المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 20 فهرس المحتويات 1- حكم الاحتفال بالمولد النبوي وغيره: رئيس الجامعة - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 20 فهرس المحتويات 1- حكم الاحتفال بالمولد النبوي وغيره: رئيس الجامعة

‌العدد 20

فهرس المحتويات

1-

حكم الاحتفال بالمولد النبوي وغيره: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز

2-

الأسماء والصفات نقلاً وعقلاً: محاضرة لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

3-

أضواء من التفسير: للشيخ: عبد القادر شيبة الحمد

4-

من أعلام المحدثين - أبو زرعة الرازي (200-264 هـ) : بقلم الشيخ: عبد المحسن العباد

5-

من أدب الإسلام: بقلم الدكتور: طه محمد الزيني

6-

رَسَائِل لمْ يَحمِلهَا البَريْد: بقلم الشيخ: عبد الرؤوف اللبدي

7-

ربِّ عفوًا: للشاعر السوري: مصطفى عكرمة

8-

بالإسلام تَسْعَد الأمَّة وتنهَض الدَّوْلة: بقلم: الشيخ محمود عبد الوهاب فايد

9-

أمضوا حيث شئتم: للشيخ: محمد المجذوب

10-

حماية المرأة المسلمة من موجات التحلل الخلقي: للشيخ: محمد المهدي محمود

11-

المسئولية في الإسلام: بقلم الشيخ: عبد الله قادري

12-

من تاريخنا - علماء وأمراء: إعداد العلاقات العامة

13-

أعراض بسيطة قد تخفي وراءها أمراضاً خطيرة: بقلم: الدكتور مصطفى إبراهيم

14-

المعاهدات في الإسلام: بقلم: الأستاذ توفيق علي وهبة

15-

موقع اللغة العربية بين اللغات الأخرى: بقلم: الأستاذ عيد عبد الله السيد

16-

تقرير عن الجامعة السلفية في لائلفور في الباكستان: بقلم الشيخ: علي مشرف العمري

17-

رأي الفيلسوف تولستوي في المرأة الغربية: من كتاب حكم النبي محمد ترجمة سليم قبعين

18-

من الصحف والمجلات: من حديث الدكتور: محمد ناصر رئيس وزراء إندونيسية الأسبق

19-

ندوة الطلبة - إلى أخي الذي لم أره: بقلم: الطالب محمد محمود جاد الله

20-

تتمة دفع إيهام الاضطراب: لفضيلة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي

21-

الفتاوى: للشيخ عبد العزيز بن باز

22-

أخبار الجامعة

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 149

حكم الاحتفال بالمولد النبوي وغيره

رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد: فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم والقيام به في أثناء ذلك وإلقاء السلام عليه وغير ذلك مما يفعل في الموالد.

والجواب أن يقال لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع ولا التابعون اله بإحسان في القرون المفضلة وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حباً لرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعة لشرعه ممن بعدهم. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أي مردود عليه وقال في حديث آخر "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".

ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .

ص: 150

وقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} . وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} والآيات في هذا المعنى كثير، وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به الله زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة.

والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد عن النار إلا بينه للأمة كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم" رواه مسلم في صحيحه.

ص: 151

ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم وأكملهم بلاغاً ونصحاً فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أو فعله في حياته أو فعله أصحابه رضي الله عنهم فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين وقد جاء في معناهما أحاديث أخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" رواه الإمام مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها عملاً بالأدلة المذكورة وغيرها وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشمل على شيء من المنكرات كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاختلاط النساء بالرجال واستعمال آلات الملاهي وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر وظنوا أنها من البدع الحسنة والقاعدة الشرعية رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}

ص: 152

وقد رددنا هذه المسألة وهي الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله سبحانه فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ويحذرنا عما نهى عنه ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه.

وقد رددنا ذلك أيضاً إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين بل هو من البدع المحدثة، فاتضح بذلك لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه.

ص: 153

إن الاحتفال بالموالد ليس من الإسلام بل هو من البدع المحدثات التي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها ولا ينبغي للعامل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين وإنما يعرف بالأدلة الشرعية كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد مع كونها بدعة لا تخلوا من اشتمالها على منكرات أخرى كاختلاط النساء بالرجال واستعمال الأغاني والمعازف وشرب المسكرات والمخدرات وغير ذلك من الشرور وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك وهو الشرك الأكبر وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأولياء ودعائه والاستغاثة به وطلب المدد واعتقاد أنه يعلم الغيب ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يسمونهم بالأولياء وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله"متفق على صحته من حديث عمر رضي الله عنه.

ص: 154

ومن العجائب والغرائب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة ويدافع عنها ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور الجمع والجماعات ولا يرفع بذلك رأساً ولا يرى أنه أتى منكراً عظيماً ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة وكثرة ما ران على القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي، نسأل الله العافية لنا ولكم ولسائر المسلمين ومن ذلك أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد ولهذا يقومون له محيين ومرحبين وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتصل بأحد من الناس ولا يحضر اجتماعاتهم بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة وروحه بأعلى عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال الله تعالى في سورة المؤمنين:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُون،. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول شافع وأول مشفّع" عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم فينبغي لكل مسلم التنبيه لهذه الأمور والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلاّ به.

ص: 155

أمّا الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات ومن الأعمال الصالحات كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً " وهي مشروعة في جميع الأوقات ومتأكدة في آخر كل صلاة بل واجبة عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير من كل صلاة وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة منها ما بعد الآذان وعند ذكره عليه الصلاة والسلام وفي يوم الجمعة وليلتها كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة، والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه وأنّ على الجميع بلزوم السنة والحذر من البدع إنّه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ص: 156

حماية المرأة المسلمة من موجات التحلل الخلقي

للشيخ: محمد المهدي محمود

المدرس بدار الحديث التابعة للجامعة

جاء الإسلام يرسم الطريق الواضح لسعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة، وبين القرآن الكريم الطريق إلى ذلك خير بيان، وسعدت الإنسانية ببعثه هادي البشرية، ومنقذها من الشرك والضلال والظلام، وهاديها إلى النور والسعادة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} فكانت رسالة السراج المنير صلى الله عليه وسلم رحمة عامة شاملة مباركة، رحمة في الدنيا والآخرة، رحمة في العقيدة والتشريع والأخلاق، والنظام العام في الأسرة والمجتمع والشعوب، رحمة للفرد والجماعة. إنها رسالة الأخلاق السامية العالية التي تسعد الدنيا بأجمعها، روى مالك في الموطأ بلاغاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"رواه أحمد عن أبي هريرة بسند حسن.

فسعدت البشرية التائهة في بيداء الظلم والضلال، واهتدت بنور خالق الأرض والسماء بنور التنزيل السماوي، وهدي البشير النذير صلى الله عليه وسلم، وكان من تلك الهداية الربانية هداية القرآن في آداب المرأة وسلوكها، ورسالتها في الحياة السعيدة الهانئة.

إن الله تباركت أسماؤه وجلت آلاؤه وعظمت نعمته اختار أن تكون المرأة سكناً للرجل، ومكملة لسعادته ومساعدة له على أداء عمله والقيام بواجبه في الحياة، وآداب الإسلام بصفة عامة يظهر منها بوضوح وجلاء أن للمرأة رسالة هامة في ثلاث ميادين من أخطر العوامل في حياة المجتمع واستقراره، وسعادته وتتجلى هذه الميادين الهامة في النواحي الآتية:

أولاً: رسالة المرأة بالنسبة لزوجها.

ثانياً: رسالة المرأة بالنسبة لبيتها.

ثالثاً: رسالة المرأة بالنسبة لطفلها.

ص: 157

فأما رسالة المرأة بالنسبة لزوجها فإن كتاب الله سبحانه وتعالى الذي هو نور الله لأهل الدنيا -عبر عن ذلك أجمل تعبير وأكمله راسماً الحياة السعيدة الهانئة فقال تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم.

فالله جل شأنه جعل المرأة سكناً وأمناً وطمأنينة للرجل، وإن موقف السيدة خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى مثل للمحبة الزوجية المثمرة. أعلى مثل للمودة والرحمة التي هي من صنع الله الحكيم على أن سيرة أمهات المؤمنين وكرائم المؤمنات في صدر الإسلام صورة مثالية لما ينبغي أن تكون عليه الزوجة المؤمنة النقية من بر بزوجها وطاعة له وعطف عليه ومحبة له، وإزاء ذلك أوصى الإسلام بالمرأة كثيراً في الآداب الإسلامية عامة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".

وأما رسالة المرأة في البيت فالمنزل هو عش السعادة والمرأة هي التي ترعاه بعطفها وحنانها تصيّره جنة وارفة الظلال طيبة الثمار دانية القطاف، تجعله جنّة من جنات الدنيا إن المنزل مهد راحة زوجها وعش أطفالها فيه قوام الحياة من مأكل وملبس ومأوى، وأن اليد الحانية التي تمتد إلى كل تلك النواحي في رفق ومحبة، وطهر وإخلاص، وصفاء وعطف. فتعد من المأكل ما لذ وطاب، ومن الملبس ما حسن وكمل، تجعله مهد راحة وأنس لزوجها وبذلك ترفرف السعادة على الأسرة وتصبح الأسرة نواة لمجتمع سعيد يؤدي كل فرد فيه واجبه على أتم ما يكون.

ص: 158

أما رسالة المرأة مع أطفالها: فأطفال اليوم هم شباب المستقبل، هم رجال الغد، وأن السيدة الفاضلة الحكيمة العاقلة المهذبة الرشيدة. هي التي ترعى أولادها تنشئهم على الفضيلة ومكارم الأخلاق، وتربيهم على الصفات الحسنة الطيبة الجميلة تغرس فيهم معاني البطولة بما تقصه عليهم من قصص الأنبياء والرسل، وأهل الحكمة الإسلامية، وعظماء التاريخ وأبطال الإسلام.

إن السيدة التي جعلت من المنزل داراً للحكمة ومدرسة للتفقه في كتاب الله وهدي الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم وسير السلف الصالح المبارك. إنما تجعل من منزلها مركز إشعاع يوجه الخير للمجتمع بما تخرجه من أفراد ممتازين علماً وخلقاً، ويصبح المنزل متعاوناً مع المدرسة، فتعاليم المدرسة متممة لبناء المنزل وتربية المنزل مكملة لرسالة المدرسة.

لقد نشأت النساء في صدر الإسلام على حب العلم والتفقه في الدين فأورثهنّ ذلك أمهات الفضائل فأصبحن خير الزوجات وخير الأمهات بل إنهن منارات في البيوت الإسلامية حليتهم مكارم الأخلاق من الحياء والعفاف والجود والكرم والحلم والعلم يصونهن الحجاب الذي بني على تقوى الله، ورسمه القرآن الكريم في آيات بينات معجزات أظهرت الأيام عظمة أسرارها في سعادة الفرد والأسرة والمجتمع.

قال الحكيم العليم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} الآيات من سورة الأحزاب 32- 33، وهكذا يختار الله هذا المسلك الطاهر لأمهات المؤمنين وهي قدوة لبقية المؤمنات.

ص: 159

وأمام هذه الرسالة رسالة المرأة المباركة أمام رسالة المرأة الخطيرة التي تتناسب مع طبيعتها وتكوينها، مع غريزتها وعواطفها، مع ميولها ووجدانها مع أنوثتها وأمومتها، مع فطرتها التي فطرها الله عليها. أمام هذه الرسالة العظيمة التي عبر عنها الشاعر بقوله:

والأم مدرسة إذا أعددتها

أعددت شعباً طيب الأعراق

أمام هذه الرسالة يتضح جلياً أن أي انحراف للمرأة عن أداء رسالتها وأي شاغل يعوقها عن عملها الطبيعي الذي يتفق مع فطرتها وطبيعتها وتكوينها هو جناية كبرى:

أ - جناية على الحياة الزوجية الهادئة الآمنة.

ب - جناية على البيت السعيد.

ج - جناية على الأطفال شباب لمستقبل ورجال الغد.

د - جناية كبرى على الأسرة والمجتمع والشعوب فتفقد الحياة الزوجية سعادتها!! ويحرم البيت من الهدوء والاستقرار.. ويتربى الأطفال في أحضان الخدم..

وتتفرق الأسرة وتحل الكوارث الهدامة بالمجتمع لأنه مجتمع مفكك غير مترابط بعد أن فقد مقومات السعادة الحقة..

وما نراه اليوم من تمرد المرأة على أداء رسالتها التي فطرها الله عليها. والتي تتناسب مع طبيعتها وتكوينها إنما هو تقليد أعمى للمدنية الغربية أن المرأة تتنكر لرسالتها وتحاول أن تهرب من سياج عزها ومجدها وكرامتها تحاول أن تفر إلى تقاليد الغرب التي جعلت من المرأة سلعة للجمال الرخيص المدنس.

لقد أصبحت المرأة في بعض بلاد الكفار حية رقطاء وفي إغرائها وإغوائها ولسعها التردي إلى مهاوي الردى والفساد والسم المهلك القتال.

ص: 160

وفي هذه الأيام العصيبة تهب على بعض البلاد العربية والإسلامية موجات من التحلل الخلقي الجامح العنيف جرفت الشباب وجرفت المرأة فأخرجت المرأة من تاج عزها وشرفها وكرامتها إلى مهاوي السفور الجامح العنيف، لقد ذهبت المرأة جادة في المسير وراء التقليد الماجن الخليع الفاجر تقليد الأجنبيات اللاتي خلعن حجاب الشرف والحياة والفضيلة، لقد أصبحت المرأة أسيرة لأحدث الأزياء الواردة من البيوت العالمية التي تشرف عليها الصهيونية الطاغية الباغية وتجعلها مراكز لهدم التقاليد العربية الأصيلة والآداب الإسلامية المباركة التي عز بها المسلمون وسادوا.

إن المرأة ترى في تلك الأزياء عنوان الحضارة والتقدم والرقي هكذا يكون منطق المرأة فتصبح ضحية لهذا الغزو العنيف المروع، وهان على المرأة أن تخلع ثوب الشرف والحياة والفضيلة. ثوب عزها ومجدها وفخرها!!

وسارت المرأة في الشارع عارية الصدر والساقين والذراعين ولم تكتف أخيراً بهذا الحد فعرضت بعض فخذيها للعرى وبالغت في خلع حجاب الحياء والشرف والفضيلة فرفعت الثياب إلى منتصف فخذيها إرضاء لأحدث الأزياء الواردة من الدول المتحللة وشاع بما يسمى: (بمودة الميني جيب) و (الميكرو جيب) هذه الأزياء الميكروبية السامة. شاعت في الوسط النسائي وتهافتت المرأة الحمقاء الطائشة على ارتداء تلك الأزياء تهافت الذباب على الجيف المتنة فخرجت المرأة إلى الشارع وقد تجردت عن الحياء وأبرزت مفاتن جسدها ومحاسن أنوثتها فأرخصت لحمها وأضاعت كرامتها وفقدت عزها ولوثت شرفها سارت المرأة في الشارع تعرض الفتنة في أحسن صورها وتعرض شرفها للانهيار. تجملت وتزينت للشوارع المزدحمة بذئاب الإنسانية بالشباب المتسكع المتهور الخليع الفاجر فراحت تنشر الرذيلة وتغري المجتمع بالخطيئة.

ص: 161

أصبحت الشوارع معرضاً لأجساد الخليعات من النساء الفاجرات وعمت مظاهر الصراع الجنسي المتعطش للخنا والفسق والإثم وأصبح هذا التيار الهدام يسري في المجتمع سريان النار في الهشيم يحطم الأفراد بانصرافهم عن معالي الأمور وتحمل المسئوليات إلى السير وراء الشهوات إرضاء للغرائز الجامحة-ويهدم الأسرة بتحللها من الروابط المقدسة والتقاليد الموروثة التي تصونها من الانهيار وهكذا تتفشى عوامل الهدم في المجتمع من جراء السير وراء التقاليد الأجنبية الإباحية بارتداء تلك الأزياء (أحدث المودات) الواردة من بيوت الأزياء العالمية من هوليود ولندن وباريس وموسكو والتي يديرها كبار الممولين من اليهود الصهاينة وهكذا تصدر الصهيونية العالمية للعالم العربي تلك السموم الفتاكة التي تحطم الشباب وتقوض كيان الأسرة وتهدم بنيان المجتمع.

ومما يزيد النار اشتعالاً ويساعد على انتشار هذا الميكروب الخبيث بعض المناظر السينمائية والتلفزيونية التي تعرض مناظر للسيدات في صور مزرية وتلك الأغاني الخليعة التي ترسلها الإذاعات ليلاً ونهاراً وهذه الصحافة الفاجرة الماجنة، وتلك الأفلام الهدامة المتخلفة من آثار المدرسة الاستعمارية التي تهدف إلى تحطيم مقدسات الإسلام بالسم التقدم والحضارة والرقي.

لقد بلغت المسألة حداً لا يستهان به وتفاقم خطرها وزاد شررها وارتفع لهيبها فأصبح واجباً على ولاة أمور المسلمين أن يبادروا إلى إطفاء تلك الفتنة ووضع حد لتلك المأساة الدامية وإنهاء هذه الفوضى الخلقية لماذا تظل المرأة العربية مستعبدة لتلك الأزياء الواردة من الدول المتحللة.

لماذا لا يكون للمرأة زي تفتخر به وتعتز به استوحت تصميمه من مبادئها وتقاليدها يصون للمرأة شرفها ويحفظ لها كرامتها؟

لماذا تظل تابعة لبيوت الأزياء الصهيونية والشيوعية ذات الهدف التحللي الهدام.. الله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم..

ص: 162

أإلى هذا الحد يا صاحبة الشرف والحياء والعفاف!!

أإلى تلك الهاوية يا ربيبة العروبة والإسلام..

أإلى هذا المصير تكون نهاية المطاف للمناداة بحرية المرأة الزائفة المنحرفة الحمقاء..

أما بعد: فلقد بحت أصوات العلماء وكلت أقلام المصلحين ولم يبق إلاّ جولة المسئولين الذين استرعاهم الله أمانة صيانة الناس عن مهاوي الردى والهلاك - أين ولاة الأمور الذين يعلمون أن رعاية الأمم أمانة هم مسئولون عنها أمام الخالق جل وعلا - وأن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

يا ولاة أمور المسلمين صونوا أعراض المسلمين صان الله وجوهكم عن حر النار يوم لقاء الله ولا مفر من لقاء الله أحكم الحاكمين فالنجاة النجاة.

أناشدكم الله أيها العلماء الأبرار أن تجهروا بكلمة الحق وترشدوا ولاة الأمور ولا تخشوا في الله لومة لائم.

أناشدكم الله أيها العلماء أيها القادة، أيها الكتاب المصلحون أن تغضبوا لله غضبة إسلامية وأن تعلنوها صيحة مدوية مجلجلة تعيد الحق إلى نصابه ولنجتهد في قوة وحزم وإيمان في محاربة هذا المرض الخطير والمنكر الفاضح والشر المستطير نحاربه من فوق المنابر وفي الصحف وفي الإذاعات وجميع أجهزة الإعلام، نحاربه في المساجد والمدارس والمجتمعات حتى نرى مظاهر الإسلام وآدابه المباركة تعود للأسرة المسلمة والمجتمع المسلم- مظاهر الشرف والحياء والحشمة والفضيلة.

مظاهر العفاف والوفاء والآداب الإسلامية عامة وبذلك يسعد الشباب ويستقر المنزل وتهنأ الأسرة ويسعد المجتمع الإسلامي العظيم ويسود لأنه رجع إلى عوامل النصر والسيادة والقوة: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .

ص: 163

المسئولية في الإسلام

بقلم الشيخ: عبد الله قادري

المشرف الاجتماعي بالجامعة

مسئولية المرأة

بعد أن حمل الرسول صلى الله عليه وسلم ذكور الأمة الإسلامية مسئوليتهم شرع في بيان مسئولية نساء تلك الأمة. ويلاحظ من الحديث أنه لم يعين مكاناً لمسئوليات الأصناف المذكورة فيه إلاّ المرأة فقد عين مكانها حيث قال: "راعية في بيت زوجها" ففي الحديث إشارة إلى ما تقرره نصوص الشريعة من أن الأصل في حق المرأة القرار في البيت والخروج منه خلاف ذلك الأصل يباح عند الحاجة بقدرها فإذا انتهت الحاجة رجعت إلى ما هو أصل في حقها وهو القرار في البيت وقد أمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرار في بيوتهن وجعل ذلك وسيلة من وسائل تطهيرهن من الذنوب والمعاصي، والأصل في الأحكام المتعلقة بالنساء أن يستوي فيها كل امرأة من غير فرق بين نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين إلاّ إذا دل دليل خاص على اختصاصهن بحكم معين مثل كونهن أمهات المؤمنين وأيضاً فإن الطهر والعفة والمغفرة مطلوبة من كل النساء فقد جعل الله قرارهن في البيوت من وسائل الطهر وأيضاً فقد نهاهن الله عن التلبس بصفات نساء الجاهلية الأولى، كالتبرج وهو أمر لا يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم بل كان المسلمين منهيون عن اتصافهم بصفات الجاهلية، قال تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} واتبع ذلك بما لا يختلف فيه اثنان، أنه ليس من خصائصهن، وهو الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله ولا ينافي ذلك قوله في أول الآية:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنّ} لأنه بيان لمكانهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا يضاعف لهن ثواب الطاعة وعقاب المعصية فقد دلت نصوص السنة التي توضح القرآن وتبينه

ص: 164

على ما ذكر من أن الأصل في حق المرأة القرار في البيت حيث حظر عليها الخروج إلاّ بإذن وبين أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد مع أن الجماعة في حق الرجال تضاعف إلى سبع وعشرين درجة، والمقصود من ذلك كله، صيانتها والمحافظة على عفتها وكرامتها وقيامها بواجبها الثقيل في بيتها من حقوق زوجها وأولادها، وواجبها الذي لا يشاركها فيه الرجل غالباً، والإسلام حين ما جعل بيت المرأة مثابة لها نظر إلى واقعها وإلى النتائج التي تترتب على لزوم بيتها وحينما حظر عليها الخروج من البيت لغير حاجة نظر كذلك إلى واقعها، وإلى النتائج المترتبة على خروجها فقرر الحكم إيجاباً أو سلباً على الواقع ونتائجه لأن الله تعالى هو الذي قرر هذه الأحكام ودعا إليها وهو يعلم ما هو نافع وما هو ضار بخلاف غيره من المخلوقين فإنهم يقررون الأمور حسب ما يظهر لهم من المصالح والمضار المترتبة على ذلك إن كان قصدهم جلب المصالح ودفع المضار وقد يظهر لهم بعد فترة من الزمن أن ما رأوه قبل نافعاً هو ضار وما رأوه ضاراً هو نافع، وقد يقررون الأمور إتباعاً لشهواتهم وميولهم بصرف النظر عن كون ذلك نافعاً للمجتمع أو ضاراً كما هو الواقع في كثير من البلدان.

الأمور المقتضية بقاء المرأة في بيتها

والأمور التي تقتضي بقاء المرأة في بيتها وعدم مغادرته لغير حاجة جوهرية وكثيرة أذكر منها ما يلي:

1-

المحافظة على عفتها وكرامتها فإن من أعظم وسائل حفظها عن الوقوع في الرذيلة لزوم بيتها، كما أن من أكبر أسباب تهتكها وتعرضها للفتنة - فتنتها وفتنة غيرها كثرة الخروج من البيت ولهذا جعل الله قرار نساء النبي صلى الله عليه وسلم، من أسباب تطهيرهن، والمرأة التي تكثر الخروج تتسبب في طمع الفسقة فيها لا سيما إذا علموا أن خروجها لغير حاجة.

2-

القيام بواجباتها المنوطة بها بالبيت من تنظيف له وللثياب وتربية للأطفال وطبخ للطعام وغير ذلك.

ص: 165

3-

أخذ راحتها بعض الوقت وتهيؤها لاستقبال زوجها وتجملها له وإعداد نفسها إعداداً يدخل على زوجها الراحة والطمأنينة بما يجد من ميل لها ورغبة في اجتماعه بها في أوقات فراغه لأن الرجل يتعب خارج البيت في الأعمال المنوطة به ليحصل على المال الذي ينفقه على أهله من مأكل وملبس ومسكن وغير ذلك من الاحتياجات.

فينبغي أن تستقبله المرأة في بيتها بما يريحه ويدخل عليه السرور ولا يتأتى لها ذلك إذا لم تستقر في البيت بل تذهب للعمل خارجه لأنها سترجع إلى البيت من عملها عندما يرجع زوجها وستكون متعبة مثله في حاجة إلى الراحة وليست مستعدة للقيام بحقه كما لو كانت باقية في البيت وربما رجعت قبل رجوعه فأخذها النوم، فيأتي الرجل وهي نائمة وربما سبقها إلى البيت فتأتي وهو نائم، ويقوم من نومه في وقت عمله فيذهب قبل أن تستيقظ هي وهكذا لا يذوق كل منهما من الآخر طعم الزوجية، هذا إذا كانت وظيفتها في بلد واحد، أما إذا كانت وظيفة أحدهما في بلد ووظيفة صاحبه في بلد آخر فقلما يلتقيان في السنة، وفي ذلك - فوق كونه يعرقل العلاقة الزوجية - خطر عظيم على المرأة والزوج جميعاً، لأنها ستختلط برجال أجانب، وتختلي بهم، وسينالون منها ما لا يناله زوجها كما أن الرجل سيختلط بنساء أخريات وينلن منه ما لا تناله الزوجة وبذلك يختل كيان الأسرة، ويتخلخل المجتمع وتنفك روابطه انفكاكاً كاملاً وما بالك بعد ذلك من تربية أولاد هذين الزوجين، أنهم سيرمون في محاضن من لا يهمه شأنهم وسيحصل من ذلك ما يحصل من سوء تغذية وتربية وغيرها.

هل المرأة المسلمة في حاجة إلى الخروج للعمل؟

ص: 166

مع أن المرأة المسلمة ليست في حاجة للعمل خارج البيت من أجل النفقة ونحوها، ما دام عندها من يكفيها مؤنة النفقة والكسوة والمسكن، فقد أوجب الله على وليها كل ذلك وهي في بيتها كما تقدم ولست أريد الإطالة في ذكر شبهات أعداء الإسلام ودعواتهم المخالفة لتعاليمه بالنسبة لموضوع المرأة وإنما أردت التنبيه، ومن أراد الإطلاع على شبههم فليراجع فصولاً خاصة بالموضوع في الكتب التالية:

أ- حصوننا مهددة من داخلها، للدكتور محمد محمد حسين.

ب- شبهات حول الإسلام، لمحمد قطب.

ج- الحجاب، للشيخ أبي يعلى المودودي. وقد أفاض في ذلك إفاضة كافية حيث بين فيه محاسن الإسلام في موقفه من المرأة ومساوئ الدعوات المخالفة له بياناً شافياً.

د- كتاب حقوق الإنسان، لمحمد الغزالي.

واجبات المرأة في بيت الزوج

إن على المرأة واجبات عظيمة إذا قامت بها أسهمت في بناء البيت والأسرة والمجتمع عليها واجبات تتعلق ببيتها وأخرى تتعلق بأولادها.

حقوق الزوج

1-

طاعته في غير معصية، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" انظر نيل الأوطار ج6 ص522.

2-

إجابته إذا طلبها إلى فراشه، ومن أوجب الأمور على الزوجة أن تجيب زوجها إذا طلبها إلى فراشه وعصيانه في ذلك من أكبر المعاصي ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح".

3-

عدم إذنها في بيته لأحد لا يرضى دخوله.

4-

عدم صومها تطوعاً وهو حاضر إلاّ بإذنه لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلاّ بإذنه، ولا تأذن في بيته إلاّ بإذنه" الحديث، وهو في صحيح مسلم أيضاً.

ص: 167

5-

الاعتراف بنعمته وعدم جحودها، ومن حق الزوج على زوجته أن تعترف بنعمته ولا تجحدها عند الغضب فإن ذلك من أسباب دخولها النار، ففي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ورأيت النار.. ورأيت أكثر أهلها النساء"قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن"قيل: يكفرن بالله، قال:"يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط".

6-

حفظ ماله وعدم التفريط فيه ومن حقوقه على زوجته أن تحفظ ماله ولا تفرط فيه حتى يضيع سواءً كان نقوداً، أو طعاماً أو ملابس، أو أثاثاً أو غير ذلك، ولا يجوز لها أن تبذر إذا أنفقت منه لأنه قد ائتمنها على ذلك وتبذيرها خيانة، والخيانة من صفات المنافقين، والحديث قد جعلها راعية في بيت زوجها مسئولة عن رعيتها، وليس لها حق أن تتصرف في ماله بدون إذنه، إلاّ إذا قتر عليها في النفقة، فأعطاها ما لا يكفيها هي وأولادها، فعندئذ لها أن تأخذ ما يكفيها وأولادها بدون إذن لترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كما تقدم.

وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم نساء قريش بصفات منها حفظ ذات يد الزوج، وذات اليد هي المال كما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خير نساء ركبن الإبل نساء قريش"، وقال الآخر:"صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده".

