المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 22 فهرس المحتويات 1- يجب تحكيم الشرع الإسلامي في الخاطفين: رئيس - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 22 فهرس المحتويات 1- يجب تحكيم الشرع الإسلامي في الخاطفين: رئيس

‌العدد 22

فهرس المحتويات

1-

يجب تحكيم الشرع الإسلامي في الخاطفين: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز

2-

من أعلام المحدثين - عمرو بن علي الفلاس 160 بعيدها - 249هـ: للشيخ عبد المحسن العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية

3-

أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد

4-

رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

5-

الجهاد.. الجهاد..: بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد

6-

رسالة إلى الأستاذ الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي المحترم: بقلم الدكتور محمد معروف الدواليبي

7-

وجوب الحكم بما أنزل الله: للشيخ عطية محمد سالم

8-

شعر المتنبي في ميزان الصاحب بن عبَّاد: بقلم الشيخ محمد المجذوب

9-

ليكن شعارنا الدائم- الله وحده: بقلم الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي

10-

سبع مسائل في علم الخلاف: بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ

11-

علم القرآن هو الأعلى: للشيخ محمد يوسف

12-

الإسلام في سيراليون: بقلم الشيخ أحمد صالح محايرى

13-

برقية: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز

14-

من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة

15-

الحضارة الغربية كما يراها أحد أساطينها: عن كتاب (الإنسان ذلك المجهول) للدكتور الكسيس كاريل

16-

ندوة الطلبة: الإيمان.. يوجب العمل: للطالب خالد محمد عبد الله الدخيل

17-

المسلم: بقلم الطالب عارف عبد الله آل حسن

18-

الفتاوى "أين يضع المصلي يديه بعد الرفع من الركوع": يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية

19-

أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 430

يجب تحكيم الشرع الإسلامي في الخاطفين

رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فمن المعلوم لدى كل من له أدنى بصيرة أن اختطاف الطائرات وبني الإنسان من السفارات وغيرها من الجرائم العظيمة العالمية التي يترتب عليها من المفاسد الكبيرة والأضرار العظيمة وإخافة الأبرياء وإيذائهم ما لا يحصيه إلا الله كما أن من المعلوم أن هذه الجرائم لا يخص ضررها وشرها دولة دون دولة ولا طائفة دون طائفة بل يعم العالم كله ولا ريب أن ما كان من الجرائم بهذه المثابة فإن الواجب على الحكومات والمسؤولين من العلماء وغيرهم أن يعنوا به غاية العناية وأن يبذلوا الجهود الممكنة لحسم شرِّه والقضاء عليه، وقد أنزل الله كتابه الكريم تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وبعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين وأوجب على جميع الثقلين الحكم بشريعته والتحاكم إليها ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما قال عز وجل:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماًً} . وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .

ص: 431

وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه الكريم وأن الرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته وإلى سنته الصحيحة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} فهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها كلها تدل على وجوب رد ما تنازع فيه الناس إلى الله سبحانه وإلى الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك هو الرد إلى حكم الإسلام والحذر مما خالفه في جميع الأمور ومن أهم ذلك الأمور التي يعم ضررها وشرها كمسائل الاختطاف.

فإن الواجب على الدولة التي يقع في يدها الخاطفون أن تحكم فيهم شرع الله لأنه يترتب على جريمتهم الشنيعة حقوق لله وحقوق لعباده وأضرار كثيرة ومفاسد عظيمة منتشرة وليس لها حل يقطع دابرها ويحسم شرها إلا الحل الذي وضعه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين في كتابه الكريم وبعث بها أنصح الخلق وأفضلهم وأرحمهم سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين محمداً عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم وهو الحل الذي يجب أن يرضى به الجميع الخاطفون والمخطوفون ومن له صلة بهم وغيرهم وأن تنشرح له صدورهم إن كانوا مؤمنين فإن لم يكونوا مؤمنين فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم الشرع فيهم في قوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وقوله عز وجل: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الآية.

وبناء على ما ذكرنا فإن الواجب على حكومة السودان في حادث السفارة السعودية في الخرطوم تكوين لجنة من علماء الشرع الإسلامي للنظر في القضية ودراستها من جميع جوانبها والحكم فيها بشرع الله.

ص: 432

وعلى حكومة الكويت في حادث السفارة السعودية في باريس مثل ذلك ولا مانع من إيجاد محكمة كبرى تتفق عليها الحكومتان المذكورتان يندب إليها جماعة من علماء الشرع الإسلامي من علماء المذاهب الأربعة في الكويت أو السودان أو غيرهما لدراسة القضية وبيان حكم الشرع الإسلامي فيها وعلى هؤلاء العلماء أن يحكموا في القضية على ضوء الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يستضيئوا في ذلك بما ذكره علماء التفسير عند آية المحاربين من سورة المائدة وما ذكره العلماء في كل مذهب في (باب حكم المحاربين) ثم يصدروا حكمهم معززاً بالأدلة الشرعية وعلى الحكومتين اللتين وقع الخاطفون في سلطانهما تنفيذ الحكم طاعة لله سبحانه وتعظيماً لأمره وتنفيذاً لشرعه وحسماً لمادة هذه الجرائم العظيمة ورغبة في القضاء عليها ورحمة للمخطوفين وإنصافاً لهم أما القوانين فكلها من وضع البشر ولا يجوز لأهل الإسلام التحاكم إليها وليس بعضها أولى بالتحاكم إليه من بعض لأنها كلها من حكم الجاهلية ومن حكم الطاغوت الذي حذر الله منه ونسب إلى المنافقين الرغبة في التحاكم إليه كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداًً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} .

فلا يجوز لأهل الإسلام أن يتشبهوا بأعداء الله المنافقين بالتحاكم إلى غير حكم الله والصدود عن حكم الله ورسوله.

ص: 433

ولا يجوز أن يحتج بما وقع فيه أغلب المسلمين اليوم من التحاكم إلى القوانين الوضعية فإن ذلك لا يبرره ولا يجعله جائزاً بل هو من أنكر المنكرات وإن وقع فيه الأكثرون وليس وقوع الأكثر في أمر من الأمور دليلاً على جوازه كما قال الله سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأََرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} . وكل حكم يخالف شرع الله فهو من حكم الجاهلية قال الله سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وأخبر سبحانه أن الحكم بغير ما أنزل كفر وظلم وفسق فقال سبحانه في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وهذه الآيات وما جاء في معناها توجب على المسلمين الحذر من الحكم بغير ما أنزل الله والبراءة منه والمبادرة إلى حكم الله ورسوله وانشراح الصدر به والتسليم له وإذا كانت الحادثة يعم ضررها كالخطف كان وجوب رد الحكم فيها إلى الله ورسوله آكد من غيرها وأعظم في الوجوب لأن الله سبحانه هو الحكيم الخبير وهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وهو العالم بما يصلح عباده ويدفع عنهم الضرر، ويحسم عنهم الفساد في حاضرهم ومستقبلهم.

فوجب أن يردوا الحكم فيما تنازعوا فيه إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لأن فيهما الكفاية والمَقْنَع والحل لكل مشكل والقضاء على كل شر لمن تمسك بهما واستقام عليهما وحكم بهما وتحاكم إليهما كما سبق بيان ذلك في الآيات المحكمات.

ص: 434

ولعظم هذا الحادث وخطورته رأيت أن من الواجب نشر هذه الكلمة نصحاً للأمة وبراءة للذمة وتذكيراً للعموم بهذا الواجب العظيم.

والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً ويهديهم صراطه المستقيم ويوفق حكوماتهم للحكم بالشريعة والتحاكم إليها والتمسك بها في جميع الأمور إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه

رئيس الجامعة الإسلامية

بالمدينة المنورة

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 435

سبع مسائل في علم الخلاف

بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ

المدرس بمعهد الجامعة الإسلامية الثانوي

الاختلاف بين علماء المسلمين موضوع جسيم وفن مستقل عظيم لا تكفي عجالة قصيرة لتفصيله واستيفاء حقه، لكنني سأشير إلى مسائل أساسية تتعلق به لا يجوز لأي متعلم أن ينظر في قضايا الشرع وعلومه إذا كانت خافية عليه، بل يجب حينئذ أن ينحى عن هذا المقام ويحشر مع الجهلة والعوام.

المسألة الأولى:

هناك قضايا شرعية وقواعد دينية انقطع فيها الخلاف ووجب التسليم وهي ـ القطعيات ـ أي الأمور التي ثبتت ثبوتاً قطعياً وأجمع عليها علماء المسلمين: كأركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة ووجوب الإيمان بها، وكعدد الصلوات الخمسة، وعدد ركعاتها، وكتحريم الزنا، والربا، والخمر، وقتل النفس التي حرم الله، وكذلك ما أجمع عليه العلماء من قواعد الشرع المعتبرة في أحكامه مثل: لا ضرر ولا ضرار، والحدود تدرأ بالشبهات، ورفع الحرج، وجلب التيسير ونحو ذلك، فتبين بهذا أن ـ القطعيات ـ تكون من الأنواع الثلاثة: العقائد، والفروع، والقواعد الأصولية.

فهذه كلها لا اجتهاد فيها ولا مجال للرأي والخلاف، بل هي أسس وقواعد لهذا الشرع العظيم لا تتغير بتغير الزمان ولا بتغير المكان ومن تردد في التسليم بها أو شك في أمرها فقد شذ عن الملة وشق عصا المسلمين فقوله مردود وخلافه باطل..

ص: 436

أما ما سوى القطعيات من مسائل الشرع وقد يسميها بعضهم ـ الظنيات ـ فهي محل للاختلاف ومجال للاجتهاد، تتنوع فيها الأفهام وتختلف الآراء، وقد دعا الشرع إلى إعمال الفكر واستعمال العقل في إدراك معانيها واستخراج أحكامها وعللها وأوجهها ومراميها، وفتح الباب لأهل النظر وفي الفكر وذوي العقول والألباب ليجتهد كل حسب ما أوتي فإن شرعنا العظيم جاء لتحرير العقل من الأغلال التي كان يرزح تحتها ومنحبساً في سردابها، وأول قيد حطمه ـ الجمود والتقليد ـ فشنع على كل من عطل عقله وأسلم قياده لهما قال تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} الأعراف ـ 179.

وهل أنزل القرآن وفُصلت الآيات وضُربت الأمثال إلا ليتفكر الناس ويستعملوا عقولهم، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل ـ 44.

وقال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} البقرة ـ 219.

وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر ـ 21.

وقد حث القرآن على التفكير وذم الجمود وتعطيل العقل ووصفه بالعمى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} الأنعام ـ 50.

وشنع على التقليد الذي يمنع الإنسان من قبول الحق ويعطل فهمه وفكره وقد كان ذلك من أعظم أسباب ضلال الكفار وعنادهم {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} الزخرف ـ 23.

المسألة الثانية:

ص: 437

من لوازم فتح الباب للفكر والنظر والاجتهاد أن يقع الاختلاف بين ذوي العقول وأصحاب التفكير وأهل الاجتهاد لأن من سنن الله عز وجل في خلقه أنه لم يسوِّ بين الأفهام والمدارك والعقول حتى تتفق على عقل واحد أو فهم واحد، بل تختلف الأفهام وتتنوع الآراء تبعاً لاختلاف درجات العقول والمدارك قوة وضعفاً وانغلاقاً وانفتاحاً قال تعالى:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} يوسف ـ 76.

ولذلك نجد الشرع لم يشنع على الاختلاف الذي هو من هذا الباب بل أتاح المجال كما سبق بيانه، إلا أنه أدرك الأمة رحمة بها فبين لهم ماذا يصنعون إذا اختلفوا وأي سبيل يسلكون حتى لا ينحرفوا ويخرج بهم الاختلاف عن الجادة..

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأََمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .

ففي هذه الآية إشارة إلى أن التنازع بين المؤمنين المتصفين بالطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر لا مفر من وقوعه ولا ضرر إذا اتفق المتنازعون على الحَكَم الذي يحتكمون إليه ولا يخرجون عن سلطانه..

ومثل الآية في مدلولها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"[1] .

إذ ليس معنى وجود مجتهدين ووجود مصيب ومخطئ إلا إقرار وقوع الاختلاف في فهم مسائل الشرع.

ص: 438

هذا مع أن المتتبع لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من الآثار الصحيحة يجد أن ذلك وقع بين يديه صلى الله عليه وسلم وأقره فالصحابة اختلفوا في فهم أوامره وأقواله أفهاماً متغايرة فلم يعنف عليهم ولم يوبخهم بل كان يسكت أحياناً ويعينهم على فهم المراد أحياناً وأوضح دليل على ذلك حديث الصلاة في بني قريظة [2] وحديث عدي بن حاتم فقد فَهِم من قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ظاهر اللفظ فاتخذ خيطين في وسادته أبيض وأسود فلم يزد صلى الله عليه وسلم على أن قال له: "إن وسادتك إذاً لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار"[3] .

وإنما ورد عنه صلى الله عليه وسلم التعنيف على من تعرض للاجتهاد بغير علم وأفتى بغير بصيرة ولم يتثبت كما قال صلى الله عليه وسلم في الذين أفتوا المشجوج في رأسه بوجوب الغسل فمات فقال صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: "قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العيّ السؤال"[4] .

ص: 439

وكل ما ورد من النصوص في ذم الاختلاف فالمراد به الذي يخرج عن حدود الشرع وآدابه، ولا يكون المقصود به الحق بل الهوى والعصبية، وكذلك كل خلاف يتمرد على الحَكَم الذي أوجب الشرع الرجوع إليه، أو المراد به الاختلاف في أصل العقيدة، وما أخبر به صلى الله عليه وسلم من وقوع الاختلاف في أمته فهو التفرق والانقسام، ولذلك حذَّر منه، وكذلك الفرق الثلاثة والسبعون التي ذكر أنها كلها في النار إلا واحدة، فإن المراد بها الاختلاف في العقائد وفيما أجمع عليه المسلمون ولذلك عبر بقوله (ستفترق) ولم يقل (ستختلف) لأن مطلق الاختلاف وقع حتى بين أصحابه، ولعل بعض الجهال طبق هذا الحديث على مذاهب أئمة الإسلام وعلى رأسهم الأئمة الأربعة مع أن أحداً ممن له أدنى فهم يعلم أن اختلاف هؤلاء كاختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه تفرق بل فيه سعة ورخصة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم..

وأما ما وقع من تفرق المقلدين في العصور المتأخرة التي هي عصور الانحطاط فإنه لا يعيب أصل ما ذهب إليه أولئك الأئمة المرضيون من الاختلاف إنما يقع العيب فيه على هؤلاء الأتباع الجهلة المتعصبين..

فإن اختلاف الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين ومنهم الأئمة الأربعة واقع كله ضمن حمى الشرع وداخل أسواره، وإنما خرج عن ذلك الحد إلى خارج أسوار الإسلام أمثال الخوارج والروافض والجهمية وأشباههم ممن تكلموا بالشبه في ـ قطعيات ـ الدين.

