المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 19 فهرس المحتويات 1- كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي: رئيس - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 19 فهرس المحتويات 1- كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي: رئيس

‌العدد 19

فهرس المحتويات

1-

كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي: رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة عبد العزيز بن عبد الله بن باز

2-

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

3-

رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

4-

أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد

5-

من أعلام المحدثين - أبو حاتم الرازي 195-277هـ: بقلم: الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد

6-

العدوان على بنت عدنان: لفضيلة الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع

7-

المسلمون اليوم: للدكتور طه محمد الزيني

8-

يا ربة البنطلون: للشيخ محمد المجذوب

9-

النظام الإسلامي سيد الأنظمة: بقلم الشيخ السعيد الشرباصي

10-

البحث العلمي وطرائقه عند المدرسين: بقلم الأستاذ عيد عبد الله السيد

11-

صفحات من جهاد الصومال: لفضيلة الشيخ محمد المهدي محمود

12-

المسئولية في الإسلام: بقلم الشيخ عبد الله قادري

13-

يا نفس! : للأستاذ أحمد عبد الحميد عباس

14-

من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة

15-

ألا هبوا للثأر: للشاعر اليمني حسن بن يحي علي

16-

ندوة الطلبة - الله أكبر: للطالب: أحمد عبد الرحمن شميلة

17-

تاريخ الفلبين - جغرافيتها من حيث الموقع والحدود والعاصمة والمدن الهامة والأماكن السياحية

18-

أهازيج للبحر: بقلم الطالب محمد محمود جاد الله

19-

أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة

20-

الفتاوى: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 25

كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي

رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

وبعد فمما لا شك فيه أن أخطر ما تواجهه المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر هو ما يسمى بالغزو الثقافي بأسلحته المتنوعة من كتب وإذاعات وصحف ومجلات وغير ذلك من الأسلحة الأخرى، ذلك أن الاستعمار في العصر الحديث قد غيّر من أساليبه القديمة لما أدركه من فشلها وعدم فعاليتها ومحاربة الشعوب واستماتتها في الدفاع عن دينها وأوطانها ومقدراتها وتراثها حيث أن الأخذ بالقوة وعن طريق العنف والإرهاب مما تأباه الطباع وتنفر منه النفوس لاسيما في الأوقات الحاضرة بعد أن انتشر الوعي بين الناس، واتصل بعضهم ببعض وأصبح هناك منظمات وهيئات كثيرة تدافع عن حقوق الشعوب وترفض الاستعمار عن طريق القوة وتطالب بحق تقرير المصير لكل شعب، وأنّ لأهل كل قطر حقهم الطبيعي في سيادتهم على أرضهم واستثمار مواردهم وتسيير دفة الحكم في أوطانهم حسب ميولهم ورغباتهم وطريقتهم في الحياة وحسب ما تدين به تلك الشعوب من معتقدات ومذاهب وأساليب مختلفة للحكم مما اضطر معه إلى الخروج عن هذه الأقطار بعد قتال عنيف وصدامات مسلحة وحروب كثيرة دامية.

ص: 26

ولكنه قبل أن يخرج من هذه الأقطار فكّر في عدة وسائل، واتخذ كثيرا من المخططات بعد دراسة واعية وتفكير طويل وتصور كامل لأبعاد هذه المخططات ومدى فعاليتها وتأثيرها، والطرق التي ينبغي أن تتخذ للوصول إلى الغاية التي يريد، وأهدافه تتلخص في إيجاد مناهج دراسية على صلة ضعيفة بالدين مبالغة في الدهاء والمكر والتلبيس، ركّز فيها على خدمة أهدافه ونشر ثقافته وترسيخ الإعجاب بما حقّقه في مجال الصناعات المختلفة والمكاسب المادية في نفوس أغلب الناس، حتى إذا ما تشربت بها قلوبهم وأعجبوا بمظاهر بريقها ولمعانها وعظيم ما حققته وأنجزته من المكاسب الدنيوية والاختراعات العجيبة لاسيما في صفوف الطلاب والمتعلّمين الذين لا يزالون في سن المراهقة والشباب اختار جماعة منهم ممن انطلى عليهم سحر هذه الحضارة لإكمال تعليمهم في الخارج في الجامعات الأوروبية والأمريكية وغيرها حيث يواجهون هناك بسلسلة طويلة من الشبهات والشهوات على أيدي المستشرقين والملحدين بشكل منظم وخطط مدروسة وأساليب ملتوية في غاية المكر والدهاء وحيث يواجهون الحياة الغربية بما فيها من تفسح وتبذل وخلاعة وتفكّك ومجون وإباحية.

وهذه الأسلحة وما يصاحبها من إغراء وتشجيع وعدم وازع من دين أو سلطة قلّ من ينجو من شباكها ويسلم من شرورها إلا من عصم الله وهم القليل، وهؤلاء بعد إكمال دراستهم وعودتهم إلى بلادهم وتسلّمهم المناصب الكبيرة في الدولة خير من يطمئن إليهم المستعمر بعد رحيله، ويضع الأمانة الخسيسة في أيديهم لينفذوها بكل دقة بل بوسائل وأساليب أشدّ عنفا وقسوة من تلك التي سلكها المستعمر كما وقع ذلك فعلا في كثير من البلاد الذي ابتليت بالاستعمار أو كانت على صلة وثيقة به.

ص: 27

أمّا الطريق إلى السلامة من هذا الخطر والبعد عن مساوئه وأضراره فيتلخص فيما أقدمت عليه حكومتنا السنية بعد إدراك كامل للمصلحة العامة وتقدير للمسئولية من إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد المختلفة بكافة اختصاصاتها للحدّ من الابتعاث إلى الخارج وتدريس العلوم بكافة أنواعها في المملكة حرصا على سلامة عقيدة هؤلاء الشباب وصيانة أخلاقهم وخوفا على مستقبلهم، وحتى يساهموا في بناء مجتمعهم على ضوء من تعاليم الشريعة الإسلامية وحسب حاجات ومتطلبات هذه الأمة المسلمة، وضيّقت من نطاق الابتعاث إلى الخارج وحصرته في علوم معيّنة لا يتوفر في الوقت الحاضر تدريسها في الداخل.

وإنا لنشكر لحكومتنا السّنية هذا الصنيع وحرصها الشديد على مستقبل الأمة والوطن، وعلى ما حقّقته وأنجزته من المشاريع النافعة والمكاسب الضخمة، ونسأل الله لها مزيدا من التوفيق للأعمال الصالحة والخدمات النافعة للمسلمين، ولكن هذا المقام مع ما ذكرنا يحتاج إلى مزيد من العناية في إصلاح المناهج وصبغها بالصبغة الإسلامية على وجه أكمل، والاستكثار من المؤسسات العلمية التي يستغني بها أبناء البلاد عن السفر إلى الخارج، واختيار المدرسين والمدرسات والمديرين والمديرات، وأن يكون الجميع من المعروفين بالأخلاق الفاضلة والعقيدة الطيّبة والسيرة الحسنة والغيرة الإسلامية والقوة والأمانة؛ لأن من كان بهذه الصفات أمن شره ورجي خيره وبذل وسعه من كل ما من شأنه إيصال المعلومات إلى الطلبة والطالبات سليمة نقية.

ص: 28

أما إذا اقتضت الضرورة ابتعاث بعض الطلاب إلى الخارج لعدم وجود بعض المعاهد الفنية المتخصصة لاسيما في مجال التصنيع وأشباهه فأرى أن يكون لذلك لجنة علمية أمينة لاختيار الشباب الصالح في دينه وأخلاقه، المتشبع بالثقافة والروح الإسلامية، واختيار مشرف على هذه البعثة معروف بعلمه وصلاحه ونشاطه في الدعوة ليرافق البعثة المذكورة ويقوم بالدعوة إلى الله هناك، وفي الوقت نفسه يشرف على البعثة ويتفقد أحوالها وتصرفات أفرادها، ويقوم بإرشادهم وتوجيههم وإجابتهم عما قد يعرض لهم من شبه وتشكيك وغير ذلك.

وينبغي أن تعقد لهم دورة قبل ابتعاثهم ولو قصيرة يدرسون فيها جميع المشاكل والشبهات التي قد تواجههم في البلاد التي يبتعثون إليها ويبيّن لهم موقف الشريعة الإسلامية منها والحكمة فيها حسب ما دلّ عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم مثل أحكام الرّق، وتعدّد الزوجات بصفة عامة، وتعدّد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وحكم الطلاق، وحكمة الجهاد ابتداء ودفاعا، وغير ذلك من الأمور التي يوردها أعداء الله على المسلمين حتى يكونوا على استعداد تام للردّ على ما يعرض لهم من الشبه.

ص: 29

أما عن مجابهة الغزو المتمثل في الإذاعات والكتب والصحف والمجلاّت والأقلام التي ابتليت بها المجتمعات الإسلامية في هذا العصر وأخذت تشغل أكثر أوقات المرء المسلم والمرأة المسلمة رغم ما تشمل عليه في أكثر الأحيان من السم الزعاف والدعاية المضلّلة والأدب الرخيص والصور العارية والدعوة إلى الفساد، فأرى أن من أهمّ علاج ذلك أن تهتمّ الدولة الإسلامية لاسيما حكومتنا السنية بإيجاد هيئة من أهل العلم والبصيرة والغيرة على الإسلام والثقافة الواسعة وتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة والدعوة إلى الإسلام والرّد على الغزو الثقافي المنظّم وكشف عواره وتبيين زيفه حيث أن الأعداء قد جنّدوا كافّة إمكاناتهم وقدراتهم، وأوجدوا المنظّمات المختلفة والوسائل المتنوعة للدسّ على المسلمين، فلابد من تفنيد هذه الشبهات وعرض الإسلام عقيدة وتشريعا وأحكاما وأخلاقا عرضا شيِّقا صافيا جذّابا بالأساليب الطيّبة العصرية المناسبة، وعن طريق الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، فهو الدين الكامل الجامع لكل خير، الكفيل بسعادة البشر وتحقيق الرقي الصالح والتقدم السليم والأمن والطمأنينة والحياة الكريمة والفوز في الدنيا والآخرة.

ص: 30

وما أصيب المسلمون إلا بسبب عدم تمسّكهم بدينهم كما يجب، وعدم فهم الأكثرين لحقيقته، وما ذلك إلا لإعراضهم عنه وعدم تفقههم فيه وتقصير أكثر العلماء في شرح مزاياه وإبراز محاسنه وحكمه وأسراره، والصدق والصبر في الدعوة إليه وتحمّل الأذى في ذلك بالأساليب والطرق المتبعة في هذا العصر، ومن أجل ذلك حصل ما حصل اليوم من الفرقة والاختلاف وجهل الأكثر لأحكام الإسلام والتباس الأمور عليهم، ومعلوم أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، والذي صلح به أولها هو اتباع كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام كما قال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وقد وعدهم الله سبحانه على ذلك النصر المبين والعاقبة الحميدة كما قال سبحانه وهو أصدق القائلين {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقال سبحانه:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، وقال سبحانه: {يَا

ص: 31

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولما حقّق سلفنا الصالح هذه الآيات الكريمة قولا وعملا وعقيدة نصرهم الله على أعدائهم ومكّن لهم في الأرض ونشر بهم العدل ورحم بهم العباد وجعلهم قادة الأمة وأئمة الهدى، ولما غيّر من بعدهم غيّر عليهم كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

فنسأل الله سبحانه أن يردّ المسلمين حكومات وشعوبا إلى دينهم ردّا حميدا، وأن يمنحهم الفقه فيه والعمل به والحكم به، وأن يجمع كلمتهم على الحق ويوفقّهم للتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه إنه سميع قريب وصلى الله وسلّم على نبينا وسيدنا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان.

ص: 32

مناهج البحث العلمي وطرائقه عند المدرسين

بقلم الأستاذ عيد عبد الله السيد

خبير مكتبة الجامعة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير البشر أجمعين، محمّد بن عبد الله الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.

رب الوجود ملكك، والقدر حكمك، والقلوب خزائن محبتك، خلقت الموت والحياة ابتلاء لنا، وجعلت العلم أقدس ما في الحياة، فنزلت أول سورة في القرآن على أشرف إنسان تقول:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . وبعد:

فالعلم منهج وطريقة وأسلوب، وتحصيل العلم يتم بطرائق متعددة أشهرها التلقين والتعليم الذاتي، وكلتا الطريقتين تعتمدان اعتمادا أساسيا على الكتاب، فالكتاب هو الأستاذ الدائم للباحث بعد أن تنقطع علاقته بكل أساتذته من البشر، وقد عرف الإسلام الحنيف قيمة الكتاب فأطلق اللفظ على القرآن الكريم باعتباره مجمل المعرفة الإنسانية ومفتاحها والدافع إليها {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} وتتعدد لفظة (الكتاب) في القرآن الكريم مرادا منها كلام الله تعالى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة من السور والآيات البينات.

ص: 33

ومن وحي هذه الكلمات التامات الخالدات الباقيات الواردات في كتاب الله كان البحث العلمي الموضوعي في مختلف فروع المعرفة الإنسانية الذي كان نتاجه العلمي تراثا إسلاميا ضخما خالدا باقيا، وحضارة إسلامية بحتة أصلية ليست مقتبسة وليست منقولة عن غيرها من حضارات، حضارة لها من صفات الاستقلال والمرانة ما جعلها تفوق غيرها من حضارات بل وتحتويها وتجعلها أثرا دارسا، فبظهور الحضارة الإسلامية انتهت الحضارة الفارسية وحضارة الرومان الوارثة الفعلية للحضارة اليونانية القديمة، وكانت الغلبة لحضارة القرآن، حضارة الإسلام.

وخلاصة القول أنه إذا كانت قوة الدعوة الإسلامية في قلوب رجالات الإسلام الأوائل قد مكّنت للفتوحات الإسلامية في بلاد الشام وفارس ومصر وبلاد المغرب والأندلس أي ما يعرف اليوم بمنطقة الشرق الأوسط تقريبا بالإضافة إلى أجزاء من آسيا وأوربا فإن حضارة القرآن الكريم قد شملت كل هذه الأقاليم، إنّ القرآن كمصدر ومنهل للعلم والعرفان قد فتح أمام الباحثين كل أبواب المعرفة الإنسانية. وإن الثقافة والحضارة التي لازمت الإسلام وعرفت باسمه لم تخلق في فراغ ولم تنشأ من عدم، فأصلها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بدأت بجمع القرآن الكريم في أيام الخليفة الأول أبي بكر الصديق في رقاع وعسف وشقاف ثم دوّنت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان في مصحف موّحد وزّعت نسخه على الأقاليم والأمصار.

وقد خشي المسلمون الأوائل أن يقع اللحن في قراءة القرآن بسبب اتساع الدولة الإسلامية واعتناق الموالي للإسلام، فابتدعوا النقط والشكل والإعجام، وابتكروا قواعد النحو والصرف بل ووضعوا القواميس العربية والمعاجم اللغوية لمعرفة معاني الكلمات ومشتقاتها ومترادفاتها رغبة في إيضاح الغامض من آيات التنزيل وتيسيرا على المشتغلين بالتفسير تأكيدا لقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

ص: 34

كذلك اقتضى النظر في معاني القرآن الكريم ظهور علم التفسير وأصول هذا التفسير أي القواعد والشروط اللازمة له، وهكذا الحال بالنسبة لبقية ما يسمى بالعلوم الإسلامية كالتشريع وتاريخه، والفقه وأصوله ومذاهبه، والحديث ومدارسه ورجاله، والمحدثين والرواة والمؤرخين، وكتاب السير والملاحم والأدباء والقراء، وغير ذلك من معارف وعلوم إسلامية ليس هنا مجال الإفاضة فيها.

ومجمل القول أن الإسلام وهو دين الآخرة والأولى قد حث أتباعه على النظر في شئون دنياهم بقدر اهتمامهم بآخرتهم فكان من بين المسلمين علماء أفذاذ في الطب والفلك والتنجيم والكيمياء والطبيعة والفلسفة الإسلامية، أو ما يسمى بعلم الكلام والتصوف والجغرافيا والاجتماع والفن والعمارة وغير ذلك من شئون علمية فيما عدا الرسم والتصوير لما فيهما من أمور قد يضلّ بها العامي حديث العهد بالوثنية، وقد اشتهر من بين علماء المسلمين في مختلف العلوم غير الدينية علماء أفذاذ منهم ابن سينا والفارابي وابن رشد والحسن بن الهيثم والبيروني وابن بطوطة وابن جبير وابن خلكان وابن خلدون وغيرهم كثيرون ممن كانوا في زمانهم دوائر معارف بشرية.

ولقد اعتمدت الحضارة الأوربية الحديثة باعتراف علماء الغرب أنفسهم على ثقافة المسلمين وحضارتهم اعتمادا كليا في وجودها وتقدّمها، بل لقد اعتمدت حركة الكشوف الجغرافية على الفلكيين من المسلمين، وقامت جامعات أوربا الشهيرة على أكتاف العلماء المسلمين، وبها درست كتبهم ومصنفاتهم العلمية، ولا تزال أمهات هذه الكتب لأمثال هؤلاء العلماء محل رعاية المكتبات الأوربية وعنايتها حتى اليوم.. ولكن.

ص: 35

كيف كان العربي والمسلم يتلقى العلم؟ وما هي طريقة التربية والتعليم في الإسلام؟ كيف كان يعد الباحث الإسلامي؟ وما هي المناهج العلمية التي اتبعها علماء المسلمين الأوائل؟ وما الفرق بينها وبين المناهج العلمية المعاصرة؟ نقول: من المؤكد أن العرب قد عرف لديهم الكثير من المؤسسات العلمية أشهرها:

1-

المدارس.

2-

الكتاتيب.

3-

المساجد.

4-

مجالس المناظرة.

5-

المكتبات.

ذهب الذهبي إلى أن نظام الملك هو أول من أنشأ المدارس، ومن أشهرها مدرسة بغداد ومدرسة بلخ، وربما عرفت المدارس قبل نظام الملك كما جاء على لسان السبكي والسيوطي وغيرهما إذ يذكرون أن المدرسة البيهقية بنيسابور كانت قبل أن يولد نظام الملك، ويقول المقريزي:"إن المدارس شيء مستحدث في الإسلام وأنها لم تكن قائمة زمن الصحابة والتابعين"، وقبل المدارس وجدت معاهد أشهرها:

1-

الكتاب: وهو لغة موضع التعليم، وتجمع كتاتيب ومكاتب، قال المبرد:"المكتب موضع التعليم، والمكتب المعلم".

وقد روى الجاحظ في البيان والتبيين أن من أمثال العامة "أحمق من معلم الكتاب"وبعض المكاتب كان لتعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، وبعضها كان يعلّم اللغة العربية كذلك، وبعض المعلّمين كانوا يعلّمون حسبة لا يسألون على تعليمهم أجرا، وقد يقع في الكتاب ضرب وحبس للصبي كوسيلة لتعليمه، ولا زال الكتاب يقوم برسالته في كثير من البلاد العربية كما نعلم حتى الآن.

ص: 36

2-

المسجد: وكان أكبر معهد للدراسة في يوم من الأيام، إذ كان مكانا للصلاة والخطابة والتقاضي، ومعهدا للدراسة، فالحرم النبوي والمكّي ومسجد عمرو في مصر ومسجد البصرة والكوفة والجامع الأزهر وغيرها من المساجد كانت تقوم مقام المدارس والجامعات في العصور الإسلامية الزاهرة، وبخاصة في عصر الصحابة وزمن خلفاء بني أمية، كما كان الخلفاء والأمراء والأغنياء يتخذون لأولادهم معلّمين خصوصيين، فالكسائي كان يؤدب الأمين بن هارون بن الرشيد على حد قول ابن خلّكان.

3-

مجالس المناظرة: وهي عبارة عن مجالس علم كانت تقام في الدور والقصور والمساجد بين العلماء وفي حضرة الخلفاء، في الفقه والنحو والصرف وغير ذلك من علوم، وقد عقد السيوطي فصلا في كتابه (الأشباه والنظائر) في المناظرات والمجالسات والفتاوى والمكاتب والمراسلات.

وكان للخلفاء مجالس مناظرات كثيرة لاسيّما المأمون، وقد ورد في تاريخ بغداد الكثير عن مجالس العلم، وربما كان لهذه المناظرات أثرها البالغ في رقيّ العلم وتقدّمه إذ أنها حفّزت بلا شك العلماء للبحث والدراسة في أمهات الكتب.

ص: 37

4-

المكتبات: روى ابن النديم: قال أبو معشر في كتابه (اختلاف الزيجات) : "إن ملوك الفرس بلغ من عنايتهم بصيانة العلوم وحرصهم على بقائها على وجه الدهر إن اختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث وأبقاها على الدهر". ولقد كانت هذه الكتب التي تحدث عنها ابن النديم وبركلمان المستشرق الألماني أساسا لكتب تنقل إلى اللغة العربية منذ العصر الأموي، ولقد اتسعت المكتبات الإسلامية في العصر العباسي حتى إن هذا العصر يُعدّ بحقّ عصر الموسوعات العلمية والمكتبات الإسلامية، ولقد ساعد على ذلك اتساع حركة التأليف والترجمة وتقدم صناعة الورق التي هي أساس صناعة الكتاب، ومن أشهر مكتبات ذلك العصر (خزانة الحكمة) أو (بيت الحكمة) في بغداد، ولكن هل كانت مكتبة فقط؟ أم مكتبة ومعهدا مرصدا؟ وأين مكانها؟ وهل أنشأها الرشيد أم المأمون؟ وما نظامها؟ وماذا كان بها من أعمال؟ كل هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابة وليس المجال مجال ذلك الآن، ولكن يبدو أن هذه المكتبة كان فيها مكان لنسخ الكتب فلم تكن الطباعة قد عرفت بعد، ومكان للترجمة إلى اللغة العربية، وكان بالمكتبة رئيس للمترجمين ومساعدون، وكان لها مدير وأعوان، وكان فيها مجلّدون إذ يقول ابن النديم:"إن ابن أبي الجريش كان يجلّد في خزانة الحكمة للمأمون"، ولقد بقيت هذه المكتبة إلى عهد ابن النديم ونقل عنها.

ولقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية "كانت أول مكتبة عامة هي مكتبة دار الحكمة التي أنشأها المأمون في بغداد وجمع لها الكتب اليونانية من الإمبراطورية البيزنطية وترجمت إلى العربية، وكانت المكتبة تحوي كل العلوم التي اشتغل بها العرب وقد ظلّت إلى مجيء التتار سنة 656هـ".

كما عرفت المكتبات زمن الخلافة الفاطمية وعند خلفاء بني أمية في الأندلس، وعن طريق محتويات هذه المكتبات كانت الحضارة الأوربية الحديثة.

ص: 38

ومهما يكن من أمر فإن المسلمين لم يأخذوا في الغالب بالمراحل المتعددة للتعليم وإنما كان لديهم مرحلة واحدة تبتدئ في الغالب بالكتاب أو المدرس الخصوصي المعلم أو المؤدّب، وتنتهي بأن تكون له حلقة في المسجد، ولم يكن هناك منهج محدد للتعليم بالنسبة لكل عام دراسي بل ولم يكن عندهم إلزام بالنسبة للدراسة، فالدارس له مطلق الحرية في أن يحضر حلقة فقه أو حديث أو تفسير أو لغة أو غير ذلك، وكان التعليم حرّا لا تنفق عليه الدولة، فالطالب والعالم يقومان بالعملية التعليمية بمحض رغبتهما دون تدخل من أحد، وقد يدفع الطالب أجرا لأستاذه وربما تعلّم حسبة لله تعالى إذ كثيرا ما كان العلماء يتكسبون رزقهم من طريق آخر غير التعليم، ولم يكن هناك درجات علمية تعطى للدارس بعد إتمام دراسته، وقد اختلفت مناهج التعليم باختلاف الغرض من التعليم، فمنهج من يريد أن يصير كاتبا غير منهج من يرغب أن يكون فقيها أو باحثا في اللغة أو مؤرخا وهكذا.. وباختصار كانت المناهج متشعبة متروكة لاختيار الطالب ورأي العالم، وقد اعتقد علماء المسلمين أن طلب العلم جهاد، فمن مات في سبيله مات شهيدا، فكانوا يقصدون العلم لذاته، وربما كان حرصهم على تحصيله أقوى من حرصهم على الحياة.

فلا غرو أن رأينا هذا الأسلوب الرائع في التربية والتعليم يخرج في مختلف الأمصار الإسلامية علماء أفذاذا فحولا من أمثال ربيعة الرأي والواقدي ومالك في المدينة، وسفيان ابن عيينة في مكة، وأبو حنيفة وأبو عبيدة والفراء والكسائي في العراق، والليث ابن سعد والشافعي في مصر والأوزاعي بالشام.

هذا عدا ما عرف بالشام من حركة طبية، ذكر ابن أبي أصيبعة في كتابه (معجم الأطباء) كثيرا من أسمائهم وكذلك الحال بالنسبة لكل العلوم والمعارف الإنسانية التي ذكرها الفارابي في كتابه (إحصاء العلوم) .

ص: 39

ولعلّي بهذا العرض الموجز أكون قد أجبت على كثير مما أثرت من تساؤلات، ويبقى سؤال معلّق هو ما هي مناهج البحث التي استخدمها المسلمون في أبحاثهم؟ وما مدى توافقها مع المناهج الحديثة المستخدمة في البحث العلمي؟

فطن العرب إلى استعمال جميع الطرق المستخدمة في البحث العلمي فقرّبوا المنطق التقليدي وعرّبوه واستخدموه وتوسعوا في القياس، وأدخلوه في دراستهم للعلوم الدينية كأصول الفقه وغير ذلك، كما استخدموا أيضا المنهج الرياضي واستخدموا الرموز ووضعوا قواعد الجبر، بل إن لفظة الجبر في اللاتينية مأخوذة عن العرب وعرفوا الهندسة وابتكروا فيها وأضافوا إليها، وإن الآثار المعمارية الإسلامية خير شاهد على ذلك.

أمّا عن الاستقراء الذي نسب ظلما وزورا إلى علماء الغرب من أمثال فرسيس بيكون وغيره فإنه كان معروفا عند علماء الطبيعة والكيمياء المسلمين، ولقد استخدم المسلمون الآلات العلمية في أبحاثهم، وعرفوا الملاحظة والمشاهدة والتجربة وطبقوها تطبيقا علميا في أبحاثهم.

