حذرا منها غاية التحذير وفيهما الهداية والكفاية، ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يمن عليهم باتباع الحق والاستقامة عليه، والتوبة إلى الله سبحانه من سائر الذنوب فإنه التواب الرحيم والقادر على كل شيء.
وأما ما ذكر عن شروط الساعة فقد أوضحت الأحاديث النبوية ما يكون من أشراط الساعة، وأشار القرآن الكريم إلى بعض ذلك، فمن أراد أن يعلم ذلك وجده في محله من كتب السنة، ومؤلفات أهل العلم والإيمان، وليس بالناس حاجة إلى بيان مثل هذا المفتري وتلبيسه ومزجه الحق بالباطل وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
شعر أهل الحديث
(تابع لما أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم
بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
روى القاضي ابن العربي بسنده عن طريق زكريا بن يحيى قال: "ثنا عمر بن زحر بن حصن عن حميد بن منهب قال: سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة يقول: "هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة مُنْصَرَفَهُ من تبوك فسمعت العباس قال: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك. قال: "قل لا يفضض الله فاك". فقال العباس:
مستودع حيث يخصف الورق
من قبلها طبت في الظلال وفي
أنت ولا مضغة ولا علق
ثم هبطت البلاد لا بشر
ـجم نسراً وأهله الغرق
بل نطفة تركب السفين وقد ألـ
إذا مضى عالم بدا طبق
تنقل من صالب إلى رحم
خندف علياء تحتها النطق
حتى استوى بيتك المهيمن من
ض وضاءت بنورك الأفق
وأنت لما بعثت أشرقت الأر
ر وسبل الرشاد نخترق
فنحن في ذلك الضياء وفي النو
فقال له النبي:"لا يفضض الله فاك.."[1]
ومنه ما روى الترمذي وصححه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه يقول:
اليوم نضربكم على تنزيله
خلوا بني الكفار عن سبيله
ويذهل الخليل عن خليله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
وفي رواية:
قد أنزل الرحمن في تنزيله
خلوا بني الكفار عن سبيله
يا رب إني مؤمن بقيله
في صحف تتلى على رسوله
اليوم نضربكم على تأويله
إني رأيت الحق في قبوله
ويذهل الخليل عن خليله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
وفي رواية البزار:
بأن خير القتل في سبيله
قد أنزل الرحمن في تنزيله
فقال عمر: "يا ابن رواحة؟ في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر؟ "
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خلِّ عنه يا عمر فإنه أسرع فيهم من نضح النبل"[2]
ومنه ما أخرج ابن سعد [3] عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قالا: "لما كان يوم فتح مكة كان عبد الله بن أم مكتوم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الصفا والمروة وهو يقول:
أرض بها أهلي وعوّادي
يا حبذا مكة من وادي
أرض بها ترسخ أوتادي
أرض بها أمشي بلا هادي
ومما ذكره ابن سيد الناس عن ابن إسحاق في سبب فتح مكة قال: "لما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق خرج عمرو بن سالم الخزاعي، قال ابن سعد:"في أربعين راكباً حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان ذلك ما هاج فتح مكة فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
يا رب إني ناشد محمداً
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا
وادع عباد الله يأتوك مددا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا
فيهم رسول الله قد تجردا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
في فَيْلَقٍ كالبحر يجري مزبدا
وجعلوا لي في كداء رصدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وهم أذل وأقل عددا
وزعموا أن لست أدعوا أحدا
وقتلونا ركّعاً وسجّدا
هم بيّتونا بالوتير هجّدا
يقول: "قتلنا وقد أسلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم". [4] وسار بجيوشه ففتح مكة.
وذكر هذا الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح إلا محمد بن عمرو وحديثه حسن"[5] .
ومما أخرجه ابن سيد الناس بسنده من طريق أبي عمرو بن طارق قال: "سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول: "لما أسرنا رسول الله صلى الله عيه وسلم يوم حنين يوم هوازن وذهب يفرق السبي والشاء أتيته وأنشأت أقول:
فإنك المرء نرجوه وننتظر أمنن علينا رسول الله في كرم
مشتت شملها في دهرها غير أمنن على بيضة قد عاقها قدر
على قلوبهمُ الغمّاد والغمر أبقت لنا الدهر هتافاً على حزن
يا أرجح الناس حلماً حين يُختبر إن لم تداركهمُ نعماء تنشرها
إذ فوك تملؤها من مخضها الدّرر أمنن على نسوة كنت ترضعها
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها
واستبق منا فإنا معشر زهر لا تجعلنا كمن شالت نعامته
وعندنا بعد هذا اليوم مدخر إنّا لنشكر للنعماء إذ كفرت
من أمهاتك إن العفو مشتهر فألبس العفو من قد كنت ترضعه
عند الهياج إذا ما استوقد الشرر يا خير من مرجت كمت الجياد به
هذي البرية إذ تعفو وتنتصر إنا نؤمل عفواً منك تلبسه
يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر فاعفو عفا الله عما أنت راهبه
قال فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشعر قال: "ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم"، وقالت قريش:"ما كان لنا فهو لله ولرسوله". وقالت الأنصار: "ما كان لنا فهو لله ولرسوله". قال الطبراني:"لا يروى عن زهير بن صرد بهذا التمام إلا بهذا الإسناد تفرد به عبيد الله بن رماحس"[6] .
قلت: وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد [7] عن عبد الله بن عمرو وقال: "رواه الطبراني وفيه ابن اسحق مدلس ولكنه ثقة وبقية رجاله ثقات..". وذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه عن ابن اسحق قال: "حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي رواية يونس بن بكير عنه.."
نظراته صلى الله عليه وسلم في الشعر ونقده له:
في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة
قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل [8]
وهذا شطر بيت للبيد وهو ابن ربيعة العامري صاحب المعلقة. ذكر صاحب الشعر والشعراء هذا البيت في قصيدة للبيد كما يلي:
وكل نعيم لا محالة زائل
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قضى عمراً والمرء ما عاش آمل
إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه
ويفنى إذا ما أخطأته الحبائل
حبائله مبثوثة بسبيله
ألما يعظك الدهر أمك هابل
فقولا له إن كان يقسم أمره
لعلك تهديك القرون الأوائل
فإن أنت لم تصدق نفسك فانتسب
ودون معد فلتزعك العواذل
فإن لم تجد من دون عدنان والداً
إذا كشفت عند الإله المحاصل [9]
وكل امرئ يوماً سيعلم سعيه
وهذا الذي سبق من النبي صلى الله عليه وسلم إشادة بهذا الشطر من البيت لاحتوائه على هذا المعنى الموجز العظيم وسكوته صلى الله عليه وسلم عن الشطر الآخر كان عدم رضا به وهو قوله: "وكل نعيم لا محالة زائل"
فإن العموم هنا ليس مقبولاً ولذلك فقد انتقد عثمان بن مظعون رضي الله عنه هذا الشطر لما أنشد لبيد القصيدة فلما قال: "وكل نعيم لامحالة زائل"قال: "كذبت إلا الجنة". ذكره ابن حجر في الإصابة وابن هشام [10] .
ومن نقده صلى الله عليه وسلم لمعاني الشعر استدراكه على النابغة الجعدي لما قال:
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً
فقال له: "أين المظهر يا أبا ليلى"، وفي رواية أنه غضب صلى الله عليه وسلم وذلك أن ظاهر البيت فيه مبالغة عظيمة فإنه لا يرجى اعتلاء فوق السماء لمخلوق فهو معنى مردود.. لولا ذكاء الشاعر رضي الله عنه وسرعة بديهته وتأويله لمراده بأنه الجنة.
ومن هذا الباب أيضاً إعجابه صلى الله عليه وسلم بقول الأعشى المازني:
وهن شر غالب لمن غلب
فجعل يكرر هذا الشطر..
وذلك أنه معنى واقع محسوس يصدقه كل سامع، وأول ما يصدقه واقعة الشاعر نفسه فطابقت هذه الكلمة حاله مطابقة جيدة.
ومنه أيضاً دعاؤه للنابغة لما أنشد قوله:
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
حليم إذا أورد الأمر أصدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
قال: "أحسنت لا يفضض الله فاك"، على حين أنه صلى الله عليه وسلم استنكر قبل ذلك بقليل أبياتاً من القصيدة كما سبق، فذلك منه صلى الله عليه وسلم دقة في النظر في الشعر والتفريق بين معانيه وعباراته وتحريض في نفس الوقت للشعراء أن يحرصوا على اختيار المعاني الجيِّدة السامية الصادقة في شعرهم، وأن يحترسوا من التورط في المعاني المردودة الفاسدة أو المبالغات القبيحة.. ومواقفه صلى الله عليه وسلم كلها من الشعر والشعراء تدل على تذوقه لمعانيه وفهمه العميق لمراميه، فهو يقبل بعضاً ويرد بعضاً ويؤثر فيه الشعر حتى يشفعه ويرق لصاحبه ويقبل عليه، بل ويكافئه كما فعل بكعب بن زهير..
هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم يدرك بنظره الثاقب مدى خطورة دَوْر الشعر وأهميته في ميدان دعوته ورسالته فالعرب أمة شاعرة تعظم الشعر.
ولذلك اتخذ صلى الله عليه وسلم الشعر سلاحاً يرد به خطر الحرب الكلامية التي أعلنها عليه شعراء قريش وفطاحل البيان فيها. فكان من شعرائه الذين ينافحون عنه حسان بن ثابت رضي الله عنه الذي لا يخفى بلاؤه في هذه الحرب على أحد وكيف كانت أبياته تقض مضجع القريشيين.. وقد سبق في هذا البحث أن عبد الله بن الزبعرى لما هرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران قال فيه حسان:
نجران في عيش أجذ لئيم
لا تعدمن رجلاً أحلك بغضه
فما كاد هذا البيت يبلغ ابن الزبعرى رضي الله عنه حتى فعل فعله بنفسه فجاء يسعى إلى رسول الله ويعتذر له عما سلف ثم أسلم
…
ومنهم كذلك كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما..
قال عبد الله: "بينما أنا أجتاز في المسجد ورسول الله في ناس من أصحابه إذ قال القوم: "يا عبد الله بن رواحة". فظننت أن رسول الله يدعوني فجئت، فقال: "اجلس يا عبد الله بن رواحة كيف تقول الشعر إذا أردت أن تقول؟ "؛ فقلت: "أنظر ثم أقول". قال: "عليك بالمشركين". ولم أكن أعددت شيئاً لذلك فقلت:
متى كنتم مطاريق أو دانت لكم مضر
فخبروني أثمان العباء متى
فنظرت الكراهية في وجه رسول الله أن جعلت قومه أثمان العباء فنظرت ثم قلت:
على البرية فضلاً ما له غِيرُ
يا هاشم الخير إن الله فضلكم
فراسة خالفتهم في الذي نظروا
إني تفرَّست فيك الخير أعرفه
في جل أمرك ما آووا ولا نصروا
ولو سألْتَ أو استنصرت بعضَهم
تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
فثبت الله ما آتاك من حسن
قال: "وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة"[11] .
قلت: وهذا الذي وقع فيه ابن رواحة في البيت الأول قد احترس منه حسان وهو أذكى في الشعر وأطول باعاً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم:"والله لأسُلنّك منهم كما تسلُّ الشعرة من العجين".. وقد فعل..إلا أن ابن رواحة رضي الله عنه أحسن استدراك خطئه فأزال ما كان وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من كراهية لما قال.
ما نسب من الشعر إلى الخلفاء الراشدين:
ذكر أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني في كتابه عن الشعر طرفاً من هذا النوع وأفرد له باباً.. وجاء بشعر للخلفاء الأربعة يحتاج إلى النظر في ثبوته فإن ابن رشيق ليس ممن يؤخذ عنه مثل ذلك.
أما خليفة رسول أبو بكر الصديق رضي الله عنه فنسب إليه الأبيات الآتية وذكرها أيضاً ابن هشام في كلامه عن سرية عبيدة بن الحارث وهي أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو بكر رضي الله عنه حسب زعم الراوي قال هذه القصيدة في هذه الغزوة.. وأشار إليها ابن عبد البر في الاستيعاب كما سيأتي قال ابن هشام: "قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر رضي الله عنه في غزوة عبيدة بن الحارث:
أرقت أو أمر في العشيرة حادث
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث
عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
ترى من لؤي فرقة لا يصدها
عليه وقالوا لست فينا بماكث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا
وهرُّوا هرير المحجرات اللواهث
إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا
وترك التقى شيء لهم غير كارث
فكم قد منينا فيهم بقرابة
فما طيبات الحل مثل الخبائث
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم
فليس عذاب الله عنهم بلابث
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم
لنا العز منها في الفروع والأثائث
ونحن أناس من ذؤابة غالب
حراجيج تخدى في السريح الرثائث
فأولى بربِّ الراقصات عشية
يردن حياض البئر ذات البنائث
كأدم ظباء حول مكة عكف
وليس إذا آليت قولاً بحانث
لئن لم يفيقوا عاجلاً من ضلالهم
تحرم أطهار النساء الطوامث
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق
ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث
تغادر قتلى تعصب الطير حولهم
وكل كفور يبتغي الشر باحث
فأبلغ بني سهم لديك رسالة
فأن من أعراضكم غير شاعث
فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم
قال:"فأجابه عبد الله بن الزبعرى السهمي فقال:
بكيت بعين دمعها غير لابث
أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث
وفيها يقول:
فما أنت عن أعراض فهر بماكث
فأبلغ أبا بكر لديك رسالة
قال ابن هشام: "وأكثر أهل العلم ينكر هذه القصيدة لابن الزبعرى". وقال السهيلي: "ويشهد لصحة من أنكر أن تكون له - أي قصيدة أبي بكر - ما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر في الإسلام". رواه محمد البخاري عن أبي المتوكل عن عبد الرزاق".
قلت: وهذا حديث صحيح وقد رواه ابن عبد البر في الاستيعاب أيضاً فقال: "روى سفيان بن حسين عن الزهري قال: "سألني عبد الملك بن مروان فقال: "أرأيت هذه الأبيات التي تروى عن أبي بكر". فقلت له: "إنه لم يقلها، حدثني عروة عن عائشة أن أبا بكر لم يقل بيت شعر في الإسلام حتى مات". [12]
قلت: رواية ابن عبد البر هذه وإن كان فيها سفيان وقد ضعفوه في الزهري إلا أنه تابعه معمر كما سبق..
والحق يقال أنه لا ينبغي التردد في تكذيب نسبة هذه القصيدة إلى أبي بكر وأنه قال شعراً في الإسلام حتى مات تصديقاً للصديقة رضي الله عنها وهي أعلم بحال أبيها. وإن كان قال شعراً أو لم يقل. مع أنه لو قال شيئاً من الشعر فلا أشك أنه لا يخفى عليها لما علم من حفظها للشعر وروايتها له. أخرج ابن عبد البر في الاستيعاب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: "ما رأيت أحداً أروى للشعر من عروة فقيل له ما أرواك يا أبا عبد الله؟ قال: "وما روايتي من رواية عائشة ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعراً". هذا مع أن القصيدة نفسها تكاد تنطق بالتكذيب لما هو واضح عليها من الصناعة والتكلُّف حتى إنني لأكاد أقول إن منتحلها وضع القاموس أمامه لو كان وجد في زمنه فنقب فيه عن (الأثائث) و (الرثائث) و (البنائث) وغير ذلك من الكلمات الثقيلة. والقصيدة كلها في ثقل هذه الكلمات ولو قارنت بينها وبين ما صحت نسبته من الشعر للصحابة لرأيت بوناً شاسعاً فشعر الصحابة خفيف سلس رقيق لا تعمُّق فيه ولا تصنُّع ولا تكلُّّف
…
في الغالب الكثير، لأنهم لا يشتغلون بالشعر صناعة وهواية إنما ينطقون به على سجيَّتهم من غير تفرُّغ له.. اللهم إلا ما يكون من حسان رضي الله عنه فإنه شاعر مشهور في الجاهلية والإسلام.
وقد عجبت للشعبي فيما نقله عنه ابن عبد البر كيف يقول: "كان أبو بكر شاعراً وكان عمر شاعراً وكان علي أشعر الثلاثة"[13] .
أكان رحمه الله يرد كلام عائشة في أبيها أم لم يسمع هذا الحديث منها ولم يبلغه عنها.. أم تراه فهم من كلام عائشة أنه كان شاعراً ولم يقل بيت شعر بعد أن أسلم؟ قال ابن عبد البر: "وذكر الأموي عن أبيه عن ابن إسحاق قال: "قال أبو بكر رضي الله عنه في مسطح:
من الكلام ولم تتبع بها طمعا
يا عوف ويحك هلا قلت عارفة
ولم تكن قاطعاً يا عوف منقطعا
وأدركتك حياء معشر أنف
ولا تقول ولو عاينته قذعا
أما حزنت من الأقوام إذا حسدوا
أمينة الجيب لم تعلم لها خضعا
لما رميت حَصاناً غير مقرفة
في سيِّء القول من لفظ الخنا شرعا
فيمن رماها وكنتم معشراً إفكا
وبين عوف وبين الله ما صنعا
فأنزل الله وحياً في براءتها
شر الجزاء إذا ألفيته هجعا
فإن أعش أجز عوفاً من مقالته
ومن العجب أن تكون هذه الأبيات حسب زعم ابن اسحق في قصة الإفك التي تورط فيها مسطح وتكون عائشة موضع القصيدة ثم تخفى عليها..
لا أظن أن كل هذا يقوى على مقاومة ما صح عنها وقد حكمت به حكماً صارماً يدل على يقينها في هذا الأمر: "كذب من أخبركم أنّ أبا بكر قال بيت شعر في الإسلام"
…
أما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسبوا إليه أبياتاً منها:
يبقى الإله ويفنى المال والولد
لاشيء مما ترى تبقى بشاشته
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه
والجن والإنس فيما بينها ترد
ولا سليمان إذ تجري الرياح له
لا بدّ من ورده يوماً كما وردو
حوض هنالك مورود بلا كذب
ذكر ذلك ابن رشيق وإنما هي لورقة بن نوفل نسبها إليه صاحب الأغاني وذكر قبلها هذه الأبيات [14] :
أنا النذير فلا يغرركموا أحد
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم
فإن دعوكم فقولوا بيننا جدد
لا تعبُدُنّ إلهاً غير خالقكم
وقبل قد سبّح الجودي والجمد
سبحان ذي العرش سبحاناً نعوذ به
لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد
مسخَّر كل ما تحت السماء له
وقد ذكرها صاحب زهر الآداب فقال [15] :
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حج فلما كان بضَجْنان قال: "لا إله إلا الله العلي العظيم المعطي من شاء ما شاء، كنت في هذا الوادي في مدرعة صوف أرعى إبل الخطاب وكان فظاً يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصرت وقد أمسيت الليلة ليس بيني وبين الله أحد"ثم تمثل:
لا شيء مما ترى يبقى بشاشته
…
الأبيات.
وذكر الألوسي في كتابه بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب [16] هذه الأبيات لورقة ابن نوفل وأنه مر ببلال وهو يعذَّب ويقول: "أحد أحد" فوقف عليه وقال: "أحد أحد والله يا بلال"ونهاهم عنه فلم ينتهوا. فقال والله لئن قتلتموه لأتخذن قبره حناناً وقال:
أنا النذير فلا يغرركموا أحد
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم
إلى آخر الأبيات المذكورة.. وقد ذكر ابن هشام وقوف ورقة على بلال ونهيه لهم عن تعذيبه ولم يذكر أنه قال هذه الأبيات حينئذ فلا أدري من أين أخذ ذلك الألوسي رحمه الله [17] !
ونسبوا إليه أيضاً أنه قال:
على كل دين قبل ذلك حائد
ألم ترى أن الله أظهر دينه
تداعَوْا إلى أمر من الغي فاسد
وأمكنه من أهل مكة بعدما
مسوقة بين الزبير وخالد
غداة أجال الخيل في عرصاتها
وأمسى عداه من قتيل وشارد
فأمسى رسول الله قد عز نصره
ذكر ذلك صاحب زهر الآداب وذكره ابن رشيق في العمدة ومن العجب أن يزعم في زهر الآداب أن عمر قال هذه الأبيات يوم فتح مكة..
وهو الذي زجر عبد الله بن رواحة وأنكر عليه إنشاده الشعر عند دخول مكة في عمرة القضاء قائلاً: "أفي حرم الله وبين يدي رسول الله؟؟.."ثم سبق لك في عدد من الأحاديث تشديده رضي الله عنه على الشعراء وموقفه الحازم من الشعر، ففي حديث الأسود بن سريع وصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"هذا الرجل لا يحب الباطل"[18] . وأراد الشعر ويكفي هذا دلالة على أن عمر كان أشدَّ من النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من الشعراء وليس ذلك كراهية منه لذلك وإنما هي سياسة إسلامية لتصفية معاني الشعر ومقاصده من شوائب الجاهلية ومحاولة للحدِّ من اشتغال العرب به خشية أن يلهيهم عن القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو غرض مستقى من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم نفسه إذ سبق شرح سياسته صلى الله عليه وسلم في الشعر إلا أن عمر يتميز بالشدة والصرامة والنبي صلى الله عليه وسلم رؤوف رحيم.
هذا مع أن عمر رضي الله عنه كان من اعرف الفصحاء بمعاني الشعر وأنقدهم له وكان يحفظه ويرويه والأخبار بذلك كثيرة لو أردت أن أسوقها لطال البحث وتوسع [19] إلا أنني أذكر طرفاً من ذلك يدل على أمرين:
قال ابن حجر في الإصابة في ترجمة تميم بن مقبل: "وله خبر مع عمر بن الخطاب حين استعداه على النجاشي الشاعر لأنهما كانا يتهاجيان والقصة مشهورة رويناها في كتاب المجالس وذكرها ثعلب في فوائده من رواية أبي الحسن بن مقسم عنه قال: قال أصحابنا: استعدى تميم بن مقبل عمر بن الخطاب على النجاشي فقال:"يا أمير المؤمنين هجاني فأعدني عليه. قال: "يا نجاشي ما قلت؟ "قال: "يا أمير المؤمنين قلت ما لا أرى عليه إثماً"وأنشد:
فجازى بني العجلان رهط ابن مقبل
إذا الله جازى أهل لؤم بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
قُبَيِّلَة لا يغدرون بذمة
فقال عمر: "ليتني من هؤلاء. فقال:
إذا صدر الوارد عن كل منهل
ولا يردون الماء إلا عشيَّة
فقال عمر: "ما على هؤلاء متى وردوا". فقال:
خذ العقب واحلب أيها العبد واعجل
وما سمي العجلان إلا لقوله
فقال عمر: "خير القوم أنفعهم لأهله". فقال تميم: "فسله عن قوله:
ـئيم ورهط العاجز المتذلل
أولئك أولاد الهجين وأسرة اللـ
فقال عمر: "أما هذا فلا أعذرك عليه فحبسه وضربه".
وذكر أيضاً في ترجمة لبيد بن ربيعة أنه أمر عامله على الكوفة أن يسأله عمَّا أحدث من الشعر بعد الإسلام فقال لبيد: "أبدلني الله خيراً من ذلك سورة البقرة وآل عمران". فزاد عمر في عطائه..
وذكر صاحب الأغاني القصة وزاد أنه أنقص من عطاء الأغلب العِجْلي لما قال جواباً على ذلك:
لقد طلبت هيناً موجوداً
أرجزاً تريد أم قصيداً
فهذان الخبران يدلان على أنه رضي الله عنه لم يكن يرضى من الشعراء الاشتغال بما كانوا يشتغلون به من مقاصد الهجاء واللهو واللغو.. وأنه كان يحرِّضهم على الاشتغال بالقرآن فهو أبلغ بيان وأعظم منهل وتلاحظ في نفس الوقت أنه رضي الله عنه تجاهل في بادئ الأمر ما هو مضمَّن من الهجاء في أبيات النجاشي ولا يقولن قال أن ذلك كان عدم معرفة بالشعر فإن قوله:
إذا الله جازى أهل لؤم بذمة
يكاد يكون صريحاً في قصد الذم والهجاء، إلا أن عمر لم يرد إذكاء النار بينهما أو بين القبيلتين وحاول أن يدرأ الحد بالشبهة وأن يلطِّف الجو. وأنت تعلم أثر الهجاء في العرب.. حتى إذا انكشف الهجاء صريحاً في البيت الأخير عاقبه وضربه وحبسه.. ومثل هذا ما يروى عن حبسه للحطيئة لما استعداه عليه الزبرقان ابن بدر فقد حاول رضي الله عنه في البداية أن يصلح بينهما ويتجاهل قصد الهجاء في قول الحطيئة:
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
ثم حكم فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه فحكم عليه حسان..
فكل هذا وما أشبهه مما يروى عن عمر لا يدل على أنه رضي الله عنه كان قصير النظر في الشعر.. فإنه من أفصح العرب لكنه يدل على أنه رضي الله عنه كان يلتزم موقف القاضي: والقاضي لا يتسرع في الحكم..
ونسبوا إليه رضي الله عنه كذلك أنه قال:
بكفِّ الإله مقاديرها
هوِّن عليك فإن الأمور
ولا قاصر عنك مأمورها
فليس بآتيك منهيُّها
وفي منتخب كنز العمال [20] قال: "عن أبي خالد الغساني قال ثني مشيخة من أهل الشام أدركوا عمر قالوا: "لما استخلف عمر صعد المنبر فلما رأى الناس أسفل منه حمد الله ثم كان أول كلام تكلم به بعد الثناء على الله ورسوله:
بكف الإله مقاديرها
هون عليك فإن الأمور
ولا قاصر عنك مأمورها
فليس يؤاتيك منهيها
ولا يخفى أن هذا الأثر لا يعول عليه.
وقد بحثت عن قائل هذين البيتين فلم أكد أعثر عليه وقد ذكرهما ابن عبد ربه في العقد الفريد وأبو عبيد البكري في فصل المقال شرح كتاب الأمثال وابن رشيق في العمدة كل ذلك من غير نسبة إلى أحد [21] إلا أن ابن رشيق قال: "ويروى للأعور الشني.."فرجعت إلى ترجمته في الشعر والشعراء لابن قتيبة وفي المؤتلف والمختلف فلم يذكروهما فيما ذكرا من أشعاره.
ونسبوا إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال:
وإن عضها حتى يضربها الفقر
غني النفس يغني النفس حتى يكفها
بكائنة إلا سيتبعها يسر
وما عسرة - فاصبر لها إن لقيتها -
ذكر ذلك ابن رشيق في العمدة وصاحب زهر الآداب ولا يُحتجُّ بقولهم ولم أرهم نسبوا إليه غير ذلك.
أما رابع الخلفاء الراشدين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقد نسب إليه شعر كثير ولا يصح منه إلا شيء يسير، وفيما نسب إليه تفصيل ويحتاج إلى تحقيق ودليل فإن الشيعة جزاهم الله بما يستحقون افتروا عليه رضي الله عنه من النثر والشعر ما لا يحصى، وتفرغ لذلك منهم الشريف الرضي لا أرضاه الله.. فتجد في كتابه (نهج البلاغة) كلاماً منسوباً إلى علي رضي الله عنه وحاشا له أن يقوله بل هو أليق بواضعه لما فيه من تكلُّف وتبذًّل وإسفاف. ولعل هذا (الشريف الرضي) انتحل كثيراً من الشعر أيضا ونسبه إلى علي فإنه شاعر مُجيد وإني لأجد كثيراً مما يُنسب إلى أمير المؤمنين هو أشبه بشعره.. وأبعد عن نكهة الصحابة ونورهم..
ويتداول الجهال ديواناً له رضي الله عنه لا يستحق أن يُلتفت إليه ويتعب في تحقيقه.. بل التشمير لما في الكتب المعتمدة من مصادر التاريخ والأدب والأثر.. وإن كنت لم أستقص ما ورد من ذلك فيها وأستقرئه إلا أنني ذكرت زبدته وأهم ما فيه.. وسوف أشرع في بيانه في الفصل القادم إن شاء الله ثم أتبع ذلك بالشروع في صميم المقصود الذي هو ما روى من شعر المحدّثين.. مقدّماً له بتفصيل موجز عن خصائص هذا الشعر..
وإنما أفردت ما سبق من الفصول وتوسعت فيها.. لمعرفة موقف صاحب الحديث صلى الله عليه وسلم من الشعر..
للبحث صلة
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
- أحكام القرآن: 1427، وذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه أن البيهقي أخرجه كذلك بسند عن زكريا بن يحيى، وزكريا هو ابن يحيى بن عمر بن حصن بن حميد بن منهب الطائي قال ابن حجر:"صدوق له أوهام"، وذكر الحديث أيضاً الذهبي في سير أعلام النبلاء وقال: قال الحاكم: "رواته أعراب ومثلهم لا يضعفون". قال الذهبي: "قلت ولكنهم لا يعرفون"(75:2) .
[2]
- الترمذي في كتاب الأدب.
[3]
- الطبقات الكبرى 141:2 وهو خبر مرسل فإن أبا سلمة ويحيى تابعيان، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، ويحيى هو ابن عبد الرحمن بن حاطب بن بلتعة وهما ثقتان.
[4]
- عيون الأثر 165:2
[5]
- مجمع الزوائد 161:6
[6]
- عيون الأثر 196:2
[7]
- مجمع الزوائد 187:6
[8]
- البخاري 53:5
[9]
- الشعر والشعراء لابن قتيبة ط دار الثقافة ببيروت:199.
[10]
- السيرة النبوية 37:1
[11]
- رواه الطبراني وابن سعد قال الهيثمي رجال الطبراني ثقات إلا أن معدل بن عمارة لم يدرك ابن رواحة كذا من مجمع الزوائد 125:4
[12]
-الاستيعاب 248:2
[13]
- الاستيعاب في ترجمة عوف بن أثاثة المعروف بمسطح
[14]
- الأغاني ط: التقدم بمصر 15:3
[15]
- زهر الآداب 41:1
[16]
- بلوغ الأرب 271:2
[17]
- لعله أخذها عن أصل السيرة لابن إسحاق، إذ المعروف أن ابن هشام قد حذف منها غير قليل من الشعر (المجلة) .
[18]
- أخرجه البخاري في الأدب المفرد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الأسود والنسائي عن الحسن البصري عن الأسود وكلاهما لم يسمع من الأسود وسمع عبد الرحمن من عبد الله بن عمرو الأسود فهما طريقان مرسلان وأخرجه كذلك أحمد في مسنده والحاكم وابن حبان في صحيحه.
[19]
- وقد أفرد الشيخ الأديب علي الطنطاوي بابين في كتابه (أخبار عمر) ذكر شيئاً كثير من ذلك فيهما (308-331) .
- 305:6
[20]
[21]
- العقد الفريد 141:3، فصل المقال: 232، العمدة 33:1
عقيدة أهل السنة والأثر في الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم
بقلم الشيخ عبد المحسن العباد
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
من رحمة الله بعباده وإحسانه إليهم وفضله عليهم أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ليبلغهم رسالة ربهم ويرشدهم إلى كل ما ينفعهم ويحذرهم كل ما يضرهم وقد قام صلى الله عليه وسلم بما أرسل به على التمام والكمال فدل أمته على كل خير وحذرها من كل شر ونصح غاية النصح وقد اختار الله لصحبته وتلقي الشريعة عنه قوما هم أفضل هذه الأمة التي هي خير الأمم فشرَّفهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وخصَّهم في الحياة الدنيوية بالنظر إليه وسماع حديثه من فمه الشريف وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقد بلَّغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعثه الله به من النور والهدى على أكمل الوجوه وأتمها فكان لهم الأجر العظيم لصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه في سبيل الله وأعمالهم الجليلة في نشر الإسلام ولهم مثل أجور من بعدهم لأنهم الواسطة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجر من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه وقد أثنى الله عليهم في كتابه العزيز وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة وحسبهم ذلك فضلا وشرفا قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} . وقال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وقال
تعالى في بيان مصارف الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ والَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ..هذه ثلاث آيات من سورة الحشر الأولى منها في المهاجرين والثانية في الأنصار والثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار مستغفرين لهم سائلين الله تعالى أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم وليس وراء هذه الأصناف الثلاثة إلا الخذلان والوقوع في حبائل الشيطان ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير بشأن بعض هؤلاء المخذولين: "أمروا أن يستغفروا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فسبُّوهم"أخرجه مسلم في أواخر صحيحه وقال النووي في شرحه بعد ذكر آية الحشر: "وبهذا احتج مالك في أنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله عنهم لأن الله إنما جعله لمن جاء من بعدهم يستغفر لهم"، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . وقال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمران بن حصين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" والله أعلم ذكر الثالث أم لا. وأخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث" وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم"، وروى ابن بطة بإسناد صحيح - كما في منهاج السنة لابن تيمية - عن ابن عباس أنه قال:"لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة يعني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة "وفي رواية وكيع: "خير من عمل أحدكم عمره". ولما ذكر سعيد بن زيد رضي الله عنه العشرة المبشرين بالجنة قال: "والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عمِّر عُمْر نوح"أخرجه أبو داود والترمذي، وعن جابر رضي الله عنه قال:"قيل لعائشة أن أناسا يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر"أخرجه رزين كما في جامع الأصول لابن الأثير ويشهد لذلك قوله
صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". وروى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" وأخرج من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ولفظه: "كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه"، فإذا كان سيف الله خالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية لا يساوي العمل الكثير منهم القليل من عبد الرحمن بن عوف وغيره ممن تقدم إسلامه مع أن الكل تشرف بصحبته صلى الله عليه وسلم فكيف بمن لم يحصل له شرف الصحبة بالنسبة إلى أولئك الأخيار، إن البون لشاسع وإن الشقة لبعيدة فما أبعد الثرى عن الثريا بل وما أبعد الأرض السابعة عن السماء السابعة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
هذه بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على فضل أولئك الأخيار الذين ما كانوا ولا يكونون رضي الله عنهم.
وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم عدول بتعديل الله تعالى لهم وثنائه عليهم وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم. قال النووي في التقريب الذي شرحه السيوطي في تدريب الراوي: "الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به"انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: "اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة"انتهى. ولهذا لا تضر جهالة الصحابي فإذا قال التابعي: "عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم"لم يؤثر ذلك في المروي لأن الجهالة في الصحابة لا تضر لأنهم كلهم عدول قال الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية: "كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره في نص القرآن". ثم ساق بعض الآيات والأحاديث في فضلهم ثم قال: "على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين"وروى بإسناده عن أبي زرعة قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدوا أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة". ومذهب أهل السنة والجماعة فيهم وسط بين طرفيها الإفراط والتفريط وسط بين المفرطين الغالين الذين يرفعون من يعظمون منهم إلى ما لا
يليق إلا بالله أو برسله وبين المفرِّطين الجافين الذين ينقصونهم ويسبونهم فهم وسط بين الغلاة والجفاة يحبونهم جميعا وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف فلا يرفعونهم إلى ما لا يستحقون ولا يقصرون بهم عما يليق بهم فألسنتهم رطبة بذكرهم بالجميل اللائق بهم وقلوبهم عامرة بحبهم وما صح فيما جرى بينهم من خلاف فهم فيه مجتهدون إما مصيبون فلهم أجر الاجتهاد والإصابة وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، وليسوا معصومين بل هم بشر يصيبون ويخطئون ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم ولهم من الله المغفرة والرضوان، وكتب أهل السنة مملوء ببيان هذه العقيدة الصافية النقية في حق هؤلاء الصفوة المختارة من البشر لصحبة خير البشر صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين ومن ذلك قول الطحاوي في عقيدة أهل السنة:"ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"وقال ابن أبي زيد القيرواني المالكي في مقدمة رسالته المشهورة: "وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب. وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب السنة: "ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين والكف عن الذي جرى بينهم فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدا منهم فهو مبتدع رافضي، حبهم سنة والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة".وقال: "لا يجوز لأحد أن يذكر
شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ثم يستتيبه فإن تاب قبل منه وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يتوب ويرجع".وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في كتاب عقيدة السلف وأصحاب الحديث: "ويرون الكفّ عمّا شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبا أو نقصا فيهم ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافَّتهم". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العقيدة الواسطية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم ألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم ويفضِّلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل ويقدمون المهاجرين على الأنصار ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وبأنه لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ويشهدون بالجنَّة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم يثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم
كما دلت عليه الآثار وكما أجمع على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل فقدَّم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي وقدَّم قوم عليّاً وقوم توقفوا لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلَّلُ المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله". ثم ذكر محبتهم لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوليهم لهم وحفظهم فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وتولِّيهم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين وإيمانهم بأنهنَّ أزواجه في الآخرة ثم قال: "ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما جرى بين الصحابة ويقولون أن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيّر عن وجهه الصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق ومن الفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق
الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفَّر به عنه فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما منَّ الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله".
هذه خمسة نماذج من أقوال السلف الصالح فيما يجب اعتقاده في حق خيار الخلق بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه ورضي الله عن الصحابة أجمعين. ومما ينبغي التفطن له أن القدح في هؤلاء الصفوة المختارة رضي الله عنهم قدح في الدين لأنه لم يصل إلى من بعدهم إلا بواسطتهم وتقدم في كلام أبي زرعة قوله: "وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة"يعني الذين ينتقَّصون أحدا من الصحابة، وأن القدح فيهم لا يضرهم شيئا بل يفيدهم كما في حديث المفلس ولا يضر القادح إلا نفسه فمن وجد في قلبه محبة لهم وسلامة من الغل لهم وصان لسانه عن التعرض لهم إلا بخير فليحمد الله على هذه النعمة وليسأل الله الثبات على هذا الهدى ومن كان في قلبه غلٌّ لهم وأطلق لسانه بذكرهم بما لا يليق بهم فليتق الله في نفسه وليقلع عن هذه الجرائم وليتب إلى الله ما دام باب التوبة مفتوحا أمامه قبل أن يندم حيث لا ينفعه الندم. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
من الصحف والمجلات
إعداد العلاقات العامة
نشرت مجلة المجتمع الكويتية في عددها 91 ما يلي:
تدل الإحصاءات التي قام بها أطباء وزارة الصحة في جمهورية ألمانيا الاتحادية أن عشرين ألفاً من المدخنين يموتون سنوياً بسبب إصابتهم بالسرطان وهذا ما حدا بالوزارة إلى تنظيم حملات ضد التدخين في السينما والتلفزيون وبالاعتماد على كافة الوسائل الإعلامية الأخرى.
وقد بادرت بعض المصانع إلى منع العمَّال من التدخين خلال ساعات الدوام وتلتها في ذلك الدوائر الحكومية والمؤسسات الأهلية مما أدى أخيراً إلى تلاشي الرغبة في التدخين لدى 81 في المائة من العمَّال والموظفين وفي بلادنا لا تكاد تقرأ صحيفة إلا وتجدها قد أفردت صفحاتها لهذه السموم التي تفتك بعشرات الآلاف كل عام.
والأدهى من هذا أنك لا تمر في شارع إلا وتقع عينك على دعاية لها فهل نقتدي بألمانيا ونقوم بحملات توعية ضد التدخين في كل وسائل إعلامنا ونمنعه على الأقل خلال ساعات الدوام.
من تاريخنا في الأندلس
إعداد العلاقات العامة
حدَّث الحافظ أبو محمد بن حزم عن تليد صاحب خزانة الحكم المستنصر العلمية: إن عدة الفهارس التي تسمية الكتب أربع وأربعون في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر الدواوين فقط.
قال بعض المؤرخين: "إنه كان حسن السيرة مُكْرِماً للقادمين عليه، جمع من الكتب ما لا يُحد ولا يوصف كثرة ونفاسة، حتى قيل إنها كانت أربعمائة ألف مجلد، وأنهم أقاموا ستة أشهر في نقلها، وكان عالما نبيها صافي السريرة، وسمع من قاسم بن أصبغ، وأحمد بن دحيم، ومحمد بن عبد السلام الخشتي، وزكريا بن الخطاب وأكثر عنه. وأجاز له ثابت بن قاسم، وكتب عن خلق كثير سوى هؤلاء. وكان يستجلب المصنفات من الأقاليم والنواحي باذلاً فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها خزائنه. وكان ذا غرام بها، قد آثر ذلك على لذات الملوك، فاستوسع علمه، ودق نظره، وجمَّت استفادته، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيّاً نسيج وحده، وكان ثقة فيما ينقله.. وقلَّما يوجد كتاب في خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته، ويأتي من بعد ذلك غرائب لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن..
وتوفي بقصر قرطبة ثاني صفر سنة ست وستين وثلاثمائة. لست عشرة من خلافته، وكان أصابه الفالج فلزم الفراش إلى أن هلك. وكان قد شدَّد في إبطال الخمر في مملكته تشديدا عظيما رحمه الله.
نفح الطيب ج 1
الإسلام دين التكافل الاجتماعي
للشيخ علي بن ناصر فقيهي
مدير شئون الطلبة بالجامعة
الإسلام دين الإخاء والمحبة والتعاون والتكافل، لذلك حرص أن يكون مجتمعه قوياً مادياً ومعنوياً مترابطاً يشدُّ بعضه بعضا. ومن أجل الحفاظ على هذا الإخاء وتلك المحبة شرع الأمور التي تحفظ لهذا المجتمع كرامته وإنسانيته بفرض ما يمكن به سدُّ حاجة المحتاج من دون أن يحدث ذلك حزازة أو يثير مشكلة أو يزرع أحقاداً. وإذا كنَّا نشاهد في الواقع الملموس ما قد يخالف عنوان هذا البحث فسيتبن من عرض الموضوع أن العيب كامن في التطبيق لا في ما شرعه الإسلام.
وذلك التطبيق يرجع إلى جهتين:
الأولى: مَن وجب عليه ذلك الحق المفروض هل أدَّاه كاملاً كما فرضه الله عليه.
الجهة الثانية: الآخذة هل لها الحق في أخذ ما تناولته على الوجه المشروع؟
أهم المشاكل العالمية مشكلة الفقر، وهو عكاز الشيوعية العالمية الذي تتكئ عليه لتضرب به المجتمعات الإسلامية للقضاء على الإسلام والمسلمين والمشكلة قديمة، والصراع الذي يدور في العالم اليوم هو لحل هذه المشكلة، والطريقة التي يمكن أن تسلك لمعالجتها:
فالنُّظم الاشتراكية وأعني بالاشتراكية المرحلة الأولى من برنامج - ماركس - لأن الشيوعية الدولية حتى الآن لم تتجاوز هذه المرحلة تذهب إلى وجوب مصادرة أموال الأغنياء لحساب الدولة، لتقوم هي في زعمها بحل المشكلة والقضاء عليها، ولم يشاهد العالم من أثر المساواة التي يزعمون اللهم إلا في الفقر، وما هذا الذي يريده الفقراء ويبحثون عنه، وإنما يطالبون برفع مستواهم المعيشي لترتفع معنوياتهم وكرامتهم ويشعروا بوجودهم في المجتمع كلبنة منه لا أنهم يطالبون بزيادة فقراء ينضمون إلى صفوفهم، فألئك الذين ينادون بالاشتراكية، على أنها نظام اجتماعي يمكن أن يحقق للمجتمع عزته وكرامته.. هم إما أنهم مخدوعون أرادوا أن يبينوا للشباب المثقف أن الإسلام هو دين العدالة والمساواة ولكن أصبح عملهم هذا سُلّماً للضالين المضلين فاستغلوه لصالح مذهبهم الهدام.
أو أنهم لا يؤمنون بأن الاشتراكية تحقق لأحد هدفه في الحياة، ولكنهم مأجورون باعوا ضمائرهم بثمن بخس فأوقعوا المجتمع في أساليبهم الماكرة.
أو أنهم ملحدون كائدين أسسوا هذا النظام الإلحادي الهدام يقصدون من ورائه تحطيم الإسلام والمسلمين بل والإنسانية جمعاء ما عدا الشعب المختار.. إذ أن مؤسس المذهب –ماركس - يهودي يمشي على مخططات صهيونية المعدة لتدمير العالم.
وقد حدثني شخص من إحدى البلدان التي أعلنت الاشتراكية من عهد قريب وليس لديها من الموارد ما تؤممه اللهم إلا شركة الكهرباء، ويكفي كونها شركة بمعنى أنه يملكها عدد كبير من أفراد الشعب، وليست في ملك إقطاعي واحد حسب تعبيراتهم المألوفة، ولكن الطريقة المتبعة في برنامج الشيوعية أن طغمة من الذين يتربعون على كراسي الحكم يصادرون أملاك الشعب بل وحريته وإنسانيته لحسابهم:
قال في صبيحة إعلان الاشتراكية في الحفل الذي أقيم لتلك المناسبة: "إن بعض السذج لا يعرفون من الاشتراكية إلا أخذ أموال الناس – وذلك لجهلهم بأحكام الإسلام - يقول بعضهم أنا أريد ذاك البيت وآخر سوف آخذ الحانوت الفلاني"
وكادت أن تحدث فوضى، فطلب من المسئول أن يرجع مرة أخرى ليفسر لهم معنى الاشتراكية بما يضمن الاستقرار وعدم الفوضى.
وأشد ما كانت خيبتهم عندما فسّر لهم الاشتراكية بأنها اشتراك عدد من الناس في إقامة مزرعة مثلاً وحاصلها يكونون فيه شركاء.
من هذا يتبين لنا أن الاشتراكية ليست نظرية اقتصادية، إذ لو كانت كذلك لتُركت من زمن بعيد، وذلك لفشلها المحقَّق في مجال الاقتصاد، وإنما هي مذهب عقائدي إلحادي يراد نشره في البلدان الإسلامية لتحطيمها وربطها بجهة معيَّنة، ولو لم يكن هناك ما يدعو للتأميم، وذلك لأن اعتمادها على فكرة الصراع الطبقي والقتال الدموي بين أفراد الشعب الواحد، وقد ساعد في نشر مبادئها جهل الشعوب الإسلامية بمبادئ دينهم ونظمه الاجتماعية والاقتصادية.
ولذلك فقد اتهم مُؤلّفُ داعية إسلامي كبير ألّف كتابه قبل إعلان الاشتراكية في ذلك البلد، وتكلم فيه على الاستعمار بأنواعه الشرقي والغربي، وقد هاجم ماركس ولينين اللذين أسسا مذهبهما على إنكار الخالق.
فماذا قال أولئك المسلمون عن الكتاب هذا؟ قالوا لا تجوز قراءته لأنه يسيء إلى أصدقائهم!.
أما النظم الرأسمالية وهي تجمع الأموال بشتى الوسائل المشروعة والمحرَّمة وأن الحلال هو ما حل باليد، فتذهب لمعالجة هذه المشكلة إلى طريقة الإحسان الفردي وهو ما يدفعه الغني عن اختياره مساعدة منه للفقراء، وقليل من الناس الذين يعملون ذلك لأن طبيعة النفس جبلت على حب المال والشُّح به.
ولم تكن الدولة لتستطيع التدخل في مثل هذا لأنه قائم على اختيار الشخص وهو محسن وما على المحسنين من سبيل، ولم يكن في هذه الفكرة حل للمشكلة.
أما الإسلام فقد جاء بحل المشكلة حلاًّ عمليّاً يقوم على العدل والمحبة والإخاء. فقد فرض الإسلام على الغنيِّ حصة في ماله يؤديها لأخيه المحتاج طيبة بها نفسه لا منة ولا تفضلا، بل ركن من أركان إسلامه يؤديه كما يؤدي الصلاة والحج (تلك هي الزكاة) الركن الثالث من أركان الإسلام.
فما الزكاة، وهل من الممكن أن تسد حاجة الفقراء؟
الزكاة جزء معلوم يؤدِّيه صاحب المال ليطهِّر نفسه من شُّح البخل، ويزكي ماله وينميه بما يُخلف الله عليه من بركة في ماله وطيب في كسبه {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} .
وفي الحديث:"ما نقص مال من صدقة".
ويختلف مقدارها باختلاف المال فقد تكون عشر المال، أو نصف العشر كما في الحبوب والثمار تبعاًً للمؤنة.
وقد تكون ربعه كما في زكاة النقد؛ النقدين وعروض التجارة، كما أنها تكون بخلاف ذلك كما في زكوات المواشي. وكل هذا مفصَّل في مظانِّه.
وإنما الغرض إيراد بعض الأحاديث الواردة في هذا الباب الدالة على تأكيده وأحاديث الوعيد الشديد لمن تحايل في أداء زكاة ماله. بل والحكم بالكفر على من أنكر وجوبها كما حدث لأصحاب الردة وإجماع الصحابة على قتالهم.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" الحديث. متفق عليه.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن في هذا الحديث العظيم الذي هو أصل من أصول الإسلام أن الله قد افترض على المسلم فرضاً واجباً في عين ماله لا يتم إسلامه إلا بأدائه لا منَّة منه ولا إحساناً، وأين هذا من فكرة الإحسان التي لو امتنع الشخص عن أدائها لا يخاف شيئاً.
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد لأصحاب الأموال الذين لم يؤدوا زكاته. فقال: "إنه ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلاّ أُحْمِيَ عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فيكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إمَّا إلى الجنَّة وإما إلى النار". ثم عدَّد أصناف الأموال والعذاب الذي يستحقه كل مال، كما في حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد ومسلم ج4 ص125 نيل الأوطار ولعل ذلك الوعيد فيمن يبخل بأدائها لمستحقيها كما فرضها الله عليه.
أما من أنكر وجوبها فقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على رِدَّتِه ووجوب قتاله كما حدث لأصحاب الردة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وقبل أن نذكر من له الحق في أخذ ما فرض الله له من هذا المال يحسن أن نذكر ما شرعه الإسلام في ناحية التكافل الاجتماعي- المادي فقط - إذ هو مدار البحث وإلا فالتكافل الاجتماعي في الإسلام يشمل نواحٍ عدة.
ينظر الإسلام إلى المجتمع كوحدة متماسكة يشد بعضها بعضاً قال تعالى: {تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} . وهذا التعبير القرآني يذكر لنا خاصيَّة بشرية هي عطف الإنسان على شقيقه، وإذا وجد في المجتمع من يخالف تلك العاطفة الأخوية فيظلم أخاه فهي حالة شاذة لا حكم لها، إذا كان الأخ لا يظلم أخاه بل يعطف عليه ويرحمه فكذلك من اتصف بصفة الإيمان عليك أن تعامله بتلك المعاملة التي هي العطف والرحمة، وقد تجلى ذلك في أسمى صورة عرفها التاريخ بين المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم.
فالتشريع الإسلامي يَعُدُ التكافل الاجتماعي واجب من أهم الواجبات التي يتحتم على المسلم القيام بها، ولذا فهو يعتبر الإنفاق أصلاً من أصول البر قال تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ..} الآية.
فالإسلام يقدِّر حريَّة الفرد تقديراً لإنسانيته إلا أنه لا يجعل هذه الحرية مطلقة من كل القيود بحيث تؤدي إلى تعارض المصالح وضياع الحقوق، بل يقيَّدها بما يكفل سعادة المجتمع الذي هو جزء منه، فمثلاً نظام النفقات في الشريعة الإسلامية جعل كل فرد من أفراد المجتمع راعياً مسئولا عن رعيته، ابتداءاً بأعلى طبقة في المجتمع وهو الحاكم العام إلى أدنى طبقة كلٌ على حسب ما نيط به من مصالح للبلاد والعباد، فالمسئولية في هذا الحديث عامة.
فالمجتمع يتكوَّن من الأفراد إذ إن الفرد هو الخليَّة الأولى لهذا المجتمع، ومن الأفراد تتكوَّن الأسرة وكل فرد مسئول عن أسرته، فالزوج مكلَّف شرعاً بنفقة زوجته وأولاده القُصَّر والعاجزين عن العمل. كما أن الولد بدوره يتحتم عليه الإنفاق على والديه وأقربائه، وقد قال الأئمة بوجوب النفقة للأصول والفروع مهما علوا أو نزلوا والوارثين والأقرباء لأن سبب النفقة هو القرابة التي توجب للموسر حقاً في الإرث من قريبه المعسر إذا ما ترك مالاً.
فأين هذا التشريع السماوي الذي هو من عند الحكيم الخبير مما هو معروف الآن في الدول المتقدمة - كما تزعم - ويزعم لها أولئك المخدوعون أو المأجورون من طرد الرجل ابنته اليافعة إذا بلغت الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة لأنه السن القانوني الذي يعفى الأب من الإنفاق على أولاده!.
كما أن الابن غير مكلَّف بالإنفاق على والده وقد يستعمله أجيراً ليدفع له أجراً يعيش به!..
وإذا كان الإسلام بمبادئه العادلة والشريفة قد أوجب التكافل بين الأسر فلم يبقى في المجتمع إلا أُسَر قليلة ممن ليس لها عائل يقوم بما أوجبه الله عليه نحوهم، كالأرامل والأيتام والعجزة عن الكسب، إما لكبر سن أو عاهات أقعدتهم عن العمل.
لأن الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في باب الصدقة نصَّت على أن الصدقة لا تحل لغني ولا لقوي مكتسب.
ولو أن المسلمون أدَّوا هذا الفرض كما أوجبه الله عليهم بحيث يدفع كل غني زكاة ماله كاملة دون أن يعتبرها مغرماً كالحال عند أكثر الناس في هذا الزمان. وكذلك الآخذون لها لو أنهم راقبوا الله فلم يمد أحد يده للأخذ من هذه الصدقات إلا من أوجب الله له ذلك بأن كان فقيراً عاجزاً عن الكسب، أقول لو طُبِّق ذلك لما وجد في المجتمع محتاج لأن الثروات في هذا العصر ليست أقل منها في زمن عمر ابن الخطاب.
فقد روى أبو عبيد من حديث عمرو بن شعيب أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند، إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. ثم قدم على عمر فردَّه على ما كان عليه. فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس فأنكر ذلك عمر، وقال:"لم أبعثك جابياً ولا آخذَ جزيةٍ ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم". فقال معاذ: "ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني". فلما كان العام الثاني بعث إليه بشطر الصدقة، فتراجعا بمثل ذلك. فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل ذلك. فقال معاذ:"ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئا"[1] .
فهذا المقدار المعلوم في أموال الأغنياء للفقراء فرضه الحكيم الخبير العالم بمصالح عباده، فلو أنه غير كاف لفرض أكثر منه، وهذا الحديث وغيره من الأحاديث والوقائع إنما تدل على حكمة هذه الشريعة الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان، والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الأموال ص596.
نحن والقمر
للطالب محمد محمود جاد الله بالسنة الأولى
من كلية الشريعة في الجامعة
رغم المسافة والخطر
قالوا وصلنا يا قمر
لا شيء يغري بالنظر
وتكشف المجهول عن
وقول حِبِّي كالقمر
وتبدَّد الحلم الجميل
متبرجات كالدُرر
وكذا النجوم تحوطه
الإنسان أجراماً أُخر
وبرغم هذا يطلب
* * * *
إلى سديم أو مجرّه
ماذا إذا وصل الأنام
مهوّمًا في الكون عمره
أو لو قضى هذا الضعيف
فكرةً في إثر فكره
حتى ولو فعل العجائب
إذا تأمل غير قطره
هل عِلْمه هذا الكثير
فكّ الإله اليوم أسره
لا يَبطَرِ الإنسان إن
* * * *
من خيالٍ حالمِ
يا أيها الإنسان حسبك
يفوق وهم الواهمِ
وانظر بعينيك الشقاء
من قاعد أو قائمِ
هذي البسيطة حسبنا
من معشرٍ وبهائم
تَسَعُ الجميع خلائقاً
سبحانه من دائم
فالله أسكننا هنا
* * * *
في نعيمك واعتدى
يا رب إنْ بطر ابن آدم
في الغزو تجتاح المدى
وتطاولت أحلامه
تدمير من يهوى الردى
ومضى يدمّر نفسه
ألف بابٍ أوصدا
فإذا جلا للعلم باباً
أن جهوده ضاعت سدى
عَلّمْهُ بعد (العلم)
* * * *
من غير دعمٍ أو عمد
هذي السماء أقامها
وحده ما قد قصد
جبار هذا الكون يعلم
غير بحر من زبد
ما إن أرى هذي المعارف
أنها ذهبت بدد
تعلو زماناً ثم نلفي
سبحانه الفرد الصمد
فالله أوجدنا هنا
* * * *
شاقتك أسرار المغيّب
يا أيها الإنسان إن
من المشقة كل مركب
وركبت في هذي السبيل
إلى القلوب هو المحبب
ورأيت أن الجهد فيه
أيام هذا الدهر قُلّب
فاعلم يقينا أنما
وفي النهاية سوف تُغلَب
ستعود من حيث ابتدأت
* * * *
أنت في هذا الوجود
يا أيها الإنسان سرٌّ
وللتراب غداً تعود
ترجو الفكاك من التراب
وتوَّد تحطيم القيود
منه خلقت مكبّلاً
لشعبنا عبر الحدود
إن القيود الظالمات
وحقه أبدا شرود
يرجو الفكاك من العذاب
* * * *
في خفايا نفسهِ!
هل فكّر الإنسان يوماً
من غوامض حِسّه ِ!
أو هل درى ما قد توارى
من علائم يأسهِ
أم هذه إحدى البوادر
على تقادم أمسه
لم يستطع كشف النقاب
كهاربٍ من رمسهِ
فمضى يُصَعِّدُ في السماء
* * * *
أنت بعد اليوم بائد
يا بائدا ً منذ الخليقةِ
وعن قريب فيه عائد
منه جبلت من التراب
لدى الزمان سوى طرائد
ما الناس في هذي الحياة
على فناء القوم شاهد
والبدر كان وما يزال
يختال في أشراك صائد
ما أنت إلاّ طائر
* * * *
بطوله منذ الخليقه
هو شاهد عاش الزمان
ناظرا ً فيه حريقه
هو شاهد الأقصى كذلك
خديه نجماتٍ عريقه
ودموعه سالت على
ضلّ عن كثب ٍ طريقه
لا زال يرقبنا وكلٌ
((تلك الحقيقة والمريض القلب تجرحه الحقيقه))
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
س – من الأخ م. و. ما قولكم في امرأة زوِّجت قبل بلوغها وبعد بلوغها رفضت قبول هذا الزواج هل يجوز لها أن تتزوج بدون طلاق الزوج أم لابد من الطلاق وما هو الدليل في هذه المسألة إن كان معلوماً؟
الجواب: إذا كانت المرأة المذكورة قد زوِّجت بإذنها فعليها السمع والطاعة للزوج وتنفذ مقتضى النكاح وليس لها أن تتزوج سوى زوجها الذي تم له العقد عليها قبل بلوغها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُنكح الأيم حتى تستأمر ولا تُنكح البكر حتى تستأذن" قالوا يا رسول الله: "كيف إذنها؟ "قال: "أن تسكت"متفق على صحته وهو يعم البالغة ومن دونها وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليِّها والبكر تستأمر وإذنها السكوت" وخرجه أبو داود والنسائي بإسناد جيد بلفظ: "ليس للولي مع الثيِّب أمر واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها" وهذا صريح في صحة نكاح غير البالغة إذا أذنت ولو بالسكوت لأنها لا تسمى يتيمة إلا إذا كانت لم تبلغ.
أما إذا كانت لم تستأذن والمزوِّج لها غير أبيها فالنكاح فاسد في أصح قولي العلماء لكن ليس لها أن تتزوج إلا بعد تطليقه لها أو فسخ نكاحها منه بواسطة الحاكم الشرعي خروجاً من خلاف من قال أن النكاح صحيح ولها الخيار بعد البلوغ وحسماً لتعلقه بها وليس لها أيضاً نكاح غيره حتى تستبرأ بحيضة إن كان قد وطئها، أما إذا كان المزوِّج لها بدون إذنها هو أباها فهذه المسألة فيها خلاف أيضاً بين العلماء فكثير منهم يصحِّح هذا النِّكاح إذا كانت البنت بكراً لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:"واليتيمة تستأمر" قالوا فهذا يدل على أن غير اليتيمة لا تستأمر بل يستقل أبوها بتزويجها بدون إذنها وذهب جمع من أهل العلم إلى أن الأب ليس له إجبار ابنته البكر ولا تزويجها بدون إذنها إذا كانت قد بلغت تسع سنين. كما أنه ليس له إجبار الثيب وتزويجها بغير إذنها للحديث السابق وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن" وهو يعمُّ اليتيمة وغيرها وهو أصح من الحديث الذي احتجُّوا به على عدم استئذان غير اليتيمة وهو منطوق وحديث اليتيمة مفهوم والمنطوق مقدَّم على المفهوم ولأنه عليه الصلاة والسلام صرَّح في رواية ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: "والبكر يستأذنها أبوها" وهذا اللفظ لا يبقي شبهة في الموضوع ولأن ذلك هو الموافق لسائر ما ورد في الباب من الأحاديث وهو الموافق للقواعد الشرعية في الاحتياط للفروج وعدم التساهل بشأنها وهذا القول هو الصواب لوضوح أدلته وعلى هذا القول يجب على الزوج الذي عقد له والد البكر عليها بدون إذنها أن يطلقها طلقة واحدة خروجاً من خلاف العلماء وحسماً لتعلقه بها بسبب الخلاف المذكور وهذه الطلقة تكون بائنة ليس فيها رجعة لأن المقصود منها قطع تعلُّق المعقود له بها والتفريق بينه وبينها ولا يتمُّ ذلك إلاّ باعتبارها طلقة مبِينة لها بَيْنُونَة صغرى الطلاق على عوض ويجب أن يكون ذلك بواسطة
قاضي شرعي يحكم بينهما ويريح كل واحد منهما من صاحبه على مقتضى الأدلة الشرعية لأن حكم القاضي يرفع الخلاف في المسائل الخلافية ويحسم النزاع أما إذا كانت البنت دون التسع فقد حكى ابن المنذر إجماع العلماء على أن لأبيها تزويجها بالكفء بغير إذنها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها بدون إذنها وعلمها وكانت دون التسع ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه إنه خير مسئول، والسلام عليكم..
الإعجاز النفسي في القرآن
بقلم الشيخ إبراهيم الحنفي الناغي
من علماء الأزهر
لقد صور القرآن ألوانا من الخوالج النفسانية والعواطف البشرية كالحقد والغيرة والحسد والوسوسة. ولقد تميزت النماذج البشرية التي وصفها القرآن بأنها حية متحركة دقيقة الملامح والقسمات صادقة الدلالة قوية الإيحاء. مرتبطة أشد الارتباط بالمجتمع الإسلامي.
وأن نرى في هذه النماذج القرآنية صورا لأشخاص أو جماعات تعيش معنا على أرض الواقع كما أن هذه النماذج ترينا الإنسان نفسية مجردة واضحة عند تعرضه لتحليل المشكلات والأزمات والمعوقات التي تعترض مسيرة الإنسان. وهو يقطع شوطه الخالد على درب الحياة وهي نفسية لا تختلف كثيرا من عصر إلى عصر لأن جوهرها واحد.
إننا لو دققنا النظر فيما يتعلق بالجانب النفسي في القرآن نجد أن الإسلام قد أقر جميع العواطف الإنسانية من حب وكره ورجاء وخوف ورحمة وقسوة إلى آخرها ثم وجهها بدقة دقيقة وإحكام محكم في الوضع الصحيح لها.
فإذا ضربنا مثلا لعاطفة الإحساس بالحسن والجمال - نجد في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال"[1] معنى جامعا وإذا نصح الإسلام الإنسان بأن يكون ذا إدراك للجمال في نفسه فمعنى ذلك أنه لا يقصد العناية بجمال الخلق وحده ويحثه على أن يحتفظ بنظافة ثوبه وبدنه وفمه عند الاجتماع واللقاء {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [2] . {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [3] .
لا يعني الإسلام بذلك جمال الخلق وحده فحسب. وإنما يعني قبل ذلك جمال التخلق. وجمال النفس وجمال التخلق في أن يتعود الإنسان عادات لا تؤديه هو. وبالتالي لا يصل إيذاؤها إلى غيره. فإذا نهى عن المنكر. ونهى عن الفحشاء. ونهى عن شرب الخمر ولعب الميسر ونهى عن أكل الميتة والدم فإذا نهى عن ذلك كله وأمثاله. فإنما نهى عنه ليصبح الإنسان مع نفسه في وحدة وفي ترابط قلما يستشعر الندم أو يستشعر السخط على نفسه أو قلما يعود على نفسه وهو حزين لأنه فعل كذا دون كذا. أو لأنه أساء وأوصل الإيذاء إلى الغير دون أن يحس. ودون أن يصل مع هذا الغير ما يريح النفس ويطمئن البال.
القرآن الكريم قد راعى قواعد نفسية عن مظاهر الاعتقاد ومسارب الانفعال ونواحي التأثير وأثار من هذا ما أيَّد به حجته وأظهر دعوته، وهو في ذلك يساير من شئون النفس الإنسانية ويتغلغل في شعابها وجوانبها مما لم يهتد إليه العلم إلا حديثا.
انظر للإسلام ودقق البصر كرات وكرات عندما ينصح الإنسان في معاملته للغير وفي معاشرته للأسرة أن يرعى حدود الروابط الإنسانية. وأن يتبادل مع هذا الغير الشعور الإنساني الكريم، وأن يكظم الغيظ إذا ما بدرت من هذا الغير بادرة تثير نفسه وأن يعفو عن الغير. إذا ما أخطأ في حقه على نحو ما يقول القرآن الكريم:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [4] .
وإنما يعني الإسلام بذلك أن يكون هناك تجاوب إنساني نبيل تستريح إليه النفوس وترضى عنه ومن أجل ذلك تهش في الداخل قبل أن تتبسط أسارير الوجه في الخارج عند اللقاء أو عند الحديث أو عند المشاركة في عمل ما. فليس تجاوب النفوس أو رضاها وسرورها عند اللقاء أو عند الحديث أو عند المشاركة في عمل ما إلا ظاهرة تعبر عن الإدراك النفسي الخفي لجمال الألفة وعاطفة الإنسانية والأخوة. وهذا المثل لعاطفة الإحساس بالحسن والجمال إنما هو ذرة من المحيط القرآني في مجال التفسير النفسي. وإذا قيل الجمال فهو جمال السلوك وجمال القول. وجمال الصنع وجمال الإنسانية في الإنسان الآخر وجمال العلاقات مع الغير. وجمال الطبيعة والاحتفاظ به.
وإذا ضربنا مثلا لعاطفة الحب. نجد أن الإسلام أقرها ولكن جعلها لله أولا ثم لرسوله ثم للصالحين من بعده على نحو ما جاء في القرآن الكريم: {يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [5] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [6] .
وكذلك أقر الإسلام الحب للصالحين من الناس لأن محبوب المحبوب محبوب.
لقد كان مشهدا عظيما ذلك الحب حب أمير الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة.
لقد أهدى حكيم بن حزام إلى خديجة زيد بن حارثة بعد أن وقع في الأسر وأهدته خديجة إلى السيد الجليل محمد زوجها وأمير الأنبياء جميعها.
وعلم أبو زيد وعمه أنه مملوك لمحمد وأنه جالس في الحرم المكي وجيء بزيد بين السيد الجليل محمد وبين أبيه فقال الرسول: "ما هذان"قال: "هذا أبي وهذا عمي" فقال صلوات الله عليه موجها حديثه إلى زيد: "أتختارني أم تختارهم؟ "فقال: "أنت مولاي وحبيبي ولا أختار أحدا أبدا".
وتفتحت عينا أسامة بن زيد بن حارثة. طفلا على أكرم مثل للقدوة الحسنة ممثلة في الرسول العظيم. وتفتحت عيناه على أكرم مثل للود المتبادل من أمير الأنبياء محمد وأبيه زيد بن حارثة، وأصبح الشاب يافعا توجه إلى فلسطين بعد انتقال الرسول العظيم إلى الرفيق الأعلى وفي خلافة أبي بكر. وكانت سنه ثمانية عشر عاما.
وعندما تولى عمر الخلافة كان يعطي ابنه من مغانم الحرب ثلاثة آلاف درهم ويعطي أسامة خمسة آلاف درهم. ويقول لابنه عندما استكثر هذا على أسامة: "إن أسامة كان أحب إلى رسول الله منك وأبوه أحب إلى رسول الله من أبيك"وهكذا تكون درجات السمو في حب الأنبياء والصالحين. صورها لنا الإسلام في دقة دقيقة.
وإذا أخذنا عاطفة الرحمة والشدة وجدنا أنه شرع الرحمة أسلوبا لمعاملة المؤمنين بعضهم بعضا والقسوة أسلوبا لمعاملة المؤمنين للكفار والمنافقين، فيقول تعالى في وصفه للمؤمنين:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [7] .
يقول علماء النفس إن عقدة النقص أو مركب النقص كما يسمونه أحيانا هو الشعور بالنقص في ناحية من النواحي التي يحاول الشخص بطريقة لا شعورية أن يعوضها.
فمن منا لا يحاول من حيث لا يشعر أن يصرف الناس عن النواحي التي يشعر أنه أقل من غيره فيها ذلك أن كل شخص يشعر بتفوقه في ناحية من النواحي يحاول بطريقة لا شعورية أن يقنع العالم أن هذا هو الشيء الوحيد الذي يهم.
فإذا لم يكن أخذ نصيبه من التربية ولكنه عصامي الثروة. لم تكن للتربية فائدة في نظره وقال: "إن التعليم لم ينجح إلا في إفساد الناس".
وإذا كان العكس، وكان الرجل قد أخذ بنصيبه من التربية ولكنه لم ينجح في الحياة فإنه لا يترك فرصة تسنح دون أن يقلل من قيمة النجاح في الأعمال. والمصاب بهذه العقدة إذا كان ذا روح عدائية فقد يحاول قهر الشعور بالنقص بالظهور بالسيطرة والغطرسة والمكابرة.
فالتظاهر بالكمال والتطور ليس إلا انعكاسا للشعور بالنقص.
وعلى ضوء هذا الجانب النفسي نفهم سرَّ قوله تعالى في وصفه المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} فالمنافق يعيب ويستهزىء بالمؤمن ليخفي ما في نفسه من مركب النقص ويقهر الشعور بالضعف والقصور.
لذلك نرى الإسلام عانى في المدينة من مكايد النفاق وأهله أكثر مما شقي بالشرك وحزبه لأن أمر الشرك واضح أما النفاق فمن خصائصه التلوُّن بأشكال مختلفة من الدهاء والمكر والخديعة. لقد كانوا يتظاهرون بالإيمان والغيرة على الإسلام ويصلون خلف الرسول وحقيقة الأمر أنهم لا يؤمنون بمحمد ولا بتعاليمه.
وعندما نقرأ في التفاسير المختلفة نراها تُجْمِع على أن ظاهرة النفاق كانت بالمدينة وبعد الهجرة وأن المنافقين كان لهم تخطيط مدروس وتنظيم دقيق وتحالف ومعاهدات مع غيرهم من الفئات المنحرفة كاليهود وأحزابهم وكانت لهم قيادات "مركزية"للتخطيط والتنفيذ.
روى ابن كثير قال: "يقول السدي: معنى شياطينهم سادتهم وكبراؤهم ورؤساؤهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين وأصحاب الرأي فيهم". إنها فئات حاقدة تعمل عمل الشيطان في الإغواء. إنها قوى مضادة للإسلام تجمعها الأهداف والمصالح المشتركة. إن هذه القاعدة العريضة تخطط للتظليل تخطيطا محكما تعتمد على التكتم والحذر والسرية بدليل قوله: {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِم} والاختلاء هو الاجتماع السري وإذا كان مع الشياطين فهو اختلاء مشبوه محموم مجرم خطير يجب الحذر منه وتعريَّته وكشفه أمام الجماهير الإسلامية.
ثم تصفهم الآية بلون من "خداع الرأي"في أنفسهم فهؤلاء تخدعهم آراؤهم في أنفسهم وتصور لهم الباطل حقا وهذا ما يسميه علم النفس الحديث بالاستهواء وهو تأثير امرئ في معتقدات آخر وسلوكه "أو في معتقداته وسلوكه هو"وهذا ما يسمى بالإيحاء الذاتي وأساس الاستهواء هو أن الأصل في كل فكرة تخطر بالبال لا تبقى مجرد صورة قائمة في الذهن بل تتحول إلى اعتقاد أو عمل بطريقة لا شعورية لا تعرف عنها شيئا يذكر ورأي الإنسان في نفسه إذا كان خاطئا قاده إلى أسوأ مصير؛ أي أن هؤلاء مخدوعون في رأيهم مغرورون في ذكائهم يظنون بأنفسهم الذكاء وهم أغبياء، يتوهمون - وبإيحاء من قرارة نفوسهم - أنهم قادرون على خداع الرأي العام وتظليله، بينما جماعة المؤمنين تعرفهم وتكشف سوء طويتهم وتفهم كل تحركاتهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [8] .
ثم تستطرد الآيات فتصف النفسية وتأصِّل العلة فيها {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} والتعبير بكلمة مرض يوحي بتأصُّل العلة واستحكامها وأنها غدت آفات ثابتة يعز علاجها على الطب ويصعب تغييرها في المجتمع وكما توحي بتأصيل الخداع توحي كذلك بالنفور والفرار من أصحابها لأن علَّة القلب إذا كانت حسيَّة كانت منفرة فكيف إذا كانت معنوية!. كما باحتمال العدوى فإن من خالط المريض انتقلت إليه العدوى. وتوحي بالضعف لأن المريض لا يحتمل مقاومة وبخاصة إذا كان المرض قلبيا وكذلك هؤلاء ضعفاء مهازيل.
ولذا يستترون في كل الظروف ومرض القلب باطني وكذلك آفات هؤلاء مخبوءة ومرض القلب يحس صاحبه بالآلام المبرحة.. وهؤلاء كذلك يستشعرون الألم الممض إذا جلسوا إلى أنفسهم. وليس هناك أنكى من وخز الضمير فالشرير مهما سار في شره يظل دائما معذَّبا بنزعة الخير في داخله [9] .
ولو حاولنا التذوق في تحليلنا للصور القرآنية لأعطانا التصور الدقيق كثيرا من إيحاءات اللفظ ومقدرته على العطاء. لذلك كانت حكمة الله لنا في الإسلام أن جاء مناسبا لكل زمان ومكان فجاء القرآن الكريم أحكاما عامة تتفق ومقتضيات الظروف والأحوال، مؤكدا كياسة المؤمن وفطنته وحسن تقديره لما يحيط به من ظروف وأحوال، إن ألفاظ القرآن الكريم لها القدرة على إيجاد تيار دائم ومتجدد يسترشد به المؤمن في واقع حياته، ويضرب القرآن مثلا للمنافقين في أسلوب أخَّاذ تحس فيه بالنبضات الحيَّة واللمسات الاجتماعية الرائعة التي تفيد المجتمعات البشرية في مسيرة الحياة فكان ولازال وسيظل مصدر التشريع الأول منبعاً فياضاً يمد العالم كله بالتوجيه والإرشاد والتعليم. يضرب الله مثلا للمنافقين بقوله سبحانه:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [10] .
الصيِّب: الغيث الهاطل. والظلمات والرعد والبرق: من الظواهر الطبيعية الجويَّة التي آثرها القرآن للتوضيح والكشف وهي بسيطة مألوفة ولكنها أشدُّ أُلْفَةً في البادية حيث تأخذ الظواهر الطبيعية مداها من برق وأعاصير.
في هذا المثل يعرض لنا القرآن مشهدا حيّاً يرمز به إلى الحالة النفسية. هذا المشهد الكلي بما يرسمه من ألوان وما يشيع فيه من حركات وما يصحبه من أهوال وظلمات ليتفق تماما مع حياة المنافقين ويصور واقعهم النفسي وتقلُّبهم بين الكفر والإيمان والهدى والظلال، وارتباطهم العضوي بشياطينهم وخداعهم لجماعة المؤمنين ويصور التناقض بين ما تقول ألسنتهم وما تضمر قلوبهم والاضطراب في حركاتهم متمثلا في التجائهم إلى النور ثم رجوعهم إلى الكفر ويا ليتهم يثبتون في منطقة ضوء الإيمان إذن لسعدوا بحلاوة اليقين، ولكن هذا التقلب المؤسف بين ظلمات الكفر وأنوار الإيمان هو الذي قادهم إلى مصيرهم الفاجع الأليم.
إنه تصوير كلي رائع ينطوي - بلغة العصر الحديث - على الحياة والحس والحركة واللون وينسجم تماما مع أجواء النفاق ومظاهره المتقلبة المضطربة ويصف عالمهم الباطني والنفسي الذي يبلغ من الحيرة والتردد والروع والفزع حدا يجعلهم يضعون الأصابع في الآذان.
دقق البصر في قوله سبحانه: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أليس هذا الوصف تعبيرا عن الأطماع التي تحركهم فهم يمشون كلما برقت لهم آمال مصالحهم، ويسيرون كلما لاحت أمامهم فرصة، فإذا انقطع المطمع وأظلمت الآفاق في وجوههم جلسوا متربصين.
أي أن هذه الفئات نفعية تقودها مصالحها وشهواتها فإذا لاحت في الأفق فرصة انتهزوها وهكذا يعيشون في جو مطامعهم المتقلبة ومن هنا وجب الحذر منهم وقطع السبيل عليهم كلما حاولوا أن يجتذبوا منافع المجتمع إلى أنفسهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
هذا جزء من حديث طويل رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود (راجع صحيح مسلم مع شرح النواوي طبع مصر جزء2 ص 88-89) .
[2]
سورة الأعراف آية (32)
[3]
سورة الأعراف آية (31)
[4]
سورة آل عمران آية (34)
[5]
سورة المائدة آية (54)
[6]
سورة البقرة آية (165)
[7]
سورة الفتح آية (29)
[8]
سورة البقرة (9)
[9]
ولكن اعتياد المرء الخطيئة يطفئ شعلة الخير في قلبه حتى تحيط به خطيئته فلا يحس بها وإلى هذا يشير القرآن الكريم {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} . (المجلة)
[10]
سورة البقرة آية (19)
التشريع الإسلامي تشريع للعزة والكرامة
بقلم الشيخ محمد الخضراوي
المدرس في كلية الدين الدعوة وأصول بالجامعة الإسلامية
قضت الفطرة ألا ينهض الفرد وحده بشئون نفسه ومتطلبات حياته، فهو مدني بطبعه محتاج إلى معاونة بني جنسه، في إدراك مآربه، وتكميل أسباب حياته مما تقصر عنه يده، ولا تتسع له مداركه، ولا تحتمله قواه، وبهذا كانت الحياة الإنسانية حياة جماعة، يسد كل فرد منها ثغرة في بناء المجتمع الذي يعيش ويحيا فيه لتنتظم من مجهودات الجميع عيشة هنيئة راضية.
وقد جبلت النفوس على الأثرة وأشربت حب الذات، فكل امرئ ينبغي أن يستوفي كل حوائجه، ويحرز أكبر نصيب من طيبات الحياة ولذاتها ولو على حساب الآخرين.
والناس متباينون ميولا، ومختلفون في النزاعات بحكم عوامل البيئة والوراثة فلو ترك الناس وشأنهم في مناحي الحياة يستبد كل برأيه ويتبع شهواته، لتعارضت الميول، وتشعبت بهم سبل الحياة، وعميت عليهم وجهة الحق والخير، وساروا في جنبات مظلمة، لايلوي فرد على فرد، ولا تعطف جماعة على جماعة، فتكون الحياة والحالة هذه حياة بهيمية مضطربة ناقصة لا هناء فيها ولا استقرار، حياة شيطانية متمردة، يموت فيها الحق ويحيا الباطل، وتنعدم المساواة فيما تجب فيه المساواة، فلا عدل إلا ما كان وسيلة إلى نفع ذاتي، ولا خير إلا فيما وافق الهوى، وفي هذا انتقاض على الفطرة، التي ربطت الناس في مضمار الحياة، وقطع لوشائج الإنسانية التي أحكم الله صنعها مذ خلق الله الناس من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا (49:13) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
وقد طبع الله الجماعة البشرية منذ القدم على الشعور بحاجتها إلى ما يلم شعثها، ويرفه عليها حياتها. وقد جرت سنة الله في خلقه منذ عمرت بهم الأرض أن يشرع لهم الشرائع عند مسيس الحاجة إليها، ويبعث فيهم رسلا من أنفسهم يقيمون معالم الحق والخير (4:165) {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
وقد غشيت العالم قبل الإسلام سحابة كثيفة من الشرك، وانحدر الناس إلى الأعماق، وحل المنكر محل المعروف، وقبض أهل الرذيلة على ناصية الأمم حتى نفر الناس من مقامهم على هذه الفوضى، وأحسوا بالحاجة إلى رسول ينقذهم من ظلمات الجهل، وينتشلهم من مهاوي الرذيلة، ويسمو بهم إلى مراقي العز والكرامة والفضيلة، فكانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هاديا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، اختاره لتبليغ الرسالة بعد أن بلغت الإنسانية من التطور ونضوج الفكر حدا لائقا، واستعدت النفوس لكامل الهداية، فبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا.
وقد كان من تمام نعمة الله على عباده، ومن مظاهر حكمته في خلقه بعد أن تخطى العقل البشري دور الطفولة، وتهيأ الفكر للتدرج في مراقي الحياة، أن تكون الشريعة الإسلامية التي يختم بها شرائعه شريعة محكمة الأساس، وطيدة البنيان، كاملة النظام، سامية الأغراض، وافية بحاجات الأفراد والجماعات، عادلة من غير إفراط، وسهلة بلا تفريط أبدية، صالحة لكل زمان ومكان، محببة إلى النفوس، كاشفة عن نواحي الخير، فلا غرور إن كانت شريعة العزة والكرامة.
ويكفينا في تعرف أسرار تلك الشريعة الغراء أن البحث في تعاليمها يرشدنا بلا شك، ومن غير جهد إلى أنها أتت بما لم تأت به الشرائع السابقة من أحكام متسعة لكل ما تتطلبه الحياة الكريمة من سماحة وكرامة وعزة دعت إلى احترام العقول، وإلى التفكير في الكون وأسراره (87:20،17) {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ، (3:190) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} ، (6:12) {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ} الآية، (6:98،97،96،95) {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} ، (6:103،102) {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ، (45:13،12،6،5،4،3) {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} . {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
وفي النظم الاجتماعية دعا إلى المساواة بين الناس، وألا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وحفظ لكل نصيبه من الحرية راغبا في الحياة المهذبة المشبعة بروح الاعتداد بالنفس مع مراعاة حرمة الآخرين وحقوقهم.
انظر إليه تجده يرافق الإنسان في كل أدوار حياته منظما له عامة شؤونه ليكوِّن من الأفراد الناشئين على نهجه جماعة ناضجة تمثل الإنسانية الكاملة، ثم يعرج بعد عنايته بالفرد إلى الروابط الاجتماعية وما يكون بين المرء وأخيه من صلات النسب أو التعامل أو القومية، فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأثبت حكمها وحاطها بسياج من النظام المحكم.. فهاهو ذا يعلِّم الإنسان كيف يتصل بربه عن طريق العبادات المشروعة على أوجه رسمها له، ويتقيه حيثما كان، وينيب إليه في سره وجهره، وكيف يراقب نفسه في دخيلة نفسه، فلا يضطغن على أحد، ولا يعتزم شرا يأتي به، ولا يتبع ظنا يهجس به خياله ويعلمه كيف يشعر بواجبه ويحرص على حقه، ويحثه على أن يبتغي فيما أتاه الله الدار الآخرة، ولا ينسى نصيبه من الدنيا (28:77) {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك} الآية.
ثم ينتقل بالمرء إلى الحياة المنزلية، فيرسم له كيف يستبيح المرأة بالعقد المشروع والصداق المستحق، ويبين لكل من الزوجين ماله وما عليه نحو الآخر، وما يتعلق بالصلة بينهما من الإخلاص والمحبة، والوفاء والمودة، وكيف تكون العشرة بالمعروف، وما يترتب على التضامن الزوجي نحو الأبناء من تربية وصيانة ورعاية فيشبون ويترعرعون في ظل الهناء والسعادة.
ويحوط الأسرة بما يحفظ عليها كيانها وكرامتها، فيضع نظام الحجاب والاستئذان في دخول البيت، ويمنع اختلاط غير المحارم ومن في حكمهم ليظل رباط الزوجية وثيقا، وجوّها صافيا مما يكدره، أو يتسرب إليه من ظنون (27إلى24:31) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
وكما وضح طريق الاجتماع رسم طريق الفراق بينهما حينما يستبد النزاع، ويستحكم الخلاف، وتكون حياتهما معا مثار خلاف وشقاق، ومدعاة لتعدي حدود الله (2:230،229) {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
ثم يخطو بعد ذلك بالزوجين إلى ما وراء حدود هذه العشرة في الحياة أو بعد الممات، فيثبت حق كل واحد منهما في مال الآخر من نفقة للزوجة أو سكنى أو ميراث لأحدهما (64:7،6،1) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ، {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} ، (4:12) {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الآية.
كما نظم العلاقة بين الأب وابنه وبين الأبناء بعضهم مع بعض (17:24،23) {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} وقوله صلى الله عليه وسلم: "حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده" وما يتصل بهذا كله مما يعرف بالأحوال الشخصية.
ويتدرج مع المرء فيضع له طريق التعامل السليم مع الآخرين مبينا وسائل الكسب المشروع وطريق الحصول على المال بالبيع والشراء أو الإجارة أو القرض أو الإحياء "من أحيا أرضا ميتة فهي له" وما إلى ذلك مما ينتظم في باب المعاملات، أو ما يسمى في العرف بالقانون المدني، والقانون التجاري.
ويتعهد هذه التعاليم بالحراسة فيقيم سلطان القضاء لفصل الخصومات بين الناس، ويعتد بالشهادات والإقرارات، وما يكون لأحد المتداعيين أو لهما من الحجة والبرهان لتستقر الأمور في نصابها الصحيح، ويسود العدل والإنصاف، فلا تسلط ولا طغيان، ويدعم كل ذلك بإرشاداته، فيعلمهم أن من غش المسلمين ليس منهم، وأن الدين النصيحة، وأن من رأى منكرا فليغيره ما استطاع، لئلا يكونوا مثل بني إسرائيل من أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، قال صلى الله عليه وسلم:"من غشنا فليس منا". وقال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" وقال: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلِّطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم" وقال: "الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
ويطلب إليهم الوفاء بالعقود، وأن يحترموا ما بينهم من شروط (4:1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية، وقال:(6:152){وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما".
وينهاهم عن التقرب إلى الحكام بالرشا ليتمكنوا من الحصول على غير حقهم، قال صلى الله عليه وسلم:"لعن الله الراشي والمرتشي" ويحذرهم الكذب والخيانة والخلف والخداع لئلا يكونوا من المنافقين، قال صلى الله عليه وسلم:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان".
ثم يعلمهم كيف يحسن الجار إلى جاره، ويعطف القريب على قريبه خاصة وعلى اليتامى والمساكين عامة قال تعالى (36: 4) : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} الآية. وكيف يسير الحاكم مع المحكوم والرئيس مع المرؤوس، وكيف يكون الجميع إخوانا متآزرين متحابين، كي لا تتفرق كلمتهم، وتضعف شوكتهم، ويستهين بهم عدوهم، ويذهب سلطانهم أدراج الرياح. قال تعالى:(3:103){وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} الآية، وقال:(3:105){وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ولم تغفل الشريعة الإسلامية علاقة المسلمين بغير المسلمين، بل نظمتها، ورسمت لنا على أي وجه يكون الاتصال بهم في الزواج، أو العشرة بالصحبة، أو الحكومة، وكيف نتقي صولة العدو منهم، ونعد العدة لدرء عادياتهم علينا ونحارب من يحاول العدوان على بيضة الإسلام، مع احترامنا لكل ما نعطيهم من عهد وميثاق على نحو يصون كرامة المسلمين.
ولما يعلمه الله سبحانه وتعالى من اختلاف طبائع الناس وتباين ميولهم وأهوائهم، فمنهم التقي الصالح والخيِّر الراشد الذي يقف عند حدود الشرع والأخلاق، يمتثل أوامر الله، ويجتنب نواهيه، يصدع بالحق ويأمر بالخير، وفيهم الفاجر الفاسق، والمستهتر المتمرد، الذي لا يثنيه عن الغي إلا أن يرى العذاب رأي العين، ويذوق مرارة الآلام الجسمانية، وضع زواجر وحدود مادية، يقوم بتنفيذها أولو الأمر من المسلمين، ليكف الأشرار عن طغيانهم، ويسلس قياد العصي منهم، فتمتنع أو تقل الجرائم والجنايات، وتظل حدود الله مصونة من العبث، ويتوفر للناس الأمن والطمأنينة على أنفسهم وأعراضهم، وأموالهم، ويسود النظام فيما بينهم، ويتفرغ كل بما نيط به من أعمال تساهم في عمارة الكون، ويسد فراغه في بناء المجتمع الإنساني بنفس آمنة مطمئنة، فقضى على الذين يقطعون الطرق، ويهددون الأمن ويحاربون الله ورسوله بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو يقتَّلوا أو يصلَّبوا أو ينفوا من الأرض على النحو المبين في الفقه، وقطع يد السارق والسارقة، وجلد القاذف ثمانين وأهدر شهادته، والزانية والزاني مائة جلدة، إن كانا غير محصنين، ورجمهما إن كانا محصنين، واقتص من القاتل العامد جزاء وفاقا.
وقال: (5:38){وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وقال: (24:4،2){الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ورجم ماعزا والغامدية، وقد كان فيما يتلى "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم".
ولم يجعل للولاة مطلق التحكّم في الناس، بل قيّد سلطانهم، وحذّرهم أن يتعدوا حدود ما بيّن لهم الكتاب والسنة من الحق في ولاية الأمر، وتنفيذ ما عهد به إليهم، أو أذن لهم أن يقوموا به في حدود طاعة الله.
ولم يترك الناس وشأنهم في الأخذ بتلك الأحكام، بل رتب عليها من أنواع الجزاء ما يحملهم على الانقياد وأشعرهم بوعده ووعيده، وأنه من ورائهم محيط، وأنهم جميعا في قبضته، من أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، وأنه ليس بظلام للعبيد، قال تعالى:(41:46){مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وقال: (18:49){وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
وفتح أبواب المغفرة أمام العاصين التائبين، فقال:(39:53){قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
ذلك هو المنهج الواضح الذي رسمته الشريعة الإسلامية في كل ناحية من نواحي الحياة الفردية والاجتماعية فهي لم تدع في المرء عوجا إلا قومته، ولا في نظام الجماعة ثغرة إلا أحكمتها وذلك هو كل ما يتأتى للناس أن يتمنوه، أو يطمعوا فيه من إنصاف وإصلاح، وهل هناك سبيل للعمل الدنيوي خير مما رسم الله لعباده، وهو أعلم بحاجاتهم من أنفسهم، وأرحم بهم من أمهاتهم؟ وهل هناك مطمع يتعلق به الرجاء أعز مما أعده لعباده المتقين؟ ذلكم هو الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، وتلك هي العزة والكرامة، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
المسؤولية في الإسلام
بقلم الشيخ عبد الله قادري
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
الابتعاث إلى البلاد الأجنبية:
إن أول مضرَّة تلحق الطالب في الخارج، هي انطلاقه من كل ما كان يحجزه عن تنفيذ رغبات نفسه الحيوانية في بلاده من حياء من أسرته وأقاربه وأهل بلده فقد يذهب في إشباع غريزته كل مذهب.
ثم تيسر سبل الفساد المتعددة في أي مكان نزل وإلى أي محل انتقل، ولو لم ينله إلا إسكان مع عائلة خاصة، فيها البالغات والمراهقات اللاتي يختلط بهن في أغلب الأوقات، لكفى فساداً.
ضياع وقته في أماكن اللهو والفجور. ترك الشعائر التعبدية، من صلاة وصيام وغيرهما.
تشكُّكه في دينه لكثرة ما يعرض عليه من الشبه التي يلقيها مدرسوه والتهم التي يلصقونها بدينه الذي يجهله.
تشبعه بالأفكار الأجنبية المخالفة لصريح الإسلام واقتناعه بها أو ترجحها عنده على دينه.
تلقينه الوسائل التي تتخذ للقضاء على الدين أو إضعافه في نفوس أبنائه لينفذها عند الرجوع إلى بلاده.
وطبيعي أنه لا يقال أن كل من يُبْتَعَثُ للخارج يكون كذلك ولكنه يكون معرضاً لهذه الأمور.
مضار الابتعاث التي تعود على بلاد الطالب بعد رجوعه:
ومن يكونون فاسدين من العائدين من الدراسة في الخارج فإنهم في الغالب يعملون ما يلي:
1-
إصدار قرارات رسمية تدعمه القوة بإباحة ما تشتهيه أنفسهم مما يخالف الشريعة الإسلامية.
2-
العمل على إبعاد كل العناصر التي يظهر عليها أثر التمسك بالدين، عن جميع وظائف الدولة ليخلو لهم الجو، ويفعلوا ما أرادوا.
3-
بثُّ أفكارهم في الشباب الناشئ بواسطة المدارس وأجهزة الإعلام وما شابهها حتى يصبح متنكرا لدينه.
4-
مضايقة من يهتم بأمور المسلمين وباختلاق التهم ودس المؤامرات.
وبالجملة فإنهم سيعملون على أن تكون بلادهم قطعة من البلاد الأجنبية في الفساد ومن البديهي أن موت هؤلاء الفاسدين خير من ابتعاثهم إلى البلاد الأجنبية لتكون هذه هي العاقبة وما هو جارٍ في بعض البلدان العربية والإسلامية أكبر شاهد على ما قلت.
وما الحل؟
قد يقول القائل إذا كنت تعرف أننا في حاجة إلى الاستفادة من هؤلاء الكفار وأن ترك تعلُّمنا العلوم النافعة منهم يؤدِّي إلى تأخرنا كما هو الواقع ثمَّ أنت تذم بعث أبنائنا إليهم فما الحل الذي تراه للحصول على ما عند الأعداء من العلوم النافعة دون أن يتأثروا بما عندهم من فساد؟ فأقول الجواب أن لحلِّ هذه المشكلة طريقين. أحسنهما أولهما:
الأول: تأمين تعليم الشباب المسلم في بلاده بإنشاء مؤسسات مختلفة لكل العلوم التي يراد أخذها من الأعداء واستقدام مدرسين وخبراء منهم مع أخذ شروط عليهم بأن لا يزاولوا غير مهمَّاتهم في البلاد، مع إعداد المراقبين عليهم حتى لا يقع منهم اتصال مريب ومراقبين على الطلاب يشرفون عليهم ويوجهونهم ويلزمونهم بالقيام بواجبات دينهم والتمسك بالأخلاق الحسنة مع مجازاة من يحصل منه خلاف ذلك، وإذا كانت بعض المؤسسات في حاجة إلى مواد خام لا توجد في البلاد عقدت اتفاقية مع الدول التي تصدرها لاسترادها. وهذا الطريق قد يكون فيه صعوبة في أول الأمر، ولكنه ممكن وهو أحسن الطريقين وأنفعهما وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل الكُتّاب من أسرى مشركي قريش يعلمون أولاد المسلمين في المدينة جزاء إطلاقهم من الأسر.
الثاني: أن يُختار طلاب عقلاء ويربَّوْا تربية خاصة من قبل علماء متضلعين مخلصين ومطَّلعين على شبه الأعداء قادرين على الردِّ عليها، يتولون تعليم هؤلاء الطلاب وتفقيههم في الدين مدة كافية حتى يفهموا الإسلام فهماً جيِّداً، ويعرفوا الشبه، التي يوردها الأعداء والرد عليها، ويعين لكل عدد منهم مشرف ديني يبعث معهم يعتبر مراقباً وموجهاً ويكون له أهميته عند سفارة بلاده في تلك البلاد، حتى إذا رأى انحرافاً في طالب حاول توجيهه ولم يفد فيه، طلب تسفيره إلى بلاده فوراً ونفِّذ طلبه، وهذا الطريق دون الأول ولكنه نافع نسبياً.
بقي أن أشير إشارة موجزة إلى أمر مهمٍّ وهو استقدام المدرسين والخبراء الذين نحتاج إليهم لتعليم أبنائنا، يجب أن يكون استقدام هؤلاء مبنيّاً على دراسة واختيار سابقَيْن بالوسائل الممكنة بحيث تكون لجنة التعاقد لجنة مختارة معروفة بالإخلاص لدينها، والحميَّة على أبناء وطنها، وبالدهاء والذكاء اللذين يمكنانها من معرفة وجهة الشخص الذي يراد التعاقد معه، كما يجب أن يتصلوا بمن يوثق به لاستشارته وأخذ رأيه في المستقدَمين. ولقد أعجبني ما فعله أحد أعضاء بعض لجان التعاقد في بلد عربي عندما دلَّه بعض الناس على أستاذ مشهور بالعلم والكتابة والتأليف فأخذ ذلك العضو يبحث عن بعض الصحف التي يكتب فيها ذلك الأستاذ ليطلع على بعض مقالاته فعثر على ما طلبه ووجد ما دلَّه على عدم صلاح الأستاذ للمهمة فتركه، ذكرت هذا على سبيل المثال. والمخلص يلتمس المخلص. والله تعالى يعينه ومن يتَّق الله يجعل له مخرجا.
الجند وطرق العناية بهم:
إن محور أمن الأمة واستقرارها أو خوفها واضطرابها هم الجند الذين بأيديهم السلاح على اختلاف أنواعه أن حملوه لحراسة البلاد وأهلها، مع حكمة وحزم وتصرف شريف كان الناس في غاية السعادة والرخاء، حيث ينصرف كل منهم إلى قضاء حوائجه والانشغال بمهامه من تجارة وصناعة وتعمير، وتعلم وتعليم، وغير ذلك من مرافق البلاد، لاطمئنان كل منهم وأمنه على نفسه وأهله وعرضه وماله، فتزدهر بذلك البلاد وتنال مرادها، من الرقي والقوَّة في كل مجالاتها وإن حملوه لإراقة الدماء ووثوب طائفة منهم على أخرى للسيطرة على أجهزة الحكم حصل بذلك ضرر عظيم من قتل للنفوس المقاتِلة والمسالِمة وسفك للدماء ونهب للأموال وتخريب البيوت، وعم الروع جميع المواطنين وتوقفت عجلة القوة المادية من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها، والمعنوية من تعليم وتأليف وكتابة، وتفكير في المصالح العامة وبذلك تتحول البلاد إلى حمَّام من الدم ويحيق بأهلها كل أنواع البلاء من فقر ومرض وخوف وظلم، حتى يصبح من أحب الأمور إلى أغلب سكان البلاد مفارقتها إلى غيرها، ليطمئنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم. إذا عرفنا هذا علمنا أهمية العناية بجند المسلمين لنصل بهم إلى الغاية المنشودة للبلاد الإسلامية وأهلها من أمن واستقرار، وقوة مادية ومعنوية، حتى تزدهر البلاد ويقف أهلها في وجه العدو المتربص بها.
لا أريد أن أتحدث عن العناية بالجند من حيث التدريب على اختلاف أنواعه مدنيا كان أو عسكرياً لأن وظيفتهم تحتم عليهم ذلك، ولأن ذلك ليس من اختصاصي، وقد سبق أن الإسلام يوجب على أهله أن يكون جنده من القوة في المستوى الذي يُرهب عدوهم كما قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ولكل زمان قوته المناسبة له، أقول لا أريد أن أتحدث عن ذلك وإنما أريد أن أتحدث عن العناية بهم في أمور دينهم الذي يجب أن يكونوا أنصاراً له بأن يربَّوْا تربية إسلامية شاملة، وذلك بالأمور التالية:
1-
تثبيت العقيدة الإسلامية في نفوسهم لكي لا يتزحزحوا عنها عندما يحاول أعداء الإسلام تشكيكهم في دينهم لأن العقيدة هي منطلق صاحبها. أي عقيدة اقتنع بها كان عمله صادراً عنها، سواء كان حقاً أم باطلاً، وحامل السلاح من أولى الناس بتثبيت العقيدة الإسلامية في نفسه لأنه سيحمل سلاحه من أجل عقيدته، وإذا لم يزوَّد بالاعتقاد الصحيح فسيزوِّده أعداء الدين بالاعتقاد الفاسد، وسيكون حرباً على الإسلام والمسلمين.
2-
تمرينهم على السلوك الحسن بحيث يجعل جزءاً من تدريبهم العسكري حتى يكونوا متحلِّين بكل خلق فاضل من عفة ونزاهة، وشجاعة وإقدام، وحزم وحكمة، وحلم وصبر، ورحمة وشفقة، ويبتعدوا عن كل الخصال السيئة من خسة ودناءة، وجبن وإحجام، وفسق وظلم، وطيش وعجلة، وقسوة وعنف، وغير ذلك من الرذائل والمعاصي، لأن المرء كلَّما كان أكثر تحليّاً بالسلوك الحسن، كان أكثر صلاحاً للقيام بواجبه بأمانة وتنفيذ، وكلما كان أكثر ابتعاداً عن الأخلاق الحسنة، واقتراباً إلى الأخلاق السيئة، كان أكثر صلاحاً للفساد والإفساد، وأطوع استجابة للشر وأهله. واستجابة الجند لأهل الفساد تعتبر أعظم فساداً من استجابة الآخرين لأن في ذلك إسنادا للفساد بالقوة التي لا يقف أمامها إلا ما يماثلها، والجندي إذا لم يُعتن به بالتربية الإسلامية وتعويده على الأخلاق الحسنة بدا وحشاً مفترساً لا يبالي من يكون صيده، وأنا لا أريد الحطّ من قدر الجندي أبداً، وإنما أريد أن أذكر الواقع الذي لا يستطيع إنكاره أحد، لاسيما في هذا العصر، الذي قدم لنا شواهد كثيرة على ما ذكر.
فكم مسجد هدمته الجيوش الشيوعية في روسيا والصين وغيرهما، وكم مصل قتل في تلك المساجد، وكذلك فعلت الصليبية في كل أنحاء العالم الإسلامي بل في بعض الدول العربية التي أغلب سكانها مسلمون، والسبب في ذلك أن الجندي الذي حمل السلاح فيها تشبع بعقيدة معادية للإسلام والمسلمين، فعمل بمقتضى عقيدته دفاعاً عنها، ولم يجد من يقف في وجهه حاملاً سلاحاً مثل سلاحه ذا عقيدة إسلامية ليدافع عنها.
3-
ملاحظتهم في أداء الشعائر الدينية كالصلاة والحج والصوم وغيرها لأن هذه تعتبر من العقيدة بمنزلة الوقود للآلات.
4-
حثهم على طاعة الرئيس في غير معصية الله حتى يحصل بذلك الفرق بين جند الله المسلمين وبين جند الشيطان الكافرين. فإذا أمرهم قائدهم صغيراً كان أو كبيراً بفعل فيه معصية لله تعالى رفضوا الامتثال في ذلك الفعل كما فعل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عندما أمرهم قائدهم بالدخول في النار فرفضوا وشكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك بل هددهم بأنهم لا يخرجون منها لو دخلوها، وهذا الرفض لا يجوز إلا إذا كان الجند عالمين بأن ذلك الفعل معصية ظاهرة، كأن يأمرهم بأن يزنوا بنساء البلاد، أو يقتلوهن أو يقتلوا الأطفال والشيوخ بدون سبب يبرر ذلك أو يشربوا الخمر، أو غير ذلك من المعاصي الظاهرة، أما الأمور التي لا علم للجند بها من مسائل الاجتهاد العلمي أو العسكري فلا حق لهم في عصيان قائدهم فيها.
5-
تذكيرهم باليوم الآخر وما أعد الله فيه للمحسنين - ولا سيما المجاهدين - والمسيئين ليكونوا راجين ثواب الله خائفين عقابه، فإن الذي لا يؤمن باليوم الآخر، لا يهمه إلا العاجل، الذي تشتهيه نفسه، في هذه الدنيا حلالا كان أو حراماً، ومثل هذا لا يرجى منه أن يقدِّم نفسه وماله في سبيل الله كما لا يتوقع منه أن يترك أي فرصة تسنح له بارتكاب أي جريمة تهواها نفسه لأنه لا يطمع في ثواب الله ولا يخاف عقابه.
6-
أن يختار لكل جماعة منهم رئيس تتوفر فيه الصفات التي تحقق للجند الأمور المتقدمة وذلك بأن تتوفر فيه الأمور التالية:
أ - الخبرة التامة بما يسند إليه من مهام عسكرية، حتى يؤدي عمله متقناً.
ب - الأمانة التي يوثق من اتصف بها حيث لا يُخشى منه الخيانة لأتباعه أو رئيسه أو أميره أو أمته.
ج- القوة التي تمكِّنه من تنفيذ ما يريد تنفيذه حتى لا يوقع نفسه وأتباعه في مشاكل لا يستطاع حلها في الأوقات الحرجة، بسبب التردُّد وعدم التنفيذ، فإن الأمور المهمَّة تحتاج إلى اغتنام الفرص التي تمكن من القيام بأدائها سلباً أو إيجاباً، والمهام العسكرية أحوج إلى الحزم والبت في الأمور من غيرها.
د- أن يكون متمسكاً بدينه متخلقاً بالأخلاق الحسنة لأنه قدوة لأتباعه، إن أحسن أحسنوا وإن أساء أساءوا ولأنه لا يمكن أن يلاحظهم إن لم يكن ملاحظاً لنفسه، وفاقد الشيء لا يعطيه.
هـ- أن يكون حكيماً يضع الأمور في مواضعها بحيث يعطي لكل وقت ما يناسبه، من إقدام أو إحجام وتقدم وتأخُّر، فلا يكون متهوراً، يوقع جنده في مآزق لا يطيقون الخروج منها بسبب العجلة، ولا جباناً يفوِّت عليهم فرصة تسنح لهم بالتغلب على عدوهم.
7-
بثُّ روح الجهاد فيهم حتى يكون أحب إليهم من كل ملذَّات الدنيا وشهواتها، وتوجيههم إلى الإخلاص حتى يكون قتالهم في سبيل الله ينالون به النصر في الدنيا، والشهادة في الآخرة.
8-
أن يصحب كل طائفة منهم مشرفون دينيون يقومون بالأمور التالية:
أ - الإمامة في الصلاة: لابد لهم من إمام يصلي بهم الصلوات في أوقاتها الخمسة جماعة يتفقدهم وينصح من يتخلف منهم بغير عذر، وإذا تكرر ذلك من أحدهم بلَّغ به المسئول العسكري الذي يجب أن يكون مزوَّداً بتعليمات وجزاءات رادعة في مثل هذه الأمور، فإن الأمر بالمعروف واجب على كل أحد بحسبه باليد ثم باللسان ثم بالقلب كما هو معروف، ولا شك أن القائد الجندي أعظم استطاعة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ممن سواه.
ب - الوعظ والإرشاد: ويجب أن يصحبهم عالم يزوِّدهم بالنصائح المناسبة في أوقات مختلفة ويكون مُلِمّاً بالثقافة الإسلامية العامَّة، فاهماً للأفكار الهدَّامة المنتشرة في العصر، والشُّبه المخالفة للإسلام، حتى يتمكن من بيان تلك الأفكار والشبه وإظهار مساوئها ومخالفتها للدين حتى لا تتسرب إلى الجند فتزعزع عقيدتهم، فيصبحوا حرباً على الإسلام وأهله، كما يقوم بالإجابة على أسئلتهم المتعلقة بالحلال والحرام، وما يتصل بهما.
ج- التدريس: وينبغي أن يصحبهم كذلك مدرس خاص يعلمهم القراءة والكتابة، والحساب وما أشبه ذلك لئلا يكونوا أُميين، فإن الأميَّ أسرع تأثراً بالدعوات الهدَّامة لعدم تمكُّنه من فهمها، وفهم ما تنطوي عليه من شرٍّ، وفي ذلك أيضاً مساعدة لهم، على قراءة ما يرد عليهم من رسائل أهلهم وكتابة ما يريدون من الرد على تلك الرسائل وأشباهها، كما أن في ذلك توفيراً للوقت بالنسبة لقراءة النشرات والإعلانات التي يراد تعميمها بحيث يتمكن كل واحد منهم من قراءتها لنفسه، وغير ذلك من الفوائد المعروفة.
9-
مع ذلك كلِّه يجب أن توفر لهم وسائل عيشهم ومن يهمهم أمره حتى لا تعترضهم الشواغل بسبب نقص شيء من ذلك وهم جديرون بتأمين تلك الوسائل لأنهم متفرغون لحماية الأمة وخدمتها في الداخل والدفاع عنها من أن يهجم عليها عدو من الخارج.
هذه بعض الأمور المهمة التي أحببت التنبيه عليها وهي إذا توفرت لجند المسلمين كان نجاحهم تامّاً، وإذا عدمت كانت خسارتهم كاملة، وإذا نقصت فبمقدار نقصها تكون الخسارة.
وعلى وزراء الدفاع والداخلية تقع المسؤولية لأنهم رعاة الأمنيْن الداخلي والخارجي، وفقنا الله وإيَّاهم وكل المسلمين لكل خير.
وبعد فيا أخي المسلم كنت أريد أن أستقصي ما استطعت من الكلام على المسئوليات التي لموظفيها علاقة بالإمام ولكن رأيت أن ذلك يقتضي الإطالة فذكرت ثلاث مسئوليات هامة هي مسئولية الإعلام، ومسئولية التعليم، ومسئولية الدفاع والداخلي ة، على سبيل المثال، للمسئوليات الأخرى - ولعل الله ييسر الكتابة فيها في المستقبل - السياسية منها والاقتصادية والقضائية والتجارية والصناعية والطبية وغيرها، فيجب على كل مسئول تتعلق به أي مسئولية أن يخاف الله ويقوم بواجبه الذي أنيط به قدر استطاعته، لأن كل منهم يعتبر راعياً في مسئوليته مسئولاً عنها، ومن غش رعيته فقد حرم الله عليه الجنة كما مضى في الحديث الصحيح، وليعلم كل مسئول أنه قدوة لمن تحته فإن أحسن أحسنوا، وله مثل أجورهم وإن أساء أساءوا، وعليه مثل أوزارهم.
فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
فإن كان رب البيت بالدف ضارباً
ويا أيها المسلمون إنني أهيب بكم أن لا تلقوا بفلذات أكبادكم الذين يتسلمون قيادة الدنيا منكم بعد سنين إلى أحضان أعدائكم يمسخونهم فيجعلونهم لعنة وعاراً عليكم يربون أولادهم مثل تربيتهم أبناءهم يربون أحفادهم كذلك، فتكون سلسلة شر متصلة بعدكم وعليكم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لأنكم السبب فيها، واتقوا الله فيهم فإن الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وأبناؤكم أمانات عندكم وأقبح الخائنين من خان أبناءه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
النور الفائض في مخالفة أهل السنة من أهل البيت وغيرهم للروافض
بقلم الشيخ: محمد حسن الغماري
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
جناية أهل الرفض على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كل من طالع كتب الحديث ومصطلح الحديث يجد واضحا تلك الجناية التي جناها الروافض على أهل البيت ماثلة أمامه فقد تسبَّب الرفض في ردِّ كثير من روايات أهل البيت وطعن في عدالة كثير من أهل العلم ولسببهم ذهب جلُّ علم علي رضي الله عنه وأولاده حتى أن الرجل كان لا يستطيع أن يروي عن بعض أهل العلم لئلا يقول الناس إنه تشيَّع فيقدح في عدالته لأن الشيعة الروافض صار الكذب علماً عليهم ووضع الحديث رأس مالهم والزور والبهتان سلعتهم التي يتاجرون بها.
وأهل البيت يتولاهم جميع المؤمنين ويحبُّونهم لا كما يزعم الروافض أنهم المخصصون بحب أهل البيت دون المؤمنين ويزعم الروافض أن جميع المسلمين ظلموا أهل البيت والحقيقة أن الروافض هم الذين ظلموا أهل البيت ظلماً لا نظير له فقتلوهم وخذلوهم أحوج ما كانوا إلى النصر وغرُّوهم حتى أَوْدَوْا بهم في متاهات القتل والحرمان فهم الذين تجرَّءوا على الحسن بن علي رضي الله عنهما وأسالوا دمه من جسمه الشريف بغياً عليه ونذالة منهم وكفراً وهم الذين أَغْرَوْا أخاه الحسين بن علي ودعوه من بلده الحرام إلى بلدهم العراق ثم تَوَلَوْا بأيديهم سفك دمه الطاهر ثم خرجوا بعد مقتله يستقبلون النساء والذرية بعيون باكية وهم الذين قال لهم علي بن الحسين آنذاك: "يا أهل الكوفة إنكم تبكون علينا فمن قتلنا غيركم"وهم الذين قالت لهم زينب بنت أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "يا أهل الختر والخذل فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الرنة إنما مَثَلُكُمْ كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخدون أيمانكم دخلاً بينكم ألا وهل فيكم إلا الصلف وملق الإماء وغمز الأعداء؟ وهل أنتم إلا كمرعى على دمنة أو كغضه على ملحود، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون أتبكون؟ إي والله فابكوا وإنكم والله أحرياء بالبكاء فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد فزتم بعارها وشنارها ولن ترفضوها بغسل بعدها أبداً". وقد أنكر أهل البيت ولايتهم ومن ذلك ما روي عن أبي جعفر محمد الباقر رضي الله عنه أنه كان يقول:"أف أف ما أتى لهؤلاء بإمام يضرب بكتبهم الأرض". وكان يقول الحسن المثنى ابن الحسن البسط:"والله لئن أمكننا الله منكم لنقطِّعنَّ أيديكم وأرجلكم ثم لا نقبل منكم توبة أبداً". وهذا يدل أنه كان يعتق أنهم زنادقة لأن الذي لا تقبل توبته هو الزنديق فقط وكذلك قال فيهم جعفر الصادق بن محمد الباقر: "القدرية مجوس هذه الأمة أرادوا أن يصفوا الله بعدله
فأخرجوه عن سلطانه"والمراد بالقدرية هنا الشيعة الروافض الذين يعتقدون الجبر كالمغيِّرية المجسِّمة وغيرهم من الشيعة وهم الذين يحصرون المحبَّة في نفر قليل من أهل البيت مع أن الصالحين من أهل البيت الذين تبغضهم الروافض وتذمهم أكثر عدداً من الذين يتظاهرون بحبِّهم. ومن الذين تبغضهم الروافض زيد بن علي والحسن المثنى وزيد بن الحسن وأولادهم بل هم يحصرون الحبَّ والإمامة في اثني عشر إماماً وأهل البيت رضوان الله عليهم آلف وقد ذكر صاحب مقاتل الطالبيين في كتابه الذين قتلوا إلى آخر دولة بني العباس أكثر من خمسة آلاف رجل فكم يكون عدد من لم يقتل وكم يكون عددهم إلى اليوم ونحن نقصد الصالح منهم فقط، هؤلاء الشيعة المنتشرون في مشارق الأرض ومغاربها في صورتهم القاتمة الذين امتلأت قلوبهم حقداً على أهل الإسلام والإيمان من أهل البيت وغيرهم وقد كان مركز الرفض في أول الأمر العراق ثم انتشر فلم يبق بلد إلا وغرز ذنبه فيه. وعُرف العراق في ذلك الوقت بالموطن الخصب لوضع الحديث حتى فسد جلُّ علم علي رضي الله عنه ورواية أهل البيت. قال مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه: "إذا خرج الحديث من الحجاز انقطع نخاعه". وفي رواية أخرى لمالك: "إذا جاوز الحديث الحرتين انقطع نخاعه". وقال الشافعي رضي الله عنه فيما رواه عنه ابن أبي حاتم في مناقبه: "إذا لم يوجد للحديث من الحجاز أصل ذهب نخاعه".
وقال العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين الجزء الأول (ص 21) : "وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فانتشرت أحكامه وفتاويه. ولكن قاتل الله الشيعة فأنهم أفسدوا أكثر علمه بالكذب عليه ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان من طريق أهل بيته وأصحاب عبد الله ابن مسعود كعَبِيدَة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم. وكان رضي الله عنه وكرم وجهه يشكو عدم حملة العلم الذي أودعه.
كما قال:"إن ها هنا علماً لو أصبت له حملة"اهـ بلفظه.
وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمهما الله (ص143) الدرر السنية: "وأما قولكم إننا ننكر علم أهل البيت وأقوالهم ومذاهبهم ومذهب زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم على علم جدِّه رضي الله عنه فهذا كذب وبهتان علينا بل زيد بن علي عندنا من علماء هذه الأمة فما وافق من أقواله الكتاب والسنة قبلناه وما خالف ذلك رددناه كما نفعل ذلك مع غيره من الأئمة الخ
…
"وسئل عن المذهب الزيدي فأجاب رحمه الله:
"الصحيح منه ما وافق الكتاب والسنة وما خالفه فهو باطل".
إن الدين عند الله الإسلام
بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
الإسلام هو دين الله الذي نزل من السماء ليصلح الأرض، ويربط العالم بعضه ببعض، ويوثق العلاقة بين الخالق والمخلوق على أساس العقيدة الصافية، والعبادة الهادية، ويوثق العلاقة بين المخلوق والمخلوق على أساس العدالة الكاملة، والرحمة الشاملة، والمعاملة الكريمة والسياسة الرحيمة. هذا هو الإسلام في إجمال، وتوضيحا لذلك نقول والله المستعان:
دعانا الإسلام إلى أن نؤمن بالله إيمانا صادقا، ونوحده توحيدا خالصا، وذكَّرنا بأن الله وحده هو الذي خلقنا وسوانا، ومنحنا حواسنا وقوانا، وأنعم علينا بنعمه التي لا تحصى، وغمرنا بفضله، وعمَّنا بكرمه، وشملنا بلطفه، ووسعنا بعلمه فهو يعلم ما نخفيه كما يعلم ما نبديه. قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [1] .
ودعانا إلى الإيمان برسل الله الذين اختارهم المولى ليكونوا دعاة له، وهداة لخلقه، وقدوة لهم، وحجة عليهم، قال تعالى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [2] وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [3] .
ودعانا إلى الإيمان بالبعث والحساب والجزاء لتوفَّى كل نفس ما كسبت، ويتلقَّى المحسن أجر إحسانه، ويأخذ المعتدي عقاب عدوانه فلا يتساوى بار كريم، ومجرم أثيم. قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [4] . وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [5] .
هذه العقائد الثلاث التي دعا إليها الإسلام عقائد متماسكة متلازمة لها أثرها العميق في تهذيب الإنسان وإعلاء شأنه.
فعقيدة التوحيد تحمل في طواياها الاعتراف بالكمال المفرد المطلق لباري الكون وترفع شأن الإنسان إلى المستوى الذي يليق به فلا تهبط بعقله إلى قبول عقائد خرافية ووثنية ولا تدفعه إلى المذلة أمام مخلوق من المخلوقات صغر أم كبر، عظم أم هان وهذا هو السر في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [6] .
وعقيدة التوحيد أيضا تولد لدى المسلمين شعورا واحدا بأنهم جميعا عبيد لرب واحد لا يتفاضلون عنده إلا بالتقوى والعمل الصالح. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [7] .
وفي ظلال هذه العقيدة لا يتعالى أحد على أحد ويتنافس الناس جميعا في أعمال البر، وطرق أبواب الخير والإيمان برسل الله، يحمل في طواياه الإيمان بحكمة الله، فحكمته سبحانه تأبى أن يوجد الإنسان ويتركه سدى ويدعه هملا، ويحاسبه ويعاقبه دون أن يقيم عليه الحجة.
الإيمان برسل الله يقتضي الإيمان بما جاءوا به وما جاءوا إلا بالخير العميم، والصراط المستقيم والنظام السليم الذي يضمن سعادة الفرد والمجتمع.
الإيمان برسل الله يعمِّق الإيمان بالله، ويدعوا إلى تنزيه المولى عن العبث والظلم والسفه، ويضع أمام الناس مثلا بشريا، عالية يحتدون ويقتدون بها، ويسيرون على منهاجها في مراقبة الله، والإحسان إلى الناس دون انتظار أجر منهم.
والإيمان باليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء من شأنه أن يزكي نفس الإنسان ويدفعه إلى عمل الخيرات وترك المنكرات والبعد عن النقائص والشبهات.
هذه العقائد الثلاث من شأنها أن تعين في إيجاد الإنسان الفاضل، والمجتمع الفاضل، والدولة الفاضلة.
وفروع الإسلام وشرائعه تهدف إلى ما تهدف إليه أصوله، وتعمل على تحقيق الغاية التي ترمي إليها عقائده فالصلاة والصيام والزكاة والحج وبقية ما أمر به الشارع تجمع بين حق الله وحق الإنسان، وفيها منافع للناس يشهدونها ويلمسون أثارها في حياتهم، إلى جانب كونها عبادة لربهم وطاعة لخالقهم.
ومن ينظر في شريعة الإسلام يجدها كافية وافية شافية، جاءت بما فيه كمال الروح والبدن وصلاح الفرد والأمة وهناء العالم بأسره فأقامت البرهان على أن الإسلام دين إنساني عالمي واقعي نزل من السماء ليحكم الأرض وليملأها عدلا وسلاما، ومحبة ووئاما، ورخاء ورفاهية ولأن الإسلام دين واقعي التزم في كل ما شرعه أن يلائم طاقة الإنسان، ويناسب مقدرته فلا يكلفه شططا، ولا يرهقه عسرا، ولا يطلب منه ما يحرجه أو يشق عليه قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [8] وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} [9] وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [10] وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [11]
وتمشيا مع واقع الإنسان، وتقديرا لظروفه، ومسايرة لطبيعته وخصائصه اهتم الإسلام بشئون دنياه كما اهتم بشؤون أخراه، فلم يفرض عليه أن يعتزل الناس، وينقطع لعبادة الله ويهمل أمر نفسه، ويغفل مطالبه الجسمية، وغرائزه النفسية. كلا، فقد سمح له بأن ينال حظه من العاجلة، ويستجيب لغرائزه، ويسَّر له الطريق في غير إفراط ولا تفريط، وهيأ له السبيل في حدود الاعتدال والكمال، وفي كتاب الله تقدير وتكريم لمن يقول:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [12] لم ينكر الله عليهم أن يطلبوا الدنيا، وكذلك لم ينكر عليهم أن يقدموها في الطلب على الآخرة.
وفي السنة النبوية إرشاد لنا بأن نتوجه إلى الله بهذا الدعاء: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر" أخرجه مسلم عن أبي هريرة 8-81.
وتطبيقا لنظرة الإسلام الدنيوية عني الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يزيل ما وقع في ذهن حنظلة من التباس، وما سرى إليه من وهم حين زعم أنه نافق لأنه تشاغل بشؤون أهله وماله.
روى مسلم 8-94 بسنده إلى حنظلة الأسدي قال - وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عاسفنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات"
كذلك صحح الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة أصحابه الذين حسبوا أن الغلو في العبادة مما يتقرب به إلى الله، وأن إهمال النفس والأهل مما ينالون به رضاه.
روى البخاري بسنده عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل"فقلت: بلى يا رسول الله، قال: "فلا تفعل. صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزوارك عليك حقا"-رواه مسلم بنحوه3-163.
وروى البخاري أيضا بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم. فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
هكذا رتب الإسلام حياة الإنسان، ووضع لها أكمل نظام راعى مطالب جسمه "إن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا" وراعى مطالب غريزته الجنسية "وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وفي رواية لمسلم "وإن لولدك عليك حقا" وراعى حقوق الناس "وإن لزورك عليك حقا".
لم ينس الإسلام أي حق بل جاء ليعطي لكل ذي حق حقه، في حدود الاعتدال والكمال، حافظ على صحة الإنسان وحث على توقي الأخطار والأضرار قال تعالى:{خُذُوا حِذْرَكُم} [13] وقال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [14] وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يوردن ممرض على مصح" رواه الشيخان. ودعا إلى العلاج والتداوي قال صلى الله عليه وسلم: "يا عباد الله تداووا" أخرجه الترمذي.
ورغبّه في أن يتزوّد بالعلم ويرتوي منه ويستقِّل ما لديه قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} [15] وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [16] بدأ برسوله وهو الذي قال له: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [17] ليكون قدوة لأمته كما قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [18] فتقتدي به وتسير على نهجه، فتستزيد من العلم باستمرار، وتسعى في طلبه على الدوام.
وحارب الفقر فوضعه بجانب الكفر واستعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم كما استعاذ من الكفر فقال: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر" أخرجه الحاكم.
ورسم الخطة الموافقة في مكافحته فحث على العمل لأنه مفتاح الرزق، وباب كسب المال قال تعالى:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [19] .
وفي يوم الجمعة حيث يتعين على الناس الاجتماع لذكر الله والصلاة ينقلنا من مواطن العمل إلى المسجد ثم يعود بنا إلى مواطن العمل بعد الصلاة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} .
وينوه بفضل العمل ويشيد به فيقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب المؤمن المحترف" رواه الطبراني، وينهانا عن البطالة، ويحذرنا من التسول فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعه لحم" رواه البخاري ومسلم.
واستجابة لحق البطون، ونزولا على مطالبها، واعترافا بحق الفقراء والمحتاجين في أن يعيشوا مع الأغنياء عيشة كريمة يشاركونهم في خيرات الأرض التي يعيشون عليها، وينعمون معهم بما جاد به غنيهم، من أجل هذا كله أوجب الإسلام الزكاة وجعلها حقا لهم لا منة يمتن بها عليهم، وأوجب على الدولة أن تأخذها طوعا أو كرها.
نعم. من أجل الفقراء شهر الحاكم الإسلامي أبو بكر رضي الله عنه سيفه في وجوه الذين منعوا الزكاة وقال كلمته المشهورة: "والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها"رواه الستة.
ولم يكتفي الإسلام بهذا بل وضع الأساس لإقامة مجتمع تعاوني تسوده المحبة وتسري فيه روح الأخوة شعاره قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [20] وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"رواه الشيخان. وقوله عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له الجسد بالسهر والحمى" رواه مسلم.
وقوله في حديث آخر: "من كان عنده فضل ظهر فليَعُد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليَعُد به على من لا زاد له". قال أبو سعيد راوي الحديث: "فذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لاحق لأحد منا في الفضل"رواه مسلم.
ويضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الاهتمام بالفقراء والعمل على راحتهم، وتقديم كل عون لهم ليكون قدوة وأسوة للحكَّام في إعانة المحتاجين، ورعاية البائسين.
روى الإمام أحمد أن عليا وفاطمة رضي الله عنهما ذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: "والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري"، وقالت فاطمة:"لقد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم".
هكذا حارب الإسلام الفقر بالعمل، وقضى على البطالة والكسل، وقدم المعونة للضعفاء والفقراء، ووفر لهم حياة طيبة وعيشة كريمة في ظل نظام محكم متين تتوثق فيه الروابط وتقوى فيه أواصر المودة بين الأفراد على اختلاف حالاتهم ودرجاتهم.
وكما حارب الإسلام الجهل والفقر والمرض نظريا وعمليا حارب الرذيلة وأغلق منافذها، ونفر من الشرور ووقف في طريقها، وحذّر من الظلم وبيَّن سوء مغبته ووخامة عاقبته قال تعالى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [21] .
وقال سبحانه في حديث قدسي رواه مسلم: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".
ويشتد الرسول صلى الله عليه وسلم في التحذير من الظلم فيبين أن الظلم يلتهم كل ما يصنع العبد من عبادات وحسنات ويعرض صاحبه للإفلاس ويرمي به في النار وبئس القرار قال صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من المفلس؟ "قالوا: "المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع". فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن تقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار" أخرجه مسلم.
ويتعقب الإسلام الظلم في كل مكان، فلا يرضى أن يظلم أي إنسان وإن يكن كافرا قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [22] .
ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" أخرجه أبو داود.
هذا هو الإسلام، إنه دين يعمل لمصلحة الفرد والمجتمع، دين يحارب الفقر والجهل والمرض والرذيلة والظلم، دين يعمل على إيجاد جيل غني قوي يتسلح بالعلم، ويتحصن بالفضيلة، وينأى عن الرذيلة، دين يقيم دولة فاضلة، وأمة عادلة لها حاكم يؤمِّن الخائف ويطعم الجائع وينصف المظلوم وينشر العدل والسلام والمحبة والوئام ويسهر على ما فيه عزة الأمة ورفاهيتها وهناءتها وسعادتها، وصون حريتها وكرامتها، واستقلالها وسيادتها. نعم هذا هو الإسلام أيها الحائرون {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
- النحل (17-19)
[2]
- الحج (75)
[3]
- المائدة (165)
[4]
_ المؤمنون (115)
[5]
_ ص (27_28)
[6]
_ المنافقون (8)
[7]
_ الحجرات (13)
[8]
- البقرة (185)
[9]
- البقرة (286)
[10]
- النساء (28)
[11]
- المائدة (6)
[12]
-البقرة (201)
[13]
- النساء (71)
[14]
-البقرة (195)
[15]
-الإسراء (85)
[16]
- طه (114)
[17]
-النساء (113)
[18]
-الأحزاب (21)
[19]
- الملك (15)
[20]
- المائدة (2)
[21]
- الأعراف (157)
[22]
- المائدة (8)
بدر الكبرى
للشيخ محمد عطية سالم
القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
تعتبر السيرة النبوية بيانا ومنهجا لسيرة الدعوة وأسلوب الداعي وسجلا لأحداث الكيان الإسلامي من أول بدء الوحي إلى خاتمته وهي جديرة بالدرس والتحليل للتأسي والاقتداء {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
…
}
ولكل موقف في السيرة ظروف وملابسات تخصه، وإن غزوة بدر تميزت عن جميع الغزوات والمواقف بتوجيه مباشر بوحي يتلى، وفق خطة مسبقة وكان دور المسلمين فيها التطبيق العملي.
ولا نُبعد إذا قلنا أن تلك الخطة منوه عنها قبل الهجرة في قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . وكان عمر رضي الله عنه يقول: "لم أعلم أي جمع حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يثب في الدرع ويقرأ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} "
ولكن أحداث مكة وطريق الهجرة غطت على هذا التنويه. ثم جاء الوعد الصريح في العهد القريب. {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} تحقيقا للخطة السابقة. وهاهو التوجيه الإلهي لتحقيق ذلك وتنفيذه على أيدي المسلمين بتوجيه رب العالمين.
وجوانب الغزوة عديدة ولا يمكن الإلمام بجميع جوانبها في عرض سريع ولا تستوعبها محاضرة عاجلة.
ولكن على سبيل الإجمال فإن جميع الغزوات تشترك في جوانب أساسية هي
1-
الأسباب الدافعة عليها.
2-
الإعداد لها مسبقا من:
أ- جند، ب- عتاد، جـ -تموين، د- اختيار المكان والزمان إن أمكن، هـ - وضع الخطة الملائمة للزمان والمكان والظروف مع اعتبار قوى العدو وظروفه ونوع سلاحه وطريقة قتاله، وغير ذلك.
3-
سير المعركة ونوع القتال:
دفاع أو هجوم. ولكل تنظيمه وعتاده.
كر وفر، أو الزحف في صفوف، الحصار، الإمدادات والتموين.
4-
النتائج: تحقيق الغرض الذي قامت لأجله. تحقيق غرض آخر، أو فشلها والهزيمة.
5-
المخلفات: تصفية أعمال المعركة وبقايا آثارها في الأمة من الجهتين المتقاتلتين.
تلك هي الجوانب الأساسية التي تواكب كل غزوة وتلازمها ولا بد لها من إعداد وتقدير قبل خوض المعركة والتورط مع العدو. كما كان في غزوات الأحزاب وأحد وتبوك وخيبر وفتح مكة. فكانت خطة الأحزاب حفر الخندق ومفاجأة العدو بها. وخطة أحد: الرماة والمقاتلة. وخيبر حصار العدو. وكلها واضحة المعالم للمسلمين.
الدوافع على الغزوة:
كان الدافع على غزوة بدر هو أخذ العير كما جاء في خبر أبي أيوب النصاري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قِبَلَها لعل الله يُغْنِمناها؟ "فقلنا: نعم فخرج وخرجنا".
فالدافع إلى الخروج هو الرغبة في العير لعل الله يغنمهموها وهذا أمر عادي فيما بين المسلمين والمشركين. فالمسلمون خرجوا من ديارهم فرارا بدينهم وتركوا أموالهم بمكة. وهذا صهيب عند الهجرة قالوا له بمكة: "جئتنا صعلوكا لا مال لك حتى أثريت والآن تريد أن تخرج بأهلك ومالك" فنزل لهم عن ماله وخرج.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "وهل ترك لنا عقيل من بيت أو ربع". والصدِّيق يقول لولده يوم بدر وهو في صفوف المشركين أين مالي يا خبيث؟ فيقول له:
لم يبق إلا شكة ويعبوب
وصارم يقتل ضلال الشيب
فخروج المسلمين لأخذ العير أمر عادي وطبيعي في مثل هذه الحالة. لأن الطرفين في حالة حرب منذ أن تآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم وخرج ليلا إلى الغار وهاجر إلى المدينة.
وحالة الحرب تجيز أخذ مال العدو وليس ذلك غدرا ولا اعتداءا ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من مكة إلا بعد أن رد الودائع لأهلها وخلف عليا رضي الله عنه لأدائها. وتركه في فراشه وتحت ظلال السيوف لأنها أمانات وودائع.
أما هذه فقافلة تجارية في حراسة أربعين رجل أو ثلاثين. ولكن العير لم تكن إلا إغراء على الخروج العاجل الخفيف لئلا لا يتهيأ جيش، وليكون اللقاء بين فئتين مختلفتين ليكون آية، وفي أثناء الطريق يتبدل السبب ويقع الشك في إدراك العير ويتسامع بالنفير.
وهناك يثقل الأمر عليهم ويقع الجدال بينهم. {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} .
وهناك أيضا يأتي وعد بإغراء {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} . وإطلاق إحداهما لم يقطع الأمل في العير. ولم يؤكد لقاء النفير، إلا أن ميولهم إلى السبب الذي أخرجهم وتوددهم إلى غير ذات الشوكة تكون لهم.
وإلى هنا أمر عادي وسير للخطة على وجهتها الطبيعية.
ولكن التوجيه الإلهي يوجه الخطة إلى غير ما يريدون وإن كرهوا. {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .
وهذا أول تغيير في الخطة وأول مجابهة المسلمين بالموقف الجديد. وقد أدرك ذلك سعد إذ يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له فصل حبل من شئت. واقطع حبل من شئت. وعاد من شئت وسالم من شئت. وخذ من أموالنا ما شئت".
وفي ذلك الموقف ينشأ أول مجلس عسكري أعلى يُجري فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشاورات مع أصحابه "أشيروا علي أيها الناس" أي في خصوص مقابلة النفير حيث خرجت مكة لحماية العير.
وتكلم كلا الفريقين من المهاجرين والأنصار كما تقدم. وخرج المؤتمر وانفض المجلس على قرار موحد حاسم: القتال.
بقي تحديد المكان:
لم يكن للمسلمين ولا المشركين اختيار في المكان ولا في تحديد الزمان، لقد سار المسلمون إلى ماء بدر لأنه منزل عام على الطريق. ولا يعلمون متى يلتقون بالنفير ولا مصير العير. ومضى المشركون أيضا إلى بدر لتسمع بهم العرب ولا يعلمون متى يلتقون بالمسلمين.
ولكن الخطة والتوجيه الإلهي يحدد مكان المعركة وزمانها: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} وبيَّن تعالى أن ذلك جُزءا من الخطة العامة ليقضي الله أمرا كان مفعولا. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
وجها لوجه:
لقد أصبح المسلمون مع المشركين وجها لوجه في الميدان. وهناك مرة أخرى يأتي التوجيه الإلهي لتنفيذ الخطة بمغايرة جديدة حول العدد الذي هو ميزان القوة والقتال. فيقلل كلا الطائفتين في نظر الأخرى، {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي لا إلى تقديراتكم وخطئكم.
وقد بين الله تعالى الغرض المقصود من هذا التقليل {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فلم يترك لكم الأمر ووجهكم إلى ما يغري على القتال. فأصبحوا أمام أمر واقع لم يكن لهم اختيار فلا يستطيعون التقدم ولا التأخر ولكن أرض معسكرهم رمله دهسة تعوق سرعة الحركة وليس ذلك من صالحهم. وأرض العدو سبخة جلدة وما زال المسلمون ببطن الوادي ولا ماء عندهم ولم يشرع التيمم بعد، فوقعوا في وساوس الشيطان وكيف يلقون العدو بغير طهارة!..فجاءتهم عناية الله وغيرت الموقف وعكسته تماما:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} . وهكذا بين عشية وضحاها تغير الموقف تماما إذ نزل عليهم المطر ليلا فتطهروا وشربوا وتماسك الرمل تحت أقدامهم وثبتت عليه.
بينما سبخة المشركين تنزلق تحت أقدامهم وأصبح الموقف لصالح المسلمين فمعسكرهم متماسك لطيف ومعسكر المشركين زلق رحض.
وفي تلك الليلة وبوحي من إفساح المجال للمشورة وامتدادا لذلك المجلس العسكري الذي أشعر كل شخص بمسئولية القتال يتقدم الحباب بن المنذر بمشورته في المنزل، ويقبل صلى الله عليه وسلم مشورته كما تقدم. ويأتي ملك فيقول:"يا رسول الله: إن الله يقرئك السلام ويقول الرأي ما قاله الحباب". فيقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو السلام ومنه السلام". وينزل على المشورة تلك والتي نالت ما نسميه في عرفنا موافقة من المرجع الأعلى. وإلى الله ترجع الأمور.
إنه تحقيق لما قلنا من التوجيه الإلهي لمعركة بدر. وبهذا كله يتم تهيئة أرض المعركة. وبتثبيتها تحت أقدام المسلمين وتوفير الماء لهم. وانزلاق الأرض تحت أقدام المشركين ولا ماء عندهم. وذلك لصالح المسلمين وما كان ليتم ذلك إلا بتوجيه إلهي للخطة وعناية بالمسلمين وفي الصباح يلتقي الجمعان على تلك الحال ولم يبق إلا القتال.
قبل بدء المعركة:
كل ما تقدم من خروج وإغراء وتوجيه. ومشورة وأمنة النعاس وإنزال الماء من السماء وتثبيت الأقدام وغير ذلك. إنما هو مقدمة وتهيئة لهذه اللحظة. لحظة بدء القتال. فهي أخطر لحظة في المعركة. وهي أهم نقطة في الخطة. وأدق جزء في التوجيه وعليها يتوقف مصير المعركة. وبالتالي مصير الدعوة والأمّة بل والإنسانية كلها.
فهي اللحظة الحاسمة وهي الفرقان بين الحق والباطل. وبين البطر والتواضع ومن ثم نجد التوجيه أشد ما يكون. والتعليمات في منتهى الحزم والشدة والقسوة. ونستطيع تسميتها تعليمات الميدان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
وتفصيل تلك التعليمات:
أ - فلا تولوهم الأدبار. وبهذا لا يملكون انهزاما ووجب عليهم الصبر والثبات أمام العدو مهما كانت النتائج.
ب - عقوبة من تسول له نفسه بالتولي غضب الله في الدنيا. ومآله جهنم وبئس المصير.
وهذا خاص ببدر دون غيرها من الغزوات لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} ولكأن المسلمين ذلك اليوم لا يملكون أنفسهم. ولا لهم حق التصرف في شيء. حتى في تحركاتهم.
وقد جاء ما يؤيِّد هذا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. فقال عمر: "يا أيها الناس لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم". وقال نافع: "سألت بن عمر قلت إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ولا ندري من الفئة. إمامنا أو عسكرنا؟ "فقال: "إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقلت: "إن الله يقول: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً..} الآية "فقال: "إنما أنزلت في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها".
وهذا بخلاف غيرها من الغزوات فقد جاء في حق أُُحد بعدها بسنة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} . ويؤكد أنها في أُحد عدم تولي أَحَدٌ يوم بدر حيث ثبتوا جميعا. بينما في أُحد تولى البعض منهم حتى وصل العريض ووصل المدينة.
ففي أحد وحنين تأتي التوبة بعد التولي وتختص بدر بالعقوبة على من تولى وهنا نجد إحكام الخطة ودقة التوجيه فالمؤمنون خرجوا للعير وقد فاتتهم وتغيَّرت عليهم الخطة. ولم يبق لهم اختيار في إحدى الطائفتين. وأُلزموا بلقاء ذات الشوكة. وكأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. والآن هم في ساحة القتال لا حق لهم في التولي. ولا يملكون من أنفسهم شيئا. وعليهم أن ينفِّذوا ما يؤمرون به ويوجهون إليه بقيادة السماء.
عندئذ اشتد الموقف وعظم الخطر فجاء النصر من الجانبين:
الأول: تكثير المسلمين في أعين المشركين. {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} .
وكان لإنزال الملائكة في غزوة بدر حالة خاصة وتوجيه مستقل مغاير لنزولهم في غيرها. ولقد أنزل الله جنودا من الملائكة في ثلاثة مواضع سوى بدر:
أولا: عند الغار حراسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
ثانيا: يوم الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} . وكان موقفا جد عصيب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} .
ففي هذه المواطن الثلاثة مع شدة تأزمها. إذ هما في الغار لا مفر لهما منه والسيوف مستلة بأيدي المشركين بقلوب حانقة وصدور حاقدة تغلي دماؤهم ويشتد عداؤهم.
ويوم الأحزاب جاء الأحلاف ليثأروا لقتلاهم واشتد الأمر على المسلمين وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا.
وفي يوم حنين على كثرة المسلمين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. في كل ذلك جاءت جنود الله نصرة للمؤمنين ولكنها مع شدة الحال لم تظهر تلك الجنود وكانت من وراء الرؤية.
أما في بدر فقد كان إنزال الملائكة وفق خطة وتوجيه ضمن منهج عملي مفصل:
1-
بيان العدد لأول وهلة {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
1-
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . وفي المواطن الأخرى الثلاثة: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ} {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً} . {وَأَنْزَلَ جُنُوداً} . وهنا قال: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} والمدد يكون من القيادة العليا. وبين تعالى الغرض من هذا الإمداد {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ..} إلخ. بشرى وطمأنينة على أرض المعركة.
بعد مجيء المدد رسمت له خطة العمل بما يمكن أن تسميه تعليمات الميدان:
أ- {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} .
ب- {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}
جـ- {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} .
ففيه تثبيت للملائكة أولا بقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} . وتثبيت للمؤمنين ثانيا. وقد جاء في الآثار أن المَلَك كان يأتي في صورة رجل معروف ويقول للمؤمنين إن عدوَّكم لا يقوى على لقائكم وإذا شددتم عليهم يفرون أمامكم. وفي الأثر: "أقدم حيزوم". وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه جبريل فقال: "ما كل ملائكة السماء أعرف يا رسول الله".
وقد تضافرت النصوص أنهم رأوا الملائكة على خيل بلق وكان شعارهم العمائم. وقال ابن عباس: "لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام. وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون". وعن بردة قال: "جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتهن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أمّا رأسان فقتلتهما وأما الثالث فلم أقتله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين ذاك: "قتلته الملائكة". وكان السائب بن أبي حسين يحدِّث في زمن عمر ويقول: "بينما أنا ببدر إذ أوثقني رجل بحبل ومضى عني فإذا ابن الزبير فأخذني وقال من أسر هذا وأنا أستحي أن أذكر ما وقع لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذاك أسره ملك. خذ أسيرك يا ابن الزبير".
وقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْب} تقوية معنوية بما يسمى حرب الأعصاب مع أن هذا حقيقة بذاته كما قالوا: كنا نسمع كصوت الحصاة على طشت نحاس يدوي في القلوب من شدة الخوف. وكان مقابل ذلك السكينة في قلوب المؤمنين.
وقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} تعليم بكيفية الضرب وجاء أنهم كانوا يفرقون بين قتلى المؤمنين وقتلى الملائكة مثل سمة النار.
2-
مشاركته صلى الله عليه وسلم في المعركة برمي الحصباء في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه" فلم يبق رجل مشرك إلا أصابه منها ما شغله في عينه وفمه.
وجاءت النتيجة وفق تلك الخطة هزيمة للمشركين تحقيقا للوعد الأول والثاني.
أما الأول فقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . وكان عمر رضي الله عنه يقول: "لا أعلم ما الجمع الذي سيهزم حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في درعه يوم بدر ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ".
ومعلوم أن نتائج المعارك بحسب أسبابها ومقوماتها. وقد شاهدنا أن مسببات بدر ومقوماتها كلها كانت بتوجيه إلهي وخطة مسبقة ولذا كانت نتيجتها تبعا لذلك. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .
فالله الذي ألقى في قلوب المشركين الرعب وهو الذي أوصل الحصباء عيونهم وهو الذي أنزل الملائكة بشرى وطمأنينة تقاتل وتأسر معهم وهو الذي كثرهم في أعين المشركين وأنزل السكينة عليهم.
وهنا نواجه سؤالا وهو في جملته يتلخص في أن المعركة في سيرها وتوجيهها من الله وملائكته وأن المسلمين ما كانوا ليملكوا شيئا من سيرها. وما يقدرون على شيء من نتائجها. وما كانوا إلا سائرين وفق خطة مرسومة وكان يكفي لهزيمة المشركين ملك واحد. فلم كثر عدد الملائكة. وكان الأسر بيد المسلمين؟ والجواب كما نص عليه تعالى من جهتين:
1-
ابتلاء للمؤمنين هل يمتثلون ويثبتون أم لا قال تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
2-
كان المسلمون مستضعفين وكانوا ذوي حقوق عند المشركين وقد عانوا منهم شدة وقسوة فأراد الله أن يشفي صدورهم. ويخزي عدوهم الذي قال: "لا نرجع حتى نرد ماء بدر وتسمع بنا العرب وتعزف علينا القيان"وكان خزيهم على أيدي المسلمين أشد منه على أيدي الملائكة {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} .
تصفية المعركة:
كانت تصفية المعركة تبعا لنتائجها في المغانم والأسرى أما المغانم فقد أخذت من أيديهم بعد تنازعهم فيها وجعلت لله ولرسوله يضعها حيث شاء فقسمها بينهم. وسميت أنفالا والأنفال ما ينفله الإمام للغزاة. وكأنه تشبيه بالغبي الذي قال فيه تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} .
وهنا قال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فكانت أنفال بدر بمقتضى ذلك لله ولرسوله.
وقال ابن كثير: "قال الإمام أحمد: وساقه بسنده إلى أبي أمامة قال: سألت عبادة عن الأنفال قال: "فينا نزلت أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء (عن سواء)". وعنه: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو فانطلقت طائفة في إثره يرجمون ويقتلون وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منهم غرة حين إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض. قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا، نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَال
…
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم} . فقسمها صلى الله عليه وسلم بين المسلمين".
أما الأسارى فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد وهو عند العريش وقد رأى في وجهه عدم الرضا: "كأني بك لم ترض بفعل القوم؟ "قال: "بلى يا رسول الله إن هذه أول وقعة بين المسلمين والمشركين فما كان ينبغي أن يؤسر الرجال وكان أحب إلي أن يقتلوا".
وقد عاتبهم الله فيها عتابا شديدا لما قبلوا الفداء {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ثم أبيح لهم أكل الفدا {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} .
وهكذا جاءت غزوة بدر فرقانا بين الحق والباطل. آية من الله على صدق الرسول وبينة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
ثم اختص الله أهل بدر من المسلمين والملائكة على سواهم بفضل عظيم بعظم الموقف.
"لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون أهل بدر فيكم؟ "قال:"أفضلنا". قال: "وكذلك من حضرها من الملائكة". أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
بدون تعليق
أذاعت محطة لندن في برنامج الصناعة والتجارة الخبر التالي:
لقد شحنت إحدى شركات السجائر في لندن ألفاً وخمسمائة مليون سيجارة إلى جدة والخرطوم ومقديشيو.
إلى المدخنين
للشيخ محمد المجذوب
ـوى الموتَ منتحراً بلا سكينِ
يا من يريد دمار صحته ويَهـ
كلّ الذي يرجوه في التدخين
لا تيأسنّ فإنّ مثلك واجد
تلك السمومِ السودِ خيرَ مُعين
وبفضل جهلك قد غدوتَ لصانعي
يجدوا السبيل لكيدِ هذا الدين
تحبوهمُ المالَ الذي لولاه لم
لا يستبيح أذاه غير خئون
وتخونُ حقّ الله في الجسدِ الذي
نصر والشيطان من تمكين
فاهنأ بما حققتَ للأعداء من
لولا غباوةُُ حزبِهِ المأفون!
ما كان إبليس لِيدركَ غايةً
عوناً بكلّ مضلّل مفتون!
وبمن ينال مناه إن هو لم يجد
الإحسان
بقلم الشيخ ربيع بن هادي
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
يستهدف الإسلام أن يطبع حياة المسلمين بالطابع الجميل أن يسود الحياة الإسلامية وأن يجللها جو من الإحسان الشامل بكل أبعاده وآفاقه.
أن يعم الإحسان كل عمل وكل تصرف وكل قول على كل المستويات الفردية والجماعية وعلى مستوى الدولة والأمة في علاقة الفرد بخالقه وأسرته والمجتمع الذي يعيش فيه وعلاقة الأمة بالفرد وعلاقة الدولة بالأفراد والجماعات في العلاقة بالله.
فالمسلم حينما يؤدي حقا من حقوق الله في أي مجال من المجالات لا سيما مجالات العبادة فليؤدها وهو يتمثل فيها رؤية الله كأنما يرى الله ويشاهده، وإذا لم يصل إلى هذا المستوى فليستشعر أن الله يراه، وهذا الشعور أو ذاك سيدفعانه إلى إجادة العمل الذي يؤديه وإحسانه وإتقانه، والأمة الإسلامية بكاملها عليها أن تستشعر هذا الشعور "أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وفي علاقة المرء بأسرته ومجتمعه عليه أن تقوم معاملته إياهم وترتكز على أساس الإحسان {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
فلو أن الأمة الإسلامية أبقت هذه التعاليم في حياتها، وكل فرد في الأمة الإسلامية عمل على تنفيذ هذا المبدأ مبدأ الإحسان وجعل أسرته نقطة انطلاق لهذا الإحسان –بعد إحسانه في عبادة الله- الإحسان بمعناه الشامل في القول والعمل وبالمال والجهد لكانت مضرب الأمثال في السعادة والرقى والسيادة.
وفي علاقة الأفراد والمجتمعات بعضهم ببعض وعلاقة الحاكمين بالمحكومين يأمر الله بالعدل والإحسان بكل أبعادهما، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ} .
إن الإحسان في نظر الإسلام بالمكانة العالية التي يأخذ الله على الأمة الإسلامية المواثيق الأكيدة في القيام به في جملة التكاليف التي يقوم عليها الإسلام وسعادة الأمة {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} إلزام بالإحسان في إطار الأسرة ومحيط المجتمع إحسان في الفعال والمقال.
والإسلام يريد أن يجعل من أخلاق الأمة الإسلامية صورة من أخلاق أهل الجنة {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} ورب فعلة قبيحة أدت إلى عواقب وخيمة مرة النتائج، والخروج بالأقوال والأفعال عن مجال الإحسان إلى مجال الفحش والتفحش يوقع المرء تحت طائلة سخط الله وغضبه الذي لا يطاق "إن الله يبغض الفاحش المتفحش" أخرجه أحمد.
فالفاحش كما يقول القرطبي الذي يتكلم بما يكره سماعه مما يتعلق بالدين أو الذي يرسل لسانه بما لا ينبغي وهو الجفاء في الأقوال والأفعال، والمتفحش المتعاطي لذلك المستعمل له.
ليست الأماني الكاذبة والمزاعم الباطلة والانتساب إلى دين أو نحلة سبيلا إلى الجنة إنما السبيل الأوحد إلى الجنة هو الإخلاص في الإسلام والإحسان بمتابعة رسول الله وشريعته الغراء.
وإن أردت أن يحبك الله فاتخذ من الإحسان وسيلة تنل تلك الغاية {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وإن كنت متطلعا إلى الخلود في جنات النعيم والنظر إلى الرب العظيم فعليك بالإحسان، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فالحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الرب الكريم.
ثم الإسلام يريد أن يشمل الإحسان كل ذي كبد رطبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل بطريق فاشتد به العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه فسقى الكلب فشكر الله فغفر له" قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا؟ فقال: "في كل ذات كبد رطبة أجر" ترى كيف يعلم الإسلام المؤمنين وكيف يربيهم ويدفع نوازع الخير وعواطف الرحمة إلى الإحسان والبر فتشمل كل ذي كبد رطبة ولو كان خسيسا في أحط وأدنى مراتب الحيوانات.
بينما نرى في الجانب الآخر يحرم الظلم "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا"، "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله" حتى ولو كان كافرا في ذمة المسلمين فيحرم الإسلام دمه وماله، "من قتل معاهدا لم يرح رائحته الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما"(أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم) عن ابن عمر "من قتل عصفورا بغير حق سأله الله عنه يوم القيامة"، "عذبت امرأة هرة حبستها حتى ماتت جوعا فدخلت فيها النار فلا هي أطعمتها ولا سقتها حين حبستها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض" فلا يجيز الإسلام الظلم بداية من الإنسان ونهاية بالطيور والحيوانات التي لا يؤبه لها، فهذه هي الحضارة الراقية التي يحتمى في ظلها آمنا في كنفها حتى من يعاديها، والعصفور يقتل بغير حق يعتبر صاحبه مسئولا عنه يوم القيامة، وسجن هرة حتى تموت يعذب من سجنها بالنار والإحسان يمتد من الإنسان إلى كل ذي كبد رطبة وكل ذي عرق ينبض بالحياة فأين الحضارة المادية التي قامت على أساس الكفر والإلحاد وعلى الجشع والطمع فتسحق شعوبا وأمما لتستأثر بثرواتها وتبتز خيراتها بعد أن تسلخها من مقومات حياتها الدينية والخلقية والاجتماعية ثم تتجاهل كل ما ترتكبه من جرائم فظيعة ووحشية شنيعة وترمي الإسلام بالتأخر والرجعية وبالظلم والوحشية (رمتني بدائها وانسلت) .