المسألة الثالثة:

علماء الإسلام المرضيون عليهم رحمة الله ورضوانه من الصحابة والتابعين وتابعيهم في كل عصر لا يختلفون إلا بدليل أو تأويل، ولا يتصور أن أحداً منهم يخالف النص معتمداً أو بغير دليل.

وأخص بالذكر الأئمة الأربعة: أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد لشهرتهم في هذا المجال وانتشار مذاهبهم في الدنيا.

فكل من له علم وتتبع أقوالهم وفتاويهم وتأمل استدلالهم وأصولهم العلمية يجد مصداق ذلك.

ص: 440

وما طعن في واحد منهم طاعن إلا عن عصبية أو جهل بقدرهم، إذ قد يتبادر إلى ذهن القاصر عندما يرى كثرة اختلافهم ويعظم عليه ذلك ولا يتحمله ذكاؤه، إذ ينظر إلى ظاهر هذا الاختلاف دون أن يكلف نفسه الغوص بنظره وفكره في الوجوه التي بنوا عليها أقوالهم فيتبادر إلى ذهنه أنهم يصادمون النص.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رفع الملام [5] : "الأئمة المقبولون المجمع على إمامتهم من الأمة لا يقولون في مسألة إلا عن دليل ظهر لهم وإن تبادر إلى ذهن المبتدئ أنهم في اختلافهم جانبوا الدليل". اهـ.

قلت: وإليك مثالاً على ذلك ما روي عن عبد الوارث بن سعيد قال: "قدمت مكة وفي رواية ـ الكوفة ـ فوجدت أبا حنيفة وابن أبي ليلى وشبرمة فسألت أبا حنيفة قلت: ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً؟

ص: 441

قال: البيع باطل والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال: البيع جائز والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال: البيع جائز والشرط جائز، فقلت: سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا عليّ في مسألة واحدة! فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط"، البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة وأشترط فأعتقها"، البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: "بعت النبي صلى الله عليه وسلم ناقة وشرطت حملانها إلى المدينة"، البيع جائز والشرط جائز" [6] . وسبب الاختلاف بين الأئمة معروف مشروح في أكثر من كتاب ومن أحسن من ألّف في ذلك وبسط القول فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ومحمد بن عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي الأندلسي المتوفي سنة 521هـ في كتابه الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين..

وملخص هذه الأسباب:

1 ـ عدم بلوغ النص للإمام.

2 ـ الاختلاف في قبول الحديث من ناحية الإسناد واختلاف أصولهم في ذلك.

3 ـ اختلافهم في كونه منسوخاً أو لا.

4 ـ اختلافهم في فهم المراد من النص.

ص: 442

هذا مع أنه ينبغي أن نعلم أن الألفاظ العربية تختلف معانيها ومدلولاتها فيكون لها في بعض الأحيان معانٍ مشتركة وأوجه مختلفة واستعمالات متعددة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بجوامع الكلم، يفصل أحياناً ويجمل أحياناً، وكذلك القرآن، وربما سكتا عن مسائل كثيرة وتركا تفصيلها لاجتهاد المجتهدين فيُعلم أن فيها سعة من جهة النظر، وفيها مجال للاجتهاد..

المسألة الرابعة:

ينبغي أن نعلم أنه كانت هناك مدرستان للسلف واتجاهان في طريقة تحمل العلم وتبليغه: الأولى مدرسة المحدّثين، والأخرى مدرسة الفقهاء، قال ابن القيم في التعريف بهاتين المدرستين [7] : العلماء منقسمون إلى قسمين: حفاظ الحديث وجهابذته القادة الذين هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله وحموا من التكدير والتغيير موارده ومناهله حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس لم تشبها الآراء تغييراً، ووردوا فيها عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً..

وفقهاء الإسلام: من دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خُصّوا باستنباط الأحكام وعنُوا بضبط قواعد الحلال والحرام فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأََمْرِ مِنْكُمْ} قال ابن عباس: "أولو الأمر هم العلماء". اهـ.

ص: 443

قلت: فالمحدّثون اشتغلوا برواية السنة ونقد الأسانيد ومعرفة الرجال فحفظوا بذلك هذا الأصل العظيم مما داخله من دسائس الوضاعين وغفلات الصالحين، وتخصصهم بهذا الشأن وتفرغهم له شغلهم عن الاستنباط والفقه ولذلك تجد مشاهير المحدثين كابن معين وابن أبي حاتم والبخاري ومسلم وغيرهم مقلين في مجال الفقه..

والفقهاء اشتغلوا بدراسة النصوص وفحص معانيها واستخراج عللها ومراميها، والجمع بينها أو الترجيح، ومعرفة ناسخها ومنسوخها ووضعوا الأصول والقواعد التي بها تُفهم النصوص وتُستخرج الأحكام ويعرف الحلال والحرام، وانتصبوا للفتوى فأكثروا منها، وتعرضوا للقياس والتفريع فتوسعوا فيهما، فصارت لهم بذلك مذاهب متكاملة، ومناهج متمايزة، واشتهرت منها المذاهب الأربعة التي تعتبر كل واحدة منها مدرسة مكتملة المنهج بأصولها وقواعدها وفروعها..

وتخصص الفقهاء بهذا الشأن وتفرغهم له شغلهم عن الرواية والإسناد فكانوا في الغالب مقلين فيها، وقلما تجد إماماً جمع بيت التوسع والتبحر في مجالي الرواية والفقه كما يقال في الإمام أحمد رحمه الله.

أما أبو حنيفة فقد كان مقلاً في الراوية، إلا أن ذلك لا يعني عدم حفظه للحديث إذ ما جاء بالفقه إلا من النظر في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما شُغل بالاستنباط عن رواية ما بلغه من الحديث، ومن تتبع عناية هذا الإمام بالأدلة عرف ذلك..

ص: 444

هذا إذا عرفنا أنه كان بالكوفة والبصرة زمن أبي حنيفة أكثر من مائة وعشرين صحابياً، وإذا عرفنا انه أخذ وسمع من أكثر من أربعة وسبعين من المحدثين والفقهاء عدّ منهم الحافظ المزي عدداً ومن أشهرهم: طاوس بن كيسان، والشعبي، وعبد الله بن دينار، وعبد الرحمن بن هرمز، وعطاء، وقتادة بن دعامة السدوسي، والزهري، وهشام بن عروة وغيرهم، وإذا عرفنا أيضاً أنه كان من تلاميذه كبار المحدثين والحفاظ كعبد الله بن المبارك، وأبي يوسف، وزفر بن الهذيل وغيرهم: تيقنا أن مذهبه كان نابعاً من الأثر، ومستقياً من السنة بواسطة هذه الروافد..

روى ابن أبي رزمة أنه كان إذا قدم الكوفة أحد من المحدثين يقول أبو حنيفة لأصحابه: "انظروا هل عنده من الحديث شيء ليس عندنا؟ "[8] .

فمن يتصور مع هذا أن أبا حنيفة فقيه لا يحفظ الحديث [9] وكيف يصير الرجل إماماً في الفقه وهو ليس بحافظ للحديث.. لذلك ترى المحدثين مثل أبي داود وابن حجر لما ترجما لأبي حنيفة ـ وفيه دارت الأقاويل ـ اكتفيا بالإشارة إلى إمامته فقال أبو داود: "أبو حنيفة إمام"، وقال ابن حجر:"أبو حنيفة الإمام المشهور".

المسألة الخامسة:

ص: 445

على كل متعلم أن يعلم أن رواية الحديث يجب أن ينضم إليها الفقه ومعرفة اختلاف الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين وإلا ما استطاع أن يدرك شيئاً من الأحكام، لأن المعنى الظاهر وحده ليس هو الفقه، بل الفقه في الاستنباط ومعرفة المقاصد والعلل، والناسخ والمنسوخ بجميع أنواعهما، ولذلك كما سبق في المسألة الرابعة كان كثير من كبار المحدثين وعظماء الحفاظ غير مشهورين بالفقه مع شهرتهم في علم الحديث وروايته، وشأن العلماء المنصفين الاعتراف لأهل كل اختصاص باختصاصهم فهذا الشافعي رحمه الله يبين هذه الاختصاصات فيقول [10] :"من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة كان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه، ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أرد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي، ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان". اهـ.

وقال ابن الماجشون: "كانوا يقولون لا يكون إماماً في الفقه من لم يكن إماماً في القرآن والآثار ولا يكون إماماً في الآثار من لم يكن إماماً في الفقه. فانظر كيف توهم قوم بعد ذلك أن الاشتغال بالرواية يكفي لمعرفة الأحكام وكيف فصلوا بين الفقه والأثر".

يجب على المتعلم مع الاشتغال بالحديث والرواية أن يعرف مذاهب الفقهاء واختلافهم حتى يكسب ملكة الاستنباط..

قال صلى الله عليه وسلم: "رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". فبين بذلك أن الحديث فقه وأن مجرد حمله لا يعني كون حامله فقيهاً..

ص: 446

والناس يتفاوتون في الفقه نتيجة لاختلافهم في الأفهام، والفقه هو الفهم فبعض الأئمة في الجملة أفقه من بعض وبعضهم في مسألة أفقه من بعض ومن أفقه الأئمة أبو حنيفة إن لم يكن أفقههم، روي عن ابن المبارك قوله:"إن كان الأثر قد عرف واحتيج إلى الرأي فرأي مالك وسفيان الثوري وأبي حنيفة. وأبو حنيفة أحسنهم وأدقهم فطنة وأغوصهم على الفقه وهو أفقه الثلاثة"[11] . وإليك مثالاً يبين لك كيفية تفاوت الفقهاء في فهم المسألة الواحدة:

روي عن إسماعيل بن حماد قال: شككت في طلاق امرأتي فسألت شريكاً فقال: "طلقها وأشهد على رجعتها"، ثم سألت سفيان الثوري فقال:"اذهب فراجعها فإن كنت قد طلقتها فقد راجعتها"، ثم سألت زفر بن الهذيل فقال لي:"هي امرأتك حتى تتيقن طلاقها"، فأتيت أبا حنيفة فقال:"أما سفيان فأفتاك بالورع وأما زفر فأفتاك بعين الفقه وأما شريك فهو كرجل قلت له: لا أدري أصاب ثوبي بول أم لا؟ فقال لك: بُلْ على ثوبك ثم اغسله".اهـ

فينبغي على كل متعلم أن يعتني بمعرفة الوجوه المختلفة والاستدلالات ويطلع على اختلاف المذاهب ولا يكتفي بوجه واحد أو يعتمد على عالم واحد فإن مثل من يعتمد على عالم واحد مثل الذي له امرأة واحدة إن حاضت بقي [12] وهذا هو المقصود من قول الأئمة بأن من لم يعرف الخلاف لم يشم رائحة الفقه.

المسألة السادسة:

طبقات الناس بالنسبة للعلم وعدمه ثلاثة كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق".

ص: 447

أما العلماء الربانيون فهؤلاء هم المجتهدون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان، بهم يقوم الدين، وهم وسيلة المسلمين إلى معرفة الأحكام وفهم الحلال والحرام وليس لنا مطمع في معرفة الشرع بدونهم ولا في إدراك الكتاب والسنة بغير واسطتهم فتلك مزية كانت للصحابة وليست لغيرهم [13] . فلا بُد لكل من أراد أن يفهم الشرع ويدرك علم الكتاب والسنة أن يتوصل إلى ذلك بهم، وكلما كان هؤلاء المجتهدون إلى زمن الصحابة أقرب كان الصواب لديهم أغلب.

فالمجتهدون من التابعين لا بدّ أن يعرفوا مذاهب الصحابة ولا يتجاوزونها والمجتهدون من تابعي التابعين لا بد أن يعرفوا مذاهب الصحابة والتابعين وهكذا دواليك حتى إذا وصلنا إلى مجتهدي زماننا قلنا: لا بد أن يعرفوا مذاهب جميع السلف الذين يعتد بمذاهبهم..

ألا ترى أبا حنيفة رحمه الله يقول: "إذا لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه آخذ بقول من شئت وأدع قول من شئت ولا أخرج من قولهم"[14] .

وكل من خالف السلف فيما ذهبوا إليه وأجمعوا عليه أو جاء بما لم يذكروه أو يشيروا إليه اعتبروه شاذاً لا يؤخذ قوله ولا يعتد برأيه..

وما من مسألة إلا وفي الشريعة حكمها إما على وجه العموم أو على وجه التفصيل وما علينا فيما يجدُّ علينا من أمور إلا أن نقيس النظائر والأشباه ونَرُدَّ الفروع إلى الأصول ونستعين باجتهاد السلف وآرائهم..

قال محمد بن الحسن: "العلم على أربعة أوجه: ما كان من كتاب الله الناطق وما أشبهه، وما كان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أشبهها، وما كان فيما أجمع عليه الصحابة رحمهم الله وما أشبهه، وكذلك ما اختلفوا فيه لا يخرج عن جميعه فإن أوقع الاختيار فيه على قول فهو علم تقيس عليه ما أشبه وما استحسنه عامة فقهاء المسلمين وما أشبهه وكان نظيراً له"[15] .

ص: 448

قلت: والعلماء الربانيون هم أهل الذكر الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .

وهم أهل الاستنباط الذين ذكرهم فقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} النساء ـ 83.

وليس كل متعلم يقدر على الاستنباط حتى يملك أدواته ويحصل ملكته قال ابن القيم رحمه الله:

"الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه ومنه استنباط الماء من البئر والعين ومن هذا قول علي بن أبي طالب وقد سئل: "هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ ". قال: "لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه". ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف كلام العرب"[16] .

قلت: أما المتعلم على سبيل النجاة الذي لم يبلغ درجة الاستنباط فيتبع العلماء ويتأمل أقوالهم وفتاويهم، ويشتغل بالترجيح بين أدلتهم إن كان من أهل الترجيح وإلا اتبعهم فيما ذهبوا إليه ولا ينتظر حتى يبلغ درجة ما، إذ لا مفر من أن يلتزم المتعلم أحد المذاهب المشهورة المعتد بها التي اعترفت بها الأمة تكون كمنطلق له في دراسته للشرع الحنيف، فيعتني بمعرفة أصول هذا المذهب وفروعه، ويعتني بالأدلة ويحترس من التقليد لأنه شأن العوام، ويحذر من التعصب فإنه من طبائع أهل البدع والأهواء.

ولا ينبغي للمتعلم أن يبقى طليقاً يتتبع الرخص والشواذ ويخبط في الأحكام على غير بصيرة وعلم، فإن ذلك خطر جسيم عليه وعلى الناس إن كان يُفتي لهم..