أمّا عن علم الاجتماع الذي قيل عنه إنه علم أنشأه الأوربيون فإن ابن خلدون العالم المسلم هو المؤسس الحقيقي لهذا العلم وإن سماه (علم العمران) .

ويمكن القول باطمئنان أنه لا يوجد شيء من المعارف الإنسانية إلا وللمسلمين فيه بحث أو تطوير أو إضافة أو إحاطة ومعرفة، ولقد استخدم المسلمون في أبحاثهم العلمية المنطق القديم والمنطق الحديث على حد سواء، فلم يظنوا كما ظن مفكرو العصور الوسطى من الأوربيين أن أرسطو قد وضع النظرية النهائية لقواعد الاستنتاج، ولكنهم اهتدوا إلى أسلوب هام من أساليب التفكير هو ما يطلق عليه الآن اسم الاستقراء، وعرفوا المنهج الرياضي الذي يعتمد على المسلّمات والبديهيات، وعنهم نقل بيكون منهجه العلمي لأنه تتلمذ على علماء المسلمين. [1]

ص: 40

وإنّ المطّلع على علوم المسلمين في الكيمياء وشغفهم بدراستها يعلم أنهم هم الذين وضعوا التجربة في علوم الطبيعة، هذا ولم يفصل المسلمون بين المناهج العلمية في أبحاثهم ولكنهم كانوا يستخدمونها حيث يجب أن تستخدم، فلم يقولوا كما قال ديكارت إن المنهج الرياضي يصلح دون غيره لجميع أنواع العلوم، بل آمنوا بكل طريقة وأسلوب يوصل إلى نتائج صحيحة ما دام هذا الأسلوب يتفق مع العقل البشري، ولعلهم عرفوا أن قواعد البحث العلمي يمكن أن يهتدي إليها الباحث عفوا في أثناء محاولته الكشف عن بعض الحقائق، كذلك لم يغفل المسلمون معرفة منهج البحث في التاريخ وربما طبق هذا المنهج على معظم العلوم الإسلامية فعرفوا التحليل والتركيب أي جمع المادة العلمية من الكتب والوثائق والمخطوطات ثم نقدها وتمحيصها، وبيان مدى قيمتها، ثم تحديد الحقائق التي توصل إليها وعرفوا كذلك كيف يصنفون الحقائق الجزئية، واستخدموا الفروض وحاولوا تحقيقها، وعرفوا الصلات بين أجزاء البحث وأبرزوا ما خفي منها، وتحدثوا عن العلل والأسباب، وقد اهتم علماء المسلمين بنقد الرواة وتمحيص طرقهم في النقد وبخاصة ما يتعلق منها بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد حدد ابن خلدون قواعد البحث في التاريخ والعلوم الإسلامية، وللسخاوي رسالة رائعة بعنوان:(الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) .

وعن هذه المناهج العربية نقل علماء الغرب مناهجهم وطوّروها وأكثروا من استخدامها.

والخلاصة أن البحث العلمي صار يستخدم الآن من المناهج ما يتفق وطبيعة العلم، فالمنهج الرياضي والمنطق والاستقراء ومنهج علم الاجتماع والمنهج التاريخي هي المناهج العلمية السائدة في العصر الحاضر، وقد رأينا أنها في الأصل مناهج كان يستخدمها المسلمون في عصر مجدهم العلمي.

مصادر يمكن الرجوع إليها:

1-

دائرة المعارف الإسلامية.

2-

المنطق الوضعي

زكي نجيب محمود.

ص: 41

3-

المنطق الحديث ومناهج البحث.

محمود قاسم.

4-

إحصاء العلوم.

الفارابي.

5-

ضحى الإسلام.

أحمد أمين.

6-

معجم الأطباء.

ابن أبي أصيبعة.

7-

الأشباه والنظائر.

السيوطي.

8-

الفهرست.

ابن النديم.

9-

البيان والتبيين.

للجاحظ.

10-

قصة الحضارة - مترجم

ول ديورانت.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، الطبعة الرابعة هامش صفحتي 22 و 23.

ص: 42

صفحات من جهاد الصومال

لفضيلة الشيخ محمد مهدي محمود

الله أكبر الله أكبر..

الله أكبر الله أكبر..

أشهد أن لا إله إلا الله..

أشهد أن لا إله إلا الله..

أشهد أن محمدا رسول الله..

أشهد أن محمدا رسول الله..

حي على الصلاة..

دوي هذا الصوت الجميل المبارك من فوق مئذنة مسجد بربرة ببلاد الصومال ينادي الناس لصلاة الفجر وتسبيح الخالق جل وعلا، فقد انسلخ الليل وانبلج الفجر وبدت تباشير الصباح، وأذنت الديكة، وغردت البلابل، وشقشقت العصافير، وغنت الطيور مسبحة بحمد الله المنعم على الكون فتجاوب مع تسابيح الكون بذكر الله وتوحيد ذي الجلال والإكرام، والكرامة التي تأبى الذل والعار، منادي السماء وداعي التوحيد، الله أكبر الله أكبر، ولكن هذا الصوت الملائكي العذب الجميل.. لم يعجب ذلك القسيس الإنجليزي.. الذي جاء من بلاده.. ليدرس عقائد أهل الصومال وعاداتهم ولغاتهم، ولينقلهم من دينهم لدين آخر يرتضيه المستعمرون! فسرعان ما أخرج مسدسه وصوت رصاصات طائشة على منادي السماء، وهو يدعو الناس إلى عبادة الرحمن، إن القسيس يطلق الرصاص في وحشية وجنون على المؤذن الأعزل بحجة أنه قطع عليه نومه وأحلامه الجميلة البراقة..

نزل المؤذن صارخا مستنجدا بأهل الصومال.. مستحثا فيهم العزة الإسلامية، والنخوة، والمروءة، والهوان، وسرعان ما دوي صوت النجدة بين أبناء البلاد وشجعانهم، واجتمعت الجماهير، وتعالى صوت العزة والحرية: الجهاد!!! الجهاد!!! الجهاد!!!

ص: 43

بيد أن الأنظار تتجه دائما نحو مركز البطولة الحقة، نحو القيادة التي تفنى في خدمة الشعوب في إخلاص وتقوى، وخوف من الله، فها هو ذا بطل الصومال يتزعم الجماهير ويقود الثورة ضد الإنجليز وأذنابهم، إنه العالم المجاهد: الشيخ محمد عبد الله حسن، ولد رحمه الله عام 1273هـ الموافق 1856م في قبائل الأوجادين، ولما شب وترعرع حرص والده رحمه الله على تعليمه القرآن وجدّ في التحصيل، ورحل إلى بربرة وهو في حداثة سنه، ثم لازم العلماء ينشر العلم والدين، ثم سافر إلى الحجاز لتأدية فريضة الحج، ولمقابلة علماء الحرمين الشريفين والأخذ عنهم، ولما عاد إلى الصومال ذاع صيته، وأقبل عليه طلاب العلم والمعرفة يرتشقون من منهله العذب، فكان رحمه الله يقسم وقته بين:

أ- إفادة الطلاب.

ب- وعظ الجماهير.

ج- تأليف الكتب.

إلى أن دوي صوت الجهاد، وحانت ساعة البطولة الخالدة، فنزل إلى الميدان مستمدا العون من الله العلي القدير على منازلة الأعداء، أعداء الله والإنسانية، والوطن، لقد سارع في إصدار إعلان الجهاد المقدس إلى شعب الصومال يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله.

فقرات من وثيقة إعلان الجهاد المقدس:

ص: 44

"بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين على أمور الدنيا والدين

إن أجل طاعة الله نصرة دينه وجهاد أعدائه

وقد جاء الإنجليز إلى بلادنا، وليس لهم غرض إلا إذلالنا وإفساد عقيدتنا، ونشر الإلحاد في أوطاننا، والسكوت على أمر كهذا معناه الرضا بالكفر، وعذاب الكفر لا يحل على القوم الكافرين

أعظكم أن تقوموا بواجبكم الديني وأن تدافعوا شر هؤلاء قبل أن يستفحل الداء ويعز الدواء

إن علماء الكفار غزوكم في بلادكم.. يريدون إفساد دينكم.. معتمدين على حماية حكوماتهم، وما لديها من سلاح وعتاد.. فحسبكم من سلاحكم إيمانكم بالله وقوة عزيمتكم فلا ترهبوا جنودهم ولا كثرة سلاحهم، فالله أقوى منهم وأكثر جندا، وكونوا صابرين على الشدائد موطنين النفس على طول الجهاد في سبيل الدين والعقيدة

وإذا رأيتم من المسلمين من يعين عليكم الكفار بأن دلّوهم على الطرق أو أماكن المياه أو كانوا لهم عيونا وجواسيس فاقتلوهم حيث وجدتموهم فليسوا بمسلمين قال عليه الصلاة والسلام: "من حمل علينا السلاح فليس منا".

أعلن جهادي أنا ومن اتبعني على الحكومة الإنجليزية وأعوانها مستعينا بالله.. وإني لأرجو أحد الفوزين: أن أموت شهيدا أو أطهّر البلاد من درن الكفار والله ولينا وهو حسبنا ونعم الوكيل".

ص: 45

ومن ثنايا هذه الوثيقة التاريخية الهامة نلمس مدى ما كان عليه الشيخ رحمه الله من قوة الإيمان وصفاء العقيدة وحب الاستشهاد في سبيل الله مع ما تحلّى به من الشجاعة وقوة الرأي وصفاء العقل ونور البصيرة، ويظهر ذلك في وضوح في هذه النقاط الحيوية التي تحدث عنها والتي شملت الناحية الدينية والحربية والسياسية، أعلن رحمه الله الجهاد على الإنجليز ومن تحت حمايتهم وأخذ للأمر عدته، وجمع الصوماليين من مختلف أقسام الصومال واستحثهم على القتال، وتخليص أوطانهم من أدران الإنجليز، وبنى أكثر من أربعين حصنا أودعها الذخائر والمؤن التي جمعها، وصنع فيها صهاريج لحفظ المياه، وأنشأ قلاعا في داخل الأوجادين، وقسّم الجيش إلى فرق متناسبة بطريقة تكفل له النصر وتحقق الظفر، فألّف فرقا خاصة من العلماء وزعماء القبائل ممن عرفوا بالشجاعة وقوة الشكيمة وأعدّها لقتال الفرق الإنجليزية الخالصة، كما ألّف فرقا أخرى من الصوماليين غير من تقدموا لمقاتلة جنود المستعمرات وغيرهم الذين يجلبهم الإنجليز لهذه الحرب ويجعلونهم وقودا للدمار وضمانا لتوفير المواد الغذائية للجيش، أصدر أمره رحمه الله إلى الزراع بالاجتهاد والتوسع في الزراعة ليكثر محصولها وتكفي مؤونة الجند وأهل البلاد، وقد أبدى في هذه الحرب من ضروب الشجاعة والدعاء في القتال ما أقضّ مضاجع المستعمرين وكلّفهم الكثير من الأموال والرجال طيلة خمسة وعشرين عاما كان النصر فيها معقودا بلوائه، مع قلة رجاله وضعف عدته وكثرة عدوه وقوة أسلحته، فلم تستطع أنجلترا وهي في عنفوان طغيانها واستبدادها أن تنال منه في قليل أو كثير، فتعهدت له كتابة بما كان قد طلب تغييره مما يتنافى مع الدين، ولكن نفسه العالية رحمه الله أبت إلا إخراج الإنجليز الذين دنّسوا البلاد برجسهم وكفرهم.. وهنا تلجأ قوى الاستعمار إلى التكتل.. وتحارب الشيخ من كل الجهات فتتعاون الجيوش الإيطالية- الحبشية في ذلك الوقت - على هدم

ص: 46

هذا الطود الشامخ..

ويلجأ الإنجليز في محاربة الإمام المجاهد العظيم إلى كل الوسائل الاستعمارية التي أتقنوها ومارسوها في كل العصور محاولين إطفاء هذا القبس المضيء لأبناء أفريقيا عامة طريق النور والخير والحرية في ظل الإسلام العظيم، وكانت السلطات الحبشية الإيطالية جادة في مطاردته والقضاء عليه وقويت شوكة خصومه، وكانت سنه قد تقدمت فأخذ ينتقل من مكان إلى آخر حتى انتقل إلى رحمة الله ورضوانه، ودفن في مكان من الصومال الأوجادين لا يعرفه إلا خاصة أصدقائه، وحاول أعداؤه العثور على جثته فلم يهتدوا إليه، وبقي تاريخ جهاده بين أبناء الصومال جميعه يتناقلونه بالفخر والإعجاب.

ترجم له الأجانب ولقّبوه بأسد الصحراء، ولم يترجم له المؤرخون العرب بعد إلا ما كتبته بعثة الأزهر في بلاد الصومال وأرتيريا وعدن والحبشة عام 1368هـ بقلم الشيخين (عبد الله المشد) ، والمرحوم (محمود خليفة) في تقريرهما القيم الذي رجعنا إليه في كتابة هذا المقال، ولعل الله سبحانه وتعالى يوفق أبناء الجامعة الإسلامية من الطلاب الصوماليين إلى جمع تراث الشيخ رحمه الله، وإبراز حياته في صورة واضحة مشرقة كي تكون حياته مدرسة لأبناء أفريقيا عامة، وليقفوا صفا واحدا أمام هذه الحروب الوحشية البربرية التي لا زال الغرب المستعمر يشنها على أبناء أفريقيا لسلب حرياتهم وتغيير دينهم.. والاستيلاء على خيرات بلادهم، وقد ظهر ذلك في وضوح في مأساة نيجيريا التي راح ضحيتها المرحوم أحمدو بيللو رحمه الله رحمة واسعة.

ص: 47

وكذا مأساة الكونغو وجنوب السودان وجنوب أفريقيا الخ، ولنا في بطل التضامن الإسلامي الملك فيصل حفظه الله خير قائد في العصر الحديث إلى حياة العزة الإسلامية في ظل نور الله تبارك وتعالى تحت راية القرآن الكريم وهدايته، ولعل وزراء المعارف والثقافة والإعلام يحرصون على جمع تراث هذا الشيخ المجاهد وتقديمه للمكتبة الإسلامية كي ينتفع به الجيل ويقبل على الارتشاف من مناهله الشباب الإسلامي في أفريقيا خاصة فيكون قدوة حسنة لحياة الجهاد والكفاح وحصانة لهم من التردي في مهاوي الغزو الفكري العنيف.

أما بعد:

فهل نرى لأبناء أفريقيا عامة وأبناء الصومال خاصة نشاطا قويا بنّاء ضد الاستعمار وأذناب الاستعمار الذين تثقفوا بثقافات استعمارية ضالة مغرقة في الكفر والضلال والانحراف فراحوا يتهافتون على المبادئ المنحرفة منخدعين بهذا السراب الكاذب.. لقد توالت الأنباء عن دولة الصومال الإسلامية التي سعدت بنور الإسلام وهدايته، وظلت فترة طويلة من الدهر قلعة من قلاع الإسلام وحصنا حصينا لتعاليم الإسلام.

توالت الأنباء - والحسرة تدمي قلوب المؤمنين -بأن الاتجاه الجديد في جمهورية الصومال إلى بناء المجتمع الصومالي على أسس الاشتراكية العلمية الماركسية، واستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية، هذا الاتجاه الذي ينافي العقيدة الإسلامية، وتقاليد الشعب الصومالي المسلم الذي ظلّ وفيّا للإسلام رغم ضغوط الاستعمار.

يا شعب الصومال إن تاريخك المشرق.. في جهادك في نشر الإسلام العظيم المبارك، يسمو بك عن التردي في مهاوي هذا الظلام وهذا الضلال.. لقد عرف العالم كله الفشل الواضح للمبادئ الماركسية في كل الميادين، وهاهو الاتحاد السوفيتي يتراجع في خزي وذل وهوان عن نظريات ماركس الرئيسية.

ص: 48

لقد اعترف الاتحاد السوفيتي بأنواع من الملكية الخاصة، وبالوراثة وبالحوافز المادية، لقد فشلت الاشتراكية العلمية في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية ونجحت في سلب الحريات العامة، وإذلال الشعوب، وسفك الدماء، وقتل الأبرياء، وتشريد الأحرار، وتعذيبهم في السجون والمعتقلات بالوسائل التي تنم عن الوحشية والإجرام الذي لم يعرف التاريخ له مثيلا إلى في تاريخهم المظلم المغرق في الظلم والظلام والضلال المبين.

وهذه نتيجة طبيعية.. إذ إن الشيوعية لا تعترف بدين، ولا بخلق، ولا بحساب وبعث، إنها كفر وضلال وإلحاد.. إن أصولها خبيثة، إن نباتها سام، إنها شجرة الزقوم، إن الشيوعيين حيوانات سائمة فقدوا إنسانيتهم وفقدوا كرامتهم، فهم عبيد مسخرون لعبادة أشخاص أصحاب مبادئ ضالة أردتهم في أسوأ نهاية ثم لهم جهنم وبئس المصير.

يا علماء الصومال، يا أبناء الجامعة الإسلامية أعيدوها إسلامية واضحة مشرقة السنا والسناء، وجاهدوا في العمل بالحكم بكتاب الله حتى تنعم البلاد بنعمة الهدوء والاستقرار، واحرصوا على نشر اللغة العربية، وجعلها اللغة الرسمية للبلاد، حتى تظل الصلة وثيقة بالقرآن الكريم، والسنة النبوية، والتراث الإسلامي العظيم، والاخوة الإسلامية مع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، طهّروا البلاد من آثار الغزو الثقافي في ميادين التعليم، وفي أجهزة الإعلام عامة، وفي ثقافة المرأة والمحافظة على تقاليدها الإسلامية المباركة، مع الحرص على رعاية الشباب من الانحراف.

يا أبناء الصومال.. أعيدوها إسلامية واضحة نيرة، وإن مصادر النور والخير والسعادة والهداية والفضيلة والشرف والعزة والنصر، تتمثل هذه المصادر في:

أ- كتاب الله، وكتاب الله هو النور الخالد.. وفي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فالرسول صلوات الله وسلامه عليه هو الهادي الأمين إلى نور الله المبارك.

ص: 49

ب- وفي ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم فهم ورثة النور المحمدي.

وفق الله المسلمين إلى أسباب عزهم ومجدهم، هذا وبالله التوفيق.

ص: 50

المسئولية في الإسلام

بقلم الشيخ عبد الله قادري

المشرف الاجتماعي بالجامعة

بقية الأقارب

المؤمنون كلهم مهما اختلفت أنسابهم وتباعدت أوطانهم يعتبرون بمنزلة الأشقاء، بل المؤمن البعيد النسب أحق وأولى بأخيه المؤمن من أقرب قريب إليه إذا لم يكن ذلك القريب مؤمنا، ولكن الله تعالى أنعم على عباده بتوثيق رابطة القرابة حيث جعلهم يتحابون ويعطف بعضهم على بعض، ولقد اعتنت نصوص الشريعة من كتاب وسنة بالأقارب والحث على صلتهم وتقديمهم في ذلك على من سواهم، فقد قرن الله تعالى حقهم بحقه فقال:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} ، وذم الله المشركين بعد مراقبتهم احترام قرابتهم من المؤمنين فقال:{لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً} والآل: القرابة كما فسرها ابن عباس، وفُسرت بالعهد أيضا، وقرن الله تعالى بين الإفساد في الأرض وتقطيع الأرحام ولعن من يفعل ذلك فقال:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} ، قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله سبحانه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي عن الجهاد ونكلتم عنه {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام، ولهذا قال الله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال.

ص: 51

وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق عديدة ووجوه كثيرة.."، ثم ساق رحمه الله حديثا أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله تعالى الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوى الرحمن عز وجل فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال: فذاك لك"، قال أبو هريرة رضي الله عنه: "اقرأوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ".

ثم ساق حديثا آخر أخرجه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أحرى أن يعجّل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث إسماعيل هو ابن علية به، وقال الترمذي:"حديث صحيح"انتهى ج4 ص178.

ص: 52

ولقد بلغت عناية الإسلام بالأقارب أن أمر المؤمنين بصلتهم ولو كانوا كفارا ما لم يتعرضوا لأذاهم قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت:"قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: "نعم صلي أمك" ، والآية الكريمة عامة في الوالدين وغيرهم، وهي محكمة على الصحيح من أقوال العلماء، قال القرطبي رحمه الله: "اتفقت الملة أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة"أهـ.

إذا عرفنا ذلك بقي علينا أن نعرف الأمور التي تعتبر صلة للرحم، والأمور التي تعتبر قطيعة لها.

السبل التي يصل بها الرجل:

ص: 53

1-

إن من أعظم ما يصل الرجل به أقاربه تعليمهم أمور دينهم وبيان ما يحل وما يحرم، ودعوتهم إلى الله تعالى وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر حسب الاستطاعة، ولهذا كان أول ما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إنذار عشيرته الأقربين، مع أنه رسول إلى جميع العالمين، قال الإمام البخاري رحمه الله في باب وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك - ألن جانبك، وساق بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر، يا بني عدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال:"أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي، قالوا: نعم ما جرّبنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ثم ساق بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال: "يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا". فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بعشيرته الأقربين وما ذاك إلا لأن حقّهم مقدّم على حقّ غيرهم، وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه فبدأ بهم وعمّ في ندائه وخصّ، فنادى قريشا وخص منهم بيوتا كبني فهر وبني عدي وبني عبد مناف، وخص أفرادا هم أقرب الناس إليه كعمه وعمته وابنته، والآية

ص: 54

الكريمة عامة لكل فرد من أفراد المسلمين وإن كان الخطاب أصلا للرسول صلى الله عليه وسلم فإن لنا فيه أسوة حسنة، وقد قال الله تعالى في آية أخرى مخاطبا كل مؤمن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الآية، وأقارب الرجل من أهله وعدم القيام بهذا الأمر يعتبر أعظم قطيعة لذوي الأرحام.

2-

أن فقراء أقارب الرجل أحق بوقفه وصدقته ووصيته من غيره، ولهذا لما أراد أبو طلحة أن يتصدق ببعض ماله وقفا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"اجعلها لفقراء أقاربك" كما في صحيح البخاري، وقد رجّح كثير من أهل التفسير أن الآية الكريمة {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} محكمة وليست منسوخة، وأن قريب الميت الذي ليس بوارث إذا حضر قسمة التركة يرضخ له منها تطييبا لخاطره، ورأى بعضهم أن ذلك واجب، ورأى آخرون أنه مندوب، والأصل في الأمر الوجوب كما هو معروف، انظر تفسير الشوكاني ج 1 ص 393 والبخاري ج 6 ص 36.

وفي الصحيحين من حديث ميمونة رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي قال: "أو فعلت؟ "قالت: نعم، قال:"أما إنك لو أعطيتها أخوالك لكان أعظم لأجرك".

ص: 55

3-

ومن أهم الأمور التي يجب على الرجل أن يصل بها رحمه الإصلاح بينهم وتأليف قلوبهم حتى لا يحصل بينهم نزاع يفرق كلمتهم ويوقع بينهم العداوة والبغضاء والتدابر، والإصلاح وإن كان حقا على كل عاقل أن يقوم به بين كل الناس، فإن الأقارب أحق به وقد قال تعالى:{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} ، وقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ، وينبغي للرجل أن يترفع بنفسه عن قطع الرحم ولو قطعه أقاربه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ فقال:"لئن كنت كما قلت فكأنما تُسفّهم الملّ - والملّ الرماد الحار - ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت عليهم"، والأحاديث في صلة الرحم كثيرة جدا.

والخلاصة أن من حق ذوي الأرحام على الرجل أن يسعى قدر استطاعته في تحصيل ما ينفعهم ودفع ما يضرهم في دينهم ودنياهم.

حقوق الأيتام الذين يتولى شؤونهم لصغرهم

ص: 56

كثير من الأطفال يتوفى الله آباءهم أو أمهاتهم أو الآباء والأمهات معا فيبقى هؤلاء الأطفال في حاجة شديدة إلى من يعطف عليهم ويرحمهم ويواسيهم، ويدخل عليهم السرور بما يسديه إليهم من نفقة أو كسوة أو كلمة طيبة، كما أنهم في حاجة إلى من يحفظ أموالهم إن كانت لهم أموال، وينميها لهم لتسد منها حاجاتهم في حال الصغر ويجدوا ثمرتها في حال الكبر، والله تعالى يبتلي بعض عباده ببعض، ليظهر المطيع من العاصي ويجازي كلا على عمله قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} ، وقد يبتلى الرجل بيتيم أو أيتام سواء كانوا من قرابته أو من غيرهم ليعولهم ويقوم بمصالحهم، فإن وفق للصبر عليهم والرحمة بهم والقيام بحقوقهم نال أجرا عظيما على ذلك، وإن لم يوفق فأغلظ لهم القول وآذاهم بالضرب ونحوه لغير تأديب وحرمهم من المأكل والمشرب، أو أكل أموالهم ظلما فقد تعرض لخطر عظيم، ولهذا يجب أن يتنبه القائمون على الأيتام لحقوقهم ويبتعدوا عن ظلمهم، ولنذكر على سبيل المثال بعض الحقوق التي لا ينبغي النقص فيها بالنسبة لليتيم.

ص: 57

1-

الرفق بهم وعدم الغلظة التي تدخل عليهم الهم والحزن، والرفق مطلوب في كل وقت ومع كل الناس ولكنه مع الطفل اليتيم آكد، وقد ذم الله المشركين وجعل من علامتهم الإغلاظ على اليتيم وعدم الرفق به قال تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} كما ذكر من صفاتهم عدم إكرامه قال تعالى: {كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يحرم الرفق يحرم الخير" رواه مسلم من حديث جرير، وروي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه"، وفي رواية "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه"، وفي حديث آخر عنها رواه مسلم أيضا قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيني هذا "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به"، وهذه الأحاديث عامة واليتيم كما قلت أولى الناس بمدلولها.