ص: 168

7-

عدم الخروج من بيته إلاّ بإذنه، كما مضى أنها تستأذن زوجها، إذا أرادت الخروج إلى المسجد وفي بعض الروايات، كما في صحيح البخاري:"إذا استأذنت المرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها" فيفهم من الحديث أنها إذا أرادت الخروج لابد أن تستأذن كما يفهم منه أن للزوج في الأصل منع زوجته من الخروج إلاّ ما استثنى شرعاً، والإسلام حينما جعل بيت المرأة قرارا لها وحذرها من الخروج منه فإنه أباح لها - وقد يوجب عليها الخروج وذلك عند الحاجة أو الضرورة، ولنذكر بعض الحالات التي تدعو إلى خروج المرأة:

أ- الخروج لقضاء حاجاتها، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:"خرجت سودة بنت زمعة ليلاً فرآها عمر فعرفها فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، وهو في حجرتي يتعشى وإن في يده لعرقاً، فأنزل عليه فرفع عنه وهو يقول: "قد أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن".

ب- حضور صلاة الجماعة في المسجد كما مضى.

ج- الخروج يوم العيد إلى المصلى كما ثبت في الصحيحين من حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: "أمرنا أن نخرج العواتق، وذوات الخدور" وفي رواية من حديث حفصة في صحيح البخاري: "ويعتزلن الحيض المصلى".

ص: 169

د- الخروج للجهاد: وخروجها للجهاد قد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً، وقد يكون واجباً على حسب اختلاف الحاجة والضرورة، وعمل المرأة في الحرب يختلف أيضاً باختلاف حالات الحرب، فتارة تقرب الماء للمقاتلين، أو تخيط قربة أو نحوها كما في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه قسم مروطاً بين نساء أهل المدينة فبقي منها مرط جيد فقال له بعض من عندها:"يا أمير المؤمنين أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك"- يريدون أم كلثوم بنت علي، فقال عمر:"أم سليط أحق به، وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال عمر:"فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد"، وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال:"لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما، تنقزان القرب"، وقال غيره:"تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم".

وتارة تداوي الجرحى وتنقل القتلى إلى موضع آخر كما في صحيح البخاري أيضاً من حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها، قالت:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى النبي". وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "لما كسرت على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضة وأدمى وجهه وكسرت رباعيته وكان علي يختلف بالماء في المجن، وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم فلما رأت فاطمة عليها السلام الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقأ الدم".

ص: 170

وتارة تحمل السلاح لتدافع عن نفسها، إذا تعرض لها أحد من المشركين كما في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه:"أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً، فكان معها فرآها أبو طلحة فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الخنجر"؟ قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك". الحديث.

وإنما نقلت هذه الأحاديث في هذا المقام لأبين للجاهلين بنصوص الشريعة والناقمين على الإسلام بسبب أمره المرأة بالبقاء في البيت، إن الإسلام دين حكمة يضع الأمور في مواضعها فهو يأمر المرأة بالقرار في البيت وعدم الخروج لغير حاجة، فإذا جاء وقت الحاجة أباح لها أن تخرج، وإذا جاء وقت الضرورة أوجب عليها الخروج وجعلها تعمل في أحرج المواقف وأشدها خطراً، وهي أوقات الحروب وأعمال المرأة فيها تختلف باختلاف الأحوال كما تقدم فهي تسقي تارة، وتداوي أخرى، وتنقل الموتى ثالثة، وتحمل السلاح رابعة لتدافع عن نفسها فالإسلام في سلبه وإيجابه حكيم عادل، بخلاف ما يدعو إليه دعاة الضلال فإنهم يدعون المرأة لتخرج إلى أماكن اللهو والفجور، وإلى الأماكن الأخرى التي لا حاجة لخروج المرأة إليها إذ يكفي فيها الرجال كالمصانع والمكاتب ونحوها.

ص: 171

8-

مساعدة زوجها في تربية أولاده من غيرها، وينبغي أن تساعد الزوجة زوجها في تربية أولاده من غيرها وإخوانه الصغار تخفيفاً عنه وتسهيلاً لمهمته التي تقتضي منه العمل خارج البيت كما في حديث جابر، قال:"هلك أبي وترك سبع بنات أو تسع بنات فتزوجت امرأة ثيباً فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجت يا جابر؟ فقلت: نعم، فقال: بكراً أم ثيباً؟ قلت: بل ثيباً، قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك؟ قال: فقلت له: إن عبد الله هلك وترك بنات، وإني كرهت أن أجئهن بمثلهن، فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن، فقال: بارك الله أو خيراً ".

9-

الخدمة في بيت الزوج، وينبغي للمرأة أن تقوم بالخدمة في بيت زوجها وتصبر على ما قد تعانيه من تعب ومشقة عن علي رضي الله عنه:"أن فاطمة عليها السلام أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى وبلغها أنه جاءه رقيق، فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته عائشة، قال فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا نقوم فقال:"ألا أدلكما على خير مما سألتما إذا أخذتم مضاجعكما أو أويتما فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم"، وهذا الحديث وما قبله في صحيح البخاري. قلت وفي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خرجت يدها مما تزاول من أعمال بيتها أسوة حسنة لزوجات المؤمنين وقد كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء الصحابة يخدمن أزواجهن في بيوتهن وخارج بيوتهن إذا دعت الحاجة ولا خير في المشاحة بين الزوجة وزوجها في الخدمة في البيت والخير في تعاونهما جميعاً والله تعالى يأمر المؤمنين بالتعاون وهو بين الزوجين آكد من غيرهما.

ص: 172

10-

عدم تمكينها أجنبياً يخلو بها.. ولا يجوز للمرأة أن تتساهل في خلوة أي أجنبي بها - ولا سيما أقارب الزوج وأقاربها - الذين ليسوا بمحارم فقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلوة بالمرأة بصفة عامة وحذر من الأقارب المذكورين بصفة خاصة كما في الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو، قال: الحمو الموت".

11-

مواساة الزوج والعمل على إدخال السرور عليه. وينبغي للزوجة أن تواسي زوجها وتعمل الأسباب التي تدخل عليه السرور، وتزيل عنه الغم، وتهدئه في حال الغضب بالأساليب المناسبة كما فعلت خديجة رضي الله عنها، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما رجع خائفاً أول ما أوحي إليه وقال:"لقد خشيت على نفسي"، فقالت له:"كلا والله،ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق" الحديث، وهو في الصحيحين وغيرهما، والرجل في حاجة إلى مواساة المرأة وتسكينها إياه، في حالات الغضب أو نزول حوادث محزنة، كموت ولد وفقد مال وأشباه ذلك.

ولقد ضربت زوجة أبي طلحة رضي الله عنهما أعلى مثل في هذا الموضوع كما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "اشتكى ابن لأبي طلحة قال فمات وأبو طلحة خارج فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحته في جانب من البيت فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة قال: فبات فلما أصبح اغتسل فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما".

ص: 173

12-

معاشرة زوجها معاشرة حسنة.. ويجب على المرأة أن تعاشر زوجها معاشرة حسنة فتبتسم في وجهه حين ما ترى أن الابتسامة مناسبة، وتتجمل له وتظهر أمامه بالمظهر الذي يعجبه، وتكسر المرأة ورقة صوتها وإظهار محاسنها لزوجها والعمل على الأسباب والدواعي التي تجذبه إليها وترغبه في ملاعبتها ومضاحكتها وغير ذلك أمر مطلوب ولا ينبغي أن تظهر أمامه بمظهر كريه كأن تلبس ملابس سيئة المنظر أو تقترب منه، وبها روائح غير مناسبة من آثار الطبخ وغيره، فإن ذلك يحدث في نفس الزوج عقدة نفسية قد يعقبها بغض شديد للمرأة، لا سيما إذا داومت على تلك الحالة البغيضة لديه، وكثير من النساء لا تعتني بمظهرها أمام زوجها لا في ملبسها ولا في نظافتها ولا في إظهار أنوثتها، وتعكس ذلك إذا خرجت زائرة بعض صديقاتها، تراها تعتني بتنظيف نفسها ولبس أجمل ثيابها، ولا تنس أن تكتحل وربما أخذت شيئاً من الطيب ولبست الحلي وخرجت من البيت بعيدة عن عيني زوجها كأنها في ليلة عرسها، وهذا الفعل يعتبر من أقبح الأفعال وأشنع الصفات التي تصدر من الزوجة مع زوجها فإنه أحق بتجملها وتنظفها وتطيبها واكتحالها وغير ذلك وهي أحوج إلى ذلك أمامه من الخروج به إلى خارج بيته، وامرأة تفعل مثل هذا الفعل الشنيع جديرة أن تعيش حياة نكدة وتجلب على نفسها وعلى زوجها البلاء والشقاء إذا ما صبر عليها وأبقاها زوجة له والغالب أن مثلها لا تبقى مع الزوج إلاّ إذا كان مضطراً اضطراراً يلجئه إلى بقائها فإنه يبقى معها أتعس من سجين طال سجنه وإذا كانت المرأة مع ما تقدم كثيرة الثرثرة، سليطة اللسان سبابة لزوجها، ملحة عليه في طلب ما ليس عنده فقد جمعت عليه ظلمات بعضها فوق بعض وطوام بعضها أعظم من بعض تدعو جيران الزوج وأصدقائه أن يعزوه كل يوم وامرأة هذه صفاتها جديرة بنبذها مهما كانت الظروف في ما أرى. والرجل وإن كان مأموراً بالصبر عليها فإن للصبر حدوداً، وما كل الناس في وسعهم الصبر على مثل هذه

ص: 174

المرأة.

13-

مراعاة أحواله في الفرح والحزن، وينبغي للمرأة أن تتجاوب مع زوجها فتفرح لفرحه، وتحزن لحزنه فإن ذلك من حقه عليها، من ناحية الإسلام من جهة، ومن ناحية زوجية من جهة أخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، حتى يشعر الزوج بأنها تتعاون معه يسرها ما يسره من خير، ويحزنها ما يحزنه من شر.

ولا ينبغي أن تظهر أمامه بمظهر السرور والفرح إذا كان حزيناً، كما ينبغي أن تكظم حزنها إذا رأته مسروراً فإن ذلك أدعى إلى الألفة ودوامها بين الزوجين.

14-

ملاحظة أوقات نومه وأكله ونحوهما، وينبغي أن ترعاه في نفسه وفي كل الأمور المتعلقة به فتلاحظ أوقات أكله التي ألف الأكل فيها ولا تؤخر طعامه عنها لأن ذلك قد يؤثر عليه، ويكون من أسباب غضبه عليها لا سيما إذا تكرر منها، كما ينبغي أن تجيد له الطبخ وأن تكون عندها خبرة بأنواع منه حتى تنوع له الطعام لئلا يسأم من نوع واحد وينبغي أن تلاحظ أوقات نومه فتحاول تهدئة الأطفال من الصخب وإبعادهم عن غرفة نومه، ليأخذ راحته الكافية فإنه قد يكون متعباً وليس عنه وقت ينام فيه غير ذلك الوقت لكثرة أعماله خارج البيت، وإذا لم تساعده بذلك فإنه لا يأخذ راحته، وذلك من أسباب البغض والغضب أيضاً، وينبغي أن تلاحظ ملابسه غسلاً وكياً وخياطة، ليظهر بمظهره اللائق به بين أترابه وينبغي أن تعتني به أيضاً، في الأوقات التي تعرف أنه يرغب مجيئها إليه فيها، فتحاول أن تنيم أطفالها قبل ذلك الموعد، أو تعطيهم ما يلهيهم من الألعاب وتمرنهم على البعد عن المكان الذي يريدها فيه، فإن ذلك من أسباب الراحة والمودة بين الزوجين.

ص: 175

15-

إظهار أولادها بالمظهر الجميل، وينبغي أن تظهر أولادها دائماً أمام زوجها بمظهر جميل من تنظيف لثيابهم وأجسامهم، فإن ذلك يجلب الراحة للأب، ويدعوه إلى الاقتراب بين أولاده وتقبيلهم ومداعبتهم، بخلاف إذا ظهروا بمظهر سيء مقطعة ثيابهم متسخة أجسادهم كريهة رائحتهم فإنه - وإن كانوا أبناءه وهو يحبهم - تتقزز نفسه منهم لما يرى عليهم من الآثار السيئة.

وفي هذا المقام أحب أن أنقل وصية جامعة لبعض الخصال الجميلة التي ينبغي أن تتصف بها المرأة مع زوجها لامرأة جاهلية هي أمامه بنت الحارث [1] لبنتها، وفيها تقول: "أي بنية إنك فارقت الحواء الذي منه خرجت، والوكر الذي منه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه فأصبح بملكه عليك ملكاً، فكوني له أمة يكن لك عبداً واحفظي عنى خلالاً عشراً تكن لك دركاً وذكراً.

فأما الأولى والثانية: فالمعاشرة له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب، وحسن السمع والطاعة رأفة الرب.

وأما الثالثة والرابعة: فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك إلاّ طيب ريح، واعلمي أي بنية أن الماء أطيب الطيب المفقود، وأن الكحل أحسن الحسن الموجود.

وأما الخامسة والسادسة: فالتعهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.

وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ بماله، والرعاية على حشمه وعياله، فإن الاحتفاظ بالمال من حسن التقدير والرعاية على الحشم من حسن التدبير.

وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً، فإن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي الفرح لديه إن كان ترحاً، والاكتئاب عنده إذا كان فرحاً، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، واعلمي أنك لن تصلي إلى ذلك منه، حتى تؤثري هواه على هواك، ورضاه على رضاك، فيما أحببت وكرهت، والله يخير لك ويصنع لك برحمته".

ص: 176

العناية بالبيت

وينبغي أن تعتني الزوجة ببيتها عناية تظهره بالمنظر اللائق، الذي يبهج الناظر ويريح الزوج وكل أهل البيت وذلك أن تسلك الطرق التالية:

أ- أن تعتني بتنظيف جميع حجر البيت، حجر النوم والاستقبال والطبخ والطعام وبيت الماء وغيره، تنظيفاً يشمل قاعات الحجر، وجدرانها وما بها من موائد وصناديق وشبهها.

ب- أن ترتب الأثاث الموجود في البيت ترتيباً منظماً بحيث لا يكون مبعثراً هنا وهناك والأواني مفرقة في جميع أنحاء البيت فإن ذلك يحدث منظراً قبيحاً في البيت ويتسبب تلف الأثاث وكسر الأواني وفقدانها وعدم العثور على ما يطلب منها عند الحاجة، ويتسبب على ترتيبها حفظها وإظهار البيت بمظهر جميل وسهولة العثور على ما يطلب.

ج- أن تعتني بإبادة الذباب والحشرات والبعوض، بالمبيدات المتيسرة لأن ترك هذه الأشياء يسبب أضراراً كثيرة، منها أذى أهل البيت كلهم، ومنها وقوعها في آنية الأكل والشرب، وكثير من الناس يعاف الأكل والشراب الذي تقع فيه هذه الحشرات، ومنها نقل الأمراض من شخص إلى آخر، وإبادتها تجعل البيت هادئاً، والطعام والشراب مأموناً والنوم راحة.

د- وينبغي أن تولي حجرة نوم زوجها عناية خاصة، من النظافة والترتيب كتغيير الهواء وتنظيف البساط والغطاء وتزويدها ببعض الروائح الطيبة، كالعود والعطر، حتى إذا ما أقبل متعباً يرتاح بدخوله تلك الحجرة.

هـ- وإذا كان في البيت سعة فينبغي أن تعتني بغرس بعض الأشجار، أو زرع بعض الخضر وات وتتعهدها بالسقي والحفظ، ولا سيما الأشجار ذات الروائح الطيبة، والزهور الجميلة، كالريحان والخزامي والورد وما شابهها لينعم أهل البيت بالنظر إليها والتمتع بروائحها.

ص: 177

وأنا حينما أكتب في هذا الموضوع وأشباهه لا أدّعي الخبرة به ولكني أرى أن هذه الأمور من البديهيات وما دامت المرأة مسئولة عن بيتها - وهو مملكتها - الصغيرة فينبغي أن تقوم بمسئولياتها خير قيام فيه وهذه الأمور لا شك في نفعها وكل نافع فالمسلم مأمور بالحرص على تحقيقه كما قال صلى الله عليه وسلم: "أحرص على مل ينفعك واستعن بالله" الحديث.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

زوجة عوف بن محكم الشيباني، وهذه الوصية أوصت بها ابنة لها تزوجها الحارث بن عمرو ملك كندة

ص: 178

من تاريخنا

علماء وأمراء

عداد العلاقات العامة

كان الفقيه أبو إبراهيم وهو من أكابر علماء المالكية الذين عليهم المدار معظماً عند الناصر وابنه الحكم وحق لهما أن يعظماه. وقد حكى الفقيه أبو القاسم بن الفرج قال: "كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم رحمه الله تعالى في من يختلف إليه للتفقه والرواية فأني لعنده في بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلي به قرب داره بجوفي قصر قرطبة ومجلسه حافل بجماعة الطلبة وذلك بين الصلاتين إذ دخل عليه خصي من أصحاب الرسائل جاء من عند الخليفة الحكم ووقف وسلم وقال له: يا فقيه أجب أمير المؤمنين أبقاه الله فإن الأمر خرج فيك. وهاهو قاعد ينتظرك وقد أمرت بإعجالك فالله الله. فقال له: سمعنا وطاعة لأمير المؤمنين ولا عجلة فارجع إليه وعرفه وفقه الله عني أنك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى معي طلاب العلم اسمعهم حديث ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يقيدونه عني وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود لهم في رضا الله وطاعته فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة فإذا انقضى أمر من اجتمع إلي من هؤلاء المحتسبين في ذات الله الساعين لمرضاته مشيت إليه إن شاء الله تعالى. ثم أقبل على شأنه ومضى الخصي يهينم متضاجراً من توقفه فلم يك إلاّ ريثما أدى جوابه وانصرف سريعاً ساكن الطيش فقال له: يا فقيه. أنهيت قولك على نصه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله فأصغي إليه وهو يقول لك: جزاك الله خيراً عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين وأمتعهم بك. وإذا أنت ادعيت فامض إليه راشداً إن شاء الله تعالى. وقد أمرت أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وتمضي معي، فقال له: حسن جميل. ولكني أضعف عن المشي إلى باب السدة ويصعب علي ركوب دابة لشيخوختي وضعف أعضائي وباب الصناعة الذي يقرب إلي من أبواب القصر المكرم أحوط لي وأقرب وأرفق بي

ص: 179

فإن رأى أمير المؤمنين أيده الله تعالى أن يؤمر بفتحه لأدخل إليه فيه هوّن علي المشي وودع جسمي، وأحب أن تعود وتنهي إليه ذلك عني حتى تعرف رأيه فيه. وكذلك تعود إلي فإني أراك فتى سديداً فكن على الخير معيناً. ومضى عنه الفتى، ثم رجع بعد حين وقال: يا فقيه. قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت وأمر بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله، ومنه خرجت إليك وأمرت بملازمتك مذكراً بالنهوض عند فراغك، وقال: افعل راشداً، وجلس الخصي جانباً حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه بأكمله وأفسح ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق فلما انفضضنا قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مضى إلى الخليفة الحكم. فوصل إليه من ذلك الباب. وقضى حاجته من لقائه ثم صرفه على ذلك الباب فأعيد إغلاقه على إثر خروجه ".

(كتاب نفح الطيب ج1ص353)

ص: 180

أعراض بسيطة قد تخفي وراءها أمراضاً خطيرة

بقلم: الدكتور مصطفى إبراهيم

أخصائي باطني بمستوصف الجامعة الإسلامية

المقصود بالأعراض في الطب هو ما يشعر به المريض بخلاف ما يكتشفه الطبيب في جسم الإنسان عند الكشف الطبي فيسمى علامات. والأعراض قد تكون جديدة وهي غالب لأمراض حديثة طارئة أو تكون موضع شكوى لمدة طويلة وغالباً ما تكون لأمراض كمينة في الجسم.

- وإنني هنا أناقش موضوع بعض الأمراض الشائعة التي كثيراً ما يستصغر شأنها الإنسان فيهملها أو يعالجها من تلقاء نفسه دون الرجوع إلى الطبيب مما قد ينشأ عنه أضرار هو في غنى عنها أو قد يستفحل المرض المتسبب لها فيصبح الطب عاجزاً عن علاجه.

الصداع:

هو الشعور بثقل في الرأس أو ضغط به أو ألم قد يكون خفيفاً أو شديداً وأسبابه عديدة جداً منها الحميات بأنواعها والتهاب جيوب الأنف وأمراض العين مثل الرمد والجلوكوما وقصر النظر الشديد. وارتفاع ضغط الدم وقد يكون نتيجة لالتهاب الأذن الداخلية أو لأمراض داخل جمجمة الرأس نفسها مثل الالتهاب السحائي وأورام المخ.

الدوار:

هو ما يسمى في أبسط حالاته بالدوخة وفي حالات أخرى الشعور بعدم التوازن عند الوقوف أو حتى عند حركة الجسم أثناء النوم وغالباً ما يكون مصحوباً بقيء.

وهو في أبسط حالاته قد ينشأ من فقر الدم (الأنيميا) وقد ينتج من تناول أدوية مثل الكينا والسليسلات وبعد حقن الأستريتوميسين كما أنه ينشأ من أمراض الأذن الوسطى أو الأذن الداخلية ومن أمراض العينين عند الاختلاف الشديد في قوة البصر لعين عن أخرى ومن أمراض النخاع الشوكي وأورام المخ.

القيء:

ص: 181

قد يكون سببه طارئاً بسبب تلبك معدي من تناول أكل فاسد أو مصاحباً لبعض الحميات أن لنزلة معوية حادة أو لالتهاب الزائدة الدودية وكيس الصفراء وانسداد الأمعاء أو لاختناق فتق سري أو أربي أو فخذي - وقد يكون لأمراض مزمنة مثل قرحة المعدة أو الإثنا عشر أو للتقلصات العصبية لفتحات المعدة العليا أو السفلى.

ثم إنه قد يكون عارضاً هاماً للتسمم البوليني أو لأورام بالمخ.

المغص:

هو الشعور بآلام بالبطن قد يكون بدون تحديد لمكانه أو الإحساس به في مكان بعيد - وإن كان هذا التحديد لا يعني مكان المرض المسبب له فقد يشعر الإنسان به حول السرة بينما المرض في الزائدة الدودية أو يشعر به في جانب البطن بينما المرض هو مغص كلوي مثلاً في الجانب الآخر- أو دائري حول البطن من تقلصات عصبية في القولون - أو أورام به أو تقرحات مزمنة بغشاء القولون بسبب الدوسنطاريا أو الدرن.

الإسهال:

أسبابه عديدة فقد يكون بسبب سوء الهضم أو تناول مواد حريفة وقد يكون بسبب الإصابة بالدوسنطاريا الأميبية أو الجرثومية أو الطفيليات وغير ذلك كثير لا يدخل تحت حصر فإني هنا لم أذكر جميع المسببات المرضية لكل من الأعراض التي ذكرتها وإنما قصدت أن أبين أن هذه الأعراض قد تكون لأمراض تافهة سهلة العلاج ونادراً ما تكون لأمراض كامنة في الجسم خطيرة تستدعي علاجاً حاسماً سريعاً قبل حدوث مضاعفات للمرض وقبل أن تستفحل لدرجة اليأس من علاجه.

ص: 182

وفي الجملة فإن الوصول إلى حقيقة سبب كل عارض من هذه الأعراض يستدعي الكشف الطبي الدقيق من جميع نواحيه سواءً كان أكلينيكياً أو بالفحص المخبري للبول والبراز أو الدم وربما احتاج الأمر لعمل أشعة وفحص قاع العين وعمل رسام كهربائي وغيرها من الأبحاث الطبية العديدة هذا وأرجو أخيراً ألا أكون قد أثرت الذعر والخوف بين من يقرأ مقالي فإنني أؤكد للجميع أن 95% من هذه الأعراض هي لأمراض شائعة وعلاجها سهل وسريع وحاسم وما بقي أعني أل 5% غالباً ما يصحبه أعراض جانبية أخرى يدرك معها الطبيب في أكثر الأحيان نوع المرض ثم يثبت الكشف الطبي الدقيق التشخيص ومن ثم تؤكده الأبحاث بصفة أكيدة حاسمة: والله يحفظنا جميعاً من كل سوء.

ص: 183

المعاهدات في الإسلام

بقلم: الأستاذ توفيق علي وهبة

مدير الشؤون القانونية بريد الدواوين بالقاهرة

المعاهدات هي الاتفاقات أو العهود أو المواثيق التي تعقدها الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول في حالتي السلم والحرب، وتسمى المعاهدة في الحالة الأخيرة موادعة أو مصالحة أو مسالمة. ويقرر بمقتضاها الصلح على ترك الحرب لقوله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} .

وتنظم المعاهدات العلاقة بين الدول الإسلامية والدول الأخرى، وهي إما أن تكون تقريراً لحالة السلم القائمة حتى يأمن الطرفان وقوع اعتداء من بعضهما على بعض. وإما أن تكون إنهاء لحالة الحرب والعودة إلى السلام الذي هو أساس العلاقات الدولية في نظر الشريعة الإسلامية.

ومن المعاهدات التي وقعت بين الدول الإسلامية وغيرها ما عاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة عند قدومه إليها، وجاء في هذا العهد:

ص: 184

"إن اليهود يتفقون [1] مع المؤمنين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلاّ من ظلم وإثم فإنه لا يوقع إلاّ نفسه وأهل بيته وإن ليهود بني النجار وبني حارث وبني ساعدة وبني جشم وبني الأوس وبني الشطنة مثل ما ليهود بني عوف، وإن بطانة يهود كأنفسهم وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة على البر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه. وإن النصر للمظلوم وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأن نصر الله لمن اتقى بين أهل هذه الصحيفة وأبر. وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح فإنهم يصالحون وإذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلاّ من حارب في الدين على كل أناس حصنهم من جانبهم الذي قبلهم، وإنه لا يحول دون هذا الكتاب ظلم أو إثم. وإن الله جار لمن بر واتقى".

ويتبين من هذا العهد أنه كان لتقرير حالة السلم بين اليهود والمسلمين، كما أنه أمان بينهم لضمان عدم وقوع الحروب.

ولقد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بني ضمرة من قبائل العرب وجاء في هذه المعاهدة "هذا كتاب محمد رسول الله لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم وأن لهم النصر على من رامهم إلاّ أن يحاربوا في دين الله، ما بل بحر صوفه وأن النبي إذا دعاهم إلى النصرة أجابوه عليهم بذلك ذمة رسوله، ولهم النصر من بر منهم واتقى".

ومن المعاهدات الإسلامية أيضاً عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء (بيت المقدس) .

الشروط التي يجب توفرها في المعاهدات:

يقول الإمام الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت: "والإسلام حينما يترك للمسلمين الحق في إنشاء المعاهدات لما يرون من أغراض يشترط في صحة المعاهدة ثلاثة شروط:

ص: 185

أولاً: ألاّ تمس قانونه الأساسي، وشريعته العامة التي بها قوام الشخصية الإسلامية وقد جاء في ذلك قوله عليه السلام:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"، ومعناه أن كتاب الله يرفضه ويأباه.

ومن هذا الشرط لا يعترف الإسلام بشرعية (معاهدة) تستباح بها الشخصية الإسلامية وتفتح الأعداء باباً يمكنهم من الإغارة على جهات إسلامية أو يضعف من شأن المسلمين بتفريق صفوفهم وتمزيق وحدتهم.

ثانياً: أن تكون مبنية على التراضي من الجانبين ومن هنا لا يرى الإسلام قيمة لمعاهدة تنشأ على أساس من القهر والغلبة وأزيز (النفاثات) وهذا شرط تمليه طبيعة العقد إذا كان عقد التبادل في سلعة ما، بيعاً وشراءً، لابد فيه من عنصر الرضا:{إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فكيف بالمعاهدة وهي للأمة عقد حياة أو موت.

ثالثاً: أن تكون المعاهدة بينة الأهداف واضحة المعالم تحدد الالتزامات والحقوق تحديداً ما يدع مجالاً للتأويل والتخريج واللعب بالألفاظ وما أصيبت معاهدات الدول المتحضرة التي تزعم أنها تسعى إلى السلم وحقوق الإنسان بالإخفاق والفشل، وكان سبباً في النكبات العالمية المتتابعة إلاّ عن هذا الطريق، طريق الغموض والالتواء في صوغ المعاهدات وتحديد أهدافها.

وفي التحذير من هذه المعاهدات يقول الله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} والدخل هو الغش الخفي يدخل في الشيء فيفسده ".

الوفاء بالمعاهدة:

ومن الواجب على الدول المتعاهدة ألاّ تنقض المعاهدات التي وقعتها فيما بينها إلاّ أن تكون معاهدة مؤقتة وانتهت مدتها. أما إذا كانت معاهدة دائمة أو معاهدة مؤقتة لم تنته مدتها ونقضها العدو فللدولة الإسلامية أن تنقضها أيضاً وتحارب هؤلاء الخارجين المارقين.

ص: 186

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} . قال أبو بكر الجصاص في تفسير هذه الآية: "يعني والله أعلم إذا خفت غدرهم وخدعتهم بالمسلمين وفعلوا ذلك خفياً ولم يظهروا نقض العهد فانبذ إليهم على سواء، يعني ألق إليهم فسخ ما بينك وبينهم من العهد والهدنة حتى يستوي الجميع في معرفة ذلك وهو معنى قوله: {عَلَى سَوَاءٍ} لئلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب".