ص: 449

ولكل متعلم أن يقلد في المسائل التي قصرت همته عن بحثها أو خفيت عليه يقلد من قبله من علماء السلف المرضيين أو الإمام الذي التزم مذهبه وذلك حتى يتضح له الدليل، ولا مفر من ذلك لأنه لا يمكنه أن يكف عن العمل في كل مسألة حتى يتضح أو يترجح في ذهنه القاصر فيها علم.. وما رأيت أحداً من أهل العلم إلا وهو مقلد في بعض المسائل شعر بذلك أم لم يشعر لأنه ليس بمقدور أحد أن يجتهد في كل مسألة.. لو تتبعت أخبار السلف لوجدتهم يعتمدون ويلجأون في المسائل التي تخفى عليهم إلى من هو أفقه منهم ممن سبقهم أو عاصرهم والشيء المحذور هو التعصب الذي يعمي قلب صاحبه عن النظر ويمنعه من اتباع الحق [17] . أما العوام فيقلدون أهل العلم الموجودين بينهم وليس لواحد منهم أن يلتزم مذهباً أو يدعي الانتماء إلى أحد..

لكن بتأمل معنى ـ العامية ـ نجد أنها على نوعين: فهناك العامي المطلق وهم الدهماء الذين لا يملكون من أدوات العلم شيئاً أو هم الجهال فهؤلاء يقلدون المفتين..

وقد ذكر العلماء أنه عند عدم المفتي المجتهد الذي يطمئن الإنسان إلى علمه وورعه له أن يقلد لنفسه ولا يفتي بما قلد.

وهذا هو الحق إن شاء الله وإلا لوقع الناس في أحد أمرين:

1 ـ في الحرج والشدة إذا كلفنا كل مسلم أن ينظر في الأدلة ويجتهد فيتخبط الناس في الأحكام ما بين محل ومحرم ويجترئون على الفتوى والاجتهاد بغير علم ولا بصيرة، ويغلبهم علم الاختلاف فيضلون لعدم معرفتهم لطريقه وإدراكهم لأسراره أو قدرتهم على الغوص في بحاره..

2 ـ أو يترك الناس العمل بكثير من الأحكام ويهملونها، تحت وطأة وهم الانتظار حتى يترجح الدليل وتتضح الآثار.. ونتيجة لعدم المبالاة بما ذهب إليه السلف وقاله العلماء..

المسألة السابعة:

ص: 450

وذكر العلماء أن الفتوى والاجتهاد درجة من العلم ينبغي أن تكون موجودة في كل زمان ومكان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى تقوم الحجة بالدين، ويستقيم أمر المسلمين، والله عز وجل يقيض في كل عصر من يفصل الأحكام الشرعية ويستنبط للحوادث من الكتاب والسنة ويرد الفروع إلى الأصول.

ولو تتبعت عصور الإسلام لوجدت في كل عصر مصداق ذلك، ولوجدت أنه في الأزمان التي كان الاجتهاد فيها مزدهراً كانت تعتبر عصور العلم الذهبية التي يبلغ المسلمون فيها أوج قوتهم ونهضتهم، وفي العصور التي غلب عليها الكسل وتعطل فيها الاجتهاد كانت تعتبر عصور الانحطاط المظلمة، والتخلف العلمي، ولك أن تلحظ ذلك بعين المشاهدة فيما صنف في هذه العصور من متون وشروح وحواش..

لكن ما هي الأدوات التي تؤهل المتعلم لهذه الدرجة العظيمة، ومتى يجوز له الانتصاب لها وادعاؤها، فلننظر إلى السلف ماذا قالوا:

1 ـ الأثر: قالوا لا بُد أن يتضلع منه بأكبر قدر ممكن، ومن حدده بخمسمائة حديث أو بأكثر أو بأقل فإنه لم يدقق في المسألة وإنما أراد أن يضرب مثلاً يقرب الأمر إلى الأذهان، وقد سئل الإمام أحمد:"إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيهاً؟ ". قال: "لا". قيل: "فمائتي ألف؟ ". قال: "لا". قيل: "فثلاثمائة ألف؟ ". قال: "لا".. ولعل الإمام أحمد رحمه الله أراد الإشارة إلى أمرين: أحدهما أن حفظ الحديث وحده لا يعني الفقه والقدرة على الفتوى، والآخر أنه يجب على الفقيه المفتي أن يحتاط لنفسه ولا يستهين بهذا الشأن العظيم.

2 ـ الرأي: لا بُد أن يتفقه بمذاهب أهل الفقه ويطلع على آرائهم قال علي ابن شقيق: "سمعت ابن المبارك يُسأل: "متى يسع الرجل أن يفتي؟ "قال: "إذا كان عالماً بالأثر بصيراً بالرأي" [18] .

3 ـ وعليه أن يلم بعلوم الشريعة وقواعدها التي تنبني عليها ولا تفهم الأحكام بدونها فمثلاً:

ص: 451

قال الشافعي: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً بالشعر بصيراً باللغة وما يحتاج إليه من السنة والقرآن ويستعمل مع هذا الإنصاف ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي"[19] .

وقال أحمد بن حنبل: "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالماً بوجوه القرآن عالماً بالأسانيد"[20] .

وقال يحيى بن أكثم: "ليس من العلوم كلها علم أوجب على العلماء والمتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه".

وروى ابن سيرين عن حذيفة أنه قال: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً، أو أحمق متكلف". قال ابن سيرين: "فلست بواحد من هذين ولا أحب أن أكون الثالث"[21] .

قال ابن القيم رحمه الله: "مراده ومراد السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخيرن، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم ليسمون الاستثاء والشرط والصفة نسخاً". اهـ.

قلت: وينبغي على كل متعلم أن يعلم أن مرتبة الفتوى لم تكن لجميع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع أن جميعهم في اللغة أفصح من فصحاء عصرنا، هذا مع كونهم امتازوا بالصحبة وبمشاهدة التنزيل إنما كان المشهور بالفتوى منهم سبعة، وكان هناك متوسطون ومقلون في الفتوى ومجموع أهل الفتوى منهم مائة ونيف وثلاثون نفساً.. كما فصل ذلك الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم إعلام الموقعين.

ص: 452

فعلى كل من رشح نفسه ووطد عزمه على النظر في الأحكام ومعرفة الحلال والحرام، وعلى الانتصاب للفتوى والاجتهاد، أن يُعِدَ هذه الأدوات ويحصل هذه المؤهلات، ويشمر عن ساعد الجد، ويشحذ العزيمة ويسهر الليالي.. ويسأل ربه عز وجل على الدوام أن يجعل له نوراً، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب كما قال الإمام مالك رحمه الله:

"إن العلم ليس بكثرة الرواية ولكنه نور يجعله الله تعالى في القلوب". وإنما سطرت هذه الأسطر في هذا الشأن الخطير والأمر العظيم بقصد استنفار الهمم لعلم الشريعة والفقه، ولفت الأنظار إلى المصدرين الأساسيين لذلك الكتاب والسنة، وتنبيه الأفكار لطريقة الورود والاستقاء، والأخذ والإعطاء.

وبعد ذلك كله الشفقة على نفسي وعلى المتعلمين من أن ينطبق على حالنا قول إمامنا الأعظم صلى الله عليه وسلم:

"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"[22] .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

متفق عليه.

[2]

متفق عليه.

[3]

رواه البخاري.

[4]

ابن ماجه وأبو داود وأحمد والدارمي والدارقطني.

[5]

الفتاوى 20 ـ 250.

[6]

رواه الطبراني وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4ـ84 وقال: طريق عبد الله بن عمرو فيها مقال وذكره السيوطي في تبييض الصحيفة في مناقب أبي حنيفة ط حيدر آباد 1380: 40 قال: رواه الطبراني في الأوسط قال حدثنا عبد الله بن أيوب القزي ثنا محمد بن سليمان الذهلي ثنا عبد الوارث بن سعيد.

[7]

إعلام الموقعين 1ـ9.

[8]

تبييض الصحيفة في مناقب أبي حنيفة للسيوطي.

[9]

وقد عده بعض المحدثين كالذهبي من كبار الحفاظ كما أن بعض المحدثين طعن في حفظه.

ص: 453

[10]

الانتقاء لابن عبد البر: 31.

[11]

تاريخ بغداد 3 ـ 343.

[12]

جامع بيان العلم 1 ـ 130.

[13]

إعلام الموقعين.

[14]

الانتقاء لابن عبد البر: 142.

[15]

إعلام الموقعين 2 ـ 26.

[16]

إعلام الموقعين 1 ـ 228.

[17]

راجع كلام ابن القيم في طبقات المفتين في إعلام الموقعين 4 ـ 270.

[18]

جامع بيان العلم لابن عبد البر 1 ـ 31.

[19]

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي.

[20]

إعلام الموقعين 1 ـ 36.

[21]

نفس المصدر.

[22]

رواه البخاري.

ص: 454

علم القرآن هو الأعلى

للشيخ محمد يوسف

أمير الجماعة الإسلامية في الهند

لقد صدق النبي الأمي معلم الأخلاق صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وإن العلم المراد بهذا الحديث الشريف هو العلم الأعلى الذي أعطاه الله عز وجل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ليخرجوا البشرية من الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض إلى النور المبين. وهذا العلم الأشرف لا يوجد إلاّ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وحيد في عصره فريد في نوعه ليس له مثيل. وكيف لا يكون كذلك وهو من لدن حكيم خبير، وقول الله يشهد لذلك:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُون} .

إنه علم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. علم أوفى منزلة وأتم شأناً من جميع العلوم البشرية. وإنما نقول لبعض أتباع الغرب وتلامذتهم إن العلم الذي يتلقاه الإنسان بعد المشاهدة والتجربة لهو أجدر بالاتباع والأخذ من العلم الذي تقوم أسسه على الغيبيات وما وراء الطبيعيات الذي أنزله الله من فوق سبع سماوات. ولا يعرفون أن الله يعلم ما توسوس به أنفسهم وهو بكل شيء محيط.

{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .

كتاب الله أفضل الكتب:

إن كتاب الله العظيم: القرآن الكريم أفضل الكتب وأصح الكتب، وإنه شفاء لما في الصدور والحل الوحيد للمشاكل البشرية والمعضلات الإنسانية:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وإنه لهدى للمتقين. ولولا هذا العلم الأعلى لكان الناس كلهم منغمسين في الضلال الذي يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار.

ص: 455

ومما يبعث على الأسف أن الإنسان يجهل منزلة العلم وقدره، ومما يزيدني أسفاً وحزناً أن بعض المسلمين يهتمون بأقوال المستشرقين أكثر مما يهتمون بمبادئ القرآن والحديث النبوي الشريف. ولقد قال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} .

والعجب كل العجب أن كثيراً من المسلمين لا يعرفون الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار أن الأمة الإسلامية هي فريدة في وراثة هذا العلم الأشرف الأفضل. وكل مؤمن يؤمن بأن كتاب الله أفضل الكتب وأصح الكتب لكن مع الأسف الشديد أن كثيراً منهم لا يعرفون ولا يدركون قدر هذا العلم ولا يحثون أولادهم على تلقي هذا العلم الذي لهم فيه خير الدنيا والآخرة.

وقد صدق الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حيث قال: " {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} "[1] وقد صدق عليه السلام حينما قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". ولم يقل بأن خيركم من تعلم علوم الدنيا وعلّمها.

وإن تحصيل علم الدين من وظائف الأنبياء فطوبى لمن يتعلمه ويُعلّمه. وطوبى لمن يتدبر القرآن ويتذكره مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الأَلْبَابِ} .

والحق أن الذين لا يؤمون بما أنزل الله أولئك هم السفهاء ولو زعموا أنهم من أولي الألباب بما عندهم من علم النفس والكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والجيولوجيا والتكنولوجيا وغيرها من العلوم الحديثة المعاصرة.

وجدير بالذكر أن الكفار يعترفون بجهلهم وسفاهتهم يوم القيامة. وقول الله تعالى يشهد لذلك إذ يقولون: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .

ص: 456

إن تعلم العلوم الحديثة ليس ممنوعاً في الإسلام لكن الخضوع لهذه العلوم وترجيحها على العلوم الدينية ممنوع بتاتاً في الإسلام، بل المطلوب من رجال الدعوة أن يتعلموا لغات شتى كتابة ونطقاً لأنها من كبرى الوسائل لنشر الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة.

كم أتمنى أن يزور وفد من الجامعة الإسلامية تلك المدرسة النموذجية التي أسستها الجماعة الإسلامية في الهند في مقرها الأول عام سبع وستين وثلاثمائة وألف والتي زارها في العام الماضي سعادة السفير السعودي في الهند الأستاذ أنس يوسف ياسين، ولقد أنشئت على نمطها عدة مدارس في الهند تحت إشراف الجماعة الإسلامية منها جامعة الفلاح ببلرياكنج والكلية الإسلامية في شانتا بورم في كيرالا ودار الهدى في كريم نكر حيدر أباد، وإني أتشرف بدعوة أهل الجامعة ليلاحظوا كيف تدرس في هذه المدارس العلوم الدينية والعلوم الحديثة وفقاً لوجهة النظر الإسلامي.

البون الشاسع بين الحضارة الإسلامية والجاهلية الغربية:

هذه حقيقة واضحة.. إن التي تسمى حضارة غربية ليست حضارة بل هي جاهلية غربية، وهي تتنافى بكل خطوة مع ديننا وعقيدتنا وأخلاقنا ومنهج حياتنا، فإنها غير صالحة، وأساسها قائم على الإلحاد واللادينية والمادية والإباحية، وإنها تحل ما حرّم الله وتحرم ما أحل الله.

إن الحضارة الغربية تزعم أن أصل الإنسان من القرد ولذا لا تنظر إلى الإنسان كإنسان ولا تحترمه حق احترامه ولا تمنحه الحقوق الإنسانية الأساسية المقدسة، فهذا برلمان بريطانيا أباح عمل قوم لوط فهل بعد هذا يريد الراغبون في هذه الحضارة أن يمشوا على منوالها، ويبنوا مجتمعهم وشعبهم وحكوماتهم على أسسها الدنسة.

أريد أن أنبه الشباب الإسلامي والطلبة الأعزاء إلى خطر هذه الحضارة ودسائسها على الأمة الإسلامية.

ص: 457

لقد نشأت في زماننا طائفة ترجح الحضارة الغربية على الإسلامية وتعتقد أن كل شيء في الدين عسر معارضةً قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين يُسر".

ويقول هؤلاء المنحرفون أن العبادات كلها غير نافعة فإن الصوم مضر للصحة والحج مضر بكيان الدولة الاقتصادي.. معنى هذا أن القرآن لا يهدي إلى الفلاح.. نعوذ بالله من ذلك. وينسى هؤلاء أن العرب لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من الرقي والازدهار في جميع ميادين الحياة إلاّ بعد اعتناقهم الإسلام، والغرب تعلّم واستفاد كثيراً من الإسلام وأهله.

لسنا عبّاد الشرق ولا الغرب بل نحن عبّاد المليك المقتدر الذي لا شريك له في الملك فلسنا بحاجة إلى أن نتبع الذين غرتهم الحياة الدنيا ونترك الحضارة والثقافة الإسلامية التي عَلَّمَنَاها الله عز وجل برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

وإن هناك بعض الأشياء التي شاهدتها أثناء وجودي في المملكة أن بعض الناس حين يلتقي بعضهم ببعض يقولون صباح الخير أو مساء الخير كما يقول الإنجليز

Good morning" " أو" Good evening "مع أن طريق السلام المسنون هو (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وإذا سأل بعضهم بعضاً كيف حالك يقول:" o.k "ولا بأس أن يقولوا: " o.k. "بعد الحمد لله ولكن هؤلاء نسوا الله في كلامهم، فيجب علينا أن لا نكون كما قال تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الحشر ـ 19.