ص: 58

2-

ومن حقه أيضا أن يعتني بتعليمه عندما يبلغ سنّ التمييز القراءة والكتابة ومبادئ دينه كالوضوء والصلاة، وحسن السلوك كالصدق والأمانة والشجاعة والكرم، وألاّ يتكلم إلاّ بخير، إن استطاع وليّه أن يعلّمه بنفسه وإلاّ أدخله مدرسة يؤمن فيها على أخلاقه، كما ينبغي أن يعلّمه بعض الحِرَف التي يستفيد بها في الإنفاق على نفسه عند الكبر، ولا يكون عالة على المجتمع، وتعليمه دينه ودنياه من البر والتقوى اللذين أمر الله المؤمنين أن يتعاونوا عليهما كما قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وهو مما يحبه المرء لنفسه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

3-

أن ينفق عليه الولي من ماله - أي من مال الولي - لا سيما إذا كان اليتيم لا مال له، ويكسوه أيضا فإن في ذلك أجرا عظيما ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله"، وأحسبه قال:"وكالقائم لا يفتر والصائم لا يفطر"، وفيه أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة"وأشار مالك وهو أحد رواة الحديث بالسبابة والوسطى، والمراد بكافل اليتيم القائم بأموره من نفقة وكسوة وتربية وغيرها، وقوله:"له أو لغيره" أي سواء كان اليتيم له به صلة كابن أخيه ونحوه أو ليس من قرابته.

ص: 59

4-

أن يحفظ ماله إذا وليه وله مال، وينميه ولا يفرّط فيه حتى لا يضيع، ولا يأخذ منه شيئا ظلما فقد جاءت النصوص بالوعيد الشديد لمن يأكل مال اليتيم بغير حق قال تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} ففي الآية الأولى إشارة إلى أن ولي اليتيم يجب أن يعمل له كما يجب أن يعمل ولي أطفاله لهم من بعده، فليتق الله في مباشرة ماله، وفي الآية الثانية من الوعيد لمن أكل مال اليتيم ظلما ما لا يحتاج إلى بيان، فليتق الله أولياء الأيتام في أموالهم ومصالحهم فإنهم إن لم يخشوا من محاسبة الأيتام لهم لعدم معرفتهم مصالحهم ومضارهم، فالله وكيلهم وكفى بالله حسيبا، ويستثنى من هذا الوعيد من ولي مال اليتيم وقام بالواجب له من حفظ وتنمية وهو فقير لا مال له فإنه يجوزله أن يأخذ من مال اليتيم ما يحتاج إليه قوتا بالمعروف لقوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ، وفي الصحيحين من حديث عائشة أن هذه الآية الآنفة الذكر نزلت في ولي اليتيم إذا كان فقيرا أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف، وفي لفظ:"نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلح ماله إن كان فقيرا أكل منه بالمعروف".

ص: 60

5-

ويجب ألاّ يمكّن الولي اليتيم من التصرف في ماله إلاّ بعد رشده وبعد اختباره في التصرف هل يحسنه أم لا قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} ويجب أن يشهد على دفع أموالهم إليهم حتى لا يحصل بينه وبينهم نزاع وخصومة قال تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} .

6-

وإذا ولي الرجل يتيمة ورغب في نكاحها فيجب أن يعطيها مهرها كاملا كأمثالها، ولا يجوز أن يأخذ من مالها شيئا، فإن أحس من نفسه أنه سيظلمها بنقص مهرها أو غير ذلك من حقوقها، أو لم تكن له رغبة في الأصل وإنما أرادها لمالها فقط فينبغي أن يتركها وينكح غيرها من النساء اللاتي لا يقدر على أخذ حقوقهن أو نقص مهرهن؛ فقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية.

حقوق العبيد على السادة

ص: 61

مضت سنة الله الكونية أن يختلف الناس وأن يتبع ذلك الاختلاف حروب بين طائفة وأخرى، تستولي الطائفة المنتصرة على أموال الطائفة المنهزمة، وتسبي نساءها وذراريها وتأسر رجالها وتسترق الجميع ويكونون عبيدا يتصرفون فيهم تصرفهم في أموالهم، هكذا كان الناس يفعلون قبل الإسلام من العرب وغيرهم، وكانت معاملة العبيد عندهم سيئة جدا، بل كانت طرق الاسترقاق متعددة؛ فمنهم من يسترق الأجير، ومنهم من يسترق المرأة ومنهم من يسترق ذا لون معين، فلما جاء الإسلام أبطل كل تلك الطرق ما عدا طريقا واحدة وهي استرقاق أسرى الحرب، فقد أبقاها لأن في إلغائها ضررا على المسلمين لأن الكفار إذا انتصروا عليهم سيسترقونهم، وترك استرقاق الكفار مع كونهم يسترقون المسلمين ليس من العدل، فالطريق الوحيد للاسترقاق في الإسلام هي استرقاق أسرى الحرب فقط وهي طريق عادلة كما مضى لأنها معاملة بالمثل.

عناية الإسلام بتحرير الرقيق

لقد اعتنى الإسلام بعتق المماليك عناية عظيمة وفتح له أبوابا كثيرة.

1-

فهو يحث المؤمن أن يعتق مملوكه ويعده على ذلك بجزاء عظيم كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها - أي عضو - إربا منه من النار".

2-

أوجب على من حصل منه القتل خطأ عتق رقبة مؤمنة في ثلاث حالات لا ينتقل من العتق فيها إلى غيره إلاّ إذا لم يجد ما يعتق.

أ- أن يقتل مؤمنا خطأ وأولياؤه مؤمنون فيسلم لهم الدية ويعتق رقبة فإن لم يجد صام شهرين متتابعين.

ب- أن يقتل مؤمنا خطأ وليس له أولياء مؤمنون كان بكون من قوم كفار محاربين أو كان ذميا فعلى القاتل أن يعتق رقبة فإن لم يجد صام شهرين متتابعين كذلك.

ص: 62

ج- أن يقتل ذميا فعليه دية وعتق فإن لم يجد صام شهرين أيضا، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} .

3-

خيّر من حلف وحنث أن يكفّر بواحدة من ثلاث: تحرير رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن لم يجد انتقل إلى صيام ثلاثة أيام قال تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} الآية.

4-

أو جب على من ظاهر من زوجته ثم أراد إبقاءها زوجة له أن يعتق رقبة ولا ينتقل منها إلى غيرها إلاّ إذا لم يجدها قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} الآية.

ص: 63

5-

أمر من ضرب مملوكه فأوجعه أن يعتقه وجعل ذلك كفارة له، ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه"، وفي صحيح مسلم أيضا عن معاوية بن سويد قال: لطمت مولى لنا فهربت ثم جئت قبيل الظهر فصليت خلف أبي فدعاه ودعاني ثم قال: امتثل منه ثم قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة فلطمها أحدها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اعتقوها"قالوا: ليس لهم خادم غيرها قال: "فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فيخلوا سبيلها"، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

6-

إذا كان العبد مشتركا بين جماعة فأعتق أحدهم نصيبه منه عتق سائره ووجب على المعتق أن يدفع من ماله نصيب الآخرين فإن لم يكن له مال طلب من العبد أن يسعى في تحصيل نصيبهم من غير أن يشق عليه في ذلك ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شقصا [1] له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" أي كلف العبد الاكتساب من غير مشقة حتى تحصل قيمة نصيب الشريك الآخر فإذا دفعها إليه أعتق.

7-

أمر المالكين أن يلبوا طلب العبيد مكاتبتهم إذا علموا فيهم خيرا، والمكاتبة عقد بين العبد وسيده على مال يدفعه منجما أو دفعة إن قدر، يعتبر بعد دفعه إليه حرا، وأمر السيد أن يعين عبده بإعطائه شيئا من ماله قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} الآية، والظاهر أن الخير يشمل صلاح العبد في دينه وأخلاقه وفي قدرته على الكسب لنفسه.

ص: 64

8-

ورغّب الإسلام المؤمن في أن يعتق أمته ثم يتزوجها بعد تأديبها كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل كانت عنده وليدة فعلّمها فأحسن تعليمها وأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" الحديث، ومعنى هذا أن المطلوب من المؤمن أن يحوّل جاريته الخادمة إلى ربة بيت راعية.

9-

وسن الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته جعل عتق الأمة صداقها إذا أراد أن يتزوجها عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها فقال له - أي لأنس ثابت - ما أصدقها؟ قال: نفسها أعتقها وتزوجها" متفق عليه.

هكذا وقف الإسلام من عتق الرقيق له أبوابا وسبلا كثيرة جدا رغبة في تحرير الرقيق وتقليل الرق كما قطع كل سبل الاسترقاق التي كانت سائدة قبل الإسلام إلا طريقا واحدة عادلة وقد مضى بيانها.

حقوق العبد مع بقائه عبدا

لقد اعتنى الإسلام بالعبيد الباقين في ملك ساداتهم حتى لم تبق بينهم وبين السادة فروق جوهرية، فأمر سادتهم أن يطعموهم مما يطعمون، ويلبسونهم مما يلبسون، ونهاهم أن يكلفهم من الأعمال ما لا يطيقون، ففي صحيح مسلم عن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك قال: فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه".

ص: 65

ومما يدل على شدة اهتمام الإسلام بالرقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى به في آخر لحظة من حياته وقرنه بركن من أركان الإسلام وهو الصلاة كما روى أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: "الصلاة وما ملكت أيمانكم"،قال الشوكاني في نيل الأوطار: ج7 ص 3: "حديث أنس أخرجه أيضا النسائي وابن سعد وله عند النسائي أسانيد منها ما رجاله رجال الصحيح"أهـ.

وللعبد الحق في أن يقوم بشعائر دينه الواجبة عليه كالصلاة والصيام، ويجب على سيده أن يرفق به كما مضى في الحديث وأن يساعده على أداء الواجب عليه، كما ينبغي أن يساعده على أفعال الخير التي يريد فعلها وليست واجبة عليه كصلاة الجمعة والجماعة والحج والعمرة وغيرها، بل ينبغي أن يأمره سيده بذلك ويعلمه أمور دينه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وينبغي أن يزوجه إذا رآه في حاجة إلى الزواج، ويزوج الأمة كذلك إن لم يكن راغبا فيها هو، حتى لا يضطر العبد أو الأمة إلى مقارفة الفاحشة.

ومن أراد الاطلاع على شبه الأعداء التي يوردونها للطعن في الإسلام بسبب موقفه من الرق والجواب على تلك الشبه فليراجع (فصل الإسلام والرق) من كتاب (شبهات حول الإسلام) للأستاذ محمد قطب.

7-

الخادم

اقتضت مشيئة الله وحكمته أن يجعل بعض عباده أغنياء وبعضهم فقراء، وسخّر كلاّ من الطائفتين للأخرى، هذه تنمي المال وتنفق منه على تلك، وتلك تقوم بالعمل مقابل ذلك الإنفاق.

الناس للناس من بدو وحاضرة

بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

ص: 66

والإسلام يوجه الأغنياء المخدومين إلى التواضع وعدم التكبر على الخادمين، ويجعل لهؤلاء حقوقا على أولئك يجب عليهم أن يؤدوها بدون مماطلة ولا نقص، فمن صفات المؤمنين في القرآن الكريم قوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} ، وقوله {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} .

فالمخدوم ينبغي أن يتواضع مع خادمه ولا يترفع عليه لأنه قد يكون أعظم درجة منه عند الله، وليس الفضل بكثرة الأموال ولا بعظم الأجسام ولا بغير ذلك من متاع الدنيا وزينتها ومظاهرها وإنما الفضل بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في معاملة الخادم ويكفينا دلالة على ذلك أن نعلم أنّ أحد خادميه مكث معه صلى الله عليه وسلم عشر سنين يخدمه في حضره وسفره ولم يقل له في شيء صنعه لم صنعته؟ ولا في شيء لم يصنعه لمَ لم تصنعه. ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال:"خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا". والرسول صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة لأمته وهي إذا لم تستطع أن تصل إلى درجة الكمال التي بلغها صلى الله عليه وسلم فلتسدد ولتقارب.

بعض حقوق الخادم على سيده

وللخادم على سيده حقوق أذكر منها ما يلي:

ص: 67

1-

أن يعامله معاملة حسنة ويحلم عليه إذا بدر منه خطأ، قال تعالى:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، وقال:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس:"إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة"رواه مسلم عن ابن عباس، وروى مسلم أيضا عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من يحرم الرفق يحرم الخير كله" وقد سبق، وسبق حديث أنس قريبا في خدمته للنبي صلى الله عليه وسلم.

2-

أن يتواضع معه ولا يتكبر عليه فإن التواضع مع الخادم يؤنسه ويشعر معه بالطمأنينة وعدم الحرج من العسر والفقر، والتكبر عليه يوحشه ويشعر بسببه أنه محتقر لا قيمة له فيضطرب ويعيش كئيبا حزينا، وقد ذم الله الكبر والمتكبرين وأعدّ لهم عقابا أليما كما مدح التواضع والمتواضعين ووعدهم الجزاء الحسن قال تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقال في وصف المؤمنين {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد" وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت"، وفي الصحيحين من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر".

ص: 68

3-

قد يقوم الخادم بالخدمة في مقابل طعامه وشرابه وكسوته، وقد يقوم بها بأجر معلوم من النقود أو غيرها، وفي كلتا الحالتين يجب على المخدوم أن يؤدي إلى الخادم ما يستحق، ولا يجوزله أن يظلمه بنقص أجرته أو مماطلته فيها فإن فعل شيئا من ذلك فقد ظلمهن، والله تعالى ذم في كتابه الظلم والظالمين كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه قال تعالى:{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث:"واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، وفي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ فقال: "وإن كان قضيبا من أراك"، وقد حذر الله المستأجر تحذيرا شديدا من عدم إعطاء الأجير أجره، قال البخاري رحمه الله:"باب إثم من منع أجر الأجير"ثم ساق بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"، فليحذر المستأجرون من أن يكون الله تعالى خصمهم يوم القيامة.

4-

ومن أهم ما ينبغي أن يعتني به السيد للخادم تعليمه ما يجب عليه وما يحرم من أمور دينه، وحثه على التحلي بالأخلاق الفاضلة فإن في ذلك مصلحة عظيمة للسيد والخادم والمجتمع، كما ينبغي أن يحذره من الأخلاق الرذيلة واقتراف الأمور المحرمة ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لأنه أصبح مسئولا عنه كمسئوليته عن بقية أهل بيته.

ص: 69

5-

وإذا كان الخادم صالحا كفؤا، وهو في حاجة إلى الزواج وعند السيد بنت أو أخت صالحة للزواج فيحسن أن يزوجه إياها، فقد عرض الرجل الصالح صاحب مدين على موسى أن ينكحه إحدى ابنتيه ونفذ ذلك بالفعل، وليس في عرض المرأة على الرجل الصالح غضاضة ولا عيب، وإنما العيب كل العيب في ترك المرأة تختلط بالرجال الأجانب وتختلي بهم فيحصل من ذلك ما يحصل من الشرور العظيمة، وهذا ما لا يبالي به كثير من الناس وهو أمر قبيح يدل على دياثة من يفعله، وإذا ذكر له عرض بنته على رجل صالح شمخ بأنفه وتكبر ورأى في ذلك حطا من كرامته، وهذا من قلب الحقائق ووضع الأمور في غير موضعها، فإن الكرامة والنزاهة في تزويج المرأة ولو اقتضى عرضها، والإهانة والخسة في إطلاقها تفعل ما تريد، وتتصل بمن تشاء، وعرضها على رجل صالح يتزوجها خير من اتصالها بفاسق يستبيح عرضها ويلطخ شرف أهلها برجس الفجور والفحشاء، وفي سيرة سلفنا الصالح - في هذا الباب وغيره - خير قدوة لمقتفي آثارهم والله المستعان.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

شقصا بكسر الشين وسكون القاف نصيباً وفي رواية لمسلم أيضاً شركاً

ص: 70

يا نفس!

للأستاذ أحمد عبد الحميد عباس

مدير العلاقات العامة بالجامعة

أقول لنفسي وقد هالها وفاة قريب لها من نسب

أيا نفس مالك لا تجزعي ففي الموت راحتنا من تعب

ومهما تمر علينا السنون فلابد للموت أن يقترب

ولابد للعمر أن ينقضي ولابد للشمل أن ينقضب

فقالت لي النفس في حيرة وقد راعها ما رأت عن كثب

ألا هل بذرت لذاك المعاد فتحصد زرعك في المنقلب

فقلت سوى الله لا أرتجي إذا عصفت بالرجاء الكرب

ص: 71

من الصحف والمجلات

إعداد العلاقات العامة

نشرت وكالة الأنباء السعودية حديثا مع فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعة أذيع من الإذاعة والتلفزيون ونشر في الصحف المحلية ونصه:

بمناسبة الزيارة التي سيقوم بها جلالة الملك فيصل للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أجرى مندوب وكالة الأنباء السعودية في المدينة مقابلة صحفية مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد ناصر العبودي أجاب فيها فضيلته على عدد من الأسئلة المتعلقة بتطور الجامعة ونشاطها في الحقل الأكاديمي ومجال الدعوة الإسلامية فقال فضليته في معرض الإجابة على سؤال لمندوب الوكالة حول مشاريع الجامعة الجديدة: "أن هناك لدى الجامعة مشروعات علمية ومشروعات عمرانية، أما المشروعات العلمية فيأتي في مقدمتها إنشاء كلية ثالثة هي كلية اللغة العربية والآداب، وفي مقدمة المشروعات العمرانية إنشاء مبنى ثان لمهاجع الطلبة يتسع لإسكان 740 طالبا وهو مماثل للمبنى الحالي الذي رصد له مبلغ خمسة ملايين وثمانمائة ألف ريال".

وأجاب على سؤال لمندوب الوكالة حول الدراسات العليا بالجامعة قال فضيلته:

"لقد أنجز مجلس الجامعة الإسلامية مشروع الدراسات العليا بمناهجه ونظمه ورفعه للمقامات العليا المختصة وآمل أن يحوز على الموافقة"، وحول دور الجامعة في نشر الإسلام وعمّا إذا كان سيقتصر نشاطها على الدراسات النظرية أم أنه سيكون لها نشاط في مجال الدعوة الإسلامية خارج هذا النطاق قال الأمين العام للجامعة الإسلامية:

ص: 72

"إن أهم دور للجامعة هو أنها تعمل على تخريج جيل جديد من أبناء المسلمين مثقف ثقافة إسلامية صحيحة على المستوى الجامعي وبطريقة أكاديمية حديثة، وهذا الجيل يعود إلى بلاده في أنحاء العالم كي يقوم بالدعوة والإرشاد إلى الله، وهناك إلى جانب الناحية الدراسية الأكاديمية مساع للجامعة الإسلامية في سبيل نشر الإسلام وذلك عن طريق ابتعاث أعداد من موظفيها والمنسوبين إليها لتبصير من يلتقون بهم من المسلمين ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام، كما أنّ الجامعة قائمة على توزيع طائفة صالحة من الكتب الإسلامية بعدة لغات وعلى رأسها ترجمة معاني القرآن الكريم وترجمة صحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية، هذا إلى جانب أن أعدادا من المتخرجين من الجامعة قد تعاقدوا مع رئاسة إدارة الإفتاء والبحوث العلمية والدعوة والإرشاد للعمل في حقل الدعوة الإسلامية في أفريقيا، وهم يقومون بنشاط بارز في هذا المضمار، وهناك ناحية هامة بدأت الجامعة بها بناء على توجيه من جلالة الملك فيصل - حفظه الله - وهي إرسال بعض مدرسيها للتدريس في بعض الجامعات الإسلامية في الهند وباكستان".

وحول التعاون بين الجامعة والمؤسسات الإسلامية غير الأكاديمية قال فضيلته:

"إن الجامعة تعادل مناهج بعض المعاهد الإسلامية وتقبل طلبة من المتخرجين منها لإكمال دراساتهم في الجامعة الإسلامية بالمدينة إذا كانت الدراسة فيها على المستوى المطلوب، وهناك بعض المؤسسات الإسلامية التي تمدها الجامعة بالكتب وتتوسط لها لدى الجهات المختصة للحصول على الدعم المطلوب".

وردًّا على سؤال لمندوب وكالة الأنباء السعودية حول ما إذا كانت الجامعة قد تبنّت فكرة توحيد المناهج الدراسية في العالم الإسلامي، والجهود التي بذلتها الجامعة في هذا السبيل قال فضيلة الشيخ محمد ناصر العبودي:

ص: 73

"إن الجامعة قد تبنّت الفكرة مع الجامعات الإسلامية ومن خلال اشتراك الجامعة في جمعية الجامعات الإسلامية جرى تبادل في الرأي حول المناهج الدراسية في الجامعات الإسلامية بغية الاستفادة من الخبرات التي اكتسبتها الجامعات الإسلامية ذات الخبرة الطويلة في هذا الميدان، وطبيعي أن ذلك لا يعني أن الجامعة تنوي نقل مناهج الجامعات الأخرى إليها نقلا".

وعن الخطوات التي اتخذت لتنفيذ مقررات الندوة العالمية للجامعات الإسلامية قال: "إن أهم الخطوات هي دراسة تلك المقررات ومعرفة إمكانية تطبيقها على مراحل"، وإجابة على سؤال لمندوب الوكالة حول الدور الذي تؤدّيه الجامعة في التقريب بين الشعوب الإسلامية قال الأمين العام للجامعة الإسلامية:

"إن أهم عوامل التعاون: التقارب والتعارف وليس أكثر فعالية للتعارف من أن يعيش الطلبة المسلمون من الدول المختلفة في الشرق والغرب وأقصى الشمال والجنوب جنبا إلى جنب سنوات عدة متواصلين متحابّين في الله، تذوب بينهم فوارق اللغة واللون، وينعدم البعد القاري بينهم".

وقال الشيخ العبودي في معرض الإجابة على سؤال لمندوب الوكالة حول وجهة نظر الجامعة في منح الانتساب إليها "إن وجهة النظر التي تقول بمنع الانتساب إلى الجامعة تقوم على أن الجامعة الإسلامية بالمدينة أسست في الأصل لتربية الشباب المسلم من أنحاء العالم تربية إسلامية صحيحة بمعنى الإشراف على معظم وقت الشباب إن لم يكن كله، وإذا ما أبيح الانتساب فإن بعض هذه القيمة قد يفقد.

وهناك في الجامعة من يرون أنه بمزيد من الجهد يمكن تحقيق الهدف الأول بالنسبة لأكثرية الطلبة وتيسير الدراسة للذين لا يستطيعون الانتظار، وعلى كل حال فغن القول الفصل في هذا الأمر هو لمجلس الجامعة والموضوع لا يزال معروضا عليه".

ص: 74

وقال فضيلته مجيباً على سؤال لمندوب الوكالة حول ما إذا كان هدف الجامعة قد تحقّق من خلال تجربتها مع أوائل الذين تخرجوا وعادوا إلى أوطانهم فعلا قال:

"إنّنا إذا نظرنا إلى ما يقوم به أكثر المتخرجين من الجامعة من عمل إسلامي جليل في أنحاء مختلفة من الأرض فإننا نتفاءل بل نطمئن إلى أن الجامعة سائرة في الطريق الصحيح إلى تحقيق أهدافها التي يسهر جلالة الملك فيصل حفظه الله على تحقيقها تطبيقا لسياسة التضامن الإسلامي التي من أهم أهدافها تعاون المسلمين على البر والتقوى، والسعي لنشر العلم والخير والمحبة للجميع".

وردًّا على سؤال لمندوب الوكالة حول الأسس التي يقوم عليها تحديد المنح للدول الإسلامية قال فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية:

"إن أهم أسس لتحديد المنح هو حاجة البلاد الإسلامية للتعليم الإسلامي وليس كثرة عدد السكان، فقد تخصص منح أكثر لبلد أقل سكانا لأنه أحوج ما يكون إلى التعليم الإسلامي، والجامعة الإسلامية تضم الآن ألفا وثلاثمائة وخمسة وخمسين طالبا (1355) ينتمون إلى 81 دولة".

أرباح من غير بضاعة:

قال الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان البستي في (روضة العقلاء) : أخبرنا عبد الله بن محمود بن سليمان السعدي حدثنا شعبة بن هبيرة حدثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: "اتخذ طاعة الله تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة".

ص: 75

ألا هبوا للثأر

للشاعر اليمني حسن بن يحي علي

عضو الجمعية العلمية اليمنية في صنعاء

إباحية الأقزام تنذر بالشر

وتعلن آثام التحلل في جهر

فما سمعت أوطاننا قط فرية

كفرية رهط قد أصروا على الكفر

فلا حل في سلم لهم أو تهاون

وقد أسرفوا فيما أتوه من الغدر

وكيف وأشلاء الضحايا بساحنا ممزقة الأوصال تشعل في الصدر

جراحا بأعماق النفوس خطيرة

تنادي ألا هبوا بني الشعب للثأر

وشنوا على الإلحاد حربا فإنها

هي الحل إن رمنا الحفاظ مدى الدهر

على قيم عشنا نرى في وجودها

وجودا لنا في عالم العز والفخر

على قيم الإسلام أسمى عقيدة

ندين بها وهي السبيل إلى النصر

بني اليمن الأقيال هل يسمح الآبا

لكم أن تقادوا للمذلة والأسر؟

فيحكم فيكم إخوة المجد مارق

بأسلوب هدم كم تلوث بالوزر

دخيل تبنى لليهود طريقة

تمثل أحقاد اليهود وتستشري

ألا فاعلموا أن المخاطر جمة

إذا كفرهم ساد (الجنوب) ومن يدري

بعاقبة الإهمال إن ضاق مسلم

عن الصبر في ساح الكرامة والأجر

فخير لكم أن تستميتوا أعزة

دفاعا عن الأيمان والمثل الغر

فخوضوا غمار الموت فالخطب هين

إذا ما ثبتم في اللقا ساعة الكر

فلن يصمدوا عن واجهتهم أشاوس

تمثل روح الدين في الصدق والصبر

فما باطل الإلحاد أقوى شكيمة

وأمضى نفاذا في الثبات على الأمر

من المسلم الشاري حياة زهيدة

بدار نعيم دائم الخلد والبشر

بها ضمن الرحمن أسمى مكانة

لكل شهيد حافظ العهد والسر

بوعد صريح في كتاب مهيمن

تبارك من أوحى به ليلة القدر

إلى عبده كي يحكم الناس باسمه

ففيه خلاص للأنام من الشر

ص: 76

وفيه شفاء للنفوس من العمى

وفيه انطلاق للإرادة والفكر

فلو حكم القرآن ما ساد باطل

ولا عبثت في غيها ظلم الكفر

ولو نفذت أحكامه في صرامة

لما ساد إلاّ واقع العدل واليسر

ولا انزاحت الظلماء عن أفق عالم

يواجه أهوالا جساما بلا حصر

ص: 77

تاريخ الفلبين

جغرافيتها من حيث الموقع والحدود

والعاصمة والمدن الهامة والأماكن السياحية

تتألف الفلبين من مجموعة جزر عددها سبعة آلاف ومائة 7100، وتنقسم الفلبين إلى ثلاثة أقسام: 1- لوزون، 2- وبيساياس، 3- ومينداناو، وأكبر هذه الجزر جزيرة لوزون وتليها جزيرة مينداناو ثم سامار ثم نيغروس ثم فانى.