ويقول الجصاص أيضاً: "وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بعد الهدنة من غير أن ينبذ إليهم لأنه قد كانوا نقضوا العهد بمعاونتهم بني كنانة على قتل خزاعة وكانت حلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك جاء أبو سفيان على المدينة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم تجديد العهد بينه وبين قريش فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فمن أجل ذلك لم يحتج إلى النبذ إليهم إذ كانوا قد أظهروا نقض العهد بنصب الحرب لحلفاء النبي صلى الله عليه وسلم فعلم من هذا أن النبذ لا يكون إلاّ عند خوف الخيانة والغدر من العدو أما عند نقض العدو بالفعل العهد الذي بيننا وبينه فإننا لا نحتاج إلى النبذ قبل محاربته بل لنا أن نغزوه بدون نبذ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش حين سار إليهم لفتح مكة فإنه لم ينبذ إليهم".

وقال ابن العربي في نفس الموضوع: "كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة والخوف ظن لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين كما قد يأتي الرجاء بمعنى العلم قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} .

ص: 187

الثاني: إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة وجاز إسقاط اليقين هنا ضرورة، وأما إذا علم اليقين فيستغنى عنه نبذ العهد إليهم وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة لما اشتهر منهم نقض العهد من غير أن ينبذ إليهم".

ومن ذلك يتبين لنا أن المسلمين مطالبون بالوفاء بعهودهم إلاّ إذا نقض العدو عهدهم معهم، ففي هذه الحالة يكون المسلمون مطالبين بقتالهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة عندما نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عليه السلام لقتالهم دون أن ينبذ إليهم. وقال عليه الصلاة والسلام وهو في طريقه لقتالهم:"اللهم اقطع خبرنا عنهم" ليفاجئهم.

وأما إذا خاف المسلمون خيانة الآخرين لهم أو ظهر لهم الخيانة فعلاً ولم ينقضوا العهد بعد فلا يجوز قتالهم حتى يخبرهم المسلمون بنبذ عهدهم ونقض ما بينهم من المعاهدات وذلك للابتعاد عن شبهة الخيانة والغدر بالمحاربين مع وجود عهد يقتضي بعدم محاربتهم.

هذا هو حكم الإسلام في المعاهدات التي توقعها الدولة الإسلامية مع الدول الأخرى لحفظ السلام. فنحن مطالبون بالوفاء بها والمحافظة عليها وعدم نقضها إلاّ إذا نقضها العدو، أما إذا لم ينقضها ولم يظاهر على عداء المسلمين فعلى المسلمين الوفاء لهم لقوله سبحانه وتعالى:{إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} .

فأين ذلك مما تتبعه الدول التي تدعي الحضارة والمدنية في عصرنا الحاضر؟! إنها تخالف القوانين الدولية وتنتهك الحقوق الإنسانية، ولا ترعى عهداً ولا ذمة، وتعتدي على مباديء الحق والعدل والسلام.

ص: 188

وصدق الله سبحانه إذ يقول: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

هكذا أوردت في منتخب السنة بالفاء. من الوفاق وهي سيرة ابن هشام بالنون من النفقة. (المجلة)

ص: 189

موقع اللغة العربية بين اللغات الأخرى

بقلم: الأستاذ عيد عبد الله السيد

خبير المكتبات بالجامعة

الحمد لله حمد الشاكر على النعمة، الصابر على النقمة والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين الذي بعثه الله رحمة للعالمين محمد النبي الأمين وبعد..

فإن الشيء المحير للعقول والألباب، المثير في النفس بواعث الدهشة والاستغراب هو انتشار اللغة العربية - لتصبح لغة الدواوين في الأقطار التي فتحها العرب المسلمون في عهد الخلافة الراشدة وما تلاها من عهود.

والعجيب أن تساير هذه اللغة حركة الفتوح الإسلامية مداً وجزراً وأن تستوعب مختلف الحضارات والثقافات. إلاّ أنها بالرغم من هذه القدرة الخارقة لم تسلم من الحاقدين عليها ومن الخصوم المهاجمين لها والداعين إلى إبادتها وإفنائها. ولكن الله سبحانه وتعالى قد فيض لهذه اللغة من يدافع عنها ويذود عن حماها في كل عصر. وفي كل مصر.

ولقد دفعتني إلى الكتابة في هذا الموضوع أسباب كثيرة من بينها أنه أمر قديم جديد تناوله السابقون كما خاض فيه المعاصرون بل لن ينحسم هذا الأمر طالما كان هناك صراع بين الشرق والغرب واختلاف بين الأديان وتباين في العقائد والمذاهب وتعارض في القوميات والعصبيات وأن العوامل التي حفظت اللغة العربية في الماضي لا زالت قائمة وستظل قائمة أبد الدهر- إن شاء الله - ومن هذه العوامل:

1-

نزول القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم باللغة العربية.

2-

سهولة اللغة العربية وثراؤها.

3-

الناحية البيانية والجمالية والبلاغية في اللغة العربية.

4-

المرونة الكاملة للغة العربية وقدرة المتحدثين بها على التوليد والتخريج والإشتقاق.

5-

انتشار مجامع اللغة العربية والهيئات الأخرى المماثلة لها.

6-

التراث الحضاري والثقافي التي خلقته اللغة العربية.

ص: 190

7-

نمو المعاهد الإسلامية الكبرى كالأزهر والجامعات الإسلامية.

8-

ظهور الدعوة إلى التضامن الإسلامي وما يحمله نجاح هذه الدعوة من اهتمام بالدين الإسلامي ولغته العربية.

وسأحاول في هذا المقام الموجز أن أبرز شيئاً من تاريخ اللغة العربية وأثرها في السائدة زمن الفتوح العربية وعن موقعها بين هذه اللغات وتأثرها بها وعن موقع هذه اللغة ومنزلتها في العالم الإسلامي وسأتناول أيضاً آراء بعض الباحثين فيها من شرقيين وغربيين وعن مدى تأثير هذه اللغة الجميلة في اللغات الأوروبية ذاتها وسأختتم هذا المقال ببيان العوامل التي تساعد على استمرار هذه اللغة في أداء رسالتها مستقبلاً وواجب العرب والمسلمين تجاه هذه اللغة الخالدة.

اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم والدين الحنيف وهي لغة التخاطب والتفاهم بين أجزاء الوطن العربي وهي الأساس الذي بني عليه التراث العربي والأدب الرفيع ولا زالت هذه اللغة تؤدي مهمتها بحيوية وحركة وتقدم منذ أكثر من ألف وخمسمائة سنة وحتى الآن وإلى ما شاء الله بسبب طبيعتها المرنة وبيانها الأخاذ ومفرداتها الغنية وأساليبها المتفاوتة وخلودها في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وإذا كان الخليل قد قال في كتاب العين: "إن عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل (412ر 305 ر12) كلمة "فإن الحسن الزبيدي قد ذكر أن عدد ألفاظ العربية (400ر 699ر6) لفظاً لا نستعمل منها إلاّ (5630) والباقي مهمل.

فعسى أن أرى هذه الألفاظ العربية المهجورة وما أكثرها إذا قيست بالمستعملة - وقد عادت إلى الحياة العربية والعالمية لتسهم في تعريب المصطلحات العلمية الحديثة وتثري الفكر الإنساني كله بعوامل التقدم والخلود.

ص: 191

اختلطت اللغة العربية - زمن الفتوح الإسلامية - بلغات أخرى في فارس والهند والشام ومصر وجنوب إفريقيا والأندلس لكنها احتفظت دائماً بفصاحتها ووحدتها وكيانها. ولم تكتف بذلك بل أزاحت جل اللغات التي كانت سائدة في تلك الأمصار وحلت محلها. أو نفخت فيها من روحها وطريقة تفكيرها.

ففي مصر حلت اللغة العربية مكان اليونانية والقبطية وفي زمن وجيز بعد الفتح العربي.

وفي الشام أزاحت لغة الضاد اللغة السريانية والكلدانية والنبطية تماماً، بل إن اللغة العربية دخلت إلى أوروبا نفسها حين فتح العرب الأندلس إذ لا يزال في اللغة الأسبانية وفي اللغة البرتغالية بقايا من الكلمات العربية ولم تعدم الإنجليزية والفرنسية والألمانية أثراً من آثار العربية من قريب أو من بعيد كما في كلمة (أدميرال) أي أمير البحر في العربية.

ومما لا جدال فيه أن اللغة العربية تحتل حتى الآن مكانة مرموقة بين اللغات الأخرى باعتبارها أضخم هذه اللغات ثروة وأكثرها أصواتاً وأغناها في المقاطع والحروف والتعبيرات.

وإذا قارنا بين اللغة العربية وبين اللغة الإنجليزية التي تسود الآن في أجزاء كثيرة من المعمورة والتي يدعونها اللغة العالمية الأولى نرى أن عدد أصوات العربية ثمان وعشرون حرفاً لا تكرار فيها بينما عدد أصوات اللغة الإنجليزية تقل بحرفين مع تكرار فيها بارز.

ولا يخفى على الكثيرين ما تتميز به اللغة العربية على غيرها من وجود حروف لأصوات قد لا توجد في غيرها مثال ذلك مخارج الحروف حاء، خاء، ضاد، طاء، ظاء، عين، غين، قاف.

لغتنا العربية، لغة كثيرة المترادفات متنوعة الأساليب والعبارات فيها الحقيقية والمجاز والتصريح والكناية وقد تم لها بحمد الله وبفضل الإسلام أن تتحول من لغة الأشعار إلى لغة الأفكار وأن تصبح لغة الشرع والعلم وأصبحت اللغة التي ترجم منها واليها المؤلفات العلمية والفلسفية والأدبية والتاريخية.

ص: 192

ويمدنا التاريخ بأدلة بينة على تجاوب اللغة العربية مع كل تطور ومسايرتها لكل نهضة ومتابعتها لكل جديد، فبهذه اللغة ترجمت الكتب اليونانية والسريانية واللاتينية وغيرها إلى العربية وبهذه اللغة عربي الآلات والأفكار والآثار اليونانية والرومانية في العصر العباسي.

ولقد صمدت هذه اللغة لكل حملات القضاء عليها سواء حملة التتار على العالم الإسلامي أو حملات الصليبيين على الشرق العربي، أو الفتح العثماني للعالم العربي، وإن كانت بحكم هذه الظروف القاسية والمعارك المستمرة قد انحسرت عن أجزاء من العالم الإسلامي كالهند وفارس وتركيا واستقرت في العالم العربي ولكنها بقيت دائماً كما عرفها جرجي زيدان في كتابه تاريخ أدب اللغة العربية:"إحدى اللغات السامية وأرقاها مبنى ومعنى واشتقاقاً وتركيباً وهي أرقى لغات العالم".

انتشرت اللغة العربية - أيضاً - شرقي العراق بفارس والتركستان والهند بانتشار الإسلام. وأصبحت لغة العلم والدين عند هذه الشعوب المسلمة. فلا غرو أن كثرت الألفاظ والتراكيب العربية في لغات هذه الأمم.

ففي اللغة الفارسية المستعملة حالياً كثير من الألفاظ العربية وهي تكتب بهجاء العربية بعد أن تلاشت اللغة البهلوية والخط البهلوي.

أما اللغة التركية فقد غزتها الألفاظ العربية بوفرة حتى وصلت حوالي 50 % من مجموع ألفاظ اللغة التركية ولم تسلم اللغة الأردية من غزو العربية لها في كثير من الكلمات كما تفشت الكلمات العربية في لغة التتر والملايو والأفغان والأكراد ولغة السواحل وكلها تكتب بالخط العربي.

وإذا كان الأتراك العثمانيون قد حملوا لواء الدعوة إلى الجامعة الطورانية وعمدوا إلى القضاء على اللغات الحية في محيط الإمبراطورية العثمانية، فإن اللغة العربية قد كافحت عن وجودها وانتصرت في كفاحها وبقيت حية خالدة بعد أن دافعت بعنف عن بقائها وحياتها.

ص: 193

كافحت اللغة العربية بعزيمة لا تعرف الكلل وبهمة لا تعرف الملل، بل كافحت بشراسة عن بقائها أمام حملات الاستعمار الغربي عليها منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي - تلك الحملات التي اتهمت اللغة العربية - زوراً وبهتاناً - بالعجز عن أداء مهمتها إزاء المخترعات الحديثة. وكان رد الفعل العملي في مواجهة هذا الهجوم العاتي والتيار الجارف لو أد اللغة العربية هو ظهور المعاجم العربية في لبنان ومصر، ثم نشأت مجامع اللغة العربية في سوريا ومصر والعراق، ولقد كان للأزهر في مصر وجامع الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب وجمعية العلماء في الجزائر دور هام في هذه المعركة التي انتصرت فيها اللغة العربية - بحمد الله - في النهاية. وقد تعاونت معاهد العلم في النجف وسوريا والحجاز والسودان وليبيا في إحراز هذا النصر. ولقد جرت محاولات جادة لإدخال كلمات جديدة إلى اللغة العربية بالنحت أو بالاشتقاق أو بالترجمة أو بالتعريب.

وإذا كان خصوم اللغة العربية قد حملوا ذات يوم لواء الدعوة إلى (العامية) أو إلى كتابة العربية بحروف لاتينية) فإن دعواهم وهي الأخرى قد فشلت فشلاً ذريعاً.

ولقد جرت دعوة أو دعوات لحث المسلمين على استعمال لغة واحدة بينهم. وأي لغة أصلح لذلك غير اللغة العربية التي هي لغة الدين الإسلامي، الذي يوجد بين البشر جميعاً، والذي من تعاليمه تلاوة القرآن في الصلاة باللغة العربية وهذا يحتم أن تكون العربية لغة المسلمين، في كل مكان من بقاع المعمورة.

ولعل الدعوة التي يحمل لواءها جلالة الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية نحو تضامن المسلمين تؤتي أكلها بعد حين فنرى اللغة العربية وقد أصبحت حقيقة لغة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

ص: 194

وما أصدق قول رشيد رضا: "لما كان الإسلام دين التوحيد ديناً عاماً لكل البشر وكان من مقاصده أن يؤلف بينهم فرض عليهم توحيد اللغة فخرجت هذه اللغة عن أن تكون لغة شعب واحد منهم. ولولا ذلك لم تؤثرها جميع الشعوب الإسلامية على لغاتها حتى عم انتشارها في المشرق والمغرب مع الإسلام".

ولا تزال اللغة الفارسية في إيران تكتب بالحروف العربية ولم تجد محاولات المستشرقين أذناً صاغية في إيران لكتابة الفارسية بحروف لاتينية بدلاً من الأبجدية العربية.

ونشطت الدعوة إلى اللغة العربية في شبه القارة الهندية فأنشئت الجمعيات والمدارس وظهرت المعاجم العربية والأردية. ويوجد بالباكستان والهند عدد كبير يجيد العربية ويستخدمها في الخطابة ويعرف أشعارها ويؤلف الكتب بها في الفقه والحديث والتفسير وغير ذلك بل ويدعو كثير من المفكرين في باكستان إلى اتخاذ اللغة العربية لغة قومية لباكستان باعتبارها لغة الدين الذي يدينون له بالولاء.

وعلى النقيض من ذلك نرى تركيا منذ انقلاب أتاتورك في عام 1923 قد تخلصت من كل أثر للغة العربية في لغتها الطورانية وكتبت لغتها القومية بحروف لاتينية.

يقول أرنست رينان في كتابه تاريخ اللغات السامية: "من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب فهمه انتشار العربية. إذ أن هذه اللغة كانت مجهولة في البداية وبدأت تكتمل للغاية فجأة بسلاسة وغنى ظاهرين"، كما وصفها أيضاً بالكمال وبأنها ظهرت تامة مستحكمة.

واستطرد يقول: "إنه لم يمض على فتح العرب للأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة لترجمة صلواتهم بالعربية ليفهمها أتباع المسيح".

ويقول مارجليوث: "اللغة العربية حياتها حقيقية، وهي إحدى لغات ثلاث سادت العالم الإنجليزية والإسبانية والعربية وتربو عليهما لأن بدايتها أقدم من كل تاريخ".

ص: 195

وإني أرى أن لغتنا العربية ليست أغنى لغات العالم فقط بل إن من دونوا كتبهم بها لا يقعون تحت حصر والعربية الفصحى ليست لغة ميتة كما قد يزعم بعض المستشرقين ولكنها حية بكل ما في الحياة من قوة ومعنى وليست اللهجات العامية في الأمصار العربية بلغات خاصة فهي لا تغنى عن الفصحى التي هي لغة القرآن ولغة الصلاة ولغة الكتابة في كل علم وفن.

وإذا قدر للعربية أن تعاود امتدادها في الأقطار الإسلامية باعتبارها لغة القرآن والصلاة فمما لا جدال أنها ستنتصر على الإنجليزية والفرنسية وغيرها من اللغات الأوروبية التي ساعد الاستعمار على نشرها في أنحاء متباينة من المعمورة.

وقد سادت اللغة التركية منطقة العالم العربي قرنين ونصف من الزمن ومع ذلك لم تستطع القضاء على اللغة العربية أو إضعاف مكانتها ويرجع ذلك فيما يرجع إلى لين العربية ومرونتها وتكيفها مع كل الظروف. فاللغة العربية هي اللغة الرسمية بين جميع أصقاع شبه الجزيرة العربية وهي أداء التخاطب والكتابة في العراق والشام ومصر والسودان والمغرب العربي الكبير (ليبيا- تونس- الجزائر- المغرب) .

وسبق أن ذكرنا أنها اللغة التي يستخدمها مسلمو الهند والباكستان في صلواتهم وهي اللغة التي يستطيع بها العلماء في إيران وأفغانستان أن يدرسوا الحديث النبوي. وبالإضافة إلى ما تقدم فإن الحروف العربية لا تقل انتشاراً عن الحروف اللاتينية في العالم اليوم.

فهي تستخدم في كتابة اللغة الفارسية والهندوستانية ولغات (اليوشتو) والهوسا والأردية وغيرها من اللغات الشرقية ولا جدال في أن اللغة العربية من أعظم الينابيع التي يغترف منها العالم ثقافة وحضارة وعقيدة وتاريخاً. ويزداد عدد المتكلمين بها يوماً بعد يوم وتتسع دائرة انتشارها فهي لغة التخاطب في زنجبار وتنجانيقا وفي بلاد بعيدة كجزر الملايو، بل تدرس بكثير من المعاهد في أوربا نفسها في لندن وباريس وبرلين وليدن وغيرها.

ص: 196

ويشهد بعض المستشرقين أنفسهم على أن الأثر الذي تركته اللغة العربية في عقول الأتراك والفرس ومسلمي الهند كان أعظم بكثير من الأثر الذي تركه اللاتين ولغتهم في عقول الأدباء من أهل أوربا في التاريخ الوسيط، ومنهم من وصف حروف الكتابة العربية بالسهولة والمرانة والجمال الفني وهم صادقون في ذلك ومنصفون.

إذ كيف لا يكون للغتنا العربية هذا السحر وهي لغة الوحي ولغة أهل الجنة وهي من اللغات البارزة في العالم وإحدى أهم الوسائل الأساسية للثقافة في العصر الوسيط ولم تزل هذه اللغة إلى اليوم أجمل لغة في الوجود وأغني لغات العالم في مفرداتها ووفرة أساليبها وقابليتها للنمو والزيادة، فالاشتقاق إحدى مميزاتها التي تمكنها من خلق صيغ جديدة من جذور قديمة كلما كان هناك حاجة لذلك. ولما كان هذا القياس يجري على نظام معين فإن القارئ يفهم بيسر وسهولة ما يمر عليه من صيغ جديدة بالقرينة والسليقة. ولعل الأمر ليس كذلك في الكلمات التي في اللغة العبرية بل وغيرها.

ولا عجب فإن العربية ثبتت على عادبات الزمان واحتفظت بكيانها في حين أن اليونانية واللاتينية والسكسونية وغيرها قد تشعبت بمرور الزمن فنشأت عنها لغات أخرى متباينة.

واللغة العربية تقوم على قواعد دقيقة تحدد الشكل الخارجي للكلمات والصيغة الظاهرة ولكن روح هذه اللغة متجددة باستمرار فلا غرابة أن تمتاز عن سائر اللغات وتتفوق عليها.

دخلت لغتنا العربية أوربا بعد فتح صقلية وأسبانيا فصارت لغة الأدب والعلم وعنها نقل علماء الغرب الكثير من حكمة اليونان وفلسفتهم وتأثرت اللغة اللاتينية بكلمات اللغة العربية ومفرداتها.

وفي القرن السادس عشر الميلادي العاشر الهجري ترجمت معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوربية كما ترجمت حكايات ألف ليلة وليلة وبعض من مقامات الحريري وقد ازداد اهتمام الأوربيون باللغة العربية مع دخول الاستعمار الإنجليزي والفرنسي للوطن العربي.

ص: 197

ويقول أحد المستشرقين النمساويين أن سبب اهتمام الأوربيون باللغة العربية هو الدعاية الدينية ابتداء من الحروب الصليبية.

ولعل المتتبع للألفاظ العربية عند دراسته للغة أخرى من اللغات يجدها بارزة ظاهرة في كل لغات أوربا بشكل ما. فهي ذات أثر في الأسبانية والبرتغالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية بل والهولندية والإسكندنافية والروسية والبولوندية والإيطالية. وقد عثر الباحثون في جهات البلطيق في أوربا على مسكوكات عربية إسلامية يبدو أنها من آثار تجار العرب المسلمين الذين وصلوا إلى تلك المناطق.

وإذا كان من المستشرقين من يهاجم العربية ويرى أنها لغة شائقة ولكنها شاقة جداً على من يريد أن يتعلمها وأن نطق هذه اللغة يمثل صعوبة كبرى للأوربي خاصة بل منهم من يبالغ فيراها لغزاً. إلا أن الحقيقة التي لا جدال عليها ولا اختلاف هي أن اللغة العربية آية للتعبير عن الأفكار وهي مرتبطة بتاريخ العرب المجيد والإسلام الباقي إلى الأبد.

وليس قصور الأداء في اللغة العربية بالنسبة للمخترعات الحديثة عيباً في اللغة العربية ذاتها وإنما العيب في أصحاب العربية الذين وقفوا بها حيث تركها الأولون. كما وأن اللغة التي لم تقتبس من لغات أخرى كلمات ومفردات لا وجود لها مطلقاً فيما هو شائع من لغات عالمية.

ولقد أتيح لي أن أطلع على مصنف الأستاذ حسن حسين فهمي الأستاذ في كلية الهندسة بجامعة القاهرة وعنوانه (المرجع في تعريب المصطلحات العلمية والفنية والهندسية) وقد أوصى بنشره مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

ويهدف هذا الكتاب إلى إثبات أن اللغة العربية تستطيع أن تستجيب للبحث العلمي وأنها تسع المصطلحات العلمية في علوم الهندسة الحديثة وفنون الصناعة الجديدة، ولكن بشرط أن يمارس هذا خبير بالعلوم المذكورة وبالفقه اللغوي ودقائق العربية في نفس الوقت.

ص: 198

وقد بين المؤلف في هذا الكتاب افتقار المكتبة العربية للكتب الفنية الهندسية والصعوبات اللغوية عند كتابة الكتب الفنية والحاجة إلى دراسة العربية من جديد بطريقة علمية ويهدف المؤلف إلى عرض نتيجة دراسة منتظمة للعربية وطريقة التعريب التي نظمها ورسمها.

وهذا الكتاب في رأي بداية طيبة لمن سار على هذا الدرب.

ويطيب لي أن أعرض للقارئ الكريم نماذج بعض الألفاظ التي قدمتها العربية إلى اللغات الأوربية:

أمير البحر Algetire

جني Gain

ذيل Tail

قطة Cat

قائد Quide

مسجد Mosque

الرياضة Amiral

ولعل الكلمة الأخيرة مأخوذة من اسم جابر بن حبان.

ومن العوامل التي تساعد على استمرار اللغة العربية في أداء رسالتها:

1-

جعل اللغة العربية لغة العلم في كل الجامعات العربية بما فيها الكليات العملية كالطب والهندسة والصيدلة والزراعة.

2-

جعل اللغة العربية مادة أساسية في جميع مراحل التعليم.

3-

نشر المعاهد العلمية التي تعلم اللغة العربية في كل البلاد الإسلامية في إفريقيا وآسيا وغيرها من قارات العالم.

4-

خفض تكاليف طبع الكتب العربية والفنية وفتح مجال النشر للكتاب العربي في مختلف الأمصار الإسلامية والعربية بالذات.

ص: 199

تقرير عن الجامعة السلفية في لائلفور في الباكستان

بقلم الشيخ: علي مشرف العمري

مبعوث الجامعة الإسلامية بالمدينة

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد - فلقد كان لي شرف الإبتعاث إلى الجامعة السلفية بمدينة لائلفور بباكستان الغربية للتدريس فيها بأمر من سماحة رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية بناء على أمر صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية المفدى حفظه الله وأبقاه وأطال في عمره ليبقى حامياً للإسلام والمسلمين وحامياً لمقدساتهم وفي مقدمتها الحرمان الشريفان.

وقد كان سفري من الجامعة الإسلامية بالمدينة إلى مقر عملي في لائلفور في يوم الأحد الموافق 5- 11 - 1392 ووصلت إلى كراتشي يوم الثلاثاء الموافق 7 - 11 - 92 وقد استقبلني علماء أهل الحديث في كراتشي وعلى رأسهم الشيخ عبد الخالق الرحماني والشيخ محمد يونس والشيخ محمد أحمد لوهيا والشيخ محمد إقبال لوهيا وقد أثلجوا صدري بما قاموا به من إكرام وإعزاز لأبناء المملكة السعودية وقد عاملني موظفوا المطار أحسن المعاملة وقالوا هذه هدية الفيصل إلى إخوانه في العقيدة في باكستان فكيف لا نقوم بواجب هذه الهدية خير قيام.

ص: 200

ثم غادرنا كراتشي في اليوم الرابع الموافق 8 - 11 - 92 إلى مدينة لائلفور وقد استقبلنا على ظهر مطارها أعضاء الجامعة السلفية وفي مقدمتهم مدير التعليم فيها الشيخ عبيد الرحمان عبد الرحمان والأمين العام لأهل الحديث في مدينة لائلفور وقد بالغوا في الإكرام إلى حد الإطراء، ثم ذهبنا إلى الجامعة السلفية وهي جميلة كما سنذكر ذلك إن شاء الله فيما بعد، وفي اليوم الثاني التقينا برئيس مجلس الجامعة السلفية والأمين العام لجمعية أهل الحديث المركزية بباكستان الغربية الشيخ ميان فضل الحق وبأعضاء الجمعية في مدينة لائلفور وقد توجهنا جميعاً إلى أكبر جامع لأهل الحديث في مدينة لائلفور لأداء صلاة الجمعة وبعد انتهاء الخطيب للجمعة ألقى كلمة حيا فيها المملكة العربية السعودية وقائدها الملهم فيصل المحبوب وأشاد بالجامعة الإسلامية في المدينة ودورها الفعال في نشر الدعوة الإسلامية في أقطار الدنيا وأثنى على سماحة رئيسها الوالد الحبيب الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وذكر للمجتمعين أنني هدية الفيصل والجامعة الإسلامية إليهم وطلب من رئيس أهل الحديث أن يقدمني إلى الحاضرين وأن يقوم بإجراء التعارف بيننا، وأعقبه رئيس الجامعة فقدمني إلى الجميع وأشاد بالملك فيصل وما يبذله في سبيل الدين الإسلامي ثم ألقيت كلمة شكرت فيها رئيس مجلس الجامعة وخطيبهم وأعضاء الجامعة ومديرها وأبناء الشعب الباكستاني. وخصوصاً أهل الحديث على الحفاوة التي قاموا بها وقابلوا بها هدية الحكومة السعودية لهم، ثم ذكرت لهم تاريخ إنشاء الجامعة الإسلامية وكم كان عدد الطلاب فيها عند افتتاحها وعددهم في الوقت الحاضر وعدد الأقسام فيها والميزانية المخصصة لها من الحكومة السعودية سنوياً والمكافآت التي يتقاضاها المدرسون والطلاب وعدد الدول المخصص لها المنح الدراسية من العالم الإسلامي والأوروبي والإفريقي والآسيوي فيها وعن الدور الفعال الذي تقوم به المملكة العربية

ص: 201

السعودية بتوجيه الفيصل العظيم من بعثات إلى الدول الإسلامية وغيرها للدعوة والتدريس والإرشاد وما يبذله سماحة الشيخ عبد العزيز من توجيه كبير لأبنائه خريجي الجامعة الإسلامية ووضع الخطط الحكيمة لهم لدعوة الناس وإرشادهم للعودة إلى دينهم القويم.

وبعد الانتهاء من إلقاء كلمتي قام من في المسجد كلهم وأخذوا يحيوني ويدعون للملك بالتوفيق والسداد - وقد قام خطباء أهل الحديث في جميع المساجد التابعة لهم بالإشادة بالمملكة العربية السعودية ملكاً وحكومة وشعباً وكذلك أشادوا بالجامعة الإسلامية وبرئيسها وأعضائها.