الموسيقى والغناء والمزامير:

إذا كان الإنسان غافلاً عن ذكر الله استولى عليه الشيطان، ومما يبعث على الأسف الشديد أن شبابنا المسلمين أصبحوا يميلون إلى الغناء والموسيقى والرقص، وإن هذا يلهيهم عن ذكر الله.

ص: 458

ورأيت في المملكة أن بعض سائقي السيارات مولعون بسماع الغناء والموسيقى وبعضهم يمتنعون عن سماع الأغاني عند ما يصلون إلى الحرم ويقولون هذا حرام هنا ولا يدرون أنه حرام في كل زمان وفي كل مكان، ومن الناس من يسمع القرآن والحديث على موجات الراديو ويسمع الغناء والموسيقى في وقت آخر، مثلهم كمثل الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر شيئاً.

إن مشاكل أمتنا الإسلامية كثيرة فإننا فقدنا عزنا ومجدنا وابتلينا بالذل والهوان في كل مكان ففي مثل هذه الظروف إذا ابتلينا بسماع الأغاني والموسيقى يكون مثلنا كمثل نيرون الذي أصبح مثلاً في هذا الشان، إذ يقال عنه:

Neron was Fiddling While Rome Was Burning.

يعني: (نيرون كان يستمتع بالموسيقى حينما كانت روما تحترق) ، وها هي ذي إسرائيل أحرقت القدس وشبابنا لاهون بالغناء والموسيقى والرقص، إن هذه الأشياء لا تليق بأمة مجاهدة لخير أمة أخرجت للناس، وظيفتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لباس التقوى ذلك خير:

إن المولعين بالحضارة الغربية تركوا لباس التقوى واختاروا لباس الفسق والفجور وكثير من الرجال والنساء يلبسون لباس المسلمين لكنهم لا يمنعون أولادهم وبناتهم عن لبس لا تجيزه الشريعة الإسلامية بأي حال من الأحوال، لأن ستر العورة في كل حين ضروري ولا تجوز الصلاة في لباس يجعل صاحبه شبه عار، ولباس الفسق والفجور يسوق إلى فتوق كثيرة في المجتمع وهي لا تخفى على صاحب بصيرة.

ص: 459

ولا يجوز للمرأة اتخاذ الألبسة مثل الميني جوب والشورت وغيرها، التي تكشف عن العورات، ولا يجوز للنساء أن يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى أن يلبسن لباس الفحشاء الذي اخترعته الجاهلية الحديثة، ولقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن تشبه الرجال بالنساء وبالعكس وأوعد من يفعل ذلك. لكن المولعين بالحضارة الغربية لا يبالون بهذا كله، وليتهم كانوا يعلمون أنهم سيذهبون إلى قبورهم بلباس غير فاخر ولا طِبْقاً للزي الحديث، فاعتبروا يا أولي الأبصار..

التدخين:

والتدخين أيضاً مما جاءت به الحضارة الغربية والعجب كل العجب أن كثيراً من العرب والمسلمين رجالاً ونساءً أخذوا بالتدخين. والتدخين أصبح شائعاً في المجتمع بشكل غريب، رغم أن مضارها كثيرة والدليل على ذلك ما اكتشفه فريق من الأطباء الألمان في شهر ديسمبر عام سبعين أن حوالي أربعين بالمائة من المدخنين يموتون بسبب أمراض ناتجة عن التدخين، ومن المعلوم أن التدخين يؤذي الملائكة والمصلين وقد نهى عليه الصلاة والسلام آكل البصل أن يقرب المسجد ـ فقس على ذلك ـ والتدخين فيه إسراف وتبذير والله عز وجل نهى عن الإسراف بقوله:{كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} .

وقال تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} .

وقبل أن أختتم هذه الكلمات أود أن أستشهد بما قاله نلسون روك فيلر حاكم ولاية نيويورك في خطابه الذي ألقاه في شهر يناير عام 71م: "إن الولايات المتحدة تمر الآن بأزمة روحية لا يمكن تجاهلها أو إنكارها".

ص: 460

ومما يتضح من هذا الكلام أن المادية مسيطرة على الحضارة الحديثة سواء في أمريكا الرأسمالية أو روسيا الشيوعية. فإن جميع الأديان المنحرفة والأفكار الهدامة من مولدات الحضارة الحديثة، ويتضح من كلام روك فيلر أن الحضارة المعاصرة ليس بإمكانها أن تنقذنا من الورطة التي نحن فيها الآن.

فإننا نواجه اليوم قوة أشد مكراً وخدعة، هذا في جانب وفي جانب آخر فهي مسلحة بأحدث وأجود أنواع الأسلحة الذرية والنووية وبجانبها شعب لا مثيل له في تدبير المؤامرات والدسائس فإذا تمسكنا بالحضارة الغربية الحديثة فلن تكون هناك فوارق بيننا وبين إسرائيل من ناحية الانحراف الحضاري والخلقي وعندئذ لن نكون جديرين بنصر الله في وجه إسرائيل.

أما إذا طبقنا الشريعة الإسلامية الغراء وأحكامها في جميع مجالات حياتنا وبجانب هذا تعلمنا العلوم الحديثة وتقدمنا فيها ودربنا أنفسنا على الأسلحة الجديدة وفوق هذا كله توكلنا على الله حق التوكل فقد استوفينا جميع الشروط ليتحقق لنا النصر من الله القوي العزيز.

وأخيراً أدعو الله سبحانه وتعالى أن يؤيدنا بنصر من عنده ويكون العز والنصر حليفنا وحليف أمتنا الإسلامية، وتكون كلمة الله هي العليا وينسحب العدو من جميع الأراضي المقدسة ويعود إلى حياته الأولى حياة التيه..

أسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين..

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

هذا من كلام الله يرويه سبحانه عن لسان رسوله.

ص: 461

الإسلام في سيراليون

بقلم الشيخ أحمد صالح محايرى

خريج كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية

ومبعوث دار الإفتاء السعودية إلى سيراليون

جغرافية سيراليون:

قام الرحالة البرتغالي المشهور داسنترا برحلة بحرية عام 1640م. فوصل إلى ساحل بحري ارتفعت فيه بعض الجبال وكثرت فيه الغيوم المطيرة وومضات البرق وأصوات الرعد الشبيهة بزئير الأسد فأطلق على هذه المنطقة سيراليون التي تعني بلغته جبال الأسد. وحددت فيما بعد ما بين خطوط العرض 10، 6، 55 شمالاً، وخطوط الطول13، 10، 50 غرباً. ويحدها غرباً وجنوباً المحيط الأطلسي، وشرقاً ليبريا وجزء من غينيا وشمالاً غينيا.

مساحة سيراليون نحو (27925) ميلاً مربعاً، وعدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة ينتمون إلى عدة قبائل أهمها وأكبرها عدداً قبيلة التمني فاللمبا فالمندي فاللوكو الخ

وأما مناخه فاستوائي ذو فصلين متساويين فصل الأمطار وفصل الجفاف. معدل الرطوبة فيه 80 % استقلت سيراليون من الاستعمار البريطاني عام 1961م وأعلنت عن جمهوريتها عام 1971م.

نسبة المسلمين في سيراليون:

ص: 462

تزداد نسبة المسلمين في سيراليون بشكل مستمر وسريع ففي عام 1920 ميلادية لم تكن نسبة المنتمين إلى الإسلام تتجاوز 40./. من سكانه أما اليوم فقد بلغت نسبتهم أكثر من 75 % وقد صرح بهذه النسبة السيد وزير الشئون الإجتماعية السيراليوني في احتفالات إسلامية أقيمت في مدن فريتاون وكينما، وبو، ومكيني بسيراليون عام 1972م. كما كشف الوزير عن وجود نسبة قليلة من المتنصرة لتلقيها العلوم في المدارس التبشيرية النصرانية. ويشهد الإحصاء الرسمي الذي أجري قبل عدة سنوات في سيراليون بثبوت نسبة المسلمين التي صرح بها السيد الوزير إذ تبين من خلاله رسمياً أن نسبة المسلمين تترواح ما بين 70ـ75 % من مجموع سكان سيراليون. والحقيقة أن المسلمين يشكلون أكثر من 80./. من مجموع السكان فيه.

تاريخ دخول الإسلام إلى سيراليون:

تكاد تجمع الروايات المنقولة في كتب التاريخ الحديث لأفريقيا الغربية وفي الصحف التي عنيت بسيراليون أن الإسلام كفكرة سامية مقدسة عُرفت وسمعت من أشياخ قبائل سيراليون في القرن السادس عشر الميلادي وإن لم تكن وقتئذ مطبقة كدين عقيدة وعمل والمعروف قديماً في سيراليون أن من أراد دفع تهمة عن نفسه يقول: "أنا مسلم"أي أنا لا أفعل شراً كالمسلم الذي لا يفعل شراً. ولا تزال هذه العادة منتشرة إلى اليوم في جميع الأوساط الإسلامية وغيرها.

ص: 463

إن معرفة أشياخ سيراليون للإسلام بهذه القدسية وقتئذ كان بسبب وصول التجار المسلمين الصالحين من غينيا والسنغال ونيجيريا وموريتانيا إلى مدن سيراليون الساحلية واتصالهم بهم. وقد ظل الإسلام ـ كنظرية ـ مقدسة ـ باللسان ـ إلى أن قامت معارك فوتاجالو الشهيرة التي نقلت الإسلام إلى حيز التنفيذ في القرن الثامن عشر الميلادي. وسبب هذه المعارك أن اثنين وعشرين من كبار مسلمي قبيلتي الفُلاّ والمادينكا القاطنين في غينيا قاموا مع اتباعهم بقيادة (ألمامي صوري) بتعطيل طبل جماعة وثنية سيراليونية أشعلت فتنة بين المسلمين في منطقتهم الغينية. مما أسفر عن قتال نشب بين الوثنيين والمسلمين المذكورين الذين اعتبروه جهاداً مقدساً انتصروا في نهايته نصراً مؤزراً إذ طاردوا الوثنيين عبر الحدود السيراليونية الغينية التي اجتازوها إلى المدن السيراليونية الشمالية مثل: كارينا ـ فالابا ـ بورت لوكو. واستوطن كثير من المسلمين في هذه المدن وأخذوا يتصلون في المدن والقرى المجاورة للتجارة وهم يؤدون شعائرهم الدينية من صلاة وصيام وتلاوة قرآن، مما جعل بعضاً من وثَنيي سيراليون يعتقد مع الأيام دين الرجل الأسود وذلك لأن أتباعه من السود الوافدين من غينيا فلهذا السبب الجزئي، وللسبب الأول وهو أن الإسلام دين الفطرة بدأ بعض الوثنيين يقلدون المسلمين في صلاتهم وشعائرهم الدينية إلى أن توثقت الروابط بين الفئتين وأخذ الوثنيون السيراليونيون يثقون إلى حد كبير بالمسلمين وخاصة بعدما ساعد المسلمون السيراليونيون بالوقوف إلى جانبهم ضد البرتغاليين والإنكليز المستعمرين. إن هذه الثقة وهذا التلاحم وَلَّدَا انفتاحاً جديداً بين المسلمين الغينين وشعب سيراليون أسفر عن توافد مزيد من آلاف المسلمين الغينيين وخاصة من قبيلة السوسو للاستيطان في سيراليون. وبذلك صار الإسلام ينتشر في القرى والغابات السيراليونية انتشار الرائحة الزكية عن طريق هؤلاء المسلمين. كما

ص: 464

صار أشياخ قبائل سيراليون كقبيلة المندي والتنمي واللمبا يعلنون عن إسلامهم ويدعون إليه رغم المغريات الهائلة التي كانت ولا زالت تقدمها المؤسسات التبشيرية النصرانية لجلب هؤلاء الأشياخ إليها.

إن التجمعات الإسلامية السريعة التي حصلت بدخول السيراليونيين إلى الإسلام أحدثت مشكلة جديدة لا تزال قائمة حتى اليوم هي مشكلة الجهل بتطبيق شعائر الإسلام. ومع أن الوافدين المسلمين إلى سيراليون من العامة الذين هم أنفسهم بحاجة إلى تعليم فقد هذبوا هذه المشكلة إلى حد ما وخاصة بعد أن اشتغل كثير منهم بتعليم الأطفال في الكتاتيب على طريقة الألواح.

إن للمسلمين دور ذهبي وهام في تاريخ سيراليون حيث عملوا جاهدين على استقلاله لأنهم يؤمنون بوجوب الجهاد في سبيل الله للذود عن العقيدة والنفس والعرض والوطن ابتغاء مرضاة الله. وكانوا في الواقع شوكة في عين الاستعمار تقض مضجعه إلى أن نالت سيراليون استقلالها 1961م ولله الحمد.

مستوى مسلمي سيراليون الثقافي:

ص: 465

الثقافة الإنكليزية بلغتها وعقائدها النصرانية والمتمثلة في مئات المدارس والمؤسسات التبشيرية، والثقافة الإسلامية العربية في الكتاتيب التي فتحت في أغلب المدن والقرى السيراليونية لتعليم الأحداث قصار السور على طريقة الألواح المشهورة التي تكاد تكون الطريقة الوحيدة للتعليم الإسلامي في جميع أنحاء أفريقيا، حيث يتحلق الطلاب في أوقات معينة من النهار وفي الليل حول شعلة من نار توقد في باحة دار المعلم لحفظ ما كتبه على ألواحهم وذلك لقاء عمل يقوم به الطلاب في حقل المعلم وفي قشر الأرز والاحتطاب، وجلب الماء. يبقى طالب العلم كذلك إلى أن يتم مرحلة تلاوة القرآن بالنظر وحفظ بعض من قصار السور يمنح بعدها لقب ـ ألفا ـ فإن أراد التفرغ للعلم يبدأ مرحلة تعليمية ثانية وهي مرحلة تفسير معاني القرآن وترجمتها إلى لغته مع دراسة بعض الكتب الفقهية المالكية وعند تمام هذه المرحلة الدراسية التي تستغرق أحيانا عشر سنوات يمنح لقب ـ فودي ـ باحتفال كبير يحضره أعيان القبيلة وعلماؤها حيث تلف على رأسه عمامة ـ فودي ـ ثم يرفع كرسيه على الأعناق وهو جالس عليه لِيُطاف به في البلدة. يؤهل من منح لقب فودي لأن يكون إماماً في جماعة.

لقد استطاعت طريقة الألواح أن تلعب دوراً هاماً في تاريخ الثقافة الإسلامية بسيراليون إذ أنها على أقل تقدير نشرت في الغابات سوراً من القرآن الكريم مع بعض أحكام فقهية رغم تجردها من كل المغريات المادية التي تملكها الثقافة الثانية. وللوقوف على المستوى الثقافي بين المسلمين في سيراليون يجدر بنا أن نقف على أهم العقائد المنتشرة في سيراليون.