ومجموعة مساحتها تبلغ 115600 ميلا مربعا، وعدد سكانها في إحصائها الأخير 38 مليون نسمة، وعدد المسلمين منها يزيد على 4 ملايين، و30 مليون كاثوليك، و3 ملايين بروتستانت، ومليون لا دين لهم.

ويحيط بالفلبين شرقا المحيط الهادي، وشمالا الصين، وغربا بحر الصين، وجنوبا سيليبس وبورنيو وأندونسيا.

ولقد كانت مدينة مانيلا عاصمة الفلبين منذ بداية العهد الإسباني إلى أن أنشئت إلى جوارها مدينة (كيسون) فأصبحت الآن هي عاصمة لها، ويطلق اسم (مانيلا) على المنطقة التي تشمل مدينة مانيلا الأصلية والمدن الأخرى التي تقع في ضواحيها وتتصل بها.

ومن أهم مدنها مدينة (سيبو) حيث تعتبر مركز التجارة في وسط جنوب الفلبين، وأكبر المواني الموانئ الفلبينية بعد مانيلا، ولا تزال هذه المدينة تحتفظ بآثار المستعمرين الأوائل من الإسبان الذين اتخذوها قاعدة لهم قبل فتح مانيلا، ومنها مدينة (اليغان) في مينداناو، وهذه المدينة ترقد تحت أقدام شلالات (ماريا كريستانا) الشهيرة التي تعتبر من أبرز معالم الجمال الطبيعي في الفلبين، ومنها مدينة (باغيو) وترجع أهميتها إلى اعتدال الجو فيها حيث تقع في منطقة جبلية مرتفعة، وتعتبر مصيف الفلبيين وملجأ الهاربين من قسوة الحرارة بالمدن الواقعة في السهول المنخفضة.

ص: 78

وأما أماكنها السياحية فكثيرة منها: ما يسمى بـ (لونيتافارك) ، وهي من أجمل حدائق مانيلا التي لا تخلو من الناس ليلا ونهارا، وهي المكان الذي اجتمع فيه الشعب الفلبيني يوم نالت استقلالها في سنة 1946م، ومنها المزارع الجبلية (لايفوغاو) وهم من جنس سكان الفليبن الذين يسكنون في المناطق الجبلية في لوزون، ومنها حديقة الحيوانات في مانيلا ويوجد في هذه الحديقة كثير من أنواع الحيوانات من أفريقيا وغيرها من البلدان الأجنبية، ولا يزال الناس يزورونها في كل يوم، ومنها مساقط المياه في اليغان تسمى بـ (مارياكريستنا فول) التي سبق ذكرها، ومنها بحيرة (لانو) التي تقع في لانو الجنوبي منطقة المسلمين، وفي هذه البحيرة أنواع من الأسماك يبلغ عدد أنواعها ما يربو على أربعين نوعا، وكان المسلمون في هذه المنطقة يسكنون حول هذه البحيرة وفيها جزيرتان صغيرتان يتفسح فيهما دائما كثير من الناس، ومن أجمل هذه الأماكن السياحية ما يسمى بـ (فاسونانجكا) التي تقع في مدينة جميلة اسمها (زامبوانجا) ، وفي هذا المكان كثير من الآبار تحتها أشجار مختلفة الأنواع، وقد اتخذها الناس مكان نزهتهم لسعتها وجمالها.

تاريخ دخول الإسلام في الفلبين

وصل الإسلام إلى الفلبين في سنة (800هـ - 1380م) على أيدي التجار العرب من الحجاز واليمن وحضرموت عندما كانوا يقومون برحلاتهم الشهيرة إلى الصين، وعلى أيدي دعاة الإسلام من الملايو وأندونسيا، ومن هذا التاريخ بدأ الإسلام ينتشر من الشمال إلى الجنوب حيث سلطنة (صولو) ، وقد كان أول من تولى السلطنة فيها الشريف الهاشمي أبو بكر، وهو قادم إلى الفلبين من حضرموت، ثم سلطنة (ماغنداناو) التي تولاها السلطان الشريف محمد فبونصوان، وهو قادم من ولاية (مالكا)، وقيل: إن أباه عربي وأمه من أصل (مالكا) ، والسلطنة الثالثة الكبيرة في مانيلا، وأول سلطان لها رجا سليمان.

ص: 79

ولم تكن هذه السلطنات تخضع لحكومة واحدة وإن كانت بينهم علاقة وطيدة، وهناك آثار توجد الآن تدل على أن الإسلام دخل الفلبين من زمن بعيد في عهد العباسيين.

بداية الصراع

في عام (941هـ- 1521م) أرسلت إسبانيا بعثة من مبشرين نصارى للبحث عن طريق موصل للهند، خرجت هذه البعثة مارة على المحيط الباسفيكي، وبقدرة الله تعالى رست على جزر الفلبين، وحينما وصلوا وسط هذه الجزر خاصة وجدوا أن المسلمين بها قلة فاستقروا فيها، لكنه حدث صراع بين (ماجلان) قائد البعثة و (لافولافو) أحد رؤساء المسلمين في جزيرة (ماكتان) حيث قتل الاثنان ثم هرب الباقون من الإسبان ثم رجعوا إلى إسبانيا حيث قدموا تقريرا لملكهم، ودرست بناء على هذا التقرير طريقة الوصول إلى هذه الجزر، ومن تلك الفترة والصراع محتدم بين المسلمين والإسبان، وقد قاتلهم المسلمون في شجاعة خارقة وبطولة خالدة وتضحية نادرة دفاعا عن العقيدة الإسلامية وعن الوطن، ولكن شاء الله أن استولى الإسبانيون على الحكم، وأسموا الجزر بـ (الفلبين) نسبة إلى الملك (فليب الثاني) ملك إسبانيا في هذه الفترة، وقد استمر الحكم الإسباني من (980-1316هـ، 1560-1898م) حيث استطاعوا أثناء احتلالهم الاستيلاء على أكبر جزيرة (لوزون) وعلى وسطها حتى امتد إلى الجنوب، وإن كان الإسبان لم يستطيعوا الاستيلاء على (مينداناو) و (صولو) لقوة سلاطينها، ولذا ظل الصراع بين المسلمين والنصارى محتدما ما يربو على ثلاثمائة سنة.

والإسبان هم الذين نظموا جنود الفلبين لحرب أهل الجنوب، لكن الجيوش لم تستطع الانتصار على المسلمين، وكان القتلى أغلبهم من النصارى، أما عدد المسلمين الذين استشهدوا للدفاع عن إسلامهم منذ دخول الإسبان حتى الآن فلا يعد ولا يحصى، ومنذ احتلال الإسبان إلى خروجهم والحكومة القائمة بعدهم لم تستطع دخول (مينداناو) .

ص: 80

وفي عام 1898م استطاع الأمريكان التغلب على الإسبان والانتصار عليهم، وعقدوا معاهدة بينهما تنصّ على ترك الفلبين لأمريكا، وبذلك أصبح الحكم أمريكيا، ثم بدأ الأمريكان يكملون نفس دور الإسبان بقتال المسلمين وإخضاعهم لحكمهم، ولكنهم لم يستطيعوا التغلب على مسلمي (مينداناو) و (أرخبيل صولو) .

نشاط المسلمين في نصر دينهم

وبعد أن نالت الفلبين استقلالها في سنة (1366هـ - 1946م) ابتدأ المسلمون بالنهضة الإسلامية عن طريق تأسيس الجمعيات الإسلامية والمعاهد والمدارس الإسلامية، ومن بين هذه الجمعيات (جمعية إقامة الإسلام) في مدينة (ماراوي) بالفلبين التي تأسست سنة (1375هـ- 1955م) ومن أهم أهدافها ما يلي:

1-

القيام بتبليغ الدعوة الإسلامية في الشرق الأقصى عامة وفي جزر الفلبين خاصة، وشرح مبادئ الإسلام وتعاليمه، والدفاع عنه من تشويهات الملحدين والرد على مفتريات أعداء الإسلام من المبشرين الصلبيين الذين انتشروا في جميع أنحاء الفلبين.

2-

القيام بتعليم اللغة العربية ليستطيع مسلمو الفلبين فهم معاني القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وحتى تكون اللغة العربية هي لغة التفاهم بين مسلمي الفلبين.

3-

السعي على توحيد كلمة المسلمين في الفلبين، عسى الله تعالى أن يعيد إليهم مجد الإسلام المسلوب عنهم منذ زمن بعيد، والجدير بالذكر - وبفضل الله تعالى- استطاع مجلس جمعية إقامة الإسلام أن يوحّد بين أربع وعشرين جمعية إسلامية في الفلبين كلها انضم تحت لواء منظمة واحدة اتفقوا على تسميتها بـ (اتحاد الجمعيات الإسلامية بالفلبين) .

ص: 81

ولكل جمعية من هذه الجمعيات مدرسة واحدة أو مدرستان فأكثر، وكلها تعتني بتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، وأما (جمعية إقامة الإسلام) فلها ما يزيد على مائة مدرسة ابتدائية وتحضيرية لقراءة القرآن الكريم وإعدادية وثانوية، وبجانبها معهد مينداناو العربي الإسلامي، ويعتبر هذا المعهد أكبر معهد من المعاهد الإسلامية في الفلبين البحتة، وجعلته الجمعية مركزا لتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، والدراسة فيه تتكون على ثلاث مراحل: 1- ابتدائية ومدتها أربع سنوات، 2- وإعدادية ومدتها أربع سنوات، 3- وثانوية ومدتها أربع سنوات، ويحصل الطالب على الشهادة من كل مرحلة من مراحلها الثلاث، وقد تخرج من المعهد عدد كبير من الطلبة والطالبات أرسل بعضهم كبعثة علمية إلى الدول الإسلامية مثل الجمهورية المصرية العربية، والمملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية، والجمهورية الليبية، والجمهورية التونسية، والجمهورية السودانية، ودولة الكويت، ودولة قطر يتعلمون في هذه الدول الإسلامية اللغة العربية والدين الإسلامي على سبيل منحة دراسية، وبعض خريجي المعهد بقوا مدرسين في المدارس الإسلامية المنتشرة في المدن والقرى في الفلبين.

هكذا وقد قامت (جمعية إقامة الإسلام) بمباشرة بعض مهماتها منذ تأسيسها حتى الآن باتباع الوسائل التالية:

1-

تأسيس المعاهد والمدارس في المدن والقرى.

2-

إصدار مجلة إسلامية باللغة المحلية والعربية والإنجليزية.

3-

إرسال الوعاظ والدعاة إلى المساجد والمجتمعات العامة وإلى المناطق المسلمة وغير المسلمة.

4-

تعليم أبناء المسلمين أمور دينهم الحنيف في المدارس التابعة للحكومة.

5-

إنشاء مكتبات إسلامية مزودة بالكتب الإسلامية والعربية والثقافية.

6-

إلقاء المحاضرات الإسلامية ونشر تعاليم الإسلام عن طريق الإذاعة وفي بعض المناسبات.

ص: 82

هذا نشاط المسلمين من ناحية نشر دينهم في الفلبين، وأما من ناحية الذود والدفاع عنه فهناك منظمات سرية قد تدربت تدريبا حربيا وكونت لأجل حماية الإسلام والوطن، بعد أن أحس المسلمون بأن الحكومة تتعصب للنصرانية، وتخطط مع النصارى تخطيطا يقصد به تنصير مسلمي الفلبين بالقوة حتى تكون دولة نصرانية محضة.

وإضافة إلى تلك المنظمات السرية فقد كلف المسلمون بشراء الأسلحة، فمنهم من استطاع ذلك ومنهم من لم يستطع، فاعتمد - بعد الله تعالى - على ما ترك له آباؤه وأجداده من الرماح والسيوف التي قاوَمُوا بها المستعمرين الأوائل من الإسبان واليابان والأمريكان.

نشاط أعداء الإسلام في نشر المبادئ الهدامة

أما نشاط أعداء الإسلام في نشر المبادئ الهدامة في الفلبين فلا شك أنه كان ولا يزال في غاية الجهود والتعصب في بثه بين المواطنين اللادينيين فينصرونهم بكل وسيلة، وقد قامت الجمعيات التبشيرية النصرانية الصليبية بإنشاء مدارس في المناطق الإسلامية بلا استثناء، معتمدة في ذلك على حماية الحكومة وضمان العبادة وإقامة الطقوس الدينية، وكان من لا يجد ريا لظمئه للمعرفة لدى المدارس الإسلامية أو المدارس الحكومية ينتسب إلى مدارس الجمعيات التبشيرية النصرانية الصليبية حتى إن بعض من نشأوا بعيدا عن روح الإسلام والعقيدة الصحيحة جذبتهم هذه المدارس واستطاعت بفعل الروح التبشيرية المسيطرة فيها أن تكسبهم إلى صفوف النصرانية، ولقد استطاعت هذه الجمعيات التي تنهج طريقة التسليف أن ترسخ دعائمها في المناطق الإسلامية بفضل الأموال الطائلة التي يغدقها الفاتيكان والمنظمات الكاثوليكية كمنظمة (نوتريديم) التي استطاعت أن تحقق نجاحا كبيرا في مقاطعات (كوتباتو) بالفلبين إذ قامت بإنشاء جامعة نوتريديم في مدينة (كوتباتو) وزوّدتها بإحدى معدات الطباعة العصرية وأخذت تصدر نشرة تسمى (صليب مينداناو وصولو) .

ص: 83

ولم يكتفوا بذلك فترجموا أناجيلهم المخترعة من عند أنفسهم إلى اللغات المحلية للمسلمين، فوزعوها مجانا على بعض قرى المسلمين، ولكن سرعان ما عرف بذلك العلماء بفضل الله تعالى وطردوا هؤلاء الذين قاموا بتوزيع هذه الكتب الكاذبة، ثم أمروا بجمعها فأحرقت.

وأهم هذه المبادئ المذكورة هو تحالفهم مع الحكومة الفلبينية سرا على القضاء على الإسلام والمسلمين بكل وسيلة من وسائل الإبادة والإفساد مهما خالفت قانون الدولة، والدليل على ذلك أن الحكومة قد نظمت معهم منظمة يطلق عليها اسم (ابلاغا) أي جماعة الفئران، وهي التي تعمل الآن بعمليات القتل والإرهاب ضد المسلمين.. ولها اتصالات بالمنظمة الصهيونية العالمية.

نظام البلاد في الماضي والحاضر

وبما أن الفلبين تعتبر ملتقى الحروب بين الشعوب الأجانب والشعب الفلبيني فلا غرابة أن نظامها قد اختلف حسب دور كل شعب استولى على البلاد، وقد سبق الكلام على أن نظام البلاد قبل مجيء الإسبان هو نظام السلاطين، ولما استولى الإسبان على البلاد أصبح الحكم تابعا لحكم إسبانيا، وهكذا كل من اليابان والأمريكان إلاّ أنّ وراء تلك الأحكام الثلاث المتتالية الاستعمار وإن اختلفت أساليبه، فالاستعمار الإسباني والاستعمار الياباني كانا يلتزمان دائما جميع أساليب القوة والعنف والقهر للوصول إلى تحقيق أهدافهما في غير رحمة ولا شفقة، وأما الاستعمار الأمريكي القديم فكان يلجأ إلى التحايل والمداهنة والخديعة لتحقيق أهدافه.

ولما استقلت الفلبين من أمريكا في سنة (1366هـ-1946م) وأصبحت جمهورية تحكم بالديمقراطية أصبح لكل فرد من أفراد الشعب مسلما كان أو غير مسلم الحق والحرية في أن يرشح نفسه إلى أي منصب من المناصب الانتخابية والتعينية بشرط أن يكون عنده أهلية لذلك المنصب، كما أنه له الحق والحرية في اختيار أحد من بين المرشحين ينتخبه.

ص: 84

وأما من الناحية الدينية فللشعب حرية دينية فيستطيع كل فرد أن يعتنق أي دين من الأديان، ويستطيع كل شخص أن ينشر دعايته الدينية بأنواعها، فلا تمنعه الحكومة ما دامت لا تعارض قوانين الحكومة، هذه كلها كانت مقررة في دستور الفلبين إلاّ أن هذا الدستور محدود، كما أنه تجري حاليا دراسة تعديلها، وفي شعبان (1392هـ - 21 سبتمبر سنة 1972م) أعلن رئيس الفلبين الرئيس فرديناند ماركوس الأحكام العرفية بدعواه الكاذبة وهي منع الثورة والخارجين على الحكم، وبناء على هذا أصبحت المناطق قد استولى عليها الجيوش، فيمكن لهم القبض على أي شخص ولو بدون سبب ما دام متهما، وعلى كلٍّ، إنما فعل هذا الرئيس ماركوس لتتستر بها الحكومة حتى يتمكن الجيش الفلبيني من تدمير المسلمين وإبادتهم كما أخبرنا بذلك أقرباؤنا في البلاد عن طريق الرسائل.

حالة مسلمي الفلبين الحاضرة

إن حالة مسلمي الفلبين اليوم كانت ولا تزال في غاية البؤس والشدة والاضطراب، لأنه لما علمت الحكومة والنصارى أن مخططاتهم التي حددوها بعشرين سنة بتنصير جميع المسلمين - وقد انتهى هذا التحديد في سنة (1391هـ-1971م) - لم تنجح غيّروا أساليبهم إلى أسلوب آخر، فنظّموا منظمات إرهابية نصرانية تعمل الآن على محاولة تصفية المسلمين، فتقوم بعمليات القتل والإرهاب ضد مسلمي الفلبين، وذلك بتشجيع من القسّيسين ورهبان النصارى، وبمساعدة الحكومة الفلبينية والجيش الفلبيني، وبإمداد حكومة جولدا مائير رئيسة الوزراء لليهود بالمال والسلاح والذخيرة، وأكبر هذه المنظمات الإرهابية المنظمة التي تطلق على نفسها عصابة (ايلاغا) أي جماعة الفئران، وقد قيل في بعض الصحف أن الرئيس ماركوس رئيس جمهورية الفلبين هو الذي أسسها لتنفيذ مخططه.

ص: 85

وأهم الجرائم التي يرتكبها أفراد العصابات النصرانية ضد المسلمين أنهم يطردون المسلمين من أراضيهم ويحرقون بيوتهم ومساجدهم ومدارسهم ومزارعهم، ويهتمون بإحراق القرآن الكريم وبقتل أئمة المساجد ويهتكون أعراض النساء قبل قتلهن، ويمثّلون بالشهداء من المسلمين، وذلك بقطع ثدي النساء وقطع رؤوس الأطفال وآذان الرجال، ومن الأغراض في تمثيلهم بالشهداء من المسلمين أن لكل من أحضر أذنا أو ثديا أو رأس طفل جائزة مالية من زعماء المنظمات السرية، وقدرها يتراوح من مائة (100) إلى (1000) بيسو من عملة الفلبين.

بعض الحوادث التي وقعت على المسلمين

1-

في جمادى الأولى (1391هـ - 27-6-1971م) قتل سبعون مسلما فلبينيا في مذبحة رهيبة في إحدى قرى المسلمين في مقاطعة (كوتباتو) ، وقد كانوا في داخل أحد المساجد في انتظار عقد اجتماع صلح مع النصارى في تلك القرية، وعندما اقتحمت المسجد مجموعة من الأشخاص المسلحين المجهولين أخذت تطلق الرصاص على الرجال والنساء والأطفال، وقد قتل 70 وأصيب عدد كبير.

ومن الملاحظ أن هؤلاء المسلمين الشهداء لم يدفنوا في المقابر المعروفة؛ لتعذر نقل أجسامهم المفتتة من المسجد إلى المقابر، بل جعل المسجد مدفنا لهم اضطراريا، كما يلاحظ هنا أن ثلاثة أطفال ماتوا وهم يمسكون ثدي أمهاتهم وهم راضعون، إنه لدليل واضح على عدم إنسانية هؤلاء الإرهابيين المجرمين.

ص: 86

2-

أغارت عصابة (ايلاغا) على المسلمين في بلدية (ألمادا) في منطقة (كوتباتو) أثناء احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فقتل جميع من في المولد وهم ثمانية وتسعون 98 مسلما ما عدا خمسة أولاد، فلجأ الأولاد الخمسة إلى ثكنة الجنود لطلب النجدة من الجيش الفلبيني فوجدوا أن قائد الثكنة هو مسلم فاتجه القائد المسلم إلى مكان الحادث وأخذ معه خمسة جنود نصارى، وبينما هم يمشون في الطريق أخذ الجنود الخمسة يطلقون الرصاص على ثلاثة من الأولاد فاستشهدوا في الحال وبقي صبي وصبية، ثم أطلق القائد المسلم الرصاص على الجنود الخمسة فماتوا كلهم ثم هرب القائد المسلم وانضم إلى المسلمين المقاتلين.

3-

في شوال (1391هـ - 22 من نوفمبر 1971م) أوقف الجيش الفلبيني ثلاث سيارات مملوءة بالركاب في بلدية (تاكوب) في (لاناو الشمالي) وكلهم مسلمون، وهم في طريقهم إلى بلادهم في (لاناو الجنوبي) بعد أن أدلوا أصواتهم في انتخاب (بلدة ماغساي ساي) وعندما توقفت السيارات الثلاث أجبرهم الجيوش على النزول، ثم أمروا بالرقود على البطن، ثم أطلق عليهم الجيوش الرصاص، فاستشهد 63 منهم، وأصيب آخرون بجراح.

وتتلخص النتائج التي أسفرت عنها المذابح التي تعرض لها مسلمو الفلبين إلى ما يأتي:

1-

أحرق أكثر من 2234 من بيوت المسلمين، وكما أحرق أكثر 300 مسجد، وأكثر من 70 مدرسة.

2-

إن ضحايا المسلمين أكثر من ثلاثة ألاف شخص، كانوا رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا.

3-

جرح أكثر من ثمانية ألاف شخص كانوا رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا.

4-

لقد هاجر أكثر من خمسين ألف شخص من أراضيهم، وهم الآن بين الموت والحياة لمعاناتهم الجوع والألم.

5-

المسلمون المهاجرون لم يستطيعوا أن يحصدوا مزارعهم لطردهم من أراضيهم، وإنما حصدها الجيش الفلبيني وأفراد العصابات النصرانية.

6-

استولى النصارى على أكثر من 20 بلدة من أراضي المسلمين.

ص: 87

وجدير بالذكر أن معظم هذه الخسائر حدثت قبل أن اتحد زعماء المسلمين في الفلبين، وبعد اتحادهم استطاع المسلمون المقاتلون - بصبرهم وشجاعتهم وإيمانهم - أن ينتصروا في كثير من المعارك التي نشبت بينهم وبين الجيش الفلبيني، كما استطاعوا أن يقتلوا عشرات مقابل شهيد واحد من المسلمين، وأيضا فقد أسقطوا اثنين من طائرات الهليكوبتر، ودمّروا بعض دبابات الجيوش التي استعملوها في الهجوم على المسلمين.

هذا وبالرغم من انتصارهم في كثير من المعارك التي دارت بينهم وبين الأعداء بعد اتحاد زعمائهم بالرغم من ذلك كله فإنهم بحاجة ماسة إلى المال والسلاح والذخيرة.

وقد اكتشف أن تخطيط الأعداء الأخير هو إجلاء المسلمين من المناطق النائية المحيطة بمراكز المسلمين حتى إذا لجأوا كلهم إلى تلك المراكز تمكن الأعداء من جمع قواهم فيسهل عليهم القضاء على المسلمين في وقت قليل.

وقد بدأت قوات الحكومة بالهجوم على أكبر مراكز المسلمين وهو مدينة (ماراوي) عاصمة (لاناو الجنوبي) بعد أن أعلن الرئيس ماركوس الأحكام العرفية، ذلك أن الحكومة أنذرت المسلمين في تلك المنطقة في شهر رمضان الماضي في هذه السنة 1392 أن يسلّموا أسلحتهم، وإلا فالجيوش سينطلقون على منازل المسلمين لقبض أسلحتهم، وقد حددت الحكومة وقت تسليم الأسلحة، وقبل هذا الموعد تقدم المسلمون إلى مهاجمة جيش الحكومة في معسكراتهم (كامف كيتلى) ، واستطاعوا في أول هجومهم الاستيلاء على تلك المعسكرات، وأحرقوا اثنين من ثكنات الجنود وإذاعة واحدة للحكومة، ثم هرب من في المعسكرات من الجيوش، ولم تلبث ساعات حتى جاء المدد من جيوش الحكومة قادمين من (اليغان لاناو الشمالي) فحملوا على المسلمين في معسكرات الجيوش، ودار بينهم قتال عنيف خلال 24 ساعة، وقد استطاعت الجيوش استعادة معسكراتهم لكثرتهم وقوتهم.

ص: 88

وقد قتل في هذه المعركة عدد كبير من الجانبين يبلغ إلى ستمائة قتيل، ومن بين قتلى المسلمين عدد من علمائهم من بينهم خرِّيجا الأزهر وهما الأستاذان مسلم صديق والأستاذ عبد المنان أبو بكر، ومما يشتد على المسلمين في تلك المنطقة أن الحكومة قد وضعت قواتها المسلحة الرابعة بعد هذه المعركة في مدينة (ماراوي) ترسل جماعات من الجيوش إلى بلديات المسلمين يستولون عليها بدعواهم أن الحكم حكم عرفي.

ومما يصعب على المسلمين عدم تمكن علمائهم وبعض رؤسائهم من توجيه المسلمين المقاتلين حيث يتهربون؛ لأن الحكومة أمرت بالبحث عنهم لسجنهم؛ بدعوى أنهم هم السبب الأكبر لإقامة الثورة ضد الحكومة.

أسباب مأساة مسلمي الفلبين

وقد بدأت مأساة مسلمي الفلبين من أيام مجيء الإسبان واستمرت إلى يومنا هذا حيث لم يخضع آباؤنا وأجدادنا لجميع المستعمرين من الخارج كالإسبانيين واليابانيين والأمريكانيين حتى فاضت دماؤهم تحت راية إسلامهم دفاعا عنه وعن الوطن، ثم جاء أحفادهم فواجه إليهم أعداءهم الداخلين الاستعمار الجديد يريدون بذلك تنصير هؤلاء الأحفاد عن طريق التحايل والمداهنة أولا، وعن طريق القوة والقهر أخيرا، فوقفوا على وجه الأعداء موقف آبائهم وأجدادهم من الدفاع والذود عن عقيدتهم الإسلامية وعن وطنهم الحبيب حتى لا يزال الآن ينتشر في جميع ربوع العالم ما يدور بينهم وبين أعدائهم ليل ونهار.

وتتلخص أسباب المأساة التي يتعرض لها مسلمو الفلبين في الوقت الحاضر إلى ما يأتي:

ص: 89

1-

اقتراح زعماء النصارى بضرورة جعل حكومة نصرانية بحتة، خالية من المسلمين بحجة أن انتشار الأمن والسلام بالفلبين يتوقف على خلوها من المسلمين، فمن المقترحين الجنرال (بالاو) قائد الجيش الفلبيني سابقا فقدم مشروعا إلى الحكومة الفلبينية في عام (1376هـ - 1956م) وهو ضرورة توحيد الدين، وإرغام أهالي الفلبين كلهم على دين النصرانية، مدعيا بأن تقدم البلاد أو انتشار الأمن والسلام فيها يتوقف على مشروعه، ولكن هذا المشروع قوبل بالنفي حيث رفضه المسلمون حتى استعدوا للجهاد، فلذلك غير زعماء النصارى اقتراحهم العلني بالاقتراح السري الذي لا يعرفه إلا أعضاء المنظمات السرية الإرهابية.

2-

تأييد مسلمي الفلبين لجميع القضايا الإسلامية عامة ولقضية الشرق الأوسط بصفة خاصة، ويتجلى هذا التأييد في مطالبة مسلمي الفلبين بالتطوع الصادق في كل معركة تدور بين المسلمين وغيرهم من الطوائف الأخرى المعتدية، ومعارضة زعماء مسلمي الفلبين إقامة العلاقات بين الفلبين وإسرائيل، ومهاجمتهم الحكومة الفلبينية لدعوتها (جولدا مائير) لزيارة الفلبين عام (1387هـ-1967م) فطاردوا (جولدا مائير) حتى اضطرت إلى السفر بعد 12 ساعة من مجيئها إلى الفلبين، وحاصروا جامعة الفلبين أثناء زيارة (إيبان) وسدوا الطرقات المؤدية إليها من المطار مما اضطر (إيبان) إلى أن يخرج من باب جانبي في المطار، ويستخدم طائرة هليكوبتر ليذهب إلى (مالكانيان) قصر الجمهورية ثم إلى الجامعة، وكان مقررا أن يلقي محاضرة في الجامعة، ثم يفشل في أن يلقي محاضرته ويعود من حيث أتى.

ويظهر هذا التأييد في مظاهرة الطلبة المسلمين في مانيلا (عاصمة الفلبين سابقا) عندما سمعوا إحراق اليهود للمسجد الأقصى، حتى أحرق الطلبة علم إسرائيل في سفارتهم، كما أحرقوا سيارة سفيرها، وكاد هؤلاء الطلبة أن يقتلوا السفير لولا أن تعطلت مصعدة السفارة نفسها لولا جهود الشرطة الفلبينية.

ص: 90

ويؤيد هذا السبب المذكور ما ورد في صحيفة الأهرام بالقاهرة بتاريخ شعبان (1391هـ - 29/9/1971م) نقلا عن مسئول حكومي بالفلبين أن المذابح التي يتعرض لها المسلمون في جنوب الفلبين كانت وراءها بعض المصالح الأجنبية، وأن اليهود قد تكون على صلة بالمصادمات بين الطوائف، وذلك بسبب مساندة مسلمي الفلبين لموقف العرب.

3-

تواطؤ اليهود مع الحكومة الفلبينية والعصابات النصرانية لأجل القضاء على الإسلام والمسلمين بالفلبين والاستيلاء على أراضيهم، ويرجع السبب في هذا التواطؤ إلى أن للرئيس ماركوس مستشارا يهوديا صهيونيا هو (مانويل اليسالدي) واختصاصه هو شئون الأقليات من المسلمين والبوذيين واللادينيين، وهو المتهم الأول من حوادث الفلبين، وهو فضلا عن كونه مليونير فهو وزميله اليهودي الآخر الجنرال (هانز مينزي) المستشار الخاص للرئيس ماركوس يملكان مزارع شاسعة في جنوب الفلبين.

ويؤيد هذا ما ذكرته صحيفة الجمهورية بالقاهرة بتاريخ (1391هـ، 21/8/1971م) أن بعض المراقبين السياسيين يعزو إهمال حكومة الفلبين لمصالح الأقلية المسلمة التي تعيش في الجنوب إلى تسلل النفوذ الصهيوني إلى السلطة في الفلبين، إذ إن مستشار الرئيس ماركوس لشئون الأقليات شخص يهودي هو (مانويل اليسالدي) وهو يمتلك مزارع شاسعة في الجنوب ويمد رجال القبائل هناك بالسلاح لمهاجمة المسلمين.

4-

اكتشاف المليونير اليهودي (مانويل اليسالدي) أن في جزيرة (مينداناو) عدد من المعادن المختلفة، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والمانجانيز والألومنيوم والكبريت، فبناء على هذا شجع المستشار أفراد العصابات النصرانية على عمليات القتل والإرهاب ضد المسلمين،، وطردهم من أراضيهم وأمدهم بكل ما يحتاجون إليه من المال والسلاح والذخيرة لمهاجمة المسلمين.

ص: 91

5-

عدم نجاح عمليات التبشير النصراني في تحويل جميع المسلمين إلى الدين النصراني، فبالرغم من أن البعثات التبشيرية النصرانية أقامت المستشفيات والمدارس والجمعيات الدينية، وكل صور الخدمات الممكنة، وشدت كثيرا من المسلمين الفقراء هذه المواقع، حيث وجد فيها التعليم والرعاية الطبية والغذاء والكساء بل والمال أحيانا، فبالرغم من ذلك كله فإن هذه البعثات لم تحقق جميع أغراضها في تحويل جميع المسلمين إلى الدين النصراني، وأنه يوجد هناك من يعتنق الإسلام من النصارى، والقسسين أكثر عددا ممن يعتنق الدين النصراني من أبناء المسلمين الذين تربوا في الملاجي والمدارس النصرانية، فلذلك لجأت هذه البعثات إلى تشجيع العصابات النصرانية على القيام بعمليات القتل والإرهاب ضد المسلمين.

6-

تحيّز الحكومة الفلبينية وتعصبها للعناصر النصرانية الكاثوليكية، وإهمالها لمصالح الطوائف الأخرى، وبالأخص المسلمين، ويتجلى هذا التحيز في رفض الحكومة الفلبينية معاقبة المجرمين المسئولين عن الحوادث والمذابح التي يتعرض لها مسلمو الفلبين، وأكثر هذا تحيزا وتعصبا تحالفها مع العصابات النصرانية في قتالهم ضد المسلمين.

7-

وهو الأخير (الدين) ، أي انتماء المسلمين إلى الدين الإسلامي وانتسابهم إليه، فكل المآسي التي عاناها المسلمون في مختلف العصور من يوم مجيء الإسبان في الفلبين إلى يومنا هذا، وكل الحوادث والمذابح الدموية التي يتعرض لها مسلمو الفلبين أخيرا في بلادهم وأراضيهم وبيوتهم ومساجدهم ومدارسهم وحفلاتهم كل ذلك من أجل الفتنة في الدين، ويرجع سببها إلى انتماء المسلمين إلى الدين الإسلامي وانتسابهم إليه فيقتلون لأجل كونهم مسلمين، فلو كانوا نصارى لما أقامت الحكومة الفلبينية والعصابات النصرانية على محاولة تصفيتهم.

ص: 92

ولقد تلقى زعماء المسلمين وأعضاء البرلمان من المسلمين البارزين رسائل تهديد تدعوهم لاعتناق النصرانية بقوة وإلا فالموت ينتظرهم، وهذا نص إحدى الرسائل التهديدية التي وجهت إلى السيد علي ديمافورؤ أحد أعضاء البرلمان من المسلمين، وقد ترجمتها مجلة المجتمع ونشرتها في عددها 122 بتاريخ 10 رمضان 1392هـ:

جمهورية الفلبين

إقليم كوتباتو

12 يولية 1972م

مجلس الفلبين

مانيلا

السيد/ علي ديمافورؤ

نكتب، نناشدك بأن يتحد النصارى والمسلمون تحت إله واحد عن طريق دين المسيح، فأيامك أصبحت معدودة كزعيم للمسلمين، ومصير (فينداتون) ليس إلا دليلا لكم يا مسلمي الفلبين، ومصير (أومفا) يجب أن يكون درسا لكم، ومصير (داتومانونج) في كوتباتو يجب أن يكون إنذارا لكم.

وإنه لمن الأفضل أن تعرفوا مبكرا وتفهموا المصير الذي أنتم بصدد مقابلته، وتذكر دائما بأن الفلبين أمة مسيحية، وبأن مصير المسلمين يجب أن يقرره المسيحيون وليس المسلمون أبدا، إن النزاعات بين المسلمين والمسيحيين بعيدة عن الحل، وليس هناك إبادة جماعية، وإنما الجهاد للوحدة في المسيح يجب أن يستمر، فعندما زرع (ماجلان) صليبه في جزيرة (ماكتان) منع انتشار الإسلام في هذا الأرخبيل، وكان أيضا إشارة إلى بداية التقدم، وأن الصليب علامة هذه الوحدة في المسيح، والمسيحية هي التي وهبت التقدم للفلبين، وإنما المسيحية التي حطمت حكم (الداتو) أي السلطان ومستعمرات (قيساي) ، إن الإسلام هو العامل الأكبر الذي يمنع تقدم المسلمين في الفلبين، وإنه لم يكن أبدا الدين الذي يمكن أن يكيف نفسه للحياة العصرية.

ص: 93

ولقد آن الأوان أيها المسلمون (الداتو والزعماء السياسيون) أن تقطعوا اتصالكم بالعالم العربي، إن المسيحيين لن يتحملوا المزيد من إساءاتكم، وإننا لن نتحمل إنذاراتكم عن الحرب المقدسة، وكلما توقفتم عن الكلام مبكرا بخصوص المساعدة من الأمم الإسلامية كلما انتهت المشكلة في (مينداناو) سريعا.

وطالما أن الفرصة سائحة لكم لكي تظهروا رغبتكم للانضمام إلى الجهاد للوحدة في الله بواسطة المسيح، فمن الأفضل أن تفعلوا ذلك، فمكانتكم ذات النفوذ مؤقتة، ولكن قد تكون الفرصة مواتية بأن تظلوا ماسكين فيها إذا فكرتم بهذه الأشياء، ففي هذه الأمة المسيحية كنتم مشكلة أيها المسلمون، والرد على وأن تقودوا شعبكم إلى هذا الاقتراح النزاع المسيحي الإسلامي هي المسيحية هو الحل المريح لمشكلتكم.

قائد مجهول

وعلى كلٍّ، فلا شك أن حالة مسلمي الفلبين في الوقت الحاضر هي أخطر وأكبر مما تنشره الجرائد الرسمية وتذيعه الإذاعات، ولا ريب أنها أشد خطرا من حالة إخواننا الفلسطنيين؛ ذلك لأن فلسطين تحيط بها الأقطار العربية والإسلامية، أما مسلمو الفلبين فإنهم يقطنون في جزيرة بعيدة معزولة وسط المحيط الهادي، ومع هذا فإن عدد أعدائهم أكثر بكثير من عددهم، وعدتهم أقوى من عدتهم، ويكون مصيرهم الهلاك الجماعي إن لم تهتم بهم الدول الإسلامية والعربية بعد الله تعالى.

بعض الأحداث التي حدثت على المسلمين من قريب

ص: 94

1-

في 12 رمضان سنة 1392هـ هاجمت كتيبة من الجيش الفلبيني يزيد عددها على ثلاثمائة جندي في منطقة (لؤوك) ببلدة (صولو) وهي إحدى مراكز المسلمين، فدافعهم المسلمون دفاع الإيمان والصبر، وقاتلهم قتالا جهاديا استمر حوالي عشرة أيام، وبفضل الله تعالى ونصره استطاع المسلمون المقاتلون أن يقتلوا تلك الكتيبة من الجيش فلم ينج منهم أحد جزاء من الله تعالى عليهم بظلمهم وعداوتهم على المسلمين الأبرياء، ولم يقتل من المسلمين في هذه المعركة إلا نحو عشرة شهداء، ومن المؤسف ومما تهتز له القلوب المؤمنة أن في هذه المعركة فقدت الجامعة الإسلامية ابنا من أبنائها الذي ربته منذ ثمانية سنوات وزودته بالعلم والمعرفة ولاسيما العقيدة الصحيحة عسى أن يكون ممن يقوم بنشر الدعوة الإسلامية في الفلبين فلم يلبث أن خاض تلك المعركة يقود فرقة من المسلمين المقاتلين إلى أن سقط شهيدا في آخر أيام المعركة دفاعا عن دينه ووطنه، واسم هذا الطالب الذي باع نفسه في سبيل الله هو الشهيد عبد الباقي عبد الرزاق.. أدخله الله فسيح جنته.

2-

وفي شوال من هذه السنة 1392هـ وقعت اشتباكات دامية بين القوات الفلبينية وبين المسلمين في مدينة (باسلان) إحدى مراكز المسلمين أيضا، قريبة من جزيرة (صولو) ولم تعرف نتيجة هذه المعركة حتى الآن.

ومن الملاحظ أن مبعوثا للأزهر إلى تلك المدينة قد أمسكه الجيش الفلبيني بدعوى أنه هو الذي يشجع المسلمين على قتال الجيوش، هذا لأن اهتمامهم بفناء العلماء أشد وأعظم من اهتمامهم بقتل غيرهم، ذلك لأنهم يعتقدون أن عدم وجود العلماء هو نفس محو الإسلام وتصفيته، ولذلك كان أكثر العلماء الآن في الفلبين لا يزالون يتهربون من الحكومة؛ لأنها أمرت بالبحث عنهم إما ليقتلوا أو ليسجنوا، ومن بين هؤلاء العلماء أحد أبناء الجامعة أيضا اسمه فاروق كالي المتخرج من كلية الشريعة سنة 1390 وبعض خريجي الأزهر.

ص: 95

أهازيج للبحر

بقلم: محمد محمود جاد الله

الطالب بكلية الشريعة بالجامعة

يا بحر كم ذا أنت نائم

وعلى شواطئك الحمائم

يا ويح قلبك من غرير مثل طفل ذي تمائم

تمضي السنون على السنين

وأنت في دنياك جاثم

ولقد عهدتك ذا اصطخاب

في ربا الأيام هائم

تزهو بأشرعة الجمال

يسوقها مر النسائم

وأظل أرقبها بقلب

يرسل الأشواق حالم

هلا أفقت من الكرى

يا صاحب الدرر الكرائم

يا بحر كم أهوى شطوطك

في سكونك في ابتهالك

يا بحر في أمواهك النشوى

تبختر في دلالك

واختل على كل العصور

فلست أشبع من جمالك

وسألت شطئان الحياة

تحبه؟ .. قالت: كذلك

نهوى من البحر السكون

نحبه رغم المهالك

يا بحر يا رمز الخلود

وليت حالي مثل حالك

فالسر أنت شهيده

والبدر يطمع في وصالك

يا بحر كم مرت عليك

عواصف بعد العواصف

وترامت الأمواج تلهث

فوق صدرك كالملاحف

بيضا تصفق تارة

ما بين صخاب وزاحف

هدارة وكأن فيها

من دهاة الجن وطائف

وتسوق من نحف الطبيعة

ما تزان به المتاحف

فنظل نرقبها حيارى

بين مندهش وخائف

ما أجمل الفلك السوابح

واقفات كالوصائف

يا بحر يا حلم الدهور

تحيرت فيك البصائر

وتطاولت عبر الخليقة

من جريء أو مغامر

يبغون سرك ذا الغموص

وكلهم قد عاد خاسر

أو نام نومة عاجز

يدري بأن السر قاهر

لا يستطاع غلابه

ويظل من يلقاه حائر

هل أنت يا مهد العجائب

مثلنا تخشى الدوائر؟..

كم ذا سمعتك هامسا

للشط إن الله قادر

ص: 96

أخبار الجامعة

الفيصل يتفقد الجامعة الإسلامية

إعداد العلاقات العامة

في صباح يوم الأربعاء الموافق 4/1/1393هـ شرف حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز الجامعة الإسلامية، وكان في استقبال جلالته رئيس الجامعة الإسلامية والأمين العام وكبار أعضاء الهيئة التدريسية ورؤساء الأقسام الإدارية، ثم تشرف بالسلام على جلالته ممثلو الطلاب الوافدين الذين في الجامعة وعددهم واحد وثمانون ممثلا لواحد وثمانين قطر..

وكانت الجامعة قد أعدت بهذه المناسبة برنامجا للاحتفال، بدأ بتلاوة من آيات الله البينات رتّلها الشيخ عبد القوي عبد المجيد المدرس في المعهد الثانوي التابع للجامعة.

ثم ارتجل سماحة الرئيس الشيخ عبد العزيز بن باز كلمة رحب فيها بجلالة الملك.. رئيس الجامعة الإسلامية الأعلى وشكر جلالته على ما يبذله لخدمة أبناء المسلمين في هذه الجامعة المباركة.

ثم ألقى الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي كلمة تضمنت بيانات وإحصاءات الجامعة.. وعدد طلابها.. والمتخرجين منها.. وميزانياتها.. وجنسيات طلابها.. منذ أول تأسيسها حتى الآن.

واختتم الحفل الخطابي فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي المدرس في كلية الشريعة بالجامعة بكلمة نيابة عن الهيئة التدريسية في الجامعة.

ثم استأذن سماحة رئيس الجامعة جلالة الملك في أن يتفضل جلالته بزيارة تفقدية لكلية الشريعة فوافق - حفظه الله -.. وصحب جلالته كل من سماحة الرئيس والأمين العام.

وكان في استقبال جلالته عند مدخل الكلية عميد الكلية وكبار أعضاء الهيئة التدريسية.. وتفقد - حفظه الله - قاعات المحاضرات.. واستمع إلى بعض المدرسين.

وقد غادر- حفظه الله - مقر الجامعة الإسلامية مودعا بمثل ما استقبل به من حفاوة وتكريم.. حفظ الله جلالته في حله وترحاله.

ص: 97

في يوم الاثنين الموافق 2/1/93هـ قام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران والمفتش العام بزيارة الجامعة الإسلامية، وكان في استقباله سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز.. وبعد أن ظل بعض الوقت مع سماحة الرئيس تفقد بعض أقسام الجامعة يصحبه الأمين العام، وأبدى سموه إعجابه بالتطور الذي حققته الجامعة.

في مساء يوم الاثنين الموافق 2/1/93هـ قام صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية.. والأمين العام الشيخ محمد بن ناصر العبودي.. وكبار أعضاء الهيئة التدريسية في الكليات والمعاهد الثانوية بالجامعة ورؤساء الأقسام بالسلام على حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل بمناسبة وصوله إلى المدينة، وذلك في قصر الضيافة بسلطانة، حيث ينزل جلالته مدة إقامته في المدينة المنورة.

قام بزيارة الجامعة الإسلامية يوم الخميس الموافق 27/2/93هـ وفد من طلاب معهد العاصمة النموذجي بالرياض يتكون من حوالي 27 طالبا و 3 من المدرسين والمشرفين، وقد تجول الوفد في كافة أقسام الجامعة.. وفي ختام الزيارة قدمت لهم الجامعة بعض الكتب والنشرات هدية منها.

مجلس الجامعة الإسلامية

اجتمع مساء يوم الخميس الموافق 26/1/93هـ مجلس الجامعة الإسلامية الموقر برئاسة سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وباشتراك ممثل وزارة المعارف سعادة الدكتور أحمد محمد علي وكيل وزارة المعارف للشئون الفنية، وممثل وزارة المالية الأستاذ عمر عبد ربه.

وقد ناقش المجلس موضوع الانتساب لكليات الجامعة، وبعد تداول الآراء رأى المجلس بالإجماع الاستمرار في منع الانتساب وعدم السماح به.

ص: 98

أقامت الجامعة الإسلامية يوم السبت 29/1/93هـ حفل غذاء في فندق التيسير بالمدينة المنورة لوفد طلاب معهد العاصمة النمزذجي بالرياض ومرافقيهم من المدرسين والمشرفين، وبعد تناول الطعام ارتجل سماحة رئيس الجامعة الإسلامية كلمة توجيهية في الطلاب ثم أقام أحد المدرسين بالمعهد فألقى كلمة شكر فيها الجامعة على حفاوتها واستقبالها.

ردّا على زيارة الوفد الطلابي لجامعة الملك عبد العزيز للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في العام الماضي 91/92هـ فقد قام وكيل جامعة الملك عبد العزيز بدعوة وفد طلابي من الجامعة الإسلامية لزيارتها، وبناء على توجيهات سماحة رئيس الجامعة سيقوم وفد طلابي يتكون من 40 طالبا يمثلون جنسيات مختلفة من أقسام الجامعة يرافقهم اثنان من أساتذة الجامعة هما الشيخ محمود عبد الوهاب فايد المدرس في كلية الدعوة والشيخ عبد القوي عبد المجيد المدرس في المعهد الثانوي والمشرف الاجتماعي والمشرف الرياضي برحلة لزيارة جامعة الملك عبد العزيز وبعض المؤسسات الحكومية والتعليمة بجدة ومكة والطائف.

والهدف من الرحلة هو: التعرف على المؤسسات العلمية والتقدم الحضاري في بلدان المملكة الأخرى، وتنظيم اللقاءات والتعارف بين طلاب الجامعة الإسلامية الذين يمثلون جنسيات متعددة وطلاب المؤسسات التعليمية الأخرى بكلٍّ من جدة ومكة والطائف.

وتشمل الرحلة ما يلي: أداء العمرة وصلاة الجمعة في مكة المكرمة، ثم زيارة كليتي الشريعة والتربية وقسم الدراسات العليا في فرع جامعة الملك بمكة، ثم زيارة دار الحديث المكية، المعهد العلمي بمكة، والرئاسة العامة للإشراف الديني بمكة، رابطة العالم الإسلامي، مكتبة الحرم المكي، وفي الطائف: زيارة دار التوحيد، المعهد العلمي، وفي جدة: زيارة جامعة الملك عبد العزيز، وميناء جدة الإسلامي، ومدارس الثغر النموذجية، ودار الإذاعة، ومصنع الإسمنت.

ص: 99

أقامت الجامعة الإسلامية سلسلة من المحاضرات الثقافية جريا على العادة التي سارت عليها كل عام وذلك بمقر دار الحديث التابعة للجامعة، وفي نطاق هذه المحاضرات ألقى فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس في كلية الشريعة بالجامعة محاضرة قيمة، وفضيلة الدكتور طه محمد الزيني المحاضر في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة محاضرة قيمة بعنوان (تكوين الأسرة المسلمة) ، حضرها لفيف من أهالي البلد وطلاب العلم والمدرسين.

كما ألقى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية محاضرة قيمة بعنوان (الإسلام دين العزة والعدل والأمن والسعادة) وذلك بعد صلاة العشاء من يوم الأربعاء الموافق 19/1/93هـ وقد حضرها جمع غفير من طلاب الجامعة.. ومحبي العلم والمعرفة.

اجتمع مجلس الجامعة الإسلامية برئاسة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة وبكامل أعضائه واشتراك سعادة وكيل وزارة المعارف للشئون الفنية الدكتور أحمد محمد علي ممثلا لوزارة المعارف، وسعادة الأستاذ عمر يوسف عبد ربه ممثلا عن وزارة المالية، وقد درس المجلس عدة مواضيع أهمها موضوع زيادة المنح الدراسية، وقرر ما يلي:

اعتماد زيادة المنح الدراسية للعام الدراسي القادم 93/94هـ للطلاب الوافدين مائتي منحة.. ومما تجدر الإشارة إليه أن الأمر لا يقف عند حد اعتماد هذه المنح بل يتعداها في وجوب توفير ما يلزم للطلاب الذين سيستفيدون منها.. مثل تجهيز المساكن اللازمة لهم.. وتوفير الرعاية الاجتماعية والصحية واعتماد المكافآت والكتب الدراسية لهم، وما يلزم من وسائل النقل وتوفير المدرسين لمقابلة هذه الزيادة.

ودرس المجلس الموقر ميزانية الجامعة للعام المالي 93/94هـ وقد صدق عليها وأقرها.

ص: 100

من المنتظر أن تطرح الجامعة الإسلامية مشروع إنشاء مسجد جامع فيها على الطراز الإسلامي يتسع لحوالي 1500 مصلي، وقد رصد له مبلغ 400000ريال، وما تجدر إليه الإشارة أنه يوجد في الجامعة حاليا مسجدا يتسع لحوالي 500 مصلي.

اجتمعت يوم أمس لجنة خاصة لشراء كتب الدعوة الإسلامية برئاسة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي وعضوية كل من مدير الشئون المالية ورئيس المحاسبة وبعض المدرسين، وقد وافقت على شراء كمية من الكتب لتوزيعها على أبناء المسلمين في أفريقيا الذين هم في أمس الحاجة إلى المساعدات، هذا وإدارة العلاقات العامة في الجامعة تتولى الإجابة على ما يرد للجامعة بهذا الصدد وتتولى عملية الإرسال.

ص: 101

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب

لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المدرس بالجامعة

سورة التين

قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} .

قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} هذه الآية الكريمة توهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه، لما تقرر في المعاني من أن خالي الذهن من التردد والإنكار لا يؤكّد له الكلام، ويسمّى ذلك ابتدائيا، والمتردد يحسن التوكيد له بمؤكد واحد ويسمى طلبيا، والمنكر يجب التوكيد له بحسب إنكاره ويسمى إنكاريا، والله تعالى في هذه الآية أكّد إخباره بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم بأربعة أقسام وباللام وبقد، فهي ستة تأكيدات، وهذا التوكيد يوهم أن الإنسان منكر لأن ربه خلقه، وقد جاءت آية أخرى صريحة في أن الكفار يقرّون بأن الله هو خالقهم وهي قوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} .

والجواب من وجهين:

الأول: هو ما حرره علماء البلاغة من أن المقر إذا ظهرت عليه أمارة الإنكار جعل كالمنكر، فأكد له الخبر كقول حجل بن نضلة:

جاء شقيق عارضا رمحه

إنّ بني عمك فيهم رماح

فشقيق لا ينكر أنّ في بني عمه رماحا، ولكن مجيئه عارضا رمحه أي جاعلا عرضه جهتهم من غير التفات أمارة أنه يعتقد أن لا رمح فيهم فأكد له الخبر.

ص: 102

فإذا حققت ذلك فاعلم أن الكفار لما أنكروا البعث ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد الأول؛ لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني؛ لأن الإعادة أيسر من البدء فأكد لهم الإيجاد الأول، ويوضّح هذا أن الله بيّن أنه المقصود بقوله:{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} أي ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء بعد علمك أن الله أوجدك أوّلا، فمن أوجدك أوّلا قادر على أن يوجدك ثانيا كما قال تعالى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية، وقال:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية، وقال:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَاب} والآيات بمثل هذه كثيرة، ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي إيجاده الأول بقوله:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ، وبقوله:{وَيَقُولُ الأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلا يَذْكُرُ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} .

وقال البعض: معنى {فَمَا يُكَذِّبُكَ} : فمن يقدر على تكذيبك يا نبي الله بالثواب والعقاب بعد ما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا، وهو في دلالته على ما ذكرنا كالأوّل، فظهرت النكتة في جعل الابتدائي كالإنكاري.

ص: 103

الوجه الثاني: أن القسم شامل لقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي إلى النار، وهم لا يصدّقون بالنار بدليل قوله تعالى {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} وهذا الوجه في معنى قوله:{أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أصح من القول بأن معناه الهرم والرد إلى أرذل العمر لكون قوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أظهر في الأول من الثاني، وإذا كان القسم شاملا للإنكاري فلا إشكال؛ لأن التوكيد منصبّ على ذلك الإنكاري، والعلم عند الله تعالى.

سورة العلق

قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} الآية، أسند الكذب في هذه الآية الكريمة إلى ناصية هذا الكافر وهي مقدّم شعر رأسه مع أنه أسنده في آيات كثيرة إلى غير الناصية كقوله:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} والجواب ظاهر: وهو أنه هنا أطلق الناصية وأراد صاحبها على عادة العرب في إطلاق البعض وإرادة الكل، وهو كثير في كلام العرب وفي القرآن، فمن أمثلته في القرآن هذه الآية الكريمة، وقوله تعالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ، وقوله:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} يعني بما قدمتم، ومن ذلك تسمية العرب الرقيب عينا.

وقوله: {خَاطِئَةٍ} لا يعارضه قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِه ِ} ؛ لأنّ الخاطئ هو فاعل الخطيئة أو الخطء بكسر الخاء، وكلاهما الذنب كما بيّنه قوله تعالى:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} ، وقوله:{إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} فالخاطئ المذنب عمدا، والمخطئ من صدر منه الفعل من غير قصد فهو معذور.

سورة القدر

ص: 104

قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} لا تعارض بينه وبين قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ؛ لأنّ الليلة المباركة هي ليلة القدر وهي من رمضان بنصّ قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فما يزعمه كثير من العلماء من أن الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان تردّه هذه النصوص القرآنية والعلم عند الله تعالى.

سورة الزلزلة

قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} هذه الآية الكريمة تقتضي أن كل إنسان كافرا أو مسلما يجازى بالقليل من الخير والشر، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف هذا العموم، أمّا ما فعله الكافر من الخير فالآيات تصرّح بإحباطه كقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقوله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وكقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} الآية، وقوله:{أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الآية، إلى غير ذلك من الآيات، وأمّا ما عمله المسلم من الشر فقد صرّحت الآيات بعدم لزوم مؤاخذته به لاحتمال المغفرة أو لوعد الله بها كقوله:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقوله:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} إلى غير ذلك من الآيات، والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:

الأول: أن الآية من العام المخصوص، والمعنى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره إن لم يحبطه الكفر بدليل آيات إحباط الكفر عمل الكفار، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره إن لم يغفره الله له بدليل آيات احتمال الغفران والوعد به.

ص: 105

الثاني: أنّ الآية على عمومها وأنّ الكافر يرى جزاء كل عمله الحسن في الدنيا كما يدل عليه قوله تعالى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآية، وقوله:{وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} الآية، وقوله تعالى:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} ، والمؤمن يرى جزاء كل عمله السيّء في الدنيا بالمصائب والأمراض والآلام، ويدل لهذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم وجماعة عن أنس قال:"بينا أبو بكر رضي الله عنه يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر"الحديث.

الوجه الثالث: أن الآية أيضاً على عمومها وأن معناها أن المؤمن يرى كل ما قدم من خير وشر فيغفر الله له الشر ويثيبه بالخير، والكافر يرى كل ما قدم من خير وشر فيحبط ما قدم من خير ويجازيه بما فعل من الشر.

سورة العاديات

قوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} الآية، هذه الآية تدل على أنّ الإنسان شاهد على كنود نفسه أي مبالغته في الكفر، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى:{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ، وقوله:{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} ، والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:

الأول: أنّ شهادة الإنسان بأنه كنود هي شهادة حالة بظهور كنوده، والحال ربما تكفي عن المقال.

ص: 106

الثاني: أن شهادته على نفسه بذلك يوم القيامة كما يدل له قوله: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} ، وقوله:{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} ، وقوله:{بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .

الوجه الثالث: أن الضمير في قوله {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} راجع إلى رب الإنسان المذكور في قوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} وعليه فلا إشكال في الآية، ولكن رجوعه إلى الإنسان أظهر بدليل قوله:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} والعلم عند الله تعالى.

سورة القارعة

قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} هذه الآية الكريمة تدل على أن الهاوية وصف لا علَم للنار إذ تنوينها ينافي كونها اسما من أسماء النار يلزم فيها المنع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} يدل على أن الهاوية من أسماء النار.

اعلم أولا أنّ في معنى قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} ثلاثة أوجه للعلماء، اثنان منها لا إشكال في الآية عليهما، والثالث هو الذي فيه الإشكال المذكور، أمّا اللذان لا إشكال في الآية عليهما فالأول منهما أن المعنى {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي أمّ رأسه هاوية في قعر جهنم؛ لأنه يطرح فيها منكوسا رأسه أسفل ورجلاه أعلا، وروي هذا القول عن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم، وعلى هذا القول فالضمير في قوله:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} عائد إلى محذوف دلّ عليه المقام أي أم رأسه هاوية في نار وما أدراك ما هيه نار حامية.

والثاني: أنه من قول العرب إذا دعَوا على الرجل بالهلكة قالوا: "هوت أمه"لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا، ومن هذا المعنى قول كعب بن سعد الغنوي:

هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا

ص: 107

يؤوب وماذا يرد الليل حين

وهذا القول رواية أخرى عن قتادة، وعلى هذا القول فالضمير في قوله:{هِيَهْ} للداهية التي دلّ عليها الكلام، وذكر الألوسي في تفسيره أن صاحب الكشف قال: إنّ هذا القول أحسن، وأن الطيبي قال: إنه أظهر، وقال هو: وللبحث فيه مجال.

الثالث الذي فيه إشكال: أنّ المعنى {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي مأواه الذي يحيط به ويضمّه هاوية وهي النار؛ لأن الأمّ تؤوي ولدها وتضمّه، والنار تضمّ هذا العاصي وتكون مأواه.

والجواب على هذا القول هو ما أشار له الألوسي في تفسيره من أنه نكّر الهاوية في محلّ التعريف لأجل الإشعار بخروجها عن المعهود للتفخيم والتهويل، ثم بعد إبهامها لهذه النكتة قرّرها بوصفها الهائل بقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} .

قال مقيده عفا الله عنه: هذا الجواب الذي ذكره الألوسي يدخل في حد نوع من أنواع البديع المعنوي يسمّيه علماء البلاغة التجريد، فحد التجريد عندهم هو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه، وأقسامه معروفة عند البيانيين؛ فمنه ما يكون التجريد فيه بحرف نحو قولهم:"لي من فلان صديق حميم"أي بلغ من الصداقة حدا صح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه، وقولهم:"لئن سألته لتسألن به البحر"بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرا في السماحة، ومن التجريد بواسطة الحرف قوله تعالى:{لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْد} وهو أشبه شيء بالآية التي نحن بصددها؛ لأن النار هي دار الخلد بعينها لكنه انتزع منها دارا أخرى وجعلها معدة في جهنم للكفار تهويلا لأمرها ومبالغة في اتصافها بالشدة، ومن التجريد ما يكون من غير توسط الحرف نحو قول قتادة بن سلمة الحنفي:

ولئن بقيت لأرحلن بغزوة

تحوي الغنائم أو يموت كريم

ص: 108

يعني نفسه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه، فإذا عرفت هذا فالنار سميت الهاوية لغاية عمقها وبعد مهواها، فقد روي أن داخلها يهوي فيها سبعين خريفا، وخصها البعض بالباب الأسفل من النار فانتزع منها هاوية أخرى مثلها في شدة العمق وبعد المهوى مبالغة في عمقها وبعد مهواها، والعلم عند الله تعالى.

سورة العصر

قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن هذا المخبر عنه أنه في خسر إنسان واحد بدليل إفراد لفظة الإنسان، واستثناؤه من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات يقتضي أنه ليس إنسانا واحدا.

والجواب عن هذا هو أن لفظ الإنسان وإن كان واحدا فالألف واللام للاستغراق يصير المفرد بسببهما ما صيغة عموم، وعليه فمعنى أن الإنسان أي أن كل إنسان لدلالة (أل) الاستغراقية على ذلك، والعلم عند الله تعالى.

سورة الماعون

قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} الآية، هذه الآية يتوهم منها الجاهل أن الله توعد المصلين بالويل، وقد جاء في آية أخرى أن عدم الصلاة من أسباب دخول سقر وهي قوله تعالى:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ، والجواب عن هذا في غاية الظهور، وهو أن التوعد بالويل منصب على قوله:{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} الآية، وهم المنافقون على التحقيق، وإنما ذكرنا هذا الجواب مع ضعف الإشكال وظهور الجواب عنه؛ لأن الزنادقة الذين لا يصلون يحتجون لترك الصلاة بهذه الآية، وقد سمعنا من ثقات وغيرهم أن رجلا قال لظالم تارك الصلاة مالك لا تصلي؟ فقال: لأن الله توعد على الصلاة بالويل في قوله {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} فقال له: اقرأ ما بعدها، فقال: لا حاجة لي فيما بعدها فيها كفاية في التحذير من الصلاة، ومن هذا القبيل قول الشاعر:

دع المساجد للعباد تسكنها

وسر إلى حانة الخمار يسقينا

ما قال ربك ويل للأولى سكروا

ص: 109

وإنما قال ويل للمصلينا

فإذا كان تعالى توعد بالويل المصلى الذي هو ساه عن صلاته ويراءي فيها فكيف بالذي لا يصلي أصلاً فالويل كل الويل له وعليه لعائن الله إلى يوم القيامة مالم يتب.

سورة الكافرون

قوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} يدل بظاهره على أن الكفار المخاطبين بها لا يعبدون الله أبدا مع أنه دلّت آيات أخر على أن منهم من يؤمن بالله تعالى كقوله {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} الآية.

والجواب من وجهين:

الأول: أنه خطاب لجنس الكفار وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا، فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك لأنهم حينئذ مؤمنون لا كافرون وإن كانوا منافقين فهم كافرون في الباطن فيتناولهم الخطاب، واختار هذا الوجه أبو العباس بن تيمية رحمه الله.

ص: 110

الفتاوى

يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

رئيس الجامعة الإسلامية

س: من الأخ ج. م.ع:

ما حكم نقل حجارة مسجد قديم جدا ومع استمرار الزمان قد كبسته السيول ويحتمل أن يكون فيه قبر فهل يصح لأحد من المسلمين نقل حجارته إلى بيته ويتخذها ملكا؟

الجواب: إذا خرب المسجد ونحوه بأسباب سيل أو غيره شرع لأهل المحل التي فيها المسجد أن يعمروه ويقيموا الصلاة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة"، ولقول عائشة رضي الله عنها "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة بإسناد حسن، والمراد بالدور: القبائل والحارات ونحوها، والأحاديث في فضل تعمير المساجد كثيرة، فإن كان في المحلة مسجد يغني عنه صرفت حجارته وأنقاضه في مسجد آخر في محلة أخرى، أو بلدة أخرى محتاجة إلى ذلك، وعلى ولي الأمر في البلد التي فيها المسجد المذكور من قاضي أو أمير أو شيخ قبيلة ونحوهم العناية بذلك، ونقل هذه الأنقاض إلى تعمير المساجد المحتاجة إليها، أو بيعها وصرفها في مصالح المسلمين، وليس لأحد من أهل البلد أن يأخذ شيئا منها إلا بإذن ولي الأمر، وإذا كان في المسجد قبر وجب أن ينبش وينقل ما فيه من عظام إن وجدت إلى مقبرة البلد فيحفر لها وتدفن في المقبرة؛ لأنه لا يجوز شرعا وضع قبور في المساجد، ولا بناء المساجد عليها؛ لأن ذلك من وسائل الشرك والفتنة بالمقبور، كما قد وقع ذلك في أكثر بلاد المسلمين من أزمان طويلة بأسباب الغلو في أصحاب القبور، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنبش القبور التي كانت في محل مسجده عليه الصلاة والسلام، وثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفي صحيح مسلم عن

ص: 111

أبي مرثد الغنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها"، وفي صحيح مسلم أيضا عن جندب بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"، وفي الصحيحين عن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها في الحبشة وما فيها من الصور فقال:"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه"، زاد الترمذي رحمه الله في روايته بإسناد صحيح "وأن يكتب عليه"، فهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها والصلاة عليها وتجصصها ونحو ذلك مما هو من أسباب الشرك بأربابها، ويلحق بذلك وضع الستور والكتابة عليها وإراقة الأطياب عليها وتبخيرها؛ لأن هذا كله من وسائل الغلو فيها والشرك بأهلها، فالواجب على جميع المسلمين الحذر من ذلك، والتحذير منه، ولاسيما ولاة الأمر؛ فإن الواجب عليهم أكبر ومسئوليتهم أعظم لأنهم أقدر من غيرهم على إزالة هذه المنكرات وغيرها، وبسبب تساهلهم وسكوت الكثيرين من المنسوبين إلى العلم كثرت هذه الشرور وانتشرت في أغلب البلاد الإسلامية، ووقع بسببها الشرك والوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية الذين عبدوا اللات والعزى ومناة وغيرها، وقالوا كما ذكر الله عنهم في كتابه العظيم {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وذكر أهل العلم أن القبر إذا وضع في مسجد وجب نبشه وإبعاده عن المسجد، وإن كان المسجد هو الذي

ص: 112

حدث أخيرا بعد وجود القبر وجب هدم المسجد وإزالته؛ لأنه هو الذي حصل ببنائه المنكر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر أمته من بناء المساجد على القبور، ولعن اليهود والنصارى على ذلك، ونهى أمته عن مشابهتهم، وقال لعلي رضي الله عنه:"لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته". والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، ويمنحهم الفقه في دينه ويصلح قادتهم ويجمع كلمتهم على التقوى ويوفقهم للحكم بشريعته والحذر مما خالفها إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

وهذه أسئلة من الأخ ع. س.ط:

السؤال الأول: يوجد لدينا عادة وهي ترك النساء يخرجن من البيوت كاشفات الوجوه، والسبب أننا نكلف المرأة في عدة أعمال؛ منها جلب الحطب والماء من مسافات بعيدة، ومساعدة الزوج على أنواع الزراعة، وهذه العملية لابد للمرأة أن تكون كاشفة الوجه حتى يكون لديها القدرة على القيام بهذه الأعمال فما الحكم؟

الجواب: لا يجوز شرعا كشف المرأة لوجهها إلا لذوي محرمها فقط لقول الله سبحانه {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} وقوله سبحانه {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} والوجه أعظم الزينة والعوائد إذا خالفت الشرع وجب تركها والحذر منها.

السؤال الثاني: يوجد لدينا عادة أخرى وهي اختلاط الرجال بالنساء؛ والسبب أننا نعمل معهن في كثير من الأعمال، وننظر إليهن وهن يؤدين أعمالهن كاشفات الوجوه، ونقول: إن نياتنا سليمة، والشخص فينا ينظر إلى زوجة شقيقه فيعتبرها في مكانة شقيقته في المحرم، ونساء جيرانه يعدهن في مكانة محارمه اللاتي يحرم الزواج منهن، فالرجل فينا يسكن مع شقيقه وابن عمه والذي من جماعته ويأكلون ويشربون معا الرجال والنساء فما هو الحكم؟

ص: 113

الجواب: هذه الأمور من عادات الجاهلية الأولى، والواجب شرعا عدم كشف المرأة وجهها إلا لذوي محرمها كما أسلفنا ذلك في الجواب على السؤال الأول، كما أن الواجب على المرأة عدم الاختلاط بالأجانب وهي متكشفة، ويجب عليها أيضا أن لا تخلو في مكان مع رجل أجنبي وهو الذي لا يكون محرما لها، ولا شك أن اختلاط الرجال بالنساء بالصورة التي ذكرت من الأمور المخالفة للشرع؛ لأنه يحدث بسبب ذلك من المفاسد ما لا حصر له، أما الاختلاط السليم فلا حرج فيه كصلاتهن مع الرجال في المساجد وشبه ذلك.

السؤال الثالث: إذا ألزمت المرأة بالحجاب فهل للزوج أو الوالي عليها إلزامها بإحضار الحطب من الوادي وكذا إحضار الماء ورعي الغنم ومساعدته على الزراعة كحصد الزرع ومختلف أنواع الزراعة وهي متحجبة أم أنّ عليه إبقاءها في البيت ويكلف بإحضار ما كان خارج البيت؟

الجواب: إذا كان مثلها يقوم بهذه الأعمال فإن عليها أن تقوم بها وهي متحجبة لأن نساء المهاجرين والأنصار رضي الله عن الجميع كن يساعدن أزواجهن في بعض الأعمال التي يقدرن عليها وهم القدوة في الخير، والأولى للزوج أن يقوم بما هو خارج البيت والمرأة تقوم بما هو داخل البيت حيث تيسر ذلك، وهذه المسألة تختلف بحسب اختلاف الناس، والواجب مراعاة الحدود الشرعية في جميع الأمور وكل عرف يخالف الشرع المطهر يجب تركه، وأسأل الله أن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه إنه جواد كريم.

سؤال من الأخ ج. ح.ش:

إن والدي عقد نكاح شقيقتي البالغة من العمر ست عشرة سنة إجباريا على رجل لا ترغبه وإنها تحاول قتل نفسها بكل طريقة وتقول الموت أحب إليه منه.

ص: 114

الجواب: مثل هذا الزواج منكر لا يجوز ولا يصح في أصح أقوال العلماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تزويج النساء إلا بإذنهن، وأخبر أن البكر إذنها سكوتها، ولما أخبرته صلى الله عليه وسلم جارية أن أباها زوّجها وهي كارهة خيّرها النبي صلى الله عليه وسلم بين البقاء معه أو الترك، وما اعتاده بعض البادية وغيرهم من تزويج الأبكار دون مشاورتهن فهي عادة سيئة باطلة، والغضب لا يأتي بخير بل يضر الجميع، والذي أرى أن توسطوا أهل الخير في فسخ هذا النكاح فإن أجدت الوساطة فذلك المطلوب وإلا فاعرضوا الموضوع على المحكمة وهي إن شاء الله تحل المشكل وفق الله الجميع.

وهذه أسئلة من الأخ ص. ع.ح:

السؤال الأول: يوجد نساء يستعملن حبوب منع الحمل ويتوقفن ستة أيام من كل شهر عن أكل تلك الحبوب ويحضن في تلك الأيام، وفي شهر رمضان يستعملن تلك الحبوب طيلة الشهر تهربا من الإفطار فيه فما الحكم؟

الجواب: استعمال حبوب الحمل إذا كان المقصود منه الاستعمال لمدة معينة نظرا لمرض المرأة أو لتأجيل الحمل حتى تفطم طفلها وما أشبه ذلك من الحاجات فهذا لا بأس به، أما إن كان المقصود منه منع الحمل بالكلية بدون سبب يضطرها إلى ذلك فهذا لا يجوز، ولا بأس باستعمال تلك الحبوب في شهر رمضان لمنع الحيض والاستمرار في الصيام لأن في ذلك مصلحة بدون مضرة.

السؤال الثاني: إذا مات الميت وعليه أسنان ذهب فهل تنزع منه إذا كان عليه دين ولو كان نزعها لا يحصل بسهولة، أم تترك إذا لم يكن عليه دين؟

الجواب: إذا مات الميت وعليه أسنان ذهب أو فضة ونزعها لا يحصل بسهولة فلا بأس بتركها، سواء كان مدينا أم غير مدين، وفي الإمكان نبشه بعد حين وأخذها للورثة أو الدين، أما إذا تيسر نزعها وجب ذلك لأنها مال لا ينبغي إضاعته مع القدرة.

السؤال الثالث: ما حكم لحم الدجاج الذي يأتي من الخارج مذبوحا ومصبرا؟

ص: 115

الجواب: إذا كان الدجاج الذي يذبح في الخارج وغيره من اللحوم التي ترد مصبرة يرد من بلاد أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فهو حلال، لأن طعام أهل الكتاب حل لنا بنص القرآن الكريم ما لم يعلم سبب يحرمه مثل كونه مما أهل به لغير الله أو ذبح بغير قطع الرأس، أما إن كان ذلك يرد من بلاد المجوس أو الشيوعيين والاشتراكيين أو غيرهم من الوثنيين فهو حرام لا يجوز أكله.

سؤال من الأخ ح. م.م:

نسأل عن رجل طلق زوجته وهي حائض هل تطلق أم لا؟ وأن الطلقة هي آخر طلقة.

الجواب: الذي عليه جمهور أهل العلم أنها تحسب عليه مع الإثم؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في الحيض طلقة واحدة أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالمراجعة ولم يقل له الطلاق غير واقع، بل ثبت في صحيح البخاري أن الطلقة حسبت عليه ولم يثبت فيما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل المستفتين في الطلاق هل طلقوا في الحيض أم لا، ولو كان طلاقهم في الحيض لا يقع لاستفصلهم وهذا هو الأظهر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 116

رسائل لم يحملها البريد

بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

جاء القط الصغير:

لا أزال أذكر بشيء كثير من الأسى والألم تلك الأيام الأخيرة من حياة أمك، على الرغم من أن حياتنا معها لم تعرف وثاما وسلاما، ولا أمنا وطمأنينة، لقد عشناها حياة قلق واضطراب، حياة ليل مفزع ونهار مروع، لا أذكر إلا أياما قليلة مرت في حياتنا الطويلة دون أن نشهد غاراتها الخاطفة وهجماتها العاصفة.

ما أنس لا أنس ما حييت تلك اللحظات التي لا أزال حتى اليوم أرتعد فرقا، وأكاد أقع مغشيا علي كلما مرت بي ذكراها وطاف بي خيالها، لقد كنت أرى بعيني الاثنتين أجدادي الأعزاء وأبناء عشيرتي الخلصاء أراهم يوما بعد يوم، وليلة بعد أخرى، أراهم أمام والدتك وهي تلاعبهم لعبة الموت، تضرب الفريسة باليمين تارة وباليسار تارة أخرى، وتعضها عضات هشة، ثم تتخلى عنها قليلا، فتظن الفريسة المسكينة الحياة ممكنة، فيعدو بها حب الحياة، ولكن هيهات هيهات الحياة..

لقد كنت أغمض عيني حين أرى الضحية وقد خارت قواها تتمزق بين المخالب والأنياب ولا أفتحهما إلا على لسان يلعق الدم على أطراف الفم وعلى يدين تمسح بهما ما عسى أن يكون عليه من بقايا، يا لهول تلك اللحظات! ويا لمراراة تلك الذكرى!

جاري العزيز:

ص: 117

على الرغم من كل هذا فلا أزال أذكر أيامها الأخيرة بشيء كثير من الأسى والألم، أيام ذابت عضلاتها المفتولة التي كانت تتموج من تحت شعرها اللماح، أيام أخنت عليها الشيخوخة، فلم تترك لها غير جلد على عظم، لقد ذهبت أيام الشباب، أيام كانت تطوف بأرجاء هذا البيت وهي تحرك ذيلها في كبرياء، وتسير الهويني بخطواتها الخرس، وأصحاب البيت يقدمون إليها طيب الطعام وسائغ الشراب، تسمر معهم ليالي الشتاء حول الموقد، فيمسح الكبار شعرها بالأيدي ويتسابق الصغار في ضمها إلى الصدور، إني لأصدقك الحديث أيها الجار الكريم حين أقول لك: إن الدموع كانت تترقرق في عيني وفي عيون كثير من فيران هذا البيت، حين كنا نرى الصغار يضربونها وقد أثقلتها الشيخوخة، يضربونها بعيدان الخشب وأغصان الشجر ضربا مبرحا يملأ البيت مواءات ألم.

كم مرة رأينا صاحبة هذه الدار تركلها بقدميها، وهي تنظر إليها نظرات ازدراء صائحة في زوجها: إلى متى ستظل هذه القطة العجوز عندنا، وهي لا تستطيع أن ترد عادية الفيران في المطبخ، أو تقضي على الهوام في الحديقة؟! إنك لم تسمع جواب زوجها وهو يجلجل في أرجاء البيت، فيملأ علينا جحورنا رعبا ورهبا، كان يصيح: ماذا أصنع بهذه القطة وقد أعيتني فيها الحيل.. كم مرة قذفت بها وراء السور في المساء فوجدتها مع الصباح في الحديقة.. ألم أضعها في كيس وأذهب بها إلى مكان قصي في أطراف المدينة، فإذا بنا نجدها بعد يومين على الباب تموء.. دعيها، سوف يأكلها الجوع ويحرقها الظمأ ويطويها الموت.

ما أسرع ما ماتت ولكن كما يموت الغرباء المشردون، لم تذرف عليها دمعة، ولم تتلظ لها لوعة، ثم بقيت أنت وإخوتك من بعدها للذل والهوان، والجوع والحرمان، فأخذ الموت يتخطف إخوتك واحدا بعد واحد، وقد لطف الله بك فسلمت، وها أنت ذا لا تكاد تبلغ الكفاف من هذا الفتات المرذول والعظام المعروقة.

ص: 118

إننا _ فيران هذا البيت _ نستطيع أن نقدم إليك الكثير من طعامك وشرابك، فنوفر لك الشحم واللحم، والبيض والجبن، والحليب واللبن، وأشياء أخرى كثيرة أنت لا تدريها، وكل ما نرجوه منك أن تكف عنا شرك، وأن تكفينا مؤونة حربك.

الطعام في هذا البيت كثير، والفناء واسع كبير، فماذا يضيرك أنت أن نأكل منه جميعا، ونعيش فيه آمنين مطمئنين على غير خوف وقلق دون أن تجلس لنا كل مرصد، وأن تنغص علينا حياتنا ليل نهار.

إننا لا نذوق النوم إلا غرارا، ولا نعرف المراح واللعب إلا خلسة.

لا نريد أن تقع بيننا العداوة والبغضاء كما كانت من قبل بيننا وبين والدتك التي ماتت محرومة جائعة مهملة، وإننا لنخشى عليك أن تلاقي ذلك المصير الحزين الذي لاقته أمك من قبل، بعد أن بذلت كل ما تستطيع من جهد وسهر في رعاية هذا البيت.. والحفاظ على ما فيه.

لقد تغير العالم هذه الأيام، وأخذت تخفق على ربوعه رايات السلام، هاهي ذي الشعوب والأجناس على اختلاف أوطانها وألوانها في جميع بقاع الأرض تتنادى إلى تعايش سلمي وتفاهم أخوي، أفلا نكون نحن أولى بهذا منها ونحن نعيش في بيت واحد وتحت سقف واحد ونأكل من مائدة واحدة.

لقد دعا آبائي وأجدادي والدتك إلى هذا الذي أدعوك إليه، ولكن والدتك- رحمها الله - كانت فطيرة الرأي، قليلة التجربة، تدور في رأسها حميا الغرور، ويملأ صدرها أحلام الشباب فصمت أذنيها عن تلك الدعوة، وأبت أن تجيب ذلك النداء، ولو أنها في أخريات أيامها استقبلت من أمرها ما استدبرت لتغير الموقف، فوصلت حبالا كانت قطعتها، ولبت دعوة كانت رفضتها، وإني لعلى ثقة أن الندم كان يأكلها أكلا، حين أمست في شيخوختها عاجزة عن الصيد لا تستطيع لحاقا بالفريسة.

ص: 119

والعاقل من اتعظ بغيره، وحاد عن طريق هلك فيها السالكون من قبل، فإياك والغرور، وإياك أن تعمى عن شيخوخة باردة ستدركك يوما ما، فلا تجد فيها عاطفا ولا نصيرا، خير لك أن تمد إلينا يدك اليوم، لنمد إليك أيدينا في المستقبل.

نعم، إنه لأمر جديد هذا الذي ندعوك إليه، وهو على خلاف عادتك وإلفك، وربما عظم على نفسك وأصابك من ارتكابه حسرة وألم، ولكنك بعد طول معاودة ومعاناة ستطيب نفسا، وتهدأ قلبا، وتستمرئ هذه الحياة السهلة، وهذا الرزق الذي يأتيك رغدا دون أن تبذل في سبيله جهدا أو تجد من ورائه نصبا.

انظر إلى هذه الخادم التي تشاركنا الحياة في هذا البيت، يعطيها أهله الأجر، ويشركونها في طعام وشراب ثم هي لا تتذمم أن تسرق السكر والشاي والخبز والجبن والأرز كلما آنست من أهله طمأنينة، أو كانوا عنها في شغل، على حين أنها من أمة جاءها المرسلون، وبعث فيها النبيون، وتوالت فيها النذر، وضربت لها الأمثال.

كم وقف على أبواب هذه الدار التي دافعتنا أمك عن خيراتها وذادتنا عن حماها، ثم هاأنت ذا من بعدها تذود وتدافع، كم وقف على أبوابها أناس أكلهم الجوع وشربهم الظمأ، فما نالوا منها بلالة حلق، ولا بلالة معدة، ولقد سمعت أنت ورأيت كما كنت أنا أسمع وأرى، كيف كان الرد خشنا، وكيف كان الجواب غليظا، وفي الدار رزقها المغدق، وفيها ماؤها المتدفق.

ولعلك لا تزال تذكر ما حدث منذ أسبوعين حين كرمت هذه الدار بعض ذوي الحول والطول من رجالات هذا البلد، أرأيت كيف ضاقت الدار على رحبها بأصحاب اليسار والموظفين الكبار.. أرأيت كيف كان الطعام غنيا، شهيا، سخيا، ملأ العيون وأوفى على البطون، وجاوز الظنون، على حين أن أصحاب الطعام لا يكنون لمن دعوهم ودا، ولا يحفظون لهم عهدا، وإنما يرجون من وراء ذلك جلب مصلحة أو دفع أذى.

ص: 120

الأمانة، والإخلاص، والوفاء، والاستقامة، والمروءة، والامتيازات الفردية والجماعية، والعقائد الموروثة، والأمجاد الأثيلة، والأنساب العريقة، كل هذا وأمثاله - مما كان يؤمن به الآباء والأجداد ويحافظون عليه كل الحفاظ - قد ذهب فلا رجعة، وأمسى في هذا العالم كهذه الأزهار الصناعية التي تراها في غرفة الاستقبال من هذه الدار، ليس فيها حياة ترقص بها في الجو، وتميس بها فوق الأرض، وتنطق بجماله صنع الله، ليس فيها رائحة تفغم الأنوف، وتنعش الأنفس، وتثير الحياة، إنها مظهر جذاب، ومنظر خلاب، يخادع به الناس بعضهم بعضا وهم يعلمون.

وأنا لم أقل لك ما قلت، ولا ضربت لك تلك الأمثال، إلا لأبين لك كيف يعيش الأحياء من الناس على الأرض في هذه الأيام، لا تكاد تربطهم رابطة من دين، أو خلق، أو جنس وإنما هي المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، لماذا لا نأخذ بهذا المبدأ ونسير على هذا الطريق ونحيا حياة مسالمة ودعة ينعم فيها الطرفان، ويتفيأ ظلالها القطط والفيران..

وهل هناك حياة أمتع وأروع من حياة السلم والسكينة، والأمن والطمأنينة، مع راحة وهناء، وطعام دون عناء.

علام هذا الخصام بين مخلوقات الله في لقمة خبز، وجرعة ماء.. لو تراضى الخلق بالمساواة وأخذ كل مخلوق ما كفاه، لعاشوا جميعا عيشة هادئة وادعة، لا قلق فيها ولا اضطراب، ولا دماء ولا حراب.

لا تفكر في الماضي، فالماضي مليء بالأحقاد والترات، زاخر بالعداوات والذكريات، فكر فيما نحن فيه، وما أنت عليه، ودع عنك ماضيا سحيقا سحقته السنين والقرون.

ص: 121

أرجو ألا تستصغر شأني، أو تهمل ما أدعوك إليه، حين ترى رسالتي هذه قد جاءتك حقائق عارية من حلل الفصاحة والبلاغة، خالية من زخرف القول ومكذوب الوداد، فنحن - معاشر الفيران- قد ابتلينا بشتى المصائب، ولعل أعظمها أن الله لم يهب لنا فصاحة نملك بها الأسماع، ونختلب العواطف، ونستهوي الأنفس، ونلبس الحق بالباطل، ألا ترى إلى الفأر منا يسرق قطعة الجبن، أو لقمة الخبز يدفع بها عادية الجوع، فإذا هي سرقة ملء السمع والبصر، نذوق بها الموت وعذاب الحريق، ويسرق ابن آدم _ وهو المتخم _ سرقاته الكبر فيسميها أسماء شتى، ولكن ليس بين هذه الأسماء وبين السرقة نسب، ثم لا يلحق به عاب، ولا يأخذه عقاب أو عذاب.

ولي بعد هذا أصدق العذر ألاّ أبعد في هذه الرسالة وأطيل، وفيما قلته غناء وكفاية، وفيما أتوقعه من سداد رأيك في الأمور، وحسن تبصرك في العواقب ما يرأب الصدع، وينزع غلا في القلوب طال عليه الأمد.

وفي نهاية هذه الرسالة أود أن أقول: إن هذه المسالمة التي ندعوك إليها ليست عن قلة ولا ذلة ولا ضعف، فنحن - معاشر الفيران- أشد منكم خطرا، وأوسع نفوذا في الأرض، وأقدر على أن نكثر فيها الفساد، لا أقول هذا تهديدا ووعيدا، معاذ الله فنحن ننتظر منك مكرمة تطوق أعناقنا بالجميل، وتلهج ألسنتنا بالشكر الجزيل، وتغرس في قلوب صغارنا والكبار كل احترام لك وتجله.

جارك المخلص الفأر

ص: 122

أضواء من التفسير

للشيخ عبد القادر شيبة الحمد

المدرس بكلية الشريعة

والقرآن العظيم كالدر النظيم كل آية منه لها صلة ومناسبة لما قبلها ولما بعدها، فلا يعقل أن يكون المقام مقام تشجيع وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من توعد الكفار له ثم يقول له: أذكر قصة العاشق المحب داود، برأه الله مما قالوا، إذ كان عند الله وجيها.

ومصدر هذه الأباطيل أن اليهود لعنهم الله لما عجزوا عن محاربة الإسلام بالأسنة والرماح، أظهروا اعتناق الإسلام وأبطنوا الكفر والعزم على محاربة دعوة الله تعالى بسلاح ممقوت رذيل هو سلاح الدس على الله تعالى في كتبه المنزلة والطعن في رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ولا يهولنك أن القصة على هذا مذكورة في التوراة، وأن فيها "وقبح داود في عين الرب"فالله تعالى بيّن لنا أنهم غيّروا وبدلوا تبديلا.

ومن جميل ما يروى أنه كان عمر بن عبد العزيز جالسا، وعنده رجل من أهل الحق، وبالقرب منهما رجل قاص يقص على الناس هذه القصة وينسبها إلى داود عليه السلام، فقال الرجل للقاص: يا هذا إن كان الأمر كما تقول وستر الله عبده داود وكنى وقال: "نعجة"، فما يحل لك أن تفضح نبي الله داود عليه السلام، وإن كان الأمر غير ذلك فقد افتريت على نبي الله داود، فقال عمر بن عبد العزيز: هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.

ما ترشد إليه الآيات:

1-

فزع داود عند دخول الخصمين.

2-

الأسلوب البدوي الجاف.

3-

كثرة بغي الشركاء غير المسلمين.

4-

قلة المؤمنين.

5-

سرعة خاطر داود عليه السلام.

6-

مسارعة الصالحين بالإنابة إلى الله.

7-

أن الهوي إلى الأرض لله عند الإنابة من عمل الصالحين.

8-

أن الله تجاوز لداود عما فتن به.

9-

منزلة داود عند الله.

10-

حسن مرجعه في الآخرة.

11-

الاعتبار والتأسي.

ص: 123

قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ. وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} .

المناسبة:

بعد أن ساق الله تعالى قصة داود نبّه إلى مكانته عنده واصطفائه له، وأن منزلته بعد الفتنة والتوبة منها كمنزلة قبلها، وأن فتنته لم تسلب خلافته.

القراءة:

قرأ الجمهور (يضلون) بفتح الياء وقرئ بضمها، وقرأ الجمهور (مبارك) بالرفع وقرئ (مباركا) على النصب، وقرأ الجمهور (ليدبروا) بالياء وتشديد الدال، وقرئ (ليتدبروا) ، وقرئ (لتدبروا) بالتاء وتخفيف الدال.

المفردات:

خليفة: أي مستخلفا على الملك والحكم بين الناس بمعنى نصّبناك حاكما لتنفيذ أوامرنا أو صيرناك نائبا عنا.

بالحق: بالعدل.

الهوى: ميل النفس إلى شهوتها ولو عارض الشرع، وقد يراد به الشيء المهوي، كما في قول جعفر بن علبة:

هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق

يضلك: يصرفك ويبعدك.

سبيل الله: طريقه المستقيم.

شديد: شاق.

نسوا: تركوا بمعنى أنهم لم يذكروه ولم يعملوا.

يوم الحساب: يوم القيامة والنقاش والجزاء.

خلقنا: أنشأنا وأوجدنا.

باطلا: لعبا وعبثا وبلا حكمة.

ص: 124

ذلك: إشارة إلى خلقها للعب والعبث وعدم الحكمة.

ظن الذين كفروا: أي مظنونهم الخاطر ببالهم والقائم بنفوسهم.

فويل: فهلاك ودمار أو هو واد في جهنم.

مبارك: أي كثير المنافع.

ليدّبروا: ليتأملوا وينظروا.

وليتذكر: وليتعظ.

أولوا الألباب: أصحاب العقول.

التراكيب:

قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} يجوز أن يكون مستأنفا لبيان زلفاه، ويجوز أن يكون مقولا لقول مقدر معطوف على (غفرنا) أو حال من فاعل (غفرنا) أي غفرنا وقلنا أو قائلين يا داود، والكاف مفعول أول لـ (جعلنا) ، و (خليفة) المفعول الثاني.

وقوله {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} الفاء تفريعية، وقد فرع الأمر بالحكم على ما سبقه، لأن جعله خليفة يقتضي الحكم بالعدل.

والمراد بالأمر مداومة داود للحكم بالحق وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق، وهو عليه السلام لا يحكم إلا بالحق، وكذلك قوله:{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} نهي له يقصد منه المداومة على ترك اتباع الهوى وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس ألاّ يتبع في حكمه الهوى.

وقوله: {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} بنصب المضارع بأن مضمرة بعد فاء السببية لكونه في جواب النهي، ويجوز أن تكون الفاء للعطف على النهي، وإنما فتحت اللام لأجل التقاء الساكنين، والفاعل في (فيضلك) ضمير الهوى أو ضمير المصدر المفهوم من قوله:{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} أي فيضلك الهوى أو اتباع الهوى.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} تعليل لما قبله ببيان غائلته، وكان مقتضى الظاهر أن يقول إن الذين يضلون عنه، ولكنه أظهر في موضع الإضمار فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} لزيادة التقرير، والإيذان بكمال شناعة الضلال عنه.

ص: 125

وقوله {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لهم: خبر مقدم، وعذاب: مبتدأ مؤخر، وشديد: صفته، والجملة في محل رفع خبر إن، والباء في قوله {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} سببية، وما مصدرية، ويوم الحساب: مفعول لنسوا، والمعنى: لهم عذاب شديد لعدم ذكرهم يوم الحساب، ويكون قوله:{بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} تعليلا تصريحا لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيانهم يوم الحساب، وقيل: إن يوم الحساب ظرف لقوله (لهم) ففي الكلام تقديم وتأخير والأصل: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا، وعليه فمفعول نسوا محذوف مفهوم من السياق تقديره: بما نسوا سبيل الله، والأول أولى، ومن قرأ (يضلون) بضم الياء فهي على حذف المفعول.

وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} كلام مستأنف لتقرير مضمون ما قبله من أمر الحساب، ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من فاعل نسوا، وقد جيء بها لتفظيع أمر النسيان كأنه قيل: بما نسوا يوم الحساب حالة وجود دلائله ووضوح حقيقته، و (باطلا) منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي خلقا باطلا، ويجوز أن يكون حالا أي مبطلين أي ذوي باطل، كما يجوز أن يكون مفعولا لأجله أي لأجل الباطل، والإشارة بقوله:{ذَلِكَ ظَنُّ} راجعة إلى كون خلقها باطلا، والكفار وإن أقروا أن الله خالق السموات والأرض، ظانون أن خلق ذلك ليس لحكمة، وأنها خلقت عبثا ولعبا، ولذلك قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} .

ص: 126

وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} مبتدأ وخبر، والفاء لإفادة ترتيب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل، وكان مقتضى الظاهر أن يقول (فويل لهم) وإنما وضع الاسم الموصول موضع الضمير لإشعار جملة الصلة بسبب استحقاقهم الويل، ومن في قوله:{مِنَ النَّارِ} بمعنى في، وقيل تعليلية كما في قوله:{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم، و (أم) في قوله:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ} منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار، والإضراب للانتقال من تقرير أمر البعث والحساب بنفيه خلق العالم لغير حكمة إلى تقريره وتحقيقه بما في الهمزة من إنكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده.

وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار ِ} يجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ويكون التكرار باعتبار وصفين آخرين هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين، ويجوز أن يكون انتقالا من إثبات الحساب بلزوم استحالة التسوية بين الفريقين المذكورين على الإطلاق إلى إثباته بلزوم ما هو أظهر منه استحالة وهو التسوية بين أتقياء المؤمنين وفجرة الكافرين.

ص: 127

وقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} مستأنف لبيان ما ترسم به الطريق التي يكون سالكوها من أهل السعادة يوم الحساب، وفي ذكر الكتاب هنا بهذا الوصف تنبيه إلى أن القصة السابقة فيها كفاية لأصحاب العقول ولقريش لو كانوا يعقلون، ومع ذلك يذكر بعدها بعض القصص إمعانا في النصح ومبالغة في الإعذار، وفيه إشارة إلى إعجازهم بالقرآن وتحديهم به، و (كتاب) خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب، و (أنزلناه) صفته، وقوله:(مبارك) على قراءة الرفع يصح أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أيضا، أو هو خبر ثان، ولا يجوز أن يكون نعتا ثانيا عند الجمهور؛ لأنهم لا يجيزون أن يتأخر الوصف الصريح على غير الصريح، أما الذين لا يمنعون ذلك فيجوزون أن يعرب وصفا ثانيا، وقرئ (مباركا) بالنصب على أنه حال من مفعول (أنزلنا) وهي حال لازمة؛ لأن البركة لا تفارقه، وقوله:{لِيَدَّبَّرُوا} متعلق بأنزلنا، وضمير الفاعل في (ليدبروا) لأولي الألباب على سبيل التنازع مع إعمال الثاني، أو للمؤمنين والمفسدين، ومن قرأ (لتدبروا) فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وعلماء المسلمين.

المعنى الإجمالي:

يا داود إنا نصبناك حاكما لتنفيذ أوامرنا فافصل في قضايا الناس بالعدل، واتبع نظام الشرع، ولا تخضع لميول نفسك وما تهوى، فإن الهوى يحيد بك عن صراط الله المستقيم، ومنهجه القويم، إنّ الذين يحيدون عن صراط الله المستقيم، وينسون يوم النقاش العظيم قد هُيئ لهم عقاب قاس، لا يخطر على البال، ولا يدور في الخيال بسبب تركهم العمل ليوم مناقشة الخلائق على ما قدموا، إنّ يوم الحساب كائن لا محالة؛ لأنه لو لم يكن حساب ولا بعث لكان خلق السموات والأرض وسائر العوالم عبثا ولعبا لأنها تكون حينئذ إنما خلقت للفناء، ولا يخطر هذا إلا ببال الجاحدين الأشقياء.

ص: 128

فهلاك ودمار أو واد في جهنم لهؤلاء الجاحدين، إنه لو لم يكن بعث ولا حساب لاستوى الصالح والمفسد، والتقي والفاجر، ولا يمكن لعاقل أن يسوي بينهما، فشتان بين من يغض طرفه إن بادت له جارته وبين من ينهب النساء للخنا والفجور، وشتان بين من يمد يد المساعدة والإنفاق للفقراء والمساكين وبين من يمد يده لنهب أموال اليتامى والمستضعفين.

هذا كتاب أوحينا به إليك كثير الخيرات، عظيم المنافع، لا تفارقه البركة أبدا، أنزلناه ليتفكروا في آياته، وينظروا في عجائبه وبدائعه، وليتعظ أصحاب العقول.

ما ترشد إليه الآيات:

1-

أنّ داود من خلفاء الله في الأرض.

2-

وجوب الحكم بالعدل.

3-

عدم جواز الحكم بغير كتاب الله.

4-

الحكم بغير كتاب الله يسبب شقاء العاجلة والآجلة.

5-

الحاكم بغير كتاب الله لا يؤمن بيوم الحساب.

6-

البعث حق ولابد منه.

7-

منكر البعث يرى أن خلق العالم لعب.

8-

لا ينكر البعث إلا كافر.

9-

إنكار البعث تسوية بين الصالحين والمفسدين.

10-

القرآن كثير الخيرات جليل المنافع لا ينأى عنه إلا محروم.

11-

يجب تدبر القرآن.

12-

لا يتعظ به إلا أصحاب العقول.

13-

في القصة السابقة كفاية لو كانوا يعقلون.

ص: 129

من أعلام المحدثين

أبو حاتم الرازي 195-277هـ

بقلم: الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

نسبه:

هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران.

كنيته:

يكنى أبا حاتم وقد اشتهر بهذه الكنية.

نسبته:

يقال له الرازي نسبة إلى وطنه الري بزيادة زاي، وأصله من أصبهان، ومن أجل ذلك ترجم له أبونعيم في كتابه أخبار أصبهان، ويقال له الغطفاني، ويقال الحنظلي، وحنظلة بطن من غطفان، ونسبته إليهم نسبة ولاء كما في الخلاصة للخزرجي، وقال ابنه عبد الرحمن كما في اللباب:"نحن من موالي تميم بن حنظلة الغطفاني من غطفان"، وقال ابن الأثير:"وأما أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي فمنسوب إلى درب بالري يقال له: درب حنظلة".

رحلته في طلب الحديث:

بدأ كتابة الحديث سنة تسع ومائتين أي وعمره أربع عشرة سنة، ورحل في طلبه وهو صغير، فرحل إلى الكوفة والبصرة وبغداد ودمشق وحمص، ورحل إلى مصر وبقي في الرحلة زمانا، وحصل له في ذلك أمور عجيبة قال ابنه: سمعت أبي يقول: "أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ثم تركت العدد بعد ذلك، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا، ثم إلى الرملة ماشيا، ثم إلى دمشق ثم إلى أنطاكية ثم إلى طرسوس ثم رجعت إلى حمص ثم منها إلى الرقة ثم ركبت إلى العراق كل ذلك وأنا ابن عشرين سنة، وقال: بقيت بالبصرة سنة أربع عشرة أي ومائتين فبعت ثيابي حتى نفدت، وجعت يومين فأعلمت رفيقي فقال: معي دينار فأعطاني نصفه، وطلعنا مرة من البحر وقد فرغ زادنا فمشينا ثلاثة أيام لا نأكل شيئا

"إلى آخر القصة، وهي مذكورة في طبقات الشافعية وتذكرة الحفاظ وغيرهما.

ممن روى عنهم:

ص: 130

روى عن محمد بن عبد الله الأنصاري وعثمان بن الهيثم وعفان بن مسلم وأبي نعيم عبيد الله بن موسى وآدم بن أبي إياس وأبي اليمان وسعيد بن أبي مريم وأبي مسهر وغيرهم.

ممن رووا عنه:

روى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابنه عبد الرحمن، وروى عنه عبدة بن سليمان المروزي والربيع بن سليمان المرادي ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عوف الطائي وهم من شيوخه، ورفيقه وابن خالته أبو زرعة الرازي ومحمد بن هارون الروياني وأبو عوانة الإسفرائيني وابن أبي الدنيا وأبو زرعة الدمشقي وأبو عمرو بن حكيم وغيرهم.

من خرج حديثه:

خرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وقد رمز لإخراجهم حديثه في سننهم الحافظ في تهذيب التهذيب وتقريبه والخزرجي في الخلاصة، وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب أن ابن ماجة روى عنه في التفسير، وقد روى البخاري في الصحيح في باب المحصر عن محمد غير منسوب عن يحي بن صالح، وفي آخر تفسير سورة البقرة عن محمد غير منسوب عن النفيلي ويحتمل أن يكون هو أبا حاتم الرازي كما في فتح الباري 4/7 و 8/206 وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية:"وقيل إن البخاري وابن ماجة رويا عنه ولم يثبت ذلك".

من ثناء العلماء عليه:

ص: 131

قال أبو بكر الخلال: "أبو حاتم إمام في الحديث"، وقال ابن خراش:"كان من أهل الأمانة والمعرفة"، وقال النسائي:"ثقة"، وقال أبو نعيم:"إمام في الحفظ والفهم"، وقال اللالكائي:"كان إماما عالما بالحديث حافظا متقنا ثبتا"، وقال ابن أبي حاتم:"سمعت موسى بن إسحاق القاضي يقول: ما رأيت أحفظ من والدك، قلت له فرأيت أبا زرعة؟ قال لا، قال: وسمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان ودعا لهما وقال: بقاؤهما صلاح للمسلمين"، وقال الخطيب:"كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات مشهورا بالعلم مذكورا بالفضل"، وقال ابن أبي حاتم:"سمعت أبي يقول: قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: من أغرب عليّ حديثا غريبا مسندا صحيحالم أسمع به فله عليّ درهم يتصدق به وهناك حلق من الخلق أبو زرعة فمن دونه وإنما كان مرادي أن أستخرج منها ما ليس عندي، فما تهيأ لأحد منهم أن يغرب عليّ حديثا"، وقال أحمد بن سلمة النيسابوري:"ما رأيت بعد إسحاق ومحمد بن يحي أحفظ للحديث ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم"، وقال عثمان بن خرزاذ:"أحفظ من رأيت أربعة: إبراهيم بن عرعرة ومحمد بن المنهال الضرير وأبو زرعة وأبو حاتم".

ص: 132

وقال أبو حاتم: "قدم محمد بن يحي النيسابوري الري فألقيت عليه ثلاثة عشر حديثا من حديث الزهري فلم يعرف منها إلا ثلاثة"، قال الحافظ ابن حجر:"وهذا يدل على حفظ عظيم فإن الذهلي شهد له مشايخه وأهل عصره بالتبحر في معرفة حديث الزهري ومع ذلك فأغرب عليه أبو حاتم"، وقال في تقريب التهذيب:"أحد الحفاظ"، وقال ابن كثير في البداية والنهاية:"أحد الأئمة الحفاظ الأثبات العارفين بعلل الحديث والجرح والتعديل"، وقال الذهبي في العبر:"حافظ المشرق"، وقال:"وكان بارع الحفظ واسع الرحلة من أوعية العلم"، وقال:"كان جاريا في مضمار البخاري وأبي زرعة الرازي"، وقال في تذكرة الحفاظ:"الإمام الحافظ الكبير أحد الأعلام"، وقال ابن ناصر الدين -كما في شذرات الذهب لابن العماد-:"كان في مضمار البخاري وأبي زرعة جاريا، وبمعاني الحديث عالما، وفي الحفظ غالبا، وأثنى عليه خلق من المحدثين"، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب:"وقال مسلمة في الصلة: كان ثقة وكان شيعيا مفرطا وحديثه مستقيم"، قال الحافظ: "ولم أر من نسبه إلى التشيع سوى هذا الرجل، نعم ذكر السليماني ابنه عبد الرحمن من الشيعة الذين كانوا يُقدّمون عليا على عثمان كالأعمش وعبد الرزاق، فلعله تلقف ذلك من أبيه، وكان ابن خزيمة يرى ذلك أيضا مع جلالته.

آثاره:

يوجد في المكتبة الظاهرية بدمشق (من كتاب الزهد عنه) مخطوطا في المجموعة رقم 28، وفي معهد المخطوطات بالقاهرة: الضعفاء والكذابون والمتركون من أصحاب الحديث عن أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين مما سألهم عنه وجمعه وألفه أبو عثمان سعيد بن عمرو بن عمار البرذعي المتوفى سنة 292هـ رقم 719 فهرس قسم التاريخ، وفي معجم المؤلفين 9/35 من آثاره: تفسير القرآن، الجامع في الفقه، الزينة، وطبقات التابعين.

وفاته:

ص: 133

توفي أبو حاتم الرازي رحمه الله سنة سبع وسبعين ومائتين، قال الحافظ في تهذيب التهذيب "قال ابن المنادى وغير واحد: مات في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين، وقال ابن يونس في تاريخه مات سنة تسع وسبعين ومائتين، قال الحافظ: والأول أصح"، ثم قال: "وكان مولده سنة خمس وتسعين ومائة"، وقال الذهبي في التذكرة: "توفي أبو حاتم سنة سبع وسبعين أي ومائتين وله اثنتان وثمانون سنة" انتهى، وروى الخطيب بإسناده إلى أحمد بن محمود ابن صبيح أنه قال: "سنة سبع وسبعين ومائتين فيها مات أبو حاتم الرازي بالري".

ممن ترجم له:

1-

ابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين 467.

2-

والذهبي في العبر 2/58. وفي تذكرة الحفاظ 2/146.

3-

وابن حجر في تهذيب التهذيب 9/31. وفي التقريب 2/143.

4-

والخزرجي في خلاصة تذهيب الكمال 278.

5-

وابن كثير في البداية والنهاية 11/59.

6-

والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 2/73.

7-

والعليمي في المنهج الأحمد 1/183.

8-

وابن العماد في شذرات الذهب 2/171.

9-

وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1/284.

10-

وابن السبكي في طبقات الشافعية 1/299.

11-

وابنه عبد الرحمن في مقدمة الجرح والتعديل 349.

12-

وأبو نعيم في أخبار أصبهان 2/201.

13-

وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين 9/35.

ص: 134

العدوان على بنت عدنان

لفضيلة الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع

المدرس في كلية الشريعة بالجامعة

يسرف بعض الناطقين بالضاد في استعمال كلمات تجافي القواعد والأصول التي أرسى أساسها السلف وأودعوها أمات المراجع وأمهات المعاجم، وما أجدر الخلف أن يترسم خطاهم في التزام ما دوّنوا حفاظا على هذا التراث الخالد المتدفق من ينابيع القرآن تسيل بها أودية بنت عدنان في العالمين والتي باها أفصح من نطق بالضاد، ولنا فيه أسوة حسنة في تقويم الألسنة، وقديما قيل:"لو استقمتم لاستقامت ألسنتكم"، حكمة بالغة فما تغني النذر.

من ذلك التعدي في ثوب مهلهل من التحدي ما تطالعنا به الصحف السيارة من أخطاء لغوية يضل فيها الساري سواء السبيل في اللغة العربية، وخليق بالصحافة وهي من وسائل الإعلام الباقية ألا يعول لها ميزان في تنقية الأساليب مما يرنق صفوها وينأى بها عن الجادة.

وإني أسوق للقراء الكرام قلاّ من كثر على سبيل الأمثلة لا على سنن الحصر والاستقراء مبينا وجه الصواب فيها رجاء الحرص على التزامه لأنه الحق والحق أحق أن يتبع.

من ذلك جمع الكلمات (مكتوب، مشروع، موضوع، مفهوم) وما أشبهها مما هو في المفرد على وزن مفعول جمعا يأباه الكتاب وتنفر منه السنة حيث نرى جمعها خطأ على (مكاتيب، مشاريع، مواضيع، مفاهيم) على وزن مفاعيل، وهذا الجمع وبالتالي هذا الوزن ليس لها ولا لأشباهها لأنه لم يسمع عن العرب الألى نحن من جلدتهم ونتكلم بألسنتهم، وإني إذ أنقل ما نصّ عليه فحول العلماء وهم قدوتنا بعد الأنبياء آمل أن نسير على دربهم ليتصل حبلنا بحبلهم.

قال العلامة الصبان في حاشيته على شرح الأشموني لألفية الإمام ابن مالك في أعقاب باب جمع التكسير عند قول الناظم [1] :

وبفعالل وشبهه انطقا

في جمع ما فوق الثلاثة ارتقى

ص: 135

فائدة: "لا يجمع جمع تكسير نحو مضروب (يعني ما كان على وزن مفعول) وشذ ملاعين جمع ملعون، ذكره ابن هشام في شرح بانت سعاد".

وهاؤم اقرأوا ما كتبه مسك ختام المجتهدين من اللغويين والنحاة ابن هشام الأنصاري طيب الله ثراه في تحليته لبانت سعاد عند تحليله لقول كعب بن زهير سر أبيه حكيم العرب وصاحب الحوليات زهير بن أبي سلمى:

أمست سعاد بأرض ما يبلغها

إلا العتاق النجبيات المراسيل [2]

"وإنما تمنع الصفة المبدوءة بالميم من التكسير في مسألتين:

- إحداهما: أن تكون على وزن مفعول كمضروب وشذ نحو ملاعين ومشائيم.

- والثاني: أن تكون الميم مضمومة".

ولعله يشير إلى مثل قول الشاعر المجهول في الأولى:

إن هو مستوليا على أحد

إلاّ على أضعف المجانين

وقد تفرّقت روايات عجز هذا البيت مما جعله أكثر هلهلة من نسج العنكبوت إذ جعل بعض المنشدين العجز (إلاّ على حزبه الملاعين) ، على حين جعله بعض آخر (إلاّ على حزبه المناحيس) وأيا ما كان عجزه فما أغنانا عن الروايات الملفقة التي ندت عن المألوف ونبت عما اصطلح عليه فضلاء العلماء وما يعقلها إلا العالمون.

وقد أشار المحقق الصبّان إلى جموع الكلمات (مكتوب، مشروع، موضوع، مفهوم، ملعون) وأمثالها بأنها تجمع جمع تصحيح لا جمع تكسير، بدليل قوله: فيقال: مختارون ومنقادون في جمع مختار ومنقاد، يعني بذلك حالة الرفع، أمّا في حالتي النصب والجر فيقال: مختارين ومنقادين.

ومثل ذلك يقال في جمع مثل مضروب والكلمات مكتوب وما بعدها فتجمع هكذا مضربون رفعا ومضروبين نصبا وجرا.

ص: 136

وفي القرآن الحجة البالغة والدليل والبرهان، ألم تر إلى ربك كيف قال:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاس ِ} ، {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [3] جمع مسجون، {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [4] جمع مرجوم، {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} جمع معزول، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [5] جمع مقبوح، {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ} [6] إلى قوله تعالى:{مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [7] جمع ملعون، {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [8] جمع منصور، {أَئِنَّا لَمَبعُوثُون} 47 {لَمَجمُوعُون} 50 {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} 60 {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} 67 [9] .

تلك عشرة كاملة من آيات الله المحكمات تضاف إليها آية النازعات العاشرة {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَة ِ} كلّها ناطقة بجمع موازن مفعول جمع تصحيح لمذكر، ولنا قياسا متبعا وليس مبتدعا جمع مكتوب ومشروع وموضوع ومفهوم على مكتوبات ومشروعات وموضوعات ومفهومات جمع تصحيح لمؤنث، أعني به ما دل عليه قول الناظم:

وما بتا وألف قد جمعا

يكسر في الجر وفي النصب معا

والله المسئول أن يهدينا سواء السبيل.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

ص 126 ج 4 حاشية الصبان.

[2]

ص 46 من شرح بانت سعاد للإمام ابن هشام.

[3]

سورة الشعراء آية 29.

[4]

نفس السورة الشعراء آية 116.

[5]

سورة الشعراء آية 212.

[6]

القصص آية 42.

[7]

الأحزاب آية 60.

ص: 137

[8]

الصافات آية 172.

[9]

الأربعة كلها في سورة الواقعة.

ص: 138

المسلمون اليوم

للدكتور طه محمد الزيني

المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

لاجئون في فلسطين، ومقّتّلون في الفلبين، وأسارى وقتلى في باكستان والهند، ومعذّبون في كثير من أنحاء الأرض لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ومحاصرون اقتصاديا لا يستطيعون الفكاك من حصارهم، هؤلاء المسلمون الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} لم ينصروا الله فلم ينصرهم، لم ينفِّذوا أحكامه فيما ولاهم إياه ولا في أنفسهم، لا يستطيعون نصرة الضعفاء منهم ولا الدفاع عنهم، ولا تفريج كروبهم، فلا يستطيعون القتال لأنهم أحبوا الحياة وركنوا إليها، وهجروا سنّة الجهاد وفرضه فتأخروا في الفنون العسكرية عن الكفار، ولا يستطيعون الإمداد بالمال لبُخلهم وشحهم، وطمعهم وتعلّقهم بالدنيا، حتى الدفاع باللسان لا تجده إلا من فئة قليلة من المسلمين، وباقيهم بعضهم يدافع بقلبه وهذا أضعف الإيمان، وبعضهم لا ينكر بقلبه بل هو متآمر مع الكفار يرى في ضعف المسلمين قوة لنفسه وكثرة لماله وسعة في رزقه وزيادة في متعته ولذّته، ورفعة في جاهه وسلطانه.

ص: 139

وليس الإسلام قولا باللسان فقط، إنما الإسلام قول باللسان يسبقه تصديق بالقلب ويتبعه عمل بالجوارح، يطابق ما يعتقده القلب وما ينطق به اللسان، فالمسلم يعتقد أن الله واحد لا شريك له وأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، فيقول:"لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وقد ظهر الإسلام على الأديان ودانت له الشعوب وخضعت له الرقاب على يد المسلمين الأوّلين الذين أقاموا صرحه على حبهم لله ولرسوله ولدينه، وبذلوا أرواحهم رخيصة في سبيله، وأموالهم كثيرة في إحيائه ورفع كلمته، وآثروا الآخرة على الدنيا، وفضّلوا الموت في سبيل نصرة الحق على الحياة، وحكموا اليهود والنصارى والمجوس والمشركين فعدلوا فيهم، وجعلوهم يفضّلون حكمهم وهم البعداء عنهم على أهليهم وبني أوطانهم الأدنين منهم، وكان لعدلهم وقوتهم وسامي أخلاقهم دوي في الدنيا كلها فاق دوي جميع من كان له دوي من الحكام وما كان له دوي من القوانين والشرائع، ونفذوا أحكام الإسلام كاملة فيما ولاّهم الله عليه ونصروا ربهم وأعزّوا دينه ورفعوا كلمته، فنصرهم ربهم وأعزّهم وأعلى شأنهم، وجعلهم خلفاءه في الأرض طبقاً لوعده في قوله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .

ص: 140

ولكن ويا حسرة على المسلمين خلف من بعدهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وعكفوا على الدنيا، فاتخذ بعضهم حكم الرعية مغنما يستولون به على الأموال، ويهتكون به الأعراض، ويذلّون المسلمين الأعزاء، ويضعفون الأقوياء، ويسهمون في معاونة أعداء الإسلام على إذلال إخوانهم المؤمنين وسلب أموالهم وأراضيهم، ومحاربة أعمالهم الصالحة، وأقوالهم الناصحة، ويطمسون معالم الإسلام بإنشاء قوانين ليست منه في شيء وليست من صلاح المؤمنين في شيء، والمسلم الذي يعتقد أنّ محمدا رسول الله يجب عليه أن يعمل بقوله "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يقتله"وعدم خذلان المسلم نصرته على أعدائه وليس التعاون معهم، وعدم إسلامه هو الدفاع عنه وعدم تركه لأعدائه يفعلون به ما يشاءون.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

ولابد للمسلمين إذا أرادوا العزة ورغبوا في القوة وطمعوا في حياة فاضلة أن يعودوا إلى دينهم ويمتثلوا أوامر ربهم ويجتنبوا نواهيه، ويصفّوا أنفسهم من كدر الحقد والحسد والكبر والشح والحبّ المفرط للدنيا، ويصرفوا حبهم إلى خير المسلمين في جميع أنحاء الأرض، ويجاهدوا أنفسهم وينازعوها لذتها ومتعتها ويبعدوها عن كل مطلب حرام، ويرغموها على إتيان الحلال وحده حتى يرضى عنهم الله وينظر إليهم.

إنّ جهاد النفس هو الجهاد الأكبر فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".

وقال لأصحابه - بعد رجوعهم من إحدى الغزوات – "قدمتم خير مقدم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر مجاهدة العبد هواه"، وقال أيضا:"أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل".

أسأل الله لي وللمسلمين التوفيق إلى اتباع أمره واجتناب نهيه إنه سميع الدعاء.

ص: 141

يا ربة البنطلون

للشيخ محمد المجذوب

المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

يا ربة البنطلون

لو تعلمين شجوني

ماذا دهاك فألوى

بقلبك المفتون

ومن أضلك حتى

سلكت درب المجون

فبت دمية طفل

يسومها كل هون

وعدت من بعد ذاك

الجلال حفنة طين

كشفت كل خبيء

وهجت كل دفين

وكنت حلما شهيا

فصرت داء العيون

تخبطين انسياقا

وراء كل ظنين

وتهجرين اختيارا

نهج الرسول الأمين

أين الأنوثة؟! أودى

بها خسيس الفنون

وأين سحر تلالا

من قبل فوق الجبين

قد زال كل رواء

عن وجهك المسكين

ولم يعد ثمّ إلاّ

طيف الضياع المهين

وطالما فاض بالطهر

والجمال الرصين

حتى هويت فغاضا

خلف الضلال المبين

يا عزة الأمس هانت

فما لها من معين

وسلعة السوق بارت

فما لها من زبون

وكتلة اللحم فاحت

منها رياح المنون

لم تبق منك التفاها

ت غير شكل مشين

مجموعة من مخار

وحزمة من جنون

زانت رؤوس ذويها

بمخزيات القرون

فليهنهم ماجنوه

بغرسك الميمون

ويا لفرحة إبليس

بالقرين اللعين

لولا نظائرك العمي

لم يجد من خدين

والقلب محض هواء

إن لم يحصن بدين

ولن يرى الخير ملق

زمامه لخئون

ص: 142

النظام الإسلامي سيد الأنظمة

بقلم الشيخ السعيد الشرباصي

المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة

إذا كان الحماس للنظام الإسلامي شيئا واجبا فإن التفكير الهادئ الهادف في أسرار هذا النظام وما يحويه من جلال وجمال ومن حقائق وحكم شيء أوجب.

لقد ساد العالم في الأيام الأخيرة بعض التعابير الخاصة التي يتشدّق بها من يظنون أنّهم على جانب من الثقافة المعاصرة، وأنهم أوتوا حظّا من التفكير المادي المجرد.. والواقع أنّهم حفظوا شيئا وغابت عنهم أشيئا، وقصروا تفكيرهم في اتجاه ضيق ولم يحاولوا أن ينظروا إلى الوجود كله نظرة شاملة واعية؛ لأن الإنسان ليس مادة فقط وإنما هو جسم وروح ومادة وحياة.

والتعابير التي يرددونها ما هي إلا نظريات جوفاء، وأوهام مجسمة إن كان لها ظلال في عالم الفكر والخيال، فإنها لا تقوم في عالم الحقيقة والتجربة والوجود، وقد يكون في بعض هذه المصطلحات أفكار منمّقة ولكنّها في التطبيق تتحوّل إلى رذائل مجسّمة تخدع ولا تقنع، وتبلبل ولا ترضي، وتصنع جبلا عظيما من الوهم والكذب والنفاق.

وفي بدء حديثي طالبت بالتفكير الهادئ الهادف، ولهذا أذكّر شبابنا وطلابنا ألاّ يأخذوا كلامنا - نحن المجربين - قضية مسلّمة، كما لا أريد منهم ألاّ يكونوا ببغاوات تقلّد ما تسمع، وتلتقط ما يتساقط في آذانها من تعبيرات دون فحص أو تمحيص.

أريد منهم أن يفكّروا معنا بشخصية ثابتة قوية تسمع وتعي وتبصر وتفكر، لا تخدع بالبريق ولا بالغريب، وإنما تبحث عن الأصيل والعميق، وتجري وراء اللبّ والحقيقة، وأكثر الأشياء البرّاقة تكون سرابا، وأعظم الأشياء اللاّمعة تكون تافهة.

ص: 143

ونحن الشيوخ نعصر أفكارنا وعقولنا وقلوبنا لنعطيكم تجاربنا صافية طيبة خالصة نقية، وما نقدّمه لكم قد يكون حصيلة لتجارب طويلة، ولألام اكتوينا بها، ثم ها نحن اليوم نريد لأبنائنا أن يبتعدوا عن الخطأ، وأن يمضوا في الطريق بلا التفات لليمين أو لليسار، وإنما على الطريق المستقيم طريق الذين أنعم الله عليهم والذين هداهم الله.

وأنا أنظر الآن إلى حفنة من أدباء مصر في مطلع القرن العشرين وقد انتفخت أوداجهم وظنوا أنفسهم على شيء، وتجمّعوا ليصفقوا لموكب ما سموه بالحضارة الجديدة والعلم الحديث، منبهرين بكل وافد، معجبين بكل جديد، بدون فحص أو تمييز، وبدون روية أو تفكير، وأنظر إليهم الآن.. وقد عصرهم الزمن، وأقنعنهم التجارب، وعادوا من حيث بدأوا مع التفكير الهادئ.. ثم تابوا واستغفروا، وتراجعوا وفكروا.. وأستطيع أن أعدهم واحدا، وما منهم إلا نقض ما قال أو ناقضه بما كتب في تمجيد الإسلام وتقديس الفكرة الإسلامية والدعوة المحمدية، وبعضهم كتب أروع ما كتب في حياته عن (الشخصيات الإسلامية) بإيمان واقتناع وتكريم وتمجيد، وبعضهم نشر بحوثا متتابعة تشرح الاتجاهات الإسلامية وتدفع ما عداها، وأحدهم ما زال على قيد الحياة ويجتمع حوله علية القوم في بيته، ويجري الحوار والنقاش فيه حول الأدب والعلم والحياة، ثم يقول أحد المتحدثين رأيا له في قضية معروضة، ولكن آخر يستشهد في القضية بآية قرآنية فيحاول المتحدث أن يناقش الآية، ولكن صاحب البيت الأديب الكبير يقول في إيمان وعمق:"إذا قال القرآن فلا رأي لأحد".

ومن هنا ندرك أن الإسلام حقيقة أصيلة ذات طبيعة نفسية تزداد بالتفكير قوة وبهاء، وتعظم بالبحث وتتجلى أسرارها، والذين يغلقون عيونهم عن الحقيقة ساعة فإنهم يعودون إليها إلى الأبد، والذين يتخبطون في متاهات الشك والحيرة يطلع عليهم بعد حين فجر الإسلام فيهديهم.

ص: 144

والفرق بين هؤلاء التائهين وبين المستمسكين بحبل الله المتين كالفرق بين الابن العاقّ والابن المطيع.. الأول يتحمل المتاعب والمشاق ولكنه يعود إلى رشده مقرّا بخطئه.. أما الثاني فإنه يبادر بالطاعة مع التفكير المتزن فيسلم من كل هذه المتاعب.

أيها الأبناء الأحباب، يا شبابنا القوي انظروا إلى النظام الإسلامي نظرة شاملة في كل صوره وكل اتجاهاته، انظروا إليه في أفكاره العلمية ومبادئه الأخلاقية، ونظرياته التشريعية واتجاهاته السياسية، وأحكامه التعبدية وفكرته العقائدية، انظروا وتأملوا تجدوا الكمال في الحقيقة وفي الصورة وفي التطبيق وفي التنفيذ.

أمّا ما تسمعون عنه من مصطلحات فاسألوني عنها، لقد شاهدت نماذج مطبقة منها فإذا بها لا تخرج عن التهريج والتلبيس، والطبل والزمر والأكاذيب العريضة والادعاءات الجوفاء التي ليس لها من الحقيقة نصيب، ولا تمت إلى الواقع بأدنى سبب، وأصحاب هذه الدعاوي يخدعون الناس ويخادعون الله، سبحانه وتعالى عما يظنون علوّا كبيرا، وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي كثير من الأحايين يعترف السارق بأنه سرق فيطيب خاطر المسروق بعض الشيء من إقراره، أمّا هؤلاء فإنهم يسرقونك ويحاولون إيهامك بأنهم يعطونك، ولا أخص بلدا دون بلد، ففي أعرق بلاد العالم حضارة ومدنية وتقدّما وعمرانا تصبح العملة المتداولة في سوق السياسة أو الاقتصاد هي الخداع والغش والتضليل، وحسبك أن تذكر ما تقوم به الأموال اليهودية من صنع نظم الحكم في أعرق البلاد لحسابها.. فهي التي تموّل المعركة، وهي التي تحدّد الأهداف، وهي التي ترسم الطريق.

وقبل بداية المعركة تكون النتيجة معروفة، ويكون العملاء الذين دفعوا مقدّما قد كسبوا العهود والمواثيق والاتفاقات السرية التي تعطيهم السماح بالعدوان وتمنحهم أسلحة للتدمير وللتخريب بلا ثمن ومن غير شروط.

ص: 145

والشرق والغرب في هذا البلاء سواء، كنت أتحدث مع صديق من أحد البلاد الإسلامية في هذا المعنى فإذا بالصديق يعطيني صورة عمّا يتمّ في بلاده، ولا تختلف عن الصورة البشعة التي تتم في غيرها، تهريج وتطبيل وزمر وخداع وأصوات تشترى، وأصوات تباع، ولا طائل وراء هذا الهرج سوى الإضلال والبهتان، والطريق على الشرفاء والإمناء مسدود بحائط من الاستبداد أو الاستغلال أو الخداع فلا حرية، ولا رأي وإنما هي تمثيلية ليست محبوكة الأطراف وإنما مفضوحة الأوصاف.

وعدت بفكري إلى النظام الإسلامي البسيط الهادف، بلا تهريج ولا تلبيس، وهو نظام الشورى المركزة في أهل الحل والعقد، وفيه يتمّ إسناد الأمر إلى أهله الذين يستطيعون أن يقدروا المسئولية، ويستطيعوا أن يعطوا الكلمة وأن يحافظوا عليها، وإذا تركنا هذا المجال إلى مجال آخر كالمجال الاقتصادي فإننا نرى الإسلام يعطي لكل ذي حق حقه بلا إفراط ولا تفريط، ولا ميل لليمين أو للشمال، الغني له حريته في الكسب والعمل والتفكير والبحث عن منابع الرزق ليستفيد العالم منه كخلية حية نابضة بالحياة والجد والابتكار، وليتمتع الناس بقوة إنتاجه وبراعة فكره وجهده الذاتي، ولولا هذا الكدح الفردي ما كانت هناك مخترعات ولا حضارات.

وفي الوقت نفسه لاحظ الإسلام وجود نفر يتخلف عن المسيرة لعجز أو لضعف أو لسوء حظ – أحيانا - أو لغير ذلك، فلم يهمله ولم يترك الأغنياء وشأنهم، وإنما دعا الكل إلى التعاون، دعا المتقدمين إلى أن يأخذوا بأيدي المتمهلين في مودة وإخاء وتعاون وحب، فالفقير يطلب بإحسان والغني يعطي في إحسان، والكل يعلم أن الخلاق هو الذي يعطي وهو الذي أوجب الإحسان.

ص: 146

وإذا كان هذا هو نظام الإسلام في النواحي الاجتماعية التي تربط الأفراد والجماعة، فإنه في نظامه الفردي يعتبر نموذجا عاليا فريدا في كل نواحيه حيث يأخذ الفرد بالعادات الطيبة منذ نشأته فيحتّم عليه النظافة في البدن والملبس والمسكن والمكان، وفي الطعام والشراب، ثم يأتي دور الصلاة في تعويده على الطاعة والنظام والارتباط بمواعيد محددة وأوقات معينة، وهكذا في سائر العبادات التي تكوّن في الفرد الضمير الحي، وتنميه على تحمل المسئولية وتقدير الواجب.

أمّا نظام الإسلام التشريعي فحسبك ما نرى في البلاد التي تطبّقه من أمن واستقرار ومن تلاشي الجريمة حتى لا تكاد توجد إذا قسنا ذلك بالنسبة للبلاد التي لا تنفذه.. فالإنسان خلال التشريع الإسلامي العادل آمن على نفسه وآمن على ماله وآمن على متجره ومنزله وآمن على أسرته.. وإنّ أدب الإسلام في الحفاظ على الجار تجعل المسلم يشعر بالطمأنينة إن سافر أو أقام.

ولا يوجد في العالم نظام يداني الإسلام في كماله وروعته وتناسقه حيث يراعي الإسلام حقوق الفرد وواجباته، وحقوق الأسرة وواجباتها، وحقوق المجتمع وواجباته بلا عدوان من سلطة على سلطة، وبدون إهمال لناحية أو تقديم لناحية، بل الحقوق متوازنة مع الواجبات، والالتزامات متناسبة مع الاحتياجات.

ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال: لأخيه ما يحب لنفسه.." وممّا يرويه أبو هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أوَلَا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم".

ص: 147

وهكذا يمضي النظام الإسلامي إلى غايته ويصل إلى قمّته حيث يضع الركيزة الأساسية لمجتمع متعاون يتحوّل الكل فيه إلى أسرة كبيرة يحسّ كلّ فرد بمشاعر أخيه، يشاركه في السرّاء والضرّاء، وفي الفقر والغنى، وفي الحقوق والواجبات، هذه الركيزة هي الحب، حيث يضع كل إنسان نفسه في موضع الآخر، فيجب لهذا الآخر ما يحبه لنفسه، ويتمنىّ له ما يتمنّاه لشخصه، والحديث الأخير: يقرّر أن حبّ الجماعة والإخلاص لها والإيمان بأهدافها فريضة، وأنه شرط في الإيمان، فلا يؤمن المرء إلا إذا تحاب مع إخوانه، وإذا تحاب آمن، وإذا آمن دخل الجنة.

ألا ما أروع نظاما بدايته حق ونهايته واجب ورابطته حب وإخاء وإيمان.

ص: 148