أما الجامعة السلفية التي انتدبت للتدريس فيها فقد تأسست في سنة 1955 وقام بتأسيسها السيد محمد داود الغزنوي والسيد محمد إسماعيل السلفي رحمهما الله وهي تقع في جانب من مدينة لائلفور وهي ذات شكل هندسي جميل تبلغ مساحتها عشرين ألف متر مربع وهي على الطريق الرئيسي الذي يصل مدينة لائلفور بمدينة لاهور عاصمة باكستان الغربية.

والجامعة تتكون مما يلي:

1-

مسجد كبير يتسع لحوالي ألفي مصلي ويقع على يسار الداخل إلى مبنى الجامعة.

2-

مساكن للأساتذة والطلبة وعددها 34 غرفة مزودة بالأثاث اللازم لكل فرد.

3-

دار للضيافة مكونة من أربع غرف كاملة التأثيث مع منافعها ومطبخ تابع لها وذلك فيما إذا جاءهم أحد الأعضاء أم غيرهم للالتقاء بالطلاب يسكن في هذه الدار ويبقى في ضيافة الجامعة المدة التي سيقضيها في هذه الجامعة.

4-

مستوصف مكون من ثلاث غرف يعالج فيه المنتسبون إلى الجامعة والمجاورون لها من السكان مجاناً على حساب الجامعة السلفية.

5-

مكتب للبريد غرفة واحدة وهو على حساب الجامعة.

ص: 202

6-

فصول للدراسة مكون من ثمان غرف واسعة وقاعات للأساتذة ومكتب لمدير التعليم وقد أنشئت بشكل هندسي بديع وعمل على بوابة هذه الفصول رسم مجسم لكتابين مفتوحين بالأسمنت يرمز أحدهما إلى الكتاب العزيز والثاني إلى السنة المطهرة.

7-

ميدان واسع في داخل أسوار الجامعة وفيه ملعب لكرة القدم واليد وفيه جانب معد لقاعة المحاضرات وصالة للمكتبة ومساكن للأساتذة بعائلاتهم وقاعة واسعة يتناول الطلاب طعامهم فيها ومطبخ يعد فيه طعام الأساتذة والطلاب وللجامعة حالياً مشاريع قائمة وأكثرها على وشك الإنتهاء وهي:

قاعة الطعام والمطبخ وخزانة لحفظ مؤن الطلبة.

أما المشاريع التي وضعت في مخطط الجامعة والتي ستقام قريباً إن شاء الله فهي - قاعة كبيرة للمحاضرات وقاعة المكتبة ومساكن للأساتذة مع عائلاتهم وهي حوالي عشرة مساكن كل مسكن يتكون من أربع غرف مع منافعها والجامعة تقوم بإعاشة المدرسين والطلاب مع مكافأة للمدرسين ابتداء من مائة وخمسين رويبة لكل مدرس ويبلغ عددهم 13 مدرساً.

أما الطلاب فيبلغ عددهم مائة وخمسين طالباً من أنحاء باكستان الغربية ومن غيرها من الدول مثل: جزر مالديب ومنها حوالي عشرين طالباً ومن كشمير الحرة وأفغانستان ومن باكستان الشرقية، وبهذه المناسبة فإن الباكستانيين الغربيين يعاملون الباكستانيين الشرقيين معاملة الأخ لأخيه.

هذا وللجامعة السلفية رئيس عام وهو فضيلة الشيخ ميان فضل الحق كما أنه أمين عام لجمعية أهل الحديث المركزية في باكستان الغربية ولها أمين عام وهو فضيلة الشيخ محمد صديق خطيب مدينة لائلفور ولها مدير تعليم وهو فضيلة الشيخ عبيد الرحمان عبد الرحمان أحد خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد قام بإدخال تعديلات على منهج الدراسة في الجامعة السلفية وأدخل فيها مناهج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

ص: 203

فمن الدروس الموجودة في هذه الجامعة وهي بذاتها توجد في منهج الجامعة الإسلامية تفسير الشوكاني وبداية المجتهد في الفقه والصحيحان في الحديث وعشرون حديثاً بالأسانيد من النسائي وابن ماجه وشرح ابن عقيل في القواعد العربية والمذاهب الهدامة مذكرة الجامعة الإسلامية وكذلك حاضر العالم الإسلامي وفي التاريخ سيرة ابن هشام ومقدمة ابن خلدون وفي مصطلح الحديث مقدمة ابن الصلاح وفي التوحيد شرح العقيدة الطحاوية وغيرها من الكتب النافعة.

والدراسة في الجامعة السلفية على ثلاث أقسام: القسم الأول الإعدادية يدخل فيها الطلاب بعد أن يأخذ الشهادة الابتدائية ومدة الدراسة فيها سنتان، والقسم الثانوي ومدة الدراسة فيه أربع سنوات، والقسم الثالث القسم العالي مدة الدراسة فيه سنتان يتخرج الطلاب بعد ذلك ويصنفون إلى فئات إحداها ينتخب بعضهم للتدريس في نفس الجامعة وفئة تذهب إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة وغيرها وفئة تذهب للدعوة والإرشاد في أنحاء باكستان وهم يجيدون اللغة العربية قراءة وكتابة إجادة ممتازة ومعظم الدراسة في هذه الجامعة باللغة العربية.

وللجامعة مجلس وأعضاء يبلغ عدد الأعضاء فيها 15 عضواً من جميع مدن باكستان الغربية وهم يعقدون اجتماعات سنوية يقررون فيها مصروفات الجامعة ومشاريعها وجميع التبرعات من جمعية أهل الحديث في باكستان ويبلغ ما يصرف على هذه الجامعة سنوياً مائتي ألف رويبة باكستانية تجمع كلها عن طريق التبرع من جمعية أهل الحديث في باكستان الغربية وفي الجامعة حالياً مكتبة مكونة من ثلاث غرف تضم في أدراجها ستة آلاف كتاب أكثرها باللغة العربية وتحوي على المراجع الضخمة في الحديث والفقه وأسماء الرجال والأدب والتاريخ والتفسير وغير ذلك من نفائس الكتب الكثيرة.

ص: 204

أما النشاطات الرياضية في الجامعة فهي تنحصر في كرة القدم وكرة اليد والجامعة تنهج نهج السلف الصالح في الدراسة والتدريس وتسير في طريقها سيراً حسناً وهي في حاجة ماسة إلى العون المادي والمعنوي من الحكومات الإسلامية والمؤسسات الخيرية ومن أهل الفضل والسخاء وفق الله القائمين عليها والساعين لها والباذلين في سبيلها لكل خير وسدد خطاهم ووفق الله حكومتنا الرشيدة التي لم تأل جهداً في الاستجابة إلى أبناء الأمة الإسلامية في شرق الأرض وغربها وبذل ما في وسعها من خدمات إسلامية تمثلت في إرسال الدعاة والمدرسين والتبرعات الخيرية لبناء المساجد والمدارس وغير ذلك من وجوه البر في أنحاء البلاد الإسلامية وفقها الله لكل خير إنه على كل شيء قدير.

ص: 205

رأي الفيلسوف تولستوي في المرأة الغربية [1]

من كتاب حكم النبي محمد

ترجمة سليم قبعين

" إن السبب في مسألة الطلاق التي تشغل الآن الرأي العام في أوروبة هو التمدن الذي لم يقتبس الإنسان منه سوى الحمق والخلاعة. هذا هو السبب الحقيقي في ازدياد الطلاق نمواً كل يوم، فلا يمضي على زواج امرأة برجل ردح من الزمن حتى تقول له: حاذر أن أتركك وأمضي إلى حال سبيلي.

سرى ذلك من الربوع العالية في المدن إلى أكواخ الفلاحين، فالقروية لأقل شيء تقول لزوجها: خذ قمصانك وسراويلاتك لأني تارك لك وذاهبة مع حبيبي يوسف الذي يفوقك حسناً وبهاءً..

هذا لأن المرأة خلعت ثياب الحشمة واحترام الزوج وخرجت من دائرة الخضوع له، تلك الواجبات التي ينبغي عليها حتى انقضاء الأجل.

على الرجل أن يكد ويشتغل، وما على المرأة إلا أن تقيم في البيت لأنها زوجة، أو بعبارة أخرى: لأنها إناء لطيف سريع الإنثلام والإنكسار. وعلى الرجل أن يراقب سلوك امرأته ولا يطلق لها العنان، بل يحجبها في البيت. والبيت دائرة حرية واسعة للمرأة.

ولنتذكر المثل الروسي الذي يقول: "لا تركن إلى الفرس في الغيط، واركن إلى المرأة في البيت".

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

من كتاب (حكم النبي محمد صلى الله عليه وسلم ترجمة سليم قبعين ومنشورات (المكتبة الأهلية) بمصر سنة 1342هـ.

ص: 206

من الصحف والمجلات

(من حديث الدكتور: محمد ناصر رئيس وزراء إندونيسية الأسبق)

من الواجب أن نعترف أن الظروف القاسية التي عاشتها المجتمعات الإسلامية تحت نير الاستعمار آماداً طويلة فرضت على تلك المجتمعات ضروباً من التخلف في مختلف الجوانب المادية من حياتها، فيأتي المتآمرون المغرضون إلى هذا الشاب الذي يعاني من مركب النقص تجاه حضارة العصر الراهن، فيقولون له بكل وسائل الإقناع المباشر أو غير المباشر المقروءة والمسموعة والمرئية.

إن حياة التخلف هي من مستلزمات الإسلام أو يصرحون له بأن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين.. ويعزون ذلك إلى أن الإسلام يعني فقط بأمور الآخرة.. فيتهاوى هذا الشاب الضعيف نفسياً وخلقياً أمام مثل هذه التشكيلات والتضليلات.. وبالتالي يوحون إليه أنه إذا أراد اللحاق بالركب الحضاري المزعوم فليس أمامه إلا طريقان: الأولى: الانسلاخ عن الإسلام، والثانية: تكييف الإسلام وإضعافه وتطويعه لمقتضيات الحياة المادية ومتطلباتها إذا لم يمكن التخلي عن الإسلام كلياً.

أما كيفية تفادي هذا الخطر وتلافيه، فزمام الأمر في إصلاح مناهج التربية العامة والتربية الدينية بصفة خاصة وبالأخص في مرحلة التعليم التي يعيشها الشاب في فترة المراهقة أي المرحلة الإعدادية والثانوية.

والحياة الدينية التي تتبع بها في محيط الأسرة والبيئة والتي كان إيمانه بها عظيماً لا تستطيع أن تقدم له الأجوبة الصائبة على مختلف القضايا والمشاكل التي تلوح للمراهق وهو على أعتاب رحلة التفتح الذهني والتطلع على أسرار الحياة وحقائقها.

(عن مجلة المجتمع الكويتية)

ص: 207

ندوة الطلبة

إلى أخي الذي لم أره

بقلم: الطالب محمد محمود جاد الله بكلية الشريعة بالجامعة

(أي هذي الأسراب فوق الغدير)

اسكبي النور في خبايا ضميري

أسمعيني من كل بحر قصيداً

أسعفيني إن خانني تعبيري

هذه لحظة تساوي دهوراً

فانثريها نشوانة بالسرور

قد عرفت العطاء منكن سمحاً

صافي الود مفعماً بالحبور

هذه فرحتي وقد طال شوقي

أترى الدهر معتبي أو مجيري

هذه منحة عطاء حساباً جاءت اليوم من لطيف خبير

إن عبد الرحمن في القلب رمز صانه الله من طليق أسير

هو في القلب نفحة من بلادي

ذات شدو ريانة بالعبير

يا رعا الله بقعة أنت منها

حيث (اسدود) من قديم الدهور

لم يكن بيننا لقاء ولكن

ضمنا البؤس واصطلاء الهجير

غربة الروح جمعتنا فكنا

كالشريكين في اقتسام المصير

جمعتنا على الطريق ليال

قاسيات ملآنة بالشرور

واختلاج الأزهار بالنور تزهو

مائلات من بعد يوم مطير

وارفضاض الأوراق بالطل تندى

فوق تلك الربوع عند البكور

إنني منك مثلما أنت مني

فكلانا يختال بين السطور

إن شعراً نظمت في غير هذا

لا يساوي والله شروى نقير

قد رويناه فتية يوم كانت

فرحة العمر بسمة في الثغور

نحن صنوان في الضنى يا صديقي

بل غريبان بين هذي القبور

إن دمعاً ذرفته من فؤادي

لست تدريه كانبجاس الغدير

كان لله خالصاً مستطاباً

لا لدينا تغص بالتكدير

يوم أن كانت الرؤى عابسات

كالحات تغوص في الديجور

يوم أن كانت المنايا كؤوساً

سائغات كمثل ماء نمير

كان دمعاً معبراً من وداد

صبه الله في ثنايا شعوري

كم ليالي قضيت سود طوال

ترقب النجم من وراء الستور

وهي لله بالهدى عامرات

يا لطعم الهوى ويا للنور

لهف قلبي على رجال نراهم

ص: 208

زينة الناس في اختلاف العصور

كلهم في الفؤاد ذكراه تبقى

ثم تحيا راضين بالمقدور

ص: 209

الأسماء والصفات نقلاً وعقلاً

محاضرة لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإنا نريد أن نوضح لكم معتقد السلف والطريق الذي هو المنجي نحو آيات الصفات:

أولاً: اعلموا أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع من البدع التي يكرهها السلف، اعلموا أن مبحث آيات الصفات دل القرآن العظيم أنه يتركز على ثلاثة أسس من جاء بها كلها فقد وافق الصواب وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، ومن أخل بواحد من تلك الأسس الثلاثة فقد ضل وكل هذه الأسس الثلاثة يدل عليها القرآن العظيم:

1-

أحد هذه الأسس الثلاثة هو تنزيه الله جل وعلا عن أن يشبه شيء من صفاته شيئاً من صفات المخلوقين وهذا الأصل يدل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} .

ص: 210

2-

الثاني: من هذه الأسس: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} ، والإيمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يوصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال في حقه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} ، فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وينزه ربه جل وعلا عن أن تشبه صفته صفة الخلق وحيث أخل بأحد هذين الأصلين وقع في هوة الضلال لأن من تنطع بين يدي رب السموات والأرض وتجرأ على الله بهذه الجرأة العظيمة ونفى عن ربه وصفاً أثبته لنفسه فهذا مجنون فالله جل وعلا يثبت لنفسه صفات كمال وجلال فكيف يليق لمسكين جاهل أن يتقدم بين يدي رب السموات والأرض ويقول هذا الذي وصفت به نفسك لا يليق بك ويلزمه من النقص كذا وكذا فأنا أأوله وألغيه وآتي ببدله من تلقاء نفسي من غير استناد إلى كتاب أو سنة، سبحانك هذا بهتان عظيم ومن ظن أن صفة خالق السموات والأرض تشبه شيئاً من صفات الخلق فهذا مجنون جاهل ملحد ضال ومن آمن بصفات ربه جل وعلا منزهاً ربه عن تشبيه صفاته بصفات الخلق فهو مؤمن منزه سالم من ورطة التشبيه والتعطيل وهذا التحقيق هو مضمون:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فهذه الآية فيها تعليم عظيم يحل جميع الإشكالات ويجيب عن جميع الأسئلة حول الموضوع. ذلك لأن الله قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ومعلوم أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات فكأن الله يشير للخلق ألاّ ينفوا عنه صفة سمعه وبصره بادعاء أن الحوادث تسمع وتبصر وأن ذلك تشبّه بل عليهم أن يثبتوا له صفة سمعه وبصره على أساس ليس كمثله شيء. فالله جل وعلا له صفات لائقة بكماله وجلاله والمخلوقات لهم صفات مناسبة

ص: 211

لحالهم وكل هذا حق ثابت لا شك فيه

إلاّ أن صفة رب السموات والأرض أعلا وأكمل من أن تشبه صفات المخلوقين، فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه فقد جعل نفسه أعلم بالله من الله سبحانك هذا بهتان عظيم ومن ظن أن صفة ربه تشبه شيئاً من صفة الخلق فهذا مجنون ضال ملحد لا عقل له يدخل في قوله:{تالله إن كنّا لفي ضلال مبين إذ نسويكم بربّ العالمين} . ومن يسوي ربّ العالمين بغيره فهو مجنون، ثمّ اعلموا أن المتكلمين الذين خاضوا في الكلام وجاءوا بأدلة يسمونها أدلة عقلية ركبوها في أقيسة منطقية قسموا صفات الله جل وعلا إلى ستة أقسام قالوا هناك صفة نفسية وصفة معنى. وصفة معنوية وصفة فعلية وصفة سلبية وصفة جامعة. أما الصفات الإضافية فقد جعلوها أموراً اعتبارية لا وجود لها في الخارج وسببوا بذلك إشكالات عظيمة وضلالاً مبيناً، ثمّ إنا نبين لكم على تقسيم المتكلمين ما جاء في القرآن العظيم من وصف الخالق جل وعلا بتلك الصفات ووصف المخلوقين بتلك الصفات وبيان القرآن العظيم لأن صفة خالق السموات والأرض حق وأن صفة المخلوقين حق وأنه لا مناسبة بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق فصفة الخالق لائقة بذاته وصفة المخلوق مناسبة لعجزه وافتقاره وبين الصفة والصفة من المخالفة كمثل ما بين الذات والذات أمّا هذا الكلام الذي يدرس في أقطار الدنيا اليوم في المسلمين فإن أغلب الذين يدرسونه إنما يثبتون من الصفات التي يسمونها صفات المعاني. سبع صفات فقط وتنكرون سواها من المعاني ويؤولونها، وصفة المعنى عندهم في الإصطلاح ضابطها هي أنها ما دل على معنى وجودي قائم بالذات، والذي اعترفوا به منها سبع صفات هي القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام.

ص: 212

ونفوا غير هذه الصفات من صفات المعاني التي سنبينها ونبين أدلتها من كتاب الله، وأنكر هذه المعاني السبع المعتزلة وأثبتوا أحكامها فقالوا: هو قادر بذاته سميع بذاته عليم بذاته حي بذاته ولم يثبتوا قدرة ولا علماً ولا حياة ولا سمعاً ولا بصراً فراراً منهم من تعدد القديم وهو مذهب كل العقلاء يعرفون ضلاله وتناقضه وأنه إذا لم يقم بالذات علم استحال أن تقول هي عالمة بلا علم وهو تناقض واضح بأوائل العقول فإذا عرفتم هذا فسنتكلم على صفات المعاني التي أقروا بها فنقول:

1-

وصفوا الله تعالى بالقدرة وأثبتوا له القدرة والله جل وعلا يقول في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ونحن نقطع أنه تعالى متصف بصفة القدرة على الوجه اللائق بكماله وجلاله. وكذلك وصف بعض المخلوقين بالقدرة قال: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فأسند القدرة لبعض الحوادث ونسبها إليهم ونحن نعلم أن كل ما في القرآن حق وأن للمولى جل وعلا قدرة حقيقة تليق بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين قدرة حقيقة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم. وبين قدرة الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق وحسبك بونا بذلك.

ص: 213

2، 3- ووصف نفسه بالسمع والبصر في غير ما آية من كتابه قال:{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، ووصف بعض الحوادث بالسمع والبصر، قال:{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} ، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} . ونحن لا نشك أن ما في القرآن حق فلله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان لائقتان بجلاله وكماله. كما أن للمخلوق سمعاً وبصراً حقيقيين مناسبين لحاله من فشقره وفنائه وعجزه وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.

4-

ووصف نفسه بالحياة قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ، {هو الحي لا إله إلاّ هو} . الآية. ووصف أيضاً بعض المخلوقين بالحياة قال:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ} ، {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} ، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي} . ونحن نقطع بأن لله جل وعلا صفة حياة حقيقية لائقة بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين حياة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم وبين صفة الخالق والمخلوق من المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق. وذلك بون شاسع بين الخالق وخلقه.

ص: 214

5-

ووصف جل وعلا نفسه بالإرادة قال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وصف بعض المخلوقين بالإرادة قال:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} ، {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} ، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} ولا شك أن لله إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله كما أن للمخلوقين إرادة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين إرادة الخالق والمخلوق كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.

6-

وصف نفسه جل وعلا بالعلم قال: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه} ، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} ووصف بعض المخلوقين بالعلم قال:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} ، {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاه} . ولا شك أن للخالق جل وعلا علماً حقيقياً لائقاً بكماله وجلاله محيطاً بكل شيء. كما أن للمخلوقين علماً مناسباً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.

7-

ووص ف نفسه جل وعلا بالكلام. قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} . ووصف بعض المخلوقين بالكلام قال:{فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} ، {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِم} ولا شك أنّ للخالق تعالى كلاماً حقيقياً لائقاً بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين كلاماً مناسباً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.

ص: 215

هذه صفات المعاني سمعتم ما في القرآن من وصف الخالق بها ووصف المخلوق ولا يخفى على عاقل أنّ صفات الخالق حق. وأنّ صفات الخالق لائقة بجلاله وكماله، وصفات المخلوقين مناسبة لحالهم وبين الصفة والصفة كما بين الذات والذات.

وسنبين مثل ذلك في الصفات التي يسمونها سلبية

وضابط الصفة السلبية عند المتكلمين. نقول: هذا قياس عدم محض، والمراد بها أن تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله من غير أن تدل على معنى وجودي قائم بالذات والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمساً لا سادس لها وهي عندهم القدم والبقاء والمخالفة للخلق والوحدانية والغنى المطلق الذي يسمونه القيام بالنفس الذي يعنون به الإستغناء عن المخصص والمحل فإذا عرفتم هذا فاعلموا أن القدم والبقاء اللذين وصف المتكلمون بهما الله جل وعلا زاعمين أنه وصف بهما نفسه في قوله هو الأول والآخر قد وصف بهما المخلوق والقدم في الإصطلاح عندهم عبارة عن سلب العدم السابق إلا أن عندهم أخص من الأزل لأن الأزل عبارة عمّا لا افتتاح له سواءً كان وجودياً كذات الله وصفاته أو عدمياً كإعدام ما سوى الله لأن العدم السابق على العالم قبل وجوده لا أول له فهو أزلي ولا يقال فيه قديم والقدم عندهم عبارة عمّا لا أول له بشرط أن يكون وجودياً كذات الله متصفة بصفات الكمال والجلال ونحن الآن نتكلم على ما وصفوا به الله جل وعلا من القدم والبقاء وإن كان بعض العلماء كره وصفه جل وعلا بالقدم كما يأتي. فالله جل وعلا وصف بعض المخلوقين بالقدم قال:{كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} ووصف بعضهم بالبقاء قال:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} ، {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} ولا شك أن ما وصفوا به الله من هذه الصفات مخالف لما وصف به الخلق نحو ما تقدم.

ص: 216

أما الله جل وعلا فلم يصف في كتابه نفسه بالقدم وبعض السلف كره وصفه بالقدم لأنه قد يطلق مع سبق العدم نحو {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} وقد جاء فيه حديث بعض العلماء يقول هو يدل على وصفه بهذا وبعضهم يقول لم يثبت وقد ذكر الحاكم في المستدرك في بعض الروايات القديم في أسمائه تعالى وفي حديث دخول المسجد:"أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم"أمّا الأولية والآخرية التي نص الله عليهما في قوله: {هو الأول والآخر} فقد وصف بعض المخلوقين أيضاً بالأولية والآخرية قال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ} ولا شك أن ما وصف الله به نفسه من ذلك لائق بجلاله {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ} (النور: من الآية32) وكماله كما أن للمخلوقين أولية وآخرية مناسبة لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم.

ووصف نفسه بأنه واحد قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} ووصف بعض المخلوقين بذلك قال: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} ووصف نفسه بالغنى قال: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ووصف بعض المخلوقين بالغنى قال:{وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِف} ، {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} .

ص: 217

فهذه الصفات السلب جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها ولا شك أن ما وصف به الخالق منها لائق بكماله وجلاله وما وصف به المخلوق مناسبة لحاله وفنائه وعجزه وافتقاره ثم نذهب إلى الصفات السبع التي يسمونها المعنوية والتحقيق ان عد الصفات السبع التي هي كونه تعالى قادراً ومريداً وعالماً وحياًّ وسميعاً وبصيراً ومتكلماً لا وجه له لأنها في الحقيقة إنما هي كيفية الإتصاف بالمعاني السبع التي ذكرنا ومن عدها من المتكلمين عدوها بناءً على ثبوت ما يسمونه الحال المعنوية التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية لا معدومة ولا موجودة والتحقيق أن هذه خرافة وخيال. وإن العقل الصحيح لا يجعل بين الشيء ونقيضه واسطة البتة فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعاً وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعاً ولا واسطة البتة كما هو معروف عند العقلاء فإذا كنا قد مثلنا لكنه قادراً وحياًّ ومريداً وسميعاً وبصيراً ومتكلماً لما جاء في القرآن من وصف الخالق بذلك وما جاء في القرآن من وصف المخلوق بذلك وبينا أن صفة الخالق لائقة بكماله وجلاله وأن صفة المخلوق مناسبة لحاله وفنائه وعجزه وافتقاره فلا داعي لأن ننفي وصف رب السموات والأرض عنه لا أن نشبهها بصفات المخلوقين بل يلزم أن نقر بوصف الله ونؤمن به في حال كوننا منزهين له عن مشابهة صفة المخلوقين وهذه صفات الأفعال جاء في القرآن بكثرة وصف الخالق بها ووصف المخلوق ولا شك أن ما وصف به الخالق منها مخالف لما وصف به المخلوق كالمخالفة التي بين ذات الخالق وذات المخلوق، ومن ذلك أنه وصف نفسه جل وعلا بصفة الفعل التي هي أنه يرزق خلقه قال جل وعلا:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} . ووصف بعض المخلوقين بصفة الرزق قال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ

ص: 218

أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْه} ، {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} ، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ} .ولا شك أن ما وصف الله به من هذا الفعل مخالف لما وصف به منه المخلوق كمخالفة ذات الله لذات المخلوق. ووصف نفسه جل وعلا بصفة الفعل الذي هو العمل قال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} . وصف المخلوقين بصفة الفعل التي هي العمل قال: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . ولا شك أن ما وصف الله به المخلوق مخالف له كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق.

وصف نفسه بأنه يعلّم خلقه: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} . ووصف بعض خلقه بصفة الفعل التي هي التعليم أيضاً قال:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَاب} وجمع المثالين في قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} .

ووصف نفسه جل وعلا بأنه ينبّيء ووصف المخلوق بأنه ينبّيء. وجمع بين الفعل في الأمرين في قوله جل وعلا: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} .

ص: 219

ولا شك أن ما وصف الله به نفسه من هذا الفعل مخالف لما وصف به منه العبد كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق ووصف نفسه بصفة الفعل الذي هو الإيتاء قال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه} . ووصف المخلوقين بالفعل الذي هو الإيتاء قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارا} ، {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} .

ولا شك أن ما وصف الله به من هذا الفعل مخالف لما وصف به العبد من هذا الفعل كمخالفة ذاته لذاته ثم نتكلم على الصفات الجامعة كالعلو والعظم والكبر والملك والتكبر والجبروت والعزة والقوة وما جرى مجرى ذلك من الصفات الجامعة فنجد الله وصف نفسه بالعلو والكبر والعظم قال في وصف نفسه بالعلو والعظم: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . وقال في وصف نفسه بالعلو والكبر: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} ، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} .

ووصف بعض المخلوقين بالعظم قال: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ، {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} ، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}

ووصف بعض المخلوقين بالعلو قال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} ، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} .

ولا شك أن ما وصف الله به من هذه الصفات الجامعة كالعلو والكبر والعظم مناف لما وصف به المخلوق منها كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق فلا مناسبة بين ذات الخالق والمخلوق كما لا مناسبة بين صفة الخالق وصفة المخلوق.

ووصف نفسه بالملك قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوس} ، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} ، {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}

ص: 220

ووصف بعض المخلوقين بالملك قال: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَان} ، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} ، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} ، {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} .

ولا شك أن لله جل وعلا ملكاً حقيقياً لائقاً بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين ملكاً مناسباً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم.

ووصف نفسه بأنه جبار متكبر قال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} إلى قوله: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} .

ووصف بعض المخلوقين بأنه جبار متكبر قال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ، {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} ، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} ، {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .

ولا شك أن ما وصف به الخالق من هذه الصفات مناف لما وصف به المخلوق كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق

ووصف نفسه جل وعلا بالعزة قال: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} .

ووصف بعض المخلوقين بالعزة قال: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} ، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . وجمع المثالين في قوله {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .

ولا شك أن ما وصف به الخالق من هذا الوصف مناف لما وصف به المخلوق كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق.

ووصف نفسه جل وعلا بالقوة قال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .

ص: 221

ووصف بعض المخلوقين بالقوة قال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُم} وقال جل وعلا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّة} . وجمع بين المثالين في قوله: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} .

ثم إننا نتكلم على الصفات التي اختلف فيها المتكلمون. هل هي صفات فعل أو صفات معنى والتحقيق أنها صفات معان قائمة بذات الله جل وعلا. كالرأفة والرحمة والحلم. فنجده جل وعلا وصف نفسه بأنه رؤوف رحيم قال: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ووصف بعض المخلوقين بذلك قال في وصف نبينا صلوات الله وسلامه عليه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .

ووصف نفسه بالحلم قال: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} ، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}

ووصف بعض المخلوقين بالحلم قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} ، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} .

ووصف نفسه بالمغفرة قال: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء} .

ص: 222

ووصف بعض المخلوقين بالمغفرة قال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ، {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَة} الآية، {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّه} .

ولا شك أن ما وصف به خالق السموات والأرض من هذه الصفات أنه حق لائق بكماله وجلاله لا يجوز أن ينفى خوفاً من التشبيه بالخلق. وأن ما وصف به الخلق من هذه الصفات حق مناسب لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم.

وعلى كل حال فلا يجوز للإنسان أن يتنطّع إلى وصف أثبته الله جل وعلا لنفسه فينفي هذا الوصف عن الله متهجماً على ربّ السموات والأرض مدعياً عليه أن هذا الوصف الذي تمدح به أنه لا يليق به وأنه هو ينفيه عنه ويأتيه بالكمال من كيسه الخاص فهذا جنون وهوس ولا يذهب إليه إلاّ من طمس الله بصائرهم.

وسنضرب لكم لهذا مثلاً يتبين به الكل لأن مثلاً واحداً من آيات الصفات ينسحب على الجميع إذ لا فرق بين الصفات لأن الموصوف بها واحد. وهو جل وعلا لا يشبه شيء من خلقه في شيء من صفاته البتة. فهذه صفة الاستواء التي كثر فيها الخوض ونفاها كثير من الناس بفلسفة منطقية وأدلة جدلية سنتكلم في آخر البحث على وجوه إبطالها كلاماً يخص الذين درسوا المنطق والجدل ليتبين كيف استدل أولئك بالباطل وأبطلوا به الحق وأحقوا به الباطل. فهذه صفة الاستواء تجرأ الآلاف ممن يدّعون الإسلام وتفوهاً عن رب السماوات والأرض بأدلة منطقية يركبون فيها قياساً استثنائياً مركبة من شرطية متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي ينتجون في زعمهم الباطل نقيض المقدم بناء على أن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم فيقولون مثلاً لو كان مستوياً على عرشه لكان مشابهاً للخلق فينتجون، ليس مستوياً على العرش، وعظم هذا الافتراء كما ترى.

ص: 223

1-

اعلموا أن هذه الصفة التي هي صفة الاستواء صفة كمال وجلال تمدح بها رب السماوات والأرض والقرينة على أنها صفة كمال وجلال أن الله ما ذكرها في موضع من كتابه إلاّ مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله التي هي منها وسنضرب مثلاً لذلك بذكر الآيات: فأول سورة ذكر الله فيها صفة الاستواء حسب ترتيب المصحف سورة الأعراف قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.

2-

الموضع الثاني في سورة يونس قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} .

ص: 224

فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.

3-

الموضع الثالث في سورة الرعد في قوله جل وعلا: {الله الذي اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وهو الذي مدّ الأرض وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وفي الأرض وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

وفي القراءة الأخرى {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.

4-

الموضع الرابع في سورة طه: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .

ص: 225

فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.

5-

الموضع الخامس في سورة الفرقان في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ًً} . فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.

6-

الموضع السادس في سورة السجدة في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الجلال والكمال.

ص: 226

7-

الموضع السابع في سورة الحديد في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

فالشاهد أن هذه الصفة التي يظن الجاهلون أنها صفة نقص ويتهجمون على رب السماوات والأرض بأنه وصف نفسه صفة نقص ثم يسببون عن هذا أن ينفونها ويؤولوها مع أن الله جل وعلا تمدح بها وجعلها من صفات الجلال والكمال مقرونة بما يبهر العقول من صفات الجلال والكمال هذا يدل على جهل وهوس من ينفي بعض صفات الله جل وعلا بالتأويل.

ثم اعلموا أن هذا الشيء الذي يقال له التأويل الذي فتن به الخلق وضل به الآلاف من هذه الأمة اعلموا أن التأويل يطلق مشتركاً بين ثلاث معان:

1-

يطلق على ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال وهذا هو معناه في القرآن نحو: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاًً} ، {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْل} ومعنى التأويل في الآيات المذكورة ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال.

2-

ويطلق التأويل بمعنى التفسير وهذا قول معروف كقول ابن جرير:"القول في تأويل قوله تعالى: كذا أي تفسيره ".

3-

أمّا في اصطلاح الأصوليين فالتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح لدليل.

وصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه له عند علماء الأصول ثلاث حالات:

ص: 227

(أ) إمّا أن يصرفه عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من كتاب أو سنة وهذا النوع من التأويل صحيح مقبول لا نزاع فيه ومثال هذا النوع ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الجار أحق بصقبه " فظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار وحمل هذا الحديث على الشريك المقاسم حمل للفظ على محتمل مرجوح غير ظاهر متبادر إلاّ أن حديث جابر الصحيح"فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة "دل على أن المراد بالجار الذي هو أحق بصقبه خصوص الشريك المقاسم فهذا النوع من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل واضح يجب الرجوع إليه من كتاب وسنة وهذا تأويل يسمى تأويلاً صحيحاً وتأويلاً قريباً ولا مانع منه إذا دل عليه النص.

(ب) الثاني هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلاً وهو في نفس الأمر ليس بدليل فهذا يسمى تأويلاً بعيداً ويقال له فاسد ومثل له بعض العلماء بتأويل الإمام أبي حنيفة رحمه الله لفظ امرأة في قوله صلى الله عليه وسلم:" أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل "قالوا: حمل هذا على خصوص المكاتبة تأويل بعيد لأنه صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لأن أيّ في قوله"أيّ امرأة "صيغة عموم وأكدت صيغة العموم بما المزيدة للتوكيد فحمل هذا على صورة نادرة هي المكاتبة حمل للفظ على غير ظاهره لغير دليل جازم يجب الرجوع إليه.

ص: 228

(ج) أمّا حمل اللفظ على غير ظاهره لا لدليل: فهذا لا يسمى تأويلاً في الاصطلاح بل يسمى لعباً لأنه تلاعب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومن هذا تفسير غلاة الرافضة قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ، قالوا: عائشة ومن هذا النوع صرف آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملات ما أنزل الله بها من سلطان كقولهم استوى بمعنى استولى فهذا لا يدخل في اسم التأويل لأنه لا دليل عليه البتة وإنما سمي في اصطلاح أهل الأصول لعباً. لأنه تلاعب بكتاب الله جل وعلا من غير دليل ولا مستند فهذا النوع لا يجوز لأنه تهجم على كلام رب العالمين والقاعدة المعروفة عند علماء السلف أنه لا يجوز صرف شيء من كتاب الله ولا سنة رسوله عن ظاهره المتبادر منه إلاّ بدليل يجب الرجوع إليه.

ص: 229

وكل هذا الشر فاسمعوا أيها الإخوان نصيحة مشفق إنما جاء من مسألة وهي نجس القلب وتلطخه وتدنسه بأقذار التشبيه فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفة من صفات الكمال أثنى الله بها على نفسه كنزوله إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير كاستوائه على عرشه وكمجيئه يوم القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال أول ما يخطر في ذهن المسكين أن هذه الصفة تشبه صفة الخلق فيكون قلبه متنجساً بأقذار التشبيه لا يقدّر الله حق قدره ولا يعظم الله حق عظمته حيث يسبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق فيكون فيها أولاً نجس القلب متقذّر بأقذار التشبيه فيدعو شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي صفة الخالق جل وعلا عنه بادعاء أنّها تشبه صفات المخلوقين فيكون فيها أولاً مشبّهاً وثانياً معطّلاً ضلاًّ ابتداءً وانتهاءً متهجماً على ربّ العالمين ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق. واعلموا أنّ هنا قاعدة أصولية أطبق عليها من يعتد به من أهل العلم وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا سيما لو مشينا على فرضهم الباطل أن ظاهر آيات الصفات الكفر فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤول الاستواء (بالاستيلاء) ولم يؤول شيئاً من هذه التأويلات ولو كان المراد بها هذه التأويلات لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانها لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة فالحاصل أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد هذا الاعتقاد الذي يحل جميع الشبه ويجيب عن جميع الأسئلة وهو أن الإنسان إذا سمع وصفاً وصف به خالق السماوات والأرض نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم امتلأ صدره من التعظيم فيجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين فيكون القلب منزهاً معظماً له جل وعلا غير متنجس بأقذار التشبيه فتكون أرض قلبه قابلة للإيمان والتصديق

ص: 230

بصفات الله التي تمدح بها أو أثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم على غرار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، والشر كل الشر في عدم تعظيم الله وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى الكاذبة. ولا بد في هذا المقام من نقط يتنبه إليها طالب العلم:

أولاً: أن يعلم طالب العلم أنّ جميع الصفات من باب واحد إذ لا فرق بينها البتة لأن الموصوف بها واحد وهو جل وعلا لا يشبه الخلق في شيء من صفاتهم البتة فكما أنكم أثبتم له سمعاً وبصراً لائقين بجلاله لا يشبهان شيئاً من أسماع الحوادث وأبصارهم فكذلك يلزم أن تجروا هذا بعينه في صفة الاستواء والنزول والمجيء إلى غير ذلك من صفات الجلال والكمال التي أثنى الله بها على نفسه.

واعلموا أنّ ربّ السموات والأرض يستحيل عقلاً أن يصف نفسه بما يلزمه محذور أو يلزمه كحال أو يؤدي إلى نقص. كل ذلك مستحيل عقلاً. فإنّ الله لا يصف نفسه إلاّ بوصف بالغ من الشرف والعلو والكمال ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين على حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

الثاني: أن يعلموا أنّ الصفات والذات من باب واحد فكما أننا نثبت ذات الله جل وعلا إثبات وجود وإيمان لا إثبات كيفية مكيفة فكذلك نثبت لهذه الذات الكريمة المقدسة صفات إثبات وإيمان ووجود لا إثبات كيفية وتحديد.

ص: 231

واعلموا أنّ آيات الصفات كثير من الناس يطلق عليها اسم المشابهة وهذا من جهة غلط ومن جهة قد يسوغ كما يثبته الإمام مالك بن أنس. أمّا المعاني فهي معروفة عند العرب كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله:"الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة ". كذلك يقال في النزول: النزول غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة، واطرده في جميع الصفات لأن هذه الصفات معروفة عند العرب إلاّ أن ما وصف به خالق السماوات والأرض منها أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئاً من صفات المخلوقين كما أن ذات الخالق جل وعلا حق والمخلوقون لهم ذوات وذات الخالق جل وعلا أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين. فعلى كل حال الشر كل الشر في تشبيه الخالق بالمخلوق وتنجيس القلب بقذر التشبيه فالإنسان المسلم إذا سمع صفة وصف بها الله أول ما يجب عليه أن يعتقد أنّ تلك الصفة بالغة من الجلال والكمال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينها وبين صفات المخلوقين فيكون أرض قلبه طيّبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه على نحو:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

وهنا سؤال لا بدّ من تحقيقه لطالب العلم أولاً: اعلموا أنّ المقرر في الأصول أنّ الكلام إن دلّ على معنى لا يحتمل غيره فهو المسمى نصاً كقوله مثلاً: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} ، فإذا كان يحتمل معنيين أو أكثر فلا يخلو من حالتين إمّا أن يكون أظهر في أحد الاحتمالين من الآخر وإمّا أن يتساوى بينهما فإن كان الاحتمال يتساوى بينهما فهذا الذي يسمى في الاصطلاح المجمل كما لو قلت:(عدا اللصوص البارحة على عين زيد) فإنه يحتمل أن تكون عينه الباصرة عوروها أو عينه الجارية غوروها أو عين ذهبه وفضته سرقوها فهذا مجمل. وحكم المجمل أن يتوقف عنه إلاّ بدليل على التفصيل. أمّا إذا كان نصاً صريحاً فالنص يعمل به ولا يعدل عنه إلاّ بثبوت النسخ.

ص: 232

فإذا كان أظهر في أحد الاحتمالين فهو المسمّى بالظاهر، ومقابله يسمّى (محتملاً مرجوحاً) والظاهر يجب الحمل عليه إلاّ لدليل صارف عنه كما لو قلت: رأيت أسداً فهذا مثلاً ظاهر في الحيوان المفترس، محتمل في الرجل الشجاع، وإذاً فنقول: فالظاهر المتبادر من آيات الصفات من نحو قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} . وما جرى مجرى ذلك، هل نقول الظاهر المتبادر من هذه الصفة هو مشابهة الخلق حتى يجب علينا أن نقول ونصرف اللفظ عن ظاهره أو ظاهرها المتبادر منها تنزيه ربّ السماوات والأرض حتى يجب علينا أن نقره على الظاهر من التنزيه.

الجواب: أن كل وصف أسند إلى ربّ السماوات والأرض فظاهره المتبادر منه عند كل مسلم هو التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق فإقراره عن ظاهره هو الحق وهو تنزيه ربّ السماوات والأرض عن مشابهة الخلق في شيء من صفاته فهل ينكر عاقل أن المتبادر للأذهان السليمة أنّ الخالق ينافي المخلوق في ذاته وسائر صفاته لا والله لا يعارض في هذا إلاّ مكابر ثم بعد هذا البحث الذي ذكرنا نحب أن نذكر كلمة قصيرة لجماعة قرءوا في المنطق والكلام وظنوا نفي بعض الصفات من أدلة كلامية كالذي يقول مثلاً: لو كان مستوياً على العرش لكان مشابهاً للحوادث لكنه غير مشابه للحوادث ينتج فهو غير مستوٍ على العرش هذه النتيجة الباطلة تضاد سبع آيات من المحكم المنزل ولكننا الآن نقول في مثل هذا على طريق المناظرة والجدل المعروف عند المتكلمين. نقول: هذا قياس استثنى فيه نقيض التالي فأنتج منه نقيض المقدم حسب ما يراه مقيم هذا الدليل ونحن نقول: إنه تقرر عند عامة النظار أن القياس الاستثنائي المركب من شرطية متصلة لزومية يتوجه عليه القدح من ثلاث جهات:

1-

يتوجه عليه من جهة استثنائيته.

2-

ويتوجه عليه من جهة شرطيته إذا كان الربط بين المقدم والتالي ليس بصحيح.

3-

ويتوجه عليه القدح من جهتهما معاً.

ص: 233

وهذه القضية كاذبة الشرطية فالربط بين مقدمها وتاليها كاذب كذباً بحتاً ولذا جاءت نتيجتها مخالفة لسبع آيات.

وإيضاحه أن نقول: قولكم لو كان مستوياً على العرش لكان مشابهاً للحوادث هذا الربط بين لو واللام كاذب كاذب كاذب هو مستوٍ على عرشه كما قال من غير مشابهة للحوادث كما أن سائر صفاته واقعة كما قال من غير مشابهة للخلق ولا يلزم من استوائه على عرشه كما قال أن يشبه شيئاً من المخلوقين في صفاتهم البتة بل استواؤه صفة من صفاته وجميع صفاته منّزهة عن مشابهة الخلق كما أن ذاته منزهة عن مشابهة ذوات الخلق ويطرد هذا في مثل هذا. وعلى كل حال فالجواب عن شيء واحد من هذا يطرد في الكل وآخر ما نختم به هذه المقالة أنّا نوصيكم بتقوى الله وأن تلتزموا بثلاث آيات من كتاب الله.

الأولى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فتنزهوا ربّ السماوات والأرض عن مشابهة الخلق.

الثانية: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فتؤمنوا بصفات الجلال والكمال الثابتة بالكتاب والسنة على أساس التنزيه كما جاء {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .

الثالثة: أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل وهذا نصّ الله عليه في سورة (طه) حيث قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} . فقوله: {يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} فعل مضارع والفعل الصناعي الذي يسمى بالفعل المضارع وفعل الأمر والفعل الماضي ينحل عند النحويين عن مصدر وزمن كما قال ابن مالك في الخلاصة:

المصدر اسم ما سوى الزمان من

مدلولي الفعل كأمن من أمن

ص: 234

وقد حرر علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية أنه ينحل عن مصدر وزمن ونسبة فالمصدر كامن في مفهومه إجماعاً فيحيطون في مفهومها (الإحاطة) فيتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل فيكون معه كالنكرة المبنية على الفتح فيصير المعنى لا إحاطة للعلم البشري برب السماوات والأرض فينفي جنس أنواع الإحاطة عن كيفيتها فالإحاطة المسندة للعلم منفية عن ربّ العالمين، فلا يشكل عليكم بعد هذا صفة نزول ولا مجيء ولا صفة يد ولا أصابع ولا عجب ولا ضحك. لأن هذه الصفات كلها من باب واحد فما وصف الله به نفسه منها فهو حق وهو لائق بكماله وجلاله لا يشبه شيئاً من صفات أوضحه الله في كلمتين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} تنزيه بلا تعطيل، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إيمان بلا تمثيل. فيجب من أول الآية وهو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} التنزيه الكامل الذي ليس فيه تعطيل ويلزم من قوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإيمان بجميع الصفات الذي ليس فيه تمثيل) فأول الآية تنزيه وآخرها إيمان ومن عمل بالتنزيه الذي في {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والإيمان الذي في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقطع النظر عن إدراك الكنه والكيفية المنصوص في قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} خرج سالماً.

وقد ذكرت لكم مراراً أني أقول: هذه الأسس الثلاثة التي ركزنا عليها البحث وهي:

1-

تنزيه الله عن مشابهة الخلق.

2-

والإيمان بالصفات الثابتة بالكتاب والسنة وعدم التعرض لنفيها وعدم التهجّم على الله بنفي ما أثبته لنفسه.

ص: 235

3-

وقطع الطمع عن إدراك الكيفية. لو (متّم يا إخوان) وأنتم على هذا المعتقد، أترون الله يوم القيامة يقول لكم لم نزهتمونني عن مشابهة الخلق ويلومكم على ذلك لا وكلا والله لا يلومكم على ذلك، أترون أنه يلومكم على أنكم آمنتم بصفاته وصدقتموه فيما أثنى به على نفسه ويقول لكم لم أثبتم لي ما أثبته لنفسي أو أثبته لي رسولي؟ لا والله لا يلومكم على ذلك ولا يأتيكم عاقبة سيئة من ذلك، كذلك لا يلومكم الله يوم القيامة ويقول لكم: لم قطعتم الطمع عن إدراك الكيفية ولم تحددونني بكيفية مدركة. ثم أنا نقول: لو تنطّع متنطّع. وقال: نحن لا ندرك كيفية (نزول) منزهة عن نزول الخلق ولا ندرك كيفية (يد) منزهة عن أيدي الخلق ولا ندرك كيفية (استواء) منزهة عن استواءات الخلق فبينوا لنا كيفية معقولة منزهة تدركها عقولنا فنقول: أولاً هذا السؤال الذي قال فيه مالك بن أنس:"والسؤال عن هذا بدعة "ولكن نجيب ونقول أعرف أيها المتنطّع السائل الضال كيفية الذات المقدسة الكريمة المتصفة بصفة النزول وصفة اليد وصفة الاستواء وصفة السمع والبصر والقدرة والإرادة والعلم فلا بد أن نقول: لا فنقول: معرفة كيفية الصفة متوقفة على معرفة كيفية الذات إذ الصفات تختلف اختلاف موصوفاتها ونضرب مثلاً ولله المثل الأعلى. فإن الأمثال لا تضرب لله ولكن الأخرويات لا مانع منها كما جاء بها القرآن فنقول مثلاً كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله لفظة (رأس) الراء والهمزة والسين راس هذه الكلمة أضفها إلى المال وأضفها إلى الوادي وأضفها إلى الجبل فانظر ما صار من الاختلاف بين هذه المعاني بحسب هذه الإضافات وهذا مخلوق ضعيف مسكين فما بالك بالبون الشاسع الذي بين صفة الخالق جل وعلا وصفة المخلوق.

وختاماً يا إخواني نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله وأن تتمسكوا بهذه الكلمات الثلاث:

1-

أن تنزهوا ربكم عن مشابهة صفات الخلق.

ص: 236

2-

أن تؤمنوا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إيماناً مبنياً على أساس التنزيه على نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

3-

وتقطعوا الطمع في إدراك الكيفية لأن الله يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} .

ونريد أن نختم هذه المقالة بنقطتين: إحداهما أنه ينبغي للمؤمنين أن ينظروا في قوله تعالى لليهود: {وَقُولُوا حِطَّة} فإنهم زادوا في هذا اللفظ المنزل نوناً فقالوا: حنطة فسمى الله هذه الزيادة تبديلاً فقال في البقرة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ، وقال في الأعراف:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} . وكذلك المؤولون للصفات قيل لهم استوى، فزادوا لاماً، فقالوا: استولى. فانظر ما أشبه لامهم هذه التي زادوها بنون اليهود والتي زادوها، ذكر هذا ابن القيم، الثانية: أنه ينبغي للمؤمنين أن يتأملوا آية من سورة الفرقان وهي قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} . ويتأملوا معها قوله تعالى في سورة فاطر: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فإن قوله في الفرقان: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} بعد قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَن} يدل دلالة واضحة أن الله الذي وصف نفسه بالاستواء خبير بما يصف به نفسه لا تخفى عليه الصفة اللائقة من غيرها ويفهم منه أن الذي ينفي عنه صفة الاستواء ليس بخبير. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

ص: 237

تتمة دفع إيهام الإضطراب

لفضيلة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

سورة الناس

قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} لا يخفى ما بين هذين الوصفين اللذين وصف الله بهما هذا اللعين الخبيث من التنافي لأن الوسواس كثير الوسوسة ليضل بها الناس والخناس كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس. والجواب: أن لكل مقام مقالاً؛ فهو وسواس عند غفلة العبد عن ذكر ربه خناس عند ذكر العبد ربه تعالى كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} . الآية.

وقد تم بحمد الله تعالى ما أردنا جمعه بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ونرجو الله تعالى أن يوفقنا وإخواننا المسلمين في الأقوال والأفعال وأن يجعل سعينا خالصاً لوجهه الكريم إنه قريب مجيب آمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 238

الفتاوى

للشيخ عبد العزيز بن باز

سؤال من الأخ ص. ع.هـ يقول فيه: نسأل فضيلتكم عن امرأة تزوجت ابن عمها ولم يكتب الله في قلبها له مودة وقد خرجت من بيته منذ ثلاث عشرة سنة وحاولت منه الطلاق أو المخالعة أو الحضور معه إلى المحكمة فلم يرض بذلك وهي تبغضه بغضاً كثيراً تفضل معه الموت على الرجوع إليه، وقد أسقطت نفسها من السطح لما أراد أهلها الإصلاح بينها وبينه فما الحكم؟

والجواب: مثل هذه المرأة يجب التفريق بينها وبين زوجها المشار إليه إذا دفعت إليه جهازه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس لما أبغضته زوجته وطلبت فراقه وسمحت برد حديقته إليه: "أقبل الحديقة وطلقها تطليقة" رواه البخاري في صحيحه؛ ولأن بقاءها في عصمته والحال ما ذكر يسبب عليها إضراراً كثيرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" ولأن الشريعة جاءت بتحصيل الصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ولا ريب أن بقاء مثل هذه المرأة في عصمة زوجها المذكور من جملة المفاسد التي يجب تعطيلها وإزالتها والقضاء عليها وإذا امتنع الزوج عن الحضور مع المرأة المذكورة إلى المحكمة وجب على الحاكم فسخها من عصمته إذا طلبت ذلك وردت عليه جهازه للحديثين السابقين وللمعنى الذي جاءت به الشريعة واستقر من قواعدها وأسأل الله أن يوفق قضاة المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد ولما فيه ردع الظالم من ظلمه ورحمة المظلوم وتمكينه من حقه وقد قال الله سبحانه: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} .

وهذه عدة أسئلة من الأخ م. ع. ف

السؤال الأول: دخلت مستشفى لعلاج عيني وأجريت لعيني عملية وعصبت وتعذر حصولي على تراب للتيمم فتوضأت وتركت العين فما الحكم؟

ص: 239

الجواب: الصلاة صحيحة من أجل العذر لعدم وجود التراب وعدم القدرة على غسل العين لكن إذا أمكن مسح الجرح والجبيرة التي عليه عند غسل عضوه كفى ذلك عن التيمم فإن لم يتيسر ذلك خوفاً من مضرة الماء وجب التيمم مع القدرة.

السؤال الثاني: كنت في رحلة إلى لندن ولم أجزم بالجلوس مدة معينة في باديء الأمر فصليت الصلاة قصراً وجمعاً ثم لما جزمت بالجلوس مدة معينة أتممت الصلاة فما الحكم؟

الجواب: هذا الذي فعلته هو قول أكثر أهل العلم وحكاه ابن المنذر إجماعاً وقد دلت السنة الصحيحة على أن المسافر يشرع له القصر في السفر وهكذا يشرع له الجمع بين الصلاتين عند وجود سببه إذا كان لم ينو إقامة معينة أما إذا نوى إقامة معينة تزيد على أربعة أيام وجب عليه الإتمام عند الأكثر وقال بعض أهل العلم له القصر ما دام لم ينو الاستيطان في ذلك الموضع وإنما أقام لعارض متى زال سافر وهو قول قوي تدل عليه أحاديث كثيرة وبكل حال فقد أحسنت فيما فعلت لأنك بالإتمام لما نويت الإقامة المعينة الزائدة على أربعة أيام خرجت من الخلاف وأخذت بالأحوط.

السؤال الثالث: عندما أردت التوجه إلى جدة كان في نيتي أداء نسك العمرة ثم فسخت هذه النية بعد ما ركبت الطائرة وجددت نية أخرى هي أنه إن اضطررت إلى الذهاب إلى مكة أحرمت بالعمرة من جدة وقد اضطررت للتوجه إلى مكة المكرمة ولكن فسخت نية العمرة أيضاً لأن ذلك يشق علي فما الحكم؟

الجواب: ليس عليك شيء لأن العمرة إنما تجب من الميقات فما دونه على من نواها أما من لم ينوها فليس عليه شيء ولكن إذا كنت لم تعتمر عمرة الإسلام فالواجب عليك أداؤها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما وقت مواقيت الحج والعمرة لأهل الأمصار وقال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة" الحديث متفق على صحته.

سؤال من الأخ س. ل. ق:

ص: 240

يوجد في الأسواق أشخاص يتقدم إلى أحد الدكاكين ثم يشتري الدكان من صاحبه جزافاً، والدكان يوجد فيه من الأقمشة الرجالية والنسائية والغتر من جميع الأنواع فهل هذا البيع والشراء صحيح أم فيه نوع من الجهالة، نرجو التكرم بالجواب الشافي، وكذلك متع الله بحياتكم على طاعته يأتينا مندوبون من بعض المحلات ويتفقون معنا على مشتري سلعة ثم عندما يتم الاتفاق يطلبون أن نسلمهم ورقة رسمية مثل هذه الورقة التي فيها خطنا هذا بدون أن نكتب نحن فيها شيئاً وإذا رفضنا تسليم الورقة ينكل عن مشتري السلعة فهل يجوز لنا أن نسلمه ورقة بيضاء وهو يتصرف فيها يكتب ما يريد ولا تفوتنا البيعة أفتونا وفقكم الله للأعمال الصالحة اهـ.

الجواب: عن السؤال الأول أن يقال البيع المذكور صحيح إذا كان المشتري قد عرف المال الذي في الدكان وقبله وكان على بصيرة منه أما إن كان حين الشراء لا يعرف حقيقة المال وإنما اشتراه جزافاً فالبيع غير صحيح لما فيه من الغرر وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة لما في ذلك من الغرور، والملامسة هي أن يقول البائع للمشتري أي ثوب لمسته أو لمسة فلان فهو عليك بكذا والمنابذة أن يقول للمشتري أي ثوب نبذته إليك أو نبذه إليك فلان فهو عليك بكذا، وبيع الحصاة هو أن يقول البائع أي بقعة أو أي ثوب وقعت عليها أو عليه الحصاة فهو عليك بكذا وما أشبه هذا التصرف فهو في حكمه بجامع الغرر لكون المشتري لم يدخل في المعاملة على بصيرة بحقيقة المبيع، والله سبحانه أرحم بعباده من أنفسهم ولهذا نهاهم سبحانه عما يضرهم في المعاملات وغيرها.

ص: 241

أما السؤال الثاني: وهو هل يجوز إعطاء من يريد شراء سلعة ورقة بيضاء ليكتب فيها ما يريد من صفقة العقد إلى آخر هـ فجوابه أن يقال مثل هذا لا يجوز لأن الظاهر من حال هؤلاء الذين يتقدمون بطلب بعض الأوراق الرسمية ليكتبوا فيها ما شاءوا من الثمن الخيانة والغش لمن وكلهم، وبذلك يكون إعطاؤهم الأوراق الرسمية معاونة لهم على الإثم والعدوان، والله سبحانه يقول:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويوفقهم لأداء الأمانة والحذر من الخيانة إنه خير مسئول.

ص: 242

أخبار الجامعة

قام سماحة رئيس الجامعة للإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز بزيارة تفقدية للمعهد الثانوي ومعهد الدراسة المتوسطة وشعبة تعليم اللغة العربية بالجامعة. يرافقه مدير المعهد الأستاذ عبد الله الفوزان وبعض مدرسي المعهد.