ص: 466

إن كثافة الأدغال واتساع الغابات المجهولة في سيراليون سببا لرجل الغابة بصورة عامة إيماناً بقوة شيطانية خفية كامنة وراء الأشجار مما جعله يتصور أن لهذه الغابة ملكاً لا يخرج إلا في الليل اسمه (ديفل) أي شيطان لابدّ من محالفته خوفاً منه. فالمحالف له صاحب سلطان تدين له الجماعة بالسمع والطاعة، يتميز عنهم إذا خرج مع جماعته في المناسبات بلباسه وقناعه الغريبين. وهو الذي يقتني أصناماً وأوثاناً تؤمن جماعته بنفعها وضررها. وقد أسفر عن هذا انتشار جمعيات وثنية في المنطق النائية، وصار لكل جمعية صنم يختلف في شكله ومادته عن غيره فتارة يكون مصنوعاً من خشب فيسمى: جوجو، وتارة أخرى يكون قرن ثور مجوف فيعرف عندئذ بكارافيلو. وأحيناً يكون ودعات وضعت في زجاجة مع حبات من الأرز وقطع نقود معدنية قديمة. ومثل هذه الأصنام صارت توضع في الحقول طلباً للبركة ولحفظ الحرث، بقي الأمر كذلك إلى أن قامت حروب فوتاجالو الآنفة الذكر التي نشرت بعض معاني التوحيد فتقلصت بذلك العقيدة الوثنية وإن كانت رواسبها لا تزال عالقة إلى اليوم في صدور كثير من العامة.

إن الإسلام أدخل إلى سيراليون عقيدة جديدة هي عقيدة التوحيد والتبرك بتلاوة القرآن المجيد عوضاً عن التبرك بصنم أو وثن. لكن لحداثة السيراليونيين بالإسلام ولقرب عهدهم بالوثنية، ولانعدام التوعية الإسلامية ظهرت طائفة تحمل عقيدة مزدوجة، تؤمن بالله ورسوله، وتقوم ببعض شعائر الإسلام وتحضر الجماعات إلى جانب إيمانها بصنم توارثته عن أسلافها تؤمن بنفعه وضره وتلتجئ إليه وقت الشدة والنوازل الكبرى.

ص: 467

إلا أن هذه الإزدواجية في العقيدة وتوحيد الربوبية دون الألوهية لم يعمرا طويلاً بسبب انتشار التوعية والمدارس الإسلامية. ولكن بقيت فئة إلى اليوم منتشرة في أغلب مناطق سيراليون تدعي الإسلام وتلبس لباسه تستقبل العامة وتبشرهم بخرافات مدعية على الغيب، كما تقوم لهم بأعمال سحرية مستعينة بما نقل عن كتب المخرفين أصحاب الطرق التيجانية وغيرها من جداول لجلب رزق أو دفع ضرر، كل ذلك ابتغاء رزق تناله. ولو اشتغلت هذه الفئة بإخلاص بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية الشريفة لأكلت حلالاً عوضاً عن أكل الحرام ولنالت رضا الله تعالى في توحيده عوضاً عن الإشراك به ولأنقذت نفسها من عذاب جهنم ومس سقر. ولعل هذه الفئة نسيت قول الله تعالى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} .

لله در القائل:

وكل خير في اتباع من سلف

وكل شر في ابتداع من خلف

اللغات التي يتكلم بها المسلمون في سيراليون:

لكل قبيلة لغة سميت باسمها، فأفراد قبيلة التمني ـ مثلاً ـ يتكلمون لغتهم المنسوبة إليهم وكذا قبيلة المندي واللمبا، واللكو، والشبرو، والسوسو، والمادينكا، والكرانكو، والكيسي.

والمثقفون إسلامياً من هذه القبائل تجمعهم اللغة العربية التي يتناسب انتشارها طرداً مع انتشار الإسلام.

واللغة الرسمية في سيراليون هي اللغة الإنكليزية، وإن اعتنى بها المسلمون مؤخراً إلا أن النصارى سبقوهم إليها، وذلك لأن المسلم السيراليوني يخاف أن يبعث بولده أو ابنته إلى المدارس النصرانية لتلقي العلوم الإنكليزية فيغير دينه أو اسمه الإسلامي أو يدرس في كتاب ينال من المسلمين.

وأما اللغة العامة التي يتفاهم بها جميع الناس فتسمى (لغة الكريول) وهي لغة المتحريرين من الأرقاء الوافدين من بريطانيا. فهي لغة إنكليزية محرفة دخلت إليها مفردات من لغات أخرى.

المؤسسات الإسلامية في سيراليون:

ص: 468

1 ـ مجلس الكونغرس الإسلامي

لعدم وجود مجلس إسلامي يجمع المسلمين ويمثلهم لدى السلطات أيام الاستعمار كانت كل جماعة إسلامية وإن قلت تلتف حول إمامها. حتى في صلاة العيد لم يكن المسلمون يجتمعون على إمام واحد حتى ولا يبدأون الصوم في يوم واحد. بقي الأمر كذلك إلى أن قام بعض المثقفين من المسلمين ينادون بتشكيل مجلس إسلامي يمثل المسلمين ويعتني بشؤونهم ويجمعهم على إمام واحد في صلاة العيد على تناوب الإمامة بين القبائل المشتركة فيه. وسرعان ما أعلن عن تشكيل مجلس لهذا الغرض عرف باسم (سيراليون مسلم كونغرس) بدأ هذا المجلس أعماله عام 1928 ميلادية برئاسة السيد ألمامي سنوسي وأمانة سر السيد حاضر الدين رحمهما الله تعالى، وعضوية أئمة الجماعات وكبار المثقفين من المسلمين.

واقتصر عمل هذا المجلس في سنواته الأولى على جمع التبرعات وإلى الإشارة إلى أيام الصوم والأعياد وكذا على تسمية الإمام لصلاة العيد ولكن سرعان ما تدخل في شؤون هذا المجلس الأحمديون القاديانيون الوافدون من الباكستان. وقويت شوكتهم فيه بعد أن استقبلهم المجلس كأعضاء.

وبدأ الأخطبوط الأحمدي يعيث فساداً في هذا المجلس ويصرفه عن الغاية التي أنشئ من أجلها ويبث الفتنة بين أعضائه ويجمع القوى ضد من يتنكر للولاء الأحمدي القاديانية أو ينتقد تعاليم البعثة القاديانية في سيراليون كل ذلك كان بمساعده السلطات الإنكليزية المستعمرة.

بقي الأمر كذلك إلى أن ساءت حالة المجلس المذكور وشلت حركته وتوقف نشاطه إلا من شكليات فارغة وإجراءات لا تمت إلى الدعوة بصلة دامت نحو أربعين سنة. ومن أغرب ما رأيت في هذا المجلس أن أعضاءه المنفذين يجتمعون في النصف الأول من شعبان لتقرير أول رمضان دون اعتبار لرؤية الهلال في سيراليون أو رؤيته في البلد المجاور.

ص: 469

ولعلنا ندرك مدى ارتباط هذا المجلس بالأحمدية إن علمنا أنه تلقى مساعدة مالية لبناء ثانوية إسلامية، ولما تم البناء سلم المجلس إدارة المدرسة إلى أحمديين باكستانيين تعاقبوا على إدارتها لقاء رواتب باهضة يدفعها المجلس.

رغم كل ذلك فأملنا بالله كبير أن يعود المجلس إلى جادة الصواب ويمثل بحق عقيدة المسلمين وليس ذلك على الله بعزيز.

2 ـ جمعية الأخوة الإسلامية

S.L. MOSLEM BROTHERHOOD

بقي المسلمون في سيراليون يعانون ازدواجية عقيدة مجلس الكونغرس الإسلامي وغموض أمنائه حتى سطع مشعل الثقافة الإسلامية المتحررة من كل ارتباط أحمدي أو استعماري وأشرق الأمل في نفوس المسلمين على إثر تأسيس جمعية عرفت بجمعية الأخوة الإسلامية التي نادى من أجلها كبار المسلمين المخلصين في عام 1961م. وقد أعلن أنها جمعية تهدف إلى العمل على تثقيف أكبر عدد من الناشئة ثقافة إسلامية. إذ لم يكن وقتئذ أية مدرسة بالشكل المطلوب بينما كانت مئات من المدارس التبشيرية النصرانية تعلم أبناء المسلمين الثقافة والديانة الصليبية، فالنفوس كانت متعطشة إلى أهداف هذه الجمعية والقلوب مهيأة لمثل هذه النداء. ولهذا توافد إلى مدينة (ماكبوركا) بسيراليون جماعات إسلامية من كل القبائل برئاسة الحاكم السيراليوني العام قدرت بنحو عشرة آلاف مسلم ومسلمة لحضور الاحتفال بتأسيس هذه الجمعية وبعد الاحتفال عادت هذه الوفود إلى مناطقها لتباشر نشاطها الإسلامي باسم الجمعية المذكورة.

وخلال عشر سنوات فقط استطاعت جمعية الأخوة الإسلامية بناء وافتتاح أكثر من سعين مدرسة إسلامية ابتدائية في أهم مدن سيراليون. يدرس الطلاب فيها مناهج وزارة المعارف السيراليونية بالإضافة إلى مادتي اللغة العربة والتربية الدينية. وخلال السنوات الأخيرة افتتحت الجمعية بنفس الأسلوب ثانويين إسلاميتين إلى جانب معهد لتخريج معلمي اللغة العربية.

ص: 470

إن إنجاز هذه المدارس الإسلامية بسرعة عن طريق هذه الجمعية شكَّل عجزاً في المعلمين الإسلاميين مما جعل الجمعية تستعين بنسبة هائلة من النصارى لإدارة مدارسها الإسلامية والتعليم فيها.

إن وضوح أهداف جمعية الأخوة الإسلامية، وتمسكها بتعاليم الإسلام الحنيف قولاً وعملاً وبعدها عن أي نوع من أنواع المداهنة، جعل أعداء الإسلام يتربصون بها ويحاولون تصفيتها بأية طريقة. وهناك حوادث تصور لنا ذلك منها: أن وزير المعارف السيراليوني قام بزيارة لثانوية الأخوة الإسلامية في فريتاون عام 1970م. فقام الطلاب والطالبات احتراماً لمعاليه وبادروه بتحيتهم: السلام عليكم: ـ باللغة العربية ـ فغضب الوزير لمثل هذه التحية وأصدر في اليوم التالي قراراً بإغلاق المدرسة.

فهب المسلمون يدافعون عن ثانويتهم التي بنوها بأموالهم وغذوها بأرواحهم إلى أن أعيد افتتاحها ثانية. حادثة كهذه تصور لنا مدى الصعوبات التي تعانيها هذه الجمعية. إنها تمر اليوم بأصعب الظروف وأحلكها لعجزها المالي الذي سبب في السنتين الأخيرتين تقلصاً في نشاطها وانكماشها في معركتها.

إنني أهيب برجال الدعوة الأماجد أن يقدموا لهذه الجمعية يد العون والمساعدة إذ إنها أول جمعية إسلامية في أفريقيا الغربية استطاعت أن تحقق مثل هذه الانجازات في مدى قصيرة وتبقى صامدة على عقيدتها رغم المصاعب التي تعانيها.

3 ـ الجمعية الإيمانية بفريتاون:

ص: 471

أسس هذه الجمعية بفريتاون فضيلة الشيخ جبريل سيسي مع جماعة من قبيلة التمني عام 1938م. وكان من أعمال هذه الجمعية بناء (جامع الجليل) وهو من أكبر جوامع فريتاون وإلى جانبه بنيت (المدرسة الإيمانية المشهورة) وكانت للجامع والمدرسة هذين أثر هام في تاريخ الثقافة الإسلامية بسيراليون. وذلك لأنه عندما كان المسلمون يغطون في سبات عميق كان رئيس هذه الجمعية النشيط فضيلة الشيخ جبريل سيسي حفظه الله يتصل بكل داعية إسلامي يحضر إلى سيراليون ويدعوه لزيارة الجامع والمدرسة للوعظ فيهما مما جعل هاتين المؤسستين بحق مركز التقاء المسلمين الوافدين من خارج سيراليون ومنار ثقافة إسلامية صحيحة فلا غرو أن نرى اليوم جماعة (جامع الجليل) وطلاب المدرسة الإيمانية قد سبقوا غيرهم أشواطاً بعيدة في ميدان العلوم الإسلامية والعربية.

هذه أهم الجمعيات الإسلامية في سيراليون ويوجد أيضاً عشرات من الجمعيات الإسلامية غيرها منتشرة في جميع أنحاء سيراليون ويكاد أثرها لا يذكر في ميدان الدعوة لأنه ضئيل جداً بل ومنعدم أحياناً.

صلاة التراويح وليلة الفطر في سيراليون:

تتوقف حركة السير في ليالي رمضان من الساعة السابعة وحتى الثامنة مساء في كل شارع فيه جامع بأمر شرطة المرور في المدن السيراليونية. وذلك لأن آلاف المصلين يحتلون الشوارع وقارعات الطرق لإقامة صلاة التراويح بعد أن يضيق بهم الجامع. وهذا مما يصور لنا اهتمام المسلمين السيراليونيين بصلاة التراويح. وبصورة عامة يظهر اهتمامهم بهذه الصلاة أكثر من اهتمامهم بالصوم نفسه. إذ الرجال والنساء والأطفال يحمل كل منهم حصيرته على رأسه ليفرشها في الشارع للصلاة. والمشتغلون في الدعوة يرون أن مثل هذه التجمعات الإسلامية الهائلة ميادين رحبة للدعوة والإرشاد.

ص: 472

وبعد صلاة التراويح يذهب أغلب المسلمين للعمل استعداداً لليلة الفطر وذلك بصنع تماثيل خشبية مزركشة بورق ملون ترمز إلى حوادث إسلامية معينة. يشرف على هذا العمل جمعية تدعى ـ جمعية الشباب المسلم ـ وفي ليلة الفطر يُخْرِج مسلمو كل حي تمثالهم الذي صنعوه خلال شهر رمضان مركباً على أربع دواليب متحركة ومضاء بمصابيح تعمل بمدخرات كهربائية جافة (بطاريات) . ثم يصطف الرجال والنساء خلف التمثال ليطوفوا به شوارع المدينة مارين بلجنة التحكيم التي تجلس في سرادق مع كبار المسؤولين والمتفرجين. وتعد لجنة التحكيم هذه للنظر في أجمل التماثيل وأدقها لنيل الجوائز الأولى التي تقدمها البلدية لصانعيها.

تبقى مدن سيراليون طيلة ليلة الفطر صاخبة من ضجيج الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً الذين يجوبون الشوارع في هرج ومرج. وعند الفجر تهدأ المدن ويذهب المسلمون ليستعدوا لصلاة العيد التي لا يقل اهتمامهم بها عن صلاة التراويح.

إن إنكار هذه البدعة المستأصلة في النفوس وهذا الاحتفال الذي لا يمت إلى تعاليم القرآن والسنة بصلة، كان شغل الدعاة والمصلحين منذ أربعين عاماً، ولم يستطع المصلحون حتى الآن صرف الناس عنها والقضاء عليها نهائياً، إلا أنهم في طريق لإبطالها إن شاء الله تعالى. وقد كانت هذه البدعة تقام احتفالاً بليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك. ولما أفلح المصلحون في صرف الناس عنها في هذه الليلة جعلها المتسابقون ليلة الفطر.

الجوامع في سيراليون:

إن تعدد القبائل ساعد على بناء الجوامع والمساجد في سيراليون. وإن كل جامع ينسب إلى اسم الجماعة أو القبيلة التي بنته. والظاهر في مسلمي سيراليون اهتمامهم البالغ في بناء المساجد والجوامع إذ لا تكاد تخلو قرية وإن صغرت من جامع. ولعل هذا الاهتمام يعود إلى الأغراض المتعددة التي يبنى الجامع من أجلها.

ص: 473

وبما أنه لا يوجد في سيراليون مؤسسة رسمية تهتم بقضايا المسلمين وتعتني بشؤونهم فالجامع هو المكان الأول الذي يعتني بشؤون المسلمين الدينية. ففي كل حي من أحياء فريتاون مثلاً جماعة إسلامية بنت جامعاً عرف باسمها، عينت له إماماً يُطاع في حكمه إذ أنه قاضٍ للجماعة يعقد النكاح ويشهد على الطلاق وينفذه كما يعقد الصلح بين المتخاصمين، ويشرف على تجهيز الموتى ويصلي عليهم. وعقب صلاة الجمعة تذاع بأمر الإمام داخل الجامع البلاغات المتعلقة بشؤون الجماعة كدعوة إلى عقيقة أو إلى عودة مريض أو دعوة إلى استقبال شخصية إسلامية قادمة أو حضور صلح أو نحو ذلك. كما أن الجامع مكان لتقديم الزكاة والصدقات يستلمها الإمام ويدعو لصاحبها بالقبول ثم يوزعها على المستحقين من أفراد الجماعة.

تمويل الجوامع:

كل جماعة مكلفة بتغطية نفقت جامعها المتمثلة بمصروفات المياه والكهرباء والترميمات الخ

فلهذا يجب على كل منتسب دفع رسم اشتراك شهري لصندوق الجماعة. كما يجب عليه دفع ما تيسر لجابي الجماعة الذي يطوف بوعاء على المصلين في صلاة الجمعة لجمع التبرعات. ويدخل إلى صندوق الجماعة الرسوم التي تفرض على كل زواج يعقده الإمام أو طلاق يصدق عليه أو جنازة يجهزها. ولكن اعتماد الجماعة على ما يجمع في العيدين من تبرعات أظهر بكثير في اعتمادها على الرسوم المذكورة. لأنه ما يتم جمعه في العيدين يبلغ أضعاف ما يجمع في غيرها.

والجماعة لا تدفع للإمام إلا القليل الذي لا يكاد يغطي حاجته كإمام.. فلهذا نرى أن كثيراً من الأئمة يتعاطون بعض الأعمال التجارية ومنهم من يتعاطى كتابة التمائم والجداول وغيرها من الخرافات ابتغاء عرض الحياة الدنيا.

أشهر جوامع العاصمة فريتاون:

ص: 474

اشتدت في العشر السنوات الأخيرة ظاهرة بناء الجوامع الشاهقة ذات المنارات العالية والقباب الواسعة في كل مدن سيراليون مما ألفت انتباه المشتغلين بالأديان والعقائد في سيراليون. فلنتناول العاصمة فريتاون التي بلغ عدد جوامعها نحو خمس وعشرين جامعاً بينما لم يكن فيها قبل مائة عام تقريباً إلا جامعاً واحداً يعرف اليوم بـ:

الجامع العتيق:

وقد بنته جماعة فوره بي الإسلامية المنتسبة إلى قبيلة اليوربا التي قدمت من نيجيريا والتي تتمتع بثقافة إنكليزية لا بأس بها. جدد هذا الجامع في العام الماضي وبلغت تكاليف تجديده نحو خمسة عشر ألف جنيه استرليني. ثم بدأت نفس الجماعة ببناء جامع ثانٍ لها تبلغ تكاليفه نحو خمسين ألف جنيه استرليني. وقد تشرفت بمشاركة وضع الأحجار الأساسية لهذا المشروع.

جامع فولاتاون:

كانت كنيسة، اشترتها جماعة فولاتاون الإسلامية التابعة لقبيلة الأوكو من النصارى وجعلتها جامعاً لها. احتفل في السنة الماضية على مرور مائة عام على شرائه وقد علمت الجماعة مؤخراً على توسيعه وتجديده.

جامع الجليل:

انتهت جماعة التمني الإسلامية بناء هذا الجامع عام 1940م في شارع أولدفيلد ستريت. وهو من أهم جوامع فريتاون حيث انطلقت منه الدعوة الإسلامية بجد. ولا يزال هذا الجامع ملتقى الدعاة ومركز الثقافة الإسلامية وذلك لأن جماعة هذا الجامع بقيادة الإمام الشيخ جبريل سيسي حفظه الله تتصف بحب الخير وبمنتهى التواضع وبصدق العقيدة مما جعل الدعاة يجدون فيه ميداناً خصباً للعمل، فلا يكاد داعية يعرف سيراليون إلا ويعرف هذا الجامع. ولأهميته أخذ المسؤولون السيراليونيون يتقربون إلى إمامه وجماعته ويجعلون منه جامع الزائرين والوافدين الرسميين.

ص: 475

وقد استطاع الشيخ جبريل سيسي بحكمته البالغة وتعاونه الوثيق المثمر مع جماعته استقطاب دعاة للوعظ في هذا الجامع لمدة طويلة. وكان لبعثة دار الإفتاء السعودية النصيب الكبير في العمل فيه.

جامع التوحيد:

لما ضاق جامع الجليل بجماعته. قامت جماعة التمني ببناء جامع ثانٍ في شارع ساكفل ستريت سمته جامع التوحيد. وقبل عشر سنوات بنت نفس الجماعة جامعاً ثالثاً عرف بـ (جامع كوتورود) افتتحت إلى جانبه مدرسة إسلامية سمتها (مدرسة مقامات الإسلام) . وقبل خمس سنوات باشرت ببناء جامع ضخم رابع عُرف بجامع (أوب كون) عند مدخل مدينة فريتاون، وقد تشرفت بإمامة أول صلاة جمعة فيه.

جامع القدوس:

بناه تجار قبيلة المادينكا الوافدون من غينيا وانتهى بناؤه الضخم عام 1953م وارتفعت مئذناته الأربع وزينت شارع مكازين وكلف بناؤه نحو أربعين ألف جنيه استرليني. إلى جانبه بنيت مدرسة إسلامية ابتدائية.

جامع قبيلة الفُلا:

جامع ضخم ذو قبة واسعة ومئذنات أربع بنته جماعة الفُلا الإسلامية قرب جامع القدوس عام 1955م وعلى سعته صار يضيق بالمصلين مما جعل الجماعة نفسها تباشر ببناء جامع آخر في منطقة هامة بفريتاون.

جامع الأمين:

قبيلة اللمبا ثالث قبيلة أهمية وعدداً وأصالة في سيراليون انتشر فيها الإسلام متأخراً، اجتمع مسلمو هذه القبيلة في فريتاون عام 1950م وقرروا بناء جامع لهم وبعد خمسة عشر عاماً ولله الحمد انتهوا من بناء الجامع الضخم في أهم شارع من شوارع فريتاون الرئيسية ـ شارع كوتورود ـ وسموه (جامع الأمين) وكان لهذا الجامع أثر كبير في سرعة انتشار الإسلام في قبيلة اللمبا إذ أن رؤساءها وكبراءها دخلوا في الإسلام للمشاركة في تنظيم الجامع وسير العمل فيه. كما بنت نفس جماعة قبيلة اللمبا مسجدين آخرين من خشب وتوتياء. وفقنا الله لافتتاح أربع مدارس إسلامية ابتدائبة في هذه القبيلة بفريتاون.

جامع قبيلة السوسو:

ص: 476

بنى مسلمو قبيلة السوسو قبل ثلاثين سنة مسجداً جامعاً في شارع وترلو، كما بنوا جامعاً آخر في شارع ساكفل ستريت وثالثاً في شارع باتن ستريت وإلى جانب هذه الجوامع تشرفنا بتأسيس ثلاث مدارس إسلامية ابتدائية سلفية ولله الحمد.

جامع قبيلة الهوسا:

يتوسط هذا الجامع الواسع الأرجاء مدينة فريتاون بناه المحسن الحاج أحمد ترولي أحد تجار قبيلة الهوسا بسيراليون الذي أبى أن يشاركه أحد في نفقات بنائه وقد تم البناء عام 1955م. يضيق على سعته بالمصلين في كل الأوقات وحتى في صلاة الفجر. ولهذا اتخذناه ميداناً للدعوة السلفية ولتثقيف العامة خلال خمس سنوات ولله الحمد يتميز هذا الجامع بأنه يجمع حفاظ القرآن الكريم ـ الأماجد ـ حيث يتواجدون فيه دائماً ويختمون فيه القرآن الكريم كل أسبوع مرة.

جامع منطقة كونغوكرس:

جامع صغير وجميل تحيط به حديقة زينتها الورود وله قصة مؤثرة وهي أن الذي بناه على نفقته كان قسيس كنيسة يُدعى مستر كول. رأى مرة في المنام أنه أدخل إلى حديقة مزدانة بأنواع الورود وقيل له إن دخلت في الإسلام فلك هذه الحديقة، فقام الرجل في الصباح ودخل في الإسلام وبنى الجامع المذكور في أجمل وأهم منطقة من مناطق فريتاون ـ منطقة الكونغوكرس ـ حيث بيوت السفراء والقناصل. هذه القصة التي شافهني بها المذكور مشهورة في فريتاون كما يوجد في الجامع مكبر صوت للأذان يسمع أرجاء المنطقة. وقد انزعج الكفار المحيطون بالجامع من أذان الفجر فأقاموا دعوى ضد الأذان فرافع المذكور القضية بمهارة في المحكمة حتى أقرت المحكمة بقاء الأذان كشعيرة دينية.

حج مستر كول إلى بيت الله الحرام ثلاث مرات وصار يعرف بـ (الحاج كول) .

الإسلام على المستوى الرسمي في سيراليون:

ص: 477

لم يكن الإسلام أيام الاستعمار ديناً معترفاً به على الصعيد الرسمي. ويعتبر المسلمون وقتئذ أقلية لا يصلون إلى حقوق الأقليات فمن الحقوق التي كان يتمتع بها المسلمون والتي لا تزال سارية إلى اليوم:

1 ـ لا يجب على المسلم نزع طربوشه أو قلنسوته إذا دخل إلى المحكمة كما يجب على غيره.

2 ـ تعيين إمام لإمامة الصلاة في المسجونين المسلمين الراغبين فيها.

3 ـ إعفاء رجال الشرطة المسلمين من التمارين الصباحية إذا ثبت صومهم في رمضان.

4 ـ اعتبار الزواج والطلاق نافذين إذا صدق عليها إمام الجماعة الإسلامية.

ولما كانت مثل هذه الحقوق شكلية لا تخدم القضية الإسلامية في سيراليون قام المصلحون المسلمون بعد انتفاضتهم بإقناع المسؤولين بعد الاستقلال باعتبار الإسلام ديناً سماوياً دين الغالبية في سيراليون. ثم توصلوا إلى حقوق كثيرة منها الحقوق التالية:

1 ـ تفتتح الاحتفالات الرسمية بتلاوة دعاء من قسيس وآخر من شيخ مسلم.

2 ـ السماح بافتتاح مدارس إسلامية تابعة لوزارة المعارف وإقامة جمعيات إسلامية ذات نشاطات دينية فقط.

3 ـ اعتبار أيام الفطر، والأضحى والحادي عشر من ربيع الأول عطلاً رسمية في سيراليون.

4 ـ السماح للموظفين المسلمين مغادرتهم أعمالهم يوم الجمعة لأداء الصلاة.

5 ـ تخصيص برنامج تلفزيوني مساء كل يوم جمعة للإسلام والمسلمين.

6 ـ تنقل إذاعة فريتاون وقائع صلاة الجمعة من مساجد فريتاون دوريّاً.

علماً بأنه لا يوجد حتى الآن مقبرة خاصة بالمسلمين في سيراليون ولا محكمة شرعية تعتني بالأحوال الشخصية وتنظم أحكامها وإن كان المسلمون جادون في إقامتها بالتعاون مع المسؤولين في بلادهم.

حركة التضليل القادياني الأحمدي في سيراليون:

ص: 478

بتتبع تاريخ الحركة القاديانية والتي عرفت مؤخراً بالحركة الأحمدية، وبدراسة حياة مؤسسها (غلام أحمد) يظهر جلياً أنها حركة سياسية أوجدها الإنكليز في العالم الإسلامي لتفريق كلمة المسلمين وشل وحدتهم. ولهذا أخذت هذه الحركة أماكنها الأولى في المستعمرات البريطانية في آسيا وأفريقيا وأقامت بدعتها الضالة على التبشير برجل ولد في ربوة بالباكستان اسمه غلام أحمد، ادعت أن وحياً نزل عليه من الله تعالى، وترى هذه الحركة وجوب الإيمان بهذا الوحي وتكفير منكره، وبهذا وحده يتضح مخالفة هذه الحركة لصريح كلام الله تعالى في ختم النبوة وإجماع الأمة في انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم وليس غرضي هنا تفنيداً لهذه الحركة وإنما إظهاراً لخطورتها على إخوة لنا، سذج في الدين، يعيشون بعيداً عنا. فلا غرو إذاً أن تحتضن هذه الفكرة أعداء الإسلام والمسلمين أينما وجدو. فمركز الأحمدية اليوم بالشرق الأوسط في جبل الكرمل في حيفا بالأرض المحتلة حيث فيها موفد دائم من ربوة يتغير كل خمس سنوات. كما فيها مطبعة ودار نشر للأحمدية. وكانت تصدر في جبل الكرمل بحيفا مجلة أحمدية اسمها (البشرى) باللغة العربية توزع في أفريقيا وغيرها.

دخلت الأحمدية إلى سيراليون إبّان الحرب العالمية الأولى ونشطت حركتها إبّان الحرب الثانية. وشجع الاستعمار البريطاني هذه الحركة في الوقت الذي منع فيه وصول أي داعية إسلامي يخالف تعاليمها، مما ساعد الأحمديين على احتكار الفكر الإسلامي في سيراليون فاستطاعت بذلك أن تفتح لعقيدتها عشر مدارس ابتدائية وخمس ثانويات في أنحاء سيرليون بالإضافة إلى مكتبة ومطبعة في فريتاون العاصمة.

ص: 479

استغلت الأحمدية خلو جو سيراليون من معارض لها فضللت كثيراً من وجهاء المسلمين وجعلتهم يدورون في فلكها، ولكن الاستقلال الذي سبب دخول الثقافات الدينية والعقائدية بشكل واسع إلى سيراليون قلص التوسع الأحمدي إلى حد كبير وجمّد حركته إذ أن دخول بعثة دار الإفتاء السعودية الزاهرة إلى سيراليون بتوجيه جلالة الملك فيصل المعظم حرسه الله كان وبالاً على المبشرين الأحمديين وعلى حركتهم. وذلك لأن المسلم السيراليوني وجد أمامه دعوتين مختلفتين تحملان اسماً واحداً وهو الإسلام مما جعله يعيد النظر ويقارن بينهما، وقد نتج عن هذا عودة الكثيرين من المسلمين المغرر بهم إلى العقيدة الصحيحة، وبدأ السير الأحمدي يشكل منعطفاً وتغير سلوكه من تهجم وتحد إلى دفاع وملاينة، كما غير دعاة الأحمدية أسلوبهم في التبشير فافتتحوا مؤخراً ثلاثة مستوصفات لحسابهم في بعض القرى لإرضاء المسلمين السيراليونيين الذين أخذوا ينفضون عنهم بأعداد هائلة وسريعة.

{

وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .

{

فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} صدق الله العظيم.

الإرساليات الصليبية العاملة في سيراليون:

دخلت الإرساليات الصليبية بدخول البرتغاليين في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ونشطت بدخول الإنكليز الذين شجعوها على اختلاف مذاهبها إلا أن مذهب الروم الكاثوليك هو المذهب الغالب على المؤسسات العاملة ويليه مذهب البروتستانت ثم الأرثوذكس وأخيراً دخل إلى سيراليون عن طريق البعثات الأمريكية المذهب النصراني الجديد (شهود يهوا) الذي لا يُحظى باعتراف الفاتيكان به والذي يكفر الكنائس التي لا توافق مذهبه.

ص: 480

لقد وجدت جميع هذه المؤسسات الصليبية ميادين رحبة للعمل في سيراليون وتأييداً من الاستعمار وانهمرت عليها مساعدات مختلفة من كل جانب مكنتها من بناء مدارس وكنائس في جميع أنحاء سيراليون. وتكاد لا تخلو بلدة صغيرة من وجود مكتب للدعوة الصليبية، كما لا يكاد يخلو شارع من وجود كنيسة بنيت إلى جانبها مدرسة تابعة لها. وأشهر الإرساليات الصليبية العاملة في سيراليون كما يلي:

الإرساليات الأمريكية وتعرف بـ (A.M.E.) والإرساليات الكاثوليكية الإيطالية (R.C.) والإرسالية البريطانية العالمية (S.D.A.) والبعثة الليبيرية وتُعرف بـ (A.D.) وذلك إلى جانب عشرات البعثات النصرانية الأخرى.

وما جامعة سيرايون المشهورة بـ فوره بي إلا إحدى هذه المؤسسات التي بنيت في عهد البرتغاليين. وأول رئيس لهذه الجامعة عين قسيساً برتغالياً تعاقب على الرئاسة بعده قساوسة بريطانيون. وفي عام 1951م ضمت هذه الجامعة إلى ملاك سيراليون. وسمح بعد الاستقلال للطلاب المسلمين بالدراسة فيها بعد أن كان محظوراً عليهم ذلك.

وقد ظهرت في الآونة الأخيرة موجة عودة المتنصرين إلى الإسلام بأعداد هائلة ولله الحمد.

الدعوة السلفية في سيراليون وآثارها:

ص: 481

إن بعض آثار الوثنية التي لا تزال عالقة إلى اليوم في أذهان ومعتقدات أكثر السيراليونيين تعود إلى حداثة الإسلام في سيراليون وإن كانت عقيدة التوحيد قد وصلت إلى سيراليون عن طريق التجار المخلصين الموحدين إلا أن دعوتهم لم تنتشر في الغابات ولم تغط حاجة المسلمين في المدن الكبيرة لعدم تفرغهم للدعوة إليها. ولانشغال أكثر الأئمة بالطرق الصوفية كالتيجانية وغيرها الذين كانوا حجر عثرة في طريقها، ولما نالت سيراليون استقلالها عام 1961م تزاحمت المؤسسات العقائدية ووجدت حرية للعمل في سيراليون لم تكن موجودة سابقاً، وبدأت تتنافس في اكتساب مؤيدين وأنصار، وبلغ هذا التنافس أوجه بعد عدة سنوات من الاستقلال وفي خضم هذا التزاحم العقائدي دخلت الدعوة السلفية الإسلامية الطاهرة بصورة مركزة إلى سيراليون عام 1967م عن طريق بعثة دار الإفتاء السعودية (رئاسة البحوث العلمية) وبعد سنوات استطاعت هذه البعثة ولله الحمد اكتساب أفئدة العامة وتأييد رؤساء القبائل والجماعات الإسلامية. كما استطاعت دعوتنا المقدسة أن تصل إلى كل محافظات سيراليون وتجد لها أنصاراً ينافحون عنها. فهي اليوم العقيدة التي يتكلم بها أكثر أئمة الجوامع ويحتكمون إليها بعد أن انصرف كثير منهم عن التيجانية وغيرها.

لقد استطاعت دعوتنا المباركة افتتاح تسع مدارس إسلامية ابتدائية في العاصمة فريتاون لقبائل اللمبا والسوسو التمني، وبناء ثانوية إسلامية في مدينة كينما لقبيلة المندي تضم اليوم حوالي أربعمائة طالب ثانوي وطالبة، وثانوية إسلامية ثانية في مدينة صفدو على وشك الانتهاء. مما جعل المسؤولين السيرالييين يقدرون المملكة العربية السعودية وبعثة رئاسة بحوثها العلمية والدعوة السلفية نفسها وسلوك التبشير بها مما حذا برئيس الجمهورية الدكتور سيكا ستيفن تقليد دعوتنا ميدالية الأخوة الإسلامية الذهبية رسمياً في 26 شعبان 1392هـ.

ص: 482

ولا شك أن الفضل في هذه الإنجازات يعود إلى الله تعالى ثم إلى جلالة الملك فيصل المعظم حرسه الله ولأصحاب السماحة المسؤولين عن الدعوة في المملكة أبقاهم الله وأيدهم ولرئاسة البحوث الإسلامية رئيساً وأعضاء وكذا للجامعة الإسلامية رئيساً وأعضاء ولجميع السادة المسؤولين في المملكة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

البرازيل في 10 شعبان 1393هـ.

ص: 483

برقية

رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز

القاهرة

سيادة الدكتور محمد عبد القادر حاتم نائب رئيس الوزراء للثقافة والإعلام.

سلام عليكم، بعدما اطلعت على ما نشرته بعض الصحف من أن معاليكم أصدر قراراً يقضي بعدم السماح بتقديم أية مساعدات من مصر لإنتاج أو إخراج فيلم (رسول الله) الذي رشح الممثل الأمريكي شارلتون هستون ليمثل فيه دور النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لن يسمح بعرض هذا الفيلم في مصر وقد سرني ذلك كثيراً لأن إخراج فيلم عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم سيعرض الحضرة النبوية الجليلة والصحابة الكرام للسخرية والتنقص وفي ذلك فساد عظيم وأضرار كثيرة على الدين وأهله وجرح لمشاعر المسلمين جميعاً فأشكركم والحكومة المصرية على هذا الموقف المشرف وأسأل الله عز وجل أن يجزل مثوبتكم وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يوفق المسلمين وحكامهم للتمسك بالشريعة والحكم بها لأن فيها سعادتهم جميعاً في الدنيا والآخرة.

رئيس الجامعة الإسلامية

بالمدينة المنورة

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 484

من الصحف والمجلات

إعداد العلاقات العامة

بينما تشكو الأمة العربية من ضعف في النواحي العلمية والتكنولوجية لا نجد العلوم المتعلقة بهاتين الناحيتين تحتل أكثر من خمس بعثات من بين أكثر من مائتي بعثة هذا بينما تحتل دائرة التربية وطرق التدريس والعلوم الإنسانية وهي تلك العلوم التي يجب أن تتصل بالبيئة والتراث والوضعيات المحلية المختلفة تحتل هذه الدائرة أكثر من مائة وعشرين بعثة من بين البعثات المذكور عددها سابقاً. أي أنها تزيد على النصف من البعثات حتى ليخيل للمرء أن مخططي البعثات يعمدون إلى مزيد من التمييع والتضليل بالنسبة للعملية التربوية في العالم العربي لأن هؤلاء الأساتذة غالباً ما يوفدون إلى جامعات عربية ويتركون بصماتهم فيها ونجد مثلاً فروع الطب والتمريض والصيدلة على أهميتها لا تحتل أكثر من عشرين بعثة من بين البعثات الموفدة لعام 73 ـ 74 م. أما فرع القانون والحقوق حده فإنه يفوز بعدد مواز للعدد الذي نالته جميع فروع الطب والصيدلة والتمريض أي قريب من عشرين بعثة وبقية البعثات أي حوالي خمسة وثلاثين بعثة توزع بين كليات التجارة بأقسامها المختلفة وبين بعض المعاهد المتخصصة كمعهد البريد ومعهد القطن ومعهد الفنادق وغير ذلك [1] ومن النظرة المحايدة يتضح عدم حياد القائمين على البعثات كما يتضح سيرهم في التخطيط المدمر لما تبقى من عناصر الصمود في هذه الأمة ولعل من أبز ما توحي به هذه الإحصائية أو هذا التقرير المنشور بتفصيلاته كلها في جريدة الأهرام المصرية الصادرة بتاريخ 8ـ6ـ73م لعل أبرز موحياته أن هذا التخطيط يسير في واد واحتياجات مصر والعالم العربي تسير بواد آخر، إن مصر والعالم العربي لم يصبهما ما أصابهما إلا لأنهما دائماً يسيران في واد وحقائق التقدم وأبجديات الرقي والتعلق تسير في واد آخر وصدق القائل:"أرني مناهج أمة أخبرك أين هي ومن هيه وكيف هيه".

ص: 485

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

(وهناك مؤسسات أخرى لتدمير الأمة من داخلها مثل كلية السكرتيرات والرقص) .

ص: 486

الحضارة الغربية كما يراها أحد أساطينها

عن كتاب (الإنسان ذلك المجهول) للدكتور الكسيس كاريل

".. إننا نواجه مشاكل تحتاج إلى حل سريع. إذ بالرغم من أننا بسبيل القضاء على إسهال الأطفال والسل والدفتريا والحمى التيفودية..الخ، فقد حلت محلها أمراض الفساد والانحلال وأمراض الجهاز العصبي والقوى العقلية. ففي الولايات المتحدة يزيد عدد المجانين على عدد المرضى. إن الاضطرابات العصبية وضعف القوى العقلية آخذة في الازدياد، وهي أكثر العناصر نشاطاً في جلب التعاسة للأفراد وتحطيم الأسر. إن الفساد العقلي أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض المعدية..

إن المدنية العصرية تتكون من مبانٍ هائلة، في حين تمتلئ شوارعها الضيقة برائحة البترول وذرات الفحم والغازات السامة، كما تمزق أعصاب الناس ضوضاء السيارات واحتشاد الجماهير

وهكذا يتضح أن الذين خططوا هذه المدن لم يقيموا وزناً لخير سكانها.

إن نظم الحكومات أنشأتها عقول عديمة القيمة.. فمبادئ الثورة الفرنسية وخيالات ماركس ولينين تنطبق فقط على الرجال الجامدين.. لأن قوانين العلاقات البشرية ما زالت غير معروفة. وعلوم الاجتماع والاقتصاديات علوم تخمينية افتراضية

وإذاً فالبيئة التي نجح العلم والتكنولوجيا في إيجادها للإنسان لا تلائمه، لأنها أنشئت اعتباطاً ودون أي اعتبار لذاته الحقيقة.

ص: 487

يجب أن يكون الإنسان مقياساً لكل شيء، ولكن الواقع هو عكس ذلك، فهو غريب في العالم الذي يعيش فيه. إنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه لأنه لا يملك معرفة علمية بطبيعته. ومن ثم فإن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد هو إحدى الكوارث التي تعاني منها الإنسانية. فالبيئة التي ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لنا

إننا قوم تعساء، لأننا ننحط خُلقياً وعقلياً. إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم، هي على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة في الضعف، والتي ستكون عودتها إلى الهمجية أسرع من عودة غيرها إليها..".

عن كتاب (الإنسان ذلك المجهول)

للدكتور الكسيس كاريل

ص: 488

ندوة الطلبة:

الإيمان.. يوجب العمل

للطالب: خالد محمد عبد الله الدخيل

إلى الذين فتح باب القول وأغلق عليهم باب العمل، إلى الذين يظنون أنهم مظلومون وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون إلى الذين يكاد لهم نهاراً، ويدب لهم علانية، ويتآمر على إذلالهم وسحقهم جهرة، وهم في غفلة لاهون. إلى الذين يطلبون العزة من غير سبب، والنصر من غير جهد والغنى من غير سعي، والنهوض من غير طاقة.

إلى الذين يقولون: أين العزة التي كتبها الله لنا على نفسه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} والوعد الذي أنزله الله في كتابه: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} والتمليك الذي سجله الله في آياته {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} إلى الوارثين الذين ملك آباؤهم أقطار الأرض وملأوها علماً وحضارة بإيمانهم وجهادهم وعقلهم وعملهم ثم جاءوا من بعدهم فبددوا ما ورثوا، وجهلوا ما عملوا، وكان أمرهم فرطاً. إلى الذين يأكلون ويلبسون ويركبون مما صنع غيرهم ولا يدرون كيف كان إعداد ما أكلوا، ولا نسج ما لبسوا، ولا تصميم ما ركبوا، يستهلكون ولا ينتجون. إلى الذين يحلمون ولا يستيقظون، ويتمنون ولا يعملون، ويرددون:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} ولا يذكرون: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} .

ص: 489

إلى الذين يؤمنون ولكنهم لا يعرفون تكاليف الإيمان، أو يعرفونها ولكنهم لا يعملون. إلى هؤلاء وهؤلاء، إلى سبعمائة مليون مسلم، ومن بينهم مائة مليون عربي حلت بهم فتنة لم تصب الذين ظلموا منهم خاصة

إليهم جميعاً هذا الحديث:

روى جماعة من أهل العلم بتفسير القرآن أن مجلساً ضم طائفة من اليهود والنصارى والمسلمين، فزعم كل فريق منهم أنه أولى الناس بعون الله وتأييده في الدنيا ونعيمه وثوابه في الآخرة: اليهود قالوا: "نحن أتباع موسى الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه"، والنصارى قالوا:"نحن أتباع عيسى روح الله وكلمته"، والمسلمون قالوا:"نحن أتباع محمد خاتم النبيين، وخير أمة أخرجت للناس"

وشاء الحق تبارك وتعالى أن يفضل بينهم في هذا النزاع وأن يبين لهم أن قاعدة التأييد والجزاء ترتكز على الإيمان والعمل، لا على مجرد التبعية والانتساب فأنزل سبحانه يخاطب المسلمين:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً،وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} .

إن الإيمان بغير عمل شجر بلا ثمر، ودمية لا حياة فيها ولا حركة

إبليس كان يعلم أن ربه الله وأنه واحد لا شريك له، وكان يعلم أن مصيره إليه يوم يبعثون، ولكن لما صدر إليه الأمر الإلهي بالعمل "اسجد " استكبر وتمرد، قال:"لا"، فلم تشفع له معرفته بوحدانية الله لأن المعرفة المجردة عن معنى الخضوع المطلق لرب العالمين لا وزن لها، ولأن العلم الذي لا يصاحبه العمل لا قيمة له، ولذا كان جزاؤه {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} .

ص: 490

وكما أن الإيمان من غير عمل لا يغني فكذلك العمل من غير إيمان كبناء على غير أساس. على شفا جرف هار. كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. كهشيم تذروه الرياح: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} .

إن الإيمان الحق بالله، والإيمان الصادق برسول الله وبكل ما جاء به عن الله قوة إيجابية محركة. طاقة بناءة هائلة، تملأ قلب المؤمن، وتسري في دمه، وتنفذ إلى عقله وفكره، وتسيطر على شعوره ووجدانه وتتحكم في عزيمته وإرادته، وتوجه وتحرك جوارحه، وتلازمه في الليل والنهار وتصاحبه في السر والعلانية. فلا يعصي لله أمراً ولا يرى إلا حيث أحب الله، ولا يفتقد إلا حيث يبغض الله: إن الإيمان بالله قوة منتجة مستكنة في أعماق النفس المؤمنة تظهر آثارها وثمارها في السلوك والتصرف في العمل الجاد لله، والطاعة المطلقة لحكم الله والتضحية بالهوى مرضاة لوجه الله وقد قرن الله الإيمان بالعمل في سبعين آية من آيات القرآن الكريم، فما من آية ذكرت الإيمان مجرداً، بل عطفت عليه عمل الصالحات، والصالحات جماع كل خير ومحبة للفرد والجماعة، وبهذا أصبحت صلة العمل والسلوك والخلق بالإيمان صلة وثيقة لا يعروها وهن، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}

وقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} .

ص: 491

ولقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الحرص على لفت أنظار المؤمنين وتوجيه انتباههم إلى أن يكون سلوكهم مع الله ومع الناس، وتصرفهم في كل شئون الحياة مصدقاً لإيمانهم ومظهراً لعقيدتهم، فقال لمن سأله قولاً في الإسلام لا يسأل عنه أحداً غيره:"قل آمنت بالله ثم استقم"..

والظن بأن مجرد دعوى الإيمان والانتساب للإسلام والنطق بالشهادتين والتسمي بأسماء المسلمين يكفل للمدعين نصر الله في الدنيا، ويفتح لهم باب الجنة في الآخرة يدخلونها بسلام آمنين، وإن كانوا غارقين في المعاصي لأذقانهم مفسدين في الأرض. كسالى خامدين: هذا الظن وهم وخطأ وضلال بعيد.. هذا إيمان صوري لا ينجي صاحبه من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فالسعادة ليست للغارقين الهازلين، والجنة ليست للعاصين المتمردين:"ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدنيا ولا عمل لهم، وقالوا نحن نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".

إن الناظر في ماضي المسلمين وحاضرهم ليعجب أشد العجب مما كانوا فيه، وما صاروا إليه. المسلمون في أول أمرهم أتوا بالعجائب غزوا وفتحوا وسادوا

والمسلمون في آخر أمرهم أتوا بالعجائب أيضاً ذلوا واستكانوا وضعفوا. والقرآن هو القرآن وتعاليم الإسلام هي تعاليم الإسلام.. فلماذا ساد الأولون وذل الآخرون!!

لا سبب إلا أن الأولين عملوا والآخرين تركوا، ولن يستقيم حالنا إلا بما استقام به ماضينا إيمان وعمل، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

اعتصام بالله ووقوف عند أمره ونهيه، واقتداء برسول الله وعمل بسنته:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .

ص: 492

المسلم

بقلم: عارف عبد الله آل حسن

الطالب بالسنة الثالثة بالمعهد الثانوي بالجامعة

أنا جسم ناحل في أثوبي

أنا سمٌ قاتل في المَحلَب

أنا كالضرغام في وجه العدا

علقم طعمي أنا الحرّ الأبي

وعل الباطل سيف صارم

وبغير الحقّ مرّ مشربي

أنا كاصاروخ لو تطلقني

أحرق الشرّ إذا ما مرّ بِي

طلقة المدفع لا ترهبني

أنا ليلٌ دامسٌ للمُرهب

إن أصَب فالموت لا يخطئني

أينما أدركني لم أهرب

مسلم أغشى الوغى ألقى الردى

بدم فوق مقام الذهب

أنا كالدّيباج في ملمسه

ولمن يطعنني كالعقرب

أنا للملحد ريح عاصف

أصرع الباغي وسيفي مِذربي

بكتاب الله أمشي قُدما

وبهدي الهاشمي العربي

هو شمس مشرق من مشرق

قد سرى إشراقه في المغرب

هو في الديجور نجم ثاقب

جاء بالقرآن خير الكتب

منهل الصادين مهما منحوا

واستقوا من مائه لم ينضب

باسمك اللهم أرجو مددا

فاقض حاجاتي وجُد بالأرب

وعلى الهادي صلاتي أبدا

عدّ حبّات النّدى في السحب

ص: 493

الفتاوى

يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

رئيس الجامعة الإسلامية

"أين يضع المصلي يديه بعد الرفع من الركوع"

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه. أما بعد: فقد كثر السؤال من الداخل والخارج عن موضع اليدين إذا رفع المصلي رأسه من الركوع.. فرأيت أن أجيب عن ذلك جواباً مبسوطاً بعض البسط نصحاً للمسلمين وإيضاحاً للحق وكشفاً للشبهة ونشراً للسنة فأقول: قد دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يقبض بيمينه على شماله إذا كان قائماً في الصلاة كما دلت على أنه كان عليه الصلاة والسلام يأمر بذلك.

قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه (باب وضع اليمنى على اليسرى) حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة".. انتهى المقصود.

ص: 494

ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح على شرعية وضع اليمين على الشمال حال قيام المصلي في الصلاة قبل الركوع وبعده أن سهلاً أخبر أن الناس كانوا يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، ومعلوم أن السنة للمصلي في حال الركوع أن يضع كفيه على ركبتيه وفي حال السجود أن يضعهما على الأرض حيال منكبيه أو حيال أذنيه، وفي حال الجلوس بين السجدتين وفي التشهد أن يضعهما على فخذيه وركبتيه على التفصيل الذي أوضحته السنة في ذلك فلم يبق إلا حال القيام فعلم أنه المراد في حديث سهل وبذلك يتضح أن المشروع للمصلي في حال قيامه في الصلاة أن يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى سواء كان ذلك في القيام قبل الركوع أو بعده لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم التفريق بينهما ومن فرق فعليه الدليل. وقد ثبت في حديث وائل بن حجر عند النسائي بإسناد صحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله" وفي رواية له أيضاً ولأبي داود بإسناد صحيح عن وائل "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما كبّر للإحرام وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد"، وهذا صريح صحيح في وضع المصلي حال قيامه في الصلاة كفه اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد وليس فيه تفريق بين القيام الذي قبل الركوع والذي بعده فاتضح بذلك شمول هذا الحديث للحالين جميعاً وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح على ترجمة البخاري المذكورة آنفاً ما نصه:"باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة"أي في حال القيام، وقوله:"كان الناس يؤمرون"هذا حكمه الرفع لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قوله: "على ذراعه" أبهم موضعه من الذراع، وفي حديث وائل عند أبي داود والنسائي "ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد" وصححه ابن خزيمة وغيره وأصله في صحيح مسلم بدون الزيادة،

ص: 495

والرسغ بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها معجمة هو المفصل بين الساعد والكف وسيأتي أثر علي نحوه في أواخر الصلاة ولم يذكرا أيضاً محلها من الجسد، وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل أنه وضعهما على صدره، والبزار عند صدره وعند أحمد في حديث هلب الطائي نحوه، وهلب بضم الهاء، وسكون اللام بعدها موحدة وفي زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت السرة وإسناده ضعيف، واعترض الداني في أطراف الموطأ فقال:"هذا معلوم لأنه ظن من أبي حازم، ورد بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلمه الخ لكان في حكم المرفوع لأن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" يصرف بظاهره إلى من له الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع فيحمل على من صدر عنه الشرع ومثله قول عائشة: "كنا نؤمر بقضاء الصوم"فإنه محمول على أن الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم. وأطلق البيهقي أنه لا خلاف في ذلك بين أهل النقل والله أعلم، وقد ورد في سنن أبي داود والنسائي وصحيح ابن السكن شيء يستأنس به على تعيين الأمر والمأمور فروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يدي اليسرى على يدي اليمنى فنزعها ووضع اليمنى على اليسرى" إسناده حسن. قيل لو كان مرفوعاً ما احتاج أبو حازم إلى قوله لا أعلمه الخ والجواب أنه أراد الانتقال إلى التصريح فالأول لا يقال له مرفوع وإنما يقال له حكم الرفع، قال العلماء: "الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع"، وكأن البخاري رحمه الله لحظ ذلك فعقبه بباب الخشوع ومن اللطائف قول بعضهم: "القلب موضع النية والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه". قال ابن عبد البر:"لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف. وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره، وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال وصار

ص: 496

إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة ومنهم من كره الإمساك ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث يمسك متعمداً لقصد الراحة". انتهى.

المقصود من كلام الحافظ وهو كاف شاف في بيان ما ورد في هذه المسألة وفيما نقله الإمام ابن عبد البر الدلالة على أن قبض الشمال باليمن حال القيام في الصلاة هو قول أكثر العلماء ولم يفرق ابن عبد البر رحمه الله بين الحالين وأما ما ذكره الإمام الموفق في المغني وصاحب الفروع وغيرهما عن الإمام أحمد رحمه الله أنه رأى تخيير المصلي بعد الرفع من الركوع بين الإرسال والقبض فلا أعلم له وجهاً شرعياً بل ظاهر الأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها يدل على أن السنة القبض في الحالين وهكذا ما ذكره بعض الحنفية من تفضيل الإرسال في القيام بعد الركوع ولا وجه له لكونه مخالفاً للأحاديث السابقة والاستحسان إذا خالف الأحاديث لا يعول عليه كما نص عليه أهل العلم.

ص: 497

أما ما نقله ابن عبد البر عن أكثر المالكية من تفضيل الإرسال فمراده في الحالين أعني قبل الركوع وبعده ولا شك أنه قول مرجوح مخالف للأحاديث الصحيحة ولما عليه جمهور أهل العلم كما سلف وقد دلّ حديث وائل بن حجر وحديث هلب الطائي على أن الأفضل وضع اليدين على الصدر حال القيام في الصلاة وقد ذكرهما الحافظ كما تقدم وهما حديثان جيدان لا بأس بإسنادهما أخرج الأول أعني حديث وائل ابنُ خزيمة رحمه الله وصححه كما ذكره العلامة الشوكاني في النيل، وأخرج الثاني أعني حديث هلب الإمام أحمد رحمه الله بإسناد حسن وأخرج أبو داود رحمه الله عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق حديث وائل وهلب وهو مرسل جيد، فإن قلت قد روى أبو داود عن علي رضي الله عنه أن السنة وضع اليدين تحت السرة فالجواب أنه حديث ضعيف كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر كما تقدم في كلامه رحمه الله وسبب ضعفه أنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي ويقال الواسطي وهو ضعيف عند أهل العلم لا يحتج بروايته ضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم وابن معين وغيرهم وهكذا حديث أبي هريرة عند أبي داود مرفوعاً "أخذ الأكف على الأكف تحت السرة" لأن في إسناده عبد الرحمن ابن إسحاق المذكور وقد عرفت حاله وقال الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق في عون المعبود شرح سنن أبي داود بعد كلام سبق ما نصه:"فمرسل طاوس وحديث هلب وحديث وائل بن حجر تدل على استحباب وضع اليدين على الصدر وهو الحق، وأما الوضع تحت السرة أو فوق السرة فلم يثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث". انتهى.

ص: 498

والأمر كما قال رحمه الله للأحاديث المذكورة. فإن قيل: قد ذكر الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في حاشية كتابه "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم"ص 145 من الطبعة السادسة ما نصه: "ولست أشك في أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام (يعني بذلك القيام بعد الركوع) بدعة ضلالة لأنه لم يرد مطلقاً في شيء من أحاديث الصلاة وما أكثرها ولو كان له أصل لنقل إلينا ولو عن طريق واحد ويؤيده أن أحداً من السلف لم يفعله ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم". انتهى.

والجواب عن ذلك أن يقال: نعم قد ذكر أخونا العلامة الشيخ ناصر الدين في حاشية كتابه المذكور ما ذكر والجواب عنه من وجوه: (الأول) أن جزمه بأن وضع اليمنى على اليسرى في القيام بعد الركوع بدعة ضلالة خطأ ظاهر لم يسبقه إليه أحد فيما نعلم من أهل العلم وهو مخالف للأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها ولست أشك في علمه وفضله وسعة اطلاعه وعنايته بالسنة زاده الله علماً وتوفيقاً ولكنه غلط في هذه المسألة غلطاً بيناً وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر"يعني النبي صلى الله عليه وسلم هكذا قال أهل العلم قبله وبعده وليس ذلك يغض من أقدارهم ولا يحط من منازلهم بل هم في ذلك بين أجر وأجرين كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكم المجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر. (والوجه الثاني) إن من تأمل الأحاديث السالفة حديث سهل وحديث وائل بن حجر وغيرهما اتضح له دلالتهما على شرعية وضع اليمنى على اليسرى في حال القيام في الصلاة قبل الركوع وبعده لأنه لم يذكر فيها تفصيل والأصل عدمه.

ص: 499

ولأن في حديث سهل الأمر بوضع اليمنى على ذراع اليسرى في الصلاة ولم يبين محله من الصلاة فإذا تأملنا ما ورد في ذلك اتضح لنا أن السنة في الصلاة وضع اليدين في حال الركوع على الركبتين وفي حال السجود على الأرض وفي حال الجلوس على الفخذين والركبتين فلم يبق إلا حال القيام فعلم أنها المرادة في حديث سهل وهذا واضح جداً.

أما حديث وائل ففيه التصريح من وائل رضي الله عنه بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبض بيمينه على شماله إذا كان قائماً في الصلاة خرجه النسائي بإسناد صحيح وهذا اللفظ من وائل يشمل القيامين بلا شك ومن فرق بينهما فعليه الدليل وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في أول هذا المقال (الوجه الثالث) أن العلماء ذكروا أن من الحكمة في وضع اليمين على الشمال أنه أقرب إلى الخشوع والتذلل وأبعد عن العبث كما سبق في كلام الحافظ ابن حجر وهذا المعنى مطلوب للمصلي قبل الركوع وبعده فلا يجوز أن يفرق بين الحالين إلا بنص ثابت يجب المصير إليه.

ص: 500