الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 13
فهرس المحتويات
1-
أخبار الجامعة- نتيجة اختبار الشهادة العالية (الليسانس) في كلية الشريعة وكلية الدعوة وأصول الدين في عام 1390/1391هـ
2-
أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
3-
الإسلام والحياة- فريضة التفكير في الإسلام: بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
4-
الإمام أحمد ودفاعه عن السنة: بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
5-
الحج فضله وفوائده: بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
6-
الكيد اللئيم: بقلم الدكتور رانا إحسان الهي
7-
الملكية الفردية في الإسلام: بقلم الشيخ محمد أمان صديق
8-
النادي عند العرب: لفضيلة الشيخ محمد المنتصر الكتاني
9-
النّداء الخالد - عن كتاب نظرية الإسلام وهديه في السياسة والدستور والقانون
للشيخ أبي الأعلى المودودي
10-
الهزيمة عقوبة: للسيد حسن توهامي
11-
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
12-
رحلة أدبية في ثنايا الأحلام: بقلم عبد الرحمن محمد الأنصاري
13-
صلاة الليل برمضان: للشيخ محمد الطاهر النيفر
14-
فضل رمضان وفوائد الصيام: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
15-
من أعلام النّحاة - ابن هشام: بقلم الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع
16-
ندوة الطلبة- وادعوا إلى الله كي تحظوا بجنته *** وطبقوا سنة المختار في البشر بقلم: محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
17-
نوادر المخطوطات مصحف الأمير أقبغا الأوجذي: بقلم الدكتور طه الزيني
18-
هل التمسك بالحجاب الإسلامي غلو وانحراف?: بقلم الشيخ محمد أبو الفتح البيانوني
19-
{وَذَكِّر فَإنّ الذِكرَى تَنْفَعُ المُؤمِنِين} : للشيخ حسن السيد متولي
20-
يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
أخبار الجامعة
نتيجة اختبار الشهادة العالية (الليسانس)
في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في
عام 1390/1391هـ
تقدم لاختبار هذه الشهادة في الدور الثاني للعام الدراسي 90 -91هـ (33) طالباً نجح من بينهم (22) وقد بلغ عدد الحاصلين على الشهادة العالية (الليسانس) من كلية الشريعة في الدورين الأول والثاني هذا العام (85) جامعياً وبإضافة هذه الدفعة من المتخرجين إلى جملة المتخرجين في الأعوام الستة الماضية وعددهم (423) يكون المجموع (508) جامعياً وفيما يلي أسماء وجنسيات المتخرجين في الدور الثاني هذا العام وتقديرات نجاحهم:
نتيجة امتحان الشهادة العالية (الليسانس) بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عام 1390/1391هـ
تقدم للامتحان في هذه الشهادة في الدور الثاني (15) طالباً نجح من بينهم (12) وقد بلغ عدد الحاصلين على الشهادة العالية الليسانس من كلية الدعوة وأصول الدين في الدورين الأول والثاني هذا العام (49) جامعياً وبإضافة هذه الدفعة من المتخرجين إلى جملة المتخرجين في العام الماضي يكون المجموع (86) جامعياً وفيما يلي أسماء وجنسيات المتخرجين في الدور الثاني هذا العام.
وبإضافة هذا العدد إلى الناجحين في الدور الأول هذا العام وعددهم (75) يكون عدد الحاصلين على الشهادة الثانوية في العام الدراسي 90 -1391هـ (95) طالباً وبإضافتهم إلى عدد المتخرجين في الأعوام السبعة الماضية وعددهم (612) يكون جملة الحاصلين على الشهادة الثانوية من المعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية (707) طلاب.
بإضافة هذا العدد إلى جملة الناجحين في الدور الأول وعددهم (37) طالباً يكون عدد الحاصلين على الشهادة المتوسطة للعام الدراسي 90 – 1391هـ (52) طالباً وبإضافتهم إلى المتخرجين في الأعوام الأربعة الماضية وعددهم (74) طالباً يكون عدد الحاصلين على شهادة إتمام الدراسة المتوسطة (126) طالباً.
الهزيمة عقوبة
للسيد حسين التهامي
قال السيد حسن التهامي مستشار الرئيس أنور السادات ورئيس بعثة الحج المصرية لهذا العام: إن جميع القوى العالمية -بلا استثناء- تجتمع اليوم ضد المسلمين وتتكتل لتقويض صرح الإسلام.
ويقول مراسل وكالة الأنباء السعودية: بأن السيد التهامي تحدث عما أسماه عار يونيو (1967) م؛ فقال: إنه كان نتيجة طبيعية للتخلي عن الإسلام وللزيف والزيغ العقائدي الذي اجتاح عالمنا العربي عشرين سنة.
ودعا السيد حسن التهامي إلى التمسك بالدعوة الإسلامية وإلى أن ينهض القادة جميعاً بهذا العبء وأن ينحازوا كلياً إلى الإسلام. فبغير الإسلام لن يستعيد العرب الأراضي وبغير الإسلام لن تقوم لهم قائمة.
وقال: إن التخطيط للجهاد ثم الجهاد هو طريقنا وإن كل ما سوى ذلك ليس إلاّ ألاعيب وأباطيل. وأكّد على أنه ليس يكفي المسلمين المؤتمرات الإسلامية ولا الأمانة الإسلامية. حتى ولا الحج إلى بيت الله الحرام..
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
سورة " قد أفلح المؤمنون"
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} : لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من رجوع الضمير إلى الرب والضمير بصيغة الجمع والرب جلّ وعلا واحد.
والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو أظهرها أن الواو لتعظيم المخاطب وهو الله تعالى كما في قول الشاعر.
ألا فارحموني يا إله محمد
فإن لم أكن أهلاً فأنت له أهل
وقول الآخر:
وإن شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا برداً
الوجه الثاني: إن قوله ربّ استغاثة به تعالى وقوله ارجعون خطاب للملائكة ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير عن ابن جريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة "إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا؟ فيقول إلى دار الهموم والأحزان؟ فيقول بل قدموني إلى الله، وأما الكافر فيقولون له: نرجعك فيقول: رب ارجعون"
الوجه الثالث: وهو قول المازني أنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني. ولا يخلو هذا القول عندي من بُعدٍ والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} هذه الآية الكريمة تدل على أنهم لا أنساب بينهم يومئذ، وأنهم لا يتساءلون يوم القيامة؛ وقد جاءت آيات أُخر تدل على ثبوت الأنساب بينهم كقوله {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} الآية
…
وآيات أُخر تدل على أنهم يتساءلون كقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} .
والجواب عن الأول: أن المراد بنفي الأنساب انقطاع فوائدها وآثارها التي كانت مترتبة عليها في الدنيا من العواطف والنفع والصلات والتفاخر بالآباء لا نفي حقيقتها.
والجواب عن الثاني من ثلاثة أوجه:
الأول: أن نفي السؤال بعد النفخة الأولى وقبل الثانية وإثباته بعدهما معاً.
الثاني: أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباته فيما عدا ذلك. وهو عن السدى من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
الثالث: أن السؤال المنفى سؤال خاص وهو سؤال بعضهم العفو من بعض فيما بينهم من الحقوق لقنوطهم من الإعطاء ولو كان المسؤول أباً أو ابناً أو أمًّا أو زوجة. ذكر هذه الأوجه الثلاثة أيضاً صاحب الإتقان.
قوله تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} . هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يزعمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا إلاّ يوماً أو بعض يوم وقد جاءت آيات أُخر يفهم منها خلاف ذلك كقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْراً} وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} ._ والجواب عن هذا بما دل عليه القرآن؛ وذلك أن بعضهم يقول: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وبعضهم يقول: لبثنا ساعة، وبعضهم يقول: لبثنا عشرا. ووجه دلالة القرآن على هذا أنه بَيَّن أن أقواهم إدراكاً وأرجحهم عقلاً وأمثلهم طريقة هو من يقول أن مدة لبثهم يوماً وذلك قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْماً} فدل ذلك على اختلاف أقوالهم في مدة لبثهم والعلم عند الله.
سورة النور
هذه الآية الكريمة تدل على تحريم نكاح الزواني والزناة على الإعفاء والعفائف ويدل لذلك قوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}
…
الآية، وقوله:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} الآية وقد جاءت آيات أُخر تدل بعمومها على خلاف ذلك؛ كقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} .
والجواب على هذا مختلف فيه اختلافاً مَبْنِياً على الاختلاف في حكم تزوج العفيف للزانية أو العفيفة للزاني؛ فمن يقول (هو حرام) يقول: هذه الآية مخصصة لعموم وأنكحوا الأيامى منكم وعموم وأحل لكم ما وراء ذلكم.
والذين يقولون بـ (عدم المنع) وهم الأكثر أجابوا بأجوبة:
منها أنها منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} ، واقتصر صاحب الإتقان على النسخ، وممن قال بالنسخ سعيد بن المسيب والشافعي.
ومنها أن النكاح في هذه الآية: (الوطء) وعليه فالمراد بالآية أن الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلاّ زانية مثله أو مشركة لا ترى حرمة الزنا.
ومنها أن هذا خاص؛ لأنه كان في نسوة بغايا كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا؛ لأن ذلك هو سبب نزول الآية. فزعم بعضهم أنها مختصة بذلك السبب بدليل قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ}
…
الآية، وقوله:{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى}
…
الآية، وهذا أضعفها والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَات} .
هذه الآية الكريمة نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما رميت به، وذلك يؤيد ما قاله عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم من أن معناها: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء؛ أي فلو كانت عائشة رضي الله عنها غير طيبة لما جعلها الله زوجة لأطيب الطيبين صلوات الله وسلامه وعلى هذا فالآية الكريمة يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} إلى قوله {مَعَ الدَّاخِلِينَ} ، وقوله أيضاً {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْن}
…
الآية؛ إذ الآية الأولى دلت على خبث الزوجتين الكافرتين مع أن زوجيهما من أطيب الطيبين وهما: نوح ولوط -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-، والآية الثانية دلت على طيب امرأة فرعون مع خبث زوجها.
والجواب أن في معنى الآية وجهين للعلماء:
الأول: -وبه قال ابن عباس وروى عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك، كما نقله عنهم ابن كثير واختاره ابن جرير- أن معناها الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول والطيبات من القول للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من القول؛ أي فما نسبة أهل النفاق إلى عائشة من كلام خبيث هم أوْلى به وهي أوْلى بالبراءة والنَّزاهة منهم؛ ولذا قال تعالى:{أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُون} وعلى هذا الوجه فلا تعارض أصلاً بين الآيات.
الوجه الثاني: هو ما قدمنا عن عبد الرحمن بن زيد، وعليه فالإشكال ظاهر بين الآيات. والذي يظهر لمقيده -عفا الله عنه- أن قوله الخبيثاث للخبيثين إلى آخره على هذا القول من العام المخصوص بدليل امرأة نوح ولوط وامرأة فرعون وعليه فالغالب تقييض كل من الطيبات والطيبين والخبيثات والخبيثين لجنسه وشكله الملائم له في الخبث أو الطيب مع أنه تعالى ربما قيض خبيثة لطيب كامرأة نوح ولوط أو طيبة لخبيث كامرأة فرعون لحكمة بالغة كما دل عليه قوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} مع قوله {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَاّ الْعَالِمُونَ} فدل ذلك على أن تقييض الخبيثة للطيب أو الطيبة للخبيث فيه حكمة لا يعقلها إلا العلماء؛ وهي: في تقييض الخبيثة للطيب أن يُبَيِّن للناس أن القرابة من الصالحين لا تنفع الإنسان وإنما ينفعه عمله ألا ترى أن أعظم ما يدافع عنه الإنسان زوجته وأكرم الخلق على الله رسله فدخول امرأة نوح وامرأة لوط النار كما قال تعالى: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} . فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن الاغترار بالقرابة من الصالحين والإعلام بأن الإنسان إنما ينفعه عمله ليس {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}
…
الآية كما أن دخول امرأة فرعون الجنة يعلم منه الإنسان إذا دعته الضرورة لمخالطة الكفار من غير اختياره وأحسن عمله وصبر على القيام بدينه أنه يدخل الجنة ولا يضره خبث الذين يخالطهم ويعاشرهم فالخبيث خبيث وإن خالط الصالحين كامرأة نوح ولوط والطيب طيب وإن خالط الأشرار كامرأة فرعون، ولكن مخالطة الأشرار لا تجوز اختياراً كما دلت عليه أدلة أخر.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من أن الضمير في قوله جاءه يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء؛ لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين فلا تدرك إلا بادراكهما، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء ومفعول به واقع عليه المجيء وقوله تعالى {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى:{جَاءَهُ} والجواب عن هذا من وجهين ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية؛ قال: فإن قال قائل: وكيف قيل {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} فإن لم يكن السراب شيئاً فعلام دخلت الهاء في قوله {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ؟.} قيل إنه شيء يُرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفاً من بعيد والهباء، فإذا قرب منه دق وصار كالهواء وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئاً فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه انتهى منه بلفظه.
والوجه الأول أظهر عندي وعنده بدليل قوله: وقد يحتمل أن يكون معناه الخ
…
قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} . هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم له الإذن لمن شاء وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية يوهم خلاف ذلك.
والجواب الظاهر وهو أنه صلى الله عليه وسلم له الإذن لمن شاء من أصحابه الذين كانوا معه على أمر جامع كصلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك كما بينه تعالى بقوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُم} . وأما الإذن في خصوص التخلف عن الجهاد فهو الذي بَيَّن اللهُ لرسوله أن الأوْلى فيه ألا يبادر بالإذن حتى يتبين له الصادق في عذره من الكاذب وذلك في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} . فظهر أن لا منافاة بين الآيات والعلم عند الله.
سورة الفرقان
قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} .
هذه الآية الكريمة تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار؛ لأن المقيل: القيلولة أو مكانها؛ وهي: الاستراحة نصف النهار في الحر، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار: ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وابن جبير؛ لدلالة هذه الآية على ذلك كما نقله عنهم ابن كثير وغيره، وفي تفسير الجلالين ما نصه: وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار كما ورد في حديث انتهى منه مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى: {إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} والظاهر في الجواب أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك وقوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} يدل بمفهومه أيضاً على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيداً الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنهم يتقلبون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس وذلك قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ونقله عنه ابن كثير في تفسيره، ومن المعلوم أن السرور يقصر به الزمن، والكروب والهموم سبب لطوله كما قال أبو سفيان بن الحارث يرثي النبي صلى الله عليه وسلم:
أرقت فبات ليلي لا يزول
وليل أخي المصيبة فيه طول
وقال الآخر:
فقصارهن مع الهموم طويلة
وطوالهن مع السرور قصار
ولقد أجاد من قال:
ليلي وليلي نفى نومي اختلافهما
في الطول والطول، طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت
بالطول ليلي وإن جادت به بخلا
ومثل هذا كثير في كلام العرب جداً. وأما على قول من فسر المقيل بأنه المأوى والمنزل كقتادة رحمه الله فلا تعارض بين الآيتين أصلاً؛ لأن المعنى على هذا القول أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مأوى ومنزلاً والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}
…
الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يجزون غرفة واحدة وقد جاءت آيات أُخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} وكقوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} . والجواب:
- أن الغرفة هنا بمعنى الغرف كما تقدم مستوفي بشواهده في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُن}
…
الآية.
- وقيل إن المراد بالغرفة: الدرجة العليا في الجنة وعليه فلا إشكال.
- وقيل الغرفة الجنة سميت غرفة لارتفاعها.
سورة الشعراء
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} . هذه الآية تدل على أن قوم نوح كذبوا جماعة من المرسلين؛ بدليل صيغة الجمع في قوله المرسلين، ثم بين ذلك بما يدل على خلاف ذلك وأنهم إنما كذبوا رسولاً واحداً وهو نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بقوله:{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ}
…
إلى قوله {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} .
والجواب عن هذا: أن الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- لما كانت دعوتهم واحدة وهي: (لا إله إلا الله) صار مكذب واحد منهم مكذباً لجميعهم؛ كما يدل لذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقد بين تعالى أن مكذب بعضهم مكذب للجميع بقوله: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} .
ويأتي مثل هذا الإشكال والجواب في قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} إلى أخره. وقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِح} .
وكذلك في قصة لوط، وشعيب على الجميع وعلى نبينا الصلاة والسلام.
سورة النمل
قوله تعالى أخباراً عن بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} ، يدل على تعدد رسلها إلى سليمان وقوله:{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَان} بإفراد فاعل جاء، وقوله تعالى أخباراً عن سليمان أنه قال:{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ} الآية يدل على أن الرسول واحد.
والظاهر في الجواب: هو ما ذكره غير واحد من أن الرسل جماعة وعليهم رئيس منهم فالجمع نظراً إلى الكل والإفراد نظراً إلى الرئيس؛ لأن من معه تبع له والعلم عند الله تعالى
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا} الآية. هذه الآية يدل ظاهرها على أن الحشر خاص بهؤلاء الأفواج المكذبة، وقوله -بعد هذا بقليل-:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} . يدل على أن الحشر عام كما صرحت به الآيات القرآنية عن كثرة.
والجواب عن هذا: هو ما بينه الألوسي في تفسيره من أن قوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} يراد به الحشر العام، وقوله {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجا} أي بعد الحشر العام يجمع الله المكذبين للرسل من كل أمة لأجل التوبيخ المنصوص عليه بقوله:{قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، فالمراد بالفوج من كل أمة: الفوج المكذب للرسل يحشر للتوبيخ حشراً خاصاً فلا ينافي حشر الكل لفصل القضاء. وهذا الوجه أحسن من تخصيص الفوج بالرؤساء كما ذهب إليه بعضهم.
قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب} الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الجبال يظنها الرائي ساكنة وهي تسير، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الجبال راسية، والراسي هو:(الثابت في محل) كقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} . وقوله: {وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} وقوله: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} . وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} .
ووجه الجمع ظاهر وهو أن قوله {أَرْسَاهَا} ونحوه يعني في الدنيا، وقوله وهي تمر مر السحاب يعني في الآخرة بدليل قوله:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَات} ثم عطف على ذلك قوله {وَتَرَى الْجِبَالَ}
…
الآية. ومما يدل على ذلك النصوص القرآنية على أن سير الجبال في يوم القيامة كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَة} وقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} .
سورة القصص
قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ}
…
الآية. الخطاب في قوله: {وَلَكَ} يدل على أن المخاطب واحد وفي قوله: {لا تَقْتُلُوهُ} يدل على أنه جماعة. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه.
الأول: أن صيغة الجمع للتعظيم.
الثاني: أنها تعني فرعون وأعوانه الذين هموا معه بقتل موسى فأفردت الضمير في قولها (لك) ؛ لأن كونه قرة عين في زعمها يختص بفرعون دونهم وجمعته في قولها (لا تقتلوه) ؛ لأنهم شركاء معه في الهمّ بقتله.
الثالث: أنها لما استعطفت فرعون على موسى التفت إلى المأمورين بقتل الصبيان قائلة لا تقتلوه معللة ذلك بقولها: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} .
قوله تعالى: {فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا} . الآية. {لأهْلِهِ} : زوجته بدليل قوله: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} لأن المعروف أنه سار من عند شعيب بزوجته (ابنة شعيب)، أو غير شعيب على القول بذلك. وقوله:{امْكُثُوا} خطاب جماعة الذكور فما وجه خطاب المرأة بخطاب جماعة الذكور. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الإنسان يخاطب المرأة بخطابة الجماعة تعظيماً لها ونظيره قول الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا برداً
الثاني: أن معها خادماً والعرب ربما خاطبت الاثنين خطاب الجماعة.
الثالث: أنه كان له مع زوجته ولدان له، اسم الأكبر منهما:(جيرشوم) واسم الأصغر (اليعازر) . والجواب الأول ظاهر والثاني والثالث محتملان؛ لأنهما من الإسرائيليات والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} قد قدمنا أن وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو: منح التوفيق، والهدى المثبت له هو: إبانة الطريق.
سورة العنكبوت
قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} لا يعارضه قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} كما تقدم بيانه مستوفى في سورة النحل. (فأثقالهم) : أوزار ضلالهم و (الأثقال التي معها) أوزار إضلالهم ولا ينقص ذلك شيئاً من أوزار أتباعهم الضالين.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} . هذه الآية الكريمة تدل على أن النبوة والكتاب في خصوص ذرية إبراهيم، وقد ذكر في سورة الحديد ما يدل على اشتراك نوح معه في ذلك في قوله:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} .
والجواب: أن وجه الاقتصار على إبراهيم أن جميع الرسل بعده من ذريته وذكر نوح معه لأمرين:
أحدهما: أن كل من كان من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح.
والثاني: أن بعض الأنبياء من ذرية نوح ولم يكن من ذرية إبراهيم؛ كهود وصالح ولوط ويونس على خلاف فيه، ولا ينافي ذلك الاقتصار على إبراهيم؛ لأن المراد من كان بعد إبراهيم لا من كان قبله أو في عصره كلوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
سورة الروم
قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا}
…
الآية. هذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: بعده {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} فقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} حال من ضمير الفاعل المستتر في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} الواقع على النبي صلى الله عليه وسلم فتقرير المعنى: فاقم وجهك يا نبي الله صلى الله عليه وسلم في حال كونكم منيبين إليه. وقد تقرر عند علماء العربية أن الحال إن لم تكن سببية لا بد أن تكون مطابقة لصاحبها إفراداً وثنية وجمعاً وتذكيراً وتأنيثاً فما وجه الجمع بين هذه الحال وصاحبها؟ فالحال جمع وصاحبها مفرد.
والجواب أن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يعمُّ حكمُه جميعَ الأمة؛ فالأمة تدخل تحت خطابه صلى الله عليه وسلم فتكون الحال من الجميع الداخل تحت خطابه صلى الله عليه وسلم. ونظير هذه الآية في دخول الأمة تحت الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية. فقوله {طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} بعد يا أيها النبي دليل على دخول الأمة تحت لفظ النبي. وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّه} ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} الآية. وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} ثم قال: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية. وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْن} ثم قال: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} . ودخول الأمة في الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم هو مذهب الجمهور وعليه مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله تعالى خلافاً للشافعي رحمه الله.
رحلة أدبية في ثنايا الأحلام
بقلم عبد الرحمن محمد الأنصاري
الطالب بالسنة الثالثة بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
كنت في ليلة من ليالي الصيف أقرأ كتاباً من كتب الأدب القديم، فكلما وفد النوم علي رددته بفصل من فصول الكتاب الممتعة، حتى استسلمت في النهاية لسلطان النوم، والكتاب على صدري وهنا ذهبت في رحلة مع الأحلام، وكانت رحلة أدبية ممتعة، لم يذهب بصفائها إلا قصر الليل الذي تعود القصر في مثل هذه المناسبات..
وكان بدء الرحلة المنامية أن ذهبت برفقة صفيّ لي تعودت وإياه عدم المفارقة. ذهبت برفقته إلى شيخ من شيوخ الأدب القدامى، وكان زميلي على سابق معرفة به، وكان بدء الرحلة: أن قصدناه فوجدناه جالساً في دكة جميلة بمنزله، فتأملته فإذا هو طويل القامة، واسع الجبهة كأن عينيه من بروزهما قد ملّتا موضعهما من جبهته الواسعة مع طول السنين فبرزتا لشم النسيم.. عليه وقار العلماء، وفطنة الحكماء، يقول عن نفسه: إنه أمضى من سنين عمره ثمانين عاماً ولكن حواسه السليمة كلها تقريباً من سطوات الأيام لا تدل على ذلك.
والبسمة لا تفارق محياه رغم جحوظ عينيه وبروزهما.. رحب بنا وأدنى مجلسنا وفوراً قام زميلي بتقديمي له وتعريفه بي وزعم له أنني من هواة الأدب قديمه وحديثه.. وهنا تبسم بسمة الساخر الذي يمنعه كرمه وحفاوته من الجهر بالسخرية والازدراء.. ولاحظت بادئ ذي بدء أن ثمة وحشة قائمة بيننا وبينه بعامل السن. ولم نستطع مبادئته الحديث، فكأنه وجس ما هجس – كما يقول الحريري – وبخفة روح منه بالغة وبسمة مشرقة استنار منها محياه، وكأنه مصباح منير اتجه إلينا بكليته وجعل يلاطفنا بكلمات أرق من النسيم العليل.
وكان أن سأل زميلي عن صلتي به فكان جوابه له:
أن نفترق نسباً يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
أو نفترق فالوصل منا عذب
مائة تحدر من غمام واحد
وهنا أدركنا سرور الشيخ بوجودنا عنده من خلال أسطر البشر التي قرأناها على جبينه الناصع..
وقال: اعلموا أن الأدب لا يعترف بشيء اسمه "سن"وإنكم على ما ترون من كبر سني لربما كنت أشب منكما نفساً..؟
وكانت كلماته هذه قد أزالت بيننا وبينه كل حواجز التحفظ وقلت له:
ولكن نفراً ممن ينتمون إلى الأدب في زماننا قسموا الأدباء إلى قسمين:
أ – أدباء شيوخ.
ب – أدباء شبان.
وهنا اعتدل في جلسته وقال: اعلموا بنيّ أن هذا التقسيم غير علمي، ومبني على مغالطة لا تليق بمن ينتسب إلى هذه النسبة الشريفة "الأدب". قلنا: كيف؟ قال: إن الأدب منحة إلهية يمنحها من عباده أولي النفوس الشفاقة، والذوق السليم والحس المرهف، والنفس العطوفة التي تتأثر بكل شيء. ترى الجمال فتصفه وصف الشاكر وترى الجرح فتأسوه بيد الرحمة.. الأديب مصباح مضيء بالليل، هو جميل في نفسه بما فيه من الضياء الساطع، وفتيلته المحترقة: قلبه؛ لأنه يعيش لغيره قبل نفسه.. وشاعر بالنهار بمشاكل جيله فيضع لها الحلول المناسبة من واقع تجربته الذاتية.. هؤلاء هم الأدباء سواء كانوا شيوخاً أربوا على المائة أم شباناً لا يزالون في عمر الزهور والرياحين.. والمغالطة المبينة على تقسيمهم الذي ذكرت هي: أن هذا الأديب "الشيخ.."يفكر تفكير الشيوخ المحالين على التقاعد.. وأفكارهم ينبغي لها أن تحال على التقاعد أيضاً.!
وهذا الأديب "الشاب.."يفكر تفكير الشباب الناضج المتفتح على الحياة والمثقف ثقافة خاصة، وهذا هو مفهوم المخالفة – كما يقول علماء الأصول -.
وسألناه: ما رأيك في الأدب الغربي، والمحاولات التي تستهدف صبغة الأدب "العربي"بالصبغة الغربية..؟ فأجاب: الأدب في كل أمة من الأمم شيء ضروري يعد من مستلزمات الحياة الإنسانية فلا يمكن لأية أمة من الأمم أن تستغني عنه إلا إذا أمكنها الاستغناء عن الغداء. ذلك أن الطعام والشراب هما قِوام الأبدان، وهما الطاقة التي تبعث الدفء والحركة في أجسام الناس، والأدب في نفس المستوى إلا أن مهمته أنبل وأسمى لأنه غذاء "الروح"وتأتي أفضليته من جهة: أن باقي الكائنات الحية تشارك بني الإنسان في الاستمتاع بالأطعمة والأشربة، وينفرد بنو الإنسان عنها "بالأدب".
أنا لا أنفي ما يجوزه العقل، ولا أثبت شيئاً لم يثبت حتى الآن بالنقل.. والأدب الغربي أدب غربي لأهله الأوروبيين يلامس وجدانهم، وبالتالي هو جزء لا يتجزأ من بيئتهم يتذوقونه ويرتاحون له كما يرتاحون لموسيقاهم التي هي في آذان بعضنا: صواعق منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور..
فكذلك الأدب العربي، أدب عربي من صميم بيئة العرب وواقعهم ومثلهم العليا، وتقاليدهم المثلى. أما محاولة صبغ الأدب العربي بصبغة غربية فهي محاولة فاشلة؛ لأنها مجرد معاينة العربي لنوع أدبي من هذا القبيل فإن نفسه الصافية، وفطرته السليمة تنفر من ذلك غاية النفور فيكون ذلك بمثابة وأد لهذه الفكرة وهي بعد في مهدها..
قلنا: إذن أنت تعارض التجديد وهي سنة من السنن الكونية التي تتم عن طريق تلاقي الأفكار، واتصال الأمم بعضها ببعض؟
فقال: أنا لا أعارض التجديد في أي شيء وخاصة في الأدب.. إنّ التجديد كما تفضّلتُما سنة من السنن الكونية التي ترافق بني الإنسان في سيرهم الطويل، والتطور والتجديد يكونان في كل شيء: في العمران، وفي المواصلات، وفي المعيشة، وفي وسائل الثقافة والترفيه إلى آخر ما هنالك..
والأدب وصف وتعبير للأشياء المذكورة.. فكيف تتطور هي ويبقى هو جامداً؟. ولكن بالله عليكما أخبرني وأصدقاني القول:
هل الأدب العربي لا يتطور إلا من خلال ترجمة الأدب الغربي بكلمات عربية؟. هل هكذا طور العرب الأندلسيون "الأدب"من خلال احتكاكهم بغيرهم من الأمم؟. أم بكذلك تطور الأدب العربي في العصر العباسي نتيجة للاحتكاك بالفرس وغيرهم من الشعوب؟. أم بهكذا طور الأوروبيون أنفسهم ثقافتهم في عصور تَخَلُفهم – من جراء التقائهم بالثقافة العربية التي تعتبر أصولاً لكثير مما يتبجحون به علينا اليوم؟.
ولما وصل الشيخ من الحديث هذه النقطة دخل علينا غلامه قائلاً: بالباب رجل قال لي: "قل لسيدك عمرو بن بحر الجاحظ.."فلما سمعت اسم عمرو بن بحر ذهلت، قفلت لصاحبي: محدثنا الجاحظ.. صاحب البيان والتبيين..؟ قال: نعم!!
وهنا أيقظني صوت المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح فقمت بعد الصلاة طبعاً بتسجيل ما دار بيننا وبين الجاحظ. وإلى اللقاء
…
صلاة الليل برمضان
للشيخ محمد الطاهر النيفر
الأستاذ في كلية الشريعة وأصول الدين بتونس
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل أكثر من إحدى عشرة ركعة في رمضان ولا في غيره كما صرحت به عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن ذلك. ففي البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن سعيد العقبري أبي مسلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت:
"ما كان رسول صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً. قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة إن عيناي تنامان ولا ينام قلبي". وفي رواية مسروق رضي الله عنه أنه سألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر". وروى الفجاج والنسائي وابن ماجة عن طريق إبراهيم بن الأسود عن عائشة أيضاً أنه كان يصلي بالليل تسع ركعات وفي رواية أخرى عنها من طريق هشام بن عروة أنها ثلاث عشرة ركعة.
والذي نجزم به للتوفيق بين هاته الروايات عنها أنها أدخلت ركعتي الفجر كما أخبرت بقولها ثلاث عشرة ركعة. ويرشد لهذا ما صرح به في رواية القاسم عنها من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت صلاته بالليل عشر ركعات ثم يوتر بسجدة ويركع ركعتي الفجر فتلك ثلاث عشرة ركعة.
وأما ما روي عنها من سبع وتسع فالجمع بينه وبين الروايات الأخرى أن ذلك كان في حالة كِبَرِهِ، وقد اختلفت الروايات من غير طريق عائشة ولا نرى في ذلك فائدة تذكر.
فالمقطوع به أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل حسب ما نقل عن عائشة وهي أعرف الناس به كانت إحدى عشرة ركعة داخل في ذلك الوتر، ثم يأتي بركعتي الفجر بعد ذلك وأما مقدار ما يجمعه بتسليمة واحدة فاختلفت الروايات في ذلك أيضاً ففي رواية كان يسلم من كل اثنتين وفي رواية عائشة المتقدمة من كل أربع، وهناك روايات أخرى والمهم أنه كان لا يصليها في فور واحد بل ينام بعد كل تسليمة. ولا يعيد الوضوء عندما يقوم للمرة الموالية وكان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة والركوع والسجود أخذاً من قول عائشة السالف (فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) .
وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل برمضان من ذلك قوله: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. إلا أنه لم يأمر بعزيمة في ذلك كما نقله ابن حبيب في النوادر وإنما كان الصحابة يقومون على الصفة التي رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بها ولم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم لها الناس فقد روى الأفقسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فصلى بالناس ثلاث ليال ولم يخرج في الرابعة، وتفصيل هذا في حديث البخاري الذي رواه في باب فصل من قام رمضان فقد روى عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل وصلى بالمسجد فصلى الناس بصلاته فأصبح الناس يتحدثون فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه فأصبح الناس يتحدثون فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها. واختلف العلماء في تفسير (خشيت أن تفرض عليكم) وأظهر الوجوه ما ذكره العيني من أنه جرت العادة أن ما واظب عليه من القرب يفرض على أمته أو أن يقال إنه يخاف صلى الله عليه وسلم أن يظن أحد من أمته بعد انتقاله للرفيق الأعلى فرضية ذلك.
ويؤخذ من هذا أن الجمع في النوافل مشروع، كما يؤخذ من هذا أن النافلة تكون بالمسجد. وروى عن ابن القاسم أنه قال أحب إليّ أن يُتَنَفل نهاراً بالمسجد وليلاً بالبيت لاشتغاله في النهار، ولذا لو فقد ذلك كان بالبيت. ونقل عنه أيضاً أحب إليّ أن يتنفل الغريب بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ببيته. قال ابن رشد لأن الغريب لا يعرف وغيره يعرف وعمل السر أفضل.
وفي رواية أخرى عنه أكره سجود النفل بالمسجد خوف الشهرة. ومشهور مذهب المالكية أن الجماعة لا تطلب في النفل لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يتخذ الإنسان بيته كالقبر لا يغشاه إلا وقت النوم ويستثني من ذلك رمضان فقد اتفق الفقهاء على استحباب الجمع إلا ما كان مظنة للرياء وكلامنا في غير السنن كالعيدين وأما هي فتسن الجماعة فيها.
واستمر الصحابة على ما كانوا عليه قبل أن يخرج لهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان منهم من يقوم بالمسجد ومنهم من يقوم بالبيت وكانوا يطيلون القراءة اقتداء بالرسول الأعظم حتى قال بعضهم كنا نقرأ في الركعة بالمئين أي من الآيات.
ويظهر أن هذا هو مأخذ الفقهاء في القول باستحباب القراءة بجميع القرآن لإمام التراويح في كامل الشهر واستمر عملهم بذلك بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى في خلافة أبي بكر وردح من خلافة عمر قدره بعضهم بنحو السنتين وبعد ذلك رأى عمر أن يجمع الناس في نفل رمضان أي التراويح لما أُمِن فرضية ذلك. ففي صحيح البخاري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمة البدعة هاته، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله.
قال الجوهري وأوزاع من الناس معناه: جماعة قلل، قال الخطابي: ولا واحدة من لفظه وهذا الاجتهاد من عمر يمكن أن يكون مأخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الليالي الثلاث التي خرج فيها لما فيه من النشاط كما قاله ابن التين، ويستفاد من قوله ثم خرجت معه ليلة أخرى أن عمر كان لا يواظب عليها بالمسجد، ومذهب مالك أن صلاة التراويح يندب أداؤها بالبيت بشروط ثلاثة: ألا تعطل المساجد، وألا يخاف عدم النشاط، وألا يكون آفاقيا بالحرم وإلا فأداؤها بالمسجد أفضل وثبت أن مالكاً كان يصليها بالمسجد ثم عدل عن ذلك فرجع لصلاتها بالبيت وأخذ بعضهم من عمله هذا أن له قولين في الموضوع ويدل لمذهب مالك الذي رجع إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. وهذا أخذ به أبو يوسف والشافعي أيضاً.
وقال الليث لو قام الناس في البيوت وعطلوا المساجد منه (أي التراويح) أجبروا على الخروج لأن قيام رمضان من الأمور التي لا ينبغي تركها.
وقريب من هذا ما نقل عن الطحاوي من قوله بوجوبها على الكفاية وقال ابن بطال بالسنية لأن عمر أخذها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتركها منه عليه السلام كان لخوف الافتراض وللشافعية في ذلك خلاف لا نطيل به وقيل جمع عمر الرجال على أبي بن كعب والنساء على تميم الداري وفي رواية أخرى جمع النساء على سليمان بن أبي جثمة ولعل ذلك تكرر من عمر.
واختلف في عدد الركعات التي جمع الناس عليها عمر وفي الموطأ أنها إحدى عشرة ركعة وروى هذا من وجوه أخرى. وروي عن زيد أن عمر جمع الناس على إحدى وعشرين ركعة يقومون بالمئين وينصرفون في بزوغ الشمس ( [1] ) وفي رواية أخرى عنه ثلاث وعشرون ركعة ولا خلاف في الواقع بين هاتين الروايتين كما هو ظاهر.
ورأيت لبعض المحققين كلاماً يحصل به الجمع بين الروايتين المذكورين قال رحمه الله: دخل عمر المسجد فوجد الناس يصلون أفذاذاً فجمع الرجال على أبي بن كعب والنساء على تميم الداري وأمرهما أن يصلى بالناس إحدى عشرة ركعة بالوتر وكانوا يطيلون القراءة فثقل ذلك على الناس فخفف عمر رضي الله عنه في القراءة، وزاد في عدد الركعات، فبلغت ثلاثاً وعشرين بالوتر فكان يقرأ بالبقرة في ثمان ركعات وربما قرءوا بها في اثنتي عشرة ركعة.
هذا وقد اختار ما جرى عليه العمل في زمان عمر بعد التخفيف مالك وأبو حنيفة وأحمد واستمر عليه عمل المسلمين وتناقلوه خلفاً عن سلف إلى يومنا هذا. ولم يخالف ذلك إلا في زمان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقد أمر بجعلها ستا وثلاثين ركعة يضاف فيها ثلاثة للوتر، وذلك لما رأى الناس يطيلون القراءة وهو موجب للضرر والسآمة فأمرهم بتقصير القراءة وتعويض ذلك بالزيادة في عدد الركعات واختار هذا مالك في رواية المدونة ولنا بحث في هذا الموضوع يحسن التعرض إليه وهو أن الحديث المذكور عن عائشة يحسن أن يكون دليلاً لأبي حنيفة الذي يرى أن نافلة الليل الأفضل فيها أن تكون بأربع من غير فصل بسلام، كما تكون حجة للحنفية الذين يرون أن الوتر ثلاثة ركعات بتسليمة واحدة، قالوا لأن الظاهر من قول عائشة رضي الله عنها (صلى أربعاً فلا تسأل عن حسنهن الخ..) ثم صلى ثلاثاً الخ.. إنها متصلة من غير فصل بثلاث، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل ثم قال ابن بطال بعد هذا وفي ذلك أيضاً رد على مالك رضي الله عنه.
ويظهر أن هذا الحديث لا يقوم حجة على مالك لا في المسألة الأولى ولا في الثانية لأن مسلماً رواه عن عائشة رضي الله عنها عن طريق يحي ابن يحي بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر فيها بواحدة، وروى مسلم أيضاً عن عائشة من طريق حرملة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء وهي التي يدعوها الناس العتمة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة، ولا شك أن روايات الحديث يفسر بعضها بعضاً فرواية البخاري فيها إجمال؛ لأنه قال: يصلي أربعة ثم يصلي ثلاثاً يحتمل أنها من غير فصل ويحتمل أنها مع الفصل، ولا نسلم أنه أظهر من الأول لأنا نقول أن عائشة إنما خصصت الأربع والثلاث بالذكر لأنه هو المقدار الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام بعد أدائه.
وإذا كان الحديث مجملاً فيتعين حمله على المبين كما هي القاعدة وليس في ذلك دليل لغير مالك ولا حجة عليه ويبقى حديث مسلم المذكور دليلاً لمالك فيما ذهب إليه. ومما يشهد له ما روي عن عمر من قوله: صلاة الليل مثنى فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة الحديث. ولابن رشد في بداية المجتهد كلام حسن جميل ينبغي مراجعته.
--------------------------------------------------------------------------------
( [1] ) المشهور "الفجر"مكان الشمس انظر رواية الموطأ عن السائب بن يزيد رقم 248 "المجلة".
فضل رمضان وفوائد الصيام
عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيا أيها المسلمون إنكم في مستقبل شهر عظيم مبارك ألا وهو شهر رمضان..شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن..شهر العتق والغفران..شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات، وترفع الدرجات، وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه لأوليائه العطيات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام فصامه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من صامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم، فاستقبلوه رحمكم الله بالفرح والسرور والعزيمة الصادقة على صيامه وقيامه والمسابقة فيه إلى الخيرات، والمبادرة فيه إلى التوبة النصوح من سائر الذنوب والسيئات، والتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم. وفي الصيام فوائد كثيرة، وحكم عظيمة منها: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم، ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه، ومن فوائد الصوم أنه يعرف العبد نفسه، وحاجته وضعفه وفقره لربه، ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكره أيضاً بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه، والاستعانة بنعمه على طاعته ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الفوائد في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه فدل ذلك على أن الصيام وسيلة للتقوى، والتقوى هي طاعة الله ورسوله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه عن إخلاص له عز وجل ومحبة ورغبة ورهبة وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه، فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى، ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شؤون الدين، والدنيا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض فوائد الصوم في قوله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم وجاء للصائم أي وسيلة لطهارته، وعفافه وما ذاك إلَاّ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري ويذكر بالله وعظمته فيضعف سلطان الشيطان، ويقوي سلطان الإيمان، وتكثر بسببه الطاعات من المؤمن، وتقل به المعاصي، ومن فوائد الصوم أيضاً أنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة، وقد اعترف بذلك كثير من الأطباء، وعالجوا به كثيراً من الأمراض، وقد ورد في فضله وفرضيته آيات وأحاديث كثيرة؛ قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى أن قال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، وفي الصحيحين
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف يقول الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فمّ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين"، وأخرج الترمذي وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين، ومردة الجن، وفتحت أبواب الجنة ولم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادي يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرِّ أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، ويقول لهم:"جاء شهر رمضان بالبركات فمرحباً به من زائر وآت". وأخرج ابن خزيمة عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خطب الناس في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس إنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزيد فيه في رزق المؤمن،
…
-إلى أن قال:- فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من
النار"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في الغالب لا يزيد في رمضان ولا في غيره على أحد عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الليالي يصلي ثلاث عشرة ركعة، وفي بعضها أقل من ذلك، وليس في قيام رمضان حد محدود لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قيام الليل قال:"مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى"، ولم يحدد صلى الله عليه وسلم للناس في قيام الليل ركعات معدودة بل أطلق لهم ذلك فمن أحبَّ أن يصلي إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة أو ثلاث وعشرين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل فلا حرج عليه، ولكن الأفضل هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وداوم عليه في أغلب الليالي وهو إحدى عشرة ركعة مع الطمأنينة في القيام، والقعود، والركوع، والسجود، وترتيل التلاوة، وعدم العجلة؛ لأن روح الصلاة هو الإقبال عليه بالقلب، والخشوع فيها، وأداؤها كما شرع الله بإخلاص وصدق، ورغبة ورهبة وحضور قلب، كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرت عيني في الصلاة"، وقال للذي أساء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، ثم كبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ً ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وكثير من الناس يصلي في قيام رمضان صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها
بل ينقرها نقراً وذلك لا يجوز بل هو منكر لا تصح معه الصلاة، فالواجب الحذر من ذلك، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أسْوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي نقر صلاته أن يعيدها.
فيا معشر المسلمين اغتنموا هذا الشهر العظيم وعظِّموه -رحمكم الله- بأنواع العبادة، والقربات، وسارعوا فيه إلى الطاعات؛ فهو شهر عظيم جعله الله ميداناً لعباده يتسابقون إليه فيه بالطاعات، ويتنافسون في أنواع الخيرات، فأكثروا فيه -رحمكم الله- من الصلوات والصدقات، وقراءة القرآن الكريم، والإحسان إلى الفقراء، والمساكين، والأيتام، وأنواع الذكر، والاستغفار، وسؤال الله الجنة، والاستعاذة به من النار؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فتأسوا بِنَبِيِّكم صلى الله عليه وسلم واقتدوا به في مضاعفة الجود والإحسان في شهر رمضان، وأعينوا إخوانكم الفقراء على الصيام والقيام، واحتسبوا أجر ذلك عند الملك العلاّم، واحفظوا صيامكم عماَّ حرمه الله عليكم من الأوزار، والآثام فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وقال عليه الصلاة والسلام:"الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يفسق، فإن امرؤ سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم"، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس الصيام عن الطعام والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث"، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري _ رضي الله عنه _ إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء. واحذروا -رحمكم الله- كلَّ ما ينقص الصوم ويضْعف الأجر، ويغضب الرب عز وجل من سائر المعاصي؛
كالتهاون بالصلاة، والبخل بالزكاة، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى، وأنواع الظلم، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والدعاوى الباطلة، والأَيْمان الكاذبة، وحلق اللحا أو تقصيرها، وإطالة الشوارب، والتكبر، وإسبال الثياب وشرب المسكرات، والتدخين، وتبرج النساء وتشبههن بنساء الكفار في أزيائهن، وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله. وهذه المعاصي التي ذكرنا محرمة في كل زمان ومكان ولكنها في رمضان أشد تحريماً، وأعظم إثماً لفضل الزمان وحرمته، ومن أقبح هذه المعاصي وأخطرها على المسلمين ما ابتلي به الكثير من الناس من التكاسل عن الصلوات، والتهاون بأدائها في الجماعة في المساجد ولا شك أن هذا من أقبح خصال أهل النفاق، ومن أسباب الزيغ والهلاك، قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلاّ من عذر" وقال له صلى الله عليه وسلم رجل أعمى: يا رسول الله إني بعيد الدار عن المسجد وليس لي قائد يلائمني فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تسمع النداء بالصلاة"، فقال: نعم. قال: فأجب، وقال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلاّ منافق معلوم النفاق أو مريض، وقال رضي الله عنه: لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. ومن أخطر المعاصي أيضاً ما بُليَ به الكثير من الناس من استماع الأغاني، وآلات الطرب، وإعلان ذلك في الأسواق وغيرها، ولا ريب أن هذا من أعظم الأسباب في مرض القلوب وصدها عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعن استماع القرآن الكريم والانتفاع به، ومن أعظم الأسباب أيضاً في عقوبة صاحبه بمرض
النفاق، والضلال عن الهدى، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ، وقد فسرّ أهل العلم (لَهْوَ) الحديث بأنه الغناء، وآلات اللهو، وكل كلام يصدّ عن الحق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرّ، والحرير، والخمر، والمعازف"، و (الحِرُ) هو: الفرج الحرام، و (الحرير) معروف، و (الخمر) هو: كلّ مسكر، و (المعازف) هي: الغناء، وآلات الملاهي كالعود والكمان وسائر آلات الطرب، والمعنى: أنه يكون في آخر الزمان قوم يستحلون الزنا، ولباس الحرير، وشرب المسكرات، واستعمال الغناء، وآلات الملاهي، وقد وقع ذلك كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من علامات نبوته ودلائل رسالته عليه الصلاة والسلام، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا ما نهاكم الله عنه، ورسوله واستقيموا على طاعته في رمضان وغيره، وتواصَوْا بذلك وتعاونوا عليه لتفوزوا بالكرامة والسعادة، والعزّة والنجاة في الدنيا والآخرة.
والله المسؤول أن يُعيذَنا وجميعَ المسلمين من أسباب غضبه وأن يتقبل منا –جميعاً- صيامنا، وقيامنا، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، وأن ينصر بهم دينه ويخذل بهم أعداءه، وأن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه، والحكم به، والتحاكم إليه في كل شيء إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
من أعلام النّحاة - ابن هشام
بقلم الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
وفاء بما سلف الوعد به في كلمة سابقة من إماطة اللثام عمن يتحلى بكنية (ابن هشام) ودفعاً لما يتبادر إلى بعض الأذهان من لبس في هذا المشترك اللفظي على حد تعبير علماء النحو في الأعلام وقد يدعو اشتراك إمامين أو أكثر في عَلَم إلى نسبة تراث علمي إلى غير المنسوب إليه فيما يكاد الإجماع ينعقد عليه. كما يتوهم بعض الناشئين تجاه سيرة ابن هشام.
حيث يزعمون أنها لعباب النحو (جمال الدين) صاحب مغنى اللبيب على حين ينسبها لفيف من المؤرخين لطليعة الغر الميامين من النفر النابهين الذين محت آياتهم معالم جماعة كثيرة يطلق على كل منها (ابن هشام) لمع من بينه عشرة كرام بررة بشّر بهم العلامة السيوطي وأودعهم (بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة) .
أولهم عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري وقيل الذهلي وهو اللبنة الأولى في هذا البناء أو الألف من حروف الهجاء لهذا الرعيل الذي نقدمه لشباب الجيل من مشكاة الجامعة الإسلامية في مصباحها الجديد وثوب مجلتها القشيب.
وكنية هذا العَلَم أبو محمد وقد حمدت في النحو سيرته وطابت سريرته. دلف من البصرة معقل النحاة السابقين الأولين وهبط مصر مع اللائذين الآمنين. تقرن السيرة النبوية الشهيرة باسمه ويضيفها كثير من الكرام الكاتبين إليه، بيد أن التاريخ المحقق لا ينكر فضله في تهذيب حواشيها وتنقيحها وحذف طائفة من أشعارها وهي في الواقع من صنع المؤرخ ابن إسحاق خطها بيمينه ورواها عنه ونقلها منه زياد البكائي لرفيقه وصديقه ابن هشام فلا نكران لفضله ولا كفران لسعيه وله إلى متصله السيرة شرح ما وقع في أشعار السير من الغريب. وله معها أنساب حمير وملوكها وقد وثقه أبو سعيد بن يونس. وكان براً كريماً بالإمام الشافعي رضي الله عنه وبحسبه منه كلمته الباقية (الشافعي حجة في اللغة) جاور ربه سنة ثماني عشرة وقيل ثلاث عشرة ومائتين من الهجرة.
ثانيهم محمد بن يحي بن هشام الخضراوي. أبو عبد الله الأنصاري الخزرجي الأندلسي. ينسب إلى الجزيرة الخضراء ويدعى بابن البردغي قال عنه الإمام السيوطي وهو يترجم له ويترجم عليه:
كان العلامة الخضراوي رأساً في العربية عاكفاً على التعليم تلقى العربية عن ابن خروف ومصعب والرندي وأخذ القراءات عن أبيه. وكفاه فضلاً أن يكون الشلوبين من بين بنيه النحويين. وينوه به وينقل عنه ابن هشام الأنصاري والصبان.
ومن مؤلفاته: (فصل المقال في أبنية الأفعال) و (المسائل النجب) و (الإفصاح بفوائد الإيضاح) . و (الاقتراح في تلخيص الإيضاح وشرحه) . و (غرر الأصباح في شرح أبيات الإيضاح) . وله (النقض على الممتع لابن عصفور) . وله تصرف في الأدب يشهد بذلك ما دبجه من المنثور والمنظوم. ولد سنة 575هـ خمس وسبعين وخمسمائة. ومات بتونس الخضراء ليلة الأحد رابع عشر جمادى الآخرة سنة 646هـ ست وأربعين وستمائة هجرية ويشبهه (والتشبه بالرجال فلاح) إلى حد كبير سميه الأستاذ محمد الخضراوي الأجهوري المصري أستاذ الفقه والأصول بكلية الدعوة في الجامعة الإسلامية أدام الله النفع به وأقر بموفور علمه عيون بنيه ومقدريه وهم كثير والحمد لله.
ثالثهم محمد أبو عبد الله بن أحمد بن هشام بن إبراهيم بن خلف اللخمي السبتي كما ذكره النجيبي في رحلة كان من المتعمقين في اللغة الراسخين في النحو ومن مؤلفاته (المدخل إلى تقويم اللسان وتعليم البيان) قال عنه ابن الأبار إنه أدب بالعربية وكان قائماً عليها وعلى اللغات والآداب مع حفظ من النظم ضعيف ومن تأليفه المفيدة التي انتفع الناس بها كتاب (الفصول والمجمل في شرح أبيات الجمل) . و (نكت على شرح كتاب سيبويه للأعلم الشنتمري) و (لحن العامة) . و (شرح الفصيح) و (شرح مقصورة ابن دريد) .
روى عنه عبد الله بن الفار تأليفه وكانت حياته سنة 557هـ.
قال ابن دحية في (المطرب من أشعار أهل المغرب) : قال اللغويون (الخال) يأتي على اثني عشر معنى: أخو الأم. موضع الخال من الزمان الماضي. اللواء. الخيلاء. الشامة. الغرب. المنفرد. قاطع الخلا. الجبان. ضرب من البرود. السحاب. سيف خال قاطع.
وقد نظمها الفقيه الأستاذ النحوي الكبير المترجم له فقال:
أقوم لخالي وهو يوماً بذي خال
نروح ونغدو في برود من الخال
تمر كمر الخال يرتج ردفها
إلى منزل خلو من الخال
أقامت لأهل الخال خالاً فكلهم
يؤم إليها من صحيح ومن خال
الرابع: جاء عنه في هامش الطبعة الأولى لكتاب (بغية الوعاة) بياض في الأصل الأمر الذي اقتضاني استقراء الكتاب جملة وتفصيلاً لعلي أجد على النار والنور هدى فأسلمني طول المراس إلى العثور على إمام يرتدي برود التواضع من أئمة النحو واللغة كأنه هو الحلقة المفقودة والضالة المنشودة في شخصي. محمد بن أحمد بن عبد الله بن هشام أبو عبد الله الفهري الذهبي ويعرف باسم الشواش.
قرر الآبار أنه أخذ النحو عن الإمام الجزولي وسمع من أبي عبد الله العرشي وغيره وجلس للإقراء والتحديث ودرس النحو واللغة وحمل الناس عنه. وكان كما شهد له العلامة السيوطي إماماً متواضعاً بارع الخط اختاره الله لجواره سنة 619هـ.
خامسهم: محمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن هشام بن عبد الرحمن بن غالب بن نصر الخشتي المالقي أبو عبد الله يعرف بابن العويص قال ابن الزبير: كان أستاذاً مقرئاً نحوياً فاضلاً، روى عن أبي عبد الله النضري وابن الطراوة، وأخذ عنه وعن أبي الحسن الصفار وجماعة. وروى عنه ابنا حوط الله وابن يربوع ومات يوم السبت تاسع عشر شوال سنة 576هـ.
ندوة الطلبة
وادعوا إلى الله كي تحظوا بجنته
وطبقوا سنة المختار في البشر
بقلم: محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
عرّج فديت بذات النخل والحجر
وأربع على منزل الأحباب في السحر
وحي من فيه من شيخٍ يشع سناً
تخال ألفاظه صيغت من الدرر
محي لسنة خير الخلق مجتهدِ
موفقٍ لسديد القول والنظر
لم يثنه الغمز عن حق أراد ولا
يغتر قطعاً بقول الماذق الأشر
وطالبٍ دائبٍ في نيل مأربه
مدرعٍ بجميل الصبر ذي سهر
بشرى لكم معشر الطلاب إن لكم
عناية سبقت في مثبت القدر
لأنتم في بني العصر الذين هووا
في وهدة الجهل مثل الأنجم الزهر
فاسعوا إلى المجد لا تلووا على كَسلٍ
مضيع وقتَه في اللغو والهذر
وادعوا إلى الله كي تحظوا بجنّته
وطبّقوا سنة المختار في البشر
فيم السكوت وهذا الخطب فادحنا
وهذه شرعة المختار في خطر
فيم السكوت وأعداؤنا قد اتحدوا
مصوبين سهام الخبث والدّعر
ونحن في غفلة عما يُراد بنا
كأنّنا لم نصب في الدين بالغِيَرِ
أبعد أن أكمل الرّحمن منهجناً
وأوضح الحق بالقرآن والأثر
نُغزى من الخلف هل متيقظ فطن
يزيل عن ديننا ما كان منه بري
تالله لو أنّنا سرنا على سنن الأسلاف ما كان من ضعف ولا خور
نوادر المخطوطات:
مصحف الأمير أقبغا الأوجدي
بقلم الدكتور طه الزيني
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
الأمير أقبغا هو علاء الدين أقبغا عبد الواحد، كان "استادار"الملك الناصر محمد بن قلاوون ومعنى "استادار"ناظر الخاصة الملكية، وهو الذي أنشأ المدرسة الأقبغاوية الموجودة على يسار الداخل إلى الجامع الأزهر، وبها مكتبة الأزهر الآن.
وقد تم بناء القبة سنة 740هـ الموافق 1340م، وقد جعلت مكتبة للأزهر منذ سنة 1314هـ الموافق 1897م وعهد أقبغا بإنشائها إلى ابن السيوفي رئيس المهندسين في أيام الناصر محمد بن قلاوون، فجاءت آية في الفن المعماري المملوكي، والباقي منها الآن مدخلها وواجهة القبة ومحرابها ومحراب المدرسة والمنارة وقد أكملت قمتها أخيراً مصلحة الآثار. وهذا المصحف مكتوب على ورق الكتان الثقيل بخط علي بن أير حاجب سنة 732هـ الموافق 1333م وكل صفحة من صفحاته تضم أحد عشر سطراً بخط النسخ الكبير، وبأوله أوراق تشتمل على فوائد كثيرة، ففي الورقتين الأوليين من هذه الأوراق جداول مذهبة مبين فيها عدد جلالات القرآن، وهي ألف وستمائة وأربعة وتسعون، وعدد آياته وهي ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، وعدد سور القرآن وهي مائة وأربع عشرة سورة، وعدد كلمات القرآن وهي سبعون ألفاً وأربعمائة وستة وثلاثون كلمة، وعدد حروف القرآن وهي ثلثمائة ألف وعشرون ألفاً ومائتان وأحد عشر حرفاً، وعدد نقط القرآن وهي مائة ألف وخمسون ألفاً وإحدى وثمانون نقطة، وعدد الألفات والباءات والتاءات وغيرها إلى آخر الحروف الهجائية. وعدد سجدات القرآن وهي أربع عشرة سجدة على خلاف بين الفقهاء فيها. وفي الورقتين الرابعة والخامسة بيان السور التي فيها الناسخ وليس فيها المنسوخ وهي ست سور ذكرت أسماؤها، والتي فيها المنسوخ وليس فيها الناسخ وهي أربعون سورة مذكورة أسماؤها، والتي فيها الناسخ والمنسوخ معاً وهي خمس وعشرون سورة، مذكورة أسماؤها، والتي ليس فيها ناسخ ولا منسوخ وهي ثلاث وأربعون سورة مذكورة أسماؤها أيضاً، ومن الورقة السادسة إلى الحادية عشرة بيان كيفية نزول القرآن وسبب جمعه والمكي والمدني، وفي الصفحتين الثانية والأولى من الورقتين 11، 12 جداول مذهبة بها بيان ما وضع في القرآن من مصطلحات القراء السبعة، وبهامشها دوائر ذهبية، وفي الصفحة الأولى من الورقة الثالثة عشرة ما يأتي
(وقف هذا المصحف من المقر الأشرف العالي المولوي أقبغا الأوحدي سنة 740هـ) ويلاحظ أن سنة وقف المصحف هي السنة التي تم فيها بناء المدرسة الأقبغاوية كما سبق ذلك، وقد كان لاقتران وقف المصحف بانتهاء بناء القبة أثر واضح في الإسراع بكتابة المصحف حتى يوضع فيها يوم تمام بنائها، إذ حبس كاتبه نفسه في بيته ستة أشهر متوالية لا يخرج منه حتى أتم كتابته، وهو زمن قليل جداً إذا قيس بما في المصحف من إتقانٍ وتذهيب ومعلومات قرآنية وتفسير.
وفي الصفحة الثانية من الورقة الثالثة عشرة والأولى من الرابعة عشرة زخارف ذهبية بأعلاها، وأسفلها مستطيل به هذه الآية {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
وبهامش المصحف وبين سطوره بعض التفسيرات وأحكام القراءات، وأسباب النزول مكتوبة بالمداد الأحمر ويقع المصحف في 435 ورقة كتانية حجم كل ورقة نصف متر.
هل التمسك بالحجاب الإسلامي غلو وانحراف ?
بقلم الشيخ: محمد أبو الفتح البيانوني
المدرس في كلية الشريعة بالرياض
ليس غريباً أن يتعرض الحجاب الإسلامي لهجوم عنيف من قبل مجتمعاتنا الحديثة التي أعرضت عن الإسلام، واستبدلت مظاهر المدنية الجاهلية بكمالاته وهديه
…
ولكن الغريب أن يجد هذا الهجوم المركز على الحجاب سبيلاً إلى عقول بعض المسلمين فيضعفوا أمامه، ويتأثروا به ويرددوا مقالات الأعداء الآثمة دون وعي لدوافعها وآثارها
…
لقد كان فرض الحجاب على المرأة حفظاً لكرامتها خاصة، ورعاية لكيان المجتمع عامة كغيره من الفرائض والهدى الذي جاء به هذا الدين فأنقذ الناس من الظلمات إلى النور، ومهد لهم سبل السعادة في الدنيا والآخرة. فعرف أسلافنا حقيقة هذه الأوامر وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ
…
فكانت سبب سعادتهم وسيادتهم، وجهل حقيقتهما أكثر الناس اليوم فأعرضوا عنها واستثقلوها فكان ذلك الإعراض سبب شقائهم وهوانهم
…
ولهذا، لم يكن فرض الحجاب غريباً على المرأة المسلمة في الصدر الأول ولا مفاجئاً لها، بل اهتدت إليه بعض الفطر السليمة في الجاهلية، وتمسكت به بعض النسوة حتى كاد يصل ببعضهن إلى الحجاب الكامل الذي دعا إليه الإسلام، وذلك في الوقت الذي انتشر فيه التبرج والسفور أيضاً
…
فهذا هو الربيع بن زياد العبسي يرثي مالك بن زهير في الجاهلية فيقول من قصيدة:
من مثله تمسي النساء حواسراً وتقوم معولة مع الأسحار
قد كُنّ يخبأن الوجوه تستراً فاليوم حينَ بَدَون للنظار
يلطمن حُرّ وجوههن على فتى
عفِّ الشمائل طيب الأخبار
ولقد تطلع بعض المسلمين في الصدر الأول إلى فرضية الحجاب، وتوقعوا صدوره عن الشارع تبعاً لما عرفوه عن طبيعة هذا الدين، ومن هنا كانت استجابة النساء المسلمات لآيات الحجاب استجابة سريعة رائعة. فما أن نزل قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} حتى استجبن لهذا الهدي القرآني الاستجابة الكاملة فأسرعن إلى الحجاب، وأدنين عليهن من جلابيبهن حتى لا يكاد يُرى منهن إلاّ مكان عين واحدة.
فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "لما نزلت آية الحجاب، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة".
ولم تكتف النساء المؤمنات بمطلق الحجاب، وبقيت أنفسهن المؤمنة تتطلع إلى الكمال فيه، فهذه أسماء بنت مرثد رضي الله عنها يتردد إليها النساء تبدو منهن الزينة والخلاخل، والصدور والذوائب، فيسيئها ذلك وتقول: ما أقبح هذا!؟ فينزل قول الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
…
الآية} .
وهكذا عاشت المرأة المسلمة في ظل الحجاب الإسلامي الكامل عزيزة الجانب محفوظة الحقوق في مجتمع تمسك بالإسلام، وسار على نهجه وهديه، وما كانت إحداهن لتشعر بثقل هذا الحجاب وتفكر بالتخلص منه أو بتطويره على الأقل كما هو شأن كثير من النساء اليوم
…
وما كان ليخطر في بال أحد أن هذا الحجاب كان يوماً ما سبباً في ذلة، أو إضاعة حق، أو إضعاف عقل كما يتوهم الواهمون
…
ولكن أتى على الناس حين من الدهر، بعدوا فيه عن الإسلام الصحيح وساءت فيه مفاهيمهم، فتغيرت نظرتهم إلى الإسلام عامة وإلى بعض أحكامه وهديه خاصة، تبعاً للضغط الجاهلي على النفوس، وتسرب الأفكار المعادية إلى العقول
…
فنظروا إلى الحجاب الكامل نظرتهم لعبء ثقيل، وحاجب كثيف يحجب المرأة عن حقها، ويضيع لها كرامتها، ولا ينسجم مع الأوضاع الحاضرة، والمجالات العامة التي فتحها الجاهلية الحديثة لأبنائها وبناتها على السواء
…
فوقفوا منه مواقف مختلفة بين مزدرٍ له متهجم عليه، وبين مستثقل يحاول تطويره والتخلص منه
…
وبين مُبْعدٍ عنه صفة الشرعية، ومعتبر الحجاب الكامل - في زعمه – من بقايا العقليات المتخلفة، ومظاهر المفاهيم الخاطئة
…
يُقضى على المرءِ في أيام محنته
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وسأتعرض لنماذج من مواقف بعض الكتاب المسلمين الذين تأثروا بتلك الدعوات المغرضة والحملات المعادية؛ فسايروا في مقالاتهم تلك المواقف الشاذة المختلفة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ليكون القراء الكرام على بصيرة من أمرهم، وينتبهوا إلى الأفكار الدخيلة عليهم، ويحذروا الانسياق وراء الادعاءات والوشايات
…
فهذا هو الأستاذ "بهي الخولي"صاحب كتاب "الإسلام والمرأة المعاصرة"يتحدث في الطبعة الثالثة عن الحجاب فيقول في ص 159:
"الحجاب كلمة عاشت بمدلولٍ خطير خاطئ دهوراً طويلة في المجتمعات الإسلامية على مختلف بيئاتها، فقد فهمه الكثيرون على أنه استقرار المرأة في البيت لا تبرحه إلى أي مكان آخر
…
"إلى أن قال معدداً بعض المظاهر الخطيرة التي عاش فيها الحجاب:
"وكانت خلال إقامتها في البيت لا ترى أجنبياً ولا يراها أجنبي، حتى كانت إحداهن تمرض المرض الخطير فلا يستجيبون أن يدخل الطبيب ليكشف عن مرضها لأنه أجنبي. وأما شأنها مع غير الأجانب – أي الأقارب – فإنه لم يكن يؤذن في رؤيتها إلاّ لأبيها وأبي زوجها وإخوتها. أما غير هؤلاء من نحو أبناء عمها، أو أخوة زوجها فلا". ثم ختم حديثه عن هذه المظاهر الخاطئة – في زعمه – بقوله:
"ولما قام قاسم أمين ينادي بتحرير المرأة شنع بهذا الحجاب، وأبان عدم شرعيته، وأفاض في ذكر مساوئه وأثره في إضعاف شخصية المرأة وعقلها، وأقرّه على دعوته ذووا الرأي والاستنارة من علماء المسلمين"10هـ.
فأي خطأ يا ترى في حجب المرأة عن الأجانب عامة حيث لا ترى أجنبياً ولا يراها أجنبي!؟ وأي شرٍّ يترتب على حجب المرأة عن ابن عمها وأخوة زوجها!؟ وهل هذه التصرفات وأمثالها من التقاليد الخاطئة الدخيلة على الحجاب، أم أنها حقيقة الحجاب الإسلامي!؟
ماذا يقول كاتبنا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يُسأل عن الحَمْوِ – وهو قريب الزوج – فيجيب محذراً: الحَمْوُ الموت!!
ومن هم أولئك المستنيرون ولعقلاء من ذوي الرأي الذين أقروا "قاسم أمين"على دعوته في "تحرير المرأة "؟! اللهم إلا إذا كانوا من المستنيرين بنور الغرب، وفكر الجاهلية التي ترى في الحجاب الإسلامي الكامل إضعافاً لشخصية المرأة وعقلها. فهل أضعف الحجاب الكامل من عقول وشخصيات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفضليات من نساء المؤمنين يوم تمسكن به التمسك الكامل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
وهذا هو الأستاذ الدكتور "تقي الدين الهلالي "يطالعنا في مقاله: " تعليم الإناث وتربيتهن"الذي نشر في العدد الرابع من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة – بترديد مقالات أولئك، وبالتسليم لبعض آرائهم وهجومهم على الحجاب
…
فيقول في ص 23 من العدد المذكور:
"وأما آباؤنا المتأخرون فقد انحرفوا عن الجادة في الدين والدنيا وعلومهما، فلما عجزوا عن إقامة صروح العفاف والأخلاق الكريمة وتنفيذ حدود الشرع المحمدي العظيم، لجأوا إلى الاختفاء والفرار والاختباء، فغلوا في الحجاب حتى دفنوا النساء كما قلتم، ومنعوهن من الخروج، وإذا خرجن يفرضون عليهن ستر وجوههن إلا عيناً واحدة أو نصف عين، وجعلوا صوتهن عورة وحديثهن مع الرجال وإن كانوا صالحين وبحضرة محارمهن أو أزواجهن وقاحة
…
".
فهل هذه المظاهر في الحقيقة من الغلو في الدين! ومن آثار آبائنا وأجدادنا المتأخرين المتخلفين الذين انحرفوا عن الجادة في الدين!؟.
وهل هذا هو الحجاب الكامل الذي وصفه الكاتب في حقيقته تعبير عن العجز والضعف، ولجوء إلى الاختباء والفرار!؟ وهل أن ستر المرأة لوجهها كله مظهر من مظاهر الخطأ والانحراف!؟
وقد يكون الكاتب الكريم يميل إلى جواز كشف وجه المرأة، فلا مجال في هذا المقال للدخول في نقاش معه حول هذا الموضوع، ولا للتعرض لأولئك الذين تحمسوا لهذا الرأي فدعوا المرأة إلى سفور الوجه في عصر الانحلال والفساد
…
فلقد كُتِبَ عن هذا الكثير، وتبين لنا في كثير من المجتمعات الإسلامية أن كشف الوجه كان سبيلاً إلى السفور الكامل، وخطوة عاجلة إلى التبرج والفساد، ولطالما اتخذ الأعداء أقوال هؤلاء وسيلة ناجحة إلى ما يريدون
…
ولكنني أكتفي هنا أن أتساءل: هل قال أحد من السلف أو الخلف إن ستر الوجه غلو في الدين وانحراف عن الجادة المستقيمة، وأثر من آثار التخلف والانحطاط؟ كلا، إن العلماء جميعاً متفقون على أن ستر الوجه كمال وفضيلة، ولم يكن خلافهم إلا في وجوب الستر وعدم وجوبه. فكيف يجرؤ مسلم على أن يحكم على الكمال المتفق عليه بأنه غلو وانحراف؟
ماذا يقول كاتبنا في قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة "!!
وبماذا يجيب عن قول محمد بن سيرين حيث يقول: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ} فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى."؟
ثم إن كان هذا غلواً في الدين، فماذا يقول بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه بالحجاب من الأجانب حتى العميان منهم..! فهذه أم سلمة رضي الله عنها تقول:" كنت عند الرسول صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فدخل علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلنا: أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا!؟ قال: أفعمياوان أنتما لستما تبصرانه!؟ ".
ثم نجد الكاتب المذكور يقول مناقشاً أولئك الذين منعوا المرأة حق تعلم الكتابة وذلك في ص 20 من هذا المقال:
"وأما قولكم: إن القلم أحد اللسانين، وإن المرأة لجهلها بهذا اللسان وضرب الحجاب الشديد تأمن شر اللسانين
…
فقد أخطأتم في ذلك خطأ فاحشاً، ألم تعلموا أن الفتاة التي ربيت على العفاف والتحصن لا يصل إليها سوء ولو كانت بين الرجال في غير ريبة، وقد كانت النساء يرافقن رجالهن في الغزوات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصحب معه نساءه في الغزو والحج، وكانت نساء الصحابة غير قابعاتٍ في بيوتهن، بل يخرجن لأشغالهن إن كانت، ويعلفن الخيل ويكدحن في أموالهن. وكان النساء يغزون بعد النبي صلى الله عليه وسلم
…
وذلك مسطور في كتب الحديث لا نطيل بذكره، فلم يضرهن ذلك لقوة إيمانهن وكمال عفافهن
…
".
لا أريد هنا أن أخالف الكاتب الكريم في رأيه في أولئك الذين منعوا المرأة حق التعلم والكتابة، ولا في حكمه الذي يقول فيه: إن الفتاة إذا أسيئت تربيتها لا يمكن صيانتها
…
فإن هذا مما تتفق عليه العقول. ولكنني أريد أن أشير إلى أن تلك الأوصاف التي أسهب في ذكرها عن المرأة المسلمة في الصدر الأول لا تنطبق عليها كل الانطباق، ولا يمكن أن يُؤخَذَ منها حكم عام يعم النساء في ذلك العصر
…
فلم يكن نساء ذلك العصر خارجاتٍ ضارباتٍ في الأرض كادحاتٍ في أموالهن كما يكدح الرجال، وإنما كُنّ في معظم أحوالهن عاملات في ميدان عملهن الأول المناسب لطبيعتهن ألا: وهو البيت، حيث ترعى المرأة فيه أمور البيت والزوج، وتسهر على تربية الأولاد وتنشئتهم التنشئة الصالحة، فتتفرغ بذلك لأعمالها وتقوم بوظيفتها حق القيام
…
ولولا أن القرار في البيوت هو الأصل المنسجم مع طبيعة المرأة لما أمرها الله عز وجل بذلك في صريح كتابه {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى..} {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} !!
وفي تفسير هذه الآية يقول الإمام القرطبي: "معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، ثم يقول: كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة
…
".
ثم نرى الكاتب المذكور يختم حديثه عن هؤلاء وأولئك بقوله في ص 24:
"ولو قام رجال عقلاء صالحون بتغيير هذه العادة ورد النساء إلى ما كن عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم – وهو: ما عليه نساء القرى والبوادي في البلاد الإسلامية بأسرها من أول ظهور الإسلام إلى اليوم – مع أدب غض البصر ونحوه، لوجب أن يُصغي لإصلاحهم، وأن يعانوا عليه
…
".
فهل يعجب الكاتب الكريم أن تسفر نساء المدن اليوم سفور أهل القرى زاعمات مع ذلك الاقتداء بسلفهن!؟
وكيف يجرؤ على أن يحكم على النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أنهن كن سافرات الوجوه سفور أهل القرى والبوادي!؟ _ حاشاهن من ذلك – فإن النصوص الكثيرة المتوافرة تؤكد لنا بأن ستر الوجه أمر مألوف معروف في القرون الأولى، وأن النساء المؤمنات كن يسترن وجوههن حتى في حالة الإحرام إذا ما مرّ أمامهن الرجال
…
ولا عجب فلقد كانت المرأة المسلمة تعتبر كشف الوجه كشفاً للحياء ومصيبة من المصائب
…
فهذه أم خلاّدٍ رضي الله عنها – كما يروي أبو داود – تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "متنقبة" وهي تسأل عن ابنها المقتول
…
فيستغرب أحد الحاضرين نقابها ووقارها وهي على ما عليه من مصيبة، فتجيبه معبرة عن مفهوم المرأة المسلمة عن الحجاب:"إن أرزأُ ابني فلن أرزأ حيائي".
ويذكر لنا عاصم الحول: أنهم كانوا يدخلون على حفصة بنت سيرين – رحمهما الله – وهي امرأة عجوز فتستتر بجلبابها وتغطي وجهها، فيقولون لها مداعبين: رحمك الله، قال الله تعالى:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} فتقول لهم: أي شيء بعد ذلك؟ فيقولون: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُن
…
} فتقول: هو إثبات الحجاب.
وما كانت أولئك الفضليات من النساء المؤمنات ضائعات الحقوق، ولا ضعيفات الشخصية وهن على ما عليه من حجاب كامل وتعفف صادق وإنما كن المؤمنات العزيزات، القانتات الصالحات، الهاديات المهديات المستجيبات لأمر الله، والمتأسيات بسيرة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين.
أسأل الله لنا جميعاً الرشاد والسداد في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين
…
{وَذَكِّر فَإنّ الذِكرَى تَنْفَعُ المُؤمِنِين}
للشيخ حسن السيد متولي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
وسبب نزول هذه الآيات أن نفراً من الأوس والخزرج كانوا جلوساً يتحدثون فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه ما رآه من ألفتهم بعد ما كانوا عليه من العداوة في الجاهلية. وقال والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار. فأمر شاباً من اليهود أن يجلس معهم ويذكرهم يوم (بُعَاث) وينشدهم بعض ما قيل فيه. وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس. ففعل. فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا. السلاح. السلاح، فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار من أصحابه حتى جاءهم. فقال:"يا معشر المسلمين ألله ألله. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم". فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من أعدائهم فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضاً وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسبب خاص. ولكن الخطاب عام لجميع المؤمنين في جميع العصور. وقد خاطبهم الله تعالى لإشعارهم بأنهم الجديرون بمخاطبة الله وتكريمه.
والآية الأولى تكشف للمؤمنين عن أعدائهم وتحذرهم من خطرهم مبينة لهم أن طاعتهم لفريق من أهل الكتاب تفضي بهم إلى الكفر وقد حدث لهم من اليهود ما أثار الفتنة بينهم ولولا أن رسول الله حضر وذكرهم بنعمة الإسلام التي ألفت بين قلوبهم لعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية وقد حذر الرسول من تنازع المسلمين في حجة الوداع فقال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" والآية الثانية {وَكَيْفَ تَكْفُرُون} إنكار وتعجب لحدوث طاعة منهم لأهل الكتاب تجرهم إلى الكفر وتنحرف بهم عن دينهم والحال أن آيات الله تتلى عليهم والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم يرشدهم ويهديهم إلى طريق العزيز الحميد ثم بين لهم أن من اعتصم بالله وتمسك بدينه كان في غنى عن غيره وفاز بالاهتداء إلى الصراط المستقيم.
أما الآية الثالثة: فإن الله ينادي المؤمنين آمراً لهم بأن يتقوه حق تقواه بحيث لا يتركون شيئاً مما يلزم فعله ولا يفعلون شيئاً مما يلزم تركه وعليهم أن يبذلوا في ذلك جهدهم واستطاعتهم طائعين لله غير عاصين متذكرين له غير ناسين شاكرين له دون كفر.
وأن يداوموا على تقواه فلا يلقون الله إلا وهم مسلمون.
ثم يأمرهم الله في الآية الرابعة بأن يعتصموا بحبل الله. و (العصمة) : المنعة؛ أي يمتنعون به عن كل ما يضرهم. وحبل الله هو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد وقد روي عن الرسول: "إن هذا القرآن حبل الله".
و (الحبل) : لفظ مشترك بين معان متعددة المناسب منها للآية ما ذكرناه وأصله في اللغة. السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة وينهاهم عن التفرق الذي يشتت شملهم ويمزقهم كل ممزق بقوله {وَلا تَفَرَّقُوا} كما يأمرهم في هذه الآية بتذكر نعمة الله الكبرى عليهم وهي الإسلام ليشكروها بالمحافظة عليها حيث قضت على ما كان عليه الأوس والخزرج قبل الإسلام من نزاع اصطلوا بناره عشرات من السنين فألف الله بين قلوبهم بالإسلام وصاروا بنعمته إخواناً ونجاهم الله وهم مشرفون على الهلاك بهدايتهم {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} والشفا: الحرف. ومثل ذلك البيان العظيم بين الله لكم آياته لعلكم تهتدون.
وقد بين سبحانه وتعالى في هذه الآيات أسساً ثلاثاً تقوم عليها بناء الأمة الإسلامية وتحيا بها في عزة ومنعة تؤدي رسالة الله في أرضه.
الأساس الأول:
التحذير من متابعة أعداء الأمة الإسلامية وهم أهل الكتاب فلا يأخذوا منهم شيئاً يعتقدونه ولا تشريعاً يعملون به ولا يقلدونهم في أخلاقهم وعاداتهم؛ لأنهم في غنى عن ذلك كله بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لكن الإسلام لا يمنع أن يأخذ المسلمون منهم ما وصلوا إليه من اكتشافات واختراعات ما داموا قد تخلفوا بسبب إهمالهم النظر في ملكوت الله والبحث عن الخصائص التي أودعها في كونه.
وكيان الأمة الإسلامية مرهون بمعرفة أعدائها ومعاملته على هذا الأساس؛ لأنهم لا يريدون للمسلمين إلا الدمار والهلاك. وكم حذر الله المؤمنين في كتابه فهو سبحانه يقول لهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} وقال لرسوله {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} .
إذاً فيستحيل زوال عداوة أهل الكتاب للمؤمنين إلاً إذا تهودوا أو تنصروا كما أخبر الله ونعوذ بالله من الردة والكفر.
ولهذا ينكر الله على المؤمنين متابعة أهل الكتاب ومصادقتهم وينبههم إلى ألد أعدائهم بقوله سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} .
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقد اكتوت الجماعة المؤمنة بنار الحقد اليهودي منذ نشأتها حتى وقتنا هذا وسيظل هذا شأنهم ما دامت الحياة الدنيا. والتاريخ الإسلامي مليء بما فعله أعداء المسلمين بهم.
والأساس الثاني:
الإيمان بالله مصحوباً بتقوى الله حق تقاته بحيث يظل المسلمون مدى حياتهم في كنف هذه التقوى حتى يلقوا الله مسلمين.
أما الأساس الثالث:
وهو التمسك بدين الله وكتابه والاجتماع حوله متآخين متحابين يستمدون منه عقائدهم وشريعتهم ودستورهم فهو الكافي للأمة الحامي لها من الانحراف والعاصم لها من الكفر يجمع بين قلوبها ويوحد صفوفها لتكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً تحتكم إليه عند الاختلاف كما أمر الله صوناً لوحدتها فهو سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} فإذا ما استجابت الأمة الإسلامية لنداء ربها فآمنت وتمسكت بكتاب الله وسنة رسوله كانت خير أمة أُخرجت للناس وقادت هذا العالم إلى ما فيه خيره في معاشه ومعاده.
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات منهجاً يسير عليه المؤمنون في حياتهم بعد أن بدأ اليهود ينفذون خطة عدائهم ضد الأمة الناشئة ليكون حصناً منيعاً لجماعة المؤمنين أمام مؤامرات أعدائهم وكيدهم.
وإنا بإزاء هذا المنهاج القويم نعرض صورتين للأمة الإسلامية صورة للسابقين الذين اعتنقوه وعملوا به وأخرى للأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر وقد أهملت هذه الأسس لنرى الآثار التي انعكست عليها في كلتا الحالتين.
الحالة الأولى:
سار الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون معه مستمسكين بهذه الأسس مطبقين لمنهج الله الذي شرعه لهم مستجيبين لندائه فأيدهم بنصره وفشلت جميع الدسائس والمؤامرات التي حاكها اليهود ضدهم لأنهم اعتصموا بحبل الله وعاشوا حياتهم متحدين في أخوة إسلامية عقدها الرسول بين صحابته من المهاجرين والأنصار أُخوة فاقت أُخوة النسب وفي ظل هذا الإيمان وتلك الأخوة نمت الدولة الإسلامية ورفعت لواءها في هذا العالم عزيزة قوية عادلة رحيمة وباء أعداؤها بالخيبة والهزيمة؛ لأن حزب الله هم الغالبون المفلحون.
ألم ترَ إلى حيي بن أخطب وجماعته من اليهود حينما ألبوا مشركي الجزيرة العربية وتعاهدوا معهم على حرب الرسول وأصحابه في المدينة. المشركون من خارجها واليهود من داخلها حتى يتمكنوا من إبادة محمد والمؤمنين معه وهم قلة قليلة بالنسبة إليهم واستعد المسلمون لمواجهة أعدائهم وحفروا خندقاً حول المدينة وكان موقفاً عصيباً على المؤمنين لكن النصر حالفهم ولم تُجْدِ قوة الأعداء المادية أمام عون الله لعباده المؤمنين فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.
واقرأ أو استمع لبيان الله تعالى في هذا الموقف تذكرة للمؤمنين بنصر الله لهم آيات تتلى عظة وعبرة لأولي الألباب.
أما المؤمنون فقالوا {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} .
فتولى الله الدفاع عنهم {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} . وصدق الله العظيم {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
وقد فتحت هذه الجماعة المؤمنة البلاد شرقاً وغرباً بعد أن انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى وانهارت أمامها عروش القياصرة والأكاسرة؛ لأنها آمنت بالله واعتصمت بكتابه وسنة رسوله ودعت إلى دينه ودافعت عن مبادئها لتكون كلمة الله هي العليا ووضعت نصب أعينها لحماية دينها. قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} .
فكان لها بعون الله ما أرادت.
أما أمة الإسلام في عصرنا الحاضر فعددها مئات الملايين وكيانها دول ودويلات متناثرة ضعيفة متخاذلة يحيط بها أعداؤها كما تحيط الأكلة الجياع بقصعتها ولكنهم مع هذه الكثرة كما قال الرسول "غثاء كغثاء السيل" لا قوة ولا منعة ونحن نحس هذا ونشاهده ونحترق بناره.
وسبب هذا أنهم لم يستجيبوا لنداء الله تعالى فلم يعاملوا أهل الكتاب والمشركين على أنهم أعداء لهم بل صادقوهم وأطاعوهم، ولم يتمسكوا بكتاب الله عقيدة وعملاً كما أُمرُوا بل حكم معظمهم بغير ما أنزل الله، وأوقع الكفار بينهم العداوة والبغضاء حتى ضرب بعضهم رقاب بعض، والآن تُشَنُ الحرب على المسلمين من كل جانب من اليهود وغيرهم مؤامرة مدبرة من أعداء الله ضد الأمة الإسلامية وليس لها من دون الله كاشفة ولا نجاة للمسلمين إلاّ أن يرجعوا إلى دينهم متمسكين بحبل الله متحدين متآخين في الله متعاونين متناصرين فيبدل الله ضعفنا قوة وذلنا عزاً ويمكننا في أرضه ويمدنا بعونه كما قال سبحانه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} .
ولن تصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
أضواء من التفسير
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد: المدرس بكلية الشريعة
المناسبة:
لما ذكر أنه أهلك قبل قريش قروناً كثيرة لما كذبوا رسلهم، وهدد قريشاً وتوعدهم سرد هنا على سبيل الاستئناف بعض هؤلاء الهالكين، تقريراً لمضمون ما قبله وزيادة في تخويف الكفار وتهديدهم.
القراءة:
قرئ "فواق"بفتح الفاء وبضمها.
المفردات:
"عاد"قوم هود وكانوا يسكنون الأحقاف جنوبي الجزيرة العربية. "الأوتاد"جمع وتد بكسر التاء وفتحها؛ وهو: ما رز في الأرض أو الحائط من خشب. "ثمود"قوم صالح وكانوا يسكنون الحجر. "قوم لوط"أهل سادوم وعامورة من دائرة الأردن. "الأيكة"الغيضة وهي الأشجار الملتفة المجتمعة. وهم قوم شعيب عليه السلام وكانوا يسكنون قرية مدين. "إن"بمعنى ما. "فحق"فثبت ووجب. "عقاب"الأصل عقابي أي عذابي. "ينظر"ينتظر. "هؤلاء"الإشارة لأهل مكة. "صيحة"أصل الصيحة الصوت بأقصى الطاقة والمراد هنا النفخة الثانية. "فواق"بفتح الفاء وضمها قيل هما لغتان بمعنى واحد وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع كقوله تعالى: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} وقيل من فواق يعني: من رجوع، من أفاق المريض: إذا رجع إلى صحته، وأفاقت الناقة تفيق إفاقة: إذا رجعت واجتمعت الفيقة في ضرعها، والفيقة: اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين. وقال الفراء: فواق بالفتح: الأفاقة والاستراحة كالجواب من أجاب، وأما المضموم فاسم لا مصدر. والمشهور الأول أنها بمعنى واحد. "قطنا"أي نصيبنا؛ فالقط: الحظ والنصيب كما قال الفراء. وأصل القط: القطعة من الشيء من قطَّه إذا قطعه، ويطلق على الصحيفة بالجائزة؛ لأنها قطعة من القرطاس ومنه قول الشاعر:
ولا الملك النعمان يوم لقيته
بنعمته يعطي القطوط ويطلق
التراكيب:
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} استئناف مقرر لمضمون ما قبله، وتأنيث قوم باعتبار معناه وهو: أنهم أمة وطائفة وجماعة، وقوله:{ذُو الأَْوْتَادِ} أي صاحب الأوتاد. قيل: المراد أنه اتخذ أربعة أوتاد يشد إليها يدي ورجلي من يريد تعذيبه، وقيل معناه: ذو الملك الثابت، شبَّهَ ثبوت الملك بثبوت البيت المطنب بأوتاده ومنه قول الأفوه العوذي:
والبيت لا يبتن إلاّ على عمد
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وكما قال الأسود بن يعفر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في ظل ملك ثابت الأوتاد
وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية عطية: الأوتاد: الجنود يقوون ملكه كما يقوي الوتد الشيء. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الأحْزَابُ} الظاهر أن الإشارة فيه راجعة إلى أقرب مذكور وهم قوم نوح ومن عطف عليهم، وفيه تفخيم لشأنهم، وإعلاء لهم على من تحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه: هؤلاء الأقوياء لما كذبوا الرسل عوقبوا، وأنتم كذبتم كتكذيبهم مع أنكم أضعف منهم. ويجوز أن يكون (أولئك) مبتدأ والأحزاب خبره، والجملة بدل من الطوائف المذكورة. ويجوز أن تكون (أولئك) مبتدأ والخبر إن كل إلاّ كذب الرسل مع حذف العائد والتقدير أي: كلهم أو كل منهم والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها. وقوله: {إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ} يجوز أن تكون الجملة خبراً كما مرّ ويجوز أن تكون استئنافية لتقرير تكذيبهم على أبلغ وجه، وتمهيد ما عقب به، و (كل) مبتدأ و (إلاّ) استثناء مفرغ، وجملة (كذب) الخبر؛ أي: ما كل واحد منهم محكوماً عليه بحكم أو مخبراً عنه بخبر إلاّ بأنه كذب الرسل، لأن الرسل يصدق بعضهم بعضاً وكلهم متفقون على الحق، فتكذيب كل واحد منهم تكذيب لهم جميعاً، ويجوز أن يكون من مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي القسمة آحاداً، وعليه فالمعنى ما كل واحد منهم محكوماً عليه بحكم أو مخبراً عنه بخبر إلا بأنه كذب رسوله. والحصر -هنا- عل سبيل المبالغة؛ كأن سائر أوصافهم بالنظر إلى ما أثبت لهم بمنزلة العدم، فيدل على أنهم غالون في التكذيب. ويدل على ذلك أيضاً تكرير
التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، وتنويع تكريره بالجملة الفعلية ألا وهي كذبت وبالاسمية الاستئنافية ثانياً؛ وهي: إن كل إلا كذب الرسل، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التخصيص والتأكيد، فكل هذا يفيد أنواعاً من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العذاب وأبلغه ولذلك رتب عليه قوله تعالى:{فَحَقَّ عِقَابِ} وقد وقع عليهم عقاب الله تعالى الذي أوجبته جناياتهم مع تنويع أصناف العقوبات فأغرق قوم نوح بالطوفان، وغشى فرعون وقومه من اليم ما غشيهم، وأهلكت عاد بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة.
وقوله تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاء} شروع في بيان عقاب كفار مكة بعد بيان عقاب أضرابهم من الأحزاب، فالمشار إليه بهؤلاء أهل مكة، والإشارة به لتحقير شأنهم وتهوين أمرهم، وقوله تعالى:{مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} (ما) نافية ولها خبر مقدم و (من) حرف جرّ جيء به لاستغراق النفي، و (فواق) مبتدأ والجملة في محل نصب صفة لصيحة.
وقوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} استئناف لبيان استهزائهم بالوعيد، وسخريتهم من التهديد، ولتقرير مضمون ما تقدم من وصف استكبارهم وعنادهم.
المعنى الإجمالي:
ليس تكذيب قريش لك غريباً في بابه، فريداً من نوعه، ولست أول من كذبه قومه، لقد جحدت أمة نوح عليه السلام رسالته، ومن بعدها عاد كذبوا هوداً، وثمود كذبوا صالحاً، وفرعون الجبار الشديد الأذى كذب موسى، وأهل سادوم وعمورة من دائرة الأردن كذبوا لوطاً، وأصحاب الغيضة أهل مدين كذبوا شعيباً، أولئك المتحزبون المتعصبون حقاً، ما وصفوا بغير تكذيب رسلهم وجحد رسالات ربهم، فأنزلت بهم عقابي، وأحللت عليهم غضبي، وهم أشد من أهل مكة قوة، وأكثر منهم جمعاً، فأغرقت قوم نوح بالطوفان، ودمرت فرعون غرقاً في اليم، وأرسلت على عاد ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، وأخذت ثمود صاعقة العذاب الهون، وجعلت عالي أرض سادوم وعمورة سافلها، وأرسلت عليهم حجارة من طين، وأخذ أصحاب يوم الأيكة عذاب يوم الظلة.
وما أنتم يا أهل مكة بخير من هؤلاء وليس لكم براءة من الزبر، وما تنظرون إلا نفخة القيامة، تؤمنون لديها، وتحاسبون عندها، وتعاقبون فيها، العقاب الشديد الذي لا يخطر لكم على بال، ولا يمر منكم على خيال.
ولقد سخر هؤلاء الفجرة من هذا الوعيد الشديد، واستهزءوا بهذا التهديد، وقالوا:{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} .
ما ترشد إليه الآيات:
1-
تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
2-
كانت الأمم السابقة أقوى من أهل مكة.
3-
طغيان فرعون وشدة إيذائه للمؤمنين.
4-
أن تحزب السابقين هو التحزب.
5-
أخص صفات الكفار التكذيب.
6-
عقاب المكذبين في العاجلة.
7-
الإشارة بعدم استئصال أهل مكة.
8-
سهولة إحياء الموتى.
9-
الوعيد الشديد لأهل مكة.
10-
سخريتهم واستهزاؤهم بالوعيد.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآية السابقة استخفاف أهل مكة بالوعيد وما تلفظوا به من قول ينم عن خبث طوية، مع تهديدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل كما روي في بعض روايات أسباب النزول، أمر الله نبيه في هذه الآية بالصبر على أذاهم.
القراءة:
والجمهور {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} بنصبها، وقرئ برفعهما.
المفردات:
{اصْبِرْ} احبس نفسك عن الجزع {دَاوُدَ} من مشاهير أنبياء بني إسرائيل وممن أوتوا الملك منهم. {الأيْدِ} مصدر آد الرجل يئيد وإياداً بكسر الهمزة إذا قوي واشتد ومنه قولهم: أيدك الله تأييداً. {أَوَّابٌ} رجاع يعني لمرضاة الله تعالى. {سَخَّرْنَا} أتبعنا.
{يُسَبِّحْنَ} ينزهن الله تعالى ويقدسنه بصوت يتمثل لداود عليه السلام فكان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح كما روي عن ابن عباس. {بِالْعَشِيِّ} قال الراغب: من زوال الشمس إلى الصباح. وقيل المراد هنا وقت العشاء الأولى يعني المغرب. {وَالأشْرَاقِ} وقت إضاءة الشمس وصفاء نورها، يقال: شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت وصفت. {مَحْشُورَةً} مجموعة إليه. {شَدَدْنَا} قوينا. {آتَيْنَاهُ} أعطيناه ومنحناه.
{الْحِكْمَةَ} النبوة وكمال العلم والإصابة في الأمور. {فَصْلَ الْخِطَابِ} البيان الشافي في كل قصد. وقيل: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقيل: القضاء بين الناس بالحق وقيل كلمة أما بعد.
التراكيب:
قوله تعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل لكونه ذا اليد، ودليل على أن المراد به القوة في الدين. وقوله:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ} استئناف مسوق لتعليل قوته في الدين، ويجوز أن يكون استئنافاً لبيان القصة أو التمهيد لها. وقوله:{مَعَهُ} متعلق بسخرنا وجوز أن يتعلق بقوله يسبحن. وإنما قال: (معه) ولم يقل: (له) كما قال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} ؛ لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق تفويض التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح لسليمان بل بطريق الإقتداء به والمشاركة في العبادة معه. وقوله {يُسَبِّحْنَ} في موضع نصب على الحال من الجبال، وقد وضع موضع مسبحات لإفادة الاستمرار التجددي وأنها يحصل منها التسبيح حالاً بعد حال. وقيل إن جملة يسبحن مستأنفة لبيان التسخير كأن سائلاً سأل: كيف كان تسخيرها؟ فقيل يسبحن. وقوله {وَالطَّيْرَ} على قراءة النصب معطوفة على الجبال و {مَحْشُورَةً} حال من الطير والعامل سخرنا وإنما لم يؤت بالحال فعلاً مضارعاً كالحال السابقة أعني (يسبحن) ؛ لأنه لم يُرد أنها تحشر شيئاً فشيئاً إذ حاشرها هو الله تعالى فحشرها جملة أدل على القدرة. وأما على قراءة الرفع فيهما فالطير مبتدأ ومحشوره خبره. وقوله: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} استئناف مقرر لمضمون ما قبله. وإنما وضع الأواب موضع المسبح لأن الأواب هو التواب وهو الكثير في الرجوع إلى الله، ومن دأبه إدامة التسبيح والضمير في قوله:{لَهُ} قيل لله تعالى ومعناه: وكل من داود والجبال والطير لله تعالى كثير الرجوع مديم التسبيح. وقيل الضمير لداود؛ أي: كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود أواب والأول أظهر. وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} مفيد أن الله تعالى جمع لداود عليه السلام بين كمال الفهم وكمال النطق.
المعنى الإجمالي:
لا تفزع يا محمد بسبب هذه المقالات المؤذية، ولا تجزع لما يتجدد من أمثالها، وتذكر قصة عبدنا الصالح التقي صاحب القوة في الدين الأواب إلى الله تعالى، لقد اتبعنا الجبال معه حال كونها تقدس الله تعالى بتقديسه وتجاوبه في تسبيحه، في طرفي نهاره، وكذلك أتبعنا الطير حال كونها مجموعة إليه، كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود مسبح، وقد قوينا سلطانه، وأعطيناه النبوة. ومنحناه كمال العلم، وتمام الفهم، وملكناه زمام الفصاحة.
ما ترشد إليه الآيات:
1-
الصبر على الأذى.
2-
التأسي بالصالحين.
3-
قوة داود في دينه ودنياه.
4-
كثرة رجوعه إلى الله.
5-
اتباع الجبال والطير له.
6-
كمال قدرة الله تعالى.
7-
تسبيح الجبال والطير بحمد ربها.
8-
قوة سلطان داود.
9-
نبوته وكمال علمه وثقوب فهمه.
10-
فصاحته عليه السلام.
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
س – نطلب الإفادة عن رجل تزوج بنت مطلقته هل يجوز ذلك؟
الجواب: لا يجوز للرجل أن يتزوج بنت مطلقته إذا كان قد دخل بها؛ لأنها ربيبه وقد حرم الله الربائب على عباده كما قال تعالى في بيان المحرمات من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِن} الآية.. والدخول هو الجماع، أما إن كانت لم يدخل بأمها بل عقد عليها ثم طلقها فلا حرج عليه في تزوج بنتها لقول الله سبحانه وتعالى:{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .
س – قدّمنا الوداع على رمي الجمار في اليوم الثالث عشر بموجب فتوى من شخص يدعي أنه صاحب علم ونرغب الفتوى.
الجواب: لا يجوز الوداع قبل الانتهاء من أعمال الحج كلها ولذا فإن وداعكم قبل الانتهاء من رمي الجمار في أجزائه نظر والأحوط لكم أن تريقوا عن ذلك دماً بمكة يوزع على فقراء الحرم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينفر أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت" أخرجه مسلم في صحيحه وينبغي أن لا يغتر الإنسان بفتوى كثير ممن ينتسب إلى العلم بل الواجب عليه أن يتحرى في ذلك سؤال أهل العلم المشهورين بالعلم والفضل والورع وتحري الحق.
س – قال تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن} . هل هي خاصة بالمتوفي عنها زوجها وعن المطلقة إذا وضعت حملها هل عليها عدة أم انتهت وعن المتوفي عنها زوجها وهي حامل هل لها مصرف حتى تضع الحمل أم ليس لها إلاّ ما خصها من الإرث؟.
الجواب: إن الآية عامة تعم المتوفي عنها والمطلقة والمخلوعة والمفسوخة من جهة الحاكم بمسوغ شرعي كل واحدة منهن إذا كانت حاملاً تخرج من العدة بوضع الحمل للآية المذكورة. وهي قوله سبحانه: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن} ولما ثبت في الصحيحين أن سبيعة الأسلمية رضي الله عنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليال فاستفتت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأفتاها بأنها قد خرجت من العدة من حين وضعت حملها وأذن لها في الزواج متى بدا لها ذلك. وهذا قول أهل العلم جميعهم إلا خلافاً شاذاً يروى عن بعض السلف أن المتوفي عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين وهو قول لا يعول عليه؛ لكونه مخالفاً للآية الكريمة والحديث الشريف.
أما نفقة المتوفي عنها إذا كانت حاملاً فهي عليها وليس على التركة من ذلك شيء في أصح أقوال العلماء.
وفق الله الجميع للفقه في دينه والثبات عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الإسلام والحياة:
فريضة التفكير في الإسلام
بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
من أوضح سمات القرآن الكريم التي لفتت نظر الباحثين في القرآن من المسلمين وغير المسلمين إشادة القرآن بالعقل وتوجيه النظر إلى استخدامه إلى "الحقيقة "فقد دعا القرآن بطريق مباشر وغير مباشر إلى تعظيم العقل والرجوع إليه.
ويحرص القرآن على تأكيد هذا المعنى حتى إنه ليكرر هذه الدعوة بشكل يلفت النظر ويثير الاهتمام، ويشير القرآن إلى العقل ومعانيه المختلفة ومشتقاته ومرادفاته في نحو ثلاثمائة وخمسين آية مستخدماً لذلك كل الألفاظ التي تدل عليه أو تشير إليه من قريب أو بعيد من:
"التفكير"و "القلب"و "الفؤاد" و "اللب"و "النظر"و "العلم"و "التذكر"و "الرشد"و "الحكمة"و "الرأي"و "الفقه"إلى غير ذلك من الألفاظ التي تدور حول الوظائف العقلية على اختلاف معانيها وخصائصها وظلالها مما يعتبر إيحاءات قوية بدور العقل وأهميته بالنسبة للإنسان.
قال ابن عباس محمود العقاد في كتابه "التفكير فريضة إسلامية "ففي كتب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو مضمونة إلى التمييز، ولكنها تأتي عرضاً غير مقصودة وقد يلمح فيها القارئ - بعض الأحايين شيئاً - من الزراية بالعقل أو التحذير منه؛ لأنه مزلة العقائد وباب من أبواب الدعوى والإنكار. ولكن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلاّ في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه. ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع ولا في العقل المدرك ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، وهي كثيرة لا موجب لتفصيلها في هذا المقام المجمل، إذ هي جميعاً مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع والعقل المدرك والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء.
فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي أو المنع عن المحظور والمنكر ومن هنا كان اشتقاقه من مادة "عقل"التي يؤخذ منها العقل، وتكاد شهرة العقال بهذه التسمية أن تتوارد في اللغات الإنسانية الكبرى التي يتكلم بها مئات الملايين من البشر. فإن كلمة "مايند"وما خرج من مادتها في اللغات الجرمانية تفيد معنى الاحتراس والمبالاة وينادى بها على الغافل الذي يحتاج إلى التنبيه. ونحسب أن اللغات في فروعها الأخرى لا تخلو من كلمة في معنى العقل لها دلالة على الوازع أو على التنبيه والاحتراس.
ومن خصائص العقل ملكة الإدراك التي يُناط بها الفهم والتصور وهي على كونها لازمة لإدراك الوازع الأخلاقي وإدراك أسبابه وعواقبه تستقل أحياناً بإدراك الأمور فيما ليس له علاقة بالأوامر والنواهي أو بالحسنات والسيئات.
ومن خصائص العقل أنه يتأمل فيما يدركه ويقلبه على وجوهه ويستخرج منها بواطنه وأسراره. ويبني عليها نتائجه وأحكامه وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة "الحكم "وتتصل بها ملكة الحكمة، وتتصل كذلك بالعقل الوازع إذا انتهت حكمة الحكيم به إلى العلم بما يحسن وما يقبح وما ينبغي له أن يطلبه وما ينبغي له أن يأباه.
ومن أعلى خصائص العقل الإنساني "الرشد"وهو مقابل لتمام التكوين في العقل الرشيد، ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم؛ لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف وعليها مزيد من النضج والتمام والتمييز بميزة الرشاد حيث لا نقص ولا اختلال. وقد يؤتى الحكيم من نقص في الإدراك، وقد يؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة، ولكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا وذاك.
وفريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها. فهو يخاطب العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضاً مقتضياً بل يذكره مقصوداً مفصلاً على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان. فمن خطابه إلى العقل عامة – ومنه ما ينطوي على العقل الوازع – قوله تعالى في سورة البقرة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
ومنه في سورة المؤمنون.. {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
ومنه في سورة العنكبوت: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَاّ الْعَالِمُونَ} ومنه ما يخاطب العقل وينطوي على العقل الوازع كقوله تعالى في سورة الملك: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
وفي سورة الأنعام: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
ومنه بعد بيان حق المطلقات في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
ومنه في سورة الحشر بياناًَ لأسباب الشقاق والتدابر بين الأمم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} .
وهذا عدا الآيات الكثيرة التي تبتدئ بالزجر وتنتهي إلى التذكير بالعقل؛ لأنه خير مرجع للهداية في ضمير الإنسان كقوله تعالى في سورة البقرة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وكقوله في سورة آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلَاّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وكقوله تعالى في سورة المائدة: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} .
وفي سورة الأنعام: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وفي سورة هود: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وفي سورة الأنبياء: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وفي غير هذه السور الكريمة تنبيه إلى العقل في مثل هذا السياق يدل عليه ما تقدم في هذه الآيات.
إن هذا الخطاب المتكرر إلى العقل الوازع يضارعه في القرآن الكريم خطاب متكرر مثله إلى العقل المدرك أو العقل الذي يقوم به الفهم والوعي وهما: أعم وأعمق من مجرد الإدراك وكل خطاب إلى ذوي الألباب في القرآن الكريم فهو خطاب إلى اللب، هذا العقل المدرك الفاهم لأنه معدن الإدراك والفهم في ذهن الإنسان، كما يدل عليه اسمه باللغة العربية.
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الأَلْبَابِ} .
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} .
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
ومن هذه الآيات نتبين أن اللب الذي يخاطبه القرآن الكريم وظيفته عقلية تحيط بالعقل الوازع والعقل المدرك والعقل الذي يتلقى الحكمة ويتعظ بالذكر والذكرى وخطابه خطاب لأناس من العقلاء لهم نصيب من الفهم والوعي أوفر من نصيب العقل الذي يكف صاحبه عن السوء ولا يرتقي إلى منزلة الرسوخ في العلم. والتمييز بين الطيب والخبيث والتمييز بين الحسن والأحسن في القول.
أما العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والروية فالقرآن الكريم يعبر عنه بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحياناً وينفرد بعضها بمعناه، على حسب السياق في أحيان أخرى، فهو الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق أحياناً في المدلول – كما قدمنا – ولكنها لا تستفاد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأُخرى.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} .
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} .
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} .
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} .
{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} .
{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الْأَبْصَارِ} .
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} .
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} .
{وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .
{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} .
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} .
{خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
بهذه الآيات وما جرى مجراها، تقررت فريضة التفكير في الإسلام، وتبين منها أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير، ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر ويتدبر ويحسن الادكار والرواية، وأنه هو العقل الذي يقابله الجمود والعنت والضلال، وليس بالعقل الذي قصاراه من الإدراك أنه يقابل الجنون، فإن الجنون يسقط التكليف في جميع الأديان والشرائع وفي كل عرف وسنة، ولكن الجمود والعنت الضلال، غير مسقطة للتكليف في الإسلام وليس لأحد أن يعتذر بها كما يعتذر للمجنون بجنونه فإنها لا تدفع الملامة ولا تمنع المؤاخذة بالتقصير.
ويندب الإسلام من يدين به، إلى مرتبة في التفكير أعلى من هذه المرتبة التي تدفع عنه الملامة أو تمنع عنه المؤاخذة فيستوجب له أن يبلغه بحكمته ورشده، ويبدو فضل الحكمة والرشد على مجرد التعقل والفهم من آيات متعددة في الكتاب الكريم يدل عليها أن الأنبياء يطلبون الرشد ويبتغون علماً به من عباد الله الصالحين. كما جاء في قصة موسى والخضر عليهما السلام.
الإمام أحمد ودفاعه عن السنة
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
محنة الإمام أحمد:
قال الإمام ابن كثير (10: 334) : فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة فقالوا: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين. فعند ذلك حمي واشتد غضبه وكان ألينهم عريكة وهو يظن أنهم على شيء. قال أحمد: "فعند ذلك قال لي لعنك الله ".
ثم قال المعتصم: طمعت فيك أن تجيبني ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه. قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر وكان معي شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي فجردوني منه وصرت بين العقابين فقلت يا أمير المؤمنين الله الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرءٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلاّ بإحدى ثلاث". وتلوت الحديث وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فبمَ تستحل دمي ولم آت شيئاً من هذا؟. يا أمير المؤمنين أذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك. ولم تؤثر هذه النصوص الصحيحة الثابتة في المعتصم بل زادته طغياناً وعلواً وفساداً. قال الإمام أحمد: فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويقول له المعتصم: شد قطع الله يديك ويجيء الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك فضربوني أسواطاً فأغمي عليّ، وذهب عقلي مراراً فإذا سكن الضرب يعود عليّ عقلي، وقام المعتصم إليّ يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل، وأعادوا الضرب ثم عاد إليّ فلم أجبه فأعادوا الضرب ثم جاء إليّ الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري، وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلاّ وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين.
قال الإمام ابن كثير: "ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطاً وقيل ثمانين سوطاً ولكن كان ضرباً مبرحاً شديداً جداً، وقد كان الإمام أحمد رجلاً طوالا رقيقاً أسمر اللون كثيراً التواضع رحمه الله تعالى ".
قلت: لولا الله عز وجل ثم الإمام أحمد ووقوفه أمام تلك القوة الباغية الطاغية بذلك الإيمان الراسخ وتضحيته وفداؤه لما كان لنا هذا القرآن وهذه السنة ولاندثرت معالم الحق وينابيع الخير وطمست عقيدة السلف، ولما كان للإمام ابن تيميه عليه الرحمة ذلك الجهاد القوي المتين الذي يضرب به المثل أمام الخلائق، ولما كان لمجدد القرن الثاني عشر شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ذلك النصيب الأوفر من الدعوة المحمدية التي أقام بها الدولة المحمدية في شبه الجزيرة العربية ولا تزال قائمة حتى الآن، فالفضل لله عز وجل كله ثم للإمام أحمد رحمه الله تعالى.
قال الحافظ ابن حجر في (التهذيب: 1: 75) نقلاً عن ابن حبان في كتابه (الثقات) مشيراً إلى الإمام: أحمد كان حافظاً متقناً فقيهاً ملازماً للورع الخفي مواظباً على العبادة الدائمة أغاث الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذاك أنه ثبت في المحنة وبذل نفسه لله حتى ضرب بالسياط للقتل فعصمه الله تعالى عن الكفر وجعله علماً يقتدى به، وملجأ يلجأ إليه. وقال أبو الحسن ابن الزاغوني: كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبو جعفر بن أبي موسى إلى جانبه فوجد كفنه صحيحاً لم يَبْلَ وجنبه لم يتغير وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة) انتهى.
قلت: ليس هذا بغريب في الإسلام فقد وردت في الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى قصة مماثلة وقعت لصحابي جليل استشهد في غزوة أحد ثم أخرجه ابنه بعد ستة أشهر فوجده كما كان رضي الله عنه [1] .
قلت: ترجم للإمام أحمد السيد صديق حسن خان القنوجي البخاري المتوفي سنة 1248هـ. العالم السلفي الجليل صاحب تفسير فتح البيان في التاج المكلل ص 24 – 28 فأجاد وأفاد مع الاختصار، وكانت وفاته رضي الله تعالى عنه في مائتين وإحدى وأربعين. وسوف أتعرض لترجمته -إن شاء الله تعالى- في بحث مستقل بالتفصيل. وأما الآن فأضع أمامكم مخطوطاً مصوراً عظيماً يوجد في مكتبة الحرم المكي في علل الحديث ومعرفة الرجال، فهو كتاب لصاحب هذه الترجمة العاطرة، الذي يعتبر أول كتاب في الإسلام في علل الحديث فيما أظن، ومن العجيب أنه لم يرد له ذكر في الفهارس الموجودة لدينا ككشف الظنون وذيوله وفي الرسالة المستطرفة للكتاني. وكذا في كتب أصول الحديث التي توجد الآن في مكتبتنا الإسلامية على ما أظن والله أعلم. وهذا أمر يستغرب منه أشد الاستغراب وكيف لا؟ وقد ذكرت كتب علل الحديث للمؤلفين الذين لا وزن لهم بالنسبة لهذا الرجل العظيم الذي أنقذ الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورفع به شأن السنة المحمدية وكل ما كتب في حق الإمام أحمد رحمه الله فهو قليل جداً من كثير فكتابة الذي أنا بصدده فهو (علل الحديث ومعرفة الرجال) الذي طبع منه الجزء الأول في أنقرة بتركيا نشره الدكتوران المسلمان طلعت وإسماعيل جراح أوغلي عام (1963) م نشراه عن النسخة الفريدة الموجودة بمكتبة آياصوفيا تحت رقم (3380) عورضت على أبي علي بن الصواف (359 – 970) في سنة 343 وقوبلت بنسخة عبد الله بن الإمام أحمد بن محمد ابن حنبل مع تعليقات وحواش. وكان هذا المجهود العلمي الكبير من كلية الإلهيات بجامعة أنقرة.
قلت: إن كتاب الجرح والتعديل للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي فرع لهذا الكتاب، إن قارنت بين عبارتيهما يظهر لك كل شيء مما يدل على أن كتاب علل الحديث للإمام أحمد أصل أصيل في علل الحديث والله أعلم.
والجزء الأول المطبوع في تركيا قد خدم خدمة جبارة ممتازة من قبل الدكتورين المذكورين، وقد وعدا بأن يخرجا الجزء الثاني للكتاب إلاّ أن هذا الوعد الكريم قد مضى عليه أكثر من تسع سنوات ولم أدر ماذا جرى لها، والنسخ التي وردت في هذه البلاد المقدسة كانت محدودة جداً على ما أظن من تركيا الإسلامية.
يقع هذا الجزء الأول من الكتاب مع التحقيق في خمسمائة صفحة واليأس مسيطر على ذوي الحاجة من طلاب الحديث بأن حصل مانع للأخوين الكريمين من إخراج بقية الكتاب أو جاء على أحدهما أو على كليهما نداء رباني فلباه أو هناك أمور أخرى لا نعلمها والله أعلم بهما وبما فعلا.
وأما المخطوط الذي أنا بصدد تعريفه فهو مصور بصورة فوتوغرافية مأخوذة من مكتبة أياصوفيا بتركيا ورقم الكتاب هناك بتلك المكتبة هو (3380) وهو واقع في 178 ورقة والمطبوع منه إلى 97 ورقة والباقي الذي لم يطبع حسب ما بلغ علمي إحدى وثمانون ورقة. وقد ذكرت من قبل أن المطبوع هو الجزء الأول فأحب أن أوضح هذا الأمر لئلا يشكل على أهل العلم. إن الجزء الأول المطبوع مشتمل على أربعة أجزاء حقيقية حسب ترتيب المؤلف رحمه الله تعالى، وأما تسمية المطبوع بالجزء الأول فهو من اصطلاح الناشرين فالكتاب كله واقع في ستة عشر جزءاً. والأجزاء الأربعة الأول المطبوعة أكبر حجماً من الأجزاء الثمانية الباقية التي لم تطبع حسب ما بلغ علمي والتي تقع في إحدى وثمانين ورقة في مخطوطنا هذا والله تعالى أعلم.
وأما آخر عبارة المطبوع من الأجزاء الأربعة فهي كالآتي:
قلت: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قرأت على أبي أبو بدر قال: صليت على جنازة ابن أبجر أنا وسفيان الثوري فتقدم عليه أخ له [2] وفي رأيه شيء فصلى عليه وكان في رواية شيء فكبر عليه خمساً فلما فرغ من الرابعة سلم سفيان فأقبل عليّ ثم قال ما يريدون إلى هذا انتهى.
وأما آخر العبارة من الأجزاء الثمانية الباقية غير المطبوعة فهي كالآتي: حدثني أبي قال سمعت سفيان يقول قال لي عمر بن وهب يعني سنداً أنه لا يحدثك به أنه لا يذكره، قال سفيان فقلت لعبد الرحمن سمعت أباك فحدث عن عائشة فسكت ساعة ثم قال: نعم.
آخر الجزء السادس عشر من أجزاء عبد الله بن أحمد وهو آخر الكتاب (والحمد لله وحده وصلى الله وملائكته على محمد النبي وآله وسلم تسليماً) .
قلت: ويقع هذا الكتاب المبارك العظيم النفع في ستة عشر جزءاً وقد كتب على غلافه الكلمات التالية: الجزء الأول من كتاب العلل ومعرفة الرجال عن أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى رواية أبي علي محمد أحمد بن الحسن الصواف عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أبي عبد الله سماع عبيد الله بن أحمد لأبي الحسن علي ابن الحسن بن أحمد المقري. وسمعه قراءة على الشيخ أبي الفتح محمد أحمد أبي الفوارس علي بن أبي علي بن الصواف وذلك في محرم سنة ثنتي عشرة وأربعمائة وسمع جميعه -أيضاً- محمد بن ضران بن الحسين المزارع وعبد الواحد
…
الخ. وقد كتبت عبارة أخرى على الغلاف أيضا
وهي كالآتي: (وقف هذه النسخة الجليلة سلطاننا الأعظم وخاقان المعظم السلطان ابن السلطان محمود خان وقفاً صحيحاً رضا لمن طالع وتبصر) .
قلت: هناك عبارة واقعة على الغلاف وهي تدل على أن هذه النسخة كانت في الحرمين في عصر من العصور ثم ذهب بها إلى تركيا ومن العجيب العجاب كيف كانت تنقل هذه النسخ الثمينة بعد وقف صاحبها على مكتبات الحرمين!
قلت: هذه النسخة -والله تعالى أعلم- فريدة في العالم كما ذكر الدكتوران الكريمان في تحقيقهما على الكتاب المذكور، فهذه النسخة التي أمامي في مكتبة الحرم المكي مأخوذة من مكتبة أياصوفيا وهي التي أشار إليها الأخوة، وزد على ذلك ما ذكره كارل بروكلمان في تاريخ الأدب العربي -الذي نقله إلى العربية الدكتور عبد الحليم النجار (ج 3: 312) -يقول: المذكور 8 كتاب العلل والرجال لأبي عبد الله أحمد ابن حنبل الشيباني الذهلي أياصوفيا 3380 (انظر 249، 17 الفهرست)، قلت: يوجد الجزء الثاني عشر من الكتاب في معهد المخطوطات العربية راجع الفهرست ج 2: 110 وقد صور هذا الجزء من مكتبة الظاهرية بدمشق الذي سجل هناك برقم 544 – ف46 راجع نفس المرجع وكتب هذا الجزء بخط قديم في سنة 341 في عشر ورقات.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
بل حدث أن كشفت أجسام بعض شهداء أحد بعد عشرات السنين فظهرت حديثه العهد كأنما دفنت ليومها.
[2]
هكذا في أصل المقال "المجلة".
الحج فضله وفوائده
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
الحج عبادة من العبادات افترضها الله وجعلها إحدى الدعامات الخمس التي يرتكز عليها الدين الإسلامي والتي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام) .
وقد حج بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة حجته التي رسم لأمته فيها عملياً كيفية أداء هذه الفريضة وحث على تلقي ما يصدر منه قول وفعل فقال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا". فسميت حجته صلى الله عليه وسلم (حجة الوداع) وقد رغّب صلى الله عليه وسلم أمته في الحج وبَيَّن فضله وما أعد الله لمن حج وأحسن حجه من الثواب الجزيل فقال صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم:"العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة" متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الصحيحين -أيضاً- عنه رضي الله عنه. قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور". وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه عند إسلامه: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله
…
". وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال لا ولكن أفضل الجهاد حج مبرور". ويتضح من هذه الأحاديث وغيرها فضل الحج وعظم الأجر الذي أعده الله للحجاج ويتضح أن هذا الثواب العظيم إنما هو لمن كان حجه مبروراً. فما هو بر الحج الذي رتب الله عليه ذلك الثواب العظيم؟.
إن برّ الحج أن يأتي المسلم بحجه على التمام والكمال خالصاً لوجه الله وعلى وفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأن يحافظ فيه على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي لازم للمسلم. دائماً وأبداً ولكنه يتأكد في الأزمنة والأمكنة الفاضلة؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته؛ وهي: طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً..} وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} .
فيكون المسلم ملازماً للطاعة وبعيداً عن المعصية حين حجه وقبله وبعده؛ ليوافيه الأجل المحتوم وهو على حالة حسنة؛ فتكون نهايته طيبةً وعاقبته حميدةً كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وقال صلى الله عليه وسلم: "وإنما الأعمال بالخواتيم".
ومن البر في الحج أن يحرص أثناءه على التأمل في أسراره وعبره، والوقوف على ما فيه من فوائد عاجلة وآجلة، وهي كثيرة أجملها الله تعالى في قوله:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} وفيما يلي إشارة إلى بعض هذه الفوائد والأسرار التي تضمنتها هذه الجملة من الآية:
أولاً: إن صلة المسلم ببيت الله الحرام صلة وثيقة تنشأ هذه الصلة منذ بدء انتمائه لدين الإسلام وتستمر معه ما بقيت روحه في جسده. فالصبي الذي يولد في الإسلام أول ما يطرق سمعه من فرائض الإسلام أركانه الخمسة التي أحدها حج بيت الله الحرام. والكافر إذا شهد شهادة الحق لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الشهادة التي كان بها من عداد المسلمين، أول ما يوجه إليه من فرائض الإسلام بقية أركانه بعد الشهادتين وهي إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام. وأول أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلوات الخمس التي افترضها الله على المسلمين في كل يوم وليلة وجعل استقبال بيت الله الحرام شرطاً من شروطها، فصلة المسلم ببيت الله الحرام مستمرة في كل يوم وليلة يستقبله مع القدرة في كل صلاة يصليها فريضة كانت أو نافلة. كما يستقبله في الدعاء.
وهذه الصلة الوثيقة التي حصل بها الارتباط بين قلب المسلم وبيت ربه بصفة مستمرة تدفع بالمسلم -ولا بد- إلى الرغبة الملحة في التوجه إلى ذلك البيت العتيق ليتمتع بصره بالنظر إليه ولأداء الحج الذي افترضه الله على من استطاع السبيل إليه. فالمسلم متى استطاع الحج بادر إليه؛ أداء للفريضة ورغبة في مشاهدة البيت الذي يستقبله في جميع صلواته وليشهد المنافع التي نوه الله بشأنها في قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . فإذا وصل المسلم إلى بيت ربه رأى بعيني رأسه أشرف بيت وأقدس بقعة على وجه الأرض الكعبة المشرفة ملتقى وجهات المسلمين في صلاتهم في مشارق الأرض ومغاربها ورأى المسلمين مستديرين حول هذا البيت في صلواتهم وأصغر دائرة هي التي تلي الكعبة ثم التي تليها وهكذا حتى تكون أكبر دائرة في أطراف الأرض فالمسلمون في صلواتهم مستقبلين بيت ربهم يشكلون نقاط محيطات لدوائر صغيرة وكبيرة مركزها جميعاً الكعبة المشرفة.
ثانياً: إذا يسر الله للمسلم التوجه إلى بيت ربه ووصل إلى الميقات الذي وقته -رسول الله صلى الله عليه وسلم للإحرام تجرد من ثيابه ولبس أزاراً على نصفه الأسفل ورداء على نصفه الأعلى مما دون رأسه وفي هذه الهيئة من اللباس يستوي الحجاج لا فرق بين الغني والفقير والرئيس والمرؤوس وتساويهم في ذلك يذكر بتساويهم في لباس الأكفان بعد الموت. فإن الكل يجردون من ملابسهم ويلفون بلفائف لا فرق فيها بين الغني والفقير. فإذا تجرد الحاج من لباسه ولبس الإحرام تذكر الموت الذي به تنتهي الحياة الدنيوية وتبتدئ الحياة الأخروية فاستعد لما بعده بالأعمال الصالحة والابتعاد عن المعاصي وهذا الاستعداد هو الزاد الذي لا بد منه في سفره إلى الآخرة وهو الزاد الذي نوه الله بذكره في قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ؛ ولهذا لما سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً متى الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم له: "وماذا أعددت لها؟
…
" منبهاً بذلك -صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن أهم شيء للمسلم أن يكون معيناً بما بعد الموت مستعداً له في جميع أحواله بفعل المأمورات واجتناب المنهيات..
ثالثاً: إذا دخل المسلم في النسك لَبَّى بالتوحيد قائلاً - كما قال صلى الله عليه وسلم في تلبيته -: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". يقولها وهو مستشعر لما دلت عليه من إفراد الله بالعبادة وأنه وحده الذي يخص بها دون ما سواه، فكما أنه سبحانه وتعالى المتفرد بالخلق والإيجاد فهو الذي يجب أن تفرد له العبادة دون غيره كائناً من كان، وصرف شيء منها لغير الله هو أظلم الظلم وأبطل الباطل. وهذه الكلمة يقولها المسلم إجابة لدعوة الله عباده لحج بيته الحرام.. فيستشعر المسلم عظمة الداعي، وعظم أهمية المدعو إليه فيسعى في الإتيان بما دعى إليه على الوجه الذي يرضي ربه تعالى مع استيقانه بأن المدار في هذه العبادة وغيرها من العبادات على الإخلاص لله كما دلت عليه كلمة التوحيد التي تضمنتها هذه التلبية وعلى المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرشد إلى ذلك صلى الله عليه وسلم في حجته حيث قال:"خذوا عني مناسككم".
رابعاً: وإذا وصل المسلم إلى الكعبة المشرفة يشاهد عبادة الطواف حولها وهي عبادة لا تجوز في الشريعة الإسلامية إلا في المكان، وكل طواف في غير ذلك المكان إنما هو من تشريع الشيطان ويدخل فاعله في جملة من عناهم الله بقوله:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} .
ويشاهد أيضاً تقبيل الحجر الأسود واستلامه واستلام الركن اليماني، ولم تأت الشريعة بتقبيل أو استلام شيء من الأحجار والبنيان إلاّ في هذين الموضعين، ولما قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحجر الأسود بيّن أنه فعل ذلك متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم في تقبيله إياه وقال:"ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك".
خامساً: ويشهد الحاج في حجه أعظم تجمع إسلامي وذلك في يوم عرفة، في عرفة إذ يقف الحجاج جميعاً فيها ملبين مبتهلين إلى الله يسألونه من خير الدنيا والآخرة.
وهذا الاجتماع الكبير يذكر المسلم بالموقف الأكبر يوم القيامة الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون ينتظرون فصل القضاء؛ ليصيروا إلى منازلهم حسب أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فيشفع لهم جميعاً إلى الله عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليقضي بينهم فيشفعه الله. وذلك هو المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهي الشفاعة العظمى التي يختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وفي هذا التجمع الإسلامي الكبير في عرفة -وكذا في بقية المشاعر- يلتقي المسلمون في مشارق الأرض بالمسلمين في مغاربها؛ فيتعارفون ويتناصحون، ويتعرف بعضهم على أحوال بعض؛ فيتشاركون في الأفراح والمسرات كما يشارك بعضهم بعضاً في آلامه ويرشده إلى ما ينبغي له فعله ويتعاونون جميعاً على البر والتقوى كما أمرهم الله سبحانه بذلك..
سادساً: ويشهد الحاج مظهراً عجيباً من مظاهر التعاون؛ إذ يرى أرض منى كلها مغطاة بالخيام فلا يكاد يمضي يوم النفر الأول إلا وقد عادت كما كانت تقريبا، ً وذلك لقيام كل بما يخصه فإذا أقام كل مسلم بما يقدر عليه في خدمة الإسلام وتعاونوا على ذلك فإن المجهودات الفردية وإن قلت تكون كثيرة بضم بعضها إلى بعض.
وهذه الفوائد القليلة التي أشرت إليها إشارة هي من جملة المنافع الكثيرة التي أجمل ذكرها في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . وإن أعظم فائدة للمسلم بعد إنهاء حجه أن يكون حجه مقبولاً وأن يكون بعده خيراً منه قبله وأن يحدث ذلك تحولاً في سلوكه وأعماله فيتحول من السيئ إلى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن.
والله المسؤول أن يوفق المسلمين جميعاً للفقه في دينه والثبات عليه وأن يمكن لهم في الأرض وينصرهم على عدوه وعدوهم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الكيد اللئيم
بقلم الدكتور رانا إحسان الهي
عميد كلية العلوم الشرقية بجامعة البنجاب
كلمة ألقاها على طلبة الشهادة العالية في
كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة في الإسلام، أيها الإخوة في العقيدة!
أحيّيكم بتحية الإسلام الخالد الغالب، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قلبي يحدثني أنكم تريدون أن أحدثكم عن المعركة الضارية التي خاضها إخوانكم في الدين على أرض باكستان الشرقية والغربية ضد الهندوس وأوليائهم كما أنتم تعلمون.
أيها الإخوة! من يتولى قوماً فهو منهم فإن الله تعالى يقول:
إن هذه المعركة هي حلقة من سلسلة الكيد الذي جعل يكيده الكفار على اختلاف مللهم للإسلام وأهله منذ صدع النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة التوحيد والحق – "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله "في بطن مكة المكرمة.
إن هذه المعركة هي حلقة في سلسلة أُحد والخندق والحروب الصليبية، وإنّها حلقة في سلسلة الإجهاز على مسلمي الأندلس وأُختها فلسطين.
إن المخطط الذي يجتمع عليه أهل الكفر جميعاً هو أنه يجب ألاّ يقوم للإسلام كيان على ظهر الأرض، وألاّ يفسح المجال لأية تجربة إسلامية لكي تنجح، وألا يسمح لأية حركة إسلامية جدية بالقوة والازدهار. إن مخططهم هذا يقضي أن تُوْأد كل بادرة إسلامية يمكن أن يستفيد منها المسلمون مهما كلف الأمر وبشتى الأساليب والذرائع، لقد قضوا في العصر الحديث على حركة التوحيد التي غرسها ونماها الرجلان العظيمان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب، وهدموا عاصمتها الدرعية، وقضوا على الخلافة العثمانية في الأستانة، وقضوا بيد الطليان على الحركة السنوسية في مهدها
…
والآن جاء دور باكستان التي هي – بإرادة الله ثم بإرادة أهلها المؤمنين المجاهدين، وكما ينص دستورها- جمهورية إسلامية.
قد لاحظ أعداء الإسلام أن التجربة الإسلامية في باكستان آخذةٌ في النجاح برغم جميع العقبات والصعوبات التي تركها الاستعمار الإنجليزي أمامها والتي لا يزال أعداء الإسلام يرعونها ويزيدونها.
لقد غاب عن أعداء الإسلام - يا ويحهم! - أن باكستان لا يمكن أن تقضى عليها ولا يمكن أن تبيد. لأن وجودها لم يشتق من النظريات السياسية الأرضية، ولا من القومية، ولا من العنصرية، ولا من اللونية، ولا من الوطنية، ولم يرتبط بأيّ منها. فإنه مشتق ومرتبط منذ البداية وإلى الأبد بالقرآن والسنة، فما دام هذا القرآن باقياً فباكستان باقية ولو كره الكافرون ولو كره الظالمون ولو كره الفاسقون.
لا بأس علينا إذا حُوربنا وقُوتلنا، فهذه سنة الله. إن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة. ولكن لقد وعدنا الله النصر في النهاية أبداً. لقد جاس الصليبيون خلال ديار الإسلام وملكوا بيت المقدس ثم كانت معركة حطّين فسلوها عن أخبارهم – ولقد جاس التتار أيضاً خلال الديار وعملوا ما عملوا في بغداد وغيرها ولكن سلوا عنهم معركة عين جالوت في فلسطين.
واليوم يتحرك حقد الهندوس الدفين على الإسلام والمسلمين مؤيداً بالاتحاد السوفيتي وغيره من أمم الكفر
…
ولكن ستسمعون عمّا قريب إن شاء الله بحطين الثانية وعين جالوت الجديدة.
أيها الاخوة في الله إن الله تعالى قد خلقنا (نحن المسلمين) من مادة لا تنصهر. إننا قد ننام ولكن لا نموت، إننا قد لا ننتصر في بعض المعارك ولكنا لا نقهر بحول الله العظيم.
إن الله لا يبتلينا إلاّ رحمة بنا وحباً لنا لكي نزداد إيماناً به وتوكلاً عليه وإقبالاً على دينه لِيُنزل علينا نصره. فما خبر حُنين عنا بعيد.
إن باكستان، كما قلت، ليست قائمة على أية نظرية سياسية بشرية. إنها قائمة على "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله". إنها لم تؤسس في سنة 1947م. إلاّ رسمياً. أما تأسيسها الحقيقي فمنذ وصلت كلمة "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله"مع أول مسلم إلى أرض شبه القارة الباكندية.
أيها الإخوة في الله! النصر لنا بإذن الله، والعزة لنا بإذن الله. ولن تزيدنا الشدائد إلاّ قوة وصموداً وإلاّ ثقة بالله.
إن الأزمة التي نُواجهها في أرضنا الحبيبة باكستان الشرقية هي انعطاف في الطريق وليست نهاية الطريق. ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز – وما النصر إلا من عند الله.
وإلى اللقاء في يوم النصر والفتح القريب إن شاء الله.
الملكية الفردية في الإسلام
بقلم الشيخ محمد أمان صديق
المدرس في دار الحديث بالمدينة التابعة للجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
لقد أقرّ الإسلام حق الملكية الفردية مسايراً بذلك البشرية، وأباح لكل إنسان أن يجمع من الثروة ما يستطيع بالطرق المشروعة، وأوجب السعيّ والعمل الجدي المنتج ومقت التواكل والكسل والقعود عن طلب الرزق فلا ندهش إذاً من رفع الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه درتّه على القاعد عن طلب الرزق قائلاً:"إنّ السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة". وذلك حينما رآه متواكلاً.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه الخطيب البغدادي والديلمي: "خيركم من لم يترك آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته ولم يكن كلاً على الناس" وترك الإسلام اختيار العمل للشخص نفسه يختار ما يلائم ميوله ويساير رغباته على أن يكون ضمن الأعمال التي أقرها الإسلام ولا تجلب ضرراً على المجتمع – كما فرض الإسلام فرض كفاية أن تقوم بكل عمل أو صناعة تحتاج إليها الأمة في بناء صرحها وحفظ كيانها وتُعتبر الأمة جميعها آثمة إذا توانت عن ذلك أو تقاعست مع ذلك كله هذّب الإسلام النفوس فمقتها عن التطلع إلى ما ليس في ملكها ممّا هو في ملك الآخرين ليحفظ بذلك ملكية كل فرد واستقلال كُلّ بماله.
جاء الإسلام بحق الملكية الفردية ليُقبل الفرد على الإنتاج بجد ونشاط ويبذل أقصى طاقته في العمل طائعاً مختاراً دون أن يشعر أنه مسخّر لحساب فرد أو جماعة.
وكحق الملكية الفردية حق الإرث فكل ما جاز أن يتملك جاز أن يورث فقد أقرّ الإسلام الإرث لأن فيه تعادلاً بين الجهد والجزاء يحفز الفرد على العمل ما دام يعلم أن ثمرة أتعابه تعود عليه في حياته وتمتد إلى أولاده بعد وفاته بالإضافة إلى ما في نظام الإرث الإسلامي من توزيع عادل للثروة وعدم حصرها في فئة معينة كما هو مبين في مواضعه من القرآن الكريم.
إن الإسلام وإن أقرّ بحق الملكية الفردية لكنه لم يدع هذا الحق على إطلاقه بلا قيد أو حد بل دعا إلى الاعتدال كدأبه في كل الأمور فرتّب حقوقاً في المال للأفراد والجماعات لدعم صرح المحبة والتراجم بين أفراد الأمة وطبقاتها المختلفة.
فأول الحقوق التي فرضها الإسلام هو حق الزكاة – وهو حق الجماعة في عنق الفرد حق مفروض بحساب معلوم في أصناف معينة هي النقد – والمواشي – والزرع – وعروض التجارة – والمعادن – وقد فرضها الله تعالى مواساة للفقراء ومعونة لذوي الحاجات وتقوية لروابط الألفة والمحبة والتعاطف بين مختلف الطبقات ولعمر الله إنها لإحدى الوسائل الناجحة لمعالجة الفقر والفقراء التي لها خطرها على الأعداء ونتائجها في كيان الأمة. ثم بعد فرض هذا الحق العظيم في المال جعل الفرد موكولاً إلى نفسه وضميره – فله مطلق التصرف في بقية المال الذي بحوزته فإن النفقة كانت لنفقته حسنات ودرجات أي أن نفقاته مخلوفة – قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} . وقال تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} .
وإن أمسكه بعد إخراج الزكاة منه كان إمساكه جائزاً لا حرج فيه.
وحذر الإسلام الفرد من سلوك الطرق غير المشروعة في اكتساب الرزق ووضح له المبادئ التالية من إنفاق المال والتصرف فيه:
أولا:
أن يكون إنفاقه من المال على نفسه ومن تلزمه نفقته معتدلاً دون إسراف أو تقتير – قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} .
ثانياً:
حرم عليه استثمار ما عنده من المال وتنميته بالطرق الآتية:
أ – الغش: قال عليه الصلاة والسلام "من غشنا فليس منا " رواه الجماعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً في الحديث الذي رواه الشيخان "البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".
والغش بجانب ما ذكرت مناف للخلق الكريم ضارٌ بالآخرين رافعٌ الثقة بين الناس بالإضافة إلى أن ثمرته هي الحصول على كسبٍ بلا جهد ولا عمل مشروع.
ب – الاحتكار: احتكار أقوات الناس وحاجاتهم الضرورية قال عليه الصلاة والسلام في حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه الذي رواه مسلم "لا يحتكر إلاّ خاطئ " وورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم "من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله منه والحديث وإن كان فيه مقال لكن كثرة الشواهد تؤيده. فالمحتكر يتحكم في السوق ويفرض على الناس الأسعار التي ترضيه وتشبع مطامعه.
ج – الربا والقمار والاتجار بالمخدرات التي تفتك بجسم الأمة قال تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَات} وقال تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
د – التطفيف في المكيال والميزان والانتقاص من أجر العامل أو حرمانه فذلك مما نهى الشارع عنه قال تعالى: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُم} وقال تعالى: {وَيْلٌ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} وفي الحديث القدسي الذي ذكره ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه "ثلاثة أنا خصمهم رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يُعطه أجره" وفي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه".
كل ذلك لصالح الفرد والمجتمع.
وحفظ الإسلام أيضاً مال السّفيه فحجره عن المال الذي تحت يده لأنه لا يستطيع التصرف فيه فأثبت له ملكية المال ولكن لا يملك هذا المال إلاّ بعد أن يصبح رشيداً عاقلاً يستطيع التصرف قال تعالى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاما} . والمرأة في ذلك كالرجل، وما يطلبه الشارع من الرجل في طريقة كسب المال والتصرف فيه يطلبه من المرأة وما يضعه من قيود وحدود يضعه لها.
فالإسلام هو الذي رفع كيان المرأة في المجتمع وجعل لها حقوقاً بجانب التبعات التي عليها.
بعد هذا التقرير الموجز – علمنا أن الإسلام بمبادئه وتعاليمه خير كفيل لإيجاد مجتمع تسوده المحبة والسلام ويُخيم عليه الأمن والاستقرار، وما أجدر بالعالم اليوم وهو يقاسي وطأة النظم المستوردة والأفكار الغربية التي قد تودي الحضارة والمدنية وتقضي على المثل العليا التي تحقق خير الإنسان أن يسير على مبادئ الإسلام الرشيدة وتعاليمه السامية بروح المحبة والتسامح ففي ذلك سعادة البشرية وتقدمها وازدهارها فالإسلام له مبادئه ومقوماته واستقلاله – كما أن للمتمسكين به عقيدة وعبادة ونظام حكم لهم الحرية الكاملة في هذه الحياة لكن على النهج الذي اختاره الله وشرعه، وقد ضمن الشارع للمتمسكين بهذا الدين الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
فقال صلى الله عليه وسلم "تركتكم على المحجة البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك أو إلاّ هلك" وفقنا الله لخدمة دينه والسهر على تحقيق مبادئه وأنظمته والحكم لله وهو العلي الكبير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
النادي عند العرب
لفضيلة الشيخ محمد المنتصر الكتاني
المستشار في رابطة العالم الإسلامي بمكة
تقول العرب: النادي والندوة والنديِّ والمنتدى وتريد: مجتمع القوم وأهل المجلس فيقع على المجلس وأهله ومنه الآية الكريمة: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّا} ؟ ومنه الحديث النبوي في قصة أم زرع قريب البيت من النادي. واجعلني في الندِيّ الأعلى. أي: اجعلني مع الملأ الأعلى من الملائكة.
ويجمع النادي على أندية وأنداء ومنه: حديث أبي سعيد: "كنا أنداء فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم". يريد كنا قوماً مجتمعين.
وتقول: نادى الرجل: جالسه في النادي. وتنادوا: تجالسوا في النادي. وندوت القوم: جمعتهم في النادي. وندوت وانتديت: حضرت النادي. وما يندوهم النادي أي: ما يسمعهم من كثرتهم. ومنه قول بشر بن أبي حازم:
وما يندوهم النادي ولكن
بكل محلة منهم فئآم
والعرب عرفت النادي وبنت له قصراً كانت تجتمع فيه لشؤونها الداخلية والخارجية وللمشورة في أمورها، ويحضره ذوو الرأي والفكر فيهم.
بنى النادي وأقامه للعرب قصي بن كلاب الجد الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتهر في التاريخ باسم دار الندوة، فكانت قريش تجتمع فيها للرأي والمشورة، فما تنكح امرأة ولا يتزوج رجل وما يتشاورن في أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواءً لحرب قوم من غيرهم إلا في دار الندوة. وفيها كانت قريش تقضي جميع أمورها، والعرب تبع لقريش في كل شيء. ولتكون دار الندوة قريبة من الناس بنيت بلصق الكعبة وجعل بابها إلى مسجد الكعبة.
ولم تكن قريش تسمح بدخول دار الندوة إلا للرجال الناضجين عقلاً وتجربة أبناء الأربعين عاماً، إلا بنو قصي فكانوا يدخلونها كباراً وصغاراً.
وفي حياة قصي كان أمر دار الندوة بيده حلاً وربطاً، بيده جمع قريش وتوجيهها في الندوة للتشاور والتناظر وعقد أمر وإبرام حرب أو سلام، كانت العرب تدين لقصي دينونة الناس للزعيم والحاكم ومن أجل ذلك قال عنه شاعرهم:
قصي لعمري كان يدعى مجمّعاً به جمع الله القبائل من فهر
ثم صيّر قصي دار الندوة بعده لولده عبد الدار وصيرها عبد الدار لولده عبد مناف وصيّرها عبد مناف لولده هاشم ثم صيّرها هاشم لولديه: عمير وعامر. وبقي أمرها بيد سلالة عامر إلى أن ابتاعها معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم من ابن الرهين العبدري سليل عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
فحوَّلها معاوية بعد تجديد بنائها إلى منزل ينزل فيه إذا حج ثم بقيت منزلاً بعده للملوك بني أمية إذا حجوا.
وقد اقتطع من قصر دار الندوة بعد أن حول منزلاً للملوك بعض جهاته وضُم إلى المسجد الحرام في الزيادة التي زادها فيه عبد الملك بن مروان وولداه الوليد وسليمان الأمويون.
وفي أيام الدولة العباسية ضَم جهاتٍ أخرى من قصر دار الندوة أبو جعفر المنصور العباسي إلى المسجد الحرام كذلك.
واكتفى بنو العباس بالباقي من دار الندوة فاتخذوه منزلاً ينزلون فيه إذا حجوا كما فعل بنو أمية قبلهم، فنزله منهم أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور والمهدي والهادي والرشيد.
وفي أيام الرشيد أهملت دار الندوة فلم ينزلها ملك ولا خليفة واعتيض عنها بغيرها فتصدعت وخربت.
وفي أيام المعتضد بن الناصر العباسي أمر بهدم الباقي من دار الندوة وبناها مسجداً موصولاً بالمسجد الحرام وبنى لها في جوار الحرم اثني عشر باباً فاختلطت بالحرم وأصبحت قسماً منه وفرغ من بنائها في ثلاث سنين فصلى الناس فيها واتسعوا بها وتم ذلك سنة 306هـ.
ومكان دار الندوة من الحرم الوجه الشامي من الكعبة المشرفة ويقال: أن القسم الذي كان يصلي فيه الإمام الحنفي.
قص ذلك وحكاه الأزرقي والخزاعي وابن إسحاق وابن هشام والسهيلي والخشني والفاكهي والحنفي والفاسي وغيرهم في كتبهم في السيرة النبوية وتاريخ مكة المكرمة.
والنادي عند العرب ورثه المسجد حين جاء الله بمحمد والإسلام وأكرم الله بهما العرب والناس، فورث محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصي صلوات الله وسلامه عليه وآله: من جده قصي فضم وظائفه للمسجد وأصبح بذلك النادي جزءاً من المسجد وبعضاً منه في مهماته وأعماله.
فقام المسجد في الإسلام مقام دار الندوة واستغنى عنها به ودخلت فيه دخول الخلية في الجسم ودخول الفرع في الأصل فكان المسجد في الإسلام مسجداً للصلاة رُكعاً وسجوداً وللعبادة ذكراً وتلاوة واعتكافاً، وجامعاً لاجتماع الناس والخطابة فيهم كل جمعة، وعندما يحزبهم أمر. وجامعة للكبار لإلقاء العلوم وتلقيها، ومدرسة للصغار للقراءة والكتابة، ونادياً لتناشد الأشعار والأدب والحديث والمذاكرة، ومحكمة للقضاء والفتوى، ومعتقلاً للأسرى والخاطئين، وداراً للوفود، وملجأ للفقراء، ومطعماً للمساكين، ودار سكنى ومنامة لمن لا أهل له، ومستشفى، وداراً لعقد الزواج، ومصنعاً للسلاح، وبيت مال للمسلمين، ولقسمته بينهم ومآرب أخرى.
المسجد معبد لله وبيت من بيوته للصلاة والعبادة. ومن هذه الوظيفة الرئيسية اتخذ اسمه: مسجداً {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .
والمسجد جامع يجمع الناس للصلوات كل يوم وللخطابة كل جمعة وعندما يحزب الناس أمر هام؛ ومن هذه الوظيفة الرئيسية الثانية اتخذ اسمه الجامع والمسجد الجامع. وكان عليه السلام إذا أراد جمع الناس لما يهمه ويهمهم من أعمالهم أمر منادياً ينادي: الصلاة جامعة فيجتمعون في المسجد لصلاة نهارية غالباً، فإذا انتهت الصلاة صعد المنبر عليه السلام وخطبهم بما يريد آمراً أو ناهياً أو مرشداً أو موجهاً.
والمسجد جامعة للكبار لإلقاء العلوم وتلقيها، فمنها تخرج علماء الصحابة: عمر وعلي وابن عمر وابن العباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأمثالهم رضي الله عنهم.
ومنها تخرج علماء التابعين: سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري وعكرمة وعطاء وعمرة بنت عبد الرحمن وأمثالهم رحمهم الله.
ومن جامعة المسجد تخرج الأئمة المجتهدون: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث والأوزاعي وابن المبارك وابن جبير والسفيانان: الثوري وابن عيينة والحمادان: ابن زيد وابن سلمة وأمثالهم رحمهم الله.
ومن جامعة المسجد تخرج علماء العالم الإسلامي خلفاً بعد سلف في جميع العلوم شرعية ولغوية، دينية ودنيوية، مدينة وعسكرية، ومكاتب الدنيا شاهدة على إمامتهم للعالم في كل علم وفن بما فيها من عشرات الآلاف من الكتب لا يزال أكثرها لم تره آلات المطابع، ولم يستفد بعجائبه وغرائبه ونوادره ناس هذا العصر.
والمسجد مدرسة للصغار لتعلم القراءة والكتابة ومبادئ العلوم وحفظ القرآن الكريم، وكانت مساجد المسلمين في المشرق والمغرب يتخذ جانب منها مدرسة ولا يزال هذا في المغرب الأقصى إلى الآن، وفي قُراه وبَواديه يقال للمدرسة جامع وللجامع مدرسة كأن المسجد والمدرسة كلمتان مترادفتان.
قال ابن حزم وغيره: والتعلم في المسجد للصبيان وغيرهم مباح وفي الحديث النبوي عند أحمد في المسند وابن ماجة في السنن: "من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله".
قال الشوكاني: في هذا الحديث الإرشاد إلى أن التعليم والتعلم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة.
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلقة في المسجد. ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي واقد الليثي: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان وذهب واحد: فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم فقال عليه السلام: ألا أخبركم عن الثلاثة: أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه".
ونقل ابن بطال: الإجماع على أنه يستحب عقد حلق العلم في المساجد.
والمسجد نادٍ لتناشد الأشعار والأدب ودار للندوة والمذاكرة وقد تنصب فيه المنابر لذلك.
ففي صحيح الحاكم وسنن الترمذي عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب لحسان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو الكفار.
وعند البخاري ومسلم: مرّ عمر بن الخطاب في المسجد وحسان بن ثابت ينشد فلحظ إليه عمر فقال حسان: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك – يعني رسول الله – ثم التفت إلى أبي هريرة وقال: أنشُدُك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله يقول: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس. قال: نعم".
وقد مدح كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد بقصيدته الشهيرة التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
نجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه مُنهل بالراح معلول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكي قصر منها ولا طول
إلى أن تخلص لمدح النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
إن الرسول لسيف يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
وعند أحمد في المسند والترمذي في السنن عن جابر بن سمرة شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون ويتناشدون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم.
والمسجد محكمة للحاكم وللفصل بين الخصوم وإنهاء نزاعهم.
في صحيح البخاري: تقاضى كعب بن مالك ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى: يا كعب. قال: لبيك يا رسول الله فقال: ضع من دَينك هذا وأومأ إليه أي: الشطر. قال: لقد فعلت يا رسول الله. قال لابن أبي حدرد: قم فاقضه.
وفي الصحيحين: وقع الحكم بالتلاعن في المسجد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقضى عمر بن الخطاب في المسجد.
وكان شريح وابن أبي ليلى يقضيان في المسجد.
وقال مالك: جلوس القاضي في المسجد للقضاء من الأمر القديم المعمول به.
وقال ابن حزم: والحكم في المسجد والخصام جائز.
ولسنوات خلت كانت جميع مساجد المغرب الجامعة فيها غرفة تسمى: مقصورة القاضي فيها يحكم ويفصل بين الناس وفيها يترافع إليه الخصوم.
أجاز أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت في المسجد بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس لأنه مجمعهم ولابد لهم منه.
والمسجد معتقل للأسرى والخاطئين. في الصحيح بعث صلى الله عليه وآله وسلم خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أُثال فربطوه بسارية من سواري المسجد وكان يمر به ثلاثة أيام في كل يوم يقول له: ما عندك يا ثمامة فيجيب: إن تقتل تقتل ذا دم وإن تطلق تمنن على شاكر فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله.
وأبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري ربط نفسه في عمود من المسجد النبوي تأديباً لنفسه حين استشارته بنو قريظة وهم محاصرون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أن يستسلموا فأشار بيده إلى حلقه: وأنه الذبح. وقال حين ربط نفسه: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت. فقال عنه عليه السلام:"لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بمطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه".
وبعد ست ليال من ربط نفسه في سارية المسجد نزل قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
فبشرته أم المؤمنين أم سلمة بذلك سحراً بعد الأذن النبوي وحاول ناس أن يفكوا رباطه فقال: لا. حتى يطلقني رسول الله بيده. فلما مر عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه.
والمسجد دار للوفود ومثابة لهم مسلمين وغير مسلمين.
قدم على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله وهو بمكة نحو من عشرين نصرانياً من الحبشة وقيل: من نجران، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فدعاهم رسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن ففاضت أعينهم من الدمع واستجابوا إلى الله وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في الإنجيل من أمره.
وأنزل عليه السلام وفد ثقيف في المسجد.
وعند البخاري عن أنس بن مالك: قدم رهط من عكل على النبي صلوات الله عليه وآله فكانوا في صفة المسجد النبوي.
والمسجد دار ضيافة ففيه أضاف عليه الصلاة والسلام وفد ثقيف وعشيرة عكل كما مر آنفاً.
والمسجد ملجأ للفقراء فكانوا يسكنون الصفة من المسجد النبوي، والصفة موضع مظلل في المسجد كانت تأوي إليه المساكين.
وعند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته.
والمسجد مطعم للمساكين كان يقصده المحسنون بالطعام والتمور ليأكل منها المحتاجون والمعوزون.
ففي دلائل النبوة لثابت الأندلسي: أن النبي صلوات الله وسلامه عليه أمر من كل حائط –بستان – بقنو يعلق في المسجد. يعني للمساكين. وكان معاذ بن جبل المشرف على حفظها وقسمتها.
والعذق عرجون النخلة بما فيه من الشماريخ ويجمع على عذاق.
وفي سنن ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث: كنا نأكل على عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في المسجد الخبز واللحم.
والمسجد دار سكن ومنامة لمن لا أهل له ولا مسكن.
لقد مر آنفاً أن أهل الصفة يسكنون المسجد وينامون فيه وعند الشيخين: كانت في المسجد النبوي وليدة آمة سوداء معتقة لها خباء في المسجد تسكن فيه.
وعند البخاري والنسائي وأبي داود وأحمد عن عبد الله بن عمر كنا في زمن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ننام في المسجد ونقيل فيه ونحن شباب.
قال الحافظ: يباح المبيت في المسجد وضرب الخيمة فيه لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة عند أمن الفتنة.
وقال ابن حزم: والسكن والمبيت مباح في المسجد ما لم يضق على المصلين.
والمسجد مستشفى ودار للتمريض.
وعند الشيخين: أن سعد بن معاذ لما أصيب في غزوة الخندق جعله عليه الصلاة والسلام في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها: رفيدة في المسجد النبوي كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كان ضيعة من المسلمين.
والمسجد فيه يعقد النكاح ويعلن ويحضره الناس.
وفي سنن الترمذي: أعلنوا النكاح في المسجد. واحتج أبو عمرو بن الصلاح بهذا الحديث وقال: يستحب عقد النكاح في المسجد.
وفي المغرب الأقصى لا يزال المسجد هو المكان المفضل إلى اليوم لعقد الزواج وإعلانه بدعوة الناس إليه في المسجد.
والمسجد مصنع لصنع آلات الجهاد وإصلاحها.
حكى النووي عن بعض شيوخه: أنه لا بأس بعمل الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة وإصلاح آلات الجهاد مما لا امتهان للمسجد في عملها.
والمسجد بيت مال للمسلمين ولقسمته بينهم.
ففي صحيح البخاري: أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال من البحرين وكان مائة ألف فقال عليه السلام: "أنشروه في المسجد وكان أكثر مال أتى به عليه السلام فقسمه على الناس في المسجد".
وللمسجد مآرب أخرى في الإسلام ومنها: اللهو المباح واللعب بما يعد تدريباً ومراناً على الحرب والقتال.
فعند البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين: جاء حبش يزفنون – يرقصون – في المسجد في يوم عيد فدعاني رسول الله فوضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم بالحراب حتى كنت أنا التي انصرفت.
قال ابن حزم: واللعب والزفن مباحان في المسجد.
وقال الحافظ: لعب الحبشة في المسجد ليس لعباً مجرداً بل فيه تدريب للشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو.
ذكر كل ذلك أمهات كتب السنة صحاحاً وسنناً ومسانيد وبين ذلك شراحها ابن حزم والحافظ والنووي وغيرهم.
ومنذ عهد بعيد في تاريخ الإسلام، منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى عصر المسلمين هذا، أخذ المسلمون: خلفاء وملوكاً رؤساء وأمراء شعوباً وأفراداً أخذوا يقيمون مؤسسات تخفف العبء عن المسجد وتحمل عنه ومعه الكثير من وظائفه.
فشيدوا المدارس والجامعات والمحاكم والمعتقلات ودور الضيافة والملاجئ والمستشفيات والمصحات ومصانع السلاح وبيوت المال.
ومن ذلك أقاموا النوادي للمحاضرات والمسافرات وتوجيه الناس ولتناشد الأشعار وتبادل الآراء وإحياء التراث وإشاعته والاستفادة منه، والاستجمام من عناء المكتب وصخب الشارع ودوامة المتجر وهدير المصنع، ولقاء الناس زملاء وأصدقاء، والتعرف بالناس والتعارف بينهم، ولمآرب أخرى من استراحة مجهد من دار أو مكتب أو متجر.
النّداء الخالد
للشيخ أبي الأعلى المودودي
عن كتاب نظرية الإسلام وهديه في السياسة والدستور والقانون
وهؤلاء المؤذنون اليوم يؤذنون من مآذنهم خمس مرات في كل يوم وليلة وينادون بأعلى أصواتهم "أشهد أن لا إله إلاّ الله ".
وأنت ترى أن الناس على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم يسمعون هذا النداء ولا يقض مضاجعهم لسماعه؛ وذلك أن الداعي لا يعرف إلامَ يدعو الناس؟ ولا الناس يتفطنون إلى ما تضمه الكلمة بين جنبيها من دعوة سامية وغاية جليلة، ولكن لو علمت الدنيا ما يشتمل عليه هذا النداء من غاية بعيدة المدى وأن المنادي ينادي بعزم وإصرار، لانقلبت الأرض غير الأرض وتنكرت الوجوه، وما يدريك كيف تستقبل الدنيا، الدنيا التي رضعت بلبان الجاهلية وترعرعت في مهدها، وهذا النداء إذا عرفت أن المنادي يقول: أن لا أمَلك لي إلاّ الله، ولا حاكم إلاّ الله، ولا أخضع لحكومة ولا أعترف بدستور، ولا أنقاد لقانون، ولا سلطان علي لمحكمة من المحاكم الدنيوية، ولا أطيع أمراً غير أمره. ولا أتقيد بشيء من العادات والتقاليد الجاهلية المتوارثة، لا أسلم شيئاً من الامتيازات الخاصة، ولا أدين لسيادة أو قداسة، ولا أستخزي لسلطة من السلطات المتكبرة في الأرض المتمردة على الحق وإنما أنا مؤمن بالله. مسلم له، كافر بالطواغيت والآلهة الكاذبة من دونه فما يدريك، هل تسمع الدنيا وأهلها هذا النداء فتسكت عليه؟ لا، لا، والله إنها تنقلب عليك عدواً وتتنكر وجوه أهلها لك ويعلنون الحرب عليك بمجرد سماع هذه الكلمة، سواء عليك أردت القتال أم لم ترد، فإنهم يحاربونك لا محالة ويترقبون لك بالمرصاد، وما أن يسمعوا المؤذن يؤذن بهذا النداء الحقيقي، إلاّ وترى الأرض تبدلت غير الأرض وتجد الناس حولك كأنهم تحولوا عقارب وثعابين تريد أن تلدغك، أو انقلبوا وحوشاً ضارية تبتغي أن تنشب مخالبها في بدنك وتفترسك افتراساً.