غادرنا إلى الرياض الأستاذ محمد العثمان العمر مدير شئون الموظفين بالجامعة الإسلامية وذلك لتمثيل الجامعة في الاجتماع الذي سيعقد بمقر وزارة المعارف وذلك لدراسة كيفية ترحيل المدرسين وإعادتهم ضماناً لعدم تأخرهم.

باشر عمله في الجامعة في الجامعة كل من: الأستاذ عبد العزيز بن ناصر مدير مكتب رئيس الجامعة الإسلامية، والأستاذ محمد بن عبد اللطيف رئيس التحرير بالجامعة، وذلك بعد أن أتما دورتهما في معهد الإدارة العام لمدة ستة شهور بدأت من شعبان لعام 92 هـ.

قام الوفد الطلابي الماليزي بزيارة للجامعة الإسلامية بالمدينة وقد تجول الوفد في الكليات المختلفة بالجامعة الإسلامية والمعاهد والمكتبة العامة بها. ثم اجتمع الوفد بسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز وقد ارتجل سماحته كلمة ضافية تحدث فيها عن الشباب وما يجب عليهم وحثهم على التمسك بالكتاب والسنة وقد قام رئيس الوفد الأستاذ أحمد عبد الله فارتجل كلمة شكر فيها سماحة رئيس الجامعة والجامعة لما أبدته.

وفي ختام الزيارة قدمت لهم بعض الكتب والنشرات والمجلات هدية من الجامعة.

اجتمع مجلس كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية برئاسة فضيلة الشيخ محمد بن صالح المرشد عميد كلية الشريعة وذلك لدراسة بعض المشاكل الخاصة بالطلاب تمهيداً لرفعها لمجلس الجامعة الإسلامية الموقر للبث فيها.

لجنة القبول والمعادلات تعمل هذه الأيام باستمرار وذلك لدراسة أكبر عدد ممكن من طلبات الالتحاق التي ترد للجامعة هذه الأيام بشكل ملفت للنظر بلغت الآلاف.

ص: 243

عاد إلى المدينة المنورة الوفد الطلابي الذي قام بزيارة خاصة للكليات والمعاهد والجامعات والمؤسسات الدينية في كل من مكة المكرمة والطائف وجده بعد أن استغرقت الزيارة حوالي أسبوع.

قام بزيارة الجامعة الإسلامية الحاج محمود بن الحاج إسماعيل نعيم ضابط العلاقات العامة لمؤسسة التوفير والادخار لشئون الحجاج لحكومة ماليزيا والشيخ محمد جعفر من الجامعة العلمية الإسلامية في كراتشي بالباكستان وبعد أن تجول الجميع في كافة أنحاء الجامعة أهدت الجامعة إليهم بعض الكتب والمجلات.

صدر قرار مجلس الوزراء الموقر بترفيع الأستاذ عبد الله الفوزان مدير المعهد الثانوي بالجامعة إلى المرتبة التاسعة مبروك.

أصدر فضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي تعميماً لكافة رؤساء الأقسام الإدارية والتعليمية في الجامعة يقضي بأن على رئيس كل قسم أن يقدم اقتراحاً بلائحة تنظيمية لقسمه على ضوء التجربة مع كافة الاحتياجات اللازمة. هذا وسيعقد في مكتب الأمين العام اجتماع يضم كافة رؤساء الأقسام لمناقشة الاقتراحات وإصدار لائحة تنظيمية حديثة تضمن سرعة سير العمل على الوجه المطلوب في كافة أقسام الجامعة.

قام وفد من معهد النور بعنيزة يمثل 22 طالباً و4 من المدرسين والمشرفين ومندوب من معهد النور بالمدينة بزيارة للجامعة الإسلامية وقد استمع الجميع إلى كلمة ارتجلها فضيلة الأمين العام للجامعة بمكتبه ثم تجولوا في أقسام الجامعة.

وفي ختام الزيارة أمر فضيلة الأمين العام بتوزيع مجلة الجامعة عليهم.

ص: 244

اجتمعت يوم أمس برئاسة فضيلة الأمين العام للجامعة لجنة خاصة لدراسة أوضاع الطلاب المتخرجين من الجامعة وكيفية الاتصال بهم. ليكونوا على اتصال دائم بالجامعة لتزودهم بالكتب والنشرات وهم بدورهم يقومون بتزويد الجامعة بتقاريرهم ونشاطاتهم في مختلف الجهات هذا وقد اشترك في هذه اللجنة مساعد الأمين العام للشئون الإدارية وعميد كلية الدعوة وأصول الدين، ومساعد الأمين للشئون التعليمية ومدير العلاقات العامة. وقد اتخذت محضراً بذلك، وقد أسندت هذه المهمة لإدارة العلاقات العامة بالجامعة وسيدعم هذا القسم بالموظفين الأكفاء ليقوموا بالعمل المطلوب على أحسن وجه.

صدر قرار مجلس الوزراء الموقر بترفيع فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة إلى الرتبة الثانية عشر على وظيفة مستشار. تهانينا.

أجرى ديوان الموظفين العام مسابقة عامة للوظائف الشاغرة في منطقة المدينة المنورة. ونظراً لكثرة الطلبات فقد طلب من الجامعة الإسلامية أن تتم المسابقة فيها وقد استجابت الجامعة لهذا الطلب وتمت المسابقة في اليومين الماضيين تحت إشراف مندوبين من ديوان الموظفين العام والدوائر المعنية في المدينة.

إدارة الامتحانات بالجامعة الإسلامية تعمل هذه الأيام بجد ونشاط ملموسين وذلك استعداداً للامتحانات التي ستبدأ قريباً.

غادرنا إلى الرياض الأستاذ عبد الله محمود الباحثون مدير الشئون المالية بالجامعة الإسلامية وذلك لبحث بعض مشاريع الجامعة لدى الأشغال العامة للعام المالي 93 /94 ويقوم بأعمال مدير الشؤون المالية بالنيابة رئيس المحاسبة الأستاذ محمد عمران دهيثم.

ص: 245

بدأت الطلبات من سفارات جلالة الملك للجامعة بإرسال أعداد مجلة الجامعة الإسلامية نظراً للطلبات التي تنهال على السفارات بطلب المجلة. هذا وقد أمر سماحة رئيس الجامعة بتزويد وزارة الخارجية بكمية مناسبة لإرسالها للسفارات في الخارج.

بدأت اللجان الخاصة بمناقشة البحوث العائدة لطلاب السنوات النهائية في كلتي الشريعة والدعوة وأصول الدين بالعمل باستمرار وذلك لإنهاء البحوث قبل بدء الامتحانات.

لجنة توزيع الكتب على أبناء العالم الإسلامي توالى نشاطها هذه الأيام برئاسة الشيخ عمر محمد مساعد الأمين العام وذلك بدراسة الطلبات تمهيداً لإرسال كميات من الكتب إلى الجمعيات والمدارس في إفريقيا وغيرها.

قام بزيارة الجامعة الإسلامية بالمدينة الوفد الإعلامي العماني ويتكون الوفد من الأستاذ حفيظ بن سالم الغساني المستشار الصحفي لجلالة السلطان قابوس سلطان - عمان الأستاذ بدر بن سالم العبري، رئيس قسم التراث في وزارة الإعلام بعمان. الأستاذ عبد العزيز محمد رواس، مدير مكتب الإعلام في ظفار بسلطنة عمان الأستاذ عبد الله صخر العامري، مدير الإذاعة العمانية يرافقهم مدير العلاقات العامة في وزارة الإعلام. الأستاذ محمد عبد الرحمن القرعاوي.

وقد تجول الوفد في كافة أقسام الجامعة ومكاتبها وكلياتها ومكتباتها يصحبهم مدير العلاقات العامة في الجامعة وبعد أن اجتمع الوفد بفضيلة الأمين العام الشيخ محمد العبودي قدمت الجامعة للوفد كمية من الكتب والمجلات هدية رمزية بمناسبة الزيارة وقد غادر الوفد الجامعة في حوالي الساعة الخامسة ظهراً.

صدر قرار مجلس الوزراء الموقر بترفيع كل من فضيلة الشيخ حماد الأنصاري المدرس في كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية إلى الرتبة الثامنة.. تهانينا.

وفضيلة الشيخ عمار مختار الأخضري المدرس في دار الحديث التابعة للجامعة إلى الرتبة السابعة.

ص: 246

غادر المدينة ضيف الجامعة الإسلامية فضيلة الدكتور حسين جعفري ومرافقه الأستاذ إبراهيم القاضي مندوب العلاقات الثقافية بجامعة الرياض متوجهين إلى جامعة الملك عبد العزيز بجدة.

ص: 247

أضواء من التفسير

للشيخ: عبد القادر شيبة الحمد

المدرس بكلية الشريعة

قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} .

المناسبة: لما قص الله تعالى قصة داود عليه السلام وبين فضل الله على عباده الصالحين، ذكر قصة ولده سليمان عليه السلام لأنه من تمام نعمة الله على داود عليه السلام، ولزيادة تقرير الغرض الذي سيقت من أجله قصة داود عليه السلام وهو طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم.

المفردات: {وَهَبْنَا} أعطينا ومنحنا {الْعَبْدُ} الخاضع لربّه يعني سليمان {إِنَّهُ} أي سليمان {أَوَّابٌ} رجّاع إلى الله {عُرِضَ} أمر {عَلَيْهِ} على سليمان {بِالْعَشِيِّ} هو ما بعد الزوال {الصَّافِنَاتُ} هي الخيل جمع صافنة وهي القائمة على ثلاث وقد أقامت الرابعة على طرف الحافر استعداداً للجري {الْجِيَادُ} جمع جواد أو جمع جود كثوب يطلق على الذكر والأنثى والمراد: السريع السابق الخفيف في الجري وهو بهذين الوصفين المحمودين فيها واقفة وجارية {الْجِيَادُ} آثرت {الْخَيْرِ} الخيل كما حكي عن قتادة والسدي وقيل المال والظاهر الأول {حَتَّى} إلى أن {تَوَارَتْ} اختفت واستترت {بِالْحِجَابِ} بما أشرف من الجبل أو الإصطبلات والظاهر الأول {رُدُّوهَا} أرجعوها والضمير المنصوب للخيل والمأمور بالرد ساستها {طَفِقَ} شرع {مَسْحاً} إمراراً بيده على ما يلطّخ بالغبار لإذهابه وإزالته {بِالسُّوقِ} جمع ساق وهو ما بين الكعب والركبة {الأَعْنَاقِ} الرقاب.

ص: 248

التراكيب: قوله {وَوَهَبْنَا} الواو استئناثية. وقوله {نِعْمَ الْعَبْدُ} المخصوص بالمدح محذوف والتقدير هو أي سليمان. وقيل المخصوص بالمدح داود والظاهر الأول. وقوله {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل للمدح والضمير لسليمان وقوله {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} العامل في إذ قيل: اذكر، والمراد من ذكر الوقت ذكر ما وقع فيه. وقيل: هو ظرف لأوّاب أو لنعم والظاهر الأول والضمير في عليه لسليمان وقوله {بِالْعَشِيِّ} الباء للظرفية. والصافنات نائب فاعل وإنّما أخر للتشويق. والصافنات الجياد وصفان يوصف بهما المذكر والمؤنث من الخيل وقوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} التعقيب باعتبار أواخر العرض دون أوله. وإنما أكد بأن للدلالة على أن اعترافه من صميم القلب و {حُبَّ الْخَيْرِ} مفعول به لأحببت لتضمنه معنى آثرت. وعن للتعليل كقوله: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} وذكر ربي مصدر مضاف لفاعله أي آثرت حب الخيل بسبب ذكر ربي لها، وثنائه عليها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". ولعل سبب تسميتها بالخير لغلبة خيرها وجليل منافعها.

ص: 249

وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} حتى للغاية بمعنى إلى أن، وهذه الغاية لمقدر مفهوم من السياق تقديره: واستمرت تعرض عليه حتى توارت بالحجاب، والفاعل في توارت ضمير الصافنات الجياد. وقول:{رُدُّوهَا عَلَيَّ} ضمير الفاعل للساسة وضمير المفعول للخيل، والكلام على إضمار القول، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً سأل: فماذا قال سليمان؟ فقيل: قال: ردّها، وقوله تعالى:{فَطَفِقَ مَسْحاً} الفاء للعطف على مقدر مفهوم من السياق تقديره: فردوها فطفق مسحاً.. وإنما حذفت هذه الجملة لظهورها ولبيان سرعة الامتثال كما في قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} . أي فضرب فانفجرت مننه وطفق من أفعال الشروع، ويندر أن يكون خبرها غير مضارع واسم طفق ضمير سليمان عليه السلام، ومسحاً مفعول مطلق لفعل مقدر هو خبر طفق، وتقديره فطفق يمسح مسحاً. فإن قيل فيه حذف عامل المصدر المؤكد وهو ممتنع عند ابن مالك، أجيب بأنه ليس بمؤكد بل هو مفعول مطلق مبين للنوع لتعلق ما بعده به وهو بالسوق أي فطفق يمسح مسحاً كائناً بسوق الخيل وأعناقها. وأعرب أبو البقاء {مَسْحاً} على أنه مصدر في موضع الحال أي ماسحاً وهو مردود لاحتياج طفق للخبر. وإنما مسح سوقها وأعناقها لأن العرق أكثر ظهوراً فيها فتتلطخ بالغبار فصار عليه السلام لحبه لها ورفقه بها وشفقته عليها شمر عليها يده لإزالة ما تلطخ بها.

ص: 250

وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى طريق شائكة فزعموا أن سليمان عليه السلام استعرض الخيل بعد الزوال حتى غابت الشمس ولها بها عن صلات العصر وكانت له، فقال للملائكة:"ردوا الشمس علي"فردوها عليه فصلى العصر ثم شرع يقطع سوق الخيل وأعناقها لأنها هي التي شغلته عن الصلاة ثم تصدق بلحمها فأعطاه الله خيراً منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب. ويفسرون {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} بأن معناها أحببت الخيل عن الصلاة.

وهذا باطل عاطل فما يكون لسليمان الذي قال الله فيه: {نِعْمَ الْعَبْدُ} أن يحب الدنيا وما فيها عن ذكر الله. وما يكون لسليمان أن يقطع سوق الخيل وأعناقها. وما ذنب الخيل إن كان سليمان اشتغل عن صلاة العصر كما يذهب هؤلاء؟ والله تعالى يقول: {مَسْحاً} ويأبى هؤلاء إلاّ أن يقولوا قطعاً.

المعنى الإجمالي: ومنحنا لداود سليمان ولداً له وخليفة من بعده أنه يمدح لكثرة رجوعه إلى ربّه. اذكر يا محمد وقت أن مر على سليمان في وقت العش الخيل العجيبة في وقوفها وجريها. لقد أظهر شعوره نحوها وانطلق قائلاً: "إني آثرت حب الخيل بسبب أن الله ذكرها لي وأثنى عليها"، فلما بلغت غايتها، واستترت بما أشرف من بعض الجبال أو دخلت اصطبلاتها نادى ساستها فقال: أرجعوها إلي. فأرجعوها إليه فشرع يمسح سوقها وأعناقها ليزيل ما عليها من الغبار رحمة بها وشفقة عليها وحباً لها.

ما ترشد إليه الآيات:

1-

أن سليمان ابن داود.

2-

أنه خليفته من بعده.

3-

ثناء الله على سليمان.

4-

كثرة عبادته.

5-

حرصه على الجهاد.

6-

استعراض الخيل.

7-

استحباب اختيار الأصناف الجيدة من الخيل.

8-

إعلان حب ما يحبه الله.

9-

سرعة امتثال ساسة الخيل لسليمان.

10-

تواضعه عليه السلام.

ص: 251

{فَتَنَّا} اختبرنا وابتلينا، وذلك بأنه حلف ليطوفنّ على أربعين أو سبعين امرأة من نسائه تأتي كل واحدة منهنّ بفارس يحمل السلاح ويجاهد في سبيل الله عز وجل ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهنّ فلم تحمل إلاّ امرأة جاءت بشق رجل فأخذ وألقى على كرسيه، وقد روى ذلك البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعاً وفيه:"والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسان أجمعون"، وفي البخاري:"إن الملك قال له قل إن شاء الله فلم يقل". {أَلْقَيْنَا} طرحنا، {كُرْسِيِّهِ} سرير ملكه، {جَسَداً} جسم إنسان، {أَنَاب} رجع، {وَهَبْ لِي} أعطني وامنحني، {مُلْكاً} سلطاناً، {لا يَنْبَغِي} لا يكون، {مِنْ بَعْدِي} سواي، {فَسَخَّرْنَا} فذللنا، {بِأَمْرِهِ} بطلبه، {رُخَاءً} لينة، {أَصَابَ} قصد، وأراد بلغة هجر وحمير وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن معنى هذه الكلمة فقال لهما:"أين تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا ورجعا". وعلى هذه اللغة قول الشاعر:

فأخطأ الجواب لدى المفصل

أصاب الكلام فلم يستطع

{الشَّيَاطِينَ} جمع شيطان وأصله المتمرد من الجن والإنس والدواب مأخوذ من شطن بمعنى بعد كقول الشاعر:

فبانت والفؤاد بها رهين

نأت بسعاد عنك نوى شطون

والتمرد بعدت خلاله عن الخير فسمي شيطاناً. والمراد به هنا شيطان الجن خاصة {غَوَّاصٍ} فعال من الغوص وهو: النزول تحت الماء لاستخراج اللؤلؤ {مُقَرَّنِينَ} مجموعين مشدودين إلى بعض {الأَصْفَادِ} القيود {فَامْنُنْ} أي أطلق.

ص: 253

التراكيب: قوله: {ثُمَّ أَنَابَ} عطف على فتنا. وإنما عطف بثم للإشارة إلى استمرار إنابته وامتدادها أو لأنه عليه السلام لم يعلم بالفتنة عقيب وقوعها. وقوله: {قَالَ} بدل من أناب ويجوز أن يكون استأنافاً بيانياً، كأنه قيل: كيف كانت إنابته؟ فأجيب: قال رب اغفر لي. وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} تعليل للإستيهاب، وضمير الفصل للتأكيد والفاء في قوله:{فَسَخَّرْنَا} تفريعية؛ لتفريع التسخير على طلبه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.

وقوله: {الرِّيحَ} على قراءة الجمهور بالإفراد وهو في معنى الجمع لكونه اسم جنس وقوله {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} يحتمل أن تكون حالاً من الريح أي جارية ويحتمل أن تكون بياناً أو تفسيراً لتسخيرها له، وقوله:{بِأَمْرِهِ} مضاف لفاعله والباء للسببية، وقوله:{رُخَاءً} حال من فاعل تجري وهي الريح وقوله: {والشَّيَاطِينَ} معطوف على الريح، وقوله:{كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} بدل من الشياطين وقوله {وَآخرَِينَ} عطف على كل داخل معه في البدل لأن كل بناء وغواص بدل كل من كل بدل التفصيل وليس معطوفاً على الشياطين لأنهم منهم وليس معطوفاً أيضاً على بناء وغواص لأنه مضاف إلى كل ولا يحسن فيه إلاّ الإضافة على مفرد منكر أو جمع معرّف وقوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا} يجوز أن يكون مقولاً لقول مقدر معطوف على سخرنا أو حال من فاعله فتقديره على الأول: فسخرنا وقلنا، وعلى الثاني: فسخرنا قائلين، والإشارة إلى الموهوب وقوله:{فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يجوز في الفاء أن تكون جزائية وبغير حساب إمّا متعلق بامنن أو أمسك ويجوز أن يكون حالاً من فاعلها والتقدير فامنن أو أمسك حال كونك غير محاسب عليه ويجوز أن يكون بغير حساب حالاً من {عَطَاؤُنَا} والعامل ما دل عليه هذا من معنى الإشارة كقوله: {َهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} وعلى هذا فالفاء داخلة على جملة اعتراضية كقوله:

أن سوف يأتي كل ما قدر

ص: 254

واعلم - فعلم المرء ينفعه -

وقوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} جملة حالية من فاعل سخرنا وقوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} بالنصب عطف على زلفى وبالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف تقديره له.

المعنى الإجمالي: ولقد بلونا هذا العبد الصالح واختبرناه وطرحنا على سريره شق ولد ثم رجع إلى ربه قال: سيدي ومالكي ومصلح شأني استر علي وامنحني سلطاناً لا يكون لشخص سواي إنك أنت كثير العطاء فذلّلنا له الريح تسير بسبب أمره لها سرعة لينة طيبة إلى أي جهة قصدها وهذا عند حبه للينها أما إذا أرادها شديدة عاصفة فإنها تكون كذلك كما قال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} وسخرنا له مردة الجنّ يصرف بعضهم في الأعمال الشاقة من البناء والغوص لاستخراج اللآلئ وآخرين يقيدهم بالقيود وقلنا هذا الموهوب منحة لك منّا وإذا كان كذلك فتصرف فيه بلا حساب عليك لقد سخرنا له هذا في الدنيا والحال أن له عندنا لدرجة عالية وجميل مرجع.

ما ترشد إليه الآيات: 1- فتنة سليمان 2- أن إلقاء الجسد على كرسيه كان من الفتنة 3- رجوعه إلى ربه 4- أن طلب التسلط للغرض الشريف جائز 5- لم يكن طلب سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد سواء من باب الأثرة الممقوتة والأنانية 6- إجابة دعوة سليمان عليه السلام 7- تسخير الريح بهذه الصفة مخصوص لسليمان 8- وأن الريح كانت منوعة رخاء وعاصفة 9- تسخير الشياطين لسليمان 10- وهذه التسخير من خصوصياته 11- إطلاق يده 12- درجته العالية في الدنيا والآخرة.

ص: 255

من أعلام المحدثين

أبو زرعة الرازي (200-264 هـ)

بقلم الشيخ: عبد المحسن العباد

المدرس في كلية الشريعة بالجامعة

نسبه وكنيته ونسبته:

هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ.

كنيته أبو زرعة وقد اشتهر بهذه الكنية.

يقال له الرازي نسبة إلى الري بزيادة زاي وهي بلده ويقال له القرشي المخزومي نسبة إلى قبيلة نسبة ولاء وهو عياش بياء مثناه من تحت وآخره شين معجمة ابن مطرّف القرشي هكذا في المنهج الأحمد وتاريخ بغداد وتهذيب التهذيب أما كتاب الجمع بين رجال الصحيحين وطبقات الحنابلة ففيهما عباس بموحدة ومهملة.

ممن روى عنهم:

رحل أبو زرعة إلى الحرمين والعراق والشام والجزيرة وخراسان ومصر وروى عن كثيرين فروى عن أبي عاصم وأبي نعيم وقبيصة بن عقبة ومسلم بن إبراهيم وأبي الوليد الطيالسي وأحمد بن يونس وخلاد بن يحيى والقعنبي ومحمد بن سعيد بن سابق وأبي ثابت المدني وأبي سلمة التبوذكي والحكم بن موسى ويحيى بن عبد الله بن بكير وخلق كثير سواهم.

ممن رووا عنه:

روى عنه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وإسحاق بن موسى الأنصاري وحرملة بن يحيى والربيع بن سليمان ومحمد بن حميد الرازي وعمرو بن علي ويونس بن عبد الأعلى وغيرهم.

من خرج حديثه:

خرج حديثه مسلم في صحيحه والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم كل منهم روى عنه مباشرة والذي أخرجه مسلم في صحيحه عنه حديث واحد أخرجه في أول كتاب الرقاق وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك".

ص: 256

وقال النووي في شرحه (17-54) وهذا الحديث رواه مسلم عن أبي زرعة الرازي أحد حفاظ الإسلام وأكثرهم حفظاً ولم يروي مسلم في صحيحه عنه غير هذا الحديث وهو من أقران مسلم توفي بعد مسلم بثلاث سنين سنة أربع وستين ومائتين انتهى وقد أشار الخزرجي في الخلاصة إليه فقال: وعنه مسلم فرد حديث ونقل الحافظ بن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب أن مسلماً روى عنه حديثين.

ثناء الأئمة عليه:

لأبي زرعة الرازي من ثناء الأئمة حظ وافر ونصيب كبير فقد ذكروه بخير وأثنوا عليه في دينه وورعه وقوة حفظه وسعة علمه قال فيه النسائي:"ثقة "وقال أبو حاتم:"إمام "وقال الخطيب:"كان إماماً رزيناً حافظاً مكثراً صادقاً "وقال عبد الله بن أحمد:"لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي وكان كثير المذاكرة له فسمعت أبي يقول يوماً: ما صليت غير الفرض استأثرت بمذاكرة أبي زرعة "وقال عبد الله بن أحمد:"سمعت أبي يقول ما جاوز النهر أفقه من إسحاق ولا أحفظ من أبي زرعة "وقال صالح بن محمد عن أبي زرعة:" أنا أحفظ عشرة آلاف حديث في القراءات "وقال أيضاً:"سمعت أبا زرعة يقول: كتبت عن إبراهيم بن موسى الرازي مائة ألف حديث وعن أبي بكر بن أبي شيبة مائة ألف حديث "وقال أبو يعلى الموصلي:" ما سمعت يذكر أحد في الحفظ إلاّ كان اسمه أكبر من رؤيته إلاّ أبا زرعة فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه "وقال أبو جعفر التستري:"سمعت أبا زرعة يقول: ما سمعت أذني شيئاً من العلم إلاّ وعا قلبي وإن كنت لأمشي في السوق بغداد فأسمع من الغرف صوت المغنيات فأضع أصبعي في أذني مخافة أن يعيه قلبي "وقال أبو حاتم:"حدثني أبو زرعة وما خلف بعده مثله علماً وفقهاً وفهماً وصيانة وصدقاً ولا أعلم في المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله "قال:"وإذا رأيت الرازي ينتقص أبا زرعة فاعلم أنه مبتدع " وروى البيهقي عن ابن وارة قال:"كنا عند إسحاق بنيسابور فقال رجل: سمعت أحمد يقول صح من الحديث سبعمائة ألف

ص: 257

حديث وكسر وهذا الفتى يعني أبا زرعة قد حفظ ستمائة ألف حديث "وقال محمد ابن جعفر بن حمكويه:"قال أبو زرعة: أحفظ ستمائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان قل هو الله أحد "وقال ابن حبان في الثقات:"كان أحد أئمة الدنيا في الحديث مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ والمذاكرة وترك الدنيا وما فيه الناس"وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ:"الإمام حافظ العصر"وقال:"كان من أفراد الدهر حفظاً وذكاء ًوديناً وإخلاصاً وعلماً وعملاً "وقال أبو بكر بن أبي شيبة:"ما رأيت أحفظ من أبي زرعة "وقال علي بن الجنيد:"ما رأيت أعلم من أبي زرعة "وقال يونس بن عبد الأعلى:"ما رأيت أكثر تواضعاً من أبي زرعة "وقال بن كثير في البداية والنهاية:"أحد الحفاظ المشهورين "قيل أنه كان يحفظ سبعمائة ألف حديث وكان فقيهاً ورعاً زاهداً عابداً متواضعاً خاشعاً أثنى عليه أهل زمانه وشهدوا له بالتقدم على أقرانه وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة:"كان من كبار الحفاظ وسادات أهل التقوى ". وقال ابن حجر في التقريب:"إمام حافظ ثقة مشهور "، وروي عن أبي زرعة "أن رجلاً استفتاه أنه حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث فقال: تمسك بزوجتك " وقال النووي في شرح مسلم:"أحد حفاظ الإسلام وأكثرهم حفظاً ".

آثاره:

لأبي زرعة الرازي مسند ذكره الكتاني في الرسالة المستطرفة ص64 ويوجد في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية كتاب: الضعفاء والكذابون والمتروكون من أصحاب الحديث عن أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين مما سألهم عنه وجمعه وألفه أبو عثمان سعيد بن عمرو بن عمار البرذعي الحافظ المتوفى سنة 292 وهو برقم 719 قسم التاريخ.

وفاته:

ص: 258

توفي أبو زرعة رحمه الله بالري سنة أربع وستين ومائتين في يوم الإثنين آخر يوم من السنة أرخ وفاته في هذه السنة الحافظ في التقريب والذهبي في العبر وابن كثير في البداية والنهاية وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة ولم أقف على ما يخالف هذا القول إلاّ قولاً حكاه الحافظ في تهذيب التهذيب عن أبي حاتم أنه توفي سنة ثمان وستين أي ومائتين أما سنة ولادته فقد سئل عنها فقال:"ولدت سنة مائتين"نقل ذلك ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة وذكر بن كثير في البداية والنهاية قولاً آخر في سنة ولادته وأنها في سنة تسعين ومائة ولا شك أن الأرجح في ذلك ما ذكره هو عن نفسه ومدة عمره على هذا أربع وستون سنة رحمه الله.

وروي أنه عند وفاته اجتمع عنده عدد من العلماء الرازيين فأرادوا تلقينه فاستحيوا منه فرأوا أن يتذاكروا في حديث التلقين فشرع أحدهم بإسناد حديث ثم وقف أثناءه فقال أبو زرعة رحمه الله حدثنا بندار وساق إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلاّ الله" وتوفي رحمه الله.

ممن ترجم له:

1-

ترجم له ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل 328.

2-

والذهبي في العبر 2-28 وتذكرة الحفاظ 2-136.

3-

وابن حجر في تهذيب التهذيب 7-30 وفي التقريب 1-536.

4-

والخزرجي في الخلاصة 213.

5-

وابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين 306.

6-

والخطيب في تاريخ بغداد 10- 326.

7-

وابن كثير في البداية والنهاية 11- 37.

8-

والعليمي في المنهج الأحمد 1- 148.

9-

وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1- 199.

10-

وابن عماد في شذرات الذهب 2- 148.

11-

وابن الجوزي في صفة الصفوة 4- 69.

12-

وكحالة في معجم المؤلفين 6- 239.

ص: 259

من أدب الإسلام

بقلم الدكتور: طه محمد الزيني

المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وأن يخطب الرجل على خطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له" رواه البخاري وغيره.

حرص الإسلام على أن سود الوئام ويعم الصفاء بين المسلمين، فدعا إلى ما يجلبهما، وحذر مما يسبب البغضاء، ويؤدي إلى التنابز والشحناء حتى تكون الأمة الإسلامية يداً واحدة على قلب رجل واحد، وجسداً واحداً يتألم كل جزء فيه لألم سواه، فأوجب التراحم والتعاطف والتساند والتعاون بين المسلمين، وذم الأنانية وحذر منها ووصف المتصف بها بانعدام إيمانه أو ينقص إيمانه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وقال أيضاً: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقال أيضاً: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" والحديث الذي معنا ينهى عن مظهرين كبيرين من أسباب التباغض والشحناء بين المسلمين.

أما الأول: فهو أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا شك أن مسألة البيع والشراء من أسباب تحصيل الرزق والسعي إلى إدراك لقمة العيش التي لا يستطيع الإنسان الحياة بدونها فالبيع على البيع، والشراء على الشراء، محاربة في الرزق ووقوف في سبيل العيش، وهذا أشد ما يؤثر في النفوس ويغيظها ويكدرها وقد يجود الإنسان ببذل حياته رخيصة في سبيل رزقه، فانقطاع الرزق يؤدي إلى الموت جوعاً، والموت في سبيل المحافظة على الرزق أكرم من الموت جوعاً. ولبيع الرجل على بيع أخيه صورتان:

ص: 260

الأولى: أن يشتري رجل من أخيه شيئاً على أن له الخيار في رده إذا لم يعجبه أو ظهر فيه عيب، فيأتي رجل آخر يعرض على المشتري مثل هذا الشيء بثمن أقل، فيرد المبيع لبائعه، ويأخذ ممن عرض عليه بالسعر الأقل.

الثانية: وهي أبشع من الأولى، أن يشتري رجل من أخيه شيئاً وهما في المجلس لم يتفرقا، فيأتي رجل آخر فيعرض على المشتري مثل المبيع بثمن أقل فيرد المشتري المبيع ويأخذ ممن عرض عليه بالثمن الأقل، أو يضطر البائع الأول إلى إنقاص الثمن بقدر ما عرض الرجل الثالث فيضار البائع الأول بذلك، وقد يؤدي هذا إلى العناد بين البائعين فيظل كل منهما ينقص من ثمن مبيعه حتى يبيع أحدهما بثمن فيه خسارة محققة. ومن أمثلة ذلك ما نراه في الأسواق من البائعين المتجاورين، ينادي أحد الباعة على سلعة بثمن فينادي جاره على هذه السلعة نفسها بثمن أقل، فيغتاظ الأول فينقص من ثمن سلعته، ويتبع الأخر في النقص وهكذا إلى أن يرحل أحدهما أو يتشاجرا شجاراً قد يؤدي في بغض الأحيان إلى الموت أو الإصابة بالعاهات، وهذا حادث في كثير من بلاد الإسلام.

ص: 261

ومثل البيع على البيع الشراء على الشراء.. والصورتان اللتان في البيع تأتيان أيضاً في الشراء على الشراء بأن يذهب رجل إلى بائع في مدة الخيار ويقول له: إن الثمن الذي بعت به رخيص وأنا أشتري منك بأكثر أو عندي مشتر بأكثر، أو يقف رجل يرقب بيع رجلين فيعرض على البائع أكثر مما يعرضه المشتري أو يقول له عندي مشتر بأكثر فيمتنع البائع عن البيع، وقد يؤدي هذا إلى العناد أيضاً بين المشتريين، فيظل كل منهما يزيد في الثمن حتى يتجاوز ثمنه الأصلي، إلى أن يكف أحدهما عن الزيادة أو يتشاجرا شجاراً تكون آخرته جريمة وقد عرف الشرع الحكيم ما يترتب على بيع الرجل على بيع أخيه وشرائه على شرائه فنهى عن ذلك، وحث المسلمين على حب بعضهم لبعض، وبعدهم عما يسبب الشحناء والبغضاء. وحكم البيع مع ذلك أنه صحيح، ولكن يحرم على من باع على البيع أو اشترى على الشراء ويكفيه أنه باع رضى الله بثمن بخس.

أما الثاني: فهو أن يخطب الرجل على خطبة أخيه قبل أن يكف الخاطب الأول نظره عن خطبته، أو يسمح لأخيه ويتنازل له عنها، ومسألة الخطبة والزواج تأتي في الدرجة الثانية بعد تحصيل الرزق، لأن متعة الرجل وسعادته في زوجته، فإذا اختارها كما يحب وتجمعت فيها الصفات التي تحبها نفسه ويهيئها له خياله كان سعيداً في حياته مسروراً في صباحه ومسائه، مطمئناً في غدوه ورواحه، ولما كانت مسألة الخطبة والزواج فوق أنها سبب السعادة والاطمئنان تمس ناحية حساسة من الإنسان، إذ يعتقد إذا رفض طلبه في خطبة أو زواج أنه طعن في رجولته، وأنه ليس له من القيمة ما يسمح لولي الزوجة بإجابة رغبته، ولا سيما إذا أجيبت رغبة غيره، فإن ذلك يحز في نفسه وقد يرى أنه ليس أهلاً للحياة فيقدم على الانتحار، أو يقتل من اعتدى عليه في رجولته، وكدر عليه صفوة عيشه أو يتلف زرعه أو ماشيته، أو يسلط اللصوص على ماله، إلى غير ذلك من الجرائم التي فشت هذه الأيام.

ص: 262

وصور الخطبة على الخطبة كثيرة: فمن ذلك أن يذهب رجل يطلب يد فتاة، فيأتي آخر أغنى منه أو أرفع منه شأناً ومنزلة في المجتمع بسبب علم أو نسب أو قرابة لحاكم فيطلب يدها قبل أن يكف الأول، فيميل أهل الفتاة إلى الثاني ويرفضون الأول.

ومنها أن يتقدم رجل إلى أسرة فتاة وترضى به زوجاً لفتاتها وربما يدفع شيئاً من المال (شبكة) ويقدر المهر، فيأتي رجل مثل الخاطب أو أقل منه مالاً ونسباً وعلماً وغير ذلك، فيعرض (شبكة) أغلى ومهراً أكثر وقد تكون أسرة الفتاة تؤثر المادة أو واقعة في أزمة مالية، فتفضل الخطيب الأخير، وليس ذلك كل ما يحدث بل قد يكتب العقد ويختلط الرجل بالفتاة وبأسرتها فيأتي بعد ذلك خاطب جديد أفضل من الأول، فتحتال الفتاة وأسرتها في مضايقة الزوج حتى يطلقها ويظفر بها الخاطب الأفضل، وهذا مما يغرس العداوة في النفوس.

والحكم الشرعي أن النكاح ينعقد للثاني، ولكن يحرم عليه ويعاقب بفعله في الآخرة، متى كان عالماً بخطبة الأول ورضا الأسرة به، أما إذا كان لم يعلم أو علم أنه خطب ولكنه رد ولم تقبله الأسرة فلا إثم عليه حينئذ، هذا هو رأي جماعة الفقهاء وهو المعول عليه، ولكن الظاهرية قالوا: يفسخ نكاح الثاني ولا يبرم أخذاً بظاهر الحديث.

بقيت مسألة تتعلق بهذا البحث هي: هل النهي في الحديث عام أو خاص؟ بمعنى هل تحرم خطبة كل رجل على خطبة كل رجل، فتحرم خطبة المؤمن على خطبة البر والفاجر، ولا تحرم إلاّ خطبة الرجل على خطبة أخيه الصالح؟.

اختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم: النهي عام، وقال آخرون: النهي خاص، وحجة المخصصين أن الحديث يقول:"على خطبة أخيه" والأخوة بين المؤمن الصالح والفاسق منحلة عراها أو تكاد، فلا إثم في خطبة المؤمن على خطبة الكافر والفاسق.

ص: 263

وحجة المعممين أن الأخوة موجودة بين الجميع، فهما إخوان في الإنسانية. وفي الدين والفسق لا يمنع الإسلام، والذي تقتضيه سماحة الإسلام ويتمشى مع الغرض من تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم عموم النهي، لأن الخطبة على الخطبة - مهما كانت- مسببة للبغضاء والنفور بين الناس، وفيها من قلة الحياء وعدم الكرامة ما يأباه الإسلام ويحث على منعه، نسأل الله أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه.

ص: 264

رَسَائِل لمْ يَحمِلهَا البَريْد

بقلم الشيخ: عبد الرؤوف اللبدي

المدرس في كلية الشريعة بالجامعة

جاري الفأر:

لقد فاجأتني رسالتك، وما كان يدور لي بخلد أن مخلوقاً ضعيفاً صغيراً مثلك يستطيع ذلك البيان، وأغلب الظن أن قد غلب على ظنك أني قط غر صغير، يصدق ما يقال، ويخدع بما يسمع، ويستهويه زخرف القول، فكتبت ما كتبت، ثم جلوته على في أبهى حلة.

حقاً، أيها الفأر المجاور، أن كادت رسالتك لترديني، وتخرجني من يقيني، قرأتها أول مرة، فظننت أنها دعوة حق، ومقالة صدق، وأخذت أردد ما قلت:"ما أطيبها دعوة، وما أمتها حياة! وهل هناك حياة أروع وأمتع من حياة السلم والسكينة، والأمن والطمأنينة، مع راحة وهناء، وطعام دون عناء؟ علام هذا الخصام بين مخلوقات الله؟ لو تراضى الخلق بالمساواة، وأخذ كل مخلوق ما كفاه، لعاشوا جميعاً عيشة هادئة وادعة، لا قلق فيها ولا اضطراب، ولا دماء ولا حراب".

ولكنني من بعد لأي أفقت من هذه الأحلام الجميلة، والرؤى الخادعة، وأخذت أغدو ببصري وأروح، أغدو به بين جسمي وجسمك، وأروح به بين طباعي وطباعك، فتلاشى ما كان على بصري من غشاوة، وتزيل ما ران على قلبي من باطل، وتبين لي أنني كنت في ضلال بعيد.

لقد نظرت إليك، فرأيت فيك خلقاً صغيرا حقيراً جباناً تكثر الفساد في البيوت، وتفسد الطعام على الناس، يسير الخراب حيث سرت، وينزل الأذى حيث تنزل، فلا عجب أن تضيق بك الصدور والدور، وأن يكيد لك الناس، فينصبوا المصايد، ويبثوا السموم، ثم تلقى على أيديهم عذاب الحريق.

لقد نظرت إلى نفسي، فإذا بي جثة ضخمة تملأ العيون، وقلب جريء لا يخشى المنون، وسلاح ماضي الشفرتين ستذوق طعمه بعد حين، هذا إلى ما أتمتع به من عطف بالغ على الأبواب، ووداد صادق في البيوت، وسلامة من خبائث الأخلاق والأمراض.

ص: 265

فهل تراها منصفة بعد هذا أن يستوي خلق مثلي وخلق مثلك؟

هيهات هيهات أن يتراضى الخلق بالمساواة، وهم لم يخلقوا سواء، ولم يكونوا ذات يوم أكفّاء!!

مثل آخر أحب أن أسوقه إليك، وما أن بصاحب أمثال أضربها، لولا أمثال جاءت بها رسالتك، ونهج في البيان سبقتني إليه:

انظر إلى صاحبة هذه الدار، كم حاولت أن تعلم هذه الخادم أشياء كثيرة تكسبها حذقاً في اليدين، وحسناً في التدبير، وبصراً في الأمور، وذوقاً في التنسيق والتركيب، ولكن الخادم بقيت حيث هي، لا تزيد على أن تخم البيت، وتمسح البلاط، وتغسل آنية المطبخ.

فهل تراها منصفة بعد هذا أن تعيش هذه وتلك على حد سواء.

ومالي أذهب بعيداً هنا وهناك لم لا أضرب الأمثال فيك وفي قومك؟! هل ترضى أنت أيها الفأر أن تعيش كما يعيش سائر الفيران في هذا البيت، وأنت الزعيم ذو الحول والطول؟! أليس لك امتياز عليهم في الذكاء والرأي والقوة والقيادة وسياسة الأمور، أفلا تكون جديراً بعد هذا بحق امتياز في المبيت والمأكل والمشرب، وفضل نفوذ في الأمر والنهي.

كيف تزعم الإمتيازات قد ولت مدبرة ولم تعقب، وها أنت ذا تميس في حللها بكرة وعشياً، وتتذوق حلاوتها على دروب السلب والنهب؟!

أما حياة السلم والسكينة، والأمن والطمأنينة، تلك التي زعمتها في رسالتك، فحياة ظاهرها الرحمة والبر، وباطنها الذل والصغار، أي حياة هذه التي تقوم على لقيمات إحسان ألبس بها ثياب الضعف والخنوع، كيف انجحر في زاوية من زوايا بيت وهو ملعب الصبا ومسرح الحياة؟! أتظنني أستطيع التظاهر بالعمى وأنا أبصرك تصول وتجول في أرجاء البيت تسلب وتنهب؟! ما أعجب شأني حين أزعم العجز وأنا القادر على أن أمزق جموعكم شر ممزق،وأن أشرد بكم في كل جحر.

ماذا أصنع بهذه المخالب التي تفري اللحم، وهذه الأنياب التي تحطم العظم، وهذه العظلات المفتولة التي خلقت للضرب والوثب والقتال؟!

ص: 266

لقد وهب الله لي أسباب القوة الضاربة، فكيف تريدني أن أعيش ضعيفاً؟! ووهب لي أسباب العزة والقعساء، فكيف تدعوني إلى الضعة والذل؟! ووهب لي أسباب النصر العزيز، فكيف أكتب على نفسي الهزيمة؟!

لقد خلقت أنت عطلاً من كل أولئك،ولكنك بالدهاء والمكيدة تريد أن تسلبينها جميعاً.

ما أعجبها من حياة حين أكون أنا من القاعدين، وتكون أنت الكاسب، وأعيش أنا مع العفاة المعترين، وتكون أنت السيد المطاع.

لقد أبعدت في الضلال أيها الفأر حين ظننت أن والدتي لو استقبلت من أمرها ما استدبرت لأجابت هذا الذي تدعوني إليه، لا أزال أذكر كلماتها الأخيرة، وقد أحاط بها الموت، وعصفت بها رياح المنية:"أي بني، إنه ليحزنني أن أموت تاركاً ورائي أعداء كثيرين، ذوي دهاء ومكيدة، وإني لأخشى عليك أن تصبح في هذا البيت غريباً ضعيفاً عاجزاً، تهزم وفيك أسباب القوة، وتذل وطريق العزة أمام عينيك واضح مستقيم، انهج نهج آبائك الأولين تعز وتبر، والاف"وألف نفسي! لم يمهلها الموت حتى تتم ما تريد، ولكنني فهمت الفهم كله ما الذي كانت تعني، وأي شيء كانت تود أن تقول.

كانت تود أن تقول إذا لم تحافظ على قطيتك، ولم تعمل بما تؤمن به القطط، ضعت في عالم الحيوان، وحقرتك جميع الخلائق، وخسرت ما ورثته عن أجدادك الأولين من مآثر عظيمة، ومغانم كثيرة، وحسن أحدوثة لا تزال تتناقلها الألسنة، ويرويها التاريخ.

ص: 267

كانت سذاجة بلهاء من آبائي الأدنين ألاّ يتدبروا شأن آبائك وأجدادك حين لجأوا إلى هذا المكان وهم شرذمة قليلون، لا حول لهم ولا طول، لقد استهانوا بأمرهم وحقروا شأنهم، وما دروا أن القطرات المتفرقة تصبح سيلاً جارفاً، وأن الشرارة الصغيرة تسمى حريقاً مخيفاً، لقد عاشوا لأنفسهم، وشغلتهم اللذة العابرة والحياة الدنيا عن الرأي الجميع والمصير المشترك، فقضوا حياتهم يتنازعون بينهم، وأيّهم أعز مكاناً وأيّهم أوسع نفوذاً، لقد وجدوا آباؤك وأجدادك الفرصة المواتية في هذا النزاع الطويل والخصام الوبيل، فتكاثروا في ظله واتسعت لهم الأرض، فأوسعوها جحولاً وإنفاقاً، وها أنتم أولاء تتحدثون عن السلم والحرب حديث الأبطال، وأنتم تعلمون أن فيكم ضعفاً، ولا طاقة لكم على القتال، ولكنكم رأيتمونا - معاشر القطط - أشتاتاً لا يجمعنا قلب ولا طريق، فهان أمرنا عليكم وعلى غيركم، ولم نعد في هذا العالم شيئاً مذكوراً.

هبني صالحتك على ما تريد، وتظاهرت لأصحاب البيت بالأمانة والإخلاص، فتربصت بكم خداعاً تربص الحامي الأمين، وطاردتكم كذاباً مطاردة الحارس اليقظ، ثم طرحتم أنتم إلى من يموت فيكم موت شيخوخة أو مرض، فأكلته على مرأى من أصحاب البيت، ولطخت فمي بدمه على مشهد منهم، ثم ظلت خيانتي وخستي وعاري أشياء خافية لا يعلمها الناس، هبني صالحتك على هذا الذي تهوى، ومثلت لك هذا الدور الخادع الذي تريد، وتقبلت أنت وقومك في أعطاف النعيم، فأكلتم من هذا البيت ما طاب، وشربتم فيه ما عذب، ثم تطاول الأمد على ذلك حتى مسني الكبر، ووطئتني الشيخوخة، وأمسيت لا أقدر على العراك القوى والحراك الوحي، أتراك إذا صرت إلى مثل هذه الشيخوخة، أو إلى ما هو أسوأ منها من مرض مقيم، أو عمى مقعد، ولم يعد هناك مصالح مشتركة، ولا منافع متبادلة، أتراك واقفاً مني موقف الشامت الزاري، والضعيف الحاقد، وذي الوتر سنحت له فرصة الدهر فلم يتركها تفلت.

ص: 268

كيف أطمئن إلى وفائك بما تعد، وأنى لي الثقة بما تدعي وتقول، وأنت الذي تريد أن تقوم العلاقات فيما بيننا على المصالح المشتركة، والمنافع المتبادلة، تلك التي لا ثبات لها ولا استقرار، ولا تكافؤ فيها ولا توازن.

لو ممن يؤمنون بالدين، ويتقون يوماً ترجعون فيه إلى الله، لكان من الممكن أن أجد في كلامك ريح الصدق، وأن أذوق في وعدك طعم الوفاء، ولكنك تجحد الأديان وتنعاها، ولا ترى في الخلق صلاحاً وصالحين، ولا ذوي فضل مختارين، وترى المروءة والوفاء والصدق والأمانة.. أشياء قد ولت مدبرة ولم يبق منها إلاّ أطلال دوارس.

إن أولئك الذين يعيشون في أنفاق خبيئة تحت الأرض، ولا يخرجون منها إلاّ في غسق الليل، لا يستطيعون أن يروا ضوء النهار، ولا أن يحسوا دفء الشمس، ولا أن يتبينوا كم لها فوق هذه الأرض من فضل على الناس، فلا عجب أن تكون أمانيك وأماني أمثالك من القنافذ والمناجذ والخفافيش أن تمضي هذه الحياة الدنيا عبثاً، وألاّ تكون هناك حياة أخرى كل نفس فيها بما كسبت رهينة.

تقول إني لك جار، فإذا كان هناك جوار حقاً، فمن حق هذا الجوار أن أقول لك في صراحة وصدق، خير لك أن ترحل عن هذه الدار إلى دار أخرى، وأن تقيم في بيت غير هذا البيت، أمّا في هذا الدار، فلن يكون لك فيها أمن ولا استقرار، ستقضي ليلك مختلس الرقاد، وستأكل خبزك مأدوماً بالخوف، وأمّا شربك فحسو العصافير المروعة.

كتبت تهددني بقدرتك على الإفساد، وكثرة القبيل والأولاد، ذاك سلاح يخشاه الضعفاء، ويفرق له الرعاديد، أولئك الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم عن سماع الحق، ويطبقون شفاههم بأيديهم خشية قول الصدق، ويثنيهم حب السلامة عن الجهاد في سبيل ما يؤمنون به.

ص: 269

وأنا لست من هؤلاء، ولن أكون منهم، وإني لمناصبك العداء جهاراً، ومتربص بك المنايا ليلاً ونهاراً، ولسوف أحلك دار البوار عما قريب والآن، وفي نهاية رسالتي هذه إليك أود أن أقول لك كلمة هادئة وادعة، ليس فيها وقد عواطف، ولا حميا شباب، لقد أفرغت على نفسي ذنوباً من ماء بارد قبل أن أخطها إليك:

عسير علي أيها الفأر أن أخرج على جبلتي، وأن أتكلف ما ليس في طبيعتي، وعسير عليك أن تكون محسناً وفي طبعك الإساءة والغدر، وأن تكون مسالماً وقد فطرت على الأذى والمكر، ولن يخدعني لسانك الرطب، ولا كلامك العذب، ولا ما تضربه من الأمثال.

دعنا أيها الفأر نعيش على الفطرة التي فطرنا الله عليها فأظل أنا قطاً، وتظل أنت فأراً، لا داعي إلى أن نتخذ المعاهدات والاتفاقيات، نوقعها ثم لا نحفظ لها وداً، ولا نقيم لها وزناً، ولا نتكلف لها وفاءً..

تلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تحويلاً ولا تبديلاً.

عدوك المجاور

القط

ص: 270

ربِّ عفوًا

للشاعر السوري: مصطفى عكرمة

مبعث المصطفى على الدهر عيد

هرم الكون وهو غض جديد

هو أسمى من أن يقاس، فمن

آثاره الغر في الزمان الخلود

إنه الفجر قد أظل فيا أر

ـض اطمئني، واستيقظوا يا رقود

طويت صفحة الشقاء عن الخلـ

ـق، وفكت عن العقول القيود

فإذا شملنا الشتيت كيان

ليس فيه إلاّ الحليم الرشيد

ود كل لو يفتدي غيره بالر

ـوح. . فالروح في الغذاء زهيد

حارت النائبات فيهم فما تد

ـري إذا ما ما دهت من المقصود

الأولى آثروا الجميع على النفس

- مع البؤس - حقهم أن يسودوا

مسحة من يد الرسول عليهم

فإذا العرب شعلة ووقود

حملوا بعدها هموم بني الدنيا

فساد الهدي.. وعم الجود

ما لغير الهدى وجود بني قومي..

وجل الهدى، وجل الوجود

روض الله في نفوسهم الكبر،

وأوحى إليهم: أن سودوا

بلّغوا هذه الرسالة للدنيا

وعن شرع أحمد لا تحيدوا

وعلت صيحة الجهاد فيا بيد

أفيقي. . وهللي يا نجود

ولد العرب فوق ظهر المذاكي

واستقرت في كف قومي البنود

كلما شاب في المعارك كهل

شب في الساح للجهاد وليد

أعشب الرمل حين مر عليه

جحفل الفتح، وانتشت منه يد

حيثما شئت من هدانا منار

أينما سرت من ندانا شهود

فاستنارت من هدى أمتنا الدنيا

وتاهت، وأورق الجلمود

ما علمنا قبل الرسول رياضاً

بلظى البيد قلبها معمود

حبة الرمل في صحارى بلادي

أصبت الثغر، واشتهاها الجيد

كيف لا؟! والرحال عطرها الفتح

وعطر الفتوح عطر فريد

فإذا مجدهم عزاء الليلي

وإذا هم على الشفاه نشيد

ما تسامى الإنسان في الأرض إلاّ

وله من سنا الرسول المزيد

المبادى. . _ إلاّ شريعته

السمحة _ فيها الضياء والتعقيد

ص: 271

قد يحيط الإنسان بالكون علماً

وهو عن نفسه جهول نعيد

كيف يقوى على اختراع الهدايات

جهول بقدره محدود:

مجد قومي إضاعة اليوم بعد

عن سنا هدى أحمد وجحود

فإذا الأهل فرقة وعداد

وإذا القوم ظالم وحسود

قد أضعنا ذواتنا حين ضاع

الشرع فينا

فعمنا التنكيد

أمم الأرض قد تنادت علينا

وحدت بينها وشدت حقود

قد غزتنا مذاهب ودعاوات

ضلال يشيب منها الوليد

عبدوها يا رب ظلماً وجهلاً

دعونا. . فكان منا الصمود

عيّرونا بأننا لك يا رب

دعاة. . ووجهك المقصود

فعلى الجفن والعيون رقيب

وعلى النطق واللسان قيود

وإذا استعذب النعيب توارى

خجلاً خلف كبره الغريد

لهف نفسي!! أفي ترى قدس قومي

يزدهي اليوم غاصبون يهود؟!

المناكيد تحت أرصفة الدهر،

أتعلوا لهم علينا بنود؟!

رب عفواً يكاد يخنقني الدمع

ودمعي -كما علمت - عنيد

ما دموعي يا رب إلاّ دعاء

علك اليوم بالصلاح تجود

حز في النفس أن ترانا حيارى

أو يرضيك تيهنا أو تريد!

الأماني كل ما يملك العرب

وأولى بالأمنيات قعيد

يصبغ الوهم بالفتون أمانينا

ويلهوا بنا الخيال الشرود

اللذاذات همنا وهوانا

ومني النفس ربنا المعبود

ربنا ضاعت العقيدة فينا

فاحتوانا الضياع والتشريد

يلتقي الناس في الشدائد

وازدادت خلافاتنا.. وعز الرشيد

العليم العليم فينا عليم

كيف يجتاح صحبه ويصيد

وعلى أهله وكل ضعيف

القوي الشديد فينا شديد

أوجع الداء جهلك الداء حتى

لست تدري الأذى ولا ما يفيد

قد جهلنا حتى العدو من الصحب

فسيان ناصح ولدود

وبذل نرجو الدواء من الداء

فيأتي لكن! ! كما لا نريد

سبقتنا إلى الربيع السنونو

واحتمى خلف والديه الوليد

وأضعنا الربيع والأب والأم

وركناً هو الركين الوطيد

ص: 272

يا لبؤس الأحفاد منا إذا ما

ذكر الأهل والجدود حفيد

شغل الناس بالحقائق والعلم

فسادوا وهمنا التقليد

كل يوم لهم جديد مفيد

وقصارى جهودنا الترديد

الوعود الكبار عدتنا الكبرى

وخزي لدى النفير الوعود

الوغى حولنا جحيم تلظى

ومناناً على الجحيم جليد

وإذا مل نصرة الحق سيف

فهو في صدر ربه مغمور

أيظل الأعراب شتى حيارى؟!

بأسهم بينهم رهيب شديد

تحصد الحرب كل يوم مئات

من بينهم

وللعدو الحصي د

اللواء المهزوز من قبضة الظلم

على الأهل..هزه رعديد

وإذا السيف لم يجرد لرفع الظلم

يوماً أذله التجريد

رب ما زال في الأعاريب خير

رب منك الهدى، ومنك الجود

رب فيا الوجود كان سعيداً

أو يرضيك أنه منكود؟!

ربنا رددنا إليك ومر أن

تمسح الذل والنحوس سعود

ربنا أو اجعل الخلاص قريباً

فلقد طال في الكهوف الرفود

ص: 273

بالإسلام تَسْعَد الأمَّة وتنهَض الدَّوْلة

بقلم: الشيخ محمود عبد الوهاب فايد

المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

الإسلام دين كامل فيه لكل مسالة حكم، ولكل مشكلة حل- وهو- كما يعلم الذين درسوه من مصادره المعتمدة- لا يعيش بمعزل عن الفرد، ولا في عزلة عن الجماعة والدولة بل يعيش معهم جميعاً في دنيا الواقع، يلقي عليهم أشعته الوهاجة فيهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويسمو بهم إلى حياة أفضل في ظلال قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [1] .

للإسلام نظام خاص في السياسة والحكم والاجتماع والاقتصاد لا يمكن أن يندرج تحت عنوان من العناوين البراقة المعاصرة التي انخدع بها كثير من الناس ثم ظهر زيفها وخبثها وقصورها عند التطبيق في معالجة شؤون الحياة.

ص: 274

وكيف يندرج تحتها وهي عنوان عن فكر إنساني قاصر مشوب بالأهواء قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [2] وهو وحي سماوي، وشعاع رباني وصبغة إلهية قال تعالى:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [3] لقد أراد الله أن يكون الإسلام خاتم الأديان، وأراد أن يكون دين البشر جميعاً في كل مكان وزمان، ولهذا أنزل كتابه، وتولى بنفسه حفظه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [4] وضمنه القواعد الكلية، وترك التفاصيل الجزئية ليساير ظروف البشرية، وفي القرآن ومذكرته التفسيرية النبوية نجد كل عناصر الخير، وأسباب السعادة، ومقومات الحياة، ووسائل القوة والعزة، فلم نعد في حاجة إلى أن نمد أيدينا، ونتسول المبادئ من الشرق أو من الغرب، ولقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [5] تمت النعمة، وكمل الدين، فلسنا من ناحية المبادئ في نقص نحتاج إلى استكماله من المخالفين.

إن من اللازم على كل دولة دينها الإسلام - حينما تطرح قضية على بساط البحث - أن تسترشد فيها بنوره وتهتدي بهديه، وتسير وفق تعاليمه وعند الاختلاف يجب أن يذعن أبناؤها لقوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [6] .

من اللازم على كل دولة إسلامية أن يتمسك أبناؤها بحبل الإسلام، ففيه- والحمد لله- ما يكفي ويغني، فيه ما يجلب الخير ويدفع الضر، ويحقق الهناءة والاستقرار والأمن، ولنتأمل هذه الأسس التي وضعها:

ص: 275

1-

الإسلام يعلي شأن الإنسان ويستخلفه في هذه الأرض، ويعمل على تحقيق الإنسانية الصحيحة الرشيدة في هذا العالم، وربطها بمصدر وجودها، فلا يسمح بأن يتعالى الإنسان حتى يصبح إلهاً طاغياً، ولا أن ينزل حتى يكون حيواناً سافلاً أو شخصاً مهيناً، ولا يقبل أن ينقطع المخلوق عن خالقه، ومصدر نعمته، بل يعمل على ربط الناس بعضهم ببعض على أساس من التعاون والتآلف والوفاء، ويعمل أيضاً على ربط الناس بخالقهم على أساس من الإخلاص والتقوى والصفاء، وفي مقابل هذا كتب الله لهم التمكين والعزة والأباء يقول تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [7] .

ويقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [8] .

ويقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [9] .

ويقول: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [10] .

ويقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} [11] .

ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [12] .

ويقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [13] .

ص: 276

دخل أحد الفاتحين العرب المسلمين على قائد جيش الفرس في قصره وبيده رمح يدق به الأرض وما فوقها من طنافس حريرية دون أن يبالي، وجرى بينهما حديث حاول قائد جيش الفرس أن يغري الفاتح العربي المسلم باللذات والنعيم، فكان جواب العربي المسلم:

"لقد جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

إن الإسلام كما فهمه أسلافنا، لا يرضى بالذلة، ولا يقبل الاستعلاء بغير حق، ولا يبيح الخضوع لمستبد أو طامع لا هدف له إلاّ الغصب والسلب وإهدار كرامة الإنسان وحقه في الحياة الهنيئة، ولقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وشرع الجهاد لهداية الناس وإشاعة الخير، وإقرار الحق ورفع الجور قال تعالى:

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [14] .

وقال: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً، وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً، الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [15] وسبيل الله هو سبيل الحق والخير والسلام وسبيل الطاغوت هو سبيل الباطل والشر والفساد والضلال والعدوان.

ص: 277

2-

ينظر الإسلام إلى المجتمع على أنه جسم واحد يتكون من أعضاء مختلفة الوظائف متفاوتة الرتب تحس كلها بإحساس واحد، وتتعاون كلها وإن اختلفت درجاتها وقدراتها على جلب المنافع، ودفع المضار.

نلمس هذا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أخرجه مسلم وأحمد عن النعمان بن بشير وهكذا يؤلف الإسلام من أبناء الأمة على اختلاف أوضاعهم ورتبهم ووظائفهم وأعمالهم وحدة متناسقة متكاملة متعاونة مؤتلفة يهتم كل فرد فيها بأداء واجبه نحو نفسه ونحو غيره، ولتحقيق هذا أوجب الله على القادرين أن يساعدوا العاجزين، وعلى الأغنياء أن يساعدوا المحتاجين، وعلى الأقوياء أن يؤازروا المستضعفين، وعلى الحكّام أن يسهروا على راحة المحكومين.

(أ) ونظرة الإسلام إلى المال نظرة سامية، ومعالجته للفقر معالجة دقيقة:

فالمال ملك لله كما قال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [16] .

ولكنه استخلفنا فيه وملكه لنا على أن نؤدي منه ما أوجبه علينا من حق خاص أو عام قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [17] وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [18] .

وحين يكون الإنسان سفيهاً يسلبه حق التصرف فيه، وحين يمتنع عن دفع الحقوق الخاصة أو العامة يجبر عليها بقوة السلطان والسلطان لا تبرأ ذمته إلاّ إذا سدت للفقير حاجته، ويسرت له مئونته وتحقق للدولة كل أسباب القوة والعزة.

ص: 278

وللسلطان أن يأخذ من مال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقرائهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلاّ بما يصنع أغنياؤهم ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً" رواه الطبراني في الأوسط والصغير، ولما قفل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزو ووقع بعضهم في ضرورة ملحة، وضائقة شديدة قال صلى الله عليه وسلم:"من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له "، قال أبو سعيد الخدري راوي الحديث:"فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"أخرجه مسلم.

ولأول مرة في التاريخ أعلنت الحرب ضد الأغنياء من أجل الفقراء وذلك في عهد أبي بكر حاكم المسلمين فقد قال حين امتنع بعض الأغنياء من دفع الزكاة: "والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها" أخرجه الستة. إن الإسلام وهو يطلب من الحكام والأغنياء أن يسدوا حاجة الفقراء لم ينس أن يعبد للفقراء سبيل الرزق ويحضه على سلوكه، ويفتح له باب العمل، ويشجعه على ولوجه قال تعالى:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [19] وقال: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [20] وقال صلى الله عليه وسلم: "من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له" أخرجه الطبراني.

ص: 279

بهذا وبغيره من مباديء الإسلام التي لا يمكن جمعها في مقال حارب الإسلام الفقر وعالج مشكلته علاجاً جذرياً فطرياً، فلم ينكر الملكية الفردية المشروعة بل احترمها وعاقب المعتدي عليها بغير حق، لم يجرد الناس من كسبهم وثمرة كدهم، ونتيجة عرقهم وجهدهم تجريداً يدفعهم إلى الإهمال ويحملهم على التفريط في حفظ الأموال، ويثنيهم على التجديد والابتكار، وعن المضي في سبيل الرقى والازدهار.

لم يفعل ذلك بل أباح لهم أن يمتلكوا ما هو حلال عن طريق حلال على أن يستغل في الحلال بلا ضرر ولا إضرار وبلا تقتير ولا إسراف، وبلا نسيان لحق الجماعة الذي أوجبه الله.

وبهذا تمشى الإسلام مع الغريزة البشرية غريزة التملك لكنه هذبها وخفف من شرتها، وعدل من طبيعتها وتسامى بها حتى عادت بالخير على الفرد والجماعة والدولة، ولا عجب فقد حارب الربا والاحتكار، والاكتناز ورفع الأسعار وكل ما فيه إضرار قال صلى الله عليه وسلم:"من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد بريء من الله وبريء الله منه" وقال: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة" وقال: "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه الثلاثة وأحمد.

(ب) ونظرة الإسلام إلى الحكم نظرة واقعية ومثالية..

فالدولة لابد لها من حاكم يقوم على رعاية مصالحها الداخلية والخارجية ويعمل على إشاعة الأمن والعدل في البلاد، ويوفر لأبنا الأمة كل ما يطلبونه من أمن وغذاء، ومسكن وكساء، وطب ودواء، حماية لهم من غوائل الفقر والمرض والجهل ويقف إلى جوار الضعيف والمسكين والمظلوم حتى يرفع عنهم الغبن ويدفع الظلم، ويكفيهم الحاجة ويهيء لأفراد الشعب فرصاً متكافئة، ويقدم العون لأرباب الحاجات، وييسر لهم سبل العيش وأبواب الرزق، ويعمل على تأمين الدولة من الداخل والخارج. ولكي يكون الحكم نعمة على الأمة قرر الإسلام ما يلي:

ص: 280

1-

الحاكم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم غير معصوم وليست له قداسة تجعله يرتفع عن مستوى النقد ولا تجب طاعته حين يضل الطريق قال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" أخرجه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة" أخرجه الستة.

2-

الحاكم عليه أن يتشاور مع المسلمين فيما لا نص فيه ليهتدي إلى ما فيه الخير، وليتجنب ما فيه مضرة أو مشقة، ولتتقبل الأمة ما يكلفها به عن تفهم ورضا قال تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [21] .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ومن تركها لم يعدم غياً} أخرجه البيهقي عن ابن عباس.

3-

الحاكم مطالب بالعدل والإحسان إلى الرعية قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} وقال صلى الله عليه وسلم: "من ولى من أمر الناس شيئاً فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة" رواه أحمد، وقال:"ما من أمير يلي على أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم كنصحه وجهده لنفسه إلاّ لم يدخل معهم الجنة" رواه الطبراني.

ومن العدل الواجب ألاّ يولي أحداً لقربه منه أو قرابته أو وساطته بل يسند العمل لمن كان أهلاً له قال صلى الله عليه وسلم: "من قلد رجلاً عملاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين" أخرجه الحاكم.

ومن اللازم على الحاكم أن يكون قدوة للأمة في تجنب الظلم واستغلال النفوذ ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.

ص: 281

عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وكان بيده سواك فدعا وصيفة له أولها حتى استبان الغضب في وجهه وخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهمة فقالت: ألا أراك تلعبين بهذه البهمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما سمعتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك " رواه أحمد، كما في الترغيب والترهيب ج4ص266.

وعن أبي سعيد الخدري قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً أقبل رجل فأكب عليه فطعنه صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه فجرح وجهه ثم قال له: "تعالى فاستقد. قال: بل عفوت يا رسول الله" أخرجه أبو داود والنسائي.

إن شعور الرهبة كان يسيطر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينادي الخادمة، وهو يطلب من الرجل أن يأخذ بحقه، إنه الخوف من الله أن يقتص منه لخادمة تغيبت عنه وظل يناديها فلم ترد عليه، لقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم في ثورة الغضب أن يمسها بالسواك مخافة القصاص، وفي هذا تحذير بليغ لأولئك الذين يتفننون في إيذاء الناس، ويستعذبون تعذيبهم ويبغون في الأرض بغير حق، غافلين عن أن الله لا ينام وأنه عزيز ذو انتقام وأنه سريع الحساب شديد العقاب.

إن نبي الإسلام حريص كل الحرص على أن يربي في المسلمين خصوصاً حكامهم شعوراً جاداً وحاداً بالمسئولية يدفعهم إلى أن يقيموا الحق ويرفعوا الظلم ولو وقع على كاهل حيوان فضلاً عن إنسان.

عن عبد الله بن جعفر قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه فأتاه رسول الله فمسح ذفراه [22] فسكت فقال: من رب هذا الجمل؟ فقال فتى من الأنصار: هو لي يا رسول الله فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه".

ص: 282

وعن ابن مسعود قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا فيه حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها " أخرجهما أبو داود.

في هذين الحديثين تتجلى روح النبي صلى الله عليه وسلم..أنه يحارب الظلم وإن نزل بطير أو حيوان إنه يحذر أن نعذب خلق الله وأن نجيع عباده ونشق عليهم في العمل ونفرق بين الأهل والعشيرة دون ذنب وجريرة.

إن الجمل الذي لا يعي ولا يبين والحمرة التي لا تعقل ولا تنطق قوى لديهما الإحساس بأن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم شخصية فذة رحيمة عادلة يلجأ إليها الخائف فيأمن والجائع فيطعم والمكدود فيستريح والمظلوم فينصف.

ولا عجب إذا قدم كل منهما شكايته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا عجب إذا بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنظر شكايتهما والعمل على إنصافهما ليعلم الحكام من بعده أن يترفقوا بالمحكومين ويسارعوا إلى دفع الظلم عن المظلومين ورفع الغبن وضمان العيش الهنيء لجميع العالمين.

4_

الحاكم مطالب بأن يراقب الله في أموال الدولة فلا يعبث ولا يسرف ولا ينفق إلاّ فيما يجب الإنفاق فيه وبالقدر اللازم له ويتحاشى أن تمتد إليها يده أو يد أقاربه أو يد المقربين إليه بغير حق ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.

فقد روى أحمد في مسنده أن علياً وفاطمة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال علي: "يا رسول الله. والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري"، وقالت فاطمة:"لقد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخذ منا "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع ولكن أبيعكم وأنفق عليهم أثمانهم".

هكذا حارب الرسول صلى الله عليه وسلم المحسوبية، وأعطانا درساً في العدالة الإجتماعية.

ص: 283

وعلمنا أن ندقق في صرف أموال الدولة، فلا تصرف في مهم وهنا ما هو أهم ولا تنفق على الأقرباء ويترك الغرباء بل تصرف حسب ما تقضي به حاجة الأمة وتتطلبه ومصلحتها.

5_

الحاكم مطالب بأن يحافظ على دماء أفراد الرعية وأموالهم وأعراضهم وحريتهم وأمنهم وكرامتهم، فلا تمتد إليها يده أو يد أحد آخر بغير حق، قال صلى الله عليه وسلم:"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" أخرجه مسلم.

وعن عامر بن ربيعة أن رجلاً أخذ نعل رجل فغيبها وهو يمزح فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تروّعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم" رواه البزار والطبراني.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة" رواه الطبراني.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أوكلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة" رواه أبو داود.

هذه هي أهم الأسس التي بني عليها الحكم الإسلامي وبها قامت دولة المسلمين في أزهى عصورهم.

وجدير بنا أن نمتع الأنظار ببعض الروائع والبدائع التي سجلها التاريخ لحكام المسلمين لتكون شاهد صدق على ما نقول:

ص: 284

طلب نفر من عمر رضي الله عنه أن يتوسع على نفسه من بيت المال فقال: "إنما مثلي ومثل هؤلاء - أي الرعية - كمثل جماعة سافروا فأعطوا نفقاتهم إلى رجل منهم فهل يحل له أن يستأثر بشيء منها". وحضر رجل مع أبي موسى الأشعري في غزو فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه فأبى أن يقبله إلاّ جميعاً فجلده أبو موسى وحلق شعره فجمع الرجل شعره ورحل إلى عمر ثم رمى به في وجهه وقال: "والله لولا النار". فقال عمر: "صدق الله لولا النار"ثم سأله ما قصته فأخبره فكتب إلى أبي موسى: إن كنت ضربته في الملأ فاجلس إليه ليضربك في الملأ، وإن كنت ضربته في الخلاء فاجلس إليه ليضربك في الخلاء فقدم الرجل على أبي موسى فقال له الناس: أعف عنه، فقال: لا، والله لا أدعه لأحد من الناس فلما قعد أبو موسى ليقتص منه قال له: هل أحد يمنعك مني الآن؟ قال: لا. قال: الآن عفوت عنك لوجه الله الذي مكنني منك". ومرة وجد علي كرم الله وجهه درعه في يد يهودي فقال لليهودي: "الدرع درعي لم أهب ولم أبع"فقال اليهودي: "درعي وفي يدي"فلم يمد على يديه إليها وهو أمير المؤمنين بل أعلن خضوعه للقانون الذي يسري على عامة الرعية فرفع الأمر إلى القضاء فلما وقف أمام القاضي شريح سوى شريح بينه وبين خصمه وبدأ علي يعرض شكايته فطلب منه شريح بينة فقال علي:"قنبر والحسن يشهدان بأنها لي "فقال شريح:"شهادة الإبن لأبيه لا تجوز "فقال له علي:"رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " فقال اليهودي: "أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه لم يحكم له أشهد أن هذا هو الحق أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وأن الدرع درعك".

هذه بعض روائع الحكم الإسلامي فلنعد إليه عسى أن نتنسّم نسيم الحرية ونظفر بحياة طيبة وعيش كريم ونعيم مقيم ومنزلة سامية بين العالمين.

ص: 285

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

سورة المائدة آية 2.

[2]

سورة القصص آية 50.

[3]

سورة البقرة آية 138.

[4]

سورة الحجر آية 9.

[5]

سورة النساء آية59.

[6]

سورة المائدة آية 3.

[7]

سورة الإسراء آية70.

[8]

سورة فاطر آية 39.

[9]

سورة القصص آية83.

[10]

سورة آل عمران آية79.

[11]

سورة الأعراف آية179.

[12]

سورة الحجرات آية13.

[13]

سورة المنافقون آية8.

[14]

سورة الحديد آية25.

[15]

سورة النساء آية 74-76.

[16]

سورة النور آية 33.

[17]

سورة الحديد آية 7.

[18]

سورة النساء آية 36.

[19]

سورة الملك آية 15.

[20]

سورة الجمعة آية 10.

[21]

سورة آل عمران آية 159.

[22]

الذفرى من البعير: مؤخر رأسه وهو الموضع الذي يعرق من قفاه.

ص: 286

أمضوا حيث شئتم

للشيخ: محمد المجذوب

المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

كانوا ستين راكباً يقدمهم الثلاثة المعظمون، الذين لا يختلف على تقديمهم اثنان من أهل نجران.. أما العاقب عبد المسيح فهو أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه، ثم السيد الأيهم وهو قائد الركب، وإليه تنظيم أمرهم في رحيلهم ونزولهم، ولا تتأخر مرتبة ثالثهم أبي حارثة بن علقمة البكري عن كلا الإثنين، إذ كان أسقفهم الأعلى، الذي إليه ترجع نجران كلها في فقه دينها والفصل في أحكامه، ومن أجل ذلك كان موضع إجلال الجميع، حتى ملوك الروم أنفسهم الذين عرفوا له قدره العلمي، وإخلاصه لمذهب الدولة، فأحاطوا، بضروب الإكرام والإنعام، فلم يردوا عليه طلباً، ولم يرفضوا إليه رغبة.

وكانت وجهتهم يثرب

لذلك كان معظم الحديث بين هؤلاء الثلاثة حولها، وفي شأن الدعوة التي انتقلت من مكة إليها، ثم ما زالت أخبارها تتناقل على ألسنة الوافدين إلى مكة ويثرب والصادرين عنهما إلى مختلف أنحاء الجزيرة

ولم يكن دور العاقب والسيد على جلالة قدرهما، يتجاوز ذكر ما بلغهم عن ذلك القرشي، الذي أحدثت دعوته كل هذه الضجة، واجتذبت من سكان البوادي والحواضر كل ذلك الإهتما م.. حتى بلغت أذهان كبار الدواة الرومية، فبعثوا يستفسرون عن محمد ودعوته أحبار نجران، يريدون أن يتحققوا من أمرهما ويحيطوا بواقعهما دون زيادة أو نقصان، وكما هو شأن كل مسيحي تقي في نجران كان على العاقب والسيد أن لا يعقبا بشيء على ما يذكران من أمر هذه المشكلة الجديدة، ثقة منهما بأنها من اختصاص كبار المقدسين من أحبار الكنيسة، الذين أراحوا أتباعهم من أعباء التفكر بكل طاريء من شئون الدين، فليس عليهم إلاّ أن يسمعوا قولهم حتى يسرعوا إلى قبوله، على أنه الحق الذي لا ريب فيه..

ص: 287

ومن أحق من الحبر الثقة أبي حارثة بأن يرجع إليه في مثل هذا الأمر الخطير..

على أن أبا حارثة ظل مشغول الفكر عما يديرون من ذلك الحديث، لا يكاد يشاركهم في شيء منه.. فلم يسعهم إلاّ احترام صمته، إذ قدروا أنه لابد غارق في صلاة قلبية تقطعه عما حوله.. وقد قدّر هو بدوره موقفهم منه، فكان لا يظن عليهم بالإلتفات والكلام كلما أحوجهم رأيه في أمر الإبهام الذي يستحوذ على كثرتهم في شأن السيد المسيح (ع) .. ذلك أن اجتماعهم على عقيدة الدولة في تأليهه.لم يمنعهم من الإختلاف على تحديدها، فهو في مفهوم بعضهم عين الله، ولدى غيرهم ولد الله، وعند الآخرين ثالث ثلاثة يؤلفون بمجموعهم ذات الله..

ولم يكن الموضوع أكثر وضوحاً في ذهن أسقفهم الجليل منه في أذهانهم.. فكان كل ما يملكه من رأي في هذا الشأن هو أن يردد عليهم كلام الأحبار، الذين اتخذوا قرارهم بتأليه السيد المسيح في مجمع نيقية، وفقاً للفلسفة الأفلوطينية التي تشربتها من قبل، والتي تقرر ثلاثية الأقانيم في ذات واحدة، ومعتبرين كل من يخالفهم في هذا الإتجاه، فيقبل عقيدة أريوس في بشرية المسيح، كافراً محروماً من نعمة الميسحية

فإذا رأى أن كلامه غير واضح الدلالة في أذهان الرجلين قطع كل تردد بقوله: "إن الأمر فوق تصورات العقل البشري.. فما على المسيحي المستقيم سوى التسليم"..

ص: 288

وصدر أمر السيد الأيهم إلى الركب بالنزول لقضاء الليل.. ورفعت لأبي حارثة خيمته الخاصة المنسوجة بالوبر والإبريسم، والتي أهديت إليه من قيصر الروم، وتقدم كرز أخوه آخذاً بزمام بغلته إليها، حتى إذا قاربها عثرت بأحد الأوتاد فأهوت قليلاً ثم اعتدلت، ومع عثورها انطلق لسان كرز بكلمة سوء، ترجمت كرهه الشديد لصاحب الرسالة الإسلامية الذي استغرق الكلام عنه وعن دعوته الكثير من حديثهم أثناء الطريق، ولكنه سرعان ما تلقى رد أخيه على قولته بهذه العبارة المثيرة "بل أنت تعست يا كرز بن علقمة!.."وكانت صدمة غير متوقعة لدى كرز، الذي كان على مثل اليقين بأن أخاه الأسقف هذا لن يقبل عنه بغضاً لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.. ولهذا لم يتمالك أن سأله في دهشة بالغة:"ولم يا أخي"؟

ولم يشأ أبو حارثة أن يجيب بشيء قبل أن ينحدر عن بغلته ويستقر على مرتبته، وهناك دعا بأخيه كرز وقال له بمثل الهمس:"والله إنه لنبي الذي كنا ننتظر.."

وأطرق كرز يفكر بما يسمع، ثم رفع رأسه ليقول لأخيه في صوت جاف متهدج خفيض:"النبي.. الذي كنا ننتظر"؟

"- نعم يا كرز..ألا تذكر الوضائع - المخطوطات - التي ورثناها عن كبار الأحبار..أن فيها والله لبشرى عيسى بمحمد.. ووصف مبعثه ومهجره.. وشمائله ودعوته..".

"- إذا كنت تعلم هذا.. فما يمنعك العمل به؟ .. ألست أحق الناس باتباعه وتوجيه رعيتك إلى متابعته "؟

وأمسك الأسقف لا يحير.. ثم أرسل زفرة طويلة أعقبها بقوله الهامس: "يمنعني يا كرز ما صنع بنا هؤلاء القوم. شرفونا ومولونا وأكرمونا وأخدمونا.. وقد أبوا إلاّ مخالفته.. فلو فعلت ما أشرت به نزعوا منا كل ما ترى..".

ص: 289

وانتهى ركب نجران إلى مشارق يثرب.. وهناك توقفوا قليلاً ليصلحوا من شأنهم، ينفضون عنهم غبار السفر، ويرتدون أنفس ما يحملون من برود اليمن، مما يعد نادر الوجود في معظم أنحاء الجزيرة ثم واصلوا سيرهم حتى وضعوا رحالهم على مداخل المسجد، الذي علموا أنه موضع استقبال رسول الله، ثم انطلقوا إلى داخله، يجرون حبراتهم ويتقدمهم معظموهم الثلاث حتى صاروا إلى الغاية التي ينشدون. وبادر الوفد نبي الله بتحيتهم الخاصة (الله معكم) .. ثم أخذوا مجالسهم على جانبي رؤسائهم الذين انتظموا في مواجهته..

وتكلم الأسقف ثم تلاه العاقب فأثنيا على الله، وأفاضا في ذكر فضائل دينهما، وما يحض عليه من البر والتواضع وحسن الخلق.. وكأنما أرادا بذلك التوكيد على ما بين دعوته ودينهما من القرب والتلاقي، وكأن رسول الله قد أراد إحاطتهما بأن كل خير سيظل أبتر ما لم ينطلق عن الأساس الأول والأعظم، وهو إفراد الله وحده بالألوهية والربوبية والحاكمية، فلا تعنوا الوجوه لغيره، ولا يرفع دعاء إلى سواه، فقال لهما:"أسلما".. ولكنهما لم يريدا أن يكونا صريحين في الإجابة فعمدا إلى التورية باستعمال مفهوم الإسلام على الأصل اللغوي دون الشرعي فقالا: "قد أسلمنا"يريدان بذلك أنهما وقومهما إنما يبغيان في كل ما يأتيان وجه الله، فهم إذا مسلمون أزمتهم لله دون غيره. وما كان لمثل هذا الالتواء أن يرضي صاحب الرسالة البينة، فرفض ادعاءهما، وأصرا على زعمهما، فلم يكن بد من مواجهتهما بالكلمة الحاسمة فقال:"كذبتما.. يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير"..

وكان في هذا التقرير ما أخرس الرجلين فلم يجدا مندوحة عن الإقرار بما يضمران، والدفاع عما يعتقدان.

ص: 290

وأنزل الله وحيه على نبيه بالأجوبة المفحمة لكل ادعاء في المسيح يخالف حقيقته، وينسب إلى الله تبارك وتعالى ما ينافي كماله ووحدانيته، مقاطع محكمات خالدات حاسمات، تستغرق صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.

وكان لابد لبغاة الجدل أن ينقطعوا أمام تلك الحقائق الدامغة، فلا يجدوا سبباً يتشبثون به سوى محض العناد، وبذلك وقف عمل الحجة وجاء دور التحدي فأنزل الله على رسوله حكمه الرهيب {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} - في المسيح - {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} - بحقيقته - {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} ..

وبلغ رسول الله القوم إنذار ربه، فدعاهم - إن لم يذعنوا لأمر الحق - على اللجوء للدعاء يسألون به الله أن يظهر الصادقين، وينزل لعنته على الكاذبين.

وبهت القوم لا يعلمون ما يعملون.. واتجهت أبصارهم جميعاً إلى أسقفهم، الذي إليه أسلموا قياد عقولهم، وكان على هذا أن يبت بالأمر قبل أن تختلف الكلمة فيحدث ما لا تحمد عقباه، فقال لرسول الله:"دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل في ما دعوتنا إليه".

ص: 291

وكانت ليلة ليلاء أقضت مضاجع الوفد النجراني فلم يستطع إلى النوم سبيلاً.. وأمسك الحبر أبو حارثة عن الاسترسال في الكلام ليستبين اتجاه القوم، وترك للعاقب عبد المسيح أن يعالج المشكلة بما يملك من حسن السياسة.. فعمد هذا إلى الرؤساء الأربعة عشر، فخلا بهم على حدة ثم قال لهم، في تصميم الرجل الذي يقدر عبء المسئولية الملقاة على عاتقه:"والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل في خبر صاحبكم الذي تختلفون عليه. ولقد علمتم مالا عن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلاّ ألف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم - السيد المسيح - فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم"..

وتلقى الرجال موعظة أميرهم في تدبر عميق.. ولم يشكوا في أنه قد أخلص لهم النصيحة، وإن لم يكن معظمهم على كبير استعداد لفهم ما ذهب إليه من رأى غريب جديد في المسيح. وبدافع من خوف المصير المجهول آثروا جانب الموادعة، ثم لم يلبثوا إلاّ ريثما ارتفع مد الضحى حتى انطلق هؤلاء إلى الرسول يبلغونه قرارهم..

وتكلم صاحب أمرهم فقال: "يا أبا القاسم.. قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا.. ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا"..

وكدأب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجنب الإكراه لم يأب عليهم ما سألوا.. وأنظرهم قائلاً: "إيتوني بالعشية أبعث معكم القوي الأمين".

ولما حان الموعد نظر رسول الله عن يمينه وعن يساره، حتى رأى أبا عبيدة عامر بن الجراح، فدعاه وقال:"أخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه"..

وغادر الركب المدينة في طريقه عائداً إلى نجران..

ص: 292

وغرق الثلاثة ومعهم كرز بن علقمة في غمرة من الصمت، كادت تذهلهم عن لغو القافلة من حولهم، وكان كرز أكثرهم تلفتاً إلى معالم المدينة، فكأنما يودع فيها شيئاً عزيزاً أحبه.. حتى إذا أوشكت تغيب عن بصره وقف ناقته، ثم توجه إلى أخيه الأسقف الساهم الوجه، الغائر العينين، يخاطبه وصاحبيه بقوله:"إنكم لأعزة والله علي.. ولكن الحق الذي آمنت به قلوبكم أحب ألي من صحبتكم.. فامضوا حيث شئتم، وتشبثوا بما رغبتم، أمّا أنا فلن أوثر على الحق وعلى مرضاة الحق أي شيء..".

وضرب وجه ناقته لتأخذ سبيلها باتجاه المدينة.. وفي غبطة روحية لا عهد لكرز بمثلها من قبل جعل ينشد مناجياً - من وراء الغيب - ذاك النبي العربي الذي أحبه أكثر من حبه لنفسه وأهله وماله:

معترضاً في بطنها جنينها

إليك يعدو قلقاً وضيتها

مخالفاً دين النصارى دينها

ص